بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية

الجزء الأول

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء الأول سبب تأليف الكتاب - العلو - الاستواء - الجهة - الوجه - اليد - الدهر - الوجود حققه د. يحيى بن محمد الهنيدي

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما وصفه به خلقه، الذي لا يبلغ شكر نعمته إلا بنعمته، ولا تنال طاعته إلا بمعونته. والحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [الأحزاب: 70-71] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا

سبب تأليف الكتاب

تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) } [آل عمران: 102-107] . أما بعد فإني كنت سئلت من مدة طويلة، بعيد سنة تسعين وستمائة عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله، في فتيا قدمت من حماة، فأحلت السائل على غيري، فذكر أنهم يريدون الجواب مني لا بد، فكتبت الجواب في قعدة بين الظهر والعصر، وذكرت فيه مذهب السلف والأئمة والمبني على الكتاب والسنة، المطابق لفطرة الله التي فطر الناس عليها، ولما يعلم بالأدلة العقلية، التي لا تغليظ فيها، وبينت ما يجب من مخالفة الجهمية المعطلة؛ ومن قابلهم من المشبهة

الممثلة، إذ مذهب السلف والأئمة؛ أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. قال نعيم بن حماد

الخزاعي: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيهًا. وكان السلف والأئمة، يعلمون أن مرض التعطيل، أعظم من مرض التشبيه، كما يقال: المعطل أعمى، والمشبه أعشى، والمعطل يعبد عدمًا، والمشبه يعبد صنمًا. فكان كلامهم وذمهم للجهمية المعطلة أعظم من كلامهم وذمهم للمشبهة الممثلة، مع ذمهم لكلا الطائفتين. وحصل بعد ذلك من الأهواء والظنون ما اقتضى أن اعترض قوم على خفي هذه الفتيا بشبهات مقرونة بشهوات. وأوصل إليّ بعض الناس مصنفًا لأفضل القضاة المعارضين،

مكانة الرازي وكتابه تأسيس التقديس عند أهل الكلام

وفيه أنواع من الأسئلة والمعارضات، فكتبت جواب ذلك وبسطته في مجلدات. ثم رأيت أن هؤلاء المعترضين ليسوا مستقلين بهذا الأمر، استقلال شيوخ الفلاسفة والمتكلمين، فالاكتفاء بجوابهم لا يحصل ما فيه المقصود للطالبين، وآثار الكلام فيها الشبه المعارضة لما أنزل الله من الكتاب، حتى صارت السنة تُضِلُّ ما شاء الله من الفضلاء، أولي الألباب في هذا الباب، وحصل من الاشتباه والالتباس، ما أوجب حيرة أكثر الناس، واستشعر المعارضون لنا، أنهم عاجزون عن المناظرة، التي تكون بين أهل العلم والإيمان، فعدلوا إلى طريق أهل الجهل والظلم والبهتان، وقابلوا أهل السنة بما قدروا عليه من البغي باليد عندهم واللسان، نظير ما فعلوه قديمًا من الامتحان.

وإنما يعتمدون على ما يجدونه في كتب المتجهمة المتكلمين. وأجل من يعتمدون كلامه هو أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي إمام هؤلاء المتأخرين، فاقتضى ذلك أن أتم الجواب عن «الاعتراضات المصرية، الواردة على الفتيا الحموية» بالكلام على ما ذكره أبو عبد الله الرازي في كتابه الملقب «بتأسيس التقديس» ليتبين الفرق بين البيان والتلبيس، ويحصل بذلك تخليص التلبيس، ويعرف فصل الخطاب فيما في هذا الباب، من أصول الكلام، التي كثر بسببها بين الأمة النزاع والخصام، حتى دخلوا فيما نهوا عنه من الاختلاف في الكتاب، والقول على الله بغير علم الخطأ من الصواب، بل في أنواع الشك، بغير بيان من الله ولا دليل، ودخلوا فيما [يخالف

النصوص] من البراهين العقلية المعارضة. (وإذا حققت القضايا العقلية الصريحة، ظهر دلالتها على فساد ما عارضوا به النصوص الصحيحة، التي التبست على كثير، ووقع بها التلبيس، وأنا أذكر ما ذكره أبو عبد الله الرازي، من) مذاهب أهل النفي والتعطيل، وما السبب الذي ضلوا به عن السبيل، لتقام المناظرة، مقام عدل وإنصاف، وإن كان المخالف من أهل الجهل والانحراف. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] وأكثر الطالبين للعلم والدين، ليس لهم قصد من غير الحق المبين، لكن كثرتْ في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان، أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، [فظنوا] أنه

من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـ[ون] في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، [ولا] يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافرًا مريدًا -لعلمي بأن هذا كفر مبين- وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين، فلهذا ذكرت ما ذكره «أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي» المعروف بابن خطيب الري، الإمام المطلق في اصطلاح المقتدين به من أهل الفلسفة والكلام، المقدَّم عندهم على من تقدمه من صنفه في الأنام، القائم عندهم بتجديد الإسلام، حتى قد يجعلونه في زمنه ثانيَ الصديق في هذا المقام، لما ردّه في ظنهم من أقاويل

الفلاسفة بالحجج العظام، والمعتزلة ونحوهم، ويقولون: إن «أبا حامد» ونحوه، لم يصلوا إلى تحقيق ما بلغه هذا الإمام، فضلًا عن «أبي المعالي» ونحوه، ممن عندهم فيما يعظمونه من العلم والجدل بالوقوف على نهاية الإقدام، وإن «الرازي» أتى في ذلك من نهاية العقول والمطالب العالية، بما يعجز عنه غيره من ذوي الإقدام، حتى كان فهم ما يقوله عندهم هو غاية المرام، وإن كان فضلاؤهم مع ذلك معترفين بما في كلامه من كثرة التشكيك في الحقائق، وكثرة التناقض في الآراء والطرائق، وأنه موقع لأصحابه في الحيرة والاضطراب، غير موصل إلى تحقيق الحق، الذي تسكن إليه النفوس وتطمئن إليه الألباب، لكنهم لم

يروا أكمل منه في هذا الباب، فكان معهم كالملك مع الحجَّاب، وكان له من العظمة والمهابة في قلوب الموافقين له والمخالفين ما قد سارت به الركبان، لما له من القدرة على تركيب الاحتجاج والاعتراض في الخطاب، وها نحن نذكر ما ذكره «أبو عبد الله الرازي» في كتابه الذي سماه «تأسيس التقديس» وضمنه الرد على مثبتي الصفات، القائلين بالعلو على العرش وبالصفات الخبرية الواردة في الأحاديث والآيات، فإنه استقصى في هذا الباب الحجج التي للجهمية من السمعيات والعقليات، وبالغ فيها بأعظم المبالغات، إذ صنف الكتاب مفردًا في ذلك، مجردًا في أمور الذات، وتأول فيه الآيات والأحاديث، الواردة في ذلك بما ذكره من أباطيل التأويلات، وذكر فيه ما ذكره من حجج

مخالفيه، وأجاب عنها بما أمكنه من الجوابات فكان [عمدتهم في هذا الباب] فإذا عرف نهاية ما عند القوم من الدلائل والمقالات، كانت معرفة ذلك من أعظم نعم الله على من هداه، من أهل العلم والإيمان، فإنه يزداد بذلك يقينًا واستبصارًا، فيما جاء به القرآن والبرهان، ويتمكن من ذلك من نصر الله ورسوله بالغيب، وبيان ما في هؤلاء المخالفين للكتاب والسنة من العيب، ونحن ننبه عندما يذكره من أصول الكلام، على توصله إلى معرفة حقيقة ذلك المقام. وهذا الكتاب الذي صنفه الرازي على عادته وعادة أمثاله من المتفلسفة والمتكلمين في تصنيف الكتب لعظماء الدنيا من الملوك والوزراء، والقضاة والأمراء، وذويهم ليُنَفِّقُوا بجاه هؤلاء كلامهم حقًّا كان أو باطلًا، وسواء قصدوا به وجه الله، أو قصدوا به العلو في الأرض أو الفساد، وكان ملك الشام ومصر في زمانه الملك العادل، أبو بكر بن أيوب. فصنفه

وأهداه له، ظنًا أنه بجاهه ينتشر، واعتقادًا فيه أنه يختار مذهب أهل النفي، ولم يكن الملك من هؤلاء النفاة، كما أخبر بذلك عنه ابنه الأشرف وغيره، بل ظهر من سيرته ما يدل على محبته، وتعظيمه لأهل الإثبات، والله أعلم بحقيقة ما له في الدقائق المشكلات، والمعروف عنه وعن أهل بيته من تعظيم الحديث وأهله، والقيام بإحياء ذلك ينافي الطريقة التي نصرها الرازي في «تأسيس تقديسه» وإن كان في أهل بيته من يميل إلى النفي، ومنهم من يميل إلى الإثبات، فلعله كان في بعض حاشيته من يميل إلى النفي، وكان للرازي من الشهرة ما أوجب استعانة النفاة به، والله أعلم [بـ] أمثال هذه الأحوال، وقد ذكر في خطبة كتابه، ما هو من جنس خطب الجهمية، التي كان يخطب بمثلها أحمد بن أبي دؤاد، على طريقة بشر

نقل المؤلف بعض خطبة الرازي في أساس التقديس

المَرِيسي وذويه، فقال في خطبته: «المتعالية عن شوائب التشبيه والتعطيل صفاته وأسماؤه» وهذا حق، ثم قال: «فاستواؤه: قهره واستيلاؤه، ونزوله: بره وعطاؤه، ومجيئه: حكمه وقضاؤه، ووجهه: وجوده أو جوده وحباؤه، وعينه: حفظه، وعونه: اجتباؤه، وضحكه: عفوه، أو إذنه وارتضاؤه، ويده: إنعامه وإكرامه واصطفاؤه» .

تعقيب المؤلف على خطبة الرازي في أساس التقديس

ثم قال: «وإني وإن كنت ساكنًا في أقصى بلاد المشرق، إلا أني سمعت أهل المشرق والمغرب، مطبقين متفقين، على أن السلطان المعظم، العالم العادل المجاهد، سيف الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أفضل سلاطين الحق واليقين «أبا بكر بن أيوب» لا زالت آيات راياته في تقوية الدين الحق، والمذهب الصدق، متصاعدة إلى عَنَان السماء وآثار أنوار قدرته ومكنته باقية، بحسب تعاقب الصباح والمساء، أفضل الملوك وأكمل السلاطين، في آيات الفضل، وبينات الصدق، وتقوية الدين القويم، ونصرة الصراط المستقيم، فأردت أن أتحفه بتحفة سنية، وهدية مرضية، فأتحفته بهذا الكتاب، الذي سميته «بأساس التقديس» على بعد الدار وتباين الأقطار» . قلت: وفي إظهاره من جهة المشرق، ما لم يرد به الكتاب والسنة، بل يخالف ذلك مطلقًا، من اجتناب ذلك

واتقائه، حيث قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم إخباره بأن الفتنة ورأس الكفر من المشرق، الذي هو مشرق مدينته كنجد وما يشرق عنها، كما في الصحيحين عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «ألا إن الفتنة من ههنا -يشير إلى المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية «قال -وهو مستقبل

المشرق-: إن الفتنة ههنا ثلاثًا» وذكر في رواية لمسلم: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة، قال: «رأس الكفر من ههنا ومن

حيث يطلع قرن الشيطان» وأخرجاه من حديث نافع عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» ورواه البخاري من

حديث عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا. قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا. فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان» . وفي الصحيحين من حديث الأعمش، عن أبي صالح، ذكر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهل اليمن،

هم ألين قلوبًا، وأرق أفئدة، والإيمان يماني، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق» وفي رواية: «والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» . ورواه البخاري من حديث أبي الغيث، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يماني، والفتنة ههنا، ههنا حيث يطلع قرن الشيطان» .

ورواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يمان والكفر قبل المشرق، والسكينة في أهل الغنم، والفخر والرياء في الفدّادين؛ أهل الخيل والوبر» . ورواه

مسلم أيضًا من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاء أهل اليمن، أرق أفئدة، وأضعف قلوبًا، الإيمان يمان، الحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدَّادين أهل الوبر، قبل مطلع الشمس» . ولا ريب أنه من هؤلاء ظهرت الردَّة وغيرها من الكفر، من جهة «مسيلمة الكذاب» وأتباعه، و «طليحة الأسدي»

وأتباعه، و «سجاح» وأتباعها، حتى قاتلهم «أبو بكر الصديق» ومن معه من المؤمنين، حتى قتل من قتل، وعاد إلى الإسلام من عاد مؤمنًا أو منافقًا.

رتب الرازي كتابه أساس التقديس على أربعة أقسام

قال «الرازي» : «ورتبت الكتاب على أربعة أقسام، القسم الأول: في الدلائل الدالة على أنه تعالى منزه عن الجسمية، والحيز. وفيه فصول. الفصل الأول: في تقرير المقدمات التي يجب إيرادها، قبل الخوض في الدلائل، وهي ثلاثة: المقدمة الأولى: اعلم أنا ندعي وجود موجود، لا يمكن أن يشار إليه بالحس، أنه ههنا أو هنالك، أو نقول: إنا ندعي وجود موجود غير مختص بشيء من الأحياز والجهات، أو نقول: إنا ندعي وجود موجود غير حال في العالم، ولا مباين عنه في شيء

رد المؤلف على الرازي في دعواه أن للعالم ست جهات

من الجهات الست، التي للعالم، وهذه العبارات متفاوتة والمقصود من الكل شيء واحد» . قلت: قوله: «من الجهات الست التي للعالم» قد يستدرك عليه، كما قرره في هذا الكتاب وغيره، فإن العالم ليس له ست جهات، بل ليس له إلا جهتا العلو والسفل فقط، وإنما الجهات الست للحيوان، كالإنسان وغيره من الدواب، الذي يؤم جهة فيكون أمامَها، ويُخَلِّفُها فتكون خلفه وتحاذي أعلاه وأسفله، ويمينه وشماله، فلو قال: من الجهات الست، وسكت لكان أجود، لأن الجهات الست حينئذٍ تكون [للإنسان] ونحوه، أو لو قال: من الجهات الست [التي للحيوان] ، ولكن المقصود بكلامه معروف؛ وهو دعواه ودعوى موافقيه النفاة؛ وهم الجهمية عند السلف وأهل الحديث وأتباعهم، فإن أول من أظهر هذه المقالة، المنافية للإسلام، ودعا إليها، واتبع عليها «الجهم» فمقصوده: ذكر دعواه، ودعوى هؤلاء النفاة معه؛

وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين له. قال «الرازي» : «ومن المخالفين من يدعي: أن فساد هذه المقدمات معلوم بالضرورة، وقالوا: لأن العلم الضروري حاصل، بأن كل موجودَيْن، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، أو مباينًا عنه، مختصًّا بجهة من الجهات الست المحيطة به. قالوا: وإثبات موجودَيْن، على خلاف هذه الأقسام السبعة، باطل في بديهة العقل» . قلت: الذي يدعيه هؤلاء: أن كل موجودَيْن، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، أو مباينًا له، ويلزم من ذلك أن يكون مختصًّا بعينِ غيره، ولا يجب أن يقولوا: إنه لا بد أن يختص بجهة من الجهات الست، المحيطة به، إلا أنه يجب أن يكون لكل موجود ست جهات، وهذا ليس مما يعلم ولا يقوم

عليه دليل شرعي ولا عقلي، وإن كان قد يَظُنُّ هذا بعض الناس ظنًّا لا دليل عليه، بل المعلوم لكثير من الناس بالأدلة الشرعية [و] العقلية أن العالَََمَ ليس له ست جهات، بل جهتان العلو والسفل، وفي الجملة فمن المعلوم بالضرورة لكل أحد، إمكان وجود جسم مستدير، وأنه ليس له ست جهات، بل جهة أعلاه ومحيطه، وجهة سفله ومركزه، ومعلوم أن الموجود مع هذا الجسم، لا يقول عاقل: إنه يجب أن يكون مختصًا بجهة من الجهات الست المحيطة به، إذ ليس له ست جهات، بل لا يحيط به إلا جهة واحدة، فالمباين له لا يكون مختصًا إلا بجهة واحدة، لا بست جهات، فهؤلاء يقولون: إثبات موجودين على خلاف هذين القسمين يكون باطلًا بالضرورة، وهو أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر محايثًا له أو مباينًا له منفصلًا عنه، سواء كان مباينته بجهة واحدة أو جهات متعددة، إذا عرف ذلك فالقول بأن هذا القول المتضمن إثبات موجودين لا متحايثين ولا متباينين باطل بالضرورة، معلوم الفساد بالفطرة، وهو قول عامة أئمة الإسلام وأهل العلم، كما صرحوا بذلك في مواضع

لا تحصى من كلامهم، وذكروا أن هذا النفي الذي ذكره جهم، مما يعلم بفطرة الله التي فطر الناس عليها، أنه باطل محال متناقض، لوصفه لواجب الوجود بماهو ممتنع الوجود، فهم مع إقرارهم بوجوده، وصفوه بما هو نفي وتعطيل، وسلب لوجوده، وهو قول عامة أهل الفطر السليمة من جميع أصناف بني آدم من المسلمين، واليهود والنصارى، والمشركين وغير [هم] وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من كلام الأئمة في غير هذا

نقل المؤلف لكلام عبد العزيز الكناني في رده على الجهمية وتكفيرهم

الموضع. كما قال عبد العزيز بن يحيى الكناني المشهور، صاحب الشافعي، صاحب «الحيدة» في كتاب «الرد على الزنادقة والجهمية» : «باب قول الجهمي في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] . زعمت الجهمية أن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] إنما المعنى: استولى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد: استولى عليها. فإن البيان لذلك بأن يقال له: هل يكون

خلقٌ من خلقِ الله تعالى، أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟ فإذا قال: لا. قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، يقال له: يلزمك أن تقول: العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، ذلك أن الله تعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ، فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، ثم خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرًا، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7] وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } [البقرة: 29] ، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] ، فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه، إذ كان استوى على العرش معناه عندك: استولى، فإنما استوى بزعمه في ذلك الوقت لا قبله. وقد روى عِمرَان بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقبلوا

البشرى يا بني تميم» قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن» قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: «كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح ذكر كل شيء» . وروي عن أبي رُزَين العُقَيلي وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال: يا رسول الله أين كان الله ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: «كان في عماء، فوقه هواء وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء» . فقال، يعني الجهمي: أخبرني كيف استوى على

العرش؟ أهو كما يُقال: استوى فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلانًا وحده، إذا كان عليه، فيلزمك أن تقول: إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه، لأنَّا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا. باب البيان لذلك. يقال له: أما قولك كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحَرَّمَ عليهم أن يصفوا كيف استوى، لأنه لم يخبرهم كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحَرَّم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون، فآمنوا

بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم كيف استواؤه إلى الله، ولكن لزمك أيها الجهمي أن تقول، إن الله عز وجل محدود، وقد حوته الأماكن إذا زعمت في دعواك أنه في الأماكن، لأنه لا يُعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجُبِّ، والبيت قد حوى فلانًا والجُبُّ قد حوى الماء. ويلزمك أشنع من ذلك، لأنك قلت أفظع مما قالت النصارى وذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل حلّ في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، فكفروا بذلك وقيل لهم: ما أعظم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم! وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلها، وبدن عيسى، وأبدان الناس

تعقيب المؤلف على ما نقله من كتاب الرد على الجهمية للإمام عبد العزيز الكناني

كلهم، ويلزمك أيضًا أن تقول: إنه في أجواف الكلاب والخنازير، لأنها أماكن، وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا! فلما شنعت مقالته قال: أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء، ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجًا عن الشيء ولا مباينًا للشيء. باب البيان لذلك: يقال له: أصل قولك القياس والمعقول، فقد دلَّلت بالقياس والمعقول، على أنك لا تعبد شيئًا، لأنه لو كان شيئًا ما خلا في القياس والمعقول، أن يكون داخلًا [في الشيء] أو خارجًا منه، فلما لم يكن في قولك شيءٌ، استحال أن يكون كالشيء في الشيء، أو خارجًا من الشيء، فوصفت شيئًا لا وجود له؛ وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل» . قلت: فقد بيَّن أن القياس والمعقول يوجب أن [ما] لا يكون في الشيء ولا خارجًا منه، فإنه لا يكون شيئًا، وأن ذلك صفة المعدوم الذي لا وجود له، فالقياس: هو الأقيسة العقلية، والمعقول: هو العلوم الفطرية، وذكر بعد هذا كلامًا في تمام هذه المسألة لا يناسب هذا المكان. وقال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فيما

خرجه في «الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولت غير تأويله» ، وقد ذكر هذا الكتاب أبو بكر الخلال في كتاب «السنة» ونقله بألفاظه، وذكره القاضي أبو يعلى وغيرهما. قال فيه: «بيان ما أنكرت الجهمية الضلال، أن يكون الله تعالى على العرش. قلنا: لِم أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقال:

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) } [الفرقان: 59] قالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السموات وفي الأرض، وفي كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلَوْا آيات من القرآن: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء. فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة، ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16-17] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ} [الأنبياء: 19] وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ

الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } [الأنعام: 18] فهذا خبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) } [فصلت: 29] وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس [في مكان واحد] ، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } [الطلاق: 12] قال: ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلًا كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر بني آدم قد أحاط بالقدح، من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه -وله المثل الأعلى-، قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه، وخصلة أخرى؛ لو أن رجلًا بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم

أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتًا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله سبحانه وله المثل الأعلى، قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق» . قال أحمد رضي الله عنه: «ومما تأوّل الجهمية من قول الله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أول؟ إن الله يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المجادلة: 7] ثم قال: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يعني أن الله بعلمه رابعهم. {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [يعني] بعلمه فيهم {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } [المجادلة: 7] يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه.

ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه. فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم. فقد زعم أن الله بائن من خلقه، وأن خلقه دونه. وإن قال: لا، كفر. وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه، أو خارج عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل [لا بد له من] واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الخلق والشياطين وإبليس في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه، ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفر، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر. وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة» . انتهى كلام أحمد.

تعقيب المؤلف على ما نقله من كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد

فقد بين الإمام أحمد، ما هو معلوم بالعقل الصريح، والفطرة البديهية؛ من أنه لا بد أن يكون خلق الخلق داخلًا في نفسه، أو خارجًا من نفسه، فالحصر في هذين القسمين معلوم بالبديهة، مستقر في الفطرة، إذ كونه خلقه لا داخلًا ولا خارجًا معلوم نفيه، مستقر في الفطرة عدمه، لا يخطر بالبال، مع سلامة الفطرة وصحتها، وقد بين أيضًا الإمام أحمد امتناع ما قد يقوله بعض الجهمية: من أنه في خلقه لا مماس ولا مباين، كما يقول بعضهم: أنه لا داخل الخلق ولا خارجه. فقال: «بيان ما ذكر الله في القرآن من قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] وهذا على وجوه: قول الله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] يقول: في الدفع منكما. وقال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] يعني: في الدفع عنا. وقال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } [البقرة: 249] يقول: في النصر لهم على عدوهم. وقال: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] يعني: في النصر لكم على عدوكم. وقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ

اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] يقول: بعلمه فيهم. وقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) } [الشعراء: 61-62] يقول: في العون على فرعون» . قال: «فلما ظهرت الحجة على الجهمي فيما ادعى على الله أنه مع خلقه [قال: هو] في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه، فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟ قال: لا. قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس ولا مباين؟ فلم يحسن الجواب. فقال: بلا كيف. يخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم. فقلت له: إذا كان يوم القيامة، أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء؟ قال: بلى. قلنا: فأين يكون ربنا؟ قال: يكون في الآخرة في كل شيء، كما كان حيث كان في الدنيا في كل شيء. قلنا: فإن مذهبكم أن ما كان من

نقل المؤلف عن عبد الله بن سعيد بن كلاب أن الله في جهة وأنه على العرش

الله على العرش [فهو على العرش] ، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء. فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله» . وسيأتي ما ذكره «أبو بكر بن فورك» عن «أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» إمام المتكلمة الصفاتية من الأشعرية ونحوهم، مثل

قوله: «وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيًا مستويًا، لأنه لو قيل له: صفه بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، وردَّ أخبار الله نصًّا، وقال في ذلك بما لا يجوز من خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم، هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسيون» . قال: «فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلوّ الأماكن منه، وانفراد العرش به. قيل: إن كنتم تعنون بخلوّ الأماكن من تدبيره، وأنه عالم بها فلا، وإن كنتم تذهبون إلى خلوه من استوائه عليها، كما استوى على العرش، فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش، ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت» .

وقال أيضًا أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، فيما حكاه عنه ابن فورك: «يقال لهم: أهو فوق ما خلق؟ فإن قالوا: نعم. قيل: ما تعنون بقولكم أنه فوق ما خلق؟ فإن قالوا: بالقدرة والعزة. قيل لهم: ليس عن هذا سألناكم. وإن قالوا: المسألة خطأ. قيل: فليس هو فوق. فإن قالوا: نعم ليس هو فوق. قيل لهم: وليس هو تحت. وإن قالوا: ولا تحت. أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم، وإن قالوا: هو تحت وهو فوق. قيل لهم: فوق تحت وتحت فوق» . وذكر عنه أنه قال في كتاب «التوحيد» في مسألة الجهمية: «يقال لهم: إذا قلنا: الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال. فلا بد من نعم، قيل لهم: فهو لا مماس ولا مباين. فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فهو بصفة المحال من المخلوقين، الذي لا يكون ولا يثبت [إلا] في الوهم. فإن قالوا: نعم. قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال من كل جهة، كما كان بصفة المحال من هذه الجهة. وقيل لهم: أليس لا يقال [لما] ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين. فإذا قالوا: نعم. قيل: فأخبرونا عن معبودكم، مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما. قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون: عدم، كما

نقل المؤلف عن القاضي أبي يعلى إثبات أن الله في جهة وأنه على العرش

تقولون الإنسان عدم، إذا وصفتموه بصفة العدم. وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجودًا له، وكان العدم وجودًا. كان الجهل علمًا والعجز قوة» . وبهذا احتج القاضي «أبو يعلى» في أحد قوليه، قال في كتاب «إبطال التأويل» : «فإذا ثبت أنه على العرش، والعرش في جهة، وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك، لأن «أحمد» قد أثبت هذه الصفة، التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة، وهم أصحاب «ابن كرَّام»

و «ابن منده الأصبهاني» المحدث، والدليل عليه أن العرش في جهة بلا خلاف، وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه، فاقتضى أنه في جهة، لأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء، وفي هذا كفاية، ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية، يقول: ليس هو في جهة ولا خارجًا منها، وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره، ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده، ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم.

فصل: نقل المؤلف عن الرازي ادعاءه أن هذه المقدمة -وهي أن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ممتنع- غير بديهية ولا ضرورية إذ لو كانت كذلك لما جاز معارضتها

وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة، بأنه لما نطق القرآن بأن الله على العرش وأنه في السماء، وجاءت السنة بمثل ذلك، وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان» آخر كلام القاضي. فصل قال «الرازي» : «واعلم أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية، لم يكن الخوض في ذكر الدلائل جائزًا، لأن على تقدير أن يكون الأمر على ما قالوه، كان الشروع في الاستدلال على كون الله تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه بالجهة إبطالًا للضروريات، والقدح في الضروريات بالنظريات يقتضي القدح في الأصل بالفرع، وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الأصل والفرع معًا، وهو باطل، بل يجب علينا بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية، حتى يزول هذا الإشكال» . قلت: ما ذكره على التقدير حق، كما ذكره، ولهذا يوجد عامة أهل الفطر الصحيحة، ممن عرف هذا وأمثاله، من العلوم البديهية والضرورية والفطرية، إذا سمع كلام المتكلمين، وجدال المجادلين، الداعين للنظر والاستدلال، في دفع هذه الضرورة،

لم يلتفتوا إلى كلامهم، بل هم أحد رجلين؛ إما رجل عارف بحل شبههم وبيان تناقضها، وإمّا رجل معرض عن ذلك إما لعجزه عن حَلِّه، وإمَّا لاشتغاله بما هو أهم عنده من ذلك، وإمَّا حسمًا لمادة الخوض في مثل كلامهم الباطل، وهذه طريقة أهل العلم والإيمان، فيمن يجادل بالباطل، المخالف للفطرة والشرعة، وهذا هو الصواب، دون ما عليه مخالفوهم، من أنهم يخالفون الفطرة والكتاب، بأنواع من الحجج المدَّعاة، ثم يزعمون أنها قواطع مخالفة للشرع، وأنها أصل الشرع، فالقدح فيها قدح في الشرع، فإن هؤلاء بدلوا الأمر وقلبوه، كما بيناه في موضعه بخلاف من قرر العلوم الفطرية البديهية، والعلوم السمعية الشرعية، وما وافق ذلك، دون ما خالف ذلك من الحجج القياسية، وإذا كان هؤلاء قد سلكوا السبيل الحق، كما ذكره على ذلك التقدير، لمن يكره ما ذكره، دافعًا لهم، لا دافعًا للناظر في نفسه، ولا للمناظر مع غيره، فقوله: «يجب علينا

تعقيب المؤلف على قصة أبي جعفر الهمداني مع أبي المعالي الجويني

أن نبين [أن] هذه المقدمة، ليست من المقدمات البديهيات حتى يزول الإشكال» ليس بقول سديد، ولا ينفعه ولاينفع غيره، سواء كان ناظرًا أو مناظرًا، لأن الناظر الذي بَدَه قلبه العلم بهذه المقدمة، واضطر إلى الإقرار بها، وقد فطر عليها، كيف يزول ذلك عنه بالنظر والجدل، وهو قد سلم أن القدح في الضروريات بالنظريات لا يجوز. قال الحافظ أبو منصور بن الوليد البغدادي في رسالته التي كتبها إلى «الفقيه محمود الزنجاني» أن «أبا محمد الحافظ الحراني» يعني: «عبد القادر الرهاوي» أنا الحافظ

«أبو العلاء» يعني: الهَمْداني أنا «أبو جعفر» الحافظ سمعت «أبا المعالي الجويني» ، وقد سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] . وقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام، فقلت: يا هذا قد علمنا

ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة، فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة، فقلت: ما قال عارف قط يا رباه، إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة، فبينه لنا لنتخلص من الفوق، وبكيت وبكى الخلق، فضرب بكمه على السرير، وصاح بالحيرة، وخرق ما كان عليه وانخلع وصارت قيامة في المسجد، وترك ولم يجبني إلا بيا حبيبي الحيرة، والدهشة الدهشة، وسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني «الهمداني» . ولهذا روى عنه «أبو الفتح محمد بن علي الطبري» الفقيه قال: دخلت على الإمام «أبي المعالي الجويني» الفقيه، نعوده

في مرضه الذي مات فيه بنيسابور، فأقعد. فقال لنا: «اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وإني أَموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور» رواها عنه «الحسن بن العباس الرستمي الأصبهاني» مفتي أصبهان ومحدثهم، قال حدثنا «أبو الفتح» فذكرها كما ذكرها «ابن الوليد» فلما تكلم «أبو المعالي» على منبره، في نفي علو الله على

العرش، بأن الله كان قبل العرش، ولم يتجدد له بالعرش حال، قام إليه هذا الشيخ «أبوجعفر الهمداني» الحافظ، فقال: قد علمنا ما أشرت إليه، أي: دعنا من ذكر العرش، فإن العلم بذلك سمعي عقلي، ودعنا من معارضة ذلك بهذه الحجج القياسية، فهل عندك للضرورات من حيلة، أي: كيف تصنع بهذه الضرورة الموجودة في قلوبنا؟ ما قال عارف قط: يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة، فبينها نتخلص من الفوق والتحت، قال: فصاح «أبو المعالي» وضرب على السرير، وخرق ما كان عليه، ولم يجبه إلا بقوله: الحيرة الحيرة، الدهشة الدهشة، وكان يقول: حيرني الهمداني. وذلك لأن العلم باستواء الله على العرش بعد خلق السموات والأرض، إنما علم بالسمع، أمَّا العلم بعلو الله على العالم فهو معلوم بالفطر الضرورية وعند الاضطرار في الحاجات لا يقصد القلب إلا ما يعلم كما يعلم، فقال لأبي المعالي: ما تذكره من الحجج النظرية، لا تندفع به هذه الضرورة، التي هي ضرورة في القصد، المستلزم للضرورة في العلم، فعلم أبو المعالي أن هذه معارضة صحيحة، فقال: حيرني الهمداني، لأنه عارض ما ذكره من النظر، بما بينه من الضرورة، فصرخ حائرًا، لتعارض العلم الضروري والنظري، ولأن هذه الضرورة الموجودة

الموجودة في القلوب علمًا وقصدًا، ولا يمكن أحدٌ نزعها إلا بإحالة الفطر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» وأما المناظر، فإذا قال لمنازعه هذا، إن ما علمه بالضرورة والبديهة، أو هذه المقدمة بديهية أو ضرورية عندي، لم يكن له أن يناظره ببيان ما ينافي الأمر الضروري، كما ذكره، فإن غايته في ذلك أن يستدل بمقدمات، يسندها إلى مقدمات ضرورية، فلو قدر أن البديهيات تتعارض، أو تعارضت عند شخص لم يكن دفعها هذا البديهي، لهذا البديهي، بأولى من العكس، فكيف إذا كان المعارض لها

من أسباب الخطأ في العلم

أمورًا نظرية، مستندة إلى بديهية؟ فلا ينقطع المناظر بمثل هذا، فلا ينتفع به الراد عليه، ولاينتفع به الناظر كما تقدم، ولكن إذا ادعى شخص في مقدمة أنها فطرية، فإما أن يعتقد كذبه أو يعتقد صدقه، فإن اعتقد أنه كاذب، عومل بما يعامل به مثله من الكذابين الجاحدين، على ما وردت به الشريعة، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] . وعامة الكفار من هذا النوع، وإن اعتقد أنه صادق فيما يخبر به عن نفسه، ولكنه مخطئ، لاشتباه معنى عليه بمعنى آخر، [أ] واشتباه لفظ بلفظ، أو غير ذلك، أو لخلل وقع في إدراك حسِّه وعقله، أو لنوع هوى خالط اعتقاده، فهذا طريقه أن يبين له ما يزيل الاشتباه، حتى يتميز له أن الذي اضطر إليه من العلم ليس هو الذي نوزع فيه، بل هو غيره أو يصلح إدراكه بإزالة الهوى، [أ] والاعتقاد الفاسد، الذي جعله يظن ما ليس بضروري ضروريًّا، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) } [الأنعام: 110] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) } [النساء: 155] وقال تعالى:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) } [الأعراف: 179] وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } [محمد: 24] وقال تعالى: {إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) } [محمد: 16] وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] فالمقصود أن هذا النوع من السفسطة، فإن دعوى العلم الضروري فيما ليس كذلك، بمنزلة إنكار الضروري، فيما هو ضروري، فصاحب هذا إمَّا متعمد للكذب، وإمَّا مخطئ، والخطأ في أسباب العلم: إمَّا لفوات شرط العلم، من فساد قوى الإدراك وضعفها، أو عدم التصور التام لطرفي القضية، التي يحصل العلم بالتصديق عند

تصور طرفيْها، أو لوجود مانع من الأهواء الصاد [ة] عن سبيل الله، فإذا كان كذلك فلا تحصل معرفة الحق إلا بوجود شروطه وانتفاء موانعه، وإلا فمع عدم هذين قد تنكر العلوم الضرورية، أو يجعل ما ليس بضروري ضروريًّا، والمثبتون يقولون للنفاة: أنتم في نفي هذا العلم الضروري، لا تخرجون عن هذه الأقسام، التي لا يخرج عنها مسفسط. والنافون يقولون للمثبتة: بل أنتم المدعون للعلم الضروري مع انتفائه، والمؤسس في مقام بيان أنه ليس عند منازعيه علم ضروري بما ذكروه، وهو لا يمكنه نفي ذلك، وليس فيما ذكره ما ينفي ذلك، فظهر انقطاعه وانقطاع نظرائه معه في أوّل مقام.

فصل: نقل المؤلف عن الرازي في منازعته المقدمات البديهية وادعاءه أن جمهور العقلاء يوافقونه على عدم بداهتها

فصل قال «الرازي» : «فنقول الذي يدل على أن هذه المقدمات ليست بديهية، وجوه: الأول: أن جمهور العقلاء المعتبرين، اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز، ولا مختص بشيء، من الجهات، وأنه تعالى غير حال في العالم، ولا مباين عنه في شيء من الجهات، ولو كان فساد هذه المقدمات معلومًا بالبديهة لكان إطباق أكثر العقلاء على إنكارها ممتنعًا، لأن الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز إطباقهم على إنكارالضروريات، بل نقول: الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة، ولا حالة في المتحيزة، مثل العقول والنفوس والهيولي، بل زعموا أن الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله: أنا موجود، ليس بجسم ولا جسماني، ولم يقل أحد بأنهم في هذه الدعوى منكرون

للبديهيات، بل جمع عظيم من المسلمين اختاروا مذهبهم مثل «معمر بن عباد السلمي» من المعتزلة، ومثل «محمد بن نعمان» من الرافضة، ومثل «أبي القاسم الراغب» و «أبي حامد الغزالي» من أصحابنا، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يقال بأن القول بأن الله تعالى ليس بمتحيز، ولا حال في المتحيز، قول مدفوع في بداية العقول» .

تعقيب المؤلف على منازعة الرازي ومناقشته من وجوه

قلت: الكلام على هذا من وجوه: أحدها: أن ما ذكره من المقالات بمبلغ علمه، وما عرفه من الرجال، وأقوالهم، وعامة ما عنده ما بلغه من أقوال طوائف من المتكلمين والمتفلسفة، مثل طوائف من المعتزلة والرافضة، وطوائف من متفلسفة الإسلام، وطوائف من متأخري أتباع الأشعري، ثم إنه جعل هؤلاء جمهور العقلاء المعتبرين. وأما مقامات سائر أهل الملل من اليهود وأصنافهم والنصارى وأنواعهم فهو من أقل الناس معرفة بها، كما تدل عليه كتبه، مع أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المشركين

والصابئين، فله نوع خبرة بكثير من مقالات المشركين، الذين صنفوا على طريقتهم، في السحر وعبادة الكواكب والأصنام، وبكثير من مقالات الصابئين من المتفلسفة ونحوهم، ما ليس له من الخبرة بمقالات اليهود والنصارى، الذين هم أقرب إلى الهدى، وأبعد عن الضلال من المشركين والصابئين، ودينهم

خير من دين المشركين، والمجوس، والصابئين، باتفاق المسلمين، ومن المعلوم أن هذه المسألة هي من أعظم مسائل أصول الدين، التي يتكلم فيها عامة طوائف بني آدم، فمن لم يكن له خبرة بمقالات بني آدم، كيف يحكم على جمهور العقلاء المعتبرين؟ وهو لم يعرف من مقالات عقلاء بني آدم إلا مقالات طوائف قليلة بالنسبة إلى هؤلاء، فأمَّا أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فلا خبرة له ولا أمثاله بمقالاتهم في هذا الباب، كما تشهد به مصنفاته، ومصنفات أمثاله، وكذلك لا خبرة له بمقالات أئمة الفقهاء، وأئمة أهل الحديث والتصوف، وكذلك لا خبرة له بمقالات طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم، من المرجئة

والشيعة وغيرهم، ممن قد حكى أقوالهم طوائف «كالأشعري» وغيره، فإن كتبه تدل على أنه لم يعرف مقالات

أولئك، بل لا خبرة له أيضًا بحقائق مقالات أئمة أصحابه «كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاّب» و «كأبي العباس القلانسي» وأمثالهم، بل لا خبرة له بحقائق مقالات «الأشعري» التي ذكرها في نفس كتبه، ولهذا لا ينقل شيئًا من كلام «الأشعري» نفسه من كتبه «كالموجز» و «المقالات» و «الإبانة» و «اللمع» وغير ذلك، بل كثير من مقالات أئمة الأشعرية في هذا الباب وغيره، من مسائل الصفات، وفي مسائل القدر وغير ذلك، لم يكن يخبرهـ[ـا] كما تدل عليه مصنفاته، وهو أيضًا إنما يخبر من مقالات غير الإسلاميين، ما يخبره من مقالات الفلاسفة

المشائين ونحوهم، ممن توجد مقالته في كتب ابن سينا، وأمثاله (من الدهرية، والثنوية، والمجوس وغيرهم، أو يخبر

ما يجده في كتب أبي الحسين وأبي المعالي، ونحوهما من الإسلاميين، وأما سائر مقالات الفلاسفة الأوائل والأواخر فلا يخبرهـ[ـا] وهذا تفريط) في العلم والصدق في القول، والاطلاع على أقوال أهل الأرض في مقالاتهم ودياناتهم. فيقال له: قولك إن جمهور العقلاء اتفقوا على أنه ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات، وأنه تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات، وتصورك بذلك أنه ليس على العرش، ولا فوق العالم ليس بصحيح، إذا أراد بالعقلاء المعتبرين من يستحق هذا الاسم، وذلك أن هذا القول لا يعرف عن أحد من أنبياء الله ورسله، وهم أكمل الخلق وأفضلهم عقلًا وعلمًا، فلا يوجد في كتب الله المنزلة عليهم، ولا في شيء من الآثارة المأثورة عنهم، لا عن خاتمهم ولا عن أنبياء بني إسرائيل

ولا عن غيرهم، بل الموجود عن جميع الأنبياء ما يخالف هذا القول، وهو في ذلك إما نص وإما ظاهر، وأنت تسلم أن هذا القول لا يؤثر عن الأنبياء، وإنما يستنبط من أمور سنتكلم عليها إن شاء الله، وهذا القول أيضًا لا يؤثر عن أحد من أئمة الإسلام في القرون الفاضلة، التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ولا قاله أحد من أئمة المسلمين، الذي لهم لسان صدق في أصناف الأمة، الذين اتخذوهم أئمة في العلم والدين، لا من أئمة العلم والمقال، ولا من مشايخ العبادة والحال، ولا هو قول عوام المؤمنين الباقين على فطرتهم، ولا يعرف هذا القول إلا عمن هو مجروح بنقص العقل والدين، معروف بكثرة

نقل المؤلف عن ابن فورك معتقد ابن كلاب والأشعري

التناقض والتهافت في مقاله، ولهذا يشهدون على أنفسهم بالحيرة، ويرجعون عما يعتقدونه إلى دين العجائز، ولا يعرف فيمن قال هذا القول، إلا من يشهد عليه بتوحّشه، بأنه يجحد بعض العلوم الضرورية العقلية، وهذا موجود في مناظرة بعضهم، دع كون القائلين بمثل هذا القول، ليس فيهم إلا من له في الإسلام مقالة، نسب لأجلها إلى ردة أو نفاق، أو جهل أو تقليد، وإن كانوا قد تابوا من ذلك، وهذا القدر معروف عند أهل النظر، واعتبر ذلك بما ذكره «أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاّب» الذي هو إمام المتكلمين الصفاتية، وهو الذي سلك سبيله وائتم به «أبو الحسن الأشعري» و «أبو العباس القلانسي» ونحوهم من المتكلمة أهل الإثبات الصفاتية، وقد ذكر ذلك الأستاذ «أبو بكر بن فورك» في كتابه الذي سماه «مقالات الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد» وقد قال في كتابه بعد الخطبة التي مضمونها حمد الله على أن قام من أهل ولايته، من يبين الحق بدلائله، ويدحض شبه الباطل، ثم قال: «ثم من أجل الله قدره» يعني: أبا عبد الله العصمي، وأثنى عليه ثناءً كثيرًا «أحبَ -لما هو عليه من إظهار كلمة المحقين، ونشر أصول دين المتدينين، بالتمسك بالسنة الظاهرة، والجماعة القاهرة، يدًا

ولسانًا، وحجة وبيانًا- أن أجمع [له] ، متفرق مقالات شيخ أهل الدين، وإمام المحقين، المستنصر للحق وأهله، والمبين لحجج الله الذاب عن دين الله، بما عرفه الله سبحانه من معالم طرق دينه الحق وصراطه المستقيم، السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع، الموفق لاتباع الحق، والمؤيد بنصرة الهدى والرشد، من فتح الله سبحانه وتعالى بفضله لأهل السنة والجماعة، بما وفقه له من البيان [لـ] طرق الإيضاح عن حجج المحقين في حقهم، واستنصروا به، وأباح لهم بما سدده فيه من مرسومه في كتبه، وجدده في تصانيفه، الكشف عن السبيل التي منها توصل إلى معرفة طرق التفصيل، ويهتدي بها إلى مقام الدلائل، بالحجج التي بها يدفع وساوس المبتدعين، وتهاويس الضالين، عن طريق الحق والدين المبين، فصار بيانه نورًا وسيفًا لأهل السنة، وخسارًا وغيظًا لأهل البدعة، عظمت منة الله على أهل السنة والحق بمكانه، وجلت نعمه لديهم بما سربلهم من تباينه، وهو «أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان» رضي الله عنه وأثابه على عظيم ما أنعم عليه، وبه عليهم عود فضل منه، على بدء فضل، إنه القريب المجيب، وكذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا «أبي الحسن علي بن إسماعيل

الأشعري» رضي الله عنه للتقريب على من يريد الوقوف على جملة مذاهبه، وأصوله وقواعده ومبانيه، وما رتب عليه كلامه مع المخالفين، من صفوف المبتدعة وفرق الضلالة، وتسهيلًا على طالبه وتيسيرًا له، ليقع له الغنية عن طلبه في متفرقات كتبه، ما يعز وجوده منها وما يشتهر ويكثر، ولم أخلط بما جمعته في ذلك مقالات غيره، من أصحابنا المتقدمين، ومشايخنا المتأخرين، طلبًا لإيراد مقالاته فقط، فإنه رضي الله عنه لكثرة مصنفاته وتوسعه في كلامه، وانبساطه في كل باب من أبواب الخلاف مع المخالفين، ومصادفة أيامه كثرة أباطيل الضالين، وشبه المبتدعين، ونصرته في الرد على كل فريق بغاية البيان، وبلوغ الإمكان، كثرت مقالاته واتسعت» قال: «ولما كان الشيخ الأول، والإمام السابق «أبو محمد عبد الله بن سعيد» رضي الله عنه، الممهد لهذه القواعد، المؤسِّس لهذه الأصول والمقاصد، بحسن بيانه، بين حجج الحق وشبه الباطل، المنبه على طرق الكلام فيه، والدال على موضع الوصل والفصل، والجمع والفرق، الفاتق لرتق الأباطيل،

والكاشف عن لبس ما حرفوا وموّهوا، فهدى الله بذلك وأرشد، ورأى حذّاق المخالفين من المبتدعة بيانه لهم واضحًا، وكلامه ظاهرًا لافحًا، فجدوا في طلب كتبه، وتصانيفه فحرفوها، وغسلوها لئلا يبين عوار بدعهم، وينكشف قبيح بواطن شبههم، فتتبعوها وبذلوا فيها الأموال، حتى اجتهدوا في التقليل منها، فعزّت وقلت، ولكن ما حفظ الله من ذلك لأهل الحق، فيه البيان الكاشف، والنور الساطع، فاكتفوا بما وجدوا في التنبيه عما فقدوا، وتتبعت عند ذلك فيما وجدت من كتبه، وما وجدت المشايخ حكوا عنه، وما انتشر من مذاهبه، فجمعت جميع ذلك ورتبته على الأبواب، ونسبت كل ذلك إلى كتبه رحمه الله، وإلى كتب أصحابنا ومشايخنا رضي الله عنهم، وأجبت في بعض الفروع المتفرعة على أصول المذهب بعده، على مجرى أصوله وقواعده المشهورة، واستوفيت في بعض الفصول كلامه فيه، فأومأت إلى نكت في الباب، تنبيهًا على طرقه في الاستدلال، والاحتجاج للحق، ليجمع إلى تعريف مذاهبه، تعريف طرقه في بعض المسائل، في اللجاج للحق،

والرد على المبطلين، خاصة في مسألة القرآن، فإنه أورد فيها كلامًا ظاهرًا جليًا، وبدأت قبل كل شيء بما حكاه شيخنا «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» رضي الله عنه، من جمل مذاهبه في الكتاب الذي جمع فيه مقالات أهل القبلة، وكان غرضي في ذلك أن يعلم أن طريقة مشايخنا رضي الله عنهم مقنعة في إبانة حجج دين الله الحق، وإبانة أباطيل المبتدعين، والكشف عن شبه الزائغين عن الحق، وأن قواعد دينهم وطرائقهم متساعدة غير مختلفة، وأن ليس بينهم خلاف، يبرأ بعضهم من بعض لأجله، أو يكفر أو يفسق بعضهم بعضًا، وأكثر ذلك إنما يرجع إلى تقييد مطلق، لرفع إبهام ولبس، أو إطلاق مقيد كل شبهة، ورفع تهمة، وأكثرها يؤول إلى خلاف في عبارة، وما ضر نفسه في المعنى والتحقيق، يؤول فيه إلى طريق صاحبه في التفصيل، ولم أشتغل في هذا الكتاب بإظهار وجه الجمع بين المقالات في المعنى، وإبانة أنـ[ـها] ترجع إلى اختلاف عبارات، وإطلاق بعضهم لعبارة منعها الآخرون، من غير أن يكون فيها نقض أصل، أو حلّ عقد، يوجب التضليل والبراءة، وذلك أعظم شاهد، على أنهم هم المعصومون، وأنهم هم الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال ظاهرة بالحق،

لا يضرهم من ناوأهم فإن الكتاب يطول بذلك وسنفرد في آخر هذا الكتاب فصلًا نفصل فيه؛ وجوه الخلاف بينها، ونبين وجه الاتفاق في القواعد والأصول، وأن الخلاف فيما اختلفوا فيه يجري المجرى الذي ذكرناه، وفيما أحكيه الآن قبل كل شيء، من كلام شيخنا «أبي الحسن» رحمه الله في كتاب مقالات أهل القبلة ما يدل على ما أقول، وأن مذهب الشيخ الإمام الأوحد «أبي محمد عبد الله بن سعيد» رضي الله عنه، هي مذاهب مشايخ أهل الحديث، وأئمتهم في الأصول والفروع المتعلقة بها، وأنه كان مؤيدًا من بين الجماعة، بمعونة خاصة من الله تعالى، في إبانة آيات الله وحججه، وإظهار دليله وتباينه، فكان بين أيديهم مرتقًى لهم، ينفي عن أهل السنة والجماعة تحريف المبتدعة، ويكشف عن تبديل الفرق المبطلة، ويوضح عن حكم التمسك بالكتاب والسنة، ومجانبة الهوى والبدعة، وأن شيخنا «علي بن إسماعيل الأشعري» إنما بنى على ما أسسه، ورتب الكلام على ما هذّبه، وفرع على ما أصّله، غير ناقض منه أصلًا،

ولا حال منه عقدًا، فوفقه الله بفضله لنشر ذلك وبسطه، وتكثيره وترتيبه، يقرب المستبعد، ويوضح المشكل، ويحصر المنتشر، حتى بلغه الله ما أراد، وتم توفيقه لما قصده، فرحمة الله عليهم أجمعين، وجعلنا بآثارهم مقتدين، ولما سنوا متبعين، وبما بنوا وقاسوا وأرشدوا إليه عاملين، وفيه مستبصرين، إنه ولي ذلك» . ثم قال: «الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا «أبو الحسن» رضي الله عنه في كتاب «المقالات» من جمل مذاهب أصحاب الحديث وقواعدهم وما أبان في آخره؛ أنه يقول بجميع ذلك، وأن الشيخ «أبا محمد عبد الله بن سعيد» وأصحابه بذلك يقولون، وبأكثر منه، حتى يعلم أن الأصل في العقود واحد، تصديقًا لما قلنا، وتأييدًا لما إليه أومأنا، وشاهدًا لما ذكرنا من نص قوله وصريح بيانه، قال شيخنا «أبو الحسن» في كتاب «المقالات» بعد ذكره مقالات الإمامية

والخوارج، والمعتزلة والنجارية، في جليل الكلام، قال: «هذا حكاية قول أصحاب الحديث وأهل السنة، قال اعلموا أن جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله عز وجل»

إلى قوله: «ويجتنبون قول الزور والمعصية والفخر والكبر، والإزراء على الناس والعُجْبِ، ويرون مجانبة من يدعو إلى بدعة، والتشاغل في قراءة القرآن، وكتابة الآثار والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن الخلق، وبذل المعروف وكف الأذى، ويرون اجتناب الغيبة والنميمة والسّعاية، ويتفقدون المآكل والمشارب، ويجتنبون المحرمات والشهوات» [ثم] قال شيخنا «أبو الحسن» رحمه الله عند انتهاء حكايته ذلك عنهم: «وهذه جملة ما يؤمنون به ويستعملونه» قال بعد ذلك:

«وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نميل ونذهب وبالله توفيقنا» قال: «فحقق قواعد ذلك من ألفاظه رحمة الله عليه، أنه معتقد لهذه الأصول، التي هي أصول [أهل] الحديث وأساس توحيدهم، ومهاد دينهم، وأنه إنما سلك بما صنف إظهار حجج الله تعالى في دينه الذي وصفه وأبان خطأ المبتدعين، وإبطال أباطيلهم، ليعرف قوة الحق والسنة، وضعف الباطل والبدعة، لا أنه ابتدع من عند نفسه مقالة، لم يسبقه إليها أئمة الحديث من أهل السنة والإجماع، وإنما أطلق وقيد اللفظ في مواضع، لرفع إبهام، أو لإظهار قوَّة في حق، ولإبانة حجة، وكشف شبهة، وكذلك قصد الشيخ «أبي محمد» رضي الله عنه، وقد كان أوحد في معرفة الحديث، والعلم بالرجال، وطرق الحديث، وهو في شدة تمسكه بذلك، يرى أن متشابه الأحاديث لفظًا في التوحيد، كمتشابه آي القرآن في مثل ذلك، وأنه يحمل على الوجه الصحيح، الموافق لحكم الكتاب والسنة، ولم يكن غرضهم [إلا] الإبانة، عن حجج الله تعالى، وإظهار وجوه الدلالات منها على الحق، وكشف تأسيس

المبتدعين المبطلين، المدعين على أهل السنة الباطل والبهتان» . ثم قال ابن فورك: «فصل ثم قال شيخنا «أبو الحسن» -رحمه الله- في «المقالات» بعد حكايته جملة ما عليه أصحاب الحديث، على الألفاظ التي ذكرناها، حاكيًا عن «عبد الله بن سعيد» -رحمه الله تعالى- بالألفاظ التي نذكرها الآن، فقال -رحمه الله-: «وأما عبد الله بن كلاب -رحمه الله- وأصحابه -رضي الله عنهم- فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرنا عن أهل السنة، ويثبتون أن الله عز وجل لم يزل متكلمًا جوادًا» وأعاد عند ذلك بعض ما جرت حكايته جملة، تحقيقًا وتأكيدًا، فقال: «وهم يقولون -يعني: عبد الله بن كلاب وأصحابه-: إن لله عَزَّ اسمه عِلمًا وقدرة، وحياة وسمعًا، وبصرًا وعظمة، وجلالًا وكبرياء، وكلامًا وإرادة، صفات لله تعالى لم يزل بها موصوفًا ولايزال بها موصوفًا، ويقولون: أسماء الله تعالى وصفاته لا يقال: هي هو كما قال بعض المعتزلة، ولا يقال: هي غيره كما قالت الجهمية، ولا يقولون: العلم هو القدرة، ولا يقولون: إنه غير القدرة،

ويزعمون أن الصفات قائمة بالله عز وجل، وأن الله تعالى لم يزل راضيًا عمن يعلم أنه يموت مؤمنًا، وساخطًا على من يعلم أنه يموت كافرًا، وكذلك قولهم في الولاية والعداوة والبغض والمحبة، وكان يقول في القدرة كما حكيناه عن أهل السنة والحديث، وكذلك قوله في أهل الكبائر، وكذلك قوله في رؤية الله تعالى بالأبصار، وكان يقول: إن الله لم يَزَلْ، ولا زمان ولا مكان قبل الخلق، وأنه على ما لم يزل عليه،

وهو مستو على عرشه كما قال عز وجل، وأنه فوق كل شيء، لا بحد ولا مماسة، أو مفارقة بعزلة وتحيز» . ثم قال «أبو بكر بن فورك» : «فصل، وهذا آخر ما حكاه شيخنا «أبو الحسن» -رحمه الله- من مقالات أصحاب الحديث، ومقالة الشيخ «أبي محمد عبد الله بن سعيد» ومقالات أصحابه، وقال: إنه بجميع ذلك يقول وإليه يذهب، وقال في الجملة: إن أصحاب عبد الله بن كلاب بأكثر من ذلك يقولون، فكشف جملة ما حكيناه، أن الأمر على ما رتبناه عند مشايخنا، وأن بعضهم يتولى بعضًا، وأن ليس بينهم خلاف، يقتضي عند واحد منهم التكفير والتضليل، وأنهم يعتقدون بأصل واحد، مهتدون بطريقة واحدة، هي ماصححه كتاب الله، وشهدت له سنة رسول الله، وعمل به السلف الصالح رضي الله عنهم، وأنهم لم يبتدعوا مقالة، ولا أحدثوا مذهبًا، لا يترتب على أصل من هذه الأصول، وهذه الجملة مفيدة في هذا الباب، التي يذكر [فيها] على التفصيل مسائل الخلاف، ويبين مراتبها، ويذكر ترتيب الكلام فيها، وأنها في الحقيقة، كما أومأنا إليه، في أنه

مناقشة المؤلف لابن فورك فيما نقله عن الأشعري وابن كلاب

ليس بشيء من ذلك خلاف ينقض أصلًا ثابتًا، ويرفع عقدًا واجبًا، يوجب التبري والتضليل، وكيف يقع بينهم خلاف في ذلك، مع اتفاقهم على أنهم ينصرون العلم الظاهر، وما عليه الألسنة مطبقة، والكلمة عليه مجمعة وإنما تفرَّدت شرذمة من كل فرقة بمقالة، ابتدعوها نصرة لباطلهم، وتمسكًا بما أداهم إليه هواهم، واقتضى لهم طلب الدنيا، وإيثارًا لعقد رياسة على طغام مثلهم، ليظهر لخلافهم مباينة، فيذكر بخذلان من الله وحرمان» . قلت: هذا الذي ذكرناه هو ألفاظ «أبي بكر بن فورك» التي نقل بها ما ذكره، وهو في الغالب نقل ألفاظ «أبي الحسن الأشعري» من كتاب «المقالات» وفي مواضع غير كلامه بزيادة ونقصان، تارة غلطًا، وتارة عمدًا باجتهاده، لاعتقاده أن الصواب هو الذي ذكره، دون ما وجده فيما ذكره «أبو الحسن» وسنذكر إن شاء الله تعالى ألفاظ «أبي الحسن» بعينها في كتاب «المقالات» وألفاظه أيضًا فيما صنفه أيضًا بعد المقالات، حتى يتبين الأمر على حقيقته، فإن المقصود هنا إنما هو ذكر ما يحكيه «أبو بكر بن فورك» عن «أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» وذكرنا هذه

الجملة؛ لأنه أصل لما يحكيه عنه من التفصيل، فغلطه في هذا النقل قوله عن «أبي الحسن» : «أنه ذكر عن أصحاب «ابن كلاب» أنهم يقولون بذلك وبأكثر» وإنما لفظ «أبي الحسن» أنه قال: «وأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة، ويثبتون أن الباري لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا، جليلًا كبيرًا، كليمًا مريدًا، متكلمًا جوادًا، ويثبتون العلم والقدرة» إلى آخر ما ذكر، فذكر «أبو الحسن» أنهم يقولون: بأكثر ما يقوله أهل الحديث لا بكله، وأنهم يريدون هذه الأمور، فذكر عنهم زيادة في شيء وتركًا لشيء، لم يقل: إنهم يقولون ما يقوله أهل الحديث وبأكثر منه، ولكن قد يتصحف في الخط بأكثر مما حكاه، لسقوط الميم في الخط أو لاندغامها في الخط، وكيف يقول «أبو الحسن» ذلك؟ وقد حكى عن أهل الحديث أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، و «ابن فورك» قد حكى عن «ابن كلاب» إنكار أن يكون العمل إيمانًا، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأشياء أُخَر، إذ كان من المرجئة، وأيضًا «فابن فورك» قال: «قال شيخنا في كتاب «المقالات» بعد ذكره مقالات الإمامية والخوارج، والمعتزلة والنجارية، في جليل الكلام قال: «هذه

حكاية قول أصحاب الحديث وأهل السنة» فاقتضى ما ذكره «ابن فورك» أن «أبا الحسن» لم يذكر مخالفًا لهم ذكره بكلام إلا هذه الأصناف الأربعة، وليس كذلك بل قد ذكر «أبو الحسن» عشرة أصناف؛ وقال في أول كتابه: «هذا ذكر الاختلاف اختلف المسلمون عشرة أصناف؛ الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية، والضرارية والحسينية،

والبكرية، والعامة وأصحاب الحديث، والكلابية أصحاب «عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان» ثم ذكر أصناف الشيعة ثم أصناف الخوارج، فلما فرغ قال: «آخر مقالات الخوارج، أول مقالات المرجئة» فذكرهم اثنتي عشرة فرقة، ثم بعد أن فرغ منهم قال: «هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره» وذكر أقاويل المعتزلة، وفي ضمنها قال: «هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم» ثم قال: «ذكر قول الجهمية»

ثم قال: «ذكر الضرارية أصحاب «ضرار بن عمرو» ثم قال: «ذكر قول «الحسين بن محمد النجار» وهؤلاء الثلاثة يوافقون المعتزلة في الصفات في الجملة دون القدر، ومسائل «أبي عبيد» والإيمان، ثم قال: «ذكر قول البكرية أصحاب بكر ابن أخت

عبد الواحد» ثم قال: «هذه حكاية قول قوم من النساك» ثم قال: «هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة» ثم قال: «فأما أصحاب عبد الله بن سعيد» إلى آخره، ثم قال: «ذكر قول زهير الآثري» وذكر قول «معاذ التومني» ، ثم قال: «هذا آخر الكلام في الجليل، ذكر اختلاف الناس في

الدقيق» ولكن «ابن فورك» لميله وميل «ابن كلاب» إلى قول المرجئة، يذكر ذلك لئلا يظهر ما خالفوا فيه أهل الحديث، وأيضًا فقد ذكر «أبو الحسن» عن أهل الحديث في القرآن والنزول، والمجيء والقرب، والرضى والسخط والجدل، وغير ذلك ألفاظًا هي معروفة عندهم، صنفها «ابن فورك» فيما نقله من نقل «الأشعري» عنهم، هذا مع أن الذي ذكره «الأشعري» عنهم، فيه مواضع ذكرها بتصرف واجتهاد، فإن كلام أئمة الحديث في هذه الأبواب في كتب السنة، والآثار متواترة عند من يعرف ذلك، وأيضًا فلفظ «الأشعري» في كتاب «المقالات» عن «ابن كلاب» : «أن الباري لم يزل، ولا مكان ولا زمان قبل الخلق، وأنه على ما لم يزل عليه، وأنه مستو على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء تعالى» فزاد «ابن فورك» : «لا بحد ولا مماس، أو مفارقة بعزلة أو تحيز» وهذه الألفاظ موجودة، هي أو ما يوجب الإثبات في كلام «ابن كلاب» كما سيأتي، لكن اللفظ الذي نقله «الأشعري» عنه هو ما تقدم فقط، و «ابن فورك» هو المصنف لكتاب «تأويل ما ذكره من الآيات والأحاديث في الصفات» وعلى كتابه يعتمد هذا المؤسس

أبو عبد الله الرازي وغيره، إذ هو أجمع كتاب صنفه المنتسبون إلى الأشعري في ذلك، ولهذا ذكرنا ما نقله هو عن أئمته في هذا الباب، ليكون في ذلك هدى ورحمة لمن يريد الله [له] ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد ذكر «أبو بكر بن فورك» فصولًا من كلام «ابن كلاب» في مصنفاته مثل كتاب «التوحيد» وكتاب «الصفات» وكتاب «الرد على المريسي» ونحن نعود إلى ما أشرنا إليه، وهو أن القول: بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، إنما ذهب إليه شرذمة من الناس أهل البدع، خلاف ما يزعم «الرازي» وأمثاله أن ذلك قول جمهور العقلاء المعتبرين. قال «ابن فورك» : «وقال -يعني: ابن كلاب- في كتاب «الصفات» في بيان القول في الاستواء: «ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعًا به، يجيز قول الأين ويقوله، ويستصوب قول القائل: إنه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه، لا يجيزون الذي زعموا، ويحيلون القول به» قال: «ولو كان خطأ كان رسول الله أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها:

لا تقولي ذلك، فتوهمين أنه عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان، لأنه هو الصواب دون ما قلت، كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل، والأمر الذي يجلب الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قال، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك؟ والكتاب ناطق به وشاهد له، ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرت من هذه الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بَنية الفطرة، وتَعَارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، بل لاتسأل أَحدًا من الناس عنه عربيًّا ولا عجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء، إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه، إن كان لا يفصح، لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدًا داعيًا له إلا رافعًا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدًا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يدّعون أنهم أفضل الناس كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى «جهم» وحده وخمسون رجلًا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن» . قال «ابن فورك» : «فقد حقق رحمه الله في هذا الفصل شيئًا

تعقيب المؤلف على كلام ابن كلاب الذي نقله عن ابن فورك

من مذاهبه: أحدها: إجازة القول بأين الله في السؤال عنه. والثاني: صحة الجواب عنه بأن يقال في السماء. والثالث: أن ذلك يرجع فيه إلى الإجماع من الخاصة والعامة» . قلت: فقد ذكر «أبو محمد بن كلاب» أنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل، يَدعون أنهم أفضل الناس «جهم» وعدد قليل معه، وذكر أن العلم بأن الله فوق فطري، مغروز في فطر العباد، اتفق عليه عامتهم وخاصتهم. قال «أبو بكر بن فورك» عقب هذا: «واعلم أن هذا ليس بمخالف لما قال في كتاب التوحيد، لأنه ليس يقول: إنه في السماء إلا اتباعًا للفظ الكتاب، في قوله عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] على معنى أنه فوقها، وردَّ ذلك إلى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] فمن توهم عليه أنه يقول: إن الله في مكان دون مكان، أو في كل مكان فقد أخطأ في توهمه» . فقلت: أما قول «ابن فورك» إنه إنما قال ذلك، اتباعًا للسمع الوارد من لفظ الكتاب، فليس كذلك، لأنه قرر أولًا ذلك

بالسنة، ثم قال: «والكتاب ناطق به، وشاهد له» ثم قال: «ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة، وتعارف الآدميين من ذلك، ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، لأنك لا تسأل أحدًا من الناس، عربيًّا ولا عجميًّا، ولا مؤمنًا ولا كافرًا، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن لم يفصح، لا يشير إلى غير ذلك، من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدًا، داعيًا له إلا رافعًا يديه إلى السماء» فقد ذكر أنه مغروز في فطر الناس كلهم ومعارفهم في هذا الباب ما لا أبين [منه] ولا أوكد، وهو اتفاق الخلائق كلهم، إذا سئلوا أين الله؟ قالوا: في السماء، بالعبارة عنه، أو الإشارة إليه، وكذلك هم متفقون على الإشارة باليدين، في دعائه إلى السماء، وهذا الإخبار منه بأن القول بأنه في السماء والإشارة إليه، سبحانه في الدعاء وغير الدعاء، أمر متفق فيه بين الناس، وأن ذلك عندهم من المعارف الفطرية الغريزية، فكيف يقال: قولهم إنه في السماء ليس إلا لمجرد اتباع لفظ القرآن؟ وقد ذكر «ابن فورك» أن مقام هذا دلَّ على ثلاثة أمور: أحدها: إجازة القول بأين الله في السؤال عنه. والثاني: أنه دلَّ على صحته الجواب عنه، بأن يقال: إنه في

السماء. والثالث: أن ذلك يرجع فيه إلى الإجماع من الخاصة والعامة. فكيف يقول بعد هذا منصف يظن أنه يقول إنه في السماء إلا اتباعًا للفظ الكتاب؟ وقد ذكر أن هذا إجماع من المؤمنين والكفار والعرب والعجم، فهل ما يكون بهذه المنزلة لا يقال إلا لمجرد التوفيق على لفظه؟ وقد ذكر «ابن فورك» من كلامه في غير هذا الموضع، ما يبين أنه كونه فوق العالم صفة معلومة بالعقل، لا تتوقف على السمع، وإنما المعلوم بالسمع استواؤه على العرش. قال «ابن فورك» : «فصل آخر في بيان تحقيق قوله: إن إطلاق وصفه سبحانه وتعالى بأنه فوق واجب، من كلام ذكره في كتاب «الصفات» في باب الاستواء على العرش: «قال: قد قلنا ونقول إنه عز وجل فوق كل شيء لم يكن بين طبقين» قال «ابن فورك» : «وقال في هذا الباب، من هذا الكتاب، عند تفسير الاستواء: «إن الاستواء هو العلو، وإنما سمي العلو استواء، لعلة المستوى عليه، إذ لم يكن فوقه شيء، فقوله: استوى على العرش؛ هو أن الله -سبحانه وتعالى- قد كان ولا شيء غيره، ثم خلق العرش فجعله أعلى خلقه، فقيل: هو مستو عليه، لما كان عاليًا عليه، لم يكن بين طبقتين، فيكون فوقه شيء، وليس هو مماس للعرش» قال «ابن فورك» : «فبين هذا من قوله، إنه

تعقيب آخر للمؤلف على ما نقله ابن فورك عن ابن كلاب

يطلق الاستواء للخبر الوارد، والقول: بأنه فوق لنفي كونه بين طبقتين، لا معنى القهر والاقتدار، خلافًا لقول من يزعم من المخالفين؛ إنه فوق بمعنى: القهر والغلبة والقدرة والعزة والعظمة فحسب» . قلت أمَّا الاستواء، فقد ذكر أنه صفة خبرية سمعية، وأمَّا القول بأنه فوق، فإنه لم يجعل معناه سلبيًّا، بل جعل السلب دليلًا على الفوقية، فقال: «ولكنَّا نقول: إنه عز وجل فوق كل شيء، لكيلا يكون بين طبقتين، فأخبر أنه أثبت الفوقية، لئلا يلزم أن يكون داخل العالم أو خارجه فأثبت أنه خارجه، لئلا يلزم أن يكون داخله، أو لو أمكن أن لا يكون بين طبقتين، ولا يكون فوق العالم، لم يكن نفي أحدهما دليلًا على ثبوت الآخر، كما يقوله النفاة، وهو قد صرح بهذا في غير موضع. قال «ابن فورك» : «فصل من كلامه في زيادة تحقيق في هذا القول، قال في باب مسألة الجهمية في المكان، في كتاب التوحيد: «يقال لهم: إذا قلنا الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال، فلا بد من نعم، قيل لهم: فهو لا مماس ولا مباين للمكان، فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فهو بصفة المحال من المخلوقين، الذي لا يكون ولا يثبت [إلا] في الوهم، فإذا قالوا: نعم. قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال من

تعقيب آخر للمؤلف على ما نقله ابن فورك عن ابن كلاب

كل جهة، كما كان بصفة المحال من هذه الجهة. وقيل لهم: أليس لا يقال لما ليس ثابتًا في الإنسان مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم. قيل: فأخبرونا عن معبودكم مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما. قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون عدم، كما تقولون للإنسان عدم إذا وصفتموه بصفة العدم. وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجودًا له، كان جهل المخلوق علمًا له، لأنكم وصفتم العدم الذي هو للمخلوق وجودًا له، فإذا كان العدم وجودًا، كان الجهل علمًا والعجز قوة» . فقد بين في هذا الكلام امتناع أن يقال في الباري: ليس بمماس ولا مباين، فينفي عنه الوصفان المتناقضان، اللذان لا يخلو الموجود منهما جميعًا، كما هو معلوم بصريح العقل، فهذان ونحوهما متضادان في الإثبات، وفي النفي جميعًا. وذكر على ذلك ثلاث حجج. أحدها: أن انتفاء هذين جميعًا ممتنع في حق الإنسان محال، فإن جاز وصفه بهذا المحال، جاز وصفه بغيره من المحالات. قلت: وهذا الإلزام، مثل أن يقال: لا عالم ولا جاهل،

ولا قادر ولا عاجز، ولا حي ولا ميت، ونحو ذلك، كما يقول الملاحدة، فينفون المتقابلات. الحجة الثانية: أن سلب هذين جميعًا يوصف به المعدوم، الذي ليس بثابت في الإنسان، فإذا وصفوا بهما المعبود فقد جعلوا ما وصفوا به الثابت في حق الخالق، كما وصفوا أنه العدم في حق المخلوق، فإذا جاز أن يوصف بما هو صفة المعدوم في حق المخلوق، لزم أن يوصف بنفس العدم، كما يوصف المخلوق بأنه عدم، إذا وصف بصفات العدم. الحجة الثالثة: أنه [إذا] جاز أن يقال: إذا كان ما هو صفة عدم في حق المخلوق، وجودًا في حقه، جاز أن يكون ما هو جهل، في حق المخلوق علمًا في حقه، وما هو عجز في حق المخلوق، قدرة في حقه، وجماع هذه الحجج وصفه بالمحال، ووصفه بالمعدوم، ووصفه بضد صفات الكمال، وهو الجهل والعجز لربهم، حين جوزوا وأخلوه عن المماسة والمباينة، مع قولهم بأن هذا ممتنع في الوجود غيره، ففرقوا بين الواجب والممكن، في الخلو عن النقيضين من جهة المعنى، حيث جعلوه ثابتًا لهذا منتفيًا عن هذا، فلزمهم مثل ذلك في نظائره، وهذه حجج قولية، من أجود المقاييس العقلية، لمن

نقل المؤلف عن الإمام أحمد من رده على الجهمية

فهمها، وهذا لأن كون الشيء القائم بنفسه، غير مماس لغيره، ولا مباين له، لما كان ممتنعًا في بديهية العقل -وادعى الجهمي إمكان ذلك في حق الله تعالى- لزمه أن يجوز كل الممتنعات التي تناظره. وكذا ذكر الإمام أحمد في أثناء ردّه على الجهمية لما تكلم على معنى «مع» في القرآن، قال: «فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله عز وجل، أنه مع خلقه في كل شيء، قال: هو غير مماس للشيء ولا مباين منه. فقلنا للجهمي: إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟ قال: لا. فقلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس للشيء؟ فلم يحسن الجواب. فقال: بلا كيف، فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم، فقلنا له: إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار، والعرش والكرسي والهواء؟ قال: بلى. قلنا: وأين يكون ربنا؟ قال: يكون في كل شيء، كما كان، حيث كان في الدنيا في كل شيء. فقلنا: فإن في مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله

جل وعلا» . وقال أيضًا الإمام أحمد: «إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله، حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء، خلقه في نفسه، أو خارجًا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل: [لا بد له من] واحد منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الخلق والشياطين وإبليس في نفسه. وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفر، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر [رديء] وإن قال خلقهم خارجًا من نفسه ثم لم يدخل

تعقيب المؤلف على ما نقله من كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد

فيهم، رجع من قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة» . [فبين] أن كون المخلوق إما داخلًا في الخالق، أو خارجًا منه، تقسيم ضروري، لا بد من القول بأحدهما، وكذلك كون الخالق، إمَّا داخلًا في الخلق أو خارجًا منهم، وأنه إذا كان كذلك، فالقول بدخوله في الخلق أو دخول الخلق فيه ممتنع، فتعين أنه خارج من الخلق والخلق خارجون منه، فقول الإمام أحمد: «إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟» استفهام إنكار، يتضمن أن العلم بمباينته إذا لم يكن مماسًا علم ضروري، لا يحتاج إلى دليل، بل ينكر على من نفاه، ولهذا لما نفى الجهمي قال: قلنا فكيف؟ فقال: بلا كيف. قال: فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم، وذلك لأن الصفات السمعية المعلومة بإخبار الرسل عليهم السلام، يقال فيها: بلا كيف، لأنا نحن لم نعلم بعقولنا كيفيتها، لعدم علمنا بذلك. وكذلك ما علمنا بعقولنا أصله دون كيفيته، حسن أن نقول فيه، بلا كيف «أي: نعلم ثبوت هذا الأمر، ولا نعلم كيفيته، فأراد الجهمي أن يستعمل ذلك فيما علمنا انتفاءه بفطرة عقولنا،

وادعى خلو الموصوف عن النقيضين في المعنى جميعًا، اللذيْن هما ضدان في النفي، كما هما ضدان في الإثبات، فلما قيل له: كيف ذلك؛ أي: كيف يعقل؟ قال: بلا كيف. وهذا إنما ينخدع به الجهال، اللذين لا يفرقون بين الشيء الذي علمنا انتفاءه، أو لم نعلم ثبوته، إذ ادعى المدعي ثبوته، وقال: بلا كيف. لم يقبل، وبين الشيء الذي علمنا ثبوته، ولم نعلم كيفيته، إذا قيل له: بلا كيف حقًّا. ومما يبين ذلك أن خلوه عن هاتين الصفتين، لو كان كما ادعاه الجهمي لكان معلومًا عنده بالعقل، إذ العقل هو الذي دلَّ عنده على هذا السلب، لا يقول إن السمع جاء بذلك، فما كان إنما علم بالعقل فقط، والعقل يحيله، لم يقل فيه بلا كيف كسائر الممتنعات، وهذه السبيل التي حكاها الإمام أحمد عن الجهمية، هي التي سلكها هذا المؤسس وأمثاله، فإنه ادعى فيما ذكره من هذه الحجج العشر، جواز وصف الرب بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وما في ضمن ذلك من أنه لا مماس ولا مباين، ونحو ذلك، مدعيًا أن العلم الإلهي [لا ينفي ذلك و] لم يحسن الجواب أي: لم يكن له جواب يحتج به على

إمكان قوله، وإمكان أن يكون معقولًا، ولهذا لم يكن فيما ذكره «الرازي» حجة على إمكان ما ذكروه في نفسه، ولا إمكان أن يكون معلومًا. فصل قيل للإمام الرباني «عبد الله بن المبارك» : بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته، على عرشه بائن من خلقه. وهذا مستفيض عنه تلقاه عن أئمة الهدى بالقبول، كالإمام «أحمد» و «إسحاق بن راهويه» و «البخاري» صاحب

الصحيح، ومن شاء الله من أئمة الإسلام، حتى قال «محمد بن إسحاق بن خزيمة» : من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل ثم ألقي في مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملّة، ولا أهل الذمة. وقد ذكر ذلك عنه «الحاكم أبو عبد الله النيسابوري»

نقل المؤلف من كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري

وشيخ الإسلام «أبو عثمان الصابوني» وغيرهما. فصل قال «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» في كتابه المشهور «الإبانة» بعد الخطبة: «فصل في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة أما بعد: فإن كثيرًا من الزائغين عن الحق، من المعتزلة وأهل القدر، مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم، تأويلًا لم ينزل الله به سلطانًا ولا أقام به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، وخالفوا روايات الصحابة رضي الله عنهم، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، في رؤية الله بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، تواترت بها الآثار،

وتتابعت بها الأخبار، وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين، ودفعوا الروايات في ذلك عن السلف المتقدمين، وجحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، ودانوا بخلق القرآن، نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } [المدثر: 25] [فزعموا أن القرآن كقول البشر] وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر، نظيرًا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقيْن: أحدهما يخلق الخير [والآخر يخلق الشر، وزعمت القدرية أن الله عز وجل يخلق الخير] والشيطان يخلق الشر، وزعموا أن الله يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، خلافًا لما أجمع عليه المسلمون، من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وردًا لقوله عز وجل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] فأخبر أنا لا نشاء شيئًا [إلا] وقد شاء الله أن نشاءه، ولقوله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] ولقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ولقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) } [البروج: 16] ولقوله تعالى مخبرًا عن نبيه «شعيب» أنه قال:

{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89] ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا أقاويلهم، وزعموا أن للخير والشر خالقيْن، كما زعمت المجوس ذلك، وأنه يكون من الشرور ما لا يشاء الله، كما قالت المجوس، و [زعموا] أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم دون الله، ردًا لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] وإعراضًا عن القرآن، وعما أجمع عليه [أهل] الإسلام، وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغنى عن الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه، كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله تعالى. فكانوا مجوس هذه الأمة، إذ دانوا بديانة المجوس، وتمسكوا بأقاويلهم، ومالوا إلى أضاليلهم، وقنطوا الناس من رحمة الله تعالى، وأيسوهم من روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها، خلافًا لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 116] وزعموا أن من دخل النار

لا يخرج منها، خلافًا لما جاءت به الرواية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليخرج قومًا بعد أن امتحشوا فيها وصاروا حممًا» . ودفعوا أن يكون لله وجه، مع قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27] وأنكروا أن يكون لله يدان، مع قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ] [ص: 75] وأنكروا أن يكون له عينان، مع قوله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] [ولقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } ] [طه: 39] وأنكروا أن يكون لله علم، مع قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وأنكروا أن يكون لله قوة، مع قوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } [الذريات: 58]

ونفوا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا» ، وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك جميع أهل البدع؛ من الجهمية والمرجئة والحرورية، وأهل الزيغ فيما ابتدعوا خالفوا الكتاب والسنة، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأجمعت عليه الأمة، كفعل المعتزلة والقدرية وأنا أذكر ذلك بابًا بابًا [و] شيئًا شيئًا إن شاء الله وبه المعونة» ثم قال «الأشعري» : «فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية والجهمية، والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي [به] تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له:

قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم، [وعلى جميع أئمة المسلمين] وجملة قولنا: إنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاؤوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئًا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور،

وأن الله مستوٍ على عرشه، كما قال عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وأن له وجهًا، كما قال {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27] وأن له يديْن، بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وأن له عينيْن بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وأن من زعم أن أسماء الله غيرُه كان ضالًا، وأن لله علمًا، كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47] ونثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت لله قوة، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له: كن [فيكون] كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40) } [النحل: 40] وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل، وأن أحدًا لا يستطيع شيئًا قبل أن

يفعله ولا يستغني عن الله، ولا يقدر على الخروج من علم الله، وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله، ومقدرة، كما قال: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) } [الصافات: 96] وأن العباد لا يقدرون يخلقون شيئًا، وهم يخلقون، كما قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] وكما قال: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) } [النحل: 20] و] كما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17] وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] وهذا في كتاب الله كثير، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر لهم، وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، [كما قال تبارك وتعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ

هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) } ] [الأعراف: 178] وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا [كافرين] كما علم، وخذلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره [وأن نؤمن بقضاء الله وقدره] خيره وشره، وحلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا إلا بالله كما قال عز وجل، ونلجئ أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر، وندين بأن الله يُرى في الآخرة بالأبصار، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه، إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ

لَّمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15] وأن موسى [عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وأن الله سبحانه وتعالى تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلم بذلك موسى أنه] لا يراه في الدنيا، وندين بأن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج، وزعمت أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر، مثل الزنا والسرقة، وما أشبههما، مستحلًا لها غير معتقد لتحريمها، كان كافرًا، ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كلَّ إسلام إيمانٌ، وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب، [وأن القلوب] بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندين بأن لا ننزل أحدًا من أهل التوحيد، والمتمسكين بالإيمان، جنة ولا نارًا، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنَّار معذبين، ونقول: إن الله عز وجل يخرج قومًا من النار بعد أن امتحشوا، بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصديقًا لما

جاءت به الروايات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وبأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد، في الموقف، ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم للروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات، عدلًا عن عدل، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندين بحب السلف، الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونثني عليهم، بما أثنى الله به عليهم، ونتولاهم أجمعين، ونقول إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعزَّ به الدين، وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون بالإمامة، كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأن الذين قاتلوه، قاتلوه ظلمًا وعدوانًا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونكف عما شجر بينهم، وندين الله بأن الأئمة [الأربعة] خلفاء راشدون مهديون، فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي [يـ] ثبتها أهل النقل، من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافًا لما قال أهل الزيغ والتضليل. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] وأن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16] وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) } [النجم: 8-9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات، خلف كل بر وغيره، وكما رُوي أن «عبد الله بن عمر» كان يصلي

خلف الحجاج» وأن المسح على الخفين سنة، في الحضر والسفر، خلافًا لقول من أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بإنكار الخروج بالسيف، وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال، كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير، ومساءلتهما المدفونين في قبورهم، ونصدق بحديث المعراج، ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام، ونقر أن لذلك تفسيرًا، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم، ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرًا، وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة، برهم وفاجرهم، وموارثتهم، ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات

وقتل فبأجله مات وقتل؛ وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل، يرزقها عباده حلالًا وحرامًا، وأن الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه ويتخبطه، خلافًا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] وكما قال: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) [مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) ] } [الناس: 4-6] ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصّهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم: وقولنا في أطفال المشركين: «إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارًا، ثم يقول لهم: اقتحموها» كما جاءت بذلك الرواية، وندين الله بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم

تعقيب المؤلف على ما نقله من كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري

صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرنا من قولنا، وما بقي منه، مما لم نذكره بابًا بابًا، وشيئًا شيئًا» . قلت: وهذه الجمل التي ذكرها في الإبانة، هي الجمل التي ذكرها في كتاب «المقالات» عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يقول بذلك، كما تقدم نقل «ابن فورك» لذلك، لكنه في «الإبانة» بسطها بعض البسط، بالتنبيه على مأخذها لأنه كتاب احتجاج لذلك، ليس هو كتاب حجة لنقل مذاهب الناس فقط، وقد تكلم في مسألة الرؤية لله، ومسألة القرآن بما احتج به في ذلك، ثم قال: «باب ذكر الاستواء على العرش، إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقد قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال عز وجل: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وقال حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ

ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36-37] كذّب موسى عليه السلام في قوله إن الله عز وجل فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات، قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السموات، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] يعني: جميع السماء، وإنما أراد العرش، الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات، فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] ولم يرد أن القمر يملأهن جميعًا، وأنه فيهن جميعًا، ورأينا المسلمين جميعًا، يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله عز وجل مستو على العرش، الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض» ثم قال: «فصل وقد قال قائلون من

المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى: قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] إنه: استوى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه، كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة *لأن الله قادر على كل شيء، والأرض* فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويًا على العرش بمعنى: الاستيلاء -وهو عز وجل مستوْلٍ على الأشياء كلها- لكان مستويًا على العرش، وعلى الأرض وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرًا على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان،

فلزمهم أنه في بطن مريم، والحشوش والأخلية، وهذا خلاف لدين الله تعالى عن قولهم» ثم قال: «مسألة: ويقال لهم: إذا لم يكن مستويًا على العرش، بمعنى يختص العرش دون غيره، [كما] قال ذلك أهل العلم، ونقلة الآثار وحملة الأخبار، وكان الله بكل مكان، فهو تحت الأرض التي السماء فوقها، وإذا كان تحت الأرض، فالأرض فوقـ[ـه] والسماء فوق الأرض، وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا: أن الله تحت التحت والأشياء فوقه، وأنه فوق الفوق والأشياء تحته، وفي هذا ما يجب أنه تحت ما [هو] فوقه، وفوق ما هو تحته، وهذا المحال المتناقض تعالى الله عن افترائكم علوًا كبيرًا.

دليل آخر: ومما يدل أن الله عز وجل مستوٍ على عرشه دون الأشياء كلها: ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر» .

وروى عبد الله بن بكر حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن [أبي] جعفر أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بقي ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى، فيقول: من ذا الذي يدعوني أستجب له؟ من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟

حتى ينفجر الفجر» . وروى عبد الله بن بكر السهمي حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال: قفلنا مع

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد، أو قال بقديد، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إذا مضى ثلث الليل، أو قال ثلثا الليل نزل الله إلى السماء، فيقول الله: من ذا الذي يدعوني أستجب له؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ من ذا الذي يسألني أعطه حتى ينفجر الفجر» . دليل آخر: وقال الله: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) } [الفرقان: 59] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه، والسماء

بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستو على عرشه» . قلت: قوله منفرد بوحدانيته هو نظير قول «ابن كلاب» المتقدم. ثم قال: «دليل آخر، وقال عز وجل: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] وقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] وقال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) } [النجم: 8-18] وقال عز وجل، لعيسى ابن مريم عليه السلام {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157-158] وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السموات، ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعًا يا ساكن العرش، ومن حلفهم جميعًا، لا والذي احتجب بسبع سموات. دليل آخر: وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ

اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم، ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم، كان أبعد من الشبهة، وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمه الله [إلا] وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا، فيرتفع الشك والحيرة، من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيًا، أو من وراء حجاب، أو أرسل رسولًا، ويترك أجناسًا لم يعمهم بالآية، فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم. ودليل آخر: وقال الله عز وجل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] وقال عز وجل: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48] كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو على عرشه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. [فلم يثبتوا له في وصفهم حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانيته، إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل] » .

تعقيب المؤلف على ما نقله من الإبانة للأشعري

[قلت: فقوله] «الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة» بيان أن كلامهم يقتضي عدمه. وقوله: «ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانيته» موافقة «لابن كلاب» فيما ذكره؛ من أن الواحد هو المنفرد عن الخلق، فمن لم يقر بذلك لم يقر بوحدانيته. وقوله: «كل ذلك يدل على انه ليس في خلقه ولا خلقه فيه، لأنه مستوٍ على عرشه» يبين معنى ما ذكره في «الموجز» كما نقله «ابن فورك» لما قال في جواب المسائل: «أتقولون: إنه خارج من العالم، إن أردت أنه ليست الأشياء فيه، ولا هو في الأشياء، فالمعنى صحيح، وأنه لم يرد بذلك مجرد النفي المقرون بإثبات كونه فوق العرش، كما صرح به هنا، ويؤكد ذلك أنه بين أن الذين يصفونه بالنفي يؤول كلامهم كله إلى التعطيل وأنهم لا يثبتون له حقيقة، ولايوجبون له وحدانية. «دليل آخر: قال الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] فسمى نفسه نورًا، والنور عند الأمة لا يخلو أن يكون أحد معنيين:

إما أن يكون نورًا يسمع، أو نورًا يُرى، فمن زعم أن الله يُسمع ولا يُرى، فقد أخطأ في نفيه رؤية ربه، وتكذيبه بكتابه، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم. وروت العلماء عن عبد الله بن عباس أنه قال: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك» .

تعقيب المؤلف على رواية الأشعري لحديث ابن عباس

قلت: وهذا الحديث رواه عن الإمام «أحمد» و «الحاكم» الحافظ المعروف «بالعسال» في كتابه «المعرفة» . قال: حدثنا محمد بن العباس حدثني عبد الوهاب الوراق حدثنا علي بن

عاصم، عن ابن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله، فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك» . قال عبد الوهاب الورّاق: «من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة» .

وقال: حدثنا محمد بن علي بن الجارود حدثنا أحمد بن مهدي حدثنا عاصم بن علي بن عاصم حدثنا أبي عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك» . قلت: وهذا لفظ الحديث، وأما قوله: «ما بين عرشه إلى

السماء ألف عام» فإن حقه أن يقول: ما بين كرسيه والعرش كما في الحديث المشهور عن ابن مسعود، وممن رواه أيضًا الحاكم أبو أحمد حدثنا محمد بن العباس حدثني عبد الوهاب بن عبد الحكيم الوراق حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر عن المسعودي عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش

تكملة نقل المؤلف من الإبانة للأشعري

عن عبد الله بن مسعود قال: «ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام، وبُصر كل سماء خمسمائة عام» قال أبو النضر: يعني غلظة، «وما بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق ذلك، والله عز وجل على العرش لا يخفى عليه من أعمالكم شيء» ، وقال عبد الوهاب: هكذا يعرف الإسلام. ثم قال الأشعري: «دليل آخر: روت العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم

أنه قال: «إنّ العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله عز وجل حتى يسأل عن عمله» ؛ وروت العلماء أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» فقالت: في السماء. قال: «فمن أنا؟» قالت: رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعتقها فإنها مؤمنة» . قال: «وهذا يدل على أن الله على عرشه فوق

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الأشعري

السماء» . قلت: وهذا كله موافقة لما ذكره «ابن كلاب» فإنه استدل بهذا الخبر الذي فيه السؤال بأين والجواب بأنه في السماء، على أن الله فوق عرشه فوق السماء، فعلم أنه لا يمنع السؤال بأين، بل يثبته «ابن كلاب» فقد تبين بما ذكرناه من كلام «الأشعري» بلفظه، أنه موافق «لابن كلاب» في أن الله فوق خلقه، وأن ذلك واجب من طريق العقل، بحيث يكون من نفى ذلك معطلًا للصانع منكرًا لوحدانيته، كما صرح به «الأشعري» موافقة «لابن كلاب» وأنه موافق له في السؤال عنه بأين والجواب بأنه في السماء، كما ذكره «الأشعري» وأنه منكر لتأويل من تأول الاستواء على العرش بالاستيلاء والقهر والقدرة وغير ذلك، مما يشترك فيه العرش وغيره، وأن الاستواء يختص بالعرش، وأنه فوق العرش لا إنه مجرد شيء أحدث في العرش من غير أن يكون الله فوقه، كما قد بين هذا المعنى في غير [هـ] من كلامه، وهذه المواضع الثلاثة التي زعم «ابن فورك» أنهم اختلفوا فيها، ولم يأت من كلام «الأشعري» بما يشهد له، وهذا الكتاب هو من

نقل المؤلف عن كتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر

أشهر تآليف «الأشعري» وآخرها، ولهذا اعتمد [هـ] الحافظ «أبو بكر السمعاني» في كتاب «الاعتقاد» له وحكى عنه في مواضع منه، ولم يذكر من تآليفه سواه، وكذلك «الحافظ أبو القاسم بن عساكر» في كتابه الذي صنفه وسماه «تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري» قال بعد أن ذكر فصلًا من محاسنه: «فإذا كان «أبو الحسن» كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب، عند أهل المعرفة بالعلم

والانتقاد يوافقه فيما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والفساد، فلا بد أن نحكي عنه معتقده، على وجهه بالأمانة، ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه، تركًا للخيانة، ليعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه، الذي سماه «بالإبانة» » وذكر ابن عساكر الخُطبة، وما ذكرناه حرفًا بحرف، إلى باب الكلام في إثبات الرؤية، ثم قال عقب ذلك: «فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام العالم، الذي شرحه وبينه، انظروا سهولة لفظه، فما أفصحه وأحسنه، وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه «لأحمد» بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين» . قال: «ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر، على ممر

الأوقات والأيام، تعتضد بالأشعرية حتى حدث الاختلاف في زمن «أبي نصر القشيري» ووزارة «النظام» ووقع بينهم

الانحراف من بعضهم عن بعض، لانحلال «النظام» ولذلك كان يظهر هذا الكتاب، كل من يريد إظهار محاسن «الأشعري» من أهل الإثبات، كما ذكر ذلك: «الحافظ أبو القاسم بن عساكر» قال: «سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل البوشنجي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه؛ أن الإمام «أبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري» قال: ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده

نقل المؤلف من بيان مسألة الاستواء للحافظ أبي العباس الطرقي

كتاب «الإبانة» «لأبي الحسن الأشعري» ويظهر الإعجاب به، ويقول: ما الذي ينكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه» قال الحافظ أبو القاسم: [فهذا] قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان» . وقال أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي، الحافظ، صاحب كتاب «اللوامع في الجمع بين الصحاح والجوامع» في بيان مسألة الاستواء من تأليفه: «ورأيت هؤلاء الجهمية، ينتمون

في نفي العرش، وتعطيل الاستواء إلى «أبي الحسن الأشعري» وما هذا بأول باطل ادَّعوه، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم «بالإبانة عن أصول الديانة» أدلة من جملة ما ذكر [ته] على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: «ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا، إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعًا: يا ساكن العرش» ثم قال: «ومن حَلِفهم جميعًا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سموات» . وكذلك الشيخ «نصر المقدسي» له تأليف في الأصول،

نقل فيه فصولًا من كتاب «الإبانة» هذا، وكان في وقفه به نسخة، وكذلك الفقيه «أبو المعالي مُجَلِّي» صاحب كتاب «الذخائر في الفقه» قال الحافظ أبو محمد بن المبارك بن علي البغدادي المعروف بابن الطباخ في آخر كتاب الإبانة: «نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخة كانت مع الشيخ الفقيه مجلي الشافعي، أخرجها إليَّ في مجلد فنقلتها وعارضتها بها، وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ويقول: لله من صنفه، ويناظر

سبب عدم نقل ابن فورك عن الأشعري إثباته للعلو والاستواء وغيرهما من الصفات

على ذلك لمن ينكره» قال: «وذكر لي ذلك وشافهني به، وقال: هذا مذهبي وإليه أذهب» . فإن قيل: «فابن فورك» وأتباعه لم يذكروا هذا، قيل له سببان: أحدهما: أن هذا الكتاب ونحوه، صنفه ببغداد في آخر عمره، لما زاد استبصاره في السنة، ولعله لم يفصح في بعض الكتب القديمة، بما أفصح به فيه وفي أمثاله، وإن كان لم ينف فيها ما ذكره هنا في الكتب المتأخرة، ففرق بين عدم القول وبين القول وبين القول بالعدم، و «ابن فورك» قد ذكر فيما صنفه من أخبار «الأشعري» تصانيفه قبل ذلك، فقال: «انتقل الشيخ «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» من مذاهب المعتزلة، إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة، بالحجج العقلية، وصنف في ذلك الكتب، وهو بصري من أولاد «أبي موسى الأشعري» فلما وفقه الله لترك ما كان عليه من بدع

المعتزلة، وهداه إلى ما نشره من نصرة أهل السنة والجماعة، ظهر أمره وانتشرت كتبه بعد الثلاثمائة، وبقي إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة» قال: «فأمَّا أسامي كتبه مما صنفه إلى سنة عشرين وثلاثمائة فإنه ذكر في كتابه الذي سماه «الصمد» في الرؤية أسامي أكثر كتبه» فذكر الفصول والموجز وغيرهما. ثم قال: «وقد عاش بعد ذلك إلى سنة أربع وعشرين [وثلاثمائة] وصنف فيها كتبًا» ذكر منها أشياء. قال «ابن عساكر» بعد أن ذكر كلام «ابن فورك» : «هذا آخر ما ذكره «ابن فورك» من تصانيفه، وقد وقع إليَّ أشياء

لم يذكرها في تسمية تواليفه، فمنها رسالة «الحث في البحث» ورسالة «الإيمان» وهل يطلق عليه اسم الخلق؟، وجواب «مسائل كتب بها إلى أهل الثغر» في تبيين ما سألوه عنه، من مذاهب أهل الحق» . وذكر عن «عزيز بن عبد الملك» القاضي، قال: «سمعت من أثق به. قال: رأيت تراجم كتب الإمام «أبي الحسن» فعددتها أكثر من ثمانين وثلاثمائة مصنف» . السبب الثاني: أن «ابن فورك» وذويه كانوا يميلون إلى النفي في مسألة الاستواء ونحوها، وقد ذكرنا فيما نقله هو من ألفاظ «ابن كلَّاب» وهو من المثبتين كذلك كيف تصرف في كلامه، تصرفًا يشبه تصرفه في ألفاظ النصوص الواردة في إثبات ذلك،

كما فعله في كتابه «تأويل مشكل النصوص» فكان هواه في النفي يمنعه من تتبع ما جاء في الإثبات، من كلام أئمته وغيرهم، وكذلك فيما نقله من كلام «الأشعري» كيف زاد فيه ونقص، مع أن المنقول نحو ورقتين، فلعله أيضًا قد عمل ذلك فيما نقله من كلام «ابن كلاب» إذ لم نجد نحن نسخة الأصول التي نقل منها، حتى نعلم كيف فعله فيها، وفيما نقله تحريف بيِّن، لكن مأخذه في ذلك، مأخذ من ينسب فتاويه وعقائده إلى السنة والشريعة النبوية، لظنه أن هذا هو الحق الذي لا تأتي بخلافه، فكذلك هو يظن أن ما زاده ونقصه يوجبه بعض أصول «ابن كلاب» و «الأشعري» وإلا كان فيما ظهر من كلامهما خلافه، وهذا أصل معروف لكثير من أهل الكلام والفقه، يسوغون أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبة قولية، توافق ما اعتقدوه من شريعته، حتى يضعوا أحاديث توافق ذلك المذهب، وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن «ابن فورك» لم يكن من هؤلاء، وإنما هو من الطبقة الثانية، الذين ينسبون إلى الأئمة ما يعتقدون هم أنه الحق، فهذا واقع في كثير من طائفته، حتى أنه في زماننا في بعض المجالس المعقودة، قال كبير القضاة: إن مذهب

الشافعي المنصوص عنه كيت وكيت، وذكر القول الذي يعلم هو وكل عالم أن الشافعي لم يقله، ونقل القاضيان الآخران عن «أبي حنيفة» و «مالك» مثل ذلك، فلما روجع ذلك القاضي قيل له: هذا الذي نقلته عن الشافعي من أين هو؟ أي: أن الشافعي لم يقل هذا. فقال: هذا قول العقلاء، والشافعي عاقل لا يخالف العُقَلاء، وقد رأيت في مصنفات طوائف من هؤلاء، ينقلون عن أئمة الإسلام المذاهب، التي لم ينقلها أحد عنهم،

لاعتقادهم أنها حق، فهذا أصل ينبغي أن يعرف، ومن أسباب ذلك أيضًا أن «الأشعري» ليس له كلام كثير منتشر في تقرير مسألة «العرش» ، والمباينة للمخلوقات، كما كان «لابن كلَّاب» إمامه، وذلك لأنه تصدى للمسائل التي كان المعتزلة تظهر الخلاف فيها، كمسألة الكلام والرؤية، وإنكار القدر والشفاعة في أهل الكبائر ونحو ذلك، وأما العلو فلم يكونوا يظهرون الخلاف فيه إلا لخاصتهم، لإنكار عموم المسلمين لذلك، وإنما كان سلف الأمة وأئمتها يعلمون ما يضمرون من ذلك بالاستدلال، «فالشعري» تصدَّى لردِّ ما اشتهر من بدعهم، فكان إظهار خلافهم في القرآن والرؤية من شعار مذهبه، التي لم يتنازع فيها أصحابه، وإن كانوا قد يفسرون ذلك بما يقارب قول المعتزلة، بخلاف ما لم يكونوا يظهرون مخالفته، فإنه كان أدخل في السنة وأعظم في الأُمَّة وأثبت في الشرع والعقل، مما أظهروا مخالفته، حتى أنَّ فضلاء الفلاسفة «كأبي الوليد بن رشد» يحكون

مذهب الحكماء إثبات العلو فوق المخلوقات، مع أنَّ مذهبهم تفسير الرؤية بزيادة العلم، وأن القرآن خلقت حروفه في النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فلم يتصدَّ «الأشعري» لردِّهم [ردا] ، يشتهر عن المعتزلة إظهار الخلاف فيه، وبيان تناقضهم فيه، فلذلك لم يكن خلافهم فيه من شعائر مذهبه، بل يوافقهم في أصول، قال بعض متبعيه: فبما أنها مستلزمة نفي العلوِّ على العرش، وإن كان «الأشعري» وأئمة أصحابه لم يقولوا ذلك، وقد علم أهل العلم المعرفة والعقل والبصيرة؛ أن تلك الأصول، التي وافقهم عليها، أقوى استلزامًا لقولهم فيما أظهر فيه منها، لما لم يشتهر عنه خلافهم فيه، ولهذا صار جمهور الناس من المثبتة والنافية، يعدون ما عليه هؤلاء المثبتين للرؤية والكلام وغير ذلك، مع نفي العلو على العرش من أعظم الناس تناقضًا في الشريعة والسنة وفي العقول والقياس، ولهذا [من] حقق منهم «كالرازي» وأمثاله، يميلون في الباطن إلى النفي في مسألة الرؤية أيضًا وغيرها.

فصل: قول الجهمية يضاهي قول الدهرية والثانوية في تعطيل الصانع

فصل وهذا المعنى الذي نبَّه عليه «ابن كلَّاب» من مضاهاة الجهمية للدهرية، والثنويَّة كلام جيد، ونحن كنا قد كتبنا ما يتعلق بذلك في أثناء الكلام، كما سيجيء قبل أن نقف على كلامه، وبينا أن قول الفلاسفة الذين يقولون: بأن العالم متولد عنه لازم له، هو نحو قول من ينكر الصانع بالكلية، وهذا الذي سماه هؤلاء الدهر، هو الذي يسميه أولئك واجب الوجود، وقول الجهمية مضاهٍ لقولهم في لزوم تعطيل الصانع أيضًا، ولهذا ذكرنا في غير هذا الموضع أن أسانيد «جهم» ترجع إلى المشركين والصابئين والمبدلين واليهود المُبَدِّلين، وذكر [نا أن] شر هؤلاء هم القرامطة والباطنية نُفَاة الأسماء

والصفات مطلقًا، وأن قولهم مأخوذ من قول ملاحدة المجوس، وقول ملاحدة الفلاسفة الصابئين الدهريين. وهذا يبين صحة ما ذكره «ابن كُلَّاب» من مضاهاة الجهمية لهاتين الأمتين؛ الدهرية الصابئين المشركين والمجوس الثنوية. ولهذا كان قول الاتحادية من الجهمية، هو في الحقيقة قول هؤلاء، ومضمونه تعطيل الصانع، وهو قريب من قول من يقول من الجهمية: إنه في كُلِّ مكان، فإنهم يجعلونه وجود الموجودات، كما قد شرحنا في موضعه، وكل من لم يقل أنَّ الرب سبحانه واحد منفرد مباين لمخلوقاته كان من هذه الطوائف، وفي إنكار «ابن كلاب» على الجهمية لما شبههم بالمجوس -وقال: «كذلك زعمتم أنَّ الواحد ليس كمثله شيء، تعالى عما قلتم، كان لا نهاية له، ثم خلق الأشياء غير منفكة منه ولا هو منفك منها، ولا يفارقها ولا تفارقه، فأعطيتم

معناهم ومنعتم القول والعبارة» -. دليل على انه منع من القول بأن الله لا نهاية له، وأنه لا ينفي النهاية والحد، كما زعم ابن فورك، وقد فسر الرجل معناه فيما نفاه من الحد، فإنه جعل هذا من منكر قول الجهمية، ولا ريب أنَّ ما أثبته، من أنه واحد منفرد بنفسه، مباين لمخلوقاته، فوق العالم، يُنافي دعوى أنه لا نهاية له، ثم قال «ابن فورك» : «فصل آخر وذكر بعد ذلك كلامًا يدل على أنَّ» أصله -وهو الحق- أنَّ اجتماع الشيئين من طريق الإثبات، في وصف لا يجب به التشبيه، كما لا يجب باجتماعهما في وصف من طريق النفي، وهو قوله في إلزام المعتزلة إذ قالوا له: إنك أوجبت التشبيه، إذ قلت: أن الله تعالى مباين منفرد من خلقه، لأجل أن ذلك إذا وصف به، ووصف به الخلق، واشتركا فيه، تشابها. فقال: «إذا كان يلزم بزعمكم، إذا قلنا: إنَّ الله تعالى واحد، منفرد، التشبيه. فكذلك إذا قلتم: إنه واحد لا منفرد، وواحد لا منفرد، لأن الوصفين جميعًا في الخلق، منفرد ومنفرد ولا منفرد و [لا] منفرد، فلم لا يكون إذا كان حكم

تعقيب المؤلف على ما نقله عن ابن كلاب في إلزام الجهمية بمضاهاة الدهرية

ما كان منفردًا، حكم ما كان مفردًا، أن يكون حكم ما لا ينفرد [حكم ما لا ينفرد] إذا كان جميعًا في الخلق ثابتين، فإن مَرَّا بأبصار قلوبكم، حيث أريد لكم، فإنكم ستجدون ذلك كما وصفنا لكم» . قلت: هذا يدل على أنه لا يعني بتفسيره للواحد، بأنه المنفرد المباين ما لا ينقسم، كما ذكره «ابن فورك» لأن عدم الانقسام مخصوص عنده بالله تعالى، وكل ما سواه مما يدرك وجوده فإنه ينقسم، و «ابن كلاب» قد جعل هذا الوصف يمكن ثبوته للمخلوق، وأنه يكون واحدًا منفردًا، وأنه كان جسمًا، كما تقدم بيان ذلك من كلامه، وتفرقته بين الجسم المصمت، والجسم المتخلل، وهم إنما أوردوا عليه، لما فسروا الواحد بأنه الذي لا نظير له، ولم يثبتوا له حقيقة يكون بها واحدًا، وهو أثبت حقيقة بها كان واحدًا، وهو انفراده بنفسه.

فصل: نقل المؤلف عن ابن فورك نفي مماسة الرب عن ابن كلاب وتعقيبه على ذلك

فصل وأما نفيه للمماسة فقال «ابن فورك» : «فصل آخر في ذكر إبطال المماسة، قال في كتاب «الصفات الكبير» : «ولو كان مماسًا لعرشه، لكان العرش مماسًا له، ولو كان العرش مماسًا له، لحدث فيه عن مماسته إياه معنى، كما يحدث بين كل متماسين، وتعالى الله عن الحوادث، فلما فسدت مماسة العرش إياه فسدت مماسته العرش» . قال «ابن فورك» : «وهذا يبين من كلامه إحالة المماسة على الله، ويبين أيضًا من مذهبه بأن الحوادث لا تحل في ذاته، وأن ما حلته الحوادث محدث، على خلاف ما ذهبت إليه الكرامية، المجسمة الجهلة، وأن المتماسين متماسان، بحدوث متماسين فيهما» . قلت: هذا الذي ذكره «ابن فورك» من قوله: وهو كما ذكره، وكذلك ما ذكر من مخالفته للكرامية، في مسألة الحوادث، لكن الكرامية أقرب إلى «ابن كلاب» في مسألة العرش، وعلو الله عليه، فإن قولهم وقول «ابن كلاب» في ذلك متقاربان، و «ابن فورك»

وأصحابه أقرب إلى «ابن كلاب» في مسألة الحوادث، فإن قولهم فيها كقول «ابن كلاب» لا كقول الكرامية، ولهذا كان المنتسبون إلى «ابن كلاب» من أهل الكلام، والفقه والحديث، لا يعرف عنهم خلاف أهل الحديث، في مسألة العرش، وإنما وقع النزاع بينهم وبين غيرهم في مسألة القرآن، والله أعلم. وقد تبين بما ذكرناه، أن المخالفين لأهل الإسلام، في مسألة العرش، وأن الله فوقه، كانوا في صدر الإسلام من أقل الناس، كما ذكره «ابن كلاب» إمام «الأشعري» وأصحابه، وإن كان أكثر الأشعرية المتأخرين، قد صاروا في ذلك مع المعتزلة؛ بل يقال أشهر الطوائف بهذا النفي، الذي ذكره عنده، وعند أمثاله؛ الفلاسفة المشائين أتباع «أرسطو» من المتقدمين، و «كالفارابي» و «ابن سينا» ونحوهما من المتأخرين، ومن

أخبر الناس بمقالات «أرسطو» وأصحابه، ومن أكثر الناس عناية بها، وقولًا بها وشرحًا لها، وبيانًا لما خالفه فيه، «ابن سينا» وأمثاله منهم القاضي «أبو الوليد بن رشد» الحفيد الفيلسوف، حتى أنه يردّ على من خالفهم، كما صنف كتابه «تهافت التهافت» الذي ردَّ فيه على «أبي حامد الغزالي» ما ردّه على الفلاسفة، وإن لم يكن مصيبًا، فيما خالف فيه مقتضى الكتاب والسنة، بل هو مخطئ خطأً عظيمًا، بل ما هو أعظم من ذلك، وإن زعم أنه أوجبه البرهان، وأنه من علم الخاصة دون الجمهور، ولكن الغرض أنه مع مبالغته في اتباع آراء الفلاسفة المشائين، هو مع هذا نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة، وقد قرر ذلك بطرقهم العقلية، التي يسمونها البراهين، مع أنه لايرتضي طرق أهل الكلام، بل يُسَمِّيها هو وأمثاله الطريق الجدلية، ويسمونهم أهل الجدل، كما يسميهم بذلك

«ابن سينا» وأمثاله، فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي، الذي ذكروه في القياس إلى برهاني، وجدلي، وخطابي، وشعري، وسفسطائي زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي، من النوع البرهاني، وأن غالب مقاييس المتكلمين إمَّا من الجدلي، وإما من الخطابي، كما يوجد هذا في كلام علماء الفلاسفة، «كالفارابي» و «ابن سينا» و «محمد بن يوسف العامري»

نقل المؤلف من كتاب مناهج الأدلة لابن رشد وتعقيبه عليه

و «ابن رشد» وغيرهم، وإن كانوا في هذه الدعاوي ليسوا صادقين على الإطلاق، بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي، هي في كلام المتكلمين أكثر منها وأشرف منها في كلامهم، وإن كان في كلام المتكلمين أيضًا، أقيسة جدلية وخطابية وشعرية، بل وسوفسطائية كثيرة، فهذه الأنواع هي في كلامهم أكثر منها في كلام المتكلمين، وأضعف إذا أخذ ما تكلموا فيه من العلم الإلهي، بالنسبة إلى ما تكلم به المتكلمون. والمقصود هنا ذكر ما ذكره عن مذهب الفلاسفة في مسألة الجهة، وهذا لفظه في كتاب «مناهج الأدلة في الرد على الأصولية» : «القول في الجهة، وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة، من أول الأمر، يثبتونها لله سبحانه وتعالى، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، «كأبي المعالي» ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] ومثل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 17] ومثل قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي

يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) } [السجدة: 5] ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ومثل قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } [الملك: 16] إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولًا، وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهًا، لأن الشرائع كلها مبنية على أنَّ الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنَّ من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى» قال: «وجميع الحكماء: قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت [جميع] الشرائع على ذلك، والشبهة التي قادت نفاة الجهمية إلى نفيها؛ هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إمَّا سطوح الجسم نفسه المحيطة به، وهي ستة، وبهذا نقول: إنَّ للحيوان فوقًا وأسفلًا ويمينًا وشمالًا، وأمامًا وخلفًا، وإما سطوح جسم آخر

تحيط بالجسم من الجهات الست، فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه، فليست بمكان للجسم نفسه أصلًا، وأما سطوح الجسم المحيطة به، فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضًا مكان للهواء، وهذه الأفلاك بعضها محيطة ببعض ومكان له، وأما سطح الفلك الخارج، فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، لأنه لو كان ذلك كذلك، لوجب أن يكون خارج [هذا الجسم جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية، فإذا سطح آخر أجسام] العالم ليس مكانًا أصلًا، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسم، فإذًا

إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة، فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو عكس ما ظنَّه القوم فهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم، وليس لهم أن يقولوا: إنَّ خارج العالم خلاء، وذلك أنَّ الخلاء يبين في العلوم النظرية امتناعه، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئًا، أكثر من أبعاد ليس فيها جسم، أعني طولًا وعرضًا وعمقًا، لأنه إنْ رفعت الأبعاد عنه عاد عدمًا، وإن أنزل الخلاء موجودًا، لزم أن يكون أعراضًا موجودة في غير جسم، وذلك أنَّ الأبعاد، هي أعراض من باب الكمية ولا بد، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة؛ أنَّ ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة، وذلك أنَّ الموضع هو ليس بمكان فلا يحويه زمان، فكذلك إنْ كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدًا، فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن، وقد تبين هذا المعنى مما أقوله؛ وذلك أنه

لمَّا لم يكن هاهنا [شيء] إلا هذا الوجود المحسوس والعدم، وكان من المعروف أنَّ الموجود إنما يُنسب إلى الوجود؛ أعني أنَّه يقال: إنَّه موجود؛ أي: في الوجود، إذ لا يمكن أن يقال: إنه موجود في العدم، فإن كان هاهنا موجود، هو أشرف الموجودات، فواجب أن ينسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف، وهي السموات، ولشرف هذا الجزء قال الله تبارك وتعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) } [غافر: 57] وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم، فقد ظهر لك من هذا أنَّ إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وابْتنى عليه، فإنَّ إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأن وجه العسر في تفهيم هذا المعنى، مع نفي الجسمية؛ هو أنه ليس في الشاهد تمثال له، وهو بعينه السبب في أنْ لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه؛ لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك

معلوم الوجود في الشاهد، مثل العلم *يعني في الغائب، لأنه ضد الفاعل* فإنه لما كان في الشاهد شرطًا في وجوده كان شرطًا في وجود الصانع الغائب، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد، عند الأكثر، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون، فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته، إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثال من الشاهد، إن كان بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم، وإنْ لم يكن ذلك المثال هو نفس الأمر المقصود تفهيمه، مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد، والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها، ليس يتفطن الجمهور لها، لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم، فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع، وأن لا يتأول، ما لم يصرح الشرع بتأويله، والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب: صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى، وخاصةً متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور، وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس، وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك،ولم يقدروا على حلها،

وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء، وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم المتشابه في الشرع، وهم الذين ذمهم الله، وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه. ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثل ما يعرض لخبز البُرّ مثلًا، الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان، أن يكون لأقل الأبدان ضارًا، وهو نافع للأكثر، وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما ضر الأقل ولهذا أشار بقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) } [البقرة: 26] لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز، في الأقل منها، والأقل من الناس، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب، ليس لها مثال في الشاهد، فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها، وأكثرها شبهًا بها، فيعرض لبعض الناس أن يرى به هو الممثل نفسه، فتلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يسمى متشابهًا في الشرع، وهذا ليس يعرض للعلماء و [لا] الجمهور، وهم صنفا الناس بالحقيقة، لأن هؤلاء هم الأصحاء،

والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء، وأما أولئك فمرضى، والمرضى منه هو الأقل، ولذلك قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ *وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ*} [آل عمران: 7] وهؤلاء [هم] أهل الجدل والكلام، وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف، إنهم تأولوا كثيرًا مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أتى [الله] به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده، واختبارًا لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كان كتاب الله العزيز، إنما جاء معجزًا من جهة الوضوح والبيان، فإذا ما أبعد عن مقصود الشرع، من قال فيما ليس [بـ] متشابه إنه متشابه، ثم أوله بزعمه، وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش، وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه، وبالجملة فأكثر

التأويلات التي يزعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع، إذا تؤملت وجدت ليس يقوم عليها برهان، ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها، وعملهم عنها، فإن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور، إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل فهو أجدر، فأما المقصود بالعلم في حق العلماء، فهو الأمران جميعًا؛ أعني العلم والعمل» . وذكر كلامًا آخر نذكره إن شاء الله فيما بعد، عندما يذكره المؤسس، من موافقة بعض المسلمين الفلاسفة في [الجسم و] النفس، وفي غير ذلك مما يناسبه. وأما نقل سائر أهل العلم لمذاهب أهل الأرض من المسلمين وغيرهم في هذا الأصل، فهو أعظم من أن يذكر هنا إلا بعضه، وإنما نبهنا على أن أئمة الأشعرية الكبار، كانوا ينقلون ذلك أيضًا، وأنه لم يخالف في أن الله فوق العالم على العرش إلا الجهمية

نقل المؤلف من كتاب الإبانة لأبي نصر السجزي إثبات الأئمة للعلو

وموافقوهم، وسنذكر إن شاء الله عندما نذكره من احتجاج المثبتة بالدعاء ونحو ذلك، ما فيه عبرة، وكل من صنَّف في بيان مذاهب سلف الأمَّة وأئمتها من أهل العلم بذلك، فإنه ذكر أن ذلك قولهم جميعًا بلا نزاع، كما قال الشيخ الحافظ «أبو نصر السجزي» في كتاب «الإبانة» له: «وأئمتنا «كسفيان الثوري» و «مالك بن أنس» و «سفيان بن عيينة» و «حماد بن سلمة» و «حماد بن زيد» و «عبد الله بن المبارك» و «فضيل بن

نقل المؤلف من رسالة الإيماء لأبي بكر محمد بن الحسن الحضرمي في مسألة الاستواء

عياض» و «أحمد بن حنبل» و «إسحاق بن إبراهيم الحنظلي» متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأنَّ علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما يشاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء وهم منهم برءاء» . وذكر الإمام «أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني» الذي له الرسالة التي سماها «برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء» لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء، قال:

قول «الطبري» يعني: أبا جعفر «صاحب التفسير الكبير» و «أبي محمد بن أبي زيد» والقاضي «عبد الوهاب» وجماعة

من شيوخ الحديث والفقه، وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي «بكر» و «أبي الحسن» يعني: «الأشعري» وحكاه عنه أعني: القاضي «عبد الوهاب» نصًا،: «وهو أنه سبحانه مستو على العرش بذاته» وأطلقوا في بعض الأماكن «فوق عرشه» قال «أبو عبد الله القرطبي» في كتاب «شرح الأسماء الحسنى» :

«هذا قول القاضي «أبي بكر» في كتاب «تمهيد الأوائل» له، وقول الأستاذ «ابن فورك» في شرح «أوائل الأدلة» وهو قول «أبي عمر بن عبد البر» و «الطلمنكي» وغيرهما من الأندلسيين، وقول «الخطابي» في

نقل المؤلف كلام القرطبي من تفسيره الجامع في مسألة الاستواء

«شعار الدين» » . ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولًا: «وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، والفضلاء الأخيار: أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه، بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا مذهب السلف الصالح، في ما نقل عنهم الثقات» . وقال أيضًا «أبو عبد الله» هذا في «تفسيره» الكبير، في قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] قال: «هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء، وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب «الأسني في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى» ، وذكرنا فيها هنالك أربعة عشر قولًا، والأكثر من المتقدمين والمتأخرين» يعني من متكلمي أصحابه «أنه إذا وجب تنزيه الباري عن الجهة والحيز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم المتأخرين» يعني: العلماء المتكلمين أصحابه، «تنزيه الباري عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز، الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث، هذا قول

المتكلمين، وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا يعلم حقيقته، كما قال مالك رحمه الله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة» . وكذا قالت

«أم سلمة» رضي الله عنها، وهذا القدر كاف» قال: «والاستواء في كلام العرب العلو والاستواء» وذكر كلام «الجوهري» في صحاحه وغير ذلك، هذا آخر كلام

نقل المؤلف عن أبي بكر بن موهب المالكي إثبات العلو

«القرطبي» . وقال «أبو بكر محمد بن موهب المالكي» في شرح رسالة «أبي محمد بن أبي زيد» : «وأما قوله: «إنه فوق عرشه المجيد بذاته» فإن معنى: فوق وعلى عند جميع العرب واحد، وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك، قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقال في وصف الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) } [النحل: 50] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ونحو ذلك كثير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعجمية التي أراد سيدها أن يعتقها: «أين ربك؟ فأشارت إلى السماء» ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء، من سماء إلى سماء، إلى سدرة

المنتهى، وإلى ما فوقها، حتى قال: لقد سمعت صريف القلم، وأنه وصف من فرض الصلوات أنـ[ـه] كل ما هبط من مكانه، فلقي موسى في بعض السموات، فأمره بالتخفيف عن أمته، عاد يصعد ثم سأل إلى أن انتهى إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.

وقد تأتي [لفظة «في» ] في لغة العرب بمعنى: فوق، وعلى ذلك قول الله عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] يريد: عليها وفوقها. وكذلك قوله فيما وصف عن فرعون أنه قال في قصة السحرة: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] يريد عليها، قال الله عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] الآيات كلها، قال أهل التأويل العالمون بلغة العرب: يريد فوقها، وهو قول مالك مما فهمه عن جماعة من أدرك من التابعين، مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله في السماء، يعني: فوقها وعليها. ولذلك قال الشيخ أبو محمد: «إنه فوق عرشه المجيد» ، ثم بين أن علوه على عرشه وفوقه، إنما هو بذاته، لأنه بائن عن جميع خلقه

بلا كيف، وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته، إذ لا تحويه الأماكن، لأنه أعظم منها، وقد كان ولا مكان، ولم يحل بصفاته عما كان، إذ لا تجري عليه الأحوال، لكن علوه في استوائه على عرشه، هو عندنا بخلاف ما كان قبل أن يستوي على العرش لأنه قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] و «ثم» أبدًا لا تكون أبدًا إلا لاستئناف فعل يصير بينه وبين ما قبله فسحة، فهو سبحانه وإن كان لا يزول ولا يحول فقد يزيل المخلوقات دونه، ويحيلها كيف يشاء، فصار بكونه على عرشه في وصفنا بخلاف ما كان قبل ذلك، هذا حكم وصفنا لاستوائه على عرشه سبحانه، ففرق بين ذاته وعلمه من جملة الحكم والمعنى، إذ لا تخلو الأماكن من علمه، وهو بائن عن جميعها بذاته، وإن كان محيطًا بها جميعًا عظمة وجلالًا» . إلى أن قال: «وقوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] فإنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة والملك الذي ظنت المعتزلة، ومن قال بقولهم: إنه معنى الاستواء، وبعضهم يقول: إنه على المجاز دون الحقيقة، ويبين

نقل المؤلف من عقيدة الإمام أبي أحمد الكرجي التي كتبها الخليفة القادر وقرأها على الناس وألزمهم بها

سوء تأويلهم في استوائه على عرشه، على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره، ما قد علمه أهل المعقول، بأنه لم يزل مستويًا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها، وكان العرش وغيره في ذلك سواء، فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء، الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء وملك وقهر وغلبة» . قال: «ويبين أيضًا أنه على الحقيقة بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } [النساء: 122] فلما أبصر المنصفون إفراد ذكره بالاستواء على عرشه، بعد خلق سمواته وأرضه، وتخصيصه بصفة الاستواء، علموا أن الاستواء هاهنا على غير الاستيلاء ونحوه، فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه، وأنه على الحقيقة لا على المجاز [لأنه الصادق] في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله، إذ لي كمثله شيء من الأشياء» . وقال الشيخ الإمام «أبو أحمد الكرجي القصاب» إمام تلك

النواحي علمًا ودينًا، في عقيدته التي ذكر أنها عقيدة أهل السنة، والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها الخليفة «القادر» وقرأها على الناس، وجمعهم عليها، واقر بها طوائف السنة، واستتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وتبعه في نحو ذلك ذو السلطان «محمود بن سبكتكين» بأرض المشرق، وكان ذلك [عند

ظهور] القرامطة الباطنية بمصر، في إمارة الحاكم، وما قبله وبعده من الأمور التي جرت في خلافة «القادر» التي أظهر فيها السنة، وأبطل البدعة، حتى أن الشيخ «أبا حامد الإسفراييني»

و «أبا عبد الله بن حامد» وغيرهما أظهروا الإنكار على «أبي بكر بن الطيب» في أشياء خالف بها السنة حتى سرى من بعض ذلك [فتن] وصنف القاضي «أبو بكر» كتابه المشهور «في كشف أسرار الباطنية وهتك أستارهم» وكانت وفاة هؤلاء متقاربة بعيد المائة الرابعة، ثم كان ما فعله «القادر» من قراءة عقيدته بمحضر من أئمة المذاهب، قال فيها: «كان ربنا وحده، ولا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجته إليه، فاستوى عليه استواء استقرار، كيف شاء وأراد، لا استقرار راحة، كما يستريح الخلق، وهو مدبر السموات والأرضين، ومدبر ما فيهما، ومن في البر والبحر، لا مدبر غيره، ولا حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم، ويعافيهم ويميتهم، والخلق كلهم عاجزون، والملائكة والنبيون والمرسلون، وسائر الخلق أجمعون، وهو

نقل المؤلف من كتاب التمهيد لابن عبد البر ثبوت العلو لله تعالى

القادر بقدرته والعالم بعِلم، أزلي غير مستفاد، هو السميع بسمع، والبصير ببصر، يعرف صفتهما من نفسه، لا يبلغ كنههما أحد من خلقه، متكلم بكلام يخرج منه، لا بآلة مخلوقة، كآلة المخلوقين، لا يُوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه بها نبيهُ صلى الله عليه وسلم، وكل صفة وصف بها نفسه، أو وصفه بها نبيه، فهي صفة حقيقة لا صفة مجاز» . وقال الفقيه الحافظ «أبو عمر بن عبد البر» في كتاب «التمهيد شرح الموطأ» لما تكلم على حديث النزول، قال: «هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته ... وهو منقول من طرق سوى هذه، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم ... ، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش، فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله بكل مكان» قال:

«والدليل على صحة قول أهل الحق ... » وذكر بعض الآيات، إلى أن قال: «وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة، من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره مسلم» . وقال «أبو عمر بن عبد البر» أيضًا: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله» . وقال «أبو عمر» أيضًا: «أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يجدون فيه [صفة] محصورة، وأما أهل البدع الجهمية، والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها، ولايحمل منها شيئًا

على الحقيقة، ويزعم أن من أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند من أقرَّ بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون؛ بما نطق به كتاب الله وسنة ورسوله، وهم أئمة الجماعة» . قال «أبو عمر» : «الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر، في هذه المسألة، وما أشبهها، الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه» . قال أبو عمر: «روينا عن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة والأوزاعي، ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت» .

نقل المؤلف من كتاب الوصول لأبي عمر الطلمنكي إجماع المسلمين على أنه تعالى فوق السموات مستويا على عرشه

قال «أبو عمر» : «ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات أو جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فهو علم يدان به، وما أحدث بعدهم، ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم، فهو بدعة وضلالة» . وقال مثله الإمام «أبو عمر الطلمنكي» في كتابه الذي سماه «الوصول إلى معرفة الأصول» وكان في حدود المائة الرابعة وله التصانيف الكثيرة، والمناقب المأثورة، قال: «وأجمع المسلمون من أهل السنة، على أن معنى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلك من القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته، مستويًا على عرشه كيف شاء» . وقال أيضًا: «قال أهل السنة في قول الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد، على الحقيقة لا على المجاز» . وقال «أبو بكر الخلال» في «كتاب السنة» أخبرنا أبو بكر

المروزي، حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري حدثنا سليمان بن داود، أبوداود الخفاف، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما في السموات السبع، وما دون العرش، أحاط بكل شيء علمًا، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر، إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، ولا يعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره» .

نقل المؤلف من الرد على الجهمية لابن أبي حاتم كلام الأئمة في إنكارهم على الجهمية الذين أنكروا العلو والاستواء

وروى الإمام «عبد الرحمن بن أبي حاتم» في كتاب «الرد على الجهمية» عن «سعيد بن عامر الضبعي» إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق، أنه ذكر عنده الجهمية، فقال هم شر قولًا من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى، وأهل الأديان مع المسلمين، على أنَّ الله فوق العرش، وقالوا هم: «ليس عليه شيء» .

وروى أيضًا عن «عبد الرحمن بن مهدي» الإمام المشهور، وهو من هذه الطبقة، قال: «أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إنَّ الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وأن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا» . وعن «عاصم بن علي بن عاصم» شيخ البخاري وغيره، قال: «ناظرت جهميًا فَتَبين من كلامه أنه لايؤمن أنَّ في السماء ربًا» .

نقل المؤلف من كتاب الأسماء للبيهقي إثبات الأئمة علوه تعالى

وروى الحافظ «أبو بكر البيهقي» بإسناد صحيح عن «ابن وهب» ، قال: كنا عند «مالك» فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [سورة طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه

فقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع وأنت صاحب بدعة، أخرجوه. ورواه عنه يحيى بن يحيى النيسابوري الإمام، ولفظه: «فقال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» . وروى البيهقي أنا أبو بكر بن الحارث، أنا ابن حيان،

أنا أحمد بن جعفر بن نصر، أنا يحيى بن يعلى، سمعت نعيم بن حماد، يقول: سمعت نوح بن أبي مريم، يقول: «كنا عند أبي حنيفة -رحمه الله- أول ما ظهر إذ جاءته امرأة من ترمذ،

نقل المؤلف من كتاب الفقه الأكبر عن أبي حنيفة تكفير من أنكر علوه تعالى

كانت تجالس جهمًا، فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف من الناس، تدع إلى بابها، فقيل لها: إنّ هاهنا رجلًا قد نظر في المعقول، يقال له أبو حنيفة، فأتته، وقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا، وقد وضع كتابًا أنَّ الله في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] قال: هو كما يكتب الرجل إلى الرجل أني معك، وهو غائب عنه» . وروى «أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي» في «الفقه

نقل المؤلف من كتاب الرد على الجهمية لابن أبي حاتم إنكار العلماء على الجهمية وتأديبهم على ذلك

الأكبر» قال: «سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وعرشه فوق سبع سموات، فقلت: إنه يقول على العرش استوى، ولكن لا ندري العرش في السماء أم في الأرض، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر» . وروى ابن أبي حاتم، حدثنا علي بن الحسن بن مهران، حدثنا بشار بن موسى الخفاف، قال: جاء بشر بن

الوليد إلى أبي يوسف رحمه الله، فقال: تنهاني عن الكلام، وبشر المريسي، وعلي الأحول، وفلان يتكلمون. فقال وما يقولون؟ فقال: يقولون: الله في كل مكان. فبعث أبو يوسف، وقال: عليَّ بهم. فانتهوا إليه، وقد قام بشر، فجيء بعلي الأحول، والشيخ، يعني: الآخر. فنظر أبو يوسف إلى الشيخ، فقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك، فأمر به إلى

الحبس، وضرب عليًا الأحول، وطوف به» . وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت أبي يقول: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي يقول: «حبس رجل في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام بن عبيد الله ليمتحنه، فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه. قال: لا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردُّوه فإنه لم يتب بعد» . وهشام بن عبيد الله، هو أحد أعيان أصحاب «محمد بن الحسن» صاحب أبي حنيفة الفقيه، وفي منزله مات محمد

وقال ابن أبي حاتم: «حدثنا محمد بن يحيى، عن صالح بن الضريس، قال: جعل عبد الله بن أبي جعفر

نقل المؤلف من عقيدة الإمام الطحاوي عقيدة أهل السنة والجماعة

الرازي، يضرب قرابةً [له] بالنعل على رأسه، يرى رأي جهم، ويقول: لا. حتى تقول: الرحمن على العرش استوى، بائن من خلقه» . وقال الإمام «أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة، الطحاوي» في العقيدة المشهورة له، التي قال في أولها: «ذكر بيان [عقيدة أهل] السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة ... وأبي يوسف ... ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم ... نقول: في توحيد الله معتقدين ... أن الله

نقل المؤلف عن العلماء والأئمة إثبات علوه تعالى وإنكارهم على الجهمية والمعطلة

تعالى واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ... ما زال بصفاته قديمًا قبل خلقه ... وأن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على نبيه وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًّا، وأيقنوا أنه كلام الله على الحقيقة، ليس بمخلوق ... فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر ... والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة، ولا كيفية ... وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ... ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه، عن خالص التوحيد ... وصحيح الإيمان، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلّ ولم يصب التنزيه» إلى أن قال: «والعرش والكرسي حق، كما بين في كتابه، وهو [جل جلاله] مستغن عن العرش وما دونه، محيط [بكل] شيء وفوقه» . وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبي هارون،

محمد بن خالد، عن يحيى بن المغيرة، قال: سمعت جرير بن عبد الحميد، يقول: «كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله» . وروى «عبد الله بن أحمد بن حنبل» في كتاب «السنة» وروى غيره بأسانيد صحيحة، عن عبد الله بن المبارك، الذي

يقال له: أمير المؤمنين في كل شيء، لجلالته في أنواع الفضائل، أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض. وهكذا قال الإمام أحمد أيضًا. وروى عبد الله بن أحمد أيضًا، عن عبد الله بن المبارك، أن رجلًا قال له: «يا أبا عبد الرحمن، قد خفت الله من كثرة ما أدعوه على الجهمية. قال: لا تخف. فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء» . وروى أيضًا عن سليمان بن حرب الإمام، قال: سمعت حماد بن زيد، وذكر هؤلاء الجهمية، فقال: «إنما يحاولون أن

يقولوا ليس في السماء شيء» . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن سليمان، ولفظه: «إنما يدورون على أن يقولوا ليس في السماء إله» . ورواه «الطبراني» في «كتاب السنة» عن العباس بن الفضل

الأسفاطي عن سليمان بن حرب، سمعت حماد بن زيد، سمعت أيوب السختياني، وذكر المعتزلة، فقال: إنما مدار المعتزلة أن يقولوا ليس في السماء شيء» . وحماد بن زيد وهو الإمام المطلق في زمن مالك والثوري والليث وكان يقول: إنه أعلم الناس بما يدخل في السنة من الحديث، وهو صاحب «أيوب السختياني» الذي قال فيه

مالك، لما قيل له: حدثت عنه وهو عراقي، فقال ما حدثكم عن أيّوب أحد إلا وأيوب أفضل منه. وأهل العلم والسنة بالبصرة متبعون لأيوب، وابن عون ويونس بن عبيد، ثم لحماد بن زيد وحماد بن سلمة ونحوهم. ومذهب السنة الذي يحكيه الأشعري في «مقالاته» عن أهل السنة والحديث، أخذ جملته عن «زكريا بن يحيى الساجي» الإمام الفقيه عالم البصرة، في وقته، وهو أخذه عن أصحاب حماد وغيرهم، فيه ألفاظ معروفة من ألفاظ «حماد بن زيد»

كقوله «يدنو من خلقه كيف يشاء» ثم أخذ الأشعري تمام ذلك عن الإمام أحمد لما قدم بغداد، وإن كان زكريا بن يحيى وطبقته هم أيضًا من أصحاب أحمد في ذلك. وقد ذكر «أبو عبد الله بن بطة» في «إبانته الكبرى» عن «زكريا بن يحيى الساجي» جمل مقالات أهل السنة، وهي تشبه ما ذكره الأشعري في «مقالاته» وكان الساجي شيخ الأشعري، الذي أخذ عنه الفقه والحديث والسنة، وكذلك ذكر أصحابه. وروى «عبد الله» ، عن «عباد بن العوام الواسطي» ، قال:

«كلمت «بشر المريسي» ، وأصحاب بشر، فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء» . وقال الإمام «أحمد» : حدثنا «شريح بن النعمان» قال: سمعت «عبد الله بن نافع الصائغ» سمعت «مالك بن أنس» يقول: «الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان» .

وروى «أبو بكر البيهقي» في كتاب «الأسماء والصفات» بإسناد صحيح عن «الأوزاعي» قال: «كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته» . وقال الخلال في كتاب «السنة» : «أخبرني «الميموني» أنه

قال: سألت أبا عبد الله، يعني «أحمد بن حنبل» ما تقول فيمن قال: إن الله [ليس] فوق العرش؟ قال: كلامهم كله يدل على الكفر. وقال: أنا «يوسف بن موسى) أن أبا عبد الله «أحمد بن حنبل» قيل له: « ... والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم، على عرشه لا يخلو الشيء من علمه» .

وقال الشيخ «أبو بكر النقاش» صاحب «التفسير» و «الرسالة» : حدثنا «أبو العباس السّراج» سمعت «قتيبة بن سعيد» يقول: «هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى

نقل المؤلف عن ابن أبي حاتم مذهب أهل السنة في أصول الدين

الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [سورة طه: 5] . وقال «عبد الرحمن بن أبي حاتم» في «الاعتقاد» المشهور عنه في السنة: «سألت أبي و «أبا زرعة» عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار *وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار* حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته» . إلى أن قال: «وأن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا» .

نقل المؤلف من كتاب "الحجة" للشيخ نصر المقدسي اعتقاد أهل السنة بأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه

وذكر هذا الشيخ «نصر المقدسي» في كتاب «الحجة على تارك المحجة» له وقال أيضًا في هذا الكتاب: «إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام؛ من اتباع كتاب الله تعالى وسنة ورسوله، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة، فاذكر مذاهبهم، وما أجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم، فالجواب: أن الذي أدركتُ عليه أهل العلم، ومن لقيتهم وأخذتُ عنهم، ومن بلغني قولهم من غيرهم..» فذكر جمل اعتقاد أهل السنة، وفيه: «وأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، كما قال في كتابه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } [الطلاق: 12] ، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) } [الجن: 28]

نقل المؤلف من عقيدة الحافظ أبي نعيم الأصبهاني إثبات علوه تعالى على جميع خلقه

وقال الحافظ «أبو نعيم الأصبهاني» في عقيدة جمعها في أولها: «طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة» قال: «فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله [عليه] يقولون بها ويثبتونها، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يختلط بهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه وخلقه» . وقال الإمام العارف «معمر بن أحمد الأصبهاني» مفتي

الصوفية العارفين، في أواخر المائة الرابعة في بلاده، قال: «أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف، من المتقدمين والمتأخرين» قال فيها: «وأن الله على استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأن الله عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه المنفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله عز وجل سميع بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى ويسخط، ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: «هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر» . قال: «ونزوله إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال» .

نقل المؤلف إثبات علو الرب تعالى عن الشيخ عبد القادر الجيلي من كتابه الغنية

وقال الشيخ الإمام العارف، أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، في كتاب «الغنية» له: «أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد» إلى أن قال: «وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) } [السجدة: 5] . « ... ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وذكر آيات وأحاديث، إلى أن قال: «وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير

نقل المؤلف إجماع العلماء والأمة على إثبات علو الرب تعالى من كتاب العلو لابن قدامة

تأويل أنه استواء الذات على العرش» قال: «وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل» وذكر كلامًا طويلًا لا يحتملـ[ـه] هذا الموضع. وقال الإمام الزاهد العلامة [الشيخ أبو محمد المقدسي] : «فإن الله وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله محمد خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عليه قلوب المسلمين، وجعله

مغروزًا في طباع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب بهم يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء [أيديهم] ، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم، وينطقون ذلك بألسنتهم، لاينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتِّباعه على ضلالته» قال: «وأنا ذاكر في هذا الجزء بعض ما بلغني من الأخبار في ذلك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، والأئمة المقتدين بسنته، على وجه يحصل [به] القطع واليقين بصحة ذلك عنهم، ويعلم تواتر الرواية بوجوه منهم، ليزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانًا، وينتبه من خفي عليه ذلك، حتى يصير كالمشاهد له عيانًا، ويصير للمتمسك بالسنة حجة وبرهانًا، واعلم رحمك الله أنه ليس من شرط صحة التواتر، الذي يحصل به اليقين، أن يوجد عدد التواتر في خبر واحد، بل متى نقلت أخبار كثيرة، في معنى واحد، من طرق يصدق بعضها بعضًا، ولم يأت ما يكذبها، [أ] ويقدح فيها، حتى استقرّ ذلك في القلوب واستيقنته، فقد حصل التواتر فيها،

وثبت القطع واليقين، فإنا نتيقن جُودَ حاتم، وإن كان لم يرد بذلك خبر واحد مرضِ الإسناد، لوجود ما ذكرنا، وكذلك عدل عمر وشجاعة علي، وعلم عائشة، وأنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وابنة أبي بكر، وأشباه هذا، لا يشك في شيء من ذلك، ولا يكاد يوجد تواتر إلا على هذا الوجه، فحصول التواتر واليقين في مسألتنا مع صحة الأسانيد، ونقل العدول المرضيين، وكثرة الأخبار وتخريجها فيما لا يُحصى عددُه، ولا يمكن حصره في دواوين الأئمة والحفاظ، وتلقي الأمة لها بالقبول [وروايتهم لها] ، من غير معارض يعارضها ولا منكر، لمن يسمع منه شيء منها، أولى، لا سيما وقد جاءت على وفق ماجاء في القرآن العزيز، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42] قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] في مواضع من كتابه، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي

السَّمَاءِ} [الملك: 16] في موضعين وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال سبحانه: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وأخبر عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36-37] يعني: أظن موسى كاذبًا في أن له إلهًا في السماء. والمخالف في هذه المسألة [قد أنكر هذا] يزعم أن موسى كاذب في هذا بطريق [القطع و] اليقين، مع مخالفته لرب العالمين، وتخطئته لنبيه الصَّادق الأمين، وتركه مذهب الصحابة والتابعين، والأئمة السابقين، وسائر الخلق أجمعين» .

فصل: الألفاظ الاصطلاحية مثل الجسم والجوهر والمتحيز والعرض والمركب التي استدل بها أهل العلم على حدوث العالم وإثبات الصانع لاتعرف عن أحد من السلف

فصل أما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والعرض والمركب ونحوها من الألفاظ الاصطلاحية التي تكلم بها أهل الخصومات من أهل الكم في الاستدلال بمعانيها على حدوث العالم، وإثبات الصانع، والإخبار بها عن الله نفيًا وإثباتًا، فهذا لا يعرف عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، الذين جعلهم الله أئمة لأهل السنة والجماعة، في العلم والدين، بل المحفوظ عنهم

المتواتر إنكار ذلك وذم أهله، وصرحوا في ذمه بذم هذا الكلام -الجسم والعرض- لا سيما وذمهم للجهمية الذين يتكلمون بهذا الأسلوب ونحو [هـ] في حق الله تعالى، أضعاف كلامهم وذمهم للمشبهة، لأن ضررهم أقل، فإن الله بعث الرسل بالإثبات المفصل والنفي المجمل، فأخبروا أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، وأنه يحب ويبغض، ويتكلم ويرضى ويغضب، وأنه استوى على العرش، وغير ذلك مما أخبرت به الرسل، وقالوا في النفي ما قاله الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص: 4] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65] {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة: 22] وأما أعداؤهم في هذا الباب من المشركين، ومن وافقهم من الصابئين المتفلسفة ونحوهم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، ويطلقون عبارات مجملة، تحتمل نفي الباطل [و] الحق؛ فيقولون: ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا منقسم، ولا مؤلف ولا مركب، ولا محدود، ولا له غاية ولا انتهاء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا، حتى ينفوا كل ما يمكن للقلب أن يعلمه، فإذا طلب إثباته، قالوا: وجود مطلق. ونحو ذلك، فأثبتوا ما لا يكون موجودًا إلا في الأذهان لا في الأعيان،

الطريقة التي يعتمدها المعتزلة ومن تبعهم الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام

والجهمية توافق هؤلاء في النفي، وأما المبتدعة من المشبهة والمجسمة، فإن دعتهم الزيادة في الإثبات، والكفر والإلحاد، والفساد في ذلك النفي أعظم مما في الزيادة في الإثبات، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع. ولم يكن ذمهم لذلك لمجرد اصطلاح ولا لترجمة معنى بلفظ لم يحتج إلى ترجمة به، بل لاشتمال ذلك على معانٍ باطلة، كما سنذكر ما نذكره عنهم من ذلك، في أثناء هذا الكتاب، حيث تذكر الطريق التي يعتمدها المعتزلة، ومن سلك سبيلهم، في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام، واستدلوا على ذلك بحدوث الأعراض في بعضها، وبامتناع خلو الأجسام عنها، فإن هذه الطريقة هي أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، وتوسعوا في الكلام في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم جعلوا ذلك أصل الدين، حتى قالوا إنه لا يمكن معرفة الله وتصديق رسوله إلا بهذه الطريق، فصارت هذه الطريق أصل الدين وقاعدة المعرفة، وأساس الإيمان عندهم، لا يحصل إيمان ولا دين؛ ولا علم بالصانع إلا بها، وصار المحافظة على لوازمها، والذي فيها أهم الأمور عندهم، لكن ليس الغرض هنا ذكر ذلك بل المقصود هو.

الوجه الثاني: وهو الكلام بذلك في حق الله سبحانه وتعالى، فإن كان من لوازم هذه الطريقة نفي ما جعلوه من سمات الحدوث عن الرب تعالى، فإن تنزيهه عن سمات الحدوث ودلائله أمر معلوم بالضرورة، متفق عليه بين جميع الخلق، لامتناع أن يكون صانع العالم محدثًا، لكن الشأن فيما هو من سمات الحدوث، فإنه في كثير من ذلك نزاعًا بين الناس، وأهل هذه الطريقة إنما استدلوا على حدوث العالم، بما جعلوه دليلًا على حدوث الأجسام، وإنما استدلوا على ذلك بحدوث صفاتها، التي يسمونها الأعراض، والمشهور إنما هو حدوث الحركات وتوابعها، أما سائر الأعراض، ففي حدوثها نزاع بينهم مشهور، لكن قد يقولون: إنها لا تقوم إلا بجسم، وكل جسم محدث، فيلزم حدوث كل صفة وموصوف، فيلزم من ذلك أن ينفى عنه أن يوصف بذلك، لئلا يلزم حدوثه، فتكلموا في أن الله هل هو جسم أو ليس جسمًا؟، وأنه هل له صفات أم لا؟، وهل يقال: له أعراض أم لا؟ وما يتبع ذلك. فذهبت المعتزلة ومن وافقها من سائر الجهمية إلى أنه يمتنع أن يكون الرب جسمًا، ويمتنع أن تكون له صفة، فإن ذلك أعراض، وبالغوا في النفي ظانين أن ذلك كله تنزيه، وقالوا: الباري لا يكون محلًّا للأعراض ولا للحوادث، ولا يكون في

[أ] بعاض ولا تقدير، ومقصودهم بنفي الأعراض نفي الصفات، فلا تقوم به عندهم حياة، ولا علم ولا قدرة، ولا كلام، ولا سمع ولا بصر، ولا رضى ولا غضب، ولا حب ولا بغض، ولا غير ذلك، وكل ما يضاف إلى الرب من ذلك، فإن كان موجودًا فهو مخلوق، وكلامه عندهم أنه خلق في بعض الأجسام كلامًا، ورضاه وغضبه نفس ما يخلقه من النعيم والعذاب، وأمثال ذلك، وقالوا: لا ينزل ولا يجيء ولا يأتي، ولا كذا، فإن هذه الأمور هي الحوادث، وهو ليس محلًا للحوادث، وصار هؤلاء يقولون متى قيل: إنه جسم أو موصوف لزم أن يكون محدثًا، وقابل هؤلاء طوائف من متكلمة الشيعة والمرجئة وغيرهم، فقالوا: بل هو جسم ومتحيز، وله صفات تقوم به، وأفعال تقوم به، كالحركة والسكون، وحكى عنهم من الزيادة في الإثبات أمورًا، كما بالغ أولئك، وصار هؤلاء يقولون: متى قيل: ليس بجسم أو ليس بموصوف، لزم أن يكون معدومًا، ولا معنى للجسم إلا الموجود والقائم بنفسه، وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب «المقالات» مقالة الطائفتين، مع أنه يحكي ذلك كما وجده في كتب المعتزلة، فإنه كان أعلم بمقالتهم، وما نَقَلُوهُ عن مخالفيهم من قول غيرهم، لأنه كان منهم وبقي على مذهبهم أربعين سنة، ثم انتقل إلى نحو من

مذهب ابن كلاب وما يقاربه من مذهب أهل السنة والحديث، ولهذا يوجد علمه بمقالات المعتزلة علمًا مفصلًا محكمًا، وأما علمه بمقالات أهل السنة والحديث، فهوة علم بمجمل ذلك، التي بلغته عنهم، لا علم بمفصل، كعلمه بمقالات المعتزلة، مع أن الأشعري لم يذكر مجسمًا لطائفةٍ من الطوائف في كتابه، خارجة عما ذكره، بل قال: «هذا ذكر الاختلاف، واختلف المسلمون عشرة أصناف: الشيعة والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، والضرارية، والحسينية -يعني أتباع حسين النجار- والبكرية، والعامة وأصحاب الحديث، والكلابية - أصحاب عبد الله بن كلاب القطان» ثم ذكر الشيعة وذكر أن أكثر الإمامية كانوا يقولون: بالتجسيم، وأنه إنما صار إلى نفيه وموافقة المعتزلة قوم من متأخريهم، وذكر أن الزيدية نوعان: نوع

إلزام المؤلف للرازي بجعل الباري متخيلا لا حقيقة له في الخارج

يثبت الصفات ونوع ينفيها، وذكر الخوارج، وأن قولهم في أكثر التوحيد قول المعتزلة، قال: «واختلف المرجئة في التوحيد فقال قائلون منهم في التوحيد بقول المعتزلة وسنشرحه، وقال قائلون بالتشبيه» . الوجه العاشر: قوله: «وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزهًا عن لواحق الحس وعلائق الخيال» . يقال له: أنت الذي جعلته متخيلًا، لا حقيقة له في الخارج، حيث جعلت وجوده من جنس وجود الأمور الذهنية، التي لا توجد إلا في الذهن والخيال، وهذا قول متخيل لا حقيقة له، بمنزلة الإفك المفترى والكذب المختلق، فإن هذه الأمور كلها، لها وجود في الذهن والخيال، وليس لها حقيقة في

قول الرازي أن الحس لا يلحقه معنى عام

الخارج، وهذا هو التخيل المذموم، وهو أن يتخيل العبد ما ليس له حقيقة موجودة، أما تخيل الأمور الموجودة، مثل ما يراه النائم في منامه من الرؤيا المطابقة للخارج، فهذا ليس بمذموم ولا معيب، بل هو حق في بابه، وأما تخيل الأمور الموجودة المحسوسة، على ما هي عليه موجودة في الخارج، فهذا حق باطنًا وظاهرًا، وإنكار هذا سفسطة كإنكار المحسوسات الموجودات. الوجه الحادي عشر: قوله: «لواحق الحس» إن عنى به أن الحس لا يلحقه، أي لا يدركه ولا يحيط به، فلا الحس يحيط به ولا العقل، فلا اختصاص للحس بذلك، وإن عنى أنه لا يحس أي لايرى. فهذا ممنوع باطل، وهم لا يتظاهرون بإنكار ذلك، وإن كانوا في الحقيقة موافقين لمن أنكره. ولولا أن هذا ليس موضعه لذكرناه. الوجه الثاني عشر: أن قوله: «لواحق الحس وعلائق الخيال» ظاهر لفظه هو ما يلحق الحس. ولا يخلو أن يريد به نفي ما يلحق الحس أو المحسوس، وما يتعلق بالخيال أو التخيل، أو يريد به أنه لا يحلقه الحس، ولا يتعلق به الخيال، فإن أراد الأول: وهو مقتضى اللفظ، لزم في ذلك أن كل ما

إطلاق اللفظ على الله تعالى بكونه معقولا فيه إجمال وإيهام

يوصف به الحس أو المحسوس، أو الخيال أو التخيل لا يوصف به، ومعلوم أن ذلك يوصف بأنه موجود وثابت، وحق ومعلوم، ومذكور وموصوف، ونحو ذلك، مما لا نزاع في أن الله يوصف به. وإن أراد الثاني: وهو الذي أراده والله أعلم، وإن كان قد قصر في دلالة اللفظ عليه، كان مضمونه أنه لا يحس بحال، فإن أراد به ما يستلزم، أنه لا يرى ولا يسمع كلامه، فهذا ممنوع وهو باطل، وإن أراد به لا يكون كالمحسوسات، في إدراك الحس له، فيقال ولا هو كالمعلومات والمعقولات، في تعلق العلم به؛ فإن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، كما قد بيناه في غير هذا الموضع. الوجه الثالث عشر: أن طوائف يفرقون بين كونه معقولًا، وكونه محسوسًا، حتى يقول النفاة منهم: لا يعلم إلا بإشارة العقل، وقد يقولون: إنه من قسم الحقائق المعقولة دون المحسوسة ونحو ذلك، فيقال: هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام. فإن أرادوا أنه في الدنيا لا يعرف إلا بالقلب، لا يشهد بالبصر الظاهر وغيره من الحواس فهذا حق، لكن ما يعرفه القلب، ويشهده القلب، ويحسه القلب، ونحو ذلك أعم من أن يكون معقولًا محضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت» وقد اتفق

على ذلك سلف الأمة وأئمتها، ولم يتنازعوا إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإن نازع في غيره بعض من لم يعرف السنة، ومذهب الجماعة من بعض المتكلمة وجهال المتصوفة ونحوهم. وإن أراد أنه لا يرى في الدنيا والآخرة، أو لا يمكن رؤيته فهذا مذهب الجهمية والمعتزلة في ذلك معروف، وقد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل وبصرائح العقل بطلان هذا المذهب. وإن أراد أنه من باب ما يعقله القلب من الأمور المعقولة، التي لا يصح أن تكون محسوسة، فيقال له: المعقولات المحضة هي الأمور الكلية، فإن الإنسان إذا أحس بباطنه أو بظاهره بعض الأمور، كإحساسه بجوعه وعطشه، ورضاه، وغضبه، وفرحه، وحزنه، ولذته وألمه وبما يراه بعينه ويسمعه

بأذنه، فتلك الأمور معينة موجودة، فالعقل يأخذ منها أمرًا مطلقًا كليًا فيعلم جوعًا مطلقًا، وفرحًا مطلقًا، وشمًا مطلقًا، وألمًا مطلقًا ونحو ذلك، فهذه الكليات معقولات محضة، لأنه ليس في الخارج كليات مطلقة حتى يمكن إحساسها، والإحساس إنما يكون بالأمور الموجودة، ولهذا قالوا: إنه يعلم المعدومات قبل كونها [علمًا] عامًا، أما السمع والبصر فإنما يكون للموجود. ومن قال إنه يرى ... وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع. وإذا كان كذلك فمن أراد هذا المعنى جعله من باب الموجودات في الأذهان لا في الأعيان، وهذا حقيقة قول الجهمية الذين يقولون: إنه لا يمكن رؤيته وإحساسه؛ فإن كل موجود قائم بنفسه يمكن رؤيته؛ بل كل موجود يمكن إحساسه إما بالرؤية وإما بغيرها، فما لا يعرف بشيء من الحواس لم يكن إلا معدومًا، حتى أن الصور الذهنية يمكن إحساسها من حيث وجود ذواتها، ولكن هي من جهة مطابقتها

فصل: دعوى الرازي أن خصومه في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة ورد المؤلف عليه

للمعدومات كلية، والمطابقة صفة لها إضافية. فهذه معانٍ ينبغي أن يفطن لها. فصل ثم قال أبو عبد الله الرازي «الثامن: أن خصومنا لا بد لهم من الاعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال؛ لأن خصومنا في هذا الباب: إما الكرامية وإما الحنابلة [أما الكرامية] فإنا إذا قلنا لهم: لو كان الله مشارًا إليه بالحس لكان ذلك [الشيء] إما أن يكون منقسمًا، فيكون مركبًا، وأنتم لا تقولون بذلك، وإما أن يكون غير منقسم، فيكون في الصغر والحقارة، مثل النقطة التي لا تنقسم، ومثل الجزء الذي لا يتجزأ،

وأنتم لا تقولون بذلك، فعند هذا الكلام قالوا: إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف، ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير» . فقوله: «خصومنا في هذا الباب إما الكرامية، وإما الحنابلة» ليس بسديد، لا سيما وهؤلاء الحنابلة الذين وصفهم -إن كان لهم وجود- فهم صنف من الحنابلة الموجودين في وقته أو قبله بأرض خراسان وغيرها، ليسوا من أئمة علماء الحنابلة ولا أفاضلهم، فإن هذه الألفاظ التي حكاها عن الحنابلة لا نعرفها عن أحد منهم كما سنذكره. وكذلك هؤلاء الكرامية الذين حكى قولهم هم بعض الكرامية، وإلا فكثير من الكرامية قد يخالفونه فيما حكاه عنهم، بل خصومه في هذا الباب جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الصحابة والتابعين، وجميع أئمة الدين من الأولين والآخرين، وجميع المؤمنين الباقين على الفطرة الصحيحة -دع ما قد تنازع فيه من ذلك- فإنهم لا يطلقون على الله هذا الإطلاق الذي ذكره، وإن كان فيهم وفي سائر الطوائف من نص بالصفات التي يطلق عليها هو وأمثاله أنها أجزاء وأبعاض، لكنهم لايطلقون الألفاظ الموهمة المجمَلة إلا إذا نص الشرع، فأما ما لم يرد به الشرع فلا يطلقونه إلا إذا تبين معناه الصحيح الموافق للشرع، ونفي

المعنى [الباطل] وفي لفظ الأجزاء، والأبعاض إجمال وإيهام كما سنذكره إن شاء الله، وما علمت أحدًا من الحنابلة من يطلقه من غير بيان، بل كتبهم مصرحة [بنفي] ذلك المعنى الباطل، ومنهم من لا يتكلم في ذلك بنفي ولا إثبات. فلا ريب أن الكتب الموجودة بأيدي الناس، تشهد بأن جميع السلف من القرون الثلاثة كانوا على خلاف ما ذكره، وأن الأئمة المتبوعين عند الناس والمشايخ المقتدى بهم، كانوا على خلاف ما ذكره، وهذه أئمة المالكية، والشافعية، والحنفية، وأهل الحديث، والصوفية على ذلك، بل أئمة الصفاتية من الكلابية

والكرامية والأشعرية على خلاف ما قاله، فهذه كتب ابن كلاب إمام طائفته، ثم الحارث المحاسبي ونحوه، ثم أبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه مثل أبي عبد الله بن مجاهد

وأبي الحسن الطبري، وأبي العباس القلانسي، وغيره -كما سيأتي إن شاء الله حكاية قوله وقول غيره- والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي علي بن شاذان وغيرهم، كلهم يقولون: بإثبات العلو لله على العرش واستوائه عليه دون ما سواه، ويضللون من يفسر ذلك بالاستيلاء والقهر ونحوه - كما قد حكينا بعض أقوالهم في جواب الاستفتاء، وفي جواب هذه المسائل الموردة عليه وذكرنا أنَّ أبا الحسن الأشعري ذكر أن هذا قول جميع أهل السنة والحديث، وبه يقول الرازي وهو قد حكى أيضًا في كتبه ذلك عن بعض أئمة أصحابه، وذكر للأشعري نفسه قولين، وقد تكلمنا على ذلك. فكيف يزعم أن خصومه إنما هم

نقل المؤلف عن ابن رشد في صفة الجسمية وأنه من خصوم الرازي في هذا الباب

الكرامية والحنابلة! بل لم يوافقه إلا فريق قليل من أهل القبلة. حتى حذاق الفلاسفة فإنهم من خصومه في هذا الباب، كما ذكر القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف، مع فرط اعتنائه بالفلسفة، وتعظيمه لها، ومعرفته بها، حتى يأخذها من أصولها فيقرأ كتب أرسطو وذويه، ويشرحها ويتكلم عليها ويبين خطأ من خالفهم مثل ابن سينا وذويه، وصنف كتبًا متعددة مثل كتاب «تهافت التهافت» في الرد على أبي حامد فيما رده على الفلاسفة في كتاب «تهافت الفلاسفة» وكتاب «تقرير المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» وغير ذلك، قال في كتابه الذي سماه «مناهج الأدلة في الرد على الأصولية» وقد ضمن هذا الكتاب بيان الاعتقاد الذي جاءت به الشريعة ووجوب إلقائه إلى الجمهور. كما جاءت به الشريعة، وبيان ما يقوم عليه من ذلك البرهان، للعلماء، كما يقوم به ما يوجب التصديق للجمهور. وذكر فيه ما يوجب على طريقته أن لا يصرح به للجمهور، وذكر فيه ما يوجب من الأمور، التي قام عليها البرهان على طريقة ذويه، كما ذكر أنه لا يصلح في الشريعة، أن يقال: إن الله جسم أو ليس بجسم، مع أنه يقول في الباطن، إن الله ليس بجسم. ومع هذا فأثبت الجهة باطنًا وظاهرًا، وذكر أنه

قول الفلاسفة فقال: «فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرح الشرع [بنفيها عن الخالق؟ أو هي من المسكوت عنها؟ فنقول: إنه من البين من أمر الشرع] أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق [إلا] أنها في الخالق أتم وجودًا؛ ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم. والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على منهاج الشرع، فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات، ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ

شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) } [الشورى: 11] وينهي عن هذا السؤال، وذلك لثلاثة معان: أحدها: أن إدراك هذا المعنى، ليس هو قريبًا من المعروف بنفسه، برتبة واحدة ولا رتبتين ولا ثلاث، وأنت تتبين ذلك من الطريق التي سلكها المتكلمون في ذلك فإنهم قالوا: إن الدليل على أنه ليس بجسم؛ أنه قد تبين أن كل جسم محدث. وإذا سئلوا عن الطريق التي فيها يوقف على أن كل جسم محدث، سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرناها من حدوث الأعراض، وأن ما لا يتعرى من الحوادث حادث. وقد تبين لك من قولنا إن هذه الطريقة ليست برهانية، ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها. وأيضًا فإن ما يصفه هؤلاء القوم من أنه سبحانه [له] ذات وصفات زائدة على الذات. يوجبون بذلك أنه جسم أكثر مما ينفون عنه الجسمية، بدليل انتفاء الحدوث عنه، فهذا هو

السبب الأول في أنه لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم. أما السبب الثاني: فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم. فإذا قيل لهم: إن هاهنا موجودًا ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل فصار عندهم من قبيل المعدوم، ولا سيما إذا قيل: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا أسفل، ولهذا اعتقدت الطائفة الذين أثبتوا الجسمية في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنها معطلة واعتقدت الذين نفوها في المثبتة أنها مكثرة. وأما السبب الثالث: فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية، عرضت في الشرع شكوك كثيرة؛ مما يقال في المعاد وفي غير ذلك، منها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة، وذلك أن الذين صرحوا بنفيها فرقتان: المعتزلة والأشعرية. فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية. وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك

ذلك عليهم، ولجأوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية نومي إلى الوهم الذي فيها عند الكلام في الرؤية. ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة من بادئ الرأي عن الخالق سبحانه كونه ليس بجسم، فترجع الشريعة متشابهة، وذلك أن بعث الأنبياء ابتنى على أن الوحي نازل عليهم من السماء، وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه. أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وانبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء، وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها، كما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] . وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة. ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية، وجب التصريح بنفي

الحركة، فإذا صرح بنفي هذا عسر ما جاء في صفة الحشر، من [أن] الباري يطلع [على] أهل المحشر، وأنه الذي يلي حسابهم، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] وكذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور، وإن كان التأويل إليه أقرب منه إلى أمر الحشر، مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع. فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر، فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها، وأما إذا أولت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين: إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه من الشريعة، فتتمزق الشريعة كلها، وتبطل الحكمة المقصودة منها. وإما أن يقال في هذه كلها: إنها من المتشابهات، وهذا كله إبطال للشريعة، ومحو لها من

النفوس، من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظيم ما جناه على الشريعة: مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المؤولون لهذه الأشياء تجدها كلها غير برهانية؛ بل الظواهر الشرعية أقنع منها -أعني أن التصديق بها أكثر- وأن تتبين ذلك من قولنا في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجسمية، وكذلك يتبين ذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة على ما سنقوله بعد، وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور [عن النفس -أعني الجسمية- لم يصرح الشرع للجمهور] بما هي النفس. فقال في الكتاب العزيز: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) } [الإسراء: 85] وذلك أنه يعسر قيام البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم، ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور، لاكتفى بذلك الخليل

في محاجة الكافر حين قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] الآية: لأنه كان يكتفي بأن يقول له: أنت جسم والله ليس بجسم، لأن كل جسم محدث، كما يقول الأشعرية وكذلك كان يكتفي بذلك موسى عليه السلام، عند محاجته لفرعون في دعواه الإلهية، وكذلك كان يكتفي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال، في إرشاد المؤمنين إلى كل ما يدعيه من الربوبية، في أنه جسم والله ليس بجسم، بل قال عليه السلام: «إن بكم ليس بأعور» فاكتفى

في الدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة، التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه. فهذه كلها كما ترى بدع حادثة في الإسلام، هي السبب فيما عرض فيه من الفرق، التي أنبأنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها ستفترق أمته إليها. فإن قال قائل: فإذا لم يصرح الشرع للجمهور، لا بأنه جسم ولا بأنه غير جسم، فما عسى أن يجابوا به في جواب «ما هو» ؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان وليس يقدر أن ينفك عنه، ولذلك ليس يقنع الجمهور، أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به أنه لا ماهية له، لأنه ما لا ماهية له لا ذات له؟ قلنا: الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع، فيقال لهم: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه

العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت فإنه جاء أنه قيل له عليه السلام: «هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه» [و] في حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى، غشى السدرة من النور، ما حجب بصره عن النظر إليها، أو إليه سبحانه، ففي مسلم «إن لله حجابًا من نور لو كشف لأحرقت سُبُحات وجهه

ما انتهى إليه بصره» وفي بعض روايات هذا الحديث «سبعين حجابًا من نور» . وينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه، لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، وكذلك الأوهام، مع أنه ليس بجسم والموجود عند الجمهور، إنما هو المحسوس، والمعدوم عندهم هو غير

المحسوس. والنور لما كان أشرف المحسوسات وجب أن يُمثل به أشرف الموجودات. وهنا أيضًا سبب آخر موجب أن يسمى به نورًا. وذلك أن حال وجوده في عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل، هي حال الأبصار عند النظر إلى الشمس بل حال عيون الخفافيش، وكان هذا الوصف لائقًا عند الصنفين من الناس. وأيضًا فإن الله تبارك وتعالى لما كان سبب الموجودات، وسبب إدراكنا لها، وكان النور مع الألوان هذه صفته -أعني أنه سبب وجود الألوان بالفعل، وسبب رؤيتنا له- فالحق ما سمى الله تبارك وتعالى نفسه نورًا. وإذا قيل: إنه نور لم يعرض شك في الرؤية التي جاءت في المعاد. فقد تبين لك في هذا القول الاعتقاد الأول الذي في هذه الشريعة في هذه الصفة، وما حدث في ذلك من البدعة، وإنما سكت الشرع عن هذه

تعقيب المؤلف على ما نقله من كتاب مناهج الأدلة لابن رشد

الصفة، لأنه لا يعترف بموجود في الغائب ليس بجسم، إلا من أدرك ببرهان أن في المشاهد بهذه الصفة -وهي النفس- ولما كان الوقوف على معرفة هذا المعنى من النفس مما لا يمكن الجمهور، لم يمكن فيهم أن يعقلوا وجود موجود ليس بجسم، فلما حجبوا عن معرفة النفس، علمنا أنهم حجبوا عن معرفة هذا المعنى من الباري سبحانه وتعالى» . قلت: وقد تبين في هذا الكلام أنه في الباطن يرى رأي الفلاسفة في النفس أنها ليست بجسم، وكذلك في الباري؛ غير أنه يمنع أن يخاطب الجمهور بهذه؛ لأنه ممتنع في عقولهم، فضرب لهم أحسن الأمثال وأقربها، كما ذكره في اسم النور، وهذا قول أئمة الفلاسفة في أمثال هذا، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد بين بالحجج الواضحة أن ما يذكره المتكلمون في النفي مخالف للشريعة، وهو مصيب في هذا باطنًا وظاهرًا، وقد بين أن ما يذكره المتكلمون في نفي الجسم على الله بحجج ضعيفة، وبين فسادها، وذكر أن ذلك إنما يعلم إذا علم أن النفس ليست جسمًا. ومعلوم أن هذا الذي يشير إليه، هو وأمثاله من المتفلسفة، أضعف مما عابه على المتكلمين: فإن المتكلمين أفسدوا حججهم هذه أعظم مما أفسدوا به حجج المتكلمين.

عود على النقل من كتاب مناهج الأدلة لابن رشد

فيؤخذ من تحقيق الطائفتين بطلان حجج الفريقين على نفي الجسم، مع أن دعوى الفلاسفة أن النفس ليست بجسم، ولا توصف بحركة ولاسكون ولا دخول ولا خروج، وأنه لا يحس إلا بالتصور لا غير، يظهر بطلانه، وكذلك قولهم في الملائكة. وظهور بطلان قول هؤلاء أعظم من ظهور بطلان قول المتكلمين بنحو ذلك في الرب. ثم قال القول في «الجهة» : «وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعها على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] ومثل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ومثل قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 17] ومثل قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) } [السجدة: 5] ومثل قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] الآية، ومثل قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ

تَمُورُ (16) } [الملك: 16] إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولًا. وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات، عاد الشرع كله متشابهًا؛ لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء. وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم؛ فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة، وبهذا نقول» .

فصل: دعوى الرازي أن الحنابلة التزموا الأجزاء والأبعاض ومناقشة المؤلف له

فصل قال الرازي: «وأما «الحنابلة» الذين التزموا الأجزاء والأبعاض» . فيقال: إن أردت بهذا الكلام أنهم وصفوه بلفظ الأجزاء والأبعاض، وأطلقوا ذلك عليه من غير نفي للمعنى الباطل، وقالوا إنه يتجزأ أو يتبعض، وينفصل بعضه عن بعض، فهذا ما يعلم أحد من الحنابلة يقوله، هم مصرحون [بنفي ذلك] وإن أردت إطلاق لفظ البعض على صفاته في الجملة -فهذا ليس مشهورًا عنهم، لا سيما الحنابلة أكثر اتباعًا لألفاظ القرآن والحديث من الكرامية ومن الأشعرية (بإثبات لفظ الجسم من الحنابلة) - فهذا مأثور عن الصحابة والتابعين، والحنبلية وغيرهم متنازعون في إطلاق هذا اللفظ كما سنذكره إن شاء الله، وليس للحنبلية في هذا اختصاص، ليس لهم قول في النفي والإثبات إلا وهو وما أبلغ منه موجود في عامة الطوائف وغيرهم، إذ هم لكثرة الاعتناء بالسنة والحديث والائتمام بمن كان بالسنة أعلم، أبعد عن الأقوال

المتطرفة في النفي والإثبات، وإن كان في أقوال بعضهم غلط في النفي والإثبات فهو أقرب من الغلط الموجود من الطرفين في سائر الطوائف الذين هم دونهم في العلم بالسنة والاتباع. وإن أردت أنهم وصفوه بالصفات الخبرية، مثل: الوجه واليد، وذلك يقتضي تجزئة التبعيض، أو أنهم وصفوه بما يقتضي أن يكون جسمًا، والجسم متبعض ومتجزئ، وإن لم يقولوا هو جسم. فيقال له: لا اختصاص للحنابلة بذلك، بل هو مذهب جماهير أهل الإسلام، بل وسائر أهل الملل وسلف الأمة وأئمتها. وفي الجملة فإثبات هذه الصفات هو مذهب الصفاتية من جميع طوائف الأمة مثل الكلابية وأئمة الأشعرية، وهو مذهب الكرامية. ومن المعلوم أن بين إثبات الأشعرية ونحوهم له، وبين إثبات بعض الكرامية ونحوهم له فرقًا. وكثير منهم ينفي ذلك، ومنهم من لا ينفيه ولا يثبته، ومنهم من أثبت ما جاء. وهذا إمام طائفته أبي الحسن الأشعري، وهو من أعلم الناس بمقالات أهل الكلام، قد ذكر في غير موضع من كتبه، أن هذا

مذهب أهل السنة والحديث، وقال: «إنه به يقول» . كما قد ذكرنا لفظه في غير هذا الموضع، وهذه الكتب التي صنفها مصنفوهم كأبي الحسن التميمي وأهل بيته، والقاضي أبي يعلى، وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني

نقل المؤلف من كتاب الإيضاح لابن الزاغوني إثباته صفة الوجه واليدين لله تعالى

وذكروا فيها ما جرت عادة المتكلمة الصفاتية بذكره، كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأمثالهما من إثبات الصفات، ونفي التجسيم، قد بينوا فيها ذلك، كما بينه هؤلاء، ونحوهم في هذه الصفات العينية الخبرية كالوجه واليدين وغيرهما. ومن أشهر مصنفيهم في ذلك أبو الحسن بن الزاغوني قال في كتابه «الإيضاح في أصول الدين» : «فصل وقد وصف الباري نفسه في القرآن بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27] وأمثال ذلك في الكتاب والسنة، ويراد بذلك إثبات صفة تختص باسم يزيد على قولنا: ذات. وذهبت المعتزلة إلى أن المراد بالوجه الذات، فأما صفة زائدة على ذلك فلا» ولم يذكر خلافًا مع الأشعرية، لأن المشهور عنهم إثبات هذه الصفة. قال: «والدلالة على ذلك أنه قد ثبت في عرف الناس، وعاداتهم في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة، أن تسمية الوجه في أي محل وقع، في الحقيقة والمجاز، يزيد على قولنا: ذات، وأما في الحيوان، فذلك مشهور حقيقة لا يمكن

دفعه، ولا يسوغ فيه غير ذلك، وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضًا؛ لأنه يقال: فلان وجه القوم. لا يراد به ذات القوم، إذ ذوات القوم غيره قطعًا ويقينًا، ويقال: هذا وجه الثوب. لما هو أجوده، ويقال: هذا وجه الرأي. أي أصحه وأقومه، وأتيت بالخبر على وجهه أي على حقيقته. إلى أمثال ذلك مما يقال فيه الوجه، فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة، وجب حمل هذه الصفة في حق الباري تعالى على ظاهر ما وضعت له، وهو الصفة الزائدة على تسمية قولنا: ذات، وهذا جلي واضح» . قال: «وتمهيد هذا الكلام وتقريره، أنه لا يجوز أن يقال بوجه الله على ما قيل في وجه القوم أنه سيدهم، والمعرب عنهم، والمشار إليه دونهم، لأن ذلك يقتضي بمثله في حق الله أن يقال: سيد الله، والمشار إليه، وهذا في حقه محال، ولا يجوز أن يراد به ما أريد من قولهم هذا وجه الثوب أي: أحسنه وأجوده لما ذكرنا أيضًا، ولأنه لا يجوز أن يضاف إلى ذاته ولا إلى غيره، لأنه تعالى ليس موصوفًا بالحسن والجودة. ولا يجوز أن يراد به ما أريد بأنه وجه الرأي أنه صوابه، لأنه لا يعبر بذات الله عن الصدق في الخبر والصحة في الرأي. فإذا بطلت هذه الأقسام وجب أن تحمل على إثبات صفة هي الوجه التي يستحقها الحي.

قالوا: إذا حملتم الأمر على هذا الظاهر، وبطل أن يراد بها إلا الوجه، الذي هو صفة يستحقها الحي، فالوجه الذي يستحقه الحي، وجه هو عضو وجارحة، يشتمل على كمية تدل على الجزئية، وصورة تثبت الكيفية، فإن كل ظاهر الأوصاف عندكم إثبات صفة تفارق في الماهية، وتقارب فيما يستحق بمثله الاشتراك في الوصف، فهذا هو التشبيه بعينه. وقد ثبت بالدليل الجلي، إبطال قول المجسمة والمشبهة، وما يؤدي إلى مثل قولهم فهو باطل. قلنا: الظاهر ما كان متلقى في اللفظ على طريق المقتضي، وذلك مما يتداوله أهل الخطاب بينهم. حتى ينصرف مطلقه عند الخطاب إلى ذلك، عند من له أدنى ذوق ومعرفة بالخطاب العربي واللغة العربية، وهذا كما نقول في ألفاظ الجموع

وأمثالها: إن ظاهر اللفظ يقتضي العموم والاستغراق، وكما نقوله في الأمر: إن ظاهره الاستدعاء من الأعلى للأدنى يقتضي الوجوب، إلى أمثال ذلك مما يرجع فيه إلى الظاهر في المتعارف. فإذا ثبت هذا فلا شك ولا مِرْية على ما بينا أن الظاهر في إثبات صفة هو إذا أضيف إلى مكان أريد بها الحقيقة، أو أريد بها المجاز، فإنه لا ينصرف إلى وهم السامع، أن المراد بها جميع الذات، التي هي مقولة عليها، وهذا مما لا نزاع فيه. والمقصود بهذا إبطال التأويل، الذي يدعيه الخصم، فإذا ثبت هذا وجب أن يكون صفة خاصة، بمعنى لا يجوز أن يعبر بها عن الذات، ولا وضعت لها لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز. فأما قولهم: إذا ثبت أنها صفة إذا نسبت إلى الحي، ولم يعبر بها عن الذات وجب أن تكون عضوًا وجارحة ذات كمية وكيفية. فهذا لا يلزم: من جهة أن ما ذكروه ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث، لا من خصيصة صفة الوجه ولكن من جهة نسبة الوجوه إلى جملة الذات، فيما ثبت للذات من الماهية المركبة، بكمياتها وكيفياتها وصورها،

وذلك أمر أدركناه بالحس من جملة الذات، فكانت الصفة مساوية للذات في موضوعها، بطريق أنها منها، ومنتسبة إليها نسبة الجزء إلى الكل، فأما الوجه المضاف إلى البارئ تعالى، فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه، وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصف بأنها جسم مركب من جملة الكمية، وتتسلط عليه الكيفية، ولا يعلم له ماهية، فالظاهر في صفته التي هي الوجه، أنها كذلك لا يوصل لها إلى ماهية، ولا يوقف لها على كيفية، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية، لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجسامًا، والله يتنزه عن ذلك. ولو جاز لقائل أن يقول: ذلك في السمع والوجه والبصر وأمثال ذلك من صفات الذات، لينتقل بذلك عن ظاهر الصفة منها إلى ما سواها، بمثل هذه الأحوال الثابتة في المشاهدات، لكان

من الحياة والعلم والقدرة أيضًا كذلك، فإن العلم في الشاهد عرض، قائم يقدر نفيه بطريق ضرورة أو اكتساب، وذلك غير لازم مثله في حق البارئ، لأنه مخالف للشاهد في الذاتية وغير مشارك في إثبات ماهية، ولا مشارك لها في كمية ولا كيفية، وهذا الكلام واضح جلي. وأما قولهم: إن أردتم إثبات صفة تقارب الشاهد، فيما يستحق مثله الاشتراك في الوصف، فهذا هو التشبيه بعينه. فنقول لهم: المقاربة تقع على وجهين: أحدهما: مقاربة في الاستحقاق لسبب موجبه التمام والكمال، وتنفي النقص. الثاني: مقاربة في الاستحقاق لسبب تقتضيه الحاجة ويوجبه الحس، ومحال أن يراد به الثاني؛ لأن الله تعالى قد ثبت أنه غني غير محتاج، ولا يوصف بأنه يحتاج إلى الإحساس؛ لما في ذلك من النقص. فيبقى الأول، وصار هذا كإثبات الصفات الموجبة للكمال ودفع النقص. وأما قولهم: إن ذلك يوجب إثبات الجوارح والأعضاء. فليس بصحيح من جهة أنه يكتسب بها، ما لولا ثبوتها له لعدم الاكتساب له مع كونه محتاجًا إليه؛ ولهذا سميت الحيوانات المصيودة، كسباع الطير والبهائم جوارح، لأنها تكتسب

الصيود، والبارئ مستغن عن الاكتساب، فلا يتصور استحقاقه لتسميته جارحة، مع عدم السبب الموجب للتسمية. فأما تسمية الأعضاء، فإنها تثبت في حق الحيوان المحدث، لما تعينت له من الصفات الزائدة على تسمية الذات، لأن العضو عبارة عن الجزء؛ ولهذا نقول: عضيته. أي جزيته وقسمته، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) } [الحجر: 91] أي: قسموه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، فإذا كان العضو إنما هو مأخوذ من هذا، فالبارئ تعالى ليس بذي أجزاء يدخلها الجمع، وتقبل التفرقة والتجزئة، فامتنع أن يستحق ما يسمى عضوًا، فإذا ارتفع هذا بقي أنه تعالى ذاته لا تشبه الذوات، مستحقة للصفات المناسبة لها في جميع ما تستحقه، فإذا ورد القرآن وصحيح السنة في حقه بوصف، تُلقيَ في التسمية بالقبول، ووجب إثباته له مثل ما يستحقه، ولا يعدل به عن حقيقة الوصف، إذ ذاته تعالى قابلة للصفات، وهذا واضح بَيِّن لمن تأمله» . فهذا لفظه ولفظ أمثاله من المصنفين على هذا الوجه. وقال أيضًا. بعد ذلك:

«فصل وقد وصف البارئ نفسه في القرآن باليدين، بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] قال: «وهذه الآية تقتضي إثبات صفتين ذاتيتين تسميان يدين» . قال: «وذهبت المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين النعمتين، وذهبت طائفة منهم إلى أن المراد باليدين هاهنا القدرة» . قال: «والدلالة على كونهما صفتين ذاتيتين، تزيدان على النعمة وعلى القدرة، أنا نقول: القرآن نزل بلغة العرب، واليد المطلقة في لغة العرب وفي معارفهم وعاداتهم، المراد بها إثبات صفة ذاتية للموصوف، لها خصائص فيما يقصد به، وهي حقيقة في ذلك، كما ثبت في معارفهم الصفة التي هي القدرة، والصفة التي هي العلم، كذلك سائر الصفات من الوجه والسمع والبصر والحياة وغير ذلك، وهذا هو الأصل في هذه الصفة، وأنهم لا ينتقلون عن هذه الحقيقة إلى غيرها، مما يقال على سبيل المجاز إلا بقرينة تدل على ذلك، فأما مع الإطلاق فلا، ولهذا يقولون: لفلان عندي يد. فيراد بذلك ما يصل من الإحسان بواسطة اليد، وإنما فهم ذلك بإضافة اليد إلى قوله «عندي» ويقول ذلك وبينهما من

البعد والحوائل، ما لو أراد اليد الحقيقية لكان كاذبًا: ولهذا لو كان بحيث أن يكون عنده يده الحقيقية، وهو أن يكونا متماسكين في الاجتماع ويحيط بهما ثوب، أو على صفة يمكن إدخال يده إلى باطن ثوبه، فقال حينئذ: لفلان عندي يد. لا يصرف القول فيه [غير] ، إلى اليد الحقيقية: لأن شاهد الحال قد قطع عمل القرينة. والإطلاق في التعارف، أكثر من شاهد الحال في القرب، من جهة أنه يجوز أن يتجوز به للقرينة، لكن على من شاهد الحال [لاغية] عليه، بما لإطلاقه ذلك أحق وأولى. وكذلك القول في التعبير باليد عن القدرة، إنما يثبت ذلك بقرينة، وهو أن يقول: لفلان علي يد. فقوله: «علي» قرينة تدل على أن المراد باليد القدرة، وهي أيضًا مع شاهد الحال لاغية على ما قدمنا في النعمة، وهذا جلي واضح. ودليل آخر، وهو أنا إذا تأملنا المراد بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] امتنع فيه أن يكون المراد به النعمة والقدرة، وذلك أن الله تعالى أراد تفضيل آدم على إبليس، حيث افتخر عليه إبليس بجنسه، الذي هو النار، وأنه بذلك أعلى من التراب والطين، فرد الله عليه افتخاره، وأثبت لآدم من المزية

أسباب صرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز

والاختصاص ما لم يثبت مثله لإبليس، بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وفي ذلك ما يدل على أن المراد فيها الصفة التي ذكرنا من وجهين: أحدهما: أن إبليس عند الخصم، خلق بما خلق به آدم، من القدرة والنعمة، فلولا أن آدم خالف إبليس في ذلك، لما كان فيه إثبات فضيلة، وهذا كلام صدر على سبيل الحاجة في إثبات الفضل، فلو تساويا في السبب لما ثبت الحجة لله تعالى على إبليس في ذلك، وذلك مما لا يخفى عليه، فكان يسعه أن يقول: وأنا فقد خلقتني بما خلقت به آدم، فأي فضيلة له عليّ بما ذكرته، وما يؤدي إلى تعجيز الله عن حجته، وإزالة المميز بين الشيئين، فيما قصد التمييز به، بالمخالفة بينهما قول باطل ومحال. والثاني: أنه أضاف الخلق وهو فعل يده سبحانه، والفعل متى أضيف إلى اليد، فإنه لا يقتضي إضافة إلا إلى ما يختص بالفعل، وليس إلا اليد التي ذكرنا، وهذا جلي واضح. ودليل آخر نقول: لا شك أن الرجوع في الكلام الوارد عن الحقيقة والظاهر المعهود إلى المجاز إنما يكون بأحد ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعترض على الحقيقة مانع، يمنع من إجرائها

على ظاهر الخطاب. الثاني: أن تكون القرينة لها تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها. والثالث: أن يكون المحل الذي أضيفت إليه الحقيقة، أو المعنى الذي أضيفت إليه الحقيقة لا يصلح لها، فينتقل عنها إلى مجازها. فإن قالوا: إن إثبات اليد الحقيقية، التي هي صفة لله تعالى، ممتنع لعارض يمنع. فليس بصحيح؛ من جهة أن الباري تعالى، ذات قابلة للصفات المساوية لها في الإثبات؛ فإن الباري تعالى في نفسه ذات، ليست بجوهر ولا جسم ولا عرض، ولا ماهية له تعرف، وتدرك وتثبت في شاهد العقل، ولا ورد ذكرها في نقل، وإذا ارتفع عنه إثبات الماهية. وإذا كان الكل مرتفعًا، والمثل بذلك ممتنعًا: فالنفار من قولنا: «يد» مع هذه الحال، كالنفار من قولنا: ذات، ومهما دفعوا به إثبات ذات مع ما وصفنا فهو سبيل إلى دفع يد، لأنه لا فرق عندنا بينهما في الإثبات، وإن عجزوا عن ذلك لثبوت الدليل القاطع، الملزم للإقرار بالذات، على ما هي عليه مما ذكرنا، فذاك هو الطريق إلى تعجيزهم، عن نفي يد هي صفة تناسب الذات، فيما ثبت لها من ذلك، وهذا ظاهر لازم لا محيد عنه.

وإن قالوا: من جهة أنه اقترن بها قرينة، تدل على صلاحية نقلها، عن حقيقتها إلى مجازها. فذلك محال من جهات: أحدها: أنا قد بينا أن إضافة الفعل إلى اليد، على الإطلاق لا يكون إلا والمراد به يد الصفة، وهذا توكيد لإثبات الصفة الحقيقية، ومحال أن يجتمع مؤكد للحقيقة مع قرينة ناقلة عن الحقيقة. والثانية: أن القرائن قد ذكرناها، وهو أنه إذا أريد باليد النعمة قال: لفلان عندي يد. فعند [ي] قرينة تدل على النعمة. وإذا أريد بها القدرة، قال: لفلان علي يد «فعلي» هي القرينة الدالة على القدرة وكلاهما معدومان هاهنا. والثالث: أن الخصم يدعي أن الداعي إلى ذلك ما يقتضيه الشاهد، من إثبات العضو والجارحة والجسمية، والبعضية والكمية والكيفية، الداخل على جميع ذلك، فحصل مثل وشبيه. وقد بَيَّنَّا أن ذلك محال في حقه: لأن نسبة اليد إليه تعالى كنسبة الذات إليه، على ما تقرر. فإذا ارتفع هذا بطل السبب المعارض للحقيقة، النافي لإثباتها والموجب لإبدالها بالمجاز. وإن قالوا: إن المحل الذي أضيفت إليه اليد -وهو ذات الباري- لا يصلح لإثبات اليد الحقيقية. فهذا محال، من جهة أنا قد اتفقنا على أن ذات الباري تقبل إضافة الصفات الذاتية على

سبيل الحقيقة، كالوجود والذات، والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من صفات الإثبات، على ما قدمناه. وإن قالوا: إن المعنى الذي أضيف إلى الصفة، لا يصلح إضافة اليد الحقيقية إليه من جهة أن آدم كان جسمًا، وإضافة الفعل باليد إليه، يقتضي إثبات المماسة باليد الفاعلة، وذلك محال؛ من جهة أن يد الباري وذاته لا تقبل المماسة للأجسام. وهذا قول باطل؛ من جهة أنا إذا أثبتنا اليد، التي هي صفة لله تعالى، على مثل ما وصفنا انتفت المماسة، والفعل المضاف إليها نطقًا ونصًا ثابتًا بطريق مقطوع عليه، فنفينا ما نفاه الإجماع، وأثبتنا ما أثبته النص والنطق، وجرى ذلك مجرى الذات قولًا واحدًا في الحكم. والثاني: أن هذا إنما يلزم، إذا كان الفعل وكل الأحوال، لا بد له من المماسة وقد وجدنا فعلًا يؤثر وجوده في محل من محل آخر، ولا مماسة بينهما مع تساويهما في الجسمية؛ وذلك كما تراه من حجر المغناطيس؛ فإنه يؤثر في حركة الحديد، وانتقاله عن محله من غير مماسة، تقع بين الفاعل والمفعول، والعلة في ذلك قد تكون بين الفاعل والمفعول، وتستغني بذلك عن المماسة، ومثل هذا ظاهر لا خفاء به. فلما ثبت أنه لا سبيل

إلى إثبات المماسة، أثبتنا الفعل للنص عليه، واستغنينا عن المماسة بواسطة. قالوا: الأصل في اليد الفاعلة، أن تكون جارحة، عند التعارف والإطلاق، فانتقلنا عن ذلك إلى تأويلها في حق آدمي بما يصلح وهو النعمة. واليد في اللغة تقال: ويراد بها النعمة والمنة: ولهذا يقال: له عندي يد. وله عندي أيادٍ. والله تعالى له في خلق آدم عليه السلام نعمتان: نعمة دين، ودنيا، فاقتضى ذلك تأويلها على ماذكرناه. قلنا: قد أبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل، أو الوجه الموجب اعتراض سبب مانع من إثبات الكلام على أصله وحقيقته، وما يبدر إليه الفهم والتعارف، في عادات أهل الخطاب، ولم يوجد ذلك هاهنا؛ ولأنه لو أراد باليد النعمة لقال: لما خلقت يدي لما خلقت نعمتي فإن نعمة الدين والدنيا خلق لها. ومما يحقق هذا أن الخلق بنعم الدين لا يصلح؛ لأن نعم الدين: الإيمان، والتعبد، والطاعة. وكل ذلك عندهم مخلوق، والمخلوق لا يخلق به. وكذلك نعم الدنيا هي اللذات من الشهوات، وهذه كلها مخلوقة، وبعضها أعراض، وهذا بطريق القطع لا يجوز أن يخلق به، فكان هذا التأويل من هذا الوجه باطل.

قالوا: إنما أضاف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفًا وتعظيمًا على إبليس، ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف؛ ولهذا قال في ناقة صالح [ناقة الله] ويقال في مكة: بيت الله، فجعل هذا التخصيص تشريفًا، وإن كان ذلك لا يمنع من تساوي أنها كلها لله، وكذلك البيوت، ومثله هاهنا. قلنا: التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة، اقتضى مجرد التشريف، فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة، أوجب ذلك إثبات الصفة، التي لولاها ما تمت النسبة، فإن قولنا: خلق الله الخلق بقدرته. لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة الله، اقتضى ذلك إثبات إحاطة بصفة هي القدرة، ولا يكون مجرد النسبة واجب منها الصفة، فكذلك هاهنا لما كان ذكر التخصيص، مضافًا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة. وهذا لا شك فيه ولا مرية، وبهذا يبعد عما ذكروه» . قال: «وأما قوله (بيدي) قدرتي؛ لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة، ولهذا أنشد في ذلك: فسلمت وما لي بالأمور يدان

ويحقق هذا ويوضحه أن الخلق من جهة الله، إنما هو مضاف إلى قدرته، لا إلى يده، ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته، ويستغني عن يد وآلة، يفعل بها مع قدرته. قلنا: قد بينا هذا فيما مضى، وأبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل به، إذ الحاجة مرتفعة، ولأن قدرة الله واحدة، لا تدخلها التثنية والجمع، وإذا امتنعت التثنية منها وضعًا امتنع عنها ذلك لفظًا. قالوا: قد يرد لفظة التثنية والجمع والمراد به الواحد؛ ولهذا «العالم» اسم توحيد والمراد به الجمع، وقال تعالى {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) } [ق: 24] والمراد به ألق، ومثله هاهنا. قلنا: إثبات القدرة واحد لله تعالى، أصل ثبت بالأخبار والنقل، وهو مما يعتري القصر والتخصيص فيه، وحمل اليد عليه يقتضي إدخال الشك في أصل عظيم، يكفر مخالف الحق فيه، فكان مراعاة هذا الأصل، بحراسته عن مقام شك أولى من إدخال التأويل هاهنا، وهذا يكفي في الإعراض عن مثل هذا التأويل.

المثبتون لصفات الله أربعة أصناف

وأما قولهم: «العالم» اسم جمع توحيد. فليس كذلك؛ بل العالم اسم [جمع] لا واحد له من لفظه ولا يقع على الواحد. قال: وأما قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] فإن ما احتجنا فيه إلى الانتقال عن لفظه لما ثبت أن المأمور واحد، فصار قوله (ألقيا) بمعنى ألق. وقد بينا هاهنا امتناع التأويل وإبطال سببه، وأن القائلين بهذه التأويلات، يجوزون أن يكون المراد بالانتقال غيرها، وإنما دخلوا فيها على سبيل الظن، ومحال نفي صفة لله تعالى بطريق هو على هذه الصفة» . ولا ريب أن المثبتين لهذه الصفات، أربعة أصناف: صنف يثبتونها، وينفون التجسيم والتركيب، والتبعيض مطلقًا، كما هي طريقة الكلابية والأشعرية، وطائفة من الكرامية كابن الهيصم

وغيره، وهو قول طوائف من الحنبلية، والمالكية، والشافعية، والحنفية، كأبي الحسن التميمي، وابنه أبي الفضل، ورزق الله التميمي، والشريف أبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلي، والشريف أبي جعفر، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي

الحسن بن الزاغوني، -ومن لا يحصى كثرة- يصرحون بإثبات هذه الصفات، وبنفي التجسيم والتركيب والتبعيض والتجزئ والانقسام، ونحو ذلك. وأول من عرف أنه قال هذا القول هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم اتبعه على ذلك خلائق لا يحصيهم إلا الله. وصنف يثبتون هذه الصفات، ولا يتعرضون للتركيب والتجسيم، والتبعيض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة، لا بنفي ولا إثبات؛ لكن ينزهون الله عما نزه عنه نفسه، ويقولون إنه (أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد) ويقول من يقول منهم: مأثور عن ابن عباس وغيره: أنه لا يتبعض فينفصل بعضه عن بعض. وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزئته. بمعنى انفصال شيء منه عن شيء. وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة، وأئمتها، وعليه أئمة الفقهاء وأئمة الحديث، وأئمة الصوفية، وأهل الاتباع المحض من الحنبلية،

موقف السلف من إطلاق لفظ الجسم ولفظ الجزء ولفظ البعض على الله تعالى

على هذا القول يحافظون على الألفاظ المأثورة، ولا يطلقون على الله نفيًا وإثباتًا إلا ماجاء به الأثر، وما كان في معناه. وصنف ثالث: يثبتون هذه الصفات ويثبتون ما ينفيه النفاة لها، ويقولون: هو جسم لا كالأجسام، ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم. وهذا قول طوائف من أهل الكلام المتقدمين والمتأخرين. وصنف رابع: يصفونه مع كونه جسمًا بما يوصف به غيره من الأجسام، فهذا قول المشبهة الممثلة، وهم الذين ثبت عن الأمة تبديعهم وتضليلهم. فلفظ «الجسم» لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف في حق الله لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا ذموا أحدًا ولا مدحوه بهذا الاسم، ولا ذموا مذهبًا ولا مدحوه بهذا الاسم، وإنما المتواتر عنهم ذم الجهمية الذين ينفون هذه الصفات، وذم طوائف منهم كالمشبهة، وبينوا مرادهم بالمشبهة. وأما لفظ «الجزء» فما علمت أنه روي عن أحد من السلف نفيًا ولا إثباتًا، ولا أنه أطلقه على الله أحد، من الحنبلية ونحوهم في الإثبات، كما لا أعلم أن أحدًا منهم، أطلق عليه لفظ الجسم في الإثبات، وإن كان أهل الإثبات لهذه الصفات، منهم ومن غيرهم، يثبت المعاني التي يسميها منازعوهم تجسيمًا، وتجزئة

وتبعيضًا، وتركيبًا وتأليفًا، ويذكرون عنهم أنهم مجسمة بهذا الاعتبار، لإثباتهم الصفات التي هي أجسام في اصطلاح المنازع. وأما لفظ «البعض» فقد روي فيه أثر يطلقه بعض الحنبلية، وينكره بعضهم. ومع هذا ففي الحنبلية طوائف، تنكر ثبوت هذه الصفات الخبرية في الباطن، كما ينكرها غيرهم. ثم منهم من يتأولها إما إيجابًا لتأويلها، وإما تجويزًا لتأويلها، كما يفعل ذلك متأولو النفاة من مستأخري الأشعرية ونحوهم. ومن ينفي مدلولها ويفوض معناه، كما يفعل ذلك طوائف من هؤلاء وغيرهم، ويسمون ذلك طريقة السلف، كما فعل ذلك المؤسس وغيره. وفيهم وفي غيرهم طوائف لا تحكم فيها بنفي ولا إثبات؛ بل تطلق ألفاظ النصوص الواردة بها، وتقف عن إثبات هذه المعاني ونفيها: إما شكًّا وإما إعراضًا عن الفكر في ذلك. وقد بينا مقالات الناس منهم ومن غيرهم في [غير] هذا الموضع. والمقصود بهذا الكتاب الكلام على ما ذكره من حجج

فريقي النفاة والمثبتة. وقد رووا بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين في الصمد: الذي لا جوف له ولفظ بعضهم: لا يخرج منه شيء كما روى ابن أبي عاصم، والطبراني عن عكرمة من وجوه أنه قال: الصمد الذي لا جوف له ومن رواية ابن أبي شيبة عن

غندر عن شعبة [عن] عطاء عن ميسرة قال: المصمت، وقال مجاهد: هو المصمت الذي لا جوف

له، وعكرمة قال: الذي لا يخرج منه شيء، ورواه الطبراني أيضًا من حديث عبد الله بن إدريس عن شعبة، وروى الطبراني قال حدثنا زكريا، حدثنا القاضي، حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي،

حدثنا أحمد الدينوري، حدثنا الحكم بن ظهير، عن معمر، عن أبي بن كعب قال: الصمد الذي لم يخرج منه شيء، ولم يخرج من شيء، الذي لم يلد ولم يولد، وذكر عن عطاء. وعن الحسن وقتادة قالا: الباقي بعد فناء

خلقه، وفي رواية أنه قال الحسن: الدائم. مع أن الحسن قال أيضًا، كما قال عكرمة ومجاهد، وسعيد بن جبير وعطية، والضحاك والسدي، وغير هؤلاء. ورووه ليس

بأجوف، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، وقال أبو صالح: الذي ليس له أمعاء، وروى

الطبراني عن ابن مسعود قال: الصمد الذي ليس له أحشاء، وعنه أيضًا: أنه السيد الذي انتهى سؤدده، وهذا قول أبي وائل، وهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس. وقد بسطنا هذا

مناقشة المؤلف للرازي في نقله عن الحنابلة وغيرهم أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض في حق الله تعالى

في غير هذا الموضع. وهذه الصفة تستلزم امتناع التفرق عليه، وأن يخرج منه شيء؛ إذ ذلك ينافي الصمدية، وهو مما احتج به في أنه جسم مصمت، وقد ذكره المؤسس في حجج منازعيه وأجاب عنه، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. وقد قال أبو القاسم لما روى عبارات الصمد قال: «وهذه الصفات كلها، صفات ربنا جل جلاله، ليس يخالف شيء منها -يعني في- هو المصمت، الذي لا جوف له، وهو الذي لا يأكل الطعام، وهو الباقي بعد فناء خلقه» . الوجه الرابع عشر: أن قولك عن الحنابلة وغيرهم أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض؟ أو ما هو في معناه في اصطلاح المتكلمين أو بعضهم؟ أما الأول: فإن لفظ الأجزاء والأبعاض، إذا أريد به أنه يتجزأ أو يتبعض التبعيض والتجزئ المعروف بمعنى وقوع ذلك،

كما تتجزأ وتتبعض الثياب واللحم، وغيرها، كأبدان الحيوان، وكما يتجزأ ويتبعض الحيوان والثمار والخشب والورق ونحو ذلك، وكما يتجزأ ويتبعض الحيوان بخروج المني وغيره من الفضلات منه، ومن ذلك يولد شَبَهُه منه بانفصال جزء منه، كمني الرجل ومني المرأة ودمها، فهذا يمتنع باتفاق المسلمين؛ ولم يقل أحد من الحنابلة، بل ولا أحد من المسلمين، فيما علمناه، أنه يتجزأ ويتبعض بهذا المعنى. وكذلك لم يقولوا: أنه يمكن تجزئته وتبعيضه، كما يمكن تبعيض الجبال ونسفها، وكما يمكن انشقاق السماء وانفطارها عند المسلمين وغيرهم، ممن يؤمن بالقيامة الكبرى -وإن كان ذلك غير ممكن عند من أنكر ذلك من المشركين والصابئين من الفلاسفة وغيرهم- فالأجسام المخلوقة يَقْدِرُ الله على أن يجزئها ويبعضها فيفرقها ويمزقها، وهي في العادة ثلاثة أقسام: أحدها: الأجسام اللينة الرطبة، التي تقبل التجزئة بسهولة. والثاني: الأجسام اليابسة الصلبة، التي تقبل التجزؤ بقوة.

الذين قالوا بأن الله جسم طائفتان

والثالث: ما لم تجري العادة بتجزئته، ولكن يعلم قبوله للتجزئ. ولم يقل أحد من المسلمين أن الخالق سبحانه يمكن أن يتفرق وينفصل بعضه من بعض، بل هو أحد صمد. والذين قالوا إنه جسم نوعان: أحدهما: -وهو قول علمائهم- إنه جسم لا كالأجسام، كما يقال ذات لا كالذوات، وموصوف لا كالموصوفات، وقائم بنفسه لا كالقائمات، وشيء لا كالأشياء، فهؤلاء يقولون هو في حقيقته ليس مماثلًا لغيره بوجه من الوجوه، لكن هذا إثبات أن له قدرًا يتميز به، كما إذا قلنا موصوف، فهو إثبات حقيقة يتميز بها، وهذا من لوازم كل موجود، ولهذا يقولون: نعني بأنه جسم، أنه قائم بنفسه، ونحو ذلك مع قولهم: إنه ذو الأبعاد الثلاثة، لأنهم يقولون: لا يعقل موجود قائم بنفسه إلا هكذا، ويقولون: إن المشركين وأهل الكتاب لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ربك الذي تعبد هو من ذهب؟ هو من فضة؟ هو من كذا؟ فأنزل الله هذه السورة تنزيهًا أنه ليس من جنس شيء من

الأجسام، ولا من جنس شيء من الذوات، ولا من جنس شيء من الموصوفات، والأجسام هي الذوات، وهي الموصوفات، وهؤلاء يقولون: إن حقيقته مخالفة سائر الحقائق، فيمتنع عليه أن يجوز عليه ما يجوز عليها، من عدم أو فناء أو تفرق، أو تبعيض ونحو ذلك. أما النوع الثاني: وهم الغالبية الذين يحكى عنهم أنهم قالوا: هو لحم وعظم ونحو ذلك. فهؤلاء وإن كان قولهم فاسدًا ظاهر الفساد: إذ لو كان لحمًا وعظمًا، كمل يعقل لجاز عليه ما يجوز على اللحوم والعظام، وهذا من تحصيل التمثيل الذي نفاه الله عن نفسه؛ فإنه سبحانه وتعالى إذ قال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص: 4] وقال: إنه (أحد) وقال إنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فإنه قد دخل في ذلك ما هو أيضًا معلوم بالعقل، وهو أنه لا يكون من جنس شيء، أو بما يقتضي أنه يجوز [عليه] الإشارة إلى شيء دون شيء من الأشياء، وإن كان هو أكبر مقدارًا من ذلك الشيء، فإن القدر

الصغير من ذهب أو فضة أو نحاس، هو من جنس المقدار الكبير، وهذا بعينه هو الذي نزه الله نفسه عنه في هذه السورة، وهو الذي سأل عنه من سأل من المشركين لما قالوا: هو من ذهب؟ هو من فضة؟ ونحو ذلك. فمن قال بالتشبيه المتضمن هذا التجسيم فإنه يجعله من جنس غيره من الأجسام، لكنه أكبر مقدارًا، وهذا باطل ظاهر البطلان شرعًا وعقلًا. وهؤلاء هم «المشبهة» الذين ذمهم السلف، وقالوا: المشبه الذي يقول: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فإن هذا التشبيه هو في الجنس، وإن كان المشبه أكبر مقدارًا من المشبه به، إذ لا يقول أحد إلا أنه أكبر. ومع ظهور بطلان قول هؤلاء، لم ينقل عنهم أنهم جوزوا عليه التبعيض والتفرق، لكن هذا لازم قولهم: فإنهم متى جعلوه من جنس غيره، جاز عليه ما يجوز على ذلك الغير، إذ هذا حكم المتجانسين المتماسكين. فهم إن أجازوا عليه من التبعيض والتفرق ما يجوز على مثله، لزمهم القول بجواز تبعيضه وتفرقه، بل بجواز فنائه وعدمه. وإن لم يجوزوا ذلك كانوا متناقضين، وقائلين ما لا حقيقة له، فإنهم يقولون: هو من جنسه وما هو من جنسه.

وأما إن أراد بلفظ «الأجزاء والأبعاض» ما يريده المتكلمون بلفظ الجسم والتركيب -وهو الذي أراده- فإن الجسم كل جسم عندهم له أبعاض وأجزاء: إما بالفعل على قول من يثبت الجوهر الفرد، وإما بالإمكان على قول من ينفيه - فيقال له: هذا المعنى هو كما يريد الفلاسفة، والمعتزلة، بلفظ الأجزاء الصفات القائمة به، ويقولون: ليس فيه أجزاء حد، ولا أجزاء كم. وعندهم أن الأنواع مركبة من الجنس -وهو جزؤها العام- والفصل -وهو جزؤها الخاص- فإن أردت هذا المعنى فلا ريب أن الحنابلة هم من مثبتة الصفات، وهم متفقون على أن له علمًا وقدرة وحياة، فهذا النزاع الموجود فيهم هو الموجود في سائر الصفاتية.

عجز الرازي عن وجود تناقض للحنابلة أو مخالفة للحس أو العقل

وأما وصفه بالحد والنهاية، الذي تقول أنت أنه معنى الجسم، فهم فيه كسائر أهل الإثبات على ثلاثة أقوال: منهم من يثبت ذلك، كما هو المنقول عن السلف والأئمة. ومنهم من نفى ذلك. ومنهم من لا يتعرض له بنفي ولا إثبات. ونفاة ذلك منهم يثبتون له مع ذلك الصفات الخبرية: لكن لا اختصاص للحنابلة بذلك كما تقدم بعضه، وكما سيأتي حكاية مذاهب الأئمة والأمة في ذلك. ومنهم طائفة لا تثبت الصفات الخبرية. الوجه الخامس عشر: أن هذا القول الذي حكيته عن الحنابلة -مع أنك لم تؤد الأمانة في نقله، بل نقلته بلفظ لا يطلقونه، بحيث يفهم المستمع معان لم يقصدوها، ويوجب أن يعتقد في مذهب القوم ما لا يعتقدونه- لم تذكر عنهم تناقضًا فيه، كما ذكرته عن الكرامية، ولا ذكرت أنهم خالفوا لا المحسوس ولا المعقول، كما ذكرته عن الكرامية، ولا ذكرت أنهم أثبتوا شيئًا يعلم بالحس أو بالعقل بطلانه، كما ذكرته عن الكرامية، ولا وصفت به قولهم من مخالفة البديهة العقلية. وهذا الذي

ذكرته هو الواقع، فإن أحدًا من العقلاء لم نعلمه ادعى أن فساد هذا القول معلوم بالضرورة العقلية -كما يقولونه في قولك، والقول الذي ذكرته عن الكرامية- بل غايتهم أن يدعوا أنه معلوم الفساد بدقيق النظر. ثم كل طائفة يثبتون فساد الطريق التي نفت بها الأخرى ذلك، وهذا يبين أنه ليس عند العقلاء في ذلك دليل يبقى عليه، بل ذكرت أنهم مع هذا الإثبات يقولون: «بأن ذات البارئ لا تماثل الذوات» وهذا حق لا ريب فيه. فما ذكرته هو تقرير لهذا القول ومدح له، وليس فيه ما يكون إلزامًا لك عليهم، ولا ما يقتضي تناقضًا فيه، فإن إثبات موجود ليس مماثلًا لغيره من الموجودات، لا يخالف حسًا ولا عقلًا، وهذا هو الذي تقدم ذكرنا له أن قوله: «لا بد من الاعتراف بوجود موجود على خلاف الحس والخيال» أنه إذا أراد بذلك أنه لا يماثل المحسوسات، فلا فرق في ذلك بين المحسوسات والمعقولات وغيرها؛ فإنه لا يماثل شيئًا من الأشياء المخلوقة بوجه من الوجوه، سواء سميت حسيات أو متخيلات أو عقليات، أو سميت جسمانيات أو روحانيات. فإذن ما تثبته من نفي المماثلة، لا يدل على ما قصدته من إثبات شيء على خلاف حكم الحس والخيال، دون حكم العقل، أو نفي التماثل، لا فرق بين جميع المدركات بجميع أنواع الإدراكات.

وقد ذكرنا فيما تقدم، أن نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق، مما علم بالشرع والعقل، وذلك لا يقتضي إثبات ما يعلم بالبديهة انتفاؤه، أو إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فهو أيضًا يقتضي انتفاء مماثلة الخالق للمخلوق، كما بيناه فيما تقدم؛ إذ التماثل يقتضي أن يجوز ويجب ويمتنع لكل منهما، ما يجوز ويجب ويمتنع للآخر، فيلزم أن يكون الشيء الواحد خالقًا مخلوقًا، قديمًا محدثًا، موجودًا معدومًا، واجبًا ممكنًا، قادرًا عاجزًا، عالمًا جاهلًا، غنيًّا فقيرًا، حيًّا ميتًا؛ ولهذا كان هذا مذهب السلف قاطبة، يثبتون هذه الصفات الخبرية، وينفون التمثيل، وكانوا ينكرون على المشبهة، الذين يمثلون الله بخلقه، وهم على الجهمية، الذين ينكرونـ[ـه] أعظم نكيرًا، وأشد تضليلًا وتكفيرًا، وكلامهم في ذلك أكثر وأكبر. وأما لفظ «الجسم» و «الجوهر» و «المتحيز» و «المركب» و «المنقسم» فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف، كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات، إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك من النفاة، الذين نفوا ما جاءت به

أول من تكلم بالجسم نفيا وإثباتا طوائف من الشيعة والمعتزلة

النصوص، والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص. كما ذكرنا أن أول من تكلم بالجسم نفيًا وإثباتًا هم طوائف من الشيعة والمعتزلة، وهم من أهل الكلام، الذي كان السلف يطعنون عليهم، وهم في مثل هذا على المعتزلة أعظم إنكارًا، إذ المتشيعة لم يشتهر عن السلف الإنكار عليهم، إلا فيما هو من توابع التشيع، مثل مسائل الإمامة، التي انفردوا بها عن الأمة وتوابعها، بخلاف مسائل الصفات والقدر، فإن طعنهم فيه على المعتزلة، معروف مشهور ظاهر عند الخاص والعام، وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة في ذلك، فأما متأخروهم من عهد بني بويه، ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو

ذلك، فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم، والمعتزلة شيوخ هؤلاء، فما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبيه -أبي جعفر الطوسي، والملقب بالمرتضى- ونحوهم من كلام المعتزلة، وصار حينئذ في

نقل الرازي عن الحنابلة بأنهم معترفون أن ذات الرب مخالفة لذوات هذه المحسوسات وتعقيب المؤلف عليه

المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع، إما تسوية علي بالخليفتين، وإما تفضيله عليهما، وإما الطعن في عثمان، وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر. وقدماء المعتزلة، كعمرو بن عبيد وذويه، كانوا منحرفين عن علي، حتى كانوا يقولون: لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم نقبلها: لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه. فهذا الذي عليه متأخرو الشيعة، والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم. الوجه السادس عشر: أنك ذكرت عن الحنابلة «أنهم معترفون بأن ذاته تعالى مخالفة لذوات هذه المحسوسات» وهذا حق. لكن تخصيصك هذه المحسوسات يشعر أن في

الوجود أو في العلم، ما لا تكون ذات الله مخالفة له، وليس كذلك، [بل] هو سبحانه ليس كمثله شيء. فإن كان لفظ المحسوسات يعم سائر الموجودات، فلا فرق بين قولك: «مخالفة لذوات هذه المحسوسات» وقولك: «مخالفة لذوات هذه الموجودات، والمعلومات» وإن لم يكن عامًّا كانت هذه عبارة رديَّة، وكان الواجب أن يقال: مخالفة لذوات المحسوسات، وإن قيل: إنه ليس من المحسوسات، كما يقول الفلاسفة في العقول والنفوس الناطقة. وكذلك لو قيل: المخالف للجسمانيات والروحانيات. على لغة العامة الذين يفرقون بين مسمى الجسم والروح؛ إذ الجسم عندهم أخص مما هو عند المتكلمين؛ ولهذا يفرقون بين الأجسام والأرواح. وأما اصطلاح المتكلمين فلفظ الجسم عندهم يعم هذا كله. وكذلك قولك: «لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت» كلام صحيح؛ بل لا يساويها في شيء من الأشياء في صفات كمالها. وأما صفات النقص، فلا يوصف بها بحال، فهو سبحانه حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، حي لا يموت، لا يجوز عليه ضد العلم والقدرة والغنى وغير ذلك من صفات كماله، بل هو

نقل المؤلف عن إبطال التأويلات للقاضي أبي يعلى

القدوس السلام، وصفات الكمال، [كـ] العلم والقدرة والرحمة، لا يساوي منها شيء من صفاته، شيئًا من صفات مخلوقاته، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - في كتابه «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» مع جمعه فيه للأخبار الواردة في الصفات، وإبطاله التأويلات التي ذكرها ابن فورك وغيره، مثل ما ذكره الرازي في «تأسيس تقديسه» . قال القاضي أبو يعلى: «لا يجوز ردُّ هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله، لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة» وذكر كلام الزهري، ومكحول، ومالك، والثوري،

ووكيع، والأوزاعي، والليث، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن عيينة، والفضيل بن عياض، وعبد الرحمن بن مهدي، وأسود بن سالم، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وقال في كلامه: «يدل على إبطال التأويل، أن الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها، ولو كان التأويل سائغًا لكانوا إليه أسبق، لما فيه من إزالة التشبيه ورفع

نفي مساواة ذات الرب تعالى لغيره لايقتضي نفي التمثيل والتشبيه

الشبهة» . الوجه السابع عشر: أن يقال: ما ذكره من «أنه لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات، في هذه الصفات، لزم افتقاره إلى خالق آخر، ولزم التسلسل، أو لزم القول بأن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق، وذلك يلزم منه نفي الصانع» فهذه الحجة وإن كانت في نفسها صحيحة، تدل على نفي هذه النقائص، فليست حجة على نفي التمثيل والتشبيه، فإن هذه النقائص يجب نفيها مطلقًا، وأما صفات الكمال، فيجب نفي التشبيه والتمثيل فيها، فإن قوله: «لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات» . فرض في الدليل من غير حاجة إليه، وتخصيص موهم، في هذه الصفات لا يستلزم ذلك، وليس ناف فرض المساواة، في غير هذه

الصفات، ولا يستلزم ذلك، وليس الأمر كذلك، بل المساواة في أي صفة فرضت، تستلزم المحال، والجمع بين النقيضين. وأما هذه الصفات المذكورة، فلا يحتاج تنزيهه عنها، إلى أن ينفي عنه مساواته لسائر الذوات في ذلك، بل هذه منتفية عنه، مع قطع النظر عن التشبيه والتمثيل؛ فإن انتفاء الموت والمرض، وغير ذلك عنه، لم ينف لمجرد لزومه التشبيه والتمثيل. ولهذا لو قيل: لو جازت عليه هذه الصفات، للزم افتقاره إلى خالق آخر، لأن هذه مستلزمة للعدم، وجواز العدم، كان دليلًا صحيحًا، من غير أن يقال: لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات. وهذه الحجة مثل أن يقال: لو كانت ذاته مساوية للذات، الجاهلة والعاجزة في العجز والجهل، امتنع خلق العالم منه ونحو ذلك. فذكر المساواة والمماثلة، في مثل هذا الدليل غلط فاحش، لأن هذه النقائص، إذا ضم إليها المقدمة، التي يقف الدليل عليها، يجب تنزهه عن قليلها وكثيرها، لوجوب اتصافه بأضدادها، لما في ذلك من المماثلة لتلك الذوات، بل تنزيهه عن مساواة تلك الذوات، يوهم أنه

الرب تعالى لا يجوز عليه شيء من النقائص لا ما يساوي فيه الذوات ولا ما يخالفها

لا ينزه إلا عن المساواة فيها فقط، وليس الأمر كذلك. الوجه الثامن عشر: أن يقال: قولك «فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات، في قبول الاجتماع، والافتراق، والتغير، والفناء، والصحة، والمرض، والحياة، والموت» يقال لك: هو لا يجوز عليه من هذه النقائص، ولا ما يساوي فيه هذه الذوات، ولا ما يخالفها؛ بل هو منزه عن قليل ذلك وكثيره، وعن كل ما يمكن العقل أن يقدره من هذه الأجناس، وإن لم يكن مساويًا للذوات في ذلك؛ إذ مساواة الذوات لا يكون إلا فيما يوجد فيها، ولفظ مساواة الشيء للشيء، يشعر بمماثلته فيه؛ بحيث يكونان سواء في ذلك، فكل من هذين المعنيين، لا يجوز تخصيص النفي به من غير موجب. وهو قد يريد بلفظ المساواة في ذلك، مطلق الاشتراك في ذلك؛ لكن العبارة ملبسة؛ وهو باستعمال مثل هذه العبارة في ذلك وقع [في] خطأ كثير في المعاني، كما سنذكره في باقي مسألة تماثل الأجسام أو غيرها. وأيضًا فهذه الأمور ممتنعة عليه بدون وجود هذه

المحسوسات، ومع قطع النظر عن وجودها؛ وإنما نفي ذلك معلوم، من العلم بكونه قديمًا واجب الوجود، بنفسه، حيًّا قيومًا؛ فإن ما كان قيومًا، واجب الوجود بنفسه، لم تكن ذاته قابلة للعدم: إذ الذات القابلة للعدم، تقبل العدم والوجود، فإن كانت [غير] ممكنة لا تقبل الوجود كانت ممتنعة، والممكن لذاته والممتنع لذاته، لا يكون واجبًا لذاته. وكذلك أيضًا لو قبل التفرق والمرض، ونحو ذلك من التغيرات والاستحالات، التي هي مقدمات العدم والفناء وأسبابه، لم يكن حيًّا قيومًا صمدًا، واجب الوجود بنفسه؛ لأن هذه الأمور، توجب زوال ما هو داخل في مسمى ذاته، وعدم ذلك مما هو صفة له أو جزء، ولو زال ذلك لم تكن ذاته واجبة الوجود، بل كان من ذاته ما ليس بواجب الوجود، ثم ذلك يقتضي أن لا يكون شيء منها واجب الوجود، إذ لا فرق بين شيء وشيء، ولهذا كان تجويز هذا عليه، يستلزم تجويز العدم عليه، لأن ما جاز عليه

استدراك المؤلف على الرازي في دليله

الاستحالات، جاز عليه عدم صورته وفسادها. كما هو المعروف في الأجسام، التي يجوز عليها التفرق والاستحالة. فهذا وأمثاله مما يعلم به تقديسه وتنزهه عن هذه الأمور، التي هي عدم ذاته أو عدم ما هو من ذاته؛ ولهذا كان تنزهه عن ذلك بينًا في الفطرة، معروفًا في العقول، للعلم بأنه حق واجب الوجود بنفسه، يستحيل عليه ما يناقض ذلك، فتبين أن ما ذكره من المساواة وإن كان حقًّا، فلم يذكره على الوجه المحقق، ولا ذكر دليله المقرر له، بل ذكر شيئًا يحتاج إليه مع ما فيه من الإيهام. الوجه التاسع عشر: أنه لو قال: لو جازت عليه هذه الصفات، لزم افتقاره إلى خالق آخر، أو لزم أن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق. لكان قد نبه على دليل نفي هذه الأمور، وإن كان لم يبينه ويقرره؛ إذ تجويز هذه الأمور، إنما يستلزم الافتقار إلى خالق. وكون الإمكان أو الحدوث، ليس

لو جاز على الخالق شيء من صفات النقص لامتنع أن يكون هو الخالق القديم

محوجًا إلى الخالق، إذا تبين أن بهذه الأمور يجب أن يكون محدثًا وممكنًا، وهو لم يبين ذلك، فكيف وهو لم يقل ذلك؛ بل علق هذا الانتفاء بمماثلة للممكنات فيه. الوجه العشرون: أنه لو بين أن هذه الأمور، تستلزم الحدوث والإمكان، كان هذا وحده كافيًا في تنزيه الرب عنها، للعلم بأنه قديم واجب الوجود؛ وأما كون الممكن المحدث لا بد له من خالق، وأن الحدوث والإمكان محوج إلى الخالق. فذاك يذكر لبيان ثبوت الخالق القديم واجب الوجود، ولا يذكر لبيان تنزيهه عما يستلزم عدمه؛ فإن الكلام في تنزيهه عن ذلك، إنما هو بعد أن يقرر العلم بوجود الخالق القديم الواجب الوجود، فإذا تقرر ذلك، بين أنه لا يجوز عليه ما ينافي ذلك، لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين؛ لا لأن تجويز ذلك، يقتضي ابتداءً أنه يفتقر إلى خالق؛ إذ الكلام إنما هو في الخالق. فيقال: لو جاز هذا عليه، امتنع أن يكون هو الخالق القديم، وكان هذا أبين في الدلالة على المقصود، مما ذكره في أصل إثبات واجب الوجود. الوجه الحادي والعشرون: أن نفي المماثلة واجب في

لا نسلم أن الخالق لو ساوى غيره في الأمور السابقة لزم افتقاره إلى خالق آخر

صفات الكمال، كالعلم والقدرة والحياة، بل والوجود. فيقال: لو كان مماثلًا لغيره في هذه الصفات، فيوصف غيره بمثل ما يوصف به من الوجود، وصفات كمال الوجود لزم تماثلهما، وإذا تماثلا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر، فيلزم أن يكون القديم محدثًا، والمحدث قديمًا، والواجب ممكنًا والممكن واجبًا، وأمثال ذلك. فهذا ونحوه يدل على أنه ليس مثله شيء في وجوده ونفيه، وصفات الكمال الثابتة لوجوده ونفسه، وإذا انتفى عنه مماثلة شيء له في الوجود وصفات كمال الوجود، كان هذا إثباتًا، لأنه ليس كمثله شيء، وأنه لم يكن له كفوًا أحد، وأنه لا سمي له. أما أن يترك هذا كله ولا يذكر إلا تنزيهه عن صفات النقص، ولا ينزه عنها إلا عن مماثلة للمخلوقات فيها، ولا يذكر دليل لزوم حدوثه وإمكانه، أو لزوم اجتماع النقيضين، مما هو بَيِّنٌ معروف *يبين استحالة ذلك، بل لا يذكر إلا ما يدل على أنه لا بد من واجب الوجود* فهذا كما ترى. فلو قيل له، لكان هذا كلامًا متوجهًا. الوجه الثاني والعشرون: لا نسلم أنه لو ساوى غيره في هذه الأمور، لزم افتقاره إلى خالق آخر، ولزم أن يكون الإمكان

نقد المؤلف للرازي في إلزامه للحنابلة بحجة يقرون بمضمونها

والحدوث غير محوج إلى الخالق. فإنك لم تبين هذه الملازمة، والقول الذي تنفيه لم يحتج إلى هذا الدليل، وإن لم يكن بينًا بنفسه، لم يكن في إثبات واجب الوجود نفيه؛ إذ الكلام في أن واجب الوجود، هل هو متصف به أم لا؟ لا في إثبات واجب الوجود. ثم قد تبين بهذه الوجوه أن هذا المقام، لما قال فيه ما هو حق، لم يحققه لا تصويرًا ولا تصديقًا، والكلام إذا تبين ما هو باطل، وبين ما فيه حق، ثم تبين ولم يقرر، كان فيه ما فيه. الوجه الثالث والعشرون: قوله: «فيثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف، بأن خصوصية ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك

اعتراف بثبوت أمر على خلاف مايحكم به الوهم، ويقضي به الخيال» . يقال: لا يخلو إما أن تكون ناقلًا عنهم ما تقوله؟ أو ملزمًا لهم أن يقولوا ما لم يقولوه؟ فإن كنت ناقلًا عنهم لم يحسن قولك: أنه لا بد لهم من الاعتراف بذلك؛ فإن هذه إقامة للحجة بأن عليهم الاعتراف؛ لا نقل عنهم للاعتراف، مع أن القوم في نفي هذه الآفات والنقائص، ونفي التمثيل والتشبيه، من أعظم الأمة قولًا بذلك -كما دل عليه الكتاب والسنة، والحجج العقلية- لا يحتجون في نفي التمثيل بهذه الحجة الفاسدة التي لا تدل على نفي التمثيل مطلقًا، وإنما تدل إذا كملت على تنزهه، عن بعض الآفات والنقائص، المستلزمة عدمه أو لجواز عدمه. فلا نقلت عنهم ما يقولونه من التنزيه. ولا احتججت على التنزيه، بحجة موجبة مطلقًا؛ بل ولا تدل بنفسها على شيء منه. وإن كنت ملزمًا لهم بمقتضى هذه الحجة، فالإلزام إنما يكون لمن لا يقر بمضمون الحجة، والقوم من أعظم الناس قولًا بموجب هذه الحجة، ووجوب تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن هذه الأمور وغيرها، كما علم ذلك بالشرع والعقل. ومعلوم أن المطلوب إذا كان اعتراف المنازع به من أظهر الأمور، كان إثبات اعترافه

حجة الرازي في نفي النقائص لا تنفي شيئا من التشبيه والتمثيل

بإثبات وجوب اعترافه به، وإثبات الوجوب بمثل هذه الحجة فيه ما فيه، مع [أن] نفي دخول اعتراف الناس لا يقتضي وجوب اعترافهم، لكونهم قد ينازعون في ثبوت الوجوب. الوجه الرابع والعشرون: أن هذه الحجة، إنما توجب أنه لا تجوز عليه هذه الصفات المقتضية للعدم، وهذا ولله الحمد متفق عليه بين المسلمين؛ بل بين المقرين بالصانع، حتى أن عليه المشبهة والمجسمة، الذين يقولون: إنه لحم ودم، وإنه ندم حتى عض يده، وجرى الدم ونحو ذلك؛ لكن يذكر عن بعض اليهود، أنه مرض حتى عادته الملائكة، وهذه الحجة لا تنفي شيئًا من التشبيه والتمثيل، فذكرها ضائع. فما توجبه هذه الحجة يكتفى به في هذا المقام، وما يثبته القوم، وسائر المؤمنين من التنزيه والتقديس لا يعتمد فيه على مثل هذه الحجة. فلم يذكر ما يصلح لهذا المقام لا من المذهب ولا من الدليل. الوجه الخامس والعشرون: أن الذي هو أبلغ من مقتضى هذه الحجة من نفي التمثيل والتشبيه يقولون به، كما يقول به سلف الأمة وسائر الأئمة، وليس فيه حجة لما ادعيته، فكيف في

الحنابلة معترفون بأن الرب لا مثل له رغم مغالطة الرازي في ذلك

مضمون هذه الحجة، وذلك أن نفي التمثيل والتشبيه، لا يقتضي تجويز كونه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا إثبات ما يعلم ببديهة العقل امتناعه، كما تقدم بيانه. الوجه السادس والعشرون: أنك قلت: «هم معترفون بأن ذاته مخالفة لذوات هذه المحسوسات» وهذا نقل صحيح؛ ثم قررت هذا النقل بأن بحثت بالحجة التي ذكرتها، أن خصوص ذاته لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وهذا ليس هو ذلك المنقول، ولا أقمت عليه دليلًا، فكان هذا من الأغاليط، وبه يحصل المقصود من اعترافهم بأنه لا مثل له. الوجه السابع والعشرون: قولك: «فثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف، بأن خصوص ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك اعتراف بثبوت أمر، على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به

الحنابلة مع سائر أهل السنة يقولون إن حقيقة الباري غير معلومة للبشر

الخيال» أمر لم تنقله عنهم، ولا دلت الحجة عليه، حتى يقال يجب اعترافهم به، كما أنها إنما دلت على امتناع العدم والآفات، التي هي ملازمة العدم عليه، كالمرض ونحوه، وهذا حق؛ لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن خصوص الذات، مما لا يصل إليه الوهم والخيال. وإن كان هذا حقًّا، إذا فسر بمعنى صحيح؛ فإن العلم بكونه موجودًا واجب الوجود، يمتنع عليه العدم وما يستلزم العدم، لا يتعرض لكونه يعقل بالعقل والخيال، أو الوهم والحس أو غير ذلك، لا بنفي ولا إثبات أصلًا، فضلًا عن أن يكون كنهها معلومًا أو غير معلوم، فأي ملازمة بين الحجة والدعوى؟! بل لو أقمت الحجج الصحيحة الدالة على نفي التمثيل -كما قررنا نحن- لم يكن في ذلك تعرض لنفي معرفة كنهه، ولا نفي لمعرفته بحس أو خيال أو غير ذلك؛ فضلًا عن كونك لم تذكر إلا ما يقتضي وجوب وجوده! الوجه الثامن والعشرون: أن القوم مع سائر أهل السنة، يقولون: إن حقيقة البارئ غير معلومة للبشر؛ ولهذا اتفقوا على ما اتفق عليه السلف، من نفي المعرفة بماهيته وكيفية

صفاته؛ ثم جمهورهم يقول ما يقوله السلف، من نفي المعرفة بالكيفية، ويقولون: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته بمثال. ومنهم من يقول: كما يقوله طوائف، من النفاة المعتزلة وغيرهم: إنه لا ماهية له فتجري في مقال، ولا كيفية له فتخطر ببال، فلا يحيط أحد من المخلوقين على حقيقة ذاته، ولا يبلغ قدره غيره، كما في الدعاء المأثور: «يا من لا يعلم ما هو إلا هو» بل قد قال في الجنة: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعكم عليه» وتصديق ذلك في كتابه، حيث قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا

أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] فهم لا يحيطون علمًا بكنه عامة المخلوقات، فكيف يحيطون علمًا بكنه الخالق تعالى، وقد قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) } [الإسراء: 85] وفي الصحيح عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الخضر الذي قال الله عنه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) } [الكهف: 65] قال لموسى الذي كلمه الله تكليمًا: «ما نقص علمي وعلمك، من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» لما ركب في السفينة، وقد وقف عليها عصفور فنقر في البحر نقرة، وفي صحيح مسلم، عن عائشة، عن

النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في سجوده، وروي أنه كان يقوله في قنوته، أيضًا: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» فإذا كان أعلم الخلق بربه، لا يحصي ثناءً عليه، فكيف بمن هو دونه بدرجات لا يحصيها إلا الله. وإن كان هذا الذي يقولونه، ويثبتونه بالأدلة الشرعية والعقلية، لم تذكر أنت عليها حجة، ولا نقلت فيها مذهبًا: فقولك: «لا بد من الاعتراف بأن خصوصية ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها» تقصير وتفريط، فإنه لا يصل إلى كنهها لا علم ولا عقل، ولا معرفة

الرازي وأمثاله يضلون عباد الله بمتشابه الكلام

ولا حس، ولا وهم ولا خيال، ولا نوع من أنواع الإدراكات، فتخصيص الوهم والخيال بذلك، يشعر بأن الوهم والخيال يصل إلى كنهها، وأنهم يفرقون بين هذا وهذا، وأنه يجب التفريق بين وصول الوهم والخيال إلى كنهها، وبين وصول العلم والعقل، وكل هذا غلط. الوجه التاسع والعشرون: أنه إذا لم يكن فرق في نفس إدراك كنهه، بين الوهم والخيال، وبين الحس، وبين العلم والعقل، لم يحصل شيء من مطلوبك؛ فإن المطلوب أنه لا بد من الاعتراف بثبوت أمر على خلاف حكم الحس والخيال، والذي ذكر لا فرق فيه بين الحس والخيال وبين العقل؛ فإن هذه الأمور لا تكيف ذاته، ولا يلزم من نفي اكتناه ذاته نفي معرفته بها، كما لم يلزم نفي معرفته بالعلم والعقل. فإن قوله: «لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوص ذاته، التي امتازت به عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك اعتراف بثبوت أمر، على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به «الخيال» -مع أنه لم يذكر حجة عليه- لا فرق فيه بين الوهم والخيال، وبين الحس والعقل والعلم، فإن شيئًا من ذلك لا يصل إلى كنهه. وإذا

لو عارض الرازي معارض فيما ذكره لكان متوجها

كان مقصوده الفرق بين الوهم والخيال، وبين العقل والعلم بهذا -مع أنه لا فرق بينها من هذا الوجه، ومع أن ذلك لا ينفي معرفته بذلك، وإن لم يوصل ذلك إلى كنهه- ظهر أن ما قاله ليس فيه تحصيل لغرضه، مع ما فيه من التفريق بين الأشياء فيما اتفقت فيه. فتدبر هذا كله، فإنه كلام حق [به] ، يعرف كيف أضل هؤلاء لعباد الله، بمتشابه الكلام، كما قال الإمام أحمد في وصفهم: «يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس، بما يتكلمون به من المتشابه» . الوجه الثلاثون: أنه لو عارضه معارض، وقال: قد ثبت أنه لا فرق فيما ذكرته من نفي الوصول إلى كنهه بالعقل والوهم والخيال، ثم ثبت بذلك أنه لا يجب أن لا يكون معلومًا بالعقل، فقد ثبت أيضًا، أنه لا يجب أن لا يكون معلومًا بالوهم والخيال، لكان هذا متوجهًا أكثر من كلامه. الوجه الحادي والثلاثون: أن يقال: الذين اتفقوا من أهل

لا يلزم من عدم وصول العلم والعقل إلى كنه حقيقة الباري أن يكون على خلاف ما يقضيان به

السنة وغيرهم، على أن العباد لم يعرفوا كنهه في الدنيا، تنازعوا في إمكان ذلك، وفي حصول ذلك، عند رؤيته في الأخرى، وهذا يبين أن معرفة حقيقته وكنهه بالحس، أولى منها بالعقل، ثم الخيال والوهم يتبع الحس، فهذا قد يستدل به، على إمكان معرفة كنهه وحقيقته، بالحس والخيال والوهم. الوجه الثاني والثلاثون: قوله: «وذلك اعتراف بثبوت أمر، على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال» كما أنه لا يلزم من عدم وصول العلم والعقل إلى كنه الذات، أن يكون على خلاف، ما يقضي به العلم والعقل، ويحكم به الحس كما تقدم، مع أن هذه العبارة هنا ليست ظاهرة المعنى. الوجه الثالث والثلاثون: أن لفظ «الوهم» ، و «الخيال» في هذه المواضع التي ذكرتها تحتمل شيئين؛ فإن هذه الألفاظ كثيرًا ما تستعمل، فيما يتوهمه الإنسان ويتخيله، مما لا يكون له حقيقة في الخارج، مثل ما يتخيل جبل ياقوت، وبحر زئبق، ونحو ذلك، ومثل ما يتوهم شخصًا أنه عدوه ويكون وليه، أو أنه وليه ويكون عدوه، وأمثال هذه الاعتقادات، التي لا تكون مطابقة، ترتسم في نفس الإنسان فيتخيلها ويتوهمها، وتكون باطلة من

جنس الكذب: ولهذا إذا دفع نوع من هذه الأقوال يقال: هذا خيال، وهذا وهم، وقد أوهم فلان كذا، ومنه سميت الخيلاء. والمختال مختالًا، لأن المختال يتخيل في نفسه من عظمته وقدره ما لا حقيقة له {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) } [الحديد: 23] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الاستعاذة «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» فهمزه الوسوسة، ونفخه

الكبر، ونفثه الشعر، فإن الكبر ينفخه حتى يصير مغطى في الخيال، مع أنه حقيقة كالظرف المنفوخ، من غير أن يكون فيه شيء. ولكن استعمال لفظ «التخيل» و «التوهم» في هذا من جنس استعمال لفظ الاعتقاد الفاسد، والظن والجهل، فيما لا يكون مطابقًا، وإن كان جنس الاعتقاد قد يكون حقًّا وعلمًا، وكثيرًا ما يستعمل فيما يتخيله ويتوهمه، مما يكون له حقيقة في الخارج، فيكون التخيل والتوهم، ولفظ التخيل والتوهم صادقًا مطابقًا، مثل ما يتخيل الإنسان في نفسه، ما أدركه بصره وغيره من الحواس، ويتوهم في نفسه ما علمه من الصفات، إذ قد يصطلح بعض أهل الطب والفلسفة، على أن التخيل للصور، والتوهم للمعاني التي فيها. ولفظ التخيل والتوهم، يعم القسمين المطابقين وغير المطابق، كما يعم لفظ الخبر للخبر الصادق والكاذب، ولفظ الكلام للحق والباطل، ولفظ الإرادة

للمحمود والمذموم، ولفظ الظن والحسبان للمصيب والمخطئ، ولفظ الاعتقاد للحق والباطل. فما يتخيله الإنسان ويتوهمه، قد يكون حقًّا أو باطلًا، مثل ما يعتقده، ويظنه، ومنه سمي السحاب مخيلة، لأنه يخال فيه المطر، وفي حديث عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر، فإذا رأى المطر جلس» ومنه قول الشاعر: أنَّى رأيت مخيلة لمعت ... وتلألأت كمواقع القطر فهذا في التخيل. وأما في «التوهم» بلفظ التهمة؛ وأصله وهمة. يقال إذا توهم في الإنسان شيء من الريب، ثم قد يكون ما اتهم به حقًّا،

وقد يكون باطلًا، ولها في الشريعة حكم معروف، حيث يحبس فيها المجهول الحال، كما في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في التهمة» ولهذا صنف الحارث المحاسبي كتابًا سماه «كتاب التوهم» مضمونه أن يتصور الإنسان في نفسه، ما أخبر الله به من أمور الآخرة وغيرها، ليتذكر ذلك ويحققه في نفسه. واسم الجنس إذا كان يعم نوعين، أحدهما أشرف من الآخر، فقد يخصون

في العرف النوع الأشرف باسمه الخاص، ويبقون الاسم العام مختصًّا بالنوع المفضول، كما في لفظ الحيوان، والدابة وذوي الأرحام والجائز، والممكن، والمباح، وغير ذلك فلهذا كثيرًا ما يخص بلفظ الوهم، والخيال النوع الناقص، وهو الباطل الذي لا حقيقة له، وأما ما كان حقًّا مما يتخيل ويتوهم، فيسمونه باسمه الخاص، من أنه حق وصدق ونحو ذلك، ومن أنه معلوم ومعقول، فإنه إذا كان حقًّا عقله القلب، فصار معقولًا، كما يعقل أمثاله، ويقال: إنه متصور، ومتذكر ونحو ذلك. وهذا بخلاف لفظ العلم والعقل والإحساس، فإن هذا إنما يقال على نفس الإدراك، الذي هو الإدراك الصحيح. ولفظ التخيل والتوهم، لا يدل على نفس الإدراك؛ وإنما يدل على نحو الاعتقاد، الذي يكون مطابقًا للإدراك تارة، ويكون فيما تصور في النفس وتألف فيها وتنشأ فيها، كما تنشأ فيها العلوم بالنظر والاستدلال. وهذا الثاني يكون حقًّا تارة وباطلًا أخرى، كما أن ما يثبته الإنسان في نفسه، من الاعتقادات بالنظر والاستدلال، قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا. ومن هذا التخيل والتوهم، ما يراه الإنسان في منامه، فإنه ينشأ في نفسه في النوم، وإن لم يكن رآه بعينه في النظر. وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجمع بين لفظ الحس، وبين لفظ الوهم والخيال، ويجعلهما في قرن واحد، حتى يقول: «لا بد من الاعتراف بوجود شيء، على خلاف حكم الحس

كل حق في الوجود على خلاف ما يقضي به الوهم والخيال العرفي الباطل

والخيال» فإن الإحساس هو موجب العلم الصحيح، وأصله الإبصار، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) } [مريم: 98] وقال يعقوب: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87] وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» وأما الخيال والوهم، فهو من نحو الاعتقاد، الذي يكون حقًّا تارة وباطلًا أخرى، وقد يخص باسم الباطل. فأين هذا من هذا؟ وإن أراد أنه لا يحس، أي: لا يرى. فهذا باطل، كما تقدم التنبيه عليه. الوجه الرابع والثلاثون: أن يقال له: ما تريد بلفظ الوهم

والخيال؟ أتريد به ما قد يخص هذا اللفظ به في العرف، من تخيل الباطل وتوهمه؟ فلا ريب أن كل حق في الوجود، ينزه عن هذا التوهم والتخيل، وكل حق، فإنه على خلاف، ما يقضي به هذا الوهم والخيال، وكل حق، فهو على خلاف، هذا الوهم والخيال، وما أكثر ما يسمع وصف شيء، بألفاظ فيتخيلونه على صورة، فإذا رأوه وجدوه بخلاف ما تخيلوه، وما أكثر ما يتوهم الإنسان في إنسان شيئًا، فإذا رآه وجده بخلاف ما توهمه. ولا ريب أن الله على خلاف ما يتخيله، ويتوهمه المبطلون من الجهمية وغيرهم، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } [الصافات: 180-182] وقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) } [الإسراء: 43] وقال: {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23) } [فصلت: 22-23] وقال: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) } [الأحزاب: 10-11] وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} إلى قوله {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) } [الفتح: 6-12] وقال: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي

كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) } [الأنبياء: 87] وقال: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) } [الانشقاق: 13-14] وقال {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) } [النجم: 28] {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23) } [النجم: 23] وقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف: 80] . ولا ريب أن الاعتقادات الفاسدة، مثل اعتقاد الكفار في ربهم، وما يتبعها من الإرادات هي خيالات وأوهام باطلة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) } [النور: 39-40] هذا بعد قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) } [النور: 35] وقال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122] . ولا ريب أن كثيرًا من الناس، يتخيل ويتوهم في نفسه صورًا باطلة، ويعتقد أن ربه كذلك، كما يعتقد في ربه اعتقادات

باطلة، ويعتقد أن ربه كذلك. فالاعتقاد والتوهم، والتخيل الباطل، موجود في جانبي النفي والإثبات، والباطل في جانب النفي أكثر منه في جانب الإثبات؛ ولهذا يوجد من الجهمية النفاة، من يعتقد أن الله هو الوجود المطلق، وأنه وجود الموجودات أنفسها، وأنه بنفسه في كل مكان، وأن وجود الموجودات كلها وجود واحد. ويقولون بوحدة الوجود [في] الخارج وأنه عين ذلك الوجود، ونحو ذلك من الاعتقادات، التي يقولون: إنها حصلت لهم بالكشف والمشاهدة، وهي خيالات وأوهام باطلة: إما أن لا يكون لها حقيقة في الخارج، أو يكون لها حقيقة، لكن تكون هي أمر مخلوق، لا تكون هي الخالق سبحانه. وكما يتخيلون ويتوهمون، أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا كذا ولا كذا، مما هو عند أهل العقول السليمة خيالات باطلة، وأوهام فاسدة، لا تنطبق إلا على المعدوم، بل على الممتنع؛ ولهذا يوجد في هؤلاء من يعبد المخلوقات، ومن يعتقد في كثير من المخلوقات، أنه الله،

أضعاف أضعاف ما يوجد في أهل الإثبات، كما قد رأينا وسمعنا من ذلك ما لا يسع هذا المكان ذكر عُشره، فلهذا هم أعظم الناس اختيالًا وتكبرًا، حيث قد يختال أحدهم في نفسه أنه الله ويعظمون فرعون في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) } [النازعات: 24] {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ونحو ذلك من الاختيال الباطل، الذي هو أفسد اختيال وأعظم فرية على الله. تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. وأما إن أراد أنه على خلاف ما يصدق به، ويعتقده ويظنه، ويتوهمه ويتخيله، ويقوله ويصفه، وينعته الأنبياء والمؤمنون به، فهذا باطل، فإن اعتقاد هؤلاء فيه اعتقاد مطابق حق، وإن سمي ظنًّا ونحوه، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 45-46] وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) [الحاقة: 19-20] وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: أنا عند ظن

عبدي بي، فليظن بي خيرًا» وفي صحيح مسلم، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» فمن ظن وتوهم في ربه، أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، كان هذا الظن والتوهم حقًّا، وإن كان الواجب تيقن ذلك، بخلاف من ظن وحسب، أنه لا يسمع سره ونجواه، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف: 80] وقال: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) } [الكهف: 104] . بل لفظ الرؤية، وإن كان في الأصل يكون مطابقًا، فقد لا يكون مطابقًا كما في قوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] وقال: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] . وقد يكون التوهم والتخيل مطابقًا، من وجه دون وجه، فهو حق في مرتبته، وإن لم يكن مماثلًا للحقيقة الخارجة، مثل ما يراه الناس في منامهم. وقد يرى في اليقظة من جنس ما يراه في منامه، فإنه يرى صورًا وأفعالًا، ويسمع أقولًا، وتلك أمثال مضروبة لحقائق خارجة، كما رأى يوسف سجود الكواكب والشمس والقمر له، فلا ريب أن هذا تمثله وتصوره في نفسه، وكانت حقيقته سجود أبويه وإخوته، كما قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] وكذلك رؤيا الملك، التي عبرها يوسف، حيث رأى السنبل بل والبقر، فتلك رآها متخيلة متمثلة في نفسه، وكانت حقيقتها وتأويلها من الخصب والجدب. فهذا التمثل والتخيل حق وصدق في مرتبته، بمعنى أن له تأويلًا صحيحًا، يكون مناسبًا له، ومشابهًا له من بعض الوجوه؛ فإن تأويل الرؤيا مبناها على القياس والاعتبار والمشابهة والمناسبة. ولكن من اعتقد أن ما تمثل في نفسه، وتخيل من الرؤيا، هو مماثل لنفس الموجود في الخارج،

رؤية الله في المنام حق في الرؤيا

وأن تلك الأمور هي بعينها رآها، فهو مبطل، مثل من يعتقد أن نفس الشمس، التي في السماء والقمر والكواكب انفصلت عن أماكنها وسجدت ليوسف، وأن بقرًا موجودة في الخارج، سبعًا سمانًا أكلت سبعًا عِجَافًا: فهذا باطل. وإذا كان كذلك، فالإنسان قد يرى ربه في المنام، ويخاطبه. فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه، مثل ما رأى في المنام؛ فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلًا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده حقًّا، أُتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس. قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة، كانت تلك الصورة حجابًا بينه وبين الله. وما زال الصالحون وغيرهم، يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظن عاقلًا ينكر ذلك، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه؛ إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره، وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين، وحكوا عن طائفة من

المعتزلة وغيرهم، إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام؛ ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام، فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم، نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة، كسائر ما يرى في المنام. فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها؛ بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم، وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى، وإنما ذلك بحسب حال الرائي، وصحة إيمانه وفساده، واستقامة حاله وانحرافه. وقول من يقول: ما خطر بالبال، أو دار في الخيال فالله بخلافه، ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا كان محملًا صحيحًا، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور، أن الله في نفسه مثل ذلك، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة، لا يتصورها الإنسان، ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله، ويتصوره في منامه ويقظته. وإن كان ما رآه مناسبًا مشابهًا لها؛ فالله تعالى أجل

غلط الفلاسفة في ظنهم أن المعقول المجرد يكون له وجود في الخارج

وأعظم. وهؤلاء النفاة من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم، يزعمون أن الرسل فيما أخبروا به من صفات الرب، خيلوا ومثلوا، حتى أخرجوا المعقول في مثال المحسوس، وكذلك يقول هؤلاء المتفلسفة أن ما أخبرت به الرسل من أمر المعاد، أمثال مضروبة لتفهيم المعاد العقلي، واللذة والألم العقليين، ويقول الفارابي وأمثاله: «إن خاصة الأنبياء جودة التخيل والتخييل» . والكلام على هؤلاء وبيان خطئهم، وضلالهم في هذا التخيل والتوهم، الذي هو غير مطابق له، موضع غير هذا، ومن أكثر أسباب غلطهم بناؤهم، على أن المعقول المجرد، يكون له وجود في الخارج، وهم إذا تدبروا ذلك علموا أن المعقولات، التي هي أمور كلية، إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان، وأن الخارج لا يكون فيه شيء، مما هو معقول مجرد، وهي الأمور الكلية، إلا أن يراد بالمعقول في قولهم: مثلوا المعقول في صورة المحسوس؛ ما يحسه الإنسان بنفسه دون جسده، فهذا في الحقيقة محسوس موجود، لكن بالحس الباطن، والوجد الباطن، ليس معقولًا محضًا، ولا في تمثل أن الإنسان يحس جوعه، وشبعه ولذته، وألمه، أنه ينتقل حكمه من

لا فرق عند السلف في إثبات الصفات العينية والمعنوية فإن قال الرازي بقية الطوائف بينهم نزاع قيل والحنابلة بينهم نزاع

الباطن إلى الظاهر، كما ينتقل حكم الحس بالظاهر إلى الباطن، وإذا قدر وجود النفس بغير بدن، فهو يحس بما يجده من لذة وألم، وذلك أمر محسوس لها، وبجنس أسباب ذلك، لا يكون لها معقولًا مجردًا كليًّا، فإن ذاك إنما ثبوته في مجرد العلم والاعتقاد، ولا بد له من أفراد موجودة في الخارج وإلا لم يكن حقًّا. ومن المعلوم أن هذا الظن، أن النفس تلذذ بهذه الأمور، دون إدراك الحقائق الخارجية من أفسد الظن، وهو كقول من يقول: إن النفس تتلذذ بتمثل المحسوس، والمشتهى دون المباشرة لحقيقته الخارجة، فقولهم: يمثل المعقول في صورة المحسوس، كلام لا حقيقة له، لكن لو قال: يمثل الغائب، في صورة الشاهد، ويمثل الغيب في صورة الشهادة، كان هذا حقًّا؛ فإن الإنسان إنما يعلم ما يشهده ويحس به، بالقياس، والتمثيل لما شاهده، لكن هذا لا يقتضي أن تكون الأمور الغائبة المتمثلة، ليس في أنفسها مما يحس، بل يعقل عقلًا مجردًا، فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقوله. الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: إن الصحابة والتابعين وسائر سلف الأمة وأئمتها، وأئمة أهل الحديث والفقهاء، والصوفية والمتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية،

وغيرهم من طوائف المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم على إثبات هذه الصفات الخبرية، وبقية الصفاتية النفاة لها، في الصفات التي يسمونها الصفات العقلية، كالحياة والعلم والقدرة، لكن من هؤلاء الصفاتية من يجعل تلك الصفات الخبرية، صفات معنوية أيضًا، قائمة بالموصوف مثل هذه، وإنما يفرق بينهما، لافتراق الطريق التي بها عُلِمَتْ، فتلك عُلِمَتْ مع الخبر الصادق بالعقل، وهذه لم تُعْرَف إلا بالخبر. وأما السلف والأئمة وأهل الحديث، وأئمة الفقهاء والصوفية، وطوائف من أهل الكلام، فلا يقولون: إن هذه من جنس تلك، لا يسمونها أيضًا صفات خبرية؛ لأن من الصفات المعنوية ما لا يُعْلَم إلا بالخبر أيضًا، فليس هذا مميزًا لها عندهم، ومنهم من يقول: هذه معلومة بالعقل أيضًا. وعلى القولين سواء كانت صفات عينية [أ] ومعنوية: فيقال من المعلوم أن الموجودات في حقنا، إما أجسام كالوجه

واليد، وإما أعراض كالعلم والقدرة، فإذا كان أهل الإثبات متفقين على أن العلم والقدرة كلاهما ثابت لله، على خلاف ما هو ثابت للمخلوق، وإن لم يكن في ذلك نفيًا لحقيقته، ولا تمثيلًا له بالمخلوق، فكذلك إذا قالوا في هذه الصفات: إنا نثبتها على خلاف ما هو ثابت للخلق، أو لا فرق بين ثبوت ما هو عرض فينا، مع كونه غير مماثل للأعراض وبين ما هو جسم فينا مع كونه غير مماثل للأجسام؛ بل يقال: من المعلوم المتفق عليه بين المسلمين، أن الله حي عالم قادر مع كونه ليس من الأحياء العالمين القادرين، بل لا خلاف بين أهل الإثبات أنه موجود، مع كونه ليس مثل سائر الموجودات؛ بل العقل الصريح يقتضي وجود موجود واجب قديم. ويقتضي بأنه ليس مماثلًا للموجود المحدث الممكن، وإلا للزم أن يجوز على الواجب، ما يجوز على المحدث، فبأوائل العقل يعلم أن من الموجود وجودًا واجبًا، وأنه ليس مثل الموجود الممكن، فالذي يثبتونه في جميع الصفات المعلومة، هو من جنس ما يثبتونه في الذات، وذلك أمر بَيِّن بأدنى تأمل، معلوم بالعقل الصريح؛ فليس المحكي عنهم في ذلك إلا ما اتفق العقلاء على نظيره، وما هو ثابت معلوم بصريح العقل. وإن قال: بقية الطوائف بينهم نزاع في ذلك، قيل له: والحنابلة أيضًا بينهم نزاع: فمنهم من ينفي هذه الصفات، ويوجب تأويل النصوص، ومنهم من يجوز التأويل،

ولا يوجبه، ومنهم من يفوض معنى النصوص مع نفي، ومنهم من لا يحكم فيها بنفي ولا إثبات. وهذه المقالات هي الممكنة الموجودة في غيرهم. وأما قوله: «إنهم يصرحون بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق» فلا ريب أنهم يثبتونه [كذلك] وإلا لزم التمثيل والتشبيه، المنفي بالعقل والشرع، لكنهم لا يقولون نثبت معنى الجوارح والأعضاء، ولكن نثبت المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع. قوله: «فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال، فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال، فأي استبعاد في القول بأنه تعالى

النفي يحتاج إلى دليل كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل

موجود، وليس بداخل العالم ولا خارج العالم، وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الموجود» . يقال له: أكثر ما في هذا أنهم أثبتوا ما لا يعلمون حقيقته، لقيام الأدلة الشرعية عليه، وهذا لا محذور فيه، كما أثبتوا ما أخبر به من الجنة والنار، وما فيهما والملائكة وصفاتها، وهم لم يعلموا حقيقة ذلك، فهم عن معرفة حقيقة الخالق أبعد، وأما إثبات ما ليس بداخل العالم ولا خارجه، فإنه ممتنع في الفطرة البديهية، والفرق واضح بين عدم العلم وبين العلم بالعدم، فأين إثبات شيء يعلم على سبيل الجملة ولا تعلم حقيقته على التفصيل، من إثبات شيء يعلم بالبديهة انتفاؤه؟! بل لو علم انتفاؤه بالنظر لم يجز إثباته، فكيف إذا علم بالبديهة ولم يرد بثبوته خبر، ولا نقل ثبوته عن أحد من السلف والأئمة، وأما ما أثبتوه فلم يعلم انتفاؤه، لا ببديهة ولا بنظر، باتفاق عقلاء الطوائف. والرازي من أقول الناس بذلك، صرح في غير موضع من كتبه، كالمحصل والتفسير وغيرهما، بأنه لا يجوز نفي ما لا يعلم ثبوته من الصفات، وأن الظاهريين من أصحابه ينفون ما لم يقم

دليل على ثبوته وردَّ ذلك، فإن ما لم يقم دليل بثبوته وعدمه لا يجوز نفيه ولا إثباته، وصرح بأن هذه الصفات الخبرية، كالوجه واليد، التي أثبتها الأشعري، وغيره من أصحابه، إنما لم يثبتها لعدم دليل ثبوتها، لا لدليل عدمها، وزعم أن أدلة الشرع لا تثبتها فلا يجوز إثباتها. وأما ثبوت صفات في نفس الأمر، لم نعلمها فإنه لا ينفي ذلك، ويخطئ من ينفيه. وهؤلاء يدعون ثبوت صفاته في نفس الأمر، ثم إذا قال أحدهم: إنا لا نعلم كيفيتها أو لا نعلم كنهها وحقيقتها، كان هذا كقوله في الذات، ولو قال أقلهم علمًا إنا لا نعلم معناها، لم يكن عدم علمه بالمعنى، مانعًا من ثبوته في نفس الأمر، فأين عدم العلم بالشيء إلى العلم بعدمه. وهذا الذي ذكره عن ظاهريي أصحابه -هو وإن كان قول أبي المعالي الجويني وغيره، وقد نقل الإجماع فيه، وهو مما يقوله أبو الوفاء بن عقيل ونحوه- فالصواب هو الذي ذكره أبو عبد الله الرازي، وهو الذي عليه المحققون، وهو أحد قولي ابن عقيل؛ بل هو آخر قوليه كما هو في الكفاية

نقل المؤلف من كتاب الكفاية لابن عقيل بأن النفي يحتاج إلى دليل كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل

[حيث قال] : «فصل عجيب يخفى على كثير من الأصوليين، وذلك أنه كما لا يجوز الإغراق في الإثبات مجاوزة لما أثبته الشرع ودل عليه، كذلك لا يجوز الإغراق في النفي، ولا الإقدام على نفي شيء عن الله إلا بدليل؛ لأن النفي أيضًا، لا يؤمن معه إزالة ما وجب له سبحانه. فالنفي يحتاج إلى دليل، كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل، فكما أن إثبات ما لا يجب له كفر، فنفي ما يجوز عليه خطأ وفسق، ومثال ذلك أن يغرق هؤلاء الخطباء والقصاص، في نفي النقائص عنه، ثم يدرجون فيها نفي ما وردت به السنن، ويقولون ليس بفوق، ولا تحت، ولا يدرك، ولا يعلم، ولا يعرف، ولا، ولا. فربما ساقوا في نفيهم نفي صفة وردت بها السنة» . قلت: وهذا هو الصواب عند السلف والأئمة وجماهير المسلمين، أنه لا يجوز النفي إلا بدليل كالإثبات، فكيف ينفي بلا دليل، ما دل عليه دليل؛ إما قَطعي، وإما ظاهري؟! بل كيف يقال: ما لم يقم دليل قطعي على ثبوته من الصفات، يجب نفيه، أو يجب القطع بنفيه، ثم يقال في القطعي: إنه ليس بقطعي؟

نقل المؤلف عن كتاب الإرشاد للجويني وشرحه لأبي القاسم النيسابوري بأنه خالف أئمته في إثبات صفة اليد وغيرها وتعقيب المؤلف عليه

فهذه المقدمات الفاسدة، هي وسائل الجهل والتعطيل وتكذيب المرسلين؛ وإنما اعتمد على ذلك أبو المعالي لما خالف أئمته في إثبات صفة اليد وغيرها، فقا [ل] في «الإرشاد» : «فصل ذهب أئمتنا إلى أن اليدين، والعينين والوجه، صفات ثابتة للرب، والسبيل إلى إثباتها السمع، دون قضية العقل» قال: «والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود» قال صاحبه أبو القاسم، النيسابوري، الأنصاري، شارح «الإرشاد» شيخ أبي الفتح الشهرستاني، صاحب «الملل والنحل»

و «نهاية الإقدام» وغيرهما: «هذا ما قاله الإمام. واعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان، ثابتتان، زائدتان، على وجود الإله سبحانه ونحوه، قالـ[ـه] عبد الله بن سعيد، ومال القاضي أبو بكر في «الهداية» إلى هذا المذهب» . قلت: هو قول القاضي في جميع كتبه «كالتمهيد» و «الإبانة» وغيرهما. قال أبو القاسم النيسابوري: «وفي كلام الأستاذ أبي إسحاق، ما يدل على أن التثنية في اليدين، ترجع إلى اللفظ لا إلى الصفة، وهو مذهب أبي العباس القلانسي، قال الأستاذ: أما العينان فعبارة عن البصر، وكان في العقل ما يدل عليه، وأما اليد والوجه، فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما، قال قائلون: قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين، يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق، وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام، لكنه لم يكن في العقل دليل على تسميته، فورد الشرع ببيانها، يسمي الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق

يدًا، والصفة التي يقع التقريب في التكليم وجهًا، وقالوا: لما صح في العقل، التفضيل في الخلق والفعل بالمباشرة، والإكرام، والتقريب بالإقبال، وجب إثبات صفة له سبحانه، يصح بها ما قلناه من غير مباشرة ولا محاذاة، فورد الشرع بتسمية إحداهما يدًا، والأخرى وجهًا، ومن سلك هذه الطريق، قال: لم يكن في العقل جواز، ورود السمع بأكثر منه، وما زاد عليه من جهة الأخبار، فطريقة الآحاد التي لا توجب العلم، ولا يجوز بمثلها إثبات صفة القدم، وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم، كان متأولًا على الفعل» . قال: «وقال آخرون طريق إثباتها السمع المحض، ولم يكن للعقول فيه تأثير فإذا قيل لهم: لو جاز ورود السمع، بإثبات صفات لا يدل العقل عليها، لم يأمن أن يكون لله صفات، لم يرد الشرع بها، ولا صارت معلومة، ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله تعالى؛ إذ لم تكن واحدة منها شبيهة بصفته. كان جوابهم أن يقولوا: لما أخبر الله المؤمنين بصفاته الكاملة له، حكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة بها، لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها، لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنًا يستحق المدح، إذا

لم يكن عارفًا بالله معنى وبصفاته أجمع، فلما وصفهم بالإيمان، عند معرفتهم لما ورد من الشرع، ثبت أنه لا صفة أكثر مما بين الطريق إليه بالعقل والشرع. قال الأستاذ أبو إسحاق: والتعويل على الجواب الأول، فإن فيه الكشف عن المعنى. قال أبو المعالي: «فمن أثبت هذه الصفات السمعية، وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] » وذكر أنهم قرروا ذلك بتخصيص آدم بالخلق، وبأنه ثنى اللفظ، وكلاهما يمنع من حمله على القدرة، وتكلم على ذلك إلى أن قال: «والذي يحقق ما قلناه، أن الذي ذكره شيخنا أبو الحسن والقاضي، ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين، على ما عداهما من الصفات، ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية، لا يدل مقتضى العقل عليها، وإنما يتوصل إليها سمعًا، فبشرط أن يكون السمع مقطوعًا به، وليس فيما استدل به الأصحاب قطع، والظواهر المحتملة لا توجب العلم، وأجمع المسلمون، على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع، وليس في اليدين، على ما قاله شيخنا، نص لا يحتمل التأويل، ولا إجماع، [وإنما في

ذلك أدلة] عقلية، فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه يعني القدرة، والظاهر من لفظ يدين، حملهما على جارحتين، فإن استحال حملهما على ذلك، ومنع من حملهما على القدرة، أو النعمة، أو الملك، فالقول بأنها محمولة على صفتين، قديمتين لله، زائدتين على ما عداهما من الصفات، تحكم محض» . قال أبو المعالي: «وأما العينان، والوجه، فقد اختلف جواب شيخنا أبي الحسن في ذلك، فقال مرة: هما صفتان على نحو ما قال في اليدين، وقال مرة: العينان محمولتان على البصر، وهذا أظهر قوليه. وعليه حمل الأعين، في قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أي تجري السفينة؛ بمرآى منا، وقيل: بحفظنا، وحمل الوجه على وجود الباري، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] والباقي بعد فناء الخلق هو الله. قال أبو المعالي: وهذا هو الصحيح من جوابيه عندنا، وإنما اختلف جوابه، من حيث كان التعليق بالظاهر في اليدين أظهر» . قال أبو القاسم النيسابوري: «وقول أبي الحسن: في أن الوجه صفة زائدة، على الوجود أظهر، وقوله في العينين: أن المراد بذلك البصر أظهر. قال أبو المعالي: «ومن سوغ من أصحابنا إثبات الصفات

بظواهر هذه الآيات، ألزمه بثبوت كلامه أن يجعل الاستواء، والنزول والجنب من الصفات، تمسكًا بالظاهر، وإن لم يبعد تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضًا طريق التأويل، فيما ذكرناه» قال أبو القاسم: «هذا ما قاله الإمام» . وقد رأيت في بعض كتب الأستاذ أبي إسحاق قال: ومما ثبت من الصفات بالشرع، الاستواء على العرش، والمجيء يوم القيامة، بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] ومما ثبت بالأخبار الصحيحة «النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة» وقوله: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» «ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا» الحديث قال: وأجمع أهل النقل، على قبول هذين الخبرين، وما هذا وصفه، كان موجبًا للعمل وقبولًا في مسائل القطع. هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب» . قال أبو القاسم: «ولا نظن بالأستاذ أبي إسحاق، أنه اعتقد أن النزول والمجيء والإتيان من صفات ذات الإله

سبحانه؛ فإنه سبحانه لا يوصف بهذه الأوصاف في أزله، ويستحيل قيام حادث بذاته. فما حكيناه عنه أنه قال: ومما يثبت في الصفات بالسمع كذا، وكذا. فيحتمل أنه أراد بذلك صفات الأفعال، ويحتمل أنه أراد به الصفات الخبرية، التي لا بيان لها أكثر مما ورد به الخبر» . قال: «وقال الأستاذ أبو بكر -يعني ابن فورك-: من أصحابنا من قال: الاستواء وصف خبري، لا مجال للعقل فيه، وكذلك الفوقية، والواجب أن يتوقف في ذلك [إلى] أن يرد بمعناه خبر، قال: وهذا مذهب أئمة السلف، وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء ثابت بلا كيف، وهذا قول مالك بن أنس، والأوزاعي، وغيرهما من الأئمة، وحكى شيخنا

أبو الحسن قولين لأصحابنا في الاستواء أحدهما: [أنه] من صفات الذات. والثاني: أنه من صفات الأفعال. فمن صار إلى أنه من صفات الذات اختلفوا فيه، فصار الأكثرون منهم، إلى أن الاستواء على العرش، هو العلو عليه من جهة القهر، والغلبة، والانفراد بنعوت الجلال، وهذا المعنى وإن كان مدركًا بالعقل ولكن تسميته بالاستواء مستقاة من الخبر. قال أبو الحسن: من قال الاستواء صفة الذات فإنه سَمَّى الله به، حين خلق العرش، لأجل أن الاستواء يقتضي [تقريبه] إليه [ليـ]ـستوي عليه، ولم يكن في الأزل غير الله، فلم تكن تسميته به. قال: وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: ويمكن أن يقال: لم يزل كانت له صفة الاستواء مطلقًا، بمعنى أنه على صفة يصح بها الاستواء على العرش إذا خلقه، كما يقول لم يزل الله قادرًا، وإن كان تعلق القدرة بالأحداث، يختص بحال الحدوث، وصار آخرون إلى أن الاستواء صفة خبرية يتوقف معناها إلى أن يرد خبر ببيانها» .

تعقيب المؤلف على ما نقله النيسابوري عن أبي المعالي ومناقشته لأبي المعالي فيما نقله من الإجماع الذي ذكره الرازي وبين فساده

قلت: ما نقله من لفظ الأشعري فمعروف، وما فسره. قال: «وقال الإمام -يعني أبا المعالي- وكنا على الإضراب عن الكلام على الظواهر، فإذا عرض فنشير إلى جمل منها في الكتاب والسنة، وقد صرح بالاسترواح إليها المجسمة وأصحاب الظواهر» قال: «وأجمع المسلمون، على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل، لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع. قال وأجمع المحققون، على أن الظواهر يصح تخصيصها، أو تركها بما لا يقطع به، من أخبار الآحاد والأقيسة، وما يترك مما لا يقطع به، كيف يقطع به؟» . قلت: هذا الإجماع الذي ذكره أبو المعالي مرتين، هو الذي ذكره أبو عبد الله الرازي وغيره عن الظاهري من أصحابه وبين أنه فاسد، والذي قاله الرازي هو الذي عليه جماهير الناس، من المتقدمين والمتأخرين، قد صرح أئمة السلف بذلك وإن ما لم يعلم ثبوته، ولا انتفاؤه من الصفات، لا ننفيه ولا نثبته.

والإجماع الذي ذكره أبو المعالي لا أصل له؛ بل لم يقل ما ادعى فيه الإجماع أحد من أئمة المسلمين، لا من الفقهاء ولا أهل الحديث ولا السلف، وإنما قال هذا ابتداء من قاله من المعتزلة، واتبعهم على ذلك طائفة، ممن احتذى حذوهم في الكلام، من الأشعرية وغيرهم؛ وذلك لأن من أصلهم أنهم يقولون: إنهم عرفوا الله حق معرفته، وعرفوا حقيقة ذاته، فعلموا ما يوصف به نفيًا وإثباتًا. فلو جوزوا أن يكون له صفة لا يعلمون نفيها، ولا إثباتها بطل هذا الأصل. وهذا الأصل قد خالفهم فيه أبو المعالي، كما خالفهم فيه أئمته، وضرار بن عمر، وهم المخالفون فيه لسلف الأمة وأئمتها، وسائر أئمة العلم والدين، وقد حكينا ذلك في غير هذا الموضع، وأن أبا المعالي قال: «لا شك في ثبوت وجوده سبحانه، فأما الموجود [المرسل] من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال» قال: «ولكن ليس تتطرق إليها العقول، ولا هي علم هجمي، ولا علم مبحوث عنه، غير أنا لا نقول: إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها؛ فإنه سبحانه يعلم حقيقة نفسه. وليس للمقدور

الممكن، من مزايا العقول عندنا، موقف ينتهي إليه، ولا يمتنع في قضية العقل مزية، لو وجدت لا قتضت العلم بحقيقة الإله» . وقد تقدم أن هذا قول أئمة أصحابه، كالقاضي وغيره، وهذا تصريح منه بأن لله صفة تميزه عن غيره لا تعلم بالعقول لا بضرورة ولا نظر، وصرح بإمكان علمنا بها إذا أعطينا مزية نعلمها بها، وقد حكى هو عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال: «حقيقة الإله صفة تامة، اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان» وذكر عن القاضي أبي بكر، أنه ذكر مذهب ضرار، أن لله مائية لا يعلمها في وقتنا إلا هو وأن القاضي قال: «لا بعد عندي فيما قاله ضرار؛ فإن الرب يخالف خلقه بأخص صفاته، فيعلم على الجملة اختصاص الرب سبحانه بصفة يخالف بها خلقه، ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والقدم، ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات الحقيقية» وأن القاضي تردد في أن الذين يرون الله سبحانه في الدار الآخرة، هل يعلمون تلك الصفة، التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية؟

وذكر عن طائفة من الكرامية، أنهم أثبتوا لله مائية وكيفية. فقد يقال: إذا كان أبو المعالي، قد أوجب ثبوت صفة لله، يمتنع علمنا بها الآن، كيف يصح أن يقال علمنا جميع ما يثبت له وينفى عنه من الصفات، وإذا كان قول طوائف بثبوت صفات له لا تعلم، وتجويز ذلك، كيف يحكي إجماع المسلمين على خلاف ذلك. هذا تناقض منه في كتبه. وقد يُقال: لم يتناقض، لأن الذي نفاه بالإجماع، تقدير صفة مجتهد فيها، لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع، وهو هنا قاطع بما أثبته، لا مجوز له فلا تناقض. وقد يقال: بل إذا وجب إثبات حقيقة لا تعرف، لم يمتنع أن يكون لتلك الحقيقة صفة لا تعرف، فالجزم بنفي ذلك مع الجزم بثبوت تلك الحقيقة تناقض، وسواء كان تناقضًا، أو لم يكن تناقضًا فبطلان هذا الإجماع الذي ادعاه ظاهر، لكل من له من العلم أدنى نظر، وإنما هو كثير الاستغراق، في كلام المعتزلة وأتباعهم، قليل المعرفة والعناية بكلام السلف، والأئمة، وسائر طوائف الإسلام، من أهل الفقه والحديث والتصوف، وفرق المتكلمين أيضًا فحكى الإجماع، كما يحكي أمثال هذه الإجماعات الباطلة، أمثال هؤلاء المتكلمين، ولو كان الأمر كما ادعاه، فدعواه أن دلالة القرآن، والأخبار على ذلك،

ما أثبته الحنابلة من الصفات جاءت به نصوص الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة

ليست قطعية، يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف، وأهل الحديث والفقه والتصوف، وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم؛ فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية. وأما الأخبار، فمذهب أكثر أصحابه، أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم، كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن فورك، وهو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه، عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه قوله، وأن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب. وإذا كان يمكن أن يكون له صفات لا تعلم بمجرد العقل، وكان كثير من المثبتين لهذه الصفات الخبرية، من أئمته، ومن الحنبلية، وغيرهم يثبتون ما لا يعلمون معناه، أو ما لا يعلمون حقيقته، ولم يثبتوا ما يعلمون انتفاءه، ظهر ما تقدم من الجواب، من الفرق بين ما يعلم امتناعه، وهو وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وبينه ما لا تعلم حقيقته، كهذه الصفات عند هؤلاء. الوجه السادس والثلاثون: أن ما أثبتوه من الصفات، جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وقد تقول طوائف: إن العقل أيضًا يوجب ثبوت أصل هذه الصفات وإن لم يثبتها مفصلة، كما أنه في العلو يعلم علوه، لكن لا يعلم

[كيفيته] وما نفوه من كون الخالق ليس داخل العالم، ولا خارجه، جاء فيه الإثبات [في] الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، مع حكم العقل الصريح به، فهم في كلا الموضعين آمنوا بالله وكتبه ورسله، وأقروا ما شهدت به الفطرة، وما علمه العقل الصريح، وأقروا بموجب السمع والعقل، ولم يكونوا من أصحاب النار الذين يقولون: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) } [الملك: 10] فأين هذا ممن خالف صريح العقل، بإثبات موجود لا داخل العالم، ولا خارجه، وخالف مع ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، ونفي مع ذلك الصفات التي أثبتتها النصوص المتواترة، والإجماع السلفي، وعلم فساد نقيضها بالعقل الصريح أيضًا، بأن الله لا مثل له، وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم؟! كما أنه قد يحصل العلم بأنه ليس مماثلًا للخلق، بل مخالف له، قبل العلم بأنه مباين للعالم، ممتاز عنه منفرد؛ فإن «باب الكيف» غير «باب الكم» و «باب الصفة» غير «باب القدر» . وإذا كانت

مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضا

المباينة بالقدر، والجهة تعلم بدون هذه، علم أنها أيضًا ثابتة، وإن كانت تلك أيضًا ثابتة، وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعًا؛ بل المباينة بالجهة والقدر أكمل، فإنها تكون لما يقوم بنفسه، كما تكون لما يقوم بغيره؛ لأن عدم قيامه بنفسه، يمنع أن يكون له قدر، وحيز وجهة، على سبيل الاستقلال ومن هنا تبينا: الوجه السابع والثلاثون: وهو أن من المعلوم، أن مباينة الله لخلقه، أعظم من مباينة بعض الخلق بعضًا، سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض، والأعراض بعضها لبعض، ومباينة الأجسام والأعراض، ثم الأجسام والأعراض تتباين، مع تماثلها بأحيازها وجهاتها، المستلزمة لتباين أعيانها، وتباين مع اختلافها أيضًا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها، كالجسمين المختلفين، والعرضين المختلفين في محلين، وأدنى ما تتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز، كالعرضين المختلفين في محل واحد، فلو لم يباين الباري لخلقه، إلا بمجرد

الاختلاف في الحقيقة والصفة، دون الجهة والحيز والقدر، لكانت مباينته لخلقه، من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله، أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله، وهذا يقتضي أن مباينته للعالم، من جنس تباين الشيئين، اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد، فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد؛ بل إذا كان العالم قائمًا بنفسه، وكانت مباينته له من هذا الجنس، كانت مباينته للعالم مباينة للجسم الذي قام به، ويكون العالم كالجسم، وهو معه كالعرض، وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله، لا سيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه. وهذا من أبطل الباطل، وأعظم الكفر؛ فإن الله تعالى غني عن العالمين كما تقدم. ومن هنا جعله كثير من الجهمية حالًّا في كل مكان، وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات، أو جعلوه الموجود المطلق، أو نفس الموجودات، وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل، وهو تعطيل للصانع، ففيه من إثبات فقره وحاجته إلى العالم ما يجب تنزيه الله عنه، وهؤلاء زعموا أنهم نزهوه عن الحيز والجهة لئلا يكون مفتقرًا إلى غيره، فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء، وصرحوا بهذه الحاجة، كما ذكنا في غير هذا الموضع. فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)

وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } [مريم: 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات، وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال، وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه، فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة، التي أدناها مباينة العرض للجسم، أو للعرض بحقيقته؛ فإن ذاك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر، أو يكون كلاهما في محل واحد، وإذا كان هؤلاء النفاة، لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف، بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدومًا، كما اتفق سلف الأمة وأئمتها، على أن ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية، الذين يقولون: إنه ليس فوق العرش، أنهم جعلوه معدومًا، ووصفوه بصفة المعدوم. يدل على ذلك أن هذا الرازي، جعل مباينته لخلقه، من جنس مباينته للحيز، ولا يجب أن يكون موجودًا كما تقدم، فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم، أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم، والعالم موجود لا ريب فيه؛ فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم. وهذا هي حقيقة قولهم. وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك؛ فإن هذا حال الضالين.

مباينة الله لخلقه أعظم من كل مباينة

الوجه الثامن والثلاثون: أن يقال: هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل، لبعض الموجودات، فالواجب أن تكون مباينته للخلق، أعظم من مباينة كل لكل، فيجب أن يثبت له من المباينة، أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله، ومباينة الجوهر للجوهر، وكذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة، التي تسمى المباينة بالحقيقة أو بالكيفية، والمباينة بالقدر، التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية، فتكون مباينته بهذين أعظم مما يعلم من مباينة المخلوق المخلوق؛ إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به. وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها، فهذا يقتضي مماثلة المخلوق، وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات، أعظم من شبه بعضها ببعض، وذلك ممتنع. يوضح ذلك: الوجه التاسع والثلاثون: وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة، وهو ضد المماثلة، وحيث كانت المباينة فإنها

فصل: نقل المؤلف دعوى الرازي أن إثبات الوجه واليد بالمعنى الذي ذكره أهل الإثبات لا يقبله الوهم والخيال ومناقشة المؤلف له ورده عليه

تستلزم [ذلك] . فصل قول المؤسس وأمثاله: «معلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» . إن عنى بذلك ما يعرفه من مسمى ذلك لم ينازع فيما يدعيه، وإن ادعى [غير] ذلك [فـ]ـيبين هذا: الوجه الأربعون: وهو أن يقال له: لا نسلم أن ذلك مما لا يقبله الوهم والخيال، والدليل على ذلك أن القرآن والحديث سمعه الصحابة والتابعون وتابعوهم من القرون الثلاثة وفي غيرها من الأعصار في جميع أمصار المسلمين، وهو يتلى ليلًا ونهارًا، والمؤمن يسلم أن ظاهر ذلك هي هذه الصفات، ومن المعلوم أن

إن أراد بالوجه واليد صفات معنوية فليس هو ما حكاه عن الحنبلية وإن أراد أنها قائمة بنفسها فهي صفات قائمة بنفسها لكن لا تقبل التفريق والانفصال

أحدًا من السلف والأئمة لم يتقدموا إلى من يسمع القرآن والحديث بأن يصرف قلبه وفكره عن تدبر ذلك وفهمه وتصوره، ولا أمره أن يعتقد أن هذا المعنى منه ليس بمراد، وإنما المراد بعض المعاني التي يعنيها المتأولون، أو المراد معنى آخر لا يعرف جملة ولا تفصيلًا، ولا يميز بينه وبين غيره، ولا يقال اكتفوا في ذلك بسماع قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65] وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص: 4] لأنه يقال: الذي دلت عليه هذه النصوص، هوالذي حكى عن أهل الإثبات التصريح بأن الثابت لله هو على خلاف ما يثبت للمخلوق؛ فإن هذه المخالفة هي عدم المماثلة، والنصوص تدل على ذلك، فإذا كان ما دل عليه النصوص هو الذي حكاه عن أهل الإثبات، فلو كان ذلك مردودًا أو غير ممكن القبول في التوهم والتخيل، مع أن ذلك غالب أو لازم لبني آدم لوجب أن يظهر إنكار ذلك ودفعه من عموم الخلق. الوجه الحادي والأربعون: وهو قوله: «معلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» إما

أن يريد به المعنى الذي يذكره المتكلمة الصفاتية الذين يقولون: هذه صفات معنوية، كما هو قول الأشعري والقلانسي وطوائف من الكرامية وغيرهم، وهو قول طوائف من الحنبلية وغيرهم. وإما أن يريد بمعنى: أنها أعيان قائمة بأنفسها. فإن أراد به المعنى الأول فليس هو الذي حكاه عن الحنبلية؛ فإنه قال: «وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضًا معترفون بأن ذاته مخالفة لسائر الذوات» إلى أن قال: «وأيضًا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئًا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» ، فإذا كان هذا قوله فمعلوم أن هذا القول الذي حكاه هو قول من يثبت هذه بالمعنى الذي سماه هو «أجزاءً، وأبعاضًا» فتكون هذه صفات قائمة بنفسها، كما هي قائمة بنفسها في الشاهد، كما أن العلم والقدرة قائم بغيره في الغائب والشاهد، لكن لا تقبل التفريق والانفصال، كما أن علمه وقدرته لا تقبل الزوال عن ذاته، وإن كان المخلوق يمكن مفارقة ما هو

قائم به، وما هو منه يمكن مفارقة بعض ذلك بعضًا، فجواز ذلك على المخلوق لا يقتضي جوازه على الخالق، وقد علم أن الخالق ليس مماثلًا للمخلوق، وأن هذه الصفات وإن كانت أعيانًا فليست لحمًا ولا عصبًا ولا دمًا ولا نحو ذلك، ولا هي من جنس شيء من المخلوقات. فإذا كان هذا هو القول الذي ذكر [أنه] تنفيـ[ـه] الحنابلة، وأن هذا هو الظاهر، فلو كان هذا مما لا يقبله الوهم والخيال لوجب نفرة من سمع القرآن والحديث عن ذلك من الكفار والمؤمنين، ولوجب أن يكون المشركون يقدحون فيه بأنه جاء بما تنكره الفطرة، ولوجب أن المؤمنين عوامهم وخواصهم يكون عندهم في ذلك شبهة وإشكال حتى يسألوا عن ذلك، كما وقعت الشبهة عند من سمع ذلك واعتقد نفي هذا المعنى، إذ يرى ذلك متناقضًا ولوجب أن علماء السلف وأئمة الأمة يتكلمون بما ينفي هذا المرض ويزيل هذه الشبهة، ويكون ذلك من أعظم الطاعات بل من أكبر الواجبات، فلما لم يكن شيء من ذلك، علم أن هذا الذي ذكرته عنهم ليس هو مما ينكره الوهم والخيال.

المثبتة والنفاة متفقون على أن معاني الصفات التي حكاها الرازي عن الحنابلة هي التي يفهمها الجمهور من النصوص من غيرإنكار لها ولا قصور في الوهم والخيال عنها

ألا ترى أن ما تقوله: من أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه متى صرحت به لجمهور الناس تلقوه بالرد والإنكار؛ ولهذا كان الحذاق من أهل هذا القول يتواصون بكتمانه وإخفائه، وكان السلف والأئمة في ذلك يفصحون به في المجالس العامة والخاصة، وهكذا الأمر فيما قبل شريعتنا، فإن التوراة فيها من هذا الباب نحو ما في القرآن، وكان موسى عليه السلام يبلغ ذلك لبني إسرائيل تبليغًا عامًّا والأنبياء بعده، ولم يكن بنو إسرائيل ينكرون ذلك، ولا كان الأنبياء يأمرونهم بترك ما فهموه من ذلك، فلو كان الوهم والخيال يرد ذلك للعامة، لكان يجب أن يكثر في العامة من يَرد ذلك وهمه وخياله، وإن كان في الخاصة فكذلك، فلما لم يوجد في العامة ولا الخاصة من رد ذلك، لكونه لا يمكنه أن يتصور خياله ووهمه، علم بطلان ما ذكره؛ إذ الذين ينفون ذلك يزعمون أن القياس دل على نفيه. الوجه الثاني والأربعون: أن جميع الناس من المثبتة والنفاة متفقون على أن هذه المعاني التي حكيتها عن خصمك هي التي تظهر للجمهور ويفهمونها من هذه النصوص،

من غير إنكار منهم لها ولا قصور في خيالهم ووهمهم عنها، والنفاة المعتقدون انتفاء هذه الصفات العينية لم يعتقدوا انتفاءها لكونها مردودة في التخيل والتوهم، ولكن اعتقدوا أن العين التي تكون كذلك هو جسم، واعتقدوا أن البارئ ليس بجسم، فنفوا ذلك. ومعلوم أن كون البارئ ليس جسمًا ليس هو مما تعرفه الفطرة والبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة، ولا بمقدمات بينة في الفطرة؛ بل بمقدمات فيها خفاء وطول، وليست مقدمات بينة، ولا متفقًا على قبولها بين العقلاء؛ بل كل طائفة من العقلاء تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد، وطوائف كثيرة من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله، ويقولون: بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب، وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسمًا، وما لا يكون جسمًا لايكون إلا معدومًا. ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول. وإن قال النفاة: إن هذا حكم الخيال والوهم، فقد اتفقوا على أن الوهم والخيال يثبت الصانع على قول مثبتة الجسم لا على قول نفاته. فإذا كان الوهم والخيال يثبته كذلك، بإقرار النفاة فكيف تكون هذه الصفات منفية عنه في حكم الوهم

غاية ما ذكره الرازي عن الحنابلة أنهم يثبتون لله وجها ويدين مخالفا لوجوه الخلق وأيديهم والوهم والخيال من أعظم الأشياء قبولا لمثل هذا

والخيال؟! هذا خلاف ما اتفق عليه النفاة والمثبتة؛ بل على هذا التقدير يكون الوهم والخيال مقرًّا بما قاله أهل الإثبات في الذات والصفات دون ما قاله النفاة. وهذا أمر بين لا يتنازع فيه عاقلان. الوجه الثالث والأربعون: أن هذا الذي حكيته عن هؤلاء الذين قلت: «أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض» : غايته أنهم يثبتون ما هو الموصوف الذي تسميه جسمًا، وأنهم لا يجوزون عليه ما يجوز على الأجسام من الفناء والآفات، ومضمون ذلك أنه جسم يمتنع عليه أن يوصف بما توصف به سائر الأجسام، بل هو مختلف عنها في الحقيقة. وكذلك ما ذكرته من «أنهم يصرحون متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئًا من الأعضاء والجوارح، بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق» فهذا الذي ذكرته غايته أنهم يثبتون وجهًا ويدين مخالفًا لوجوه الخلق وأيديهم: كما يقال جسم لا كالأجسام. ومن أوضح المعلومات أن إثبات هذا ليس مما لا يقبله الوهم والخيال؛ بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء قبولًا لمثل هذا، كما تقدم تقريره غير مرة؛ فإن الوهم والخيال يتصور أنواعًا من

أن وصف الملائكة بالوجه واليد ونحوها مما يقبله الوهم والخيال مع أن حقيقتهم مخالفة لحقيقة بني آدم فصفات الله أولى بهذا القبول

الأجسام، كل جسم موصوف بضد صفات الآخر، وكل جسم يجوز عليه أو يمتنع ما لا يجوز على الآخر أو لا يمتنع. فيتصور الأجسام الموجودة. ويقدر ما ليس موجودًا. وما يستحيل وجوده. فكيف يقال: إنه لا يقبل هذا؟! يوضح هذا: الوجه الرابع والأربعون: وهو أنه إذا وصف له الملائكة وغيرهم بالوجه واليد ونحو ذلك -مع أنه قد ثبت في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه على صورته التي خلق عليها مرتين، رآه مرة وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما الأفق» وروي

«أنه حمل قرى قوم لوط على ريشة من جناحه» ونحو ذلك من الصفات العظيمة التي توصف بها الملائكة- فإن الوهم والخيال يقبل ذلك، مع علمه بأن حقيقتهم ليست مثل حقيقة بني آدم، وأنهم ليسوا لحمًا ودمًا وعصبًا ونحو ذلك من الأجسام الكائنة الفاسدة. نعم قد يكون الضعيف الخيال منهم يكل خياله عن مثل ذلك، كما يكل حسه عن رؤية الشعاع وعن سماع الصوت القوي ونحو ذلك، ولهذا قال علي (رضي الله عنه) : حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله؟! وقال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قومًا حديثًا

فريقا النفاة والمثبتة اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة الذين يسميهم الرازي مجسمة يصفونه بالأجزاء والأبعاض

لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. ولهذا سأل بعضهم زر بن حبيش عن حديث ابن مسعود في صفة جبريل، وأن له ستمائة جناح فلم يحدثه به خوفًا أن لا يحتمله عقله فيكذب به. فهذا وأمثاله كثير موجود في بني آدم تضعف قوى إدراكهم عن إدراك الشيء العظيم الجليل؛ لا كون الوهم والخيال لا يقبل جنس ذلك، ولكن لأجل ما فيه من العظمة التي لم يعتد تصور مثلها. ومن هذا الباب عجز الخلق عن رؤية الرب في الدنيا لا لامتناع رؤيته، [بل] لعجزهم في هذه الحياة. فأما أن يكون بنو آدم ينكرون بوهمهم وخيالهم في جسم مخلوق أن يكون مخالفًا لغيره، وأنه يمتنع تماثلهما فليس الأمر كذلك. فكيف ينكرون بوهمهم وخيالهم أن يكون الخالق غير مماثل للمخلوق؟ مع كون الوهم والخيال لا يتصور موجودًا إلا جسمًا أو قائمًا بجسم. الوجه الخامس والأربعون: أن الأجسام بينها قدر مشترك

- وهو جنس المقدار، كما يقولون ما يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وبينها قدر مميز - وهو حقيقة كل واحد وخصوص ذاته التي امتاز بها عن غيره - كما يعلم أن الجبل والبحر مشتركان في أصل القدر، مع العلم بأن حقيقة الحجر ليست حقيقة الماء، وإذا كان كذلك فالحس لم يدرك مقدارًا مجردًا ولا صورة مجردة، ولم يحس قط، إلا جسمًا مهيئًا له قدر يخصه، وصفة تخصه، والخيال إذًا تخيل المحسوسات، وهو مع هذا يمكنه تجريد المقدار عن الصفة، فيشكل في نفسه قدرًا معينًا، أو مطلقًا غير مختص بصفة من الصفات، وهو تقدير الأبعاد في النفس، وإذا وصف له الملك فإنه يتخيل صورة مطلقة، وأن لها وجهًا ويدًا تناسبها، من غير أن يتخيل حقيقتها؛ فإن تخيل نسبة الصفة المخصوصة إلى الموصوف المخصوص، أقرب إلى ما أحسه من تخيل قدر مطلق، والتخيل يتبع الحس، فكلما كان أقرب إلى الحس كان تخيله أيسر عليه. وهذا ونحوه [مـ]ـما يبين أن تصوير الخيال لما حكاه عن منازعيه من أيسر الأمور؛ بل لو قال: إن التخيل لا يتصور إلا ما يكون هكذا لا يتصور وصفه بنقيض ذلك، لكان هذا القول أقرب، بل هذا القول الذي اتفق عليه العقلاء، من أهل الإثبات والنفي: اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودًا إلا متحيزًا أو قائمًا بمتحيز وهو الجسم وصفاته. ثم المثبتة قالوا:

فصل: التخيل والوهم الصحيح لا يتصور الموجود معدوما فالفطرة ترده لما فيه من الأمور العدمية

وهذا حق معلوم أيضًا، بالأدلة العقلية والشرعية، بل بالضرورة، وقالت النفاة: إنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل، فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة، الذي ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض، وتسميهم المجسمة، فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات. فصل التخيل والوهم الصحيح، لا يتصور الموجود معدومًا. فعلم أن إنكار الفطرة لذلك ورد التخيل والوهم له، لما فيه من الأمور العدمية، كالتناقض الذي فيه؛ لا لعظمته في الوجود. والذي يوضح هذا أن كثيرًا من الخطباء والقصاص إذا أخذوا يصفون الرب ويعظمونه بهذه الصفات السلبية أخذت العامة -الذين لا يفهمون حقيقة ما يقولون وإنما يستشعرون من حيث الجملة أن هذا تعظيم للرب- يسبحونه ويمجدونه، فلو [لا] أنهم تخيلوا وتوهموا أن هذا السلب متضمن لوجود عظيم كبير، وإلا لم يكونوا كذلك، فعلم أنهم لم ينكروه لما فيه من الأمور الوجودية؛ بل هم يتخيلون الموجود العظيم في الجملة؛ ولكن إذا فهموا حقيقة هذه الألفاظ، وما تشتمل عليه من الأمور العدمية، أنكروه حينئذ وردته فطرتهم؛ وذلك لأن السلب والعدم ليس فيه مدح أصلًا ولا تعظيم، فعلم أنه لا تعظيم فيها عند من توهمها.

ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعون يعظمون الرب بشيء من ذلك، ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في آثار الأنبياء وسلف الأمة، وأئمتها شيء من ذلك، بل أعظم ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم الرب وتمجيده يوم قرأ على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] كما روى ذلك أبوهريرة، وعبد الله بن عمر، والحديث في الصحيحين، والآية

دلت على عظم قدر الرب، الذي يقبض الأرض ويطوي السموات، وهذا وصف لأمور وجودية تقتضي عظمة القدر؛ بخلاف السلوب المحضة، ففي حديث ابن عمر، الذي في الصحيح قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيديه، وقبض كفيه أو قال يديه، فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر من أسفل شيء حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم» ومن حديث عمر بن حمزة قال: قال سالم: أخبرني عبد الله بن

عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن» وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ وروى

قبول الوهم والخيال لصفات لا تكون من جنس صفات المخلوقين كقبوله لذات لا تشبه ذوات المخلوقين ولا يسلم للرازي دعواه عدم القبول

أبوالشيخ وغيره، عن ابن عباس قال: «ما السموات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» . وفي لفظ «إنها لتغيب في يده حتى لا يرى طرفاها» . الوجه السادس والأربعون: قوله: «فأثبتوا لله وجهًا بخلاف

وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيد الخلق، ومعلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» . يقال له: لا نسلم أن هذا غير مقبول، كما يقبل أشباهه وتوابعه، بل قبول وجوه وأيد لا تكون من جنس وجوه المخلوقين وأيديهم، من جنس قبول ذات لا تكون من جنس ذوات المخلوقين، وسمع وبصر وعلم وإرادة، لا تكون من جنس سمعهم وأبصارهم وعلمهم وإراداتهم شيئًا؛ فإن الذات عين قائمة بنفسها، وهذه صفات لها ومنها، وكل في ذلك ليس من جنس الأعيان المخلوقة وصفاتها التي لها ومنها، وإن كان اللفظ متواطئًا فيها. وقول القائل: إن الوهم والخيال لا يقبل ذلك في الوجه. كقول غيره إن الوهم لا يقبل ذلك في العلم. وهو قول نفاة الصفات. وهو كقول القائل: إن الوهم والخيال لا يقبل

ذلك في الذوات مطلقًا عند كل من أثبت الذوات. وليس له أن يقول: فمقصودي أننا متفقون على الإقرار بما لا يقبله الوهم والخيال: فإن هذا باطل من وجوه: أحدها: أنه لا فرق بين العقل والاعتقاد والعلم: والوهم والخيال والظن من هذا الباب. الثاني: أن مورد النزاع قد قيل: إنه معلوم بالفطرة انتفاؤه عقلًا، وموقع الإجماع ليس كذلك. الثالث: أن موقع النزاع معلوم الانتفاء بالوهم والخيال، وموقع الإجماع إنما يقال: فيه أن الوهم عاجز عنه، كما بين ذلك. الرابع: أن إثبات صفات لا تُعْلَم كيفيتها لذات لا تعلم كيفيتها، ليس ممتنعًا في العقل ولا في الوهم والخيال، إنما الممتنع ثبوت ذات قائمة بنفسها لا داخل العالم ولا خارجه. الخامس: أنه إذا عرض على الفطرة وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه نفت ذلك، وأنكرته وقضت بعدمه، وإذا عرض عليها يد ليست جسمًا، كأيد المخلوقين وعلم ليس عرضًا، كعلم المخلوقين، لم يقض بعدم فهمه ومعرفته، أو بعلمه من وجه دون وجه. ولهذا تنفر الفطرة عن الأول ما لا تنفر عن الثاني. وتحرير الأمر أن يقال:

الجسم والعرض والمتحيز ألفاظ اصطلاحية لم يتكلم بها السلف والأئمة في حق الله لا بنفي ولا إثبات فنفي الرازي عن الله الجسمية والتحيز والعرض مما ابتدع من الكلام

الوجه السابع والأربعون: أن لفظ «الجسم» و «العرض» و «المتحيز» ونحو ذلك: ألفاظ اصطلاحية، وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك، في حق الله لا بنفي ولا إثبات؛ بل بدعوا أهل الكلام بذلك، وذموهم غاية الذم، والمتكلمون بذلك من النفاة أشهر، ولم يذم أحد من السلف أحدًا بأنه مجسم، ولا ذم المجسمة، وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره، وذموا أيضًا المشبهة الذين يقولون صفاته كصفات المخلوقين. ومن أسباب ذمهم للفظ الجسم والعرض ونحو ذلك [ما] في هذه الألفاظ من الاشتباه ولبس الحق، كما قال الإمام أحمد: «يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم» . وإنما النزاع المحقق أن السلف والأئمة آمنوا بأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من أن له علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، ويدين ووجهًا وغير ذلك، والجهمية أنكرت ذلك، من المعتزلة وغيرهم. ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة، تنازعوا

لا يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وكل صفة قائمة به

في الألفاظ الاصطلاحية: فقال قوم: العلم والقدرة ونحوهما لاتكون إلا عرضًا، وصفة حيث كان، فعلم الله وقدرته عرض. وقالوا أيضًا: إن اليد والوجه لا تكون إلا جسمًا، فيد الله ووجهه كذلك؛ والموصوف بهذه الصفات لا يكون إلا جسمًا، فالله تعالى جسم لا كالأجسام. قالوا: وهذا مما لا يمكن النزاع فيه، إذا فهم المعنى المراد بذلك، لكن أي محذور في ذلك، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، أنه ليس بجسم، وأن صفاته ليست أجسامًا وأعراضًا؟ فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل؛ بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل، جهل وضلال. قالوا: وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به، قالوا: لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم، وكل صفة قائمة به وهو العرض. والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد، وهو أصل «علم الكلام» الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه -وسيأتي الكلام على هذا الدليل في موضعه- قالوا: فلا معنى لإنكار ما هو الحق الثابت بالشرع والعقل، لاستلزام ذلك بطلان حجة مبتدعة أنكرها السلف والأئمة، لأجل دعوى من ادعى من أهلها أنها أصل الدين، الذي لا يعلم الدين إلا به، فإنما هو أصل الدين الذي ابتدعوه، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ

شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ليست أصلًا لدين الله ورسوله؛ بل أصل هذا الدين هو ما بينه الله ورسوله من الأدلة، كما هو مبين في موضعه؛ إذ من الممتنع أن يبعث الله رسولًا يدعو الخلق إليه، ولا يبين لهم الرسول أصل الدين الذي أمرهم به، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وعلى هذا التقدير فلا يكون فيما أثبته هؤلاء ما يخالف الوهم والخيال، فتنقطع مادة التزامه بالكلية. وقال قوم: بل نقول ما وصف الله به من العلم والقدرة، تسمى صفة ومعنى، ولا نسميه عرضًا، لأن العرض هو ما يعرض ويزول، وصفات الله لازمة، بخلاف صفة المخلوق فإنها عارضة، والتزموا لذلك وغيره أن صفة المخلوقات -وهي الأعراض- لا يبقى منها شيء زمانين. ثم أئمة هؤلاء قالوا: وكذلك ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، نقول: إنه من جنس العلم والقدرة والإكرام؛ بل ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، هو مما يوصف من الله ويوصف الله به ولا نسميه جسمًا، لأنها تسمية مبتدعة وموهمة معنى باطلًا، ولا نقول ذلك من جنس العلم والقدرة ونحوهما، بل نقول كما يعلم الفرق في صفاتنا بين العلم والقدرة، وبين الوجه واليد ونحوهما، فإن الحقائق لا تختلف شاهدًا ولا غائبًا، كما يفرق في حقنا بين العلم والقدرة والسمع والبصر، فلكل

صفة من هذه خاصة ليست للأخرى، كذلك هذه العقيدة في حق الله؛ وإن قيل: إن ذلك يقتضي التكثر والتعدد. وكذلك نفرق بين الوجه واليد والعين وبين العلم والقدرة ونحو ذلك. وإن قيل: هذا يقتضي التجسيم والتركيب والتأليف ونحو ذلك. فسيأتي الكلام المفصل على هذا في موضعه إن شاء الله، لكن علمنا أن ذاته ليست مثل ذوات المخلوقين، وعلمنا أن هذه الصفات جميعها: ما يفهم أنه عين يقوم بغيره، وما يفهم منه أنه معنى قائم بغيره، نعلم أن جميع صفات الرب ليست كصفات المخلوقين، فإن الشرع والعقل قد نفى المماثلة، والشرع والعقل يثبتان أصل الصفات، كما يثبتان الذات؛ فإن إثبات ذات لا تقوم بنفسها ممتنع في العقل، وإثبات قائم بنفسه يمتنع وصفه بهذه الصفات ممتنع في العقل؛ بل العقل يوجب أن الذات القائمة بنفسها لا تكون إلا بمثل هذه الصفات. وعلى قول هؤلاء فلم يثبت شيء على خلاف حكم الوهم والخيال.

فصل: نقل المؤلف دعوى الرازي أن من يثبت مباينة الباري للعالم في الجهة والمكان فهو مشبه

فصل قال أبو عبد الله الرازي: «التاسع: أن أهل التشبيه قالوا: إن العالم والبارئ موجودان، وكل موجودين، فإما أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر أو مباينًا عنه. قالوا: والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة. قالوا: والقول بالحلول محال، فتعين كونه مباينًا للعالم بالجهة. فبهذا الطريق احتجوا بكونه تعالى مختصًّا بالحيز والجهة» . وأهل الدهر قالوا: «العالم والبارئ» موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معًا، أو يكون أحدهما قبل الآخر، ومحال أن يكون العالم والبارئ معًا، وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث البارئ، وهما محالان، فثبت أن البارئ قبل العالم. ثم قالوا والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة، وإذا ثبت هذا فتقدم البارئ

على العالم، إن كان بمدة متناهية لزم حدوث البارئ، وإن كان بمدة لا أول لها، لزم كون المدة قديمة، فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان» . فنقول: حاصل هذا الكلام، أن المشبهة زعمت أن مباينة البارئ تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة، وأنتجوا منه كون الإله في جهة. وزعمت الدهرية: أن تقدم البارئ على العالم، لا يعقل حصوله إلا بالزمان، وأنتجوا منه قدم المدة. وإذا ثبت هذا فنقول: حكم الخيال إما أن يكون مقبولًا في حق الله تعالى أو غير مقبول، فإن كان مقبولًا فالمشبهة يلزم عليهم مذهب الدهرية، وهو أن يكون البارئ متقدمًا على العالم بمدة غير متناهية، ويلزمهم القول بكون الزمان أزليًّا، والمشبهة لا يقولون بذلك. والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة، وهو مباينة البارئ تعالى مكانيًّا -وهم لا يقولون به- فصار هذا التناقض واردًا على الفريقين.

مناقشة المؤلف للرازي في دعواه ورده عليه من وجوه

وأما إن قلنا: إن حكم الوهم والخيال، غير مقبول البتة في ذات الله تعالى، وفي صفاته، فحينئذ نقول: قول المشبهة: إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، أو مباينًا عنه بالجهة، قول خيالي باطل، وقول الدهري: إن تقدم البارئ على العالم، لا بد وأن يكون بالمدة والزمان، قول خيالي باطل. وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه، الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته، [وذلك] هو المنهج القويم، والصراط المستقيم» . قلت: والكلام على هذا من وجوه: أحدها: أن تسمية هؤلاء «أهل التشبيه» مما ينازعونه فيه؛ وذلك أن القوم متفقون على إنكار التشبيه، وذم المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه، ويجعلون الخالق من جنس شيء من المخلوقات، وهذا منتف عندهم، كما أقر به هذا الرجل. ومعلوم أن كل من نفى شيئًا من الصفات، سمى المثبت لها مشبهًا. فمن نفى الأسماء من الملاحدة الفلاسفة والقرامطة وغيرهم، يجعل من سمى الله تعالى عليمًا وقديرًا وحيًّا ونحو

ذلك مشبهًا؛ وكذلك من نفى الأحكام يسمي من يقول: إن الله يعلم ويقدر ويسمع ويبصر مشبهًا. ومن نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يسمون من يقول: إن لله علمًا وقدرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله تعالى يرى في الآخرة مشبهًا، وهم من أكثر الطوائف لهجًا بهذا الاسم وذم أصحابه؛ ولهذا كان السلف إذا رأوا رجل يكثر من ذم المشبهة، عرفوا أنه جهمي معطل؛ لعلمهم بأن هذا الاسم قد أدخلت الجهمية فيه، كل من آمن بأسماء الله تعالى وصفاته، ومن نفى علو الله على عرشه، يسمي المثبت لذلك مشبهًا، ومن نفى الصفات الخبرية والعينية يجعل من أثبتها مشبهًا. وإذا كان هذا اللفظ فيه عموم وخصوص بحسب اعتقاد المتكلمين به واصطلاحهم، وقد علم أن الرازي وأشباهه تسميهم المعتزلة وغيرهم مشبهة، فإن كان ينفي عن نفسه هذا الاسم بما يقوله من التنزيه، فكذلك حال غيره سواء؛ مع أن هذا الاسم ليس له ذم بلفظه في الكتاب والسنة. وقد صنف أبوإسحاق إبراهيم [بن عثمان] بن عيسى

الماراني مصنفًا سماه: «تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة» ذكر فيه من كلام السلف والأئمة في هذا الباب، كلامًا كثيرًا لا يحضرني الساعة، قال أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب «السنة» : «حكى إسماعيل بن زرارة قال: سمعت أبا زرعة

الرازي يقول: «المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله، التي وصف بها نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ويكذبون بالأخبار الصحيحة، التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات، ويتأولونها بآرائهم المنكوسة، على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة، وينسبون رواتها إلى التشبيه، فمن نسب الواصفين ربهم تبارك وتعالى، بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تشبيه [إلى التشبيه] فهو معطل ناف، ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية، كذلك كان أهل العلم يقولون، منهم عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح» وذكر أيضًا أبو القاسم التيمي في

كتابه «الحجة في بيان المحجة» . وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، في اعتقاده المشهور: «وعلامة أهل البدع شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية، وجهلة، وظاهرية، ومشبهة، اعتقادًا منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها بمعزل من العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) } [محمد: 23] {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) } [الحج: 18] » . فلو قال الرازي بدل المشبهة: «مثبتة الصفات الخبرية والعينية الذاتية» أو «مثبتة العلو» أو «جهة العلو» لكان في ذلك

من العدل ما ليس في هذا الاسم. وأيضًا فإنه قد صرح في أجل كتبه وهو «نهاية العقول» أن المجسمة القائلين بالجهة وغيرها ليسوا مشبهة، وكذلك رد على من كفرهم لكونهم مشبهة. فتبين أن التشبيه إن كان المراد به إثبات مثل لله عز وجل، فهم لا يقولون بذلك. وإن كان المراد إثبات وصف مشترك فهذا لازم لجميع الناس. وهذا قول أئمته في المجسمة، *بل هو أصح قوليهم في غلاة المجسمة*.

نقل المؤلف عن أبي المعالي نفي المثل والتشبيه عن صفات الله تعالى

قال أبو المعالي: «باب نفي المثل والتشبيه عن الله من صفات نفس القديم -تعالى- مخالفته للحوادث، فالرب سبحانه وتعالى لا يشبه شيئًا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها، والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين، فقد غلت طائفة في النفي فعطلت، وغلت طائفة بالإثبات فشبهت وألحدت. فأما الغلاة في النفي فقالوا: الإشراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه، وقالوا على هذا: القديم -سبحانه- لا يوصف بالوجود: بل يقال ليس بمعدوم، فكذلك لا يوصف بأنه حي عالم، بل يقال: ليس بعاجز ولا جاهل، ولا ميت، وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية، وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول، بمماثلة القديم سبحانه الحوادث، فإنهم أثبتوا له الصورة والجوارح والاختصاص بالجهات والتركيب، والأقدار، والنهايات، ومن غلاتهم من يثبت للقديم -تعالى عن قولهم-، اللحم والدم والهيئة، ويقولون بقدم الأرواح، وصاروا إلى أنها من ذات القديم -سبحانه-، وأنها تحل الأشخاص. فإن قال قائل: ما معنى التشبيه؟ قلنا: قد يطلق التشبيه، والمراد منه اعتقاد المشابهة، ويطلق والمراد منه الإخبار عن تشابه المتشابهين، ويطلق والمراد به إثبات فعل على مثال فعل.

تعقيب المؤلف على ما نقله عن أبي المعالي

فإن قيل: هل تسمون غلاة المجسمة مشبهة؟ قلنا قال أبو الحسن في بعض كتبه: نسميهم مشبهة وإن لم يصرحوا بلفظ التشبيه بل أبوه وامتنعوا منه، فإن الأمة مجمعة على أن من أثبت لله الجوارح والأعضاء، والصورة واللحم والدم والتأليف، فقد شبه ربه بخلقه، فلا ينفعه بعد ذلك نفي سمة التشبيه عن نفسه، بالقول بأنه جسم وشخص بلا كيف، أو أنه على صورة الإنسان بلا كيف. وقال في بعض كتبه: المشبهة من يعترف بالتشبيه ويلتزمه، وأما من ينكره فلا نسميه مشبهًا، إذ حقيقة المثلين: المشتبهان في جميع صفات النفس، وليس كلما يلزم صاحب مذهب نظرًا، يجوز وصفه به ابتداء. فإن قيل: هل تكفرون الغلاة منهم؟ قلنا القول في التكفير سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وبالجملة كل من شبهه فيما يطلقه من القول أو يعتقده بظاهر من الكتاب والسنة، ولم يرد على ما ورد التعبد به، ولا يفسره بما يوهم السامع تشبيهًا مع اعتقاد التقديس والتنزيه عن سمات الحدث فالأمر قريب» . هذا كله كلام أبي المعالي وأصحابه. فقد ذكر في تسمية غلاة المجسمة مشبهة قولين لأبي الحسن، والمنصور عندهم هو

الأسماء التي يتعلق بها المدح والذم في الشريعة

القول الثاني، وأن لازم المذهب ليس بمذهب. فأما المجسمة غير الغلاة فلا يسمون مشبهة على القولين. ومعلوم أن القائلين بالعلو على العرش بل بالجهة ليسوا بذلك من الغلاة بلا نزاع، سواء صرحوا بأنه جسم غير مركب، أو قالوا بالتركيب، أو نفوهما جميعًا، إذ القول بأن الله تعالى نفسه فوق العالم، هو قول الصفاتية من الكلابية، والكرامية، وأئمة الأشعرية، مع جماهير طوائف المسلمين، فيمتنع إطلاق اسم المشبهة على هؤلاء، وإنما يطلق عليهم الجهمية من المعتزلة ونحوهم. وغلاة المجسمة عنده الذين ذَكَرَ فيهم قولين، هم الذين يثبتون مع التجسيم صورة الإنسان، أو يثبتون له اللحم والدم، كما ذكره. ومع هذا كله فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض، والموالاة والمعاداة والطاعة والمعصية والبر والفجور، والعدالة والفسق، والإيمان والكفر، هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فأما

[ما] سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف -كأسماء الشعوب والقبائل- فلا يجوز تعليق الحكام الشرعية [بها] ، بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كحال من يعلق الموالاة والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان، أو المذاهب المتبوعة في الإسلام كالحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والمشايخ ونحوهم. وإذا كان كذلك فاسم «المشبهة» ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنة، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين؛ ولكن تكلم طائفة من السلف مثل عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ونعيم بن حماد، وغيرهم بذم المشبهة، وبينوا المشبهة الذين ذموهم؛ أنهم الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه، فكان ذمهم لما في قولهم من مخالفة الكتاب والسنة، إذ دخلوا في التمثيل، إذ لفظ التشبيه فيه إجمال واشتراك وإيهام، بخلاف لفظ التمثيل الذي دل عليه القرآن؛ ونفى مُوجَبَه عن الله عز وجل.

الوجه الثاني في الرد: أن حجة الرازي في قول أهل الإثبات أن كل موجودين إما أن يكون أحدهما حالا في الآخرأومباينا عنه قول خيالي باطل يحتج بها طوائف من متكلميهم دون جمهورهم فعند جمهورهم أن علو الله على العرش معلوم بالفطرة الضرورية

الوجه الثاني: أن هذه الحجة تحتج بها طوائف من متكلميهم: من الكرامية وغيرهم، وإلا فجمهورهم لا يحتاجون إلى قياس شمولي في هذا الباب؛ بل عندهم أن علو الله على العرش معلوم بالفطرة الضرورية، وقد تواطأت عليه الآثار النبوية، واتفق عليه خير البرية، ويقولون نفي ذلك تعطيل للصانع، معلوم بالضرورة العقلية، فلو فرض أن هذا القياس عارضه ما أبطله، لم يبطل ما علموه بالفطرة الضرورية من أن الله فوق خلقه، وأنه يمتنع كونه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يلزم من كون العبد مضطرًّا إلى العلم بحكم الشيء المعين، أن يجعل نقيض ذلك قضية عامة كلية؛ فإن العلم بالمعين الموجود يلزمه نفي النقيض، وذلك شيء غير العلم بنفي المطلق الكلي. وطوائف من أهل الفطرة الصحيحة والإثبات للشريعة، يعلمون

الوجه الثالث في الرد: على أن حجة المثبتة ليست نظير ما ذكره من حجة الدهرية في الموازنة إذ الأولى دلت على أن الباري خارج العالم والثانية دلت على أن البارئ سابق للعالم

أن الله تعالى فوق العالم، ولا يخطر بقلوبهم، تقدير وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه حتى ينفوه، إذ الأقوال المنافية للإيمان لا يجب أن تخطر لكل مؤمن؛ لكن لما حدث من ابتدع هذا النفي، تكلم المسلمون في رده: تارة ببيان أن الله تعالى فوق خلقه من غير تعرض لغيره، وتارة ببيان استحالة نقيض ذلك، وتارة ببيان استحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ومن علم أن الله عز وجل فوق العالم، نفى أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، وأما هل يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه؟ فقد يخطر بقلبه، وقد لا يخطر. الوجه الثالث: أن هذه الحجة المذكورة، ليست نظير ما ذكره من حجة الدهرية، وذلك أن هؤلاء قالوا: الخالق والمخلوق موجودان، فكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر أو بائنًا عنه. وكذلك إذا قيل: إما أن يكون أحدهما داخلًا في الآخر أو خارجًا منه. وكذلك إذا قيل: إما أن يكون أحدهما متصلًا بالآخر مقارنًا له أو منفصلًا عنه بائنًا منه، ثم قالوا: وليس هو فيه، فوجب أن يكون خارجًا منه. وهذا مقصودهم، فنظيره أن يقال: البارئ والعالم موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معًا وهما متقارنان، وإما أن يكون أحدهما قبل الآخر، وليس مع العالم مقارنًا له، فوجب أن يكون متقدمًا عليه. وهذا حق. فهذا تمام الموازنة والمعادلة بين الحجتين.

فالأولى دلت أن البارئ تعالى خارج عن العالم ليس فيه، وهذه دلت على أن البارئ سابق للعالم لم يقارنه العالم، وكذلك قال سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» والبارئ سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة، كما أن التقدم على الشيء قد يقال: إنه بمجرد الرتبة، كما يكون بالمكان؛ مثل تقدم العالم على الجاهل، وتقدم الإمام على المأموم، فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك؛ بل هو قبله حقيقة، فكذلك العلو على العالم، قد يقال: إنه يكون بمجرد الرتبة، كما يقال العالم فوق الجاهل، وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك، بل هو عال عليه علوًّا حقيقيًّا، وهو العلو المعروف والتقدم المعروف، فهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره من الموازنة والمقابلة، وكلاهما حق يقولون به، فعلم أن الحجة عليه لا له.

الوجه الرابع في الرد: على أن معارضة الرازي بلزوم مذهب الدهرية للمثبتة وجعل ذلك من حكم الوهم دعوى يخالفها العقل الصريح والفطرة الضرورية فلا تندفع بمعارضة ولا جدل

الوجه الرابع: أن هذه المعارضة قد أخذها الرازي ممن احتج بها قبله كأبي المعالي وذويه، فإنهم ذكروها في «مسألة حدوث العالم» وذكروها في «مسألة الجهة» لما أورد عليهم كل واحدة من الطائفتين، ما عارضهم به من القضيتين الفطريتين، فظنوا أنهم بهذا الإلزام أنهم يخلصون من معارضة الطائفتين، ويجعلون ذلك دليلًا على أنها من حكم الوهم، ومع هذا لم يخلصوا بذلك من معارضة الطائفتين، بل ادعوا ما يخالف العقل الصريح، وكان ذلك مما سلط عليهم الفلاسفة الدهرية: رأوا احتجاجهم بهذه الحجة الضعيفة، وكان ذلك مما سلط عليه المسلمون المثبتون، وهذا كما ذكره الإمام أحمد في مناظرة جهم للسمنية.

فهكذا أجاب أهل الكلام، الذين تكلموا في مناظرة الكفار، وأهل الأهواء من المذاهب والحجج بما ليس موافقًا للشريعة، وما ينكره العقل الصريح، فصاروا كما جاهد من جاهد الكفار جهادًا ظلمهم به، وخرج فيه عن الشريعة، وظلم فيه المؤمنين جميعًا، حتى كان مضرة ذلك الجهاد على المسلمين، وعلى أنفسهم وعلى عدوهم أكثر من منفعته. وقد بسطنا الكلام في أمثال هذا في غير هذا الموضع. ثم غاية ذلك أنه جواب إلزامي لا علمي، وهو لا ينفع لا للناظر ولا للمناظر؛ وذلك أن المثبت إذا قال لهم: كل

الوجه الخامس في الرد: أنه لو فرض تلازم حجة المثبتة وحجة الدهرية لم ينف بها ما هو أبين منها وهو ما علمناه بالفطرة والضرورة وهو مباينته تعالى للعالم وعلوه عليه

موجودين فإما أن يكون أحدهما حالًا في الآخر، أو بائنًا عنه. كان من المعروف بنفسه أن هذا حكم الفطرة الإنسانية الموجودة لبني آدم، وهذه الفطرة الضرورية لا تندفع بمعارضة ولا جدل. فإذا قالوا: هذا من حكم الوهم الباطل، وبمنزلة قول الدهرية من الفلاسفة وغيرهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما متقدمًا على الآخر أو مقارنًا له. قيل له: هب أن الأمر كذلك، فهذا الذي مثلت به هو حق أيضًا تقبله الفطرة وتحكم به. فإذا قال: هذا من حجة الدهرية القائلين بقدم العالم، فإذا صححناه لزمنا القول بقدم العالم وهو باطل، وما استلزم الباطل فهو باطل. قيل له: هذه القضية معلومة بينة بنفسها فطرية ضرورية، وأما كونها مستلزمة للقول بقدم العالم، فهذا ليس بين ولا معلوم؛ بل أنت تقوله، وقد يكون هذا من ضعف جوابك عن دعوى التلازم، فلما عجزت عن الجواب سلمت التلازم. الوجه الخامس: أن يقول: هب أنا نفرض تلازمهما، فالعلم بهذه القضية التي ألزمتموني نفيها، لأنفي معها الأولى، التي إثباتها أبين في العقول؛ من كون العالم، الذي هو عندكم جميع الأجسام وصفاتها، محدث وليس شيء منها بقديم، فالاحتجاج على بطلان هذه المقدمة، ببطلان هذا اللازم الذي

هو أخفى منها، عكس الواجب؛ بل إن صح هذا التلازم، كان بعض قول الفلاسفة أصح من قولكم، يا معشر المناظرين لهم، والله تعالى لم يأمرنا أن ندفع الأقوال الباطلة، من أقوال الكفار وغيرها، بالأقوال الباطلة؛ بل أمرنا أن نكون قوامين بالقسط، شهداء لله، وأن لا نقول على الله إلا الحق، ولا نقفوا ما ليس لنا به علم، قال الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 8] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } [الأعراف: 33] وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يِقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد: 3] وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر: 24] وقال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي

الوجه السادس في الرد: أن هذه الملازمة التي ذكرها الرازي بين حجة المثبتة والفلاسفة الدهرية تحتمل أن تكون حقا وأن تكون باطلا ولو صحت لم يلزم انتفاء الملزوم عينا والعلم بأن الله فوق العالم أبين في الشرع والعقل

هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وليس من الأحسن أن يدفع الباطل بالباطل، أو أن نرد ما علمناه بالفطرة والضرورة لظننا أن المبطل يدفع به الحق. *وقال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] * وقال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] فذم الله من جادل في الحق بعد ما تبين، ومن حاج فيما ليس له به علم، ومن أبين الحق ما كان معلومًا بالفطرة، فكيف يجوز أن يجادل أحد فيه فيدفعه، وإن كان هذا مشتبهًا على أحد، كان ما ليس له به علم، وليس لأحد أن يحاج فيما ليس له به علم. وهذا أصل عظيم، ومن أعظم ما ذم به السلف، والأئمة، أهل الكلام والجدل -وإن جادلوا الكفار وأهل البدع- أنهم يجادلون بالباطل في الحجج وفي الأحكام فتدبر هذا، واحترس منه؛ فإنه من توقاه تخلصت له السنة من البدعة، والحق من الباطل، والحجج الصحيحة من الفاسدة، ونجا من ضلال المتفلسفين، وحيرة المتكلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الوجه السادس: أن كل واحدة من الطائفتين تقول لهم إذا عارضهم بمذهب الآخرين ما يبطل هذه المعارضة: فيقول المثبت للعلو، من المسلمين وسائر أهل الملل والفلاسفة الصابئين والمشركين وغيرهم: أنا أعلم بفطرتي أن الموجود إما أن يكون

محايثًا لغيره أو مباينًا له. وقولك إن هذا مثل قول الفيلسوف الدهري: الموجودان إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله، هو أيضًا معلوم لي، وقولك إن هذا يستلزم تقدم العالم. أنا لا أجزم بهذه الملازمة نفيًا ولا إثباتًا. وقد يقول أيضًا: أنا لا أنظر في هذه المعارضة، وسواء جزمتُ بثبوت الملازمة، أوانتفائها أو لم أجزم بشيء، فأقول: لا يخلو إما أن يكون ما ذكرته مستلزمًا للقول، بقدم جسم من الأجسام أو لا يكون، فإن لم يكن مستلزمًا بطلت المعارضة، وإن كان مستلزمًا لقدم جسم من الأجسام، فليس علمي بحدوث الأجسام الذي تسميه حدوث العالم، أبين عندي من العلم بهذه القضية؛ إذ هذه المقدمة ضرورية فطرية، وتلك تحتاج إلى مقدمات طويلة خفية، وفيها نزاع كثير. ولا أيضًا دلالة الكتاب والسنة على حدوث جميع الأجسام، بأظهر من دلالة الكتاب والسنة على أن الله تعالى فوق العالم؛ بل القرآن مملوء بما يدل على أن الله تعالى فوق العالم، وهو دال على أن الله خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، ولكن هو يذكر مع ذلك أنه استوى على العرش، والذي نطق به القرآن في جميع الآيات لا يمكن أن يستدل به على أن جميع الأجسام محدثة، إلا بتوسط مقدمات مستنبطة: بأن يبين أن هذا المذكور في القرآن هو الأجسام، وأن لا جسم إلا ما أخبر بخلقه. وأما دلالة القرآن على العلو، فلا تحتاج إلى مقدمات

الوجه السابع في الرد: ما ذكره من المعارضة لا يندفع به واحدة من الطائفتين المثبتة والدهرية ويلزم عليه مخالفة الفطرة الضرورية التي اتفق عليها العقلاء مع مخالفة الكتب والرسل من كون واجب الوجود تعالى فوق العالم

مستنبطة. فإذا كان العلم بأن الله تعالى فوق العالم، أبين في الفطرة والشرعة من كون الأجسام كلها محدثة، لم يجب علي أن أترك ذلك المعلوم البين في الفطرة، خوفًا أن يلزمني إنكار هذا ليس هو مثله في ذلك. وهذا الجواب بين ظاهر. وملخصه أن هذه الملازمة التي ذكرها -وهو أن هذا يستلزم أن يقال: مثل حجة الفلاسفة المستلزمة قدم الزمان- إما أن تكون هذه الملازمة حقًّا في نفس الأمر أو باطلًا، فإن كانت باطلًا بطلت المعارضة، وإن كانت حقًّا لزم إما ثبوت اللازم وإما انتفاء الملزوم، لا يلزم انتفاء الملزوم عينًا، وإذا كان كذلك فليس العلم بانتفاء اللازم، بأظهر من العلم بثبوت الملزوم، بل ثبوت الملزوم أبين في الشرع والعقل، فلا يجوز على هذا التقدير انتفاء اللازم، فلا تصح المعارضة، وهكذا يقول الفيلسوف، وذلك يظهر: بالوجه السابع: وهو أن الفيلسوف يقول: وعلمي بأن المجودين إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله، علم بديهي فطري. وأما قولك: إن هذا مثل قول المجسم: الموجودان إما أن يكون أحدهما محايثًا للآخر أو بائنًا عنه. أقول: لا يخلو إما أن تكون هذه المماثلة حقًّا أو باطلًا، فإن كانت باطلًا لم يرد عليّ، وإن كانت حقًّا وجب عليَّ التزام المماثلة، وذلك يقتضي

أن أقول بثبوت النقيضين جميعًا، أو انتفائهما جميعًا؛ لا يقتضي أن أثبت الزمانية وأنفي المكانية، فإذا كنت قد فرقت بينهما بإثبات هذه ونفي الأخرى، أكون مخطئًا في هذا التفريق، لم يتعين خطئي في المكانية حتى أنفيها وأسوِّي الأخرى بها في النفي، بل إذا سويت بينهما في الإثبات، يلزمني أن أقول: إن واجب الوجود مباين للعالم، وإذا سويت بينهما في النفي، وسُلِمَ أن ذلك يبطل دلالة هذه الحجة على قدم العالم، كان غاية ما يلزمني إما بطلان القول بقدم العالم، وإما بطلان دليل معين يدل على قدمه، ولا ريب أن قدم العالم أو صحة هذه الحجة، أخفى وأبعد عن المعلوم بالفطرة، من كون واجب الوجود تعالى فوق العالم، فإن الإقرار بهذا ثابت في الفطرة، وقد تواتر عن الأنبياء والرسل القول به، فإذا كان على أحد التقديرين، أخالف المعلوم بفطرتي من العلوم الضرورية، فأنفي كل واحد من القضيتين، وأخالف الأنبياء والمرسلين، وعلى الآخر إنما أخالف الحجج الدالة على قدم العالم، وأبطل هذه الحجة المعينة، كانت مخالفة هذه أولى في عقل كل عاقل. وهذا الكلام في غاية الإنصاف والبيان. فعلم أن ما ذكروه من المعارضة لم يندفع به واحد من الطائفتين، لا في المناظرة ولا في نظر الإنسان بينه وبين ربه تعالى، ولكن أوهموا هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، والتزموا

الوجه الثامن في الرد: غاية إلزام الرازي لمثبتة العلو من حجة الدهرية القول بقدم بعض الأجسام وليس في هذا خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة

مخالفة الفطرة الضرورية العقلية، التي اتفق عليها العقلاء في كل من الإيهامين، مع ما في ذلك من مخالفة الكتب والرسل، ببعض ما قالوه في كل واحدة من المسألتين: «مسألة حدوث الأجسام» و «مسألة علو الله تعالى على خلقه» . هذا كله إذا لم يكن في الفلاسفة من يقول بالجهة، ولا في المسلمين من يقول بقدم بعض الأجسام، فكيف والمثبت للجهة يقول ما يقال في: الوجه الثامن: وهو أن يقول: غاية ما ألزمتني به من حجة الدهرية، أن يقال بقدم بعض الأجسام؛ إذ القول بقدم الأجسام جميعها لم يقل به عاقل، والقول بخلق السموات والأرض لم تدل هذه الحجة على نفيه، وإنما دلت -إن دلت- على قدم ما هو جسم أو مستلزم لجسم، وهذا مما يمكنني التزامه؛ فإنه من المعلوم أن طوائف كثيرة من المسلمين وسائر أهل الملل، لا يقولون بحدوث كل جسم، إذ الجسم عندهم هو القائم بنفسه، أو الموجود، أو الموصوف. فالقول بحدوث ذلك يستلزم القول بحدوث كل موجود وموصوف وقائم بنفسه، وذلك يستلزم بأن الله تعالى محدث. وهؤلاء يقولون لمناظريهم: نحن نبين أن القول بحدوث كل ما يدخل في المعنى الذي تسمونه جسمًا، يستلزم حدوث البارئ تعالى، ونبين أن قولكم: إن الله تعالى ليس بجسم، يستلزم حدوث البارئ، أكثر مما تبينون أن القول بثبوته يستلزم

حدوث البارئ، كما سنبين أن نفي الجهة يستلزم القول بعدم البارئ، وهذا أمر قد بين في غير هذا الموضع، وبُيّن أنما ذكره النفاة، من حدوث كل جسم حجة باطلة مبتدعة، حتى ذكر أبو الحسن الأشعري أن هذه الحجة مخالفة لحجج الأنبياء والرسل وأتباعهم، وأنها محرمة عندهم. وإذا كان كذلك، فتقول لهم مثبتة الجهة: إذا كان تصحيح هاتين المقدمتين الفطريتين، يستلزم مع كون البارئ تعالى فوق العالم مباينًا له؛ أن يكون من الأجسام ما هو قديم، أمكنني التزام ذلك، على قول طوائف من أهل الكلام، بل على قول كثير منهم، ولم أكن في ذلك موافقًا للدهرية، الذين يقولون: إن الأفلاك قديمة أزلية، حتى يقال: هذا مخالف للكتاب والسنة، أو هذا كفر؛ بل الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه المسلمون من خلق المخلوقات، وحدوث المحدثات أقول به، وأما كون البارئ جسمًا أو ليس بجسم، حتى يقال الأجسام كلها

الوجه التاسع في الرد: معارضة حجة المثبتة بحجة الدهرية حجة ثانية على صحة القول بمباينة الرب تعالى للعالم وفوقيته عليه

محدثة، فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع، لم تنطق بان الأجسام كلها محدثة، وأن الله ليس بجسم، ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين، فليس في تركي لهذا القول، خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة، بخلاف قولي: أن الله تعالى ليس فوق العالم، وأنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فإن فيه من مخالفة الفطرة والشرعة، ما هو بين لكل أحد، وهو قول لم يقله إمام من أئمة المسلمين، بل قالوا نقيضه، فكيف ألتزم خلاف المعقول الفطري، وخلاف الكتاب والسنة والإجماع القديم، خوفًا أن أقول قولًا لم أخالف فيه، كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا معقولًا فطريًّا. بل يقول في الوجه التاسع: هذه المعارضة تؤكد مذهبي وتقويه، وتكون حجة ثانية لي على صحة قولي. فإن احتججت عليّ -بأن الله تعالى مباين للعالم- بأن الموجودين إما أن يكون أحدهما مباينًا للآخر أو محايثًا له، فقلتم: هذا معارض بقول الفيلسوف: إن الموجودين إما أن يكون أحدهما متقدمًا على العالم أومقارنًا له، وذلك يستلزم القول بقدم الزمان، المستلزم للقول بقدم بعض الأجسام، فأقول: إذا كانت هذه الحجة التي عارضتموني بها مستلزمة، لكون بعض الأجسام قديمة، من غير أن تعين جسمًا، أمكن أن يكون ذلك الذي يعنونه، بأنه الجسم القديم هو الله سبحانه، كما يقوله المثبتون، وأن ذلك هو ملازم لقولنا، إنه موصوف وقائم بنفسه ونحو ذلك، فتكون هذه الحجة التي عارضتم بها، دليلًا على أن الله تعالى جسم بالمعنى الذي

الوجه العاشر في الرد: حجة المثبتة ومعارضتها بحجة الدهرية حجتان تستلزم إحداهما أن الرب تعالى مباين للعالم والأخرى تستلزم أنه جسم وهذا يثبت صحة القول بالجهة وتبين أن أكثر العقلاء على خلاف قول النفاة

ذكرتموه -الذي نقول: إنه ملازم لكونه موصوفًا، وقائمًا بنفسه وإن نازعتم في الملازمة- وذلك يدل على صحة الحجة الأولى بالاتفاق؛ فإن الجسم وما يقوم به إما أن يكون مباينًا لغيره، وإما أن يكون محايثًا له، أو حال فيه. وهذا متفق عليه، فإنكم لا تنازون في أن الجسم، أو ما يقوم به إما مباينًا لغيره أو محايثًا له، وإذا كان مُوجَبُ الحجة التي أَلزمتموني إياها يلزمني؛ أن أقول هو جسم، وذلك يستلزم أن يكون مباينًا للعالم، كان هذا الذي ألزمتموني به حجة ثانية، على أنه مباين للعالم، فأردتم معارضة كل حجة بالأخرى، ليكون ما قلتموه من تناقض الحجتين نافيًا لكونه مباينًا للعالم، ولكون كل جسم محدثًا، فتبين أن الحجتين متعاونتان متصادقتان، وأن كل واحدة منهما تدل على أنه تعالى مباين للعالم. ويقول في: الوجه العاشر: إذا كانت إحدى هاتين المقدمتين الضروريتين تستلزم أنه مباين للعالم والأخرى تستلزم أنه جسم، فقد ثبت بموجب هاتين المقدمتين صحة قول القائلين بالجهة وقول القائلين بأنه جسم، وكونه جسمًا يستلزم القول بالجهة، كما توافقون عليه، وقول القائلين بالجهة يستلزم أيضًا القول بالجسم، كما تقولون أنتم. وأكثر العقلاء خلاف ما يقوله قدماء أصحابكم: إن نفي الجسم، مستلزم لنفي الجهة والعلو على

الوجه الحادي عشر في الرد: أن معارضة حجة المثبتة بحجة الفلاسفة يجيب عنها الفيلسوف بأن أكثر ما توجب عليه القول بالجهة والقول بالجهة هو قول أئمة الفلاسفة فظهر بهذا بطلان ما ادعاه من التناقض

العرش، وأن ثبوت العلو على العرش، يستلزم ثبوت الجسم. فإذًا تكون كل واحدة من هاتين المقدمتين الفطريتين دليلًا على كل واحد من هذين المطلوبين وكل من المطلوبين دليلًا على الآخر، فصار على كل واحد من هذين المطلوبين أربع حجج، وهي مبنية على مقدمات فطرية، فقد بين هذا أن ما ذكرتموه معارضة للنفاة لتبطلوا به حجتهم، وهو من أعظم الحجج على صحة قولهم. وكذلك أيضًا يقول الفيلسوف في: الوجه الحادي عشر: وهو أن يقول: هذا الذي عارضتموني به في مسألة الزمان، أكثر ما يوجب عَليَّ أن أقول بالجهة، والقول بالجهة هو قول أئمة الفلاسفة، كما ذكرناه فيما مضى، عن القاضي أبي الوليد بن رشد الفيلسوف، الذي هو من أتبع الناس لأقوال أرسطو وذويه، وأنه قال: «القول في الجهة، وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله» قال: «وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] ومثل قوله: {وَسِعَ

كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 17] ومثل قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ومثل قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } [الملك: 16] إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولًا *وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله* متشابهًا، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله تعالى في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى» قال: «وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة

يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية» . وقد تقدم ذكرنا لبقية كلامه بألفاظه وأنه قرر أن ما فوق العالم -وهو الجهة- ليس مكانًا على اصطلاح الفلاسفة، إذ المكان عند «أرسطو» هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي، إلى أن قال: «وقد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة» إلى أن قال: «فقد ظهر من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع، وابتنى عليه، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع» فقد حكى اتفاق الحكماء على إثبات الجهة. قال: «وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى في السماء ... وأن ما قيل في الآراء السالفة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع -يعني ما فوق العالم- هو مسكن

فصل: الغلط في لفظ الظرف بسبب أن فيه اشتراكا فقد يعنى به الجسم وقد يعنى به غيره

الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة» وتصريحهم في هذا بلفظ المسكن يشبه ما ذكره الأشعري «أن المسلمين جميعًا إذا نابتهم نائبة يقولون: «يا ساكن العرش» . فقد ظهر بهذا أنما ذكره من التناقض على المجسمة والفلاسفة، لا يرد على واحدة منهما، بل يمكنهم نفي هذا التناقض. فصل لفظ «الظرف» فيه اشتراك، غلط بسببه أقوام: فإن الظرف في اللغة قد يعنى به؛ الجسم الذي يوعى فيه غيره، فَيُظَنُّ إذا استعملت هذه الأدوات في حق الله تعالى، أنه محل المخلوقات تكون في جوفه، وأنها محل له يكون في جوفها، وهذا مما يعلم قطعًا أن هذه الأدوات لم تدل على ذلك في حق الله تعالى ألبتة، بل النحاة سموا الألفاظ التي يعبر بها العرب عن المعاني، التي هي أعم من ذلك بالظروف، حتى يدخل في ذلك ما لا يحيط بالمظروف وأنواع متعددة، وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] وقال تعالى: {إِنَّ

الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) } [الأعراف: 206] وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) } [فصلت: 38] وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) } [القمر: 55] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) } [الزخرف: 4] وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) } [النمل: 6] وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود: 1] وقال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] . ولفظ «مع» من الظروف، وقد أضيف اسم الله إليه، فيما شاء الله من المواضع. وإضافته إلى الظرف أبلغ من إضافة الظرف إليه، قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] . وحق لمن يكون هذا وأمثاله كلامه، إذا أراد الله رحمته أن يتوب منه، كما قال أبو المعالي عند الموت: لقد خضت البحر الخِضَمَّ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة أمي. وروي: على

فصل: الرازي يميل إلى الدهرية أكثر من ميله إلى السلفية المثبتين للعلو لأن فيه تجهما قويا

عقيدة عجائز نيسابور. ولهذا يقول مثل هؤلاء: عليكم بدين العجائز. فإن تلك العقيدة الفطرية التي للعجائز، خير من هذه الأباطيل، التي من شعب الكفر والنفاق، وهم يجعلونها من باب التحقيق والتدقيق. فصل أبو عبد الله الرازي: فيه تجهم قوي؛ ولهذا يوجد ميله إلى الدهرية، أكثر من ميله إلى السلفية، الذي يقولون: إنه فوق العرش، وربما كان يوالي أولئك أكثر من هؤلاء، ويعادي هؤلاء أكثر من أولئك؛ مع اتفاق المسلمين على أن الدهرية كفار، وأن المثبتة للعلو فيهم من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله تعالى، وقد صنف على مذهب الدهرية المشركين والصابئين كتبًا حتى قد صنف في السحر، وعبادة الأصنام

-وهو الجبت والطاغوت- وإن كان قد أسلم من هذا الشرك وتاب من هذه الأمور، فهذه الموالاة والمعاداة لعلها في تلك الأوقات، ومن كان بتلك الأحوال، فهو قبل الإسلام والتوبة؛ ومن فعل هذا كان له نصيب من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) } [النساء: 51-52] إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) } [النساء: 60-61] إلى آخر الآيات.

يقرر ذلك أنه احتج في مقدمة هذا العلم الشريف بكلام أرسطو معلم المشائين من الدهرية ولم يكن عنده من آثار الأنبياء والمرسلين ما يقدمه على كلام الدهرية، واحتج أيضًا بما نقله عن أبي معشر البلخي المنجم -وهو من أتباع الصابئين، بل كان تارة من المشركين عباد الشمس والقمر، وعبد القمر مدة، كما أخبر بذلك عن نفسه، وصنف ما صنف في ذلك- وجواب الدهرية: أنه قبل العالم وما فيه من الزمان، وقولهم: «والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة» .

فصل: تنازع المسلمين في تسمية الله بالدهر والتحقيق في ذلك

فصل تنازع المسلمون في تسمية الله بالدهر، ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر، ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم» وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار» وفي رواية أخرى: «يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما» هذه ألفاظ مسلم.

قال القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» : اعلم أن أبا بكر الخلال قال: أخبرني بشر بن موسى الأسدي قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الدهر، فلم يجبني فيه بشيء. قال القاضي: وظاهر هذا أن أحمد توقف عن الأخذ بظاهر الحديث، وقال حنبل: سمعت هارون الحمال يقول

لأبي عبد الله: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة، فحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدهر» فقام فتح بن سهل فقال: يا أبا محمد نقول: يا دهر ارزقنا: فسمعت سفيان يقول: خذوه فإنه جهمي. وهرب، فقال أبو عبد الله: القوم يردون الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله» قال القاضي: «وظاهر هذا أنه أخذ بظاهر الحديث، ويحتمل أن يكون قوله: ونحن نؤمن بها راجع إلى أخبار الصفات في الجملة، ولم يرجع إلى هذا الحديث خاصة» . قال: «وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله رحمه الله -يعني ابن حامد- هذا الحديث في كتابه، وقال: لا يجوز أن يسمى الله دهرًا. والأمر على ما قاله، لأنه قد روي في بعض ألفاظ الحديث، ما يمنع من حمله على ظاهره هذا، ولم يرد في غيره من أخبار الصفات ما دل على صرفه عن ظاهره، فلهذا أوجب حملها على ظاهرها، وذلك أنه روي فيه: أنه «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار»

وفي لفظ آخر: «لي الليل والنهار أجدده وأبليه، وأذهب بملوك وآتي بملوك» فبين أن الدهر، الذي هو الليل والنهار، خلق له وبيده، وأنه يجدده ويبليه، فامتنع أن يكون اسمًا له. وأصل هذا الخبر أنه ورد على سبب، وهو أن الجاهلية كانت تقول: أصابني الدهر في مالي بكذا، ونالتني قوارع الدهر ومصائبه. فيضيفون كل حادث يحدث بما هو جار بقضاء الله وقدره وخلقه وتقديره، من مرض أو صحة أو غِنًى أو فقر أو حياة أو موت إلى الدهر، ويقولون: لعن الله هذا الدهر والزمان؛ ولذلك قال قائلهم: أمن المنون وريبه نتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع

وقال تعالى: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] أي ريب الدهر وحوادثه، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فأخبر عنهم بما كانوا عليه من نسبة أقدار الله وأفعاله إلى الدهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهر» أي إذا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إليه، فإن الله هو الذي أصابكم بها لا الدهر، وإنكم إذا سببتم الدهر، وفاعل ذلك ليس هو الدهر. وقال أبو بكر الخلال: سألت إبراهيم الحربي، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقول أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو

الدهر» وعن: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» قال: «كانت الجاهلية تقول الدهر هو الليل والنهار، يقولون: الليل والنهار فعل بنا كذا، فقال الله تعالى: أنا أفعل ليس الدهر» . قال القاضي: «فقد بين «إبراهيم الحربي» أن الخبر ليس على ظاهره، وأنه ورد على سبب. وذكر «أبو عبيد» نحو ما ذكرنا، فقال: لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه، وذلك أن أهل التعطيل يحتجون به على المسلمين، واحتج به بعضهم فقال: ألا تراه يقول: «فإن الله هو الدهر» قال: وتأويله أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم الدهر. فيجعلونه الذي يفعل ذلك فيذمونه عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه الأشياء، أو يصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى، إذ هو الفاعل لها لا الدهر» .

فصل: أئمة الرازي في نفي الاستواء هم الجهمية لا أئمة الأشعرية

فصل القول: بأن الله تعالى ليس فوق العرش. أول من ابتدعه في الإسلام الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وشيعتهما، وهم عند الأمة من شرار أهل الأهواء، وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم يطلقوه بتكفير أحد، وقالوا: نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نحكي كلام الجهمية، وقالوا: اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أن الله تعالى فوق العرش، وقالت الجهمية ليس فوق العرش. وليس هذا

قول أئمة متكلمة الصفاتية؛ لا أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ولا أبي العباس القلانسي ونحوهما، ولا قول أبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر الباقلاني وغيرهم من أئمة الأشعرية، الذين تزعم أنهم أصحابك. وإن قيل: إن هؤلاء متناقضون في أقوالهم، لم يكن نفي قول الأثبات، الذين صرحوا به عنهم لقولهم بما يناقضه بأولى من نفي القول النافي عنهم لقولهم ما يناقضه، لا سيما إذا كان المعروف عنهم أن الإثبات آخر القولين. وإذا كان أبو المعالي والشهرستاني وطوائف غيرهما، قد خالفوا من خالفوه، من أئمة أصحابهم وقدمائهم في الإثبات، لم يجز أن يجعل قولهم هو قول أولئك؛ بل نقل لمذهب إمامه، مع أنا قد ذكرنا بنقل العدول الأئمة أن أبا المعالي تحير في هذه المسألة في حياته، ورجع إلى دين أهل الفطرة، كالعجائز عند مماته، وكذلك الرازي أيضًا حيرته وتوبته معروفة، وكذلك أئمة هؤلاء.

ثم يقال: هب أنه قَوْلُ هؤلاء، أفهؤلاء ومن وافقوه من المعتزلة، هم أهل التوحيد والتنزيه دون سائر النبيين والمرسلين والصحابة، والتابعين وسائر أئمة *المسلمين وسائر الطوائف من أئمة* الفقهاء، والصوفية والمحدثين وأصناف المتكلمين، الذين لم يوافقوا هؤلاء في هذا السلب، بل يصرحون بنقيضه، أو بما يستلزم نقيضه؟!! وكلامهم في ذلك ملء العالم، مع موافقتهم للكتب المنزلة من السماء، وللفطرة الضرورية التي عليها عموم الدهماء، والمقاييس العقلية السليمة عن المراء. وقد ذكر هذا الإمام لتباعه أبو عبد الله الرازي - في كتابه «أقسام اللذات» لما ذكر اللذة العقلية، وأنها العلم، وأن أشرف العلوم العلم بالله، لكنه العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلى كل واحدة من ذلك عنده: هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد؟ وهل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وهل الفعل مقارن أو محدث؟ ثم قال: «ومن الذي وصل إلى هذا الباب،

أو ذاق من هذا الشراب؟!. نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } [طه: 110] ثم قال: «ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» ومثل

الوجه الثاني عشر في الرد: إلزام المؤلف للرازي بأن قوله يؤول إلى قول الدهرية تصريحا أو لزوما ويوقعه في أربعة محاذير

هذا كثير عن هؤلاء، أئمة هذه المقالة النافية، يعترفون بعدم العلم بها، ويرجعون إلى ما عليه أهل الفطرة، وما عليه أهل الظاهر -الحشوية عندهم- فكيف يكونون هم أهل التوحيد والتنزيه، مع هذا الريب والشك والحيرة والتمويه؟!!. الوجه الثاني عشر: أن يقال له: دعواكم الرد على الدهرية بمثل جحد هذه المقدمة وأمثالها، مما تبين فيها أنكم جحدتم العلوم الفطرية، أوقعكم في أمور أربعة: أحدها: اتفاق سلف الأمة وأئمتها على ذمكم، وذم كلامكم. الثاني: نفور أهل الإيمان عن طريقكم، وما قذف الله في قلوبهم من البغض لذلك، وهم شهداء الله تعالى على الأرض. الثالث: طمع الفلاسفة الدهرية فيكم، وقولهم فيكم: أهل جدل وكلام، لا أهل علم وبرهان، حتى ارتد خلق كثير منكم، إليهم، بل ابن الراوندي الذي يقال: إنه من شيوخ الأشعري،

صنف كتابه المسمى بـ «كتاب التاج في قدم العالم» موافقة للدهرية. وهؤلاء المدعون للتحقيق منكم، كصاحب الفصوص، وابن سبعين، وأمثالهما، يؤول بهم الأمر إلى

أن يقتصروا على قول الدهرية، الذين يثبتون واجب الوجود، و [لا] يفرقون بين الواجب والممكن، بل يجعلون وجوده وجود الممكنات، ولا يجعلون له وجودًا خارجًا عن وجود الأرض والسموات، ويصرح من يصرح من فضلائهم، بأن قولهم هو قول فرعون، وأنهم على قول فرعون، فيأتون بقول الدهرية المتضمن لإنكار الصانع -وهو شر المقالات- ويدّعون أن هذا هو التحقيق والعرفان، وسببه أنكم سلكتم بهم في طريقة النفي والتعطيل، التي لا تثبت للصانع وجودًا مباينًا للمخلوق، وهذه يضطر سالكها إلى أن لا يقول بموجود وراء العالم، وهو محض قول الدهرية، فكيف تتبرؤون منهم، وقولكم يؤول إليهم تصريحًا أو لزومًا؟!!. الرابع: أن يقال له: أنت معترف بعجزك عن مقاومة الدهرية، وأنت في أكبر كتبك «المطالب العالية» ذكرت أدلة

الفريقين: القائليْن بحدوث العالم، وقدمه، وضربت هذه بهذه، ولم ترجح شيئًا، بل ذكرت أن الكتب الإلهية والأدلة السمعية لم تبين هذه المسألة، وفي أجل كتبك الكلامية لم تحتج على حدوثه بحجة ظنية فضلًا عن علمية، وادعيت أن ذلك لا يتم إلا بمقدمة تذكر في سائر كتبك، أنها معلومة الفساد بالضرورة، وهو ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، فمن تكون هذه حاله؟ كيف يدعي أنه وأصحابه أهل التوحيد والتنزيه دون المثبتين والفلاسفة؟!. وسبب ذلك أنهم أدخلوا في مسالة حدوث العالم حقًّا وباطلًا، وطلبوا إثباتهما معًا، فلم ينهض دليل صحيح بإثبات باطل مع حق، وطمع فيهم خصمهم لما رآه من ذلك، وإن كان كلام خصومهم فيها أيضًا فاسدًا متناقضًا، فالطائفتان فيها ضالتان، وذلك أن هذا وأصحابه سلكوا طريق المعتزلة، التي التزموا حدوث الموصوفات بحدوث صفاتها، والتزموا على ذلك امتناع اتصاف الرب بصفة، ولزمهم على ذلك وإن لم يلتزموه

حدوث كل قائم بنفسه، بل حدوث كل موجود، فكان ما ذكروه من الحجة متضمنًا حدوث الموجودات كلها، *حتى الرب تعالى* ومعلوم أن الدليل على ذلك لا يكون حقًّا، وقابلوا بها من زعم أن من المخلوقات ما هو قديم كالعناصر والسموات، وقابلوا باطلًا بباطل، ثم إنهم اضطربوا في العلم بحدوث الصفات وحدوث موصوفاتها، اضطرابًا ذكرناه في غير هذا الموضع، ثم جاء هؤلاء فوافقوهم في المعنى دون العبارة، وزعموا أن الموصوف الذي سموا صفته عرضًا يستدل على حدوثه بحدوث صفته، وزعموا أن شيئًا من صفات المخلوقات لا يبقى زمانين، وأن القابل لصفة لا يخلو منها ومن ضدها، وقود مقالتهم يوجب مثل تلك المقالة، مع ما التزموه في مواضع من المكابرات، وإن كانوا في مواضع اعترفوا بالحق

الذي أنكره أولئك. ومن تدبر عامة بدع الجهمية ونحوهم، وجدها ناشئة عن مباحث هذه الدعوى والحجة. ولهذا كان السلف والأئمة يذمون كلامهم في الجواهر والأعراض، وبناءهم علم الدين على ما ذكروه من هذه المقدمات، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع. قال الإمام أبو المظفر السمعاني: «والأصل الذي يؤسسه المتكلمون والأصل الذي يجعلونه قاعدة علومهم: «مسألة العرض والجوهر وإثباتهما» وأنهم قالوا: إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن تكون جسمًا، أو عرضًا، أو جوهرًا، فالجسم ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما احتمل الأعراض، والعرض ما لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي لا توافق نظرهم وعقولهم، ولهذا قال بعض السلف: إن أهل الكلام أعداء الدين، لأن

الوجه الثالث عشر في الرد: تسمية الرازي أصحابه أهل التوحيد والتنزيه تبع فيه المعتزلة نفاة الصفات الذين حقيقة قولهم قول أهل التعطيل

اعتمادهم على حدسهم وظنونهم، وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم، ثم يعرضون عليه الأحاديث فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه. وأما أهل السنة سلمهم الله تعالى، فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة، ويحتجون له بالحجج الواضحة، على حسب ما أذن فيه الشرع، وورد به السمع» وذكر تمام الكلام. والمقصود أن هذا وأمثاله وإن كان في هذا المقام يتجوه بمخالفة الدهرية، وليس الرد على الدهرية معلومًا من طريقهم، بل طريقهم هم والدهرية فيها متقابلون يقولون هؤلاء الحق تارة والباطل أخرى، وكذلك أولئك، وليس أذكياؤهم على بصيرة فيها، وسبب ذلك ما يجحدونه من الحق المعلوم، وما يدعونه من الدعاوى الباطلة والمشتملة على حق وباطل، وإلا فلو كانت الحجج حقًّا محضًا لم ينكرها أحد من السلف والأئمة، ولا كان للمخالفين طريق صحيح إلى هدمها. الوجه الثالث عشر: أن تسميتك أصحابك أهل التوحيد

والتنزيه، هو مما اتبعتم فيه المعتزلة نفاة الصفات، فإنهم فسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى؛ وادعوا أن من أثبت الصفات لم يكن موحدًا، لأن الواحد عندهم -الذي لا يعقل فيه- ما تميز منه شيء عن شيء أصلًا، وثبوت الصفات يقتضي الكثرة، والذي جعلوه واحدًا لا ينطبق إلا على معدوم ممتنع، كما سيأتي بيانه. ومن المعلوم أن التوحيد الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه *والتنزيه الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه*، هو ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع؛ مثل عبادة الله وحده لا شريك له، فمن عبد غيره كان مشركًا ولم يكن موحدًا، وإن أقر أنه خالق كل شيء، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) } [يوسف: 106] وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) } [المؤمنون: 84-85] وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] وأمثال هذه الآيات. وأما تفسير التوحيد بما يستلزم نفي الصفات، أو نفي علوه على العرش؛ بل بما يستلزم نفي ما هو أعم من ذلك، فهو شيء

ابتدعته الجهمية لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا إمام، وكذلك جعل التشبيه ضد التوحيد، وتفسير التشبيه بما فيه إثبات الصفات. هو أيضًا باطل، فإن التوحيد نقيضه الإشراك بالله تعالى والتمثيل له بخلقه، وإن كان ينافي التوحيد فليس المراد بذلك ما يسمونه هم تشبهًا، فإنهم يسمون المعاني بأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، مرتبين على ذلك الحمد والذم، ومن علق الحمد والذم بأسماء ليست مما أنزل الله بها سلطانًا بين فيه ما يحمده وما يذمه، فقد ابتدع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وليس هذا موضع بسط هذا وتبيينه [فـ]ـإن كل من كان إلى التعطيل أقرب وعن القرآن والإسلام أبعد كان أحق بهذا المعنى الذي تسميه التوحيد والتنزيه. فإن المعتزلة أحق منهم بهذا؛ لأنهم أحق بنفي الصفات والكثرة، وأحق بنفي الأمور التي يجعلون إثباتها تشبيهًا، والفلاسفة أحق من المعتزلة بهذا، وأهل وحدة الوجود أحق بهذا من الفلاسفة، ولهذا يدَّعون من التوحيد والتحقيق والعرفان بحسب هذا الوضع والإصلاح الذي ابتدعوه ما لا يمكن هؤلاء رده إلا بنقض الأصول المبتدعة، التي وافقوهم عليها، ومن

المعلوم أن الوجود المطلق ليس شيئًا له وجود في الخارج مطلقًا، حتى يوصف بوحدة ولا كثرة، وإنما حقيقة قولهم قول أهل التعطيل الذي هم شرار الدهرية، فظهر أن توحيدهم هذا وتنزيههم هذا دهليز التعطيل والزندقة، وأن من كان أعظم تعطيلًا وإلحادًا، كان أحق بتوحيدهم وتنزيههم هذا، وهذا بخلاف ما كان من أهل الإثبات المقرين بالتوحيد والتنزيه، الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب، التوحيد العلمي القولي، كالتوحيد الذي دلت عليه السورة، التي هي صفة الرحمن، وهي تعل ثلث القرآن. والتوحيد العملي

الوجه الرابع عشر في الرد: قول الرازي أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته يجاب عنه: أولا بأن هذا اللفظ مجمل، وثانيا أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية فلو كان كله باطلا لكان نفي ذلك من

الإرادي الذي دلت عليه السورة التي هي براءة من الشرك، وهما سورتا الإخلاص، فإن هؤلاء الموحدين، كما حققوا هذا التوحيد بعدوا عن أهل الشرك والتعطيل وتبرؤا منهم، كما قال إمامهم إبراهيم لقومه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) } [الزخرف: 26-27] وقال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) } [الشعراء: 75-77] وقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } [الأنعام: 78-79] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] . الوجه الرابع عشر: قوله: «أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته» يقال له: قد تقدم الكلام على هذا اللفظ المجمل غير مرة. ثم يقال له: لا ريب أن الله تعالى أنزل كتابه بيانًا للناس وهدى وشفاءً، وقال تعالى فيه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقال: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) } [طه: 123] وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } [الأعراف: 157] وقال: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15-16] وقالت الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1-2] وقص الله تعالى ذلك عنهم على سبيل التصديق لهم في ذلك، والثناء عليهم بهذا القول، وكذلك قولهم: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30] وأمثال هذا كثير. وقد بين الله تعالى ما يتقى من القول فيه والظن، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } [الأعراف: 33] وقال عن الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } [البقرة: 169] وقال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]

وقال: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] وقال: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] فذم من يقول ما لا يعلم، ومن يقول غير الحق، ومن يجادل فيما لا يعلم، ومن يجادل في غير الحق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» وقال تعالى في موضع آخر: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23] وقال: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) } [النجم: 28] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) } [الحج: 8] .

ومن المعلوم أن العلم له طرق ومدارك وقوى باطنة وظاهرة في الإنسان، فإنه يحس الأشياء ويشهدها، ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله، ويقيس ما غاب على ما شهد، والذي يناله الإنسان بهذه الأسباب قد يكون علمًا، وقد يكون ظنًا لا يعلمه، وما يقوله ويعتقده ويحسه ويتخيله، قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا. فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إدراك وإدراك، ولا بين سبب وسبب، ولا بين القوى الباطنة والظاهرة فجعل بعض ذلك مقبولًا وبعضه مردودًا، بل جعل المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقًا. فلو كان بعض أجناس الإدراك وطرقه باطلًا مطلقًا في حق الله تعالى، أو كان حكمه غير مقبول، كان رد ذلك مطلقًا واجبًا، والمنع من قبوله مطلقًا متعينًا إن لم يعلم بجهة أخرى، كما قال في الخبر: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وقال في الاعتبار والقياس الصحيح {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فلما كان من المخبرين من لا يقبل خبره إذا انفرد أمر بالتثبت في خبره، ولما كان القياس والاعتبار يحصل فيه الظلم والبغي، بتسوية الشيء بما ليس مثله في الشرع والعقل، أمر بالعدل

والقسط، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] فبين تعالى أن سبب الاختلاف هو البغي الذي هو خلاف العدل، فالشبهة الفاسدة من هذا النمط، وهي من أسباب الاختلاف بعد بيان الكتاب والسنة للحق المعلوم، كما قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] . فلو كان في الإحساس الباطن والظاهر ما يرد حكمه مطلقًا، حتى يوافقه إحساس آخر، لكان ذلك أيضًا مردودًا، وليبين ذلك كما بين نظيره، فإن الحاجة إلى ذلك في أصل الإيمان أعظم من الحاجة إلى ما هو دون ذلك بدرجات كثيرة، فلما كان المحرم هو اتباع الظن وما تهوى الأنفس، والقول في الدين بلا علم، أو قول غير الحق، نهى عن ذلك ولم يفرق بين إحساس ظاهر أو باطن، ولا بين حس وعقل، فلم يكن أحد ليفرق بين ما جمع الله تعالى بينه، ويجمع بين ما فرق الله تعالى بينه، بل يتبع كتاب الله تعالى على وجهه، والله أعلم. والذي دل عليه الكتاب أن طرق الحس والخيال والعقل وغير ذلك متى لم يكن عالمًا بموجبها لم يكن له أن يقول على الله، وليس له أن يقول عليه إلا الحق، وليس له أن يقفوَ ما ليس له به علم لا في حق الله ولا في حق غيره، فأما تخصيص الإحساس الباطن بمنعه عن تصور الأمور الإلهية بحسه، فهو

الوجه الخامس عشر في الرد: أن الرازي وأصحابه يستدلون على منازعيهم في إثبات الصفات لله تعالى بجنس هذه الحجج وأضعف منها

خلاف ما دل عليه القرآن من تسوية هذا بسائر أنواع الإحساس في المنع، وأن القول بموجبها جميعها إذا كان باطلًا حرم في حق الله تعالى وحق عباده، وإن كان حقًّا لم ينه عنه في شيء من ذلك. يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية. بل وغيرها، فلو كان ذلك كله باطلًا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة، ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة: ما تخيلته فالله بخلافه، لا سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات. الوجه الخامس عشر: قولك: «الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته» يقال له: ليس الأمر كذلك؛ بل هم يستدلون على منازعيهم في إثبات الصفات لله وما يتبع ذلك، بما هو جنس هذه الحجج وأضعف منها، سواء سميت ذلك من حكم العقل، أو من حكم الوهم والخيال، فإن الاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ لا سيما وقد جرت عادة هؤلاء المتكلمين، أنهم يسمون -بدعواهم- منازعيهم بالأسماء المذمومة ويسمون أنفسهم بالأسماء المحمودة، وإن كانوا

الوجه السادس عشر في الرد: أن الأصل الذي اشتركت فيه الدهرية والجهمية التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان مع تفرقهم في المناظرة والمخاصمة فكل منهم له من الباطل نصيب

مشتركين في جهة الحمد والذم، ويقول أحدهم: قال أهل الحق، وقال أهل التوحيد ونحو ذلك، حتى قد يدعون الإيمان أو ولاية الله تعالى لأنفسهم خاصة، كما يفعل ذلك الرافضة والمعتزلة وطوائف من غلاة الصوفية، وهؤلاء فيهم شبه من أهل الكتاب الذين قالوا: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] وقالوا: إن الدار الآخرة خالصة لهم عند الله يوم القيامة، والذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ويسمي أحدهم من أثبت لله صفة مشبهًا ومجسمًا، مع كونه قد أثبت نظيرها أو أبلغ منها، ويسمي النافي معطلًا، ويكون قد نفى نظير ما نفاه ذلك. الوجه السادس عشر: أن يقال: أصل الجهل والضلال والزندقة والنفاق والإلحاد والكفر والتعطيل في هذا الباب، هو ما اشتركت فيه الدهرية والجهمية من التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان أصلًا، بل البراهين إذا أعطوها حقها أوجبت ثبوت الصفات، وهم مع اشتراكهم في هذا الأصل الفاسد، افترقوا حينئذ في المناظرة والمخاصمة، كل قوم معهم من الباطل نصيب. وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية، كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مناظرة جهم للسمنية -وهم من الدهرية- حيث أنكروا الصانع، وإن كان

غيرهم من فلاسفة الهند كالبراهمة لا ينكره، بل يقول العالم محدث فعله فاعل مختار، كما يحكي عنهم المتكلمون. وكذلك مناظرة المعتزلة وغيرهم لغير هؤلاء من فلاسفة الروم والفرس وغيرهم من أنواع الدهرية، وكذلك مناظرة بعضهم بعضًا في تقرير الإسلام عليهم، وإحداثهم في الحجج التي سموها أصول الدين ما ظنوا أن دين الإسلام ينبني عليها. وذلك هو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وذم أصحابه وتجهيلهم، فإن كان كلام السلف والأئمة في ذم الجهمية والمتكلمين لا يحصيه إلا الله تعالى، وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسلمين، من أن الله تعالى خلق السموات والأرض، وأن العالم له صانع خالق خلقه، ويردوا على من يزعم أن ذلك قديم: إما واجب بنفسه، وإما معلول علة واجبة بنفسها. فإن «الدهرية» لهم قولان في ذلك، ولعل أكثر المتكلمين إذا ذكروا قول الدهرية لا يذكرون من الدهرية إلا من ينكر الصانع فيقول: «الدهرية» وهم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع، وعندهم كل من آمن بالصانع فإنه يقول بحدوث العالم، وهذا كما قال طوائف من المتكلمين، كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني: قال في «مسائل التكفير» : «وجملة الخلاف على ضربين: خلاف مع الخارجين عن الملة المنكرين لكلمة التوحيد وإثبات النبوة -أعني نبوة محمد

صلى الله عليه وسلم- وخلاف مع أهل القبلة المنتسبين إلى الملة. فأما الخلاف مع الخارجين عن الملة فعلى ثلاثة أضرب: خلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم، وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلًا كالبراهمة، وخلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم» . فجعل ثبوت الصانع وحدوث العالم قولًا، وإنكار الصانع وقدم العالم قولًا، ولم يذكر قولًا ثالثًا بإثبات الصانع وقدم العالم، لأن ذلك كالمتنافي عند جمهور المتكلمين فلا يجعل قولًا قائمًا بنفسه. وأما الرازي وأمثاله فيذكرون الدهرية أعم من هذا بحيث أدخلوا فيهم هذا القسم الذي هو قول المشائين -أرسطو وذويه- وقول غيرهم فقال في كتاب «نهاية العقول» : «المسألة الرابعة في تفصيل الكفار، قال: الكفار إما أن يكونوا معترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا يكونوا، فإن لم يكن فإما أن يكونوا معترفين بشيء من النبوات وهم اليهود والنصارى وغيرهم، وإما أن لا يعترفوا بذلك، وهم إما أن يكونوا مثبتين للفاعل المختار وهم البراهمة، وإما أن لا يثبتوه وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم» وكذلك قول غير هذا مثل ابن الهيصم وأمثاله قالوا: قالت الدهرية من منكري الصانع ومثبتيه: إن العالم على هيئة

الحجة التي ابتدعها المتكلمون في إثبات الصانع وخلق العالم بنوها على مقدمتين

ما تراه عليه قد كان لم يزل، إلا أن من أثبت الصانع منهم زعم أنه مصنوع لم يتأخر في الوجود عن صانعه، وإليه ذهب أرسطوطاليس ومن قال بقوله، وقال أهل التوحيد: بل هو مصنوع محدث لم يكن ثم كان. ولا ريب أن إنكار الصانع بالكلية قول «السمنية» الذين ناظرهم الجهم بن صفوان وغيرهم من الدهرية، وكطوائف غير هؤلاء من الأمم المتقدمة. وأما الدهرية اليونان أتباع أرسطو وذويه ونحوهم فهم مع كونهم دهرية يقرون بأن العالم معلول علة واجبة بنفسها، ولهذا نفق قول هؤلاء على طوائف كثيرة، وصاروا في هذه زنادقة منافقين، وادعوا علم الباطن الذي اختصوا بمعرفته، وزعموا أن ما أظهرته الشرائع لمنفعة الجمهور ونحو ذلك مما ليس هذا موضعه. والمقصود هنا أن أولئك المتكلمين لما راموا إثبات وجود الصانع وخلق العالم، سلكوا الطريقة التي ابتدعوها من الاستدلال على حدوث الموصوفات، بحدوث صفاتها أو بحدوث صفاتها وأفعالها، وسموا ذلك أجسامًا أو جواهر، وسموا صفاتها وأفعالها أعراضًا، وبنوا الحجة على مقدمتين: إحداهما: أن الموصوفات لا تخلو عن أعراض حادثة، من صفات وأفعال تعتقب عليها.

والثانية: أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. فاحتجوا في تقرير «المقدمة الأولى» إلى ثبوت الأعراض أو بعضها، وحدوثها أو حدوث بعضها، وأن الأجسام لا تخلو منها أو من بعضها. فتارة يستدلون بما شهدوه من الاجتماع والافتراق، وتارة يقولون: إنه لازم لها من الحركة والسكون -وهذه الأقسام الأربعة هي الأكوان عندهم- وهذه حجة الصفاتية يحتجون بالأكوان، ويقولون: إن الله تعالى لا يوصف بها، وآخرون فيهم لا يحتجون إلا بجواز الاجتماع والافتراق دون الحركة والسكون حتى يستقيم له أن يصف الرب بذلك، ويقول عن هذا الذي لا تخلو الجواهر منه، وهو مبني

على الجوهر الفرد. وتارة يدعي بعضهم حدوث جميع الأعراض زعمًا منه أن العرض لا يبقى زمانين؛ ويدعون مع ذلك بأن كل جسم فلن يخلو عما يمكن قبوله من الأعراض، أو عن ضد. ونشأ بينهم في هذا من المقالات والنزاع ما يطول ذكره. وأما المقدمة الثانية: فكانت في بادئ الرأي أظهر؛ ولهذا كثير منهم يأخذها مسلمة، فإن ما لا يخلو عن الحادث فهو مقارنه ومجامعه لا يتقدم عليه، وإذا قدر شيئان متقارنان لا يتقدم أحدهما الآخر، وأحدهما حادث كان الآخر حادثًا. لكن في اللفظ إجمال، فإن هذا القائل: ما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث: فهو حادث، أو ما تعتقب عليه الحوادث فهو حادث ونحو ذلك. له معنيان: أحدهما: ما لا يخلو عن حوادث معينة لها ابتداء. فلا ريب أن ما تقدم على ما له ابتداء فله ابتداء. والثاني: أن ما لا يخلو عن جنس الحوادث -بحيث لم يزل قائمًا به ما يكون فعلًا له، كالحركة التي تحدث شيئًا بعد شيء- فهذا لا يعلم أنه حادث، إن لم يعلم أن ذلك الجنس لا يكون

قديمًا، بل يمنع حوادث لا أول لها، وهذه مقدمة مشكلة، بل كلام المتكلمين والفلاسفة فيما يتناهى وفيما لا يتناهى فيه من الاضطراب ما ليس هذا موضعه، فاحتاجوا أن يستدلوا على هذه بأدلة التزموا طردها، فنشأ عن ذلك مذاهب أُخر؛ كنفي التناهي في المستقبل، حتى قال طوائف -منهم الجهم- بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولًا وآخرًا، فقال: بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل، بوجوب فناء الحركات، إلى مقالات.

وإن كان طوائف من المصنفين في الكلام لا يتعرضون لهذه المقدمة، بل يرون أن قولهم: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، يكفي في العلم بحدوث ما التزمته الحوادث. وهؤلاء يقولون إن قولنا: حوادث، وقولنا: لا أول لها. مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى، وأن لفظ كونها حوادث يوجب أن يكون لها أول. وهذه طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما. وقولهم هذا يشبه قولهم: إن نفي حدوث العالم هو قول نفاة الصانع، ولأجل ما في هذه القضية من الاشتباه خفي عليهم هذا الموضع الذي لا بد من معرفته، وبهذه الطريقة نفوا [أن] يقوم به فعل من الأفعال، فنفوا أن الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا، كما نطق به القرآن في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى

حجة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما مبنية على وجوب الكون للجسم ووجوب حدوثه وامتناع حوادث لا أول لها

الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] فخص الاستواء بكونه بعد خلق السموات والأرض، كما خصه بأنه على العرش، وهذا التخصيص المكاني والزماني، كتخصيص النزول وغيره، إذ أبطلوا بهذه الطريقة أن يكون على العرش مطلقًا، وإن كان كثير ممن يسلك هذه الطريقة يجوز عليه الأفعال الحادثة، فلا يمنع حدوث الاستواء، كما كان كثير ممن ينفي ذلك، يقول باستوائه على العرش مع نفي قيام الفعل به، كما سيأتي مأخذ الناس في هذا. وإنما الغرض هنا التنبيه على هذه الطريقة: فقال نفاة الصفات -من المعتزلة ونحوهم، والصفاتية المنكرون للأفعال؛ كالكلابية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، وغيرهم، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الأسفراييني، وأبي بكر بن فورك، وغيرهم قالوا-: الجسم محدث، والدلالة على حدوثه أنا وجدنا هذه الأجسام تتغير عليها الأحوال والصفات: فتكون تارة متحركة، وتارة ساكنة، وتارة حية، وتارة ميتة، وكذلك سائر الصفات التي تتجدد عليها، فلا يخلو الجسم من أن يكون انتقل من حال قدم إلى حال قدم، أو من حال حدث إلى حال حدث، أو من حال قدم إلى حال حدث، أو من حال حدث إلى حال قدم، فيستحيل أن يكون متنقلًا من حال قدم إلى حال قدم، لأنه لو كان كذلك استحال خروجه عن تلك الحال، لأن كل حكم

حصل عليه الجسم فيما لم يزل وجب وجوده دائمًا، كوجوب وجوده، فلما لم يصح خروج القديم عن وجوده الأزلي، لأن وجوده ثابت فيما لم يزل، كذلك لا يصح خروجه عن كل حكم كان عليه فيما لم يزل، وفي العلم بأنه ينتقل من المكان الذي فيه ويخرجه عنه، دليل على أنه لم يكن في ذلك المكان فيما لم يزل، لأن كل مكان يشار إليه وكل حال يشار إليه يصح خروجه عنهما، وإذا جاز خروجه عنهما، ثبت أنه لم يكن حاصلًا في ذلك المكان، ولا على تلك الصفة فيما لم يزل، وإن كانت الحالة الأولى لم تكن حالة قدم، فالحالة التي تجددت بعد أن لم تكن، أولى وأحرى أن لا تكون حالة قدم، فثبت بذلك أن الجسم لم يكن موجودًا فيما لم يزل؛ إذ لو كان موجودًا فيما لم يزل، لكان لا بد أن يكون في مكان أو ما يقدر تقدير المكان، ولو كان كذلك لاستحال خروجه عن تلك المحاذاة لما ذكرناه، وإلا نودي إلى حدثه وصح بذلك ما قلناه. فهذا نظم حجة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما، وهي حجة مبنية على وجوب الكون للجسم، ووجوب حدوثه، وامتناع حوادث لا أول لها، وهذه حجة أكثرهم. ومضمونها أن الجسم القديم لا بد له من مكان، فإن كان قديمًا امتنع خروجه عنه، وإن كان حادثًا لزم قيام الحادث به وتعاقب الحوادث عليه، وهي حجة الرازي وغيره في حدوث العالم.

فصل: موافقة طوائف من أهل الفلسفة والكلام لجماهير أهل السنة على ثبوت الصفات الذاتية والفعلية لله تعالى

فصل النصوص قد أخبرت والعقول قد دلت، على ثبوت صفات لله متنوعات له، من العلم والقدرة، والحب والبغض، والسمع والبصر، فإذا كان مع ذلك قد لزم القول بأفعال تقوم بذاته، كما تقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام، مع جماهير أهل الحديث والفقه والتصوف وسلف الأمة، وأن الأفعال متعلقة بمشيئته وقدرته، وقد علم ما دلت عليه النصوص مع أن [في] العقول تنبيهًا عليه، من قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فإنه إذا كان جملة السموات مقبوضة بيمينه، وقد قال ابن العباس: «ما السموات والسبع والأرضون السبع وما فيهما وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» وقد علم بالعقل أنه يجب أن يكون أعظم بكل وجه من مخلوقاته ومبتدعاته، إذ كل ما فيها من وجود وكمال، فهو من أثر قدرته ومشيئته فهو أعظم وأكبر، وإذا كان كذلك كانت أفعاله التي

يفعلها بذاته تناسب ذاته، وكانت أعظم وأجل من أن يدرك عقول البشر قدرها، وإذا كان من المعلوم أن حدوث هذه المتكونات من استحالة العناصر والمولدات أعظم نسبة إلى الفلك من الخردلة إلى الإنسان العظيم -إذ في الإنسان من قدر الخردل أكثر مما في الفلك من قدر العناصر والمولدات- فنسبة الأفلاك وما فيها إلى الرب تعالى دون نسبة حوادثها المتكونة إلى الفلك، فإذا جاز أن تكون هذه محدثة بحركة مشهودة حادثة في الفلك، فحدوث الفلك وما فيه لفعل يفعله الرب أولى بالجواز؛ وأبعد عن الامتناع -وله المثل الأعلى- هذا مع أن هذه المحدثات إنما هي منسوبة عندهم إلى فيض العقل الفعال، مع إعداد حركات جميع الأفلاك للقوابل، وحينئذ فتكون نسبة المحدثات إلى ذلك نسبة كَثْرة، أعظم من نسبة الخردلة إلى الإنسان بكثير. ولهذا يظهر ذلك للعباد في المعاد، إذا قبض الجبار الأرض بيده وطوى السموات بيمينه ثم هزهن وقال: «أنا الملك أين ملوك الأرض؟» «أين الجبارون؟، أين المتكبرون؟» .

يلزم الدهرية النافين لوجود الرب أو فعله من الشبهة والمحذور أعظم مما يلزمهم من إثبات وجوده أو فعله

وإنما يعظم على الجهال من المتفلسفة، وأمثالهم وأشباههم، تقدير حدوث العالم وتغيره، لأنهم لم يقدروا الله حق قدره، وكان ينبغي كلما شهدوه من عظم العالم وقدره يدلهم على قدر مبدعه؛ لكن لما ضل من ضل منهم لم يثبت لخالقه ومبدعه وجودًا مطلقًا لا ينطبق إلا على العدم، وإن أثبت له نوعًا من الخصائص الكلية، فهي أيضًا لا تمنع أنه إنما يطابق العدم، ولهذا كان هؤلاء من الدهرية المعطلة نظيرًا للصفاتية الذين لا يثبتون حقيقة الذات المباينة للعالم، فإن حقيقة قولهم يعود إلى قول معطلة الصفات أيضًا. وإذا كان الأمر كذلك فيقال لمن يلتزم منهم نفي الصانع ويقول: أنا أقول إنه قديم واجب بنفسه، لئلا يلزمني هذا المحذور الذي ذكرتموه في صدوره عن فاعل قديم -كما قد يقوله بعض الصفاتية إذا ضاقت عليهم الحجج في مسألة العرش والقرآن، والرؤية وغيرها نحن نلتزم قول المعتزلة بنفي الصفات مطلقًا- فإنه يقال لهذا الدهري إذا كنت تجوز في عقلك وجود هذه الأفلاك قديمة أزلية واجبة الوجود أو حادثة بذاتها، فإنها إذا لم تكن مفعولة لغيرها، فإما أن تكون قديمة بنفسها أو حادثة بنفسها، فإذا جوزت ذلك بلا زمان ولا مكان، ولا من مادة

ولا عن خالق، لأن في إثبات الخالق، إثبات صدور عن فاعل قديم أو حدوثها عنه بلا زمان ولا مكان ولا من مادة، وهذا خلاف ما يشهد من صدور الأجسام عن غيرها أو حدوثها، فإن تجويز وجوبها بنفسها وقدمها، أو حدوثها بنفسها بلا فاعل، أبعد عن المشهود والمحسوس والمعقول، من صدورها عن فاعل بلا مادة ولا مكان ولا من زمان؛ فإن المشهودات صادرة في مكان وزمان، ومن مادة، وعن فاعل في الجملة، وإن سميتموه طبيعة أو قوى فلكية أو غير ذلك، فإنكم لا يمكنكم إنكار الأسباب الحادثة المحسوسة، فإذا جوزتم وجود ذلك في غير زمان ولا مكان ولا من مادة ولا بفاعل، كان ذلك أبعد عن المحسوس والمعقول مما فررتم منه، وإذا قلتم ذلك قديم واجب الوجود بنفسه، كان ما يلزمكم في هذا من المحذورات أعظم بكثير، مما يلزمكم من الاعتراف بصانع لها قديم واجب الوجود، فإنكم مهما أوردتموه في ثبوته حينئذ من كونه يستلزم أن يكون محلًّا للصفات والأفعال ونحو ذلك، فإن ذلك يلزمكم أعظم منه إذا قلتم: بأن الأفلاك قديمة واجبة الوجود بنفسها، وإن قدر أن قائلًا يقول: إنها حدثت بأنفسها. فهذا أعظم إحالة. وهذا مما ينبغي التفطن له، فكل ما يقوله الدهرية من نفاة

الصانع ومن مثبتيه من الشبهة النافية لوجوده أو لفعله، فإنه يلزمهم أعظم منه على قولهم: بأن العالم قديم واجب الوجود بنفسه، مستغن عن صانع، وقولهم: بأنه معلول عن علة موجبة. فتدبر هذا. وأصل ذلك أن الله ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا مفعولاته؛ فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئًا ما يستحقه، لعدم نظيره في الشاهد، كان ما يثبته بدون الذي نفاه أبعد عن المشهود: مثل أن يثبت الصفات بلا حقيقة الذات، أو الذات بلا صفات، أو يثبتهما بدون فعل يقوم بنفسه؛ أو يثبت ذلك لازمًا لذاته، أو يقول: إن هذا المحسوس هو القديم الواجب الوجود بنفسه، أو يقول حدث بنفسه. فكل هذه المقالات النافية يلزم كل قول منها من المعارضات أعظم مما أورده هو على أقوال المثبتين، فلا خلاص عنها بحال، إذ الوجود مشهود محسوس، ولا يخلو إما أن يكون قديمًا واجبًا بنفسه، أو محدثًَا بإحداث غيره، وممكنًا ومفتقرًا إلى واجب بنفسه، وإذا كان لا بد من الاعتراف بالوجود القديم الواجب، وكان من نفي الرب الصانع الخالق السموات والأرض لشبهة يذكرها، يلزمه مع هذا هي، وما هو أعظم منها، علم أن كل ما يذكره النفاة من الشبهة النافية للرب أو صفاته أو أفعاله حجج باطلة متناقضة؛ إذ كان يلزم من صحتها نفي الوجود بالكلية، وما استلزم نفي

كل ما يحتج به في إثبات قدم العالم يلزم صاحبه أعظم مما فر منه

الوجود بالكلية علم أنه باطل. وهذا المقصود هنا، وهو أن كل ما يحتج به في إثبات قدم العالم، بل وفي نفي الصفات، يلزم صاحبه أعظم مما فر منه، حتى يؤول به الأمر إلى أن ينكر الوجود بالكلية، أو يعترف ببطلان قوله، وببطلان كل ما يدل على قوله، وهذا موجود في عامة الدين، مما أمر الله به من اعتقاد أو قول أو قصد وعمل، ومن ترك شيئًا من ذلك إلى غيره خوفًا مما ترك، كان في الذي فر إليه أعظم من ذلك المخوف، وإن كان رغبة فيما فر إليه، كان ما فاته أعظم مما حصل له، بل يعاقبون بأعظم من ذلك، وقد قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) } [الفرقان: 33] فأخبر أن المشركين لا يأتون بقياس -وأقيستهم من الباطل- إلا أتى الله بما هو الحق، بكلام وقياس أحسن تفسيرًا، بحيث يكون بيانه ودلالته للمطلوب أبين وأوضح وأجلى، وأقرب إلى الأمور البديهية الجلية، فهذا في جانب الحق. وأما في عقوبة المبطل، فإن المبطلين رئيسهم من الجن إبليس، وأعظم رؤسائهم في الإنس فرعون، وإبليس ترك طاعة الله تعالى وعبادته، في السجود لآدم حذرًا من نقص مرتبته بفضل آدم عليه السلام، فأداه ذلك إلى أن رضي بأن صار بأخس المراتب، وباع آخرته بدنيا غيره، كأخس القوادين، فإنه يهلك

نفسه في إغواء بني آدم بتحسين شهوات الغي لهم، يتلذذون بالشهوات التي لا يلتذ هو بها، ثم إنهم قد يتوبون فيغفر لهم، وهو قد خسر وهلك من غير فائدة، مع أنه ليس بين كونه تابعًا لهؤلاء في إرادتهم الخسيسة، وكونه تابعًا لربه فيما أراد به، من السجود لآدم نسبة في الشرف والرفعة، كما في الحديث الذي رواه الترمذي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الشيطان: وعزتك لأغوين بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم، فقال: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأغفرن لهم ما استغفروني» . وهكذا فرعون استكبر أن يعبد رب السموات والأرض، خوفًا من سقوط رياسته، ثم رضي لنفسه أن يعبد آلهة له قد صنعها هو، وهكذا تجد كل أهل المقالات الباطلة وأهل الأعمال الفاسدة، وإبليس إمام هؤلاء كلهم، فإنه اتبع قياسه الفاسد

المخالف للنص، واتبع هواه في استكباره عن طاعة ربه تعالى. فكل من اتبع الظن وما تهوى الأنفس، وترك اتباع الهدى ودين الحق، الذي بينه الله تعالى، وأمر به في كتبه، وعلى ألسن رسله، وفطر عليه عباده، وضرب له الأمثال المشهودة والمسموعة، فهو متبع لإبليس في هذا، له نصيب من قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) } [ص: 85] كما قال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نعت القرآن: «من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله

الله» وقد قال تعالى لما أهبط آدم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) } [طه: 123-124] فأخبر أن من اتبع هداه الذي جاء من عنده، فإنه لا يضل ولايشقى، كما قال: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } [البقرة: 1-5] فإن الهدى ضد الضلالة، والفلاح ضد الشقاء، وقد قال من قال من السلف: (المفلحون) الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من ما منه هربوا. ولهذا أمرنا أن نقول في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ

من أعرض عن هدى الله لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب

الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } [الفاتحة: 6-7] فإن المغضوب عليهم هم أهل الشقاء. والضالون أهل الضلال. وهم الذين اتبعوا هداه فلم يضلوا ولم يشقوا، بل أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون، وقال أيضًا: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) } [القمر: 47] و «السعر» من أعظم الشقاء. وهذا باب واسع. وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وهو أن من أعرض عن هدى الله علمًا وعملًا، فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب، بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه، ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه. وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم، وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب. وهذا الذي شهد الله تعالى به في كتابه -وكفى به شهيدًا- قد يرى العباد آيته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، فتتفق عليه الأدلة المسموعة والمشهودة -[التي] هي أصل العلوم الضرورية والنظرية القياسية التي ينتحلها أهل النظر وأهل الذوق- فتكون الأدلة الحسية والضرورية والقياسية موافقة للأدلة السمعية، من الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، والمخالفون لهذا مخالفون لهذا، وإن ادعوا في الأول من

الأقيسة العقلية، وفي الثاني من التأويلات السمعية، ما إذا تأمله اللبيب، وجد مآلهم في تلك الأقيسة العقلية، إلى السفسطة، التي هي: جحود الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس، ومآلهم في تلك التأويلات إلى القرمطة؛ التي هي: تحريف الكلم عن مواضعه، وإفساد الشرع واللغة والعقل، بالتمويه والتلبيس وهذا أيضًا سفسطة في الشرعيات، وسمي قرمطة؛ لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر، ودعوى التأويلات الباطنة، المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة، والله يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين، لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ولما كان مآل هؤلاء إلى السفسطة؛ التي هي جحود الحقائق وجحود الخالق، وكان لا بد لهم من النفاق، كان تنبيه من نبَّه من الأئمة، كمالك وأحمد وأبي يوسف وغيرهم، على أن كلام هؤلاء جهل، وأن مآله إلى الزندقة: كقول أحمد: علماء الكلام زنادقة، وقول أبي يوسف ويروى عن مالك: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس،

استشهاد المؤلف بكلام ابن رشد على حدوث العالم

ومن طلب غريب الحديث كذب، وقول الشافعي: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. ولما كان الرد إلى ما جاءت به الرسل، يؤول بأصحابه إلى الهدى والصلاح، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] . ثم قال هذا الفيلسوف: «وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع؛ فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الإنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين -أعني غير منقطع- وذلك أن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7] يقتضي بظاهره أن وجودًا قبل هذا الوجود وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] يقتضي أيضًا بظاهره أن وجودًا ثانيًا

بطلان قول بعض أهل الكلام أن السموات والأرض خلقتا من قبل أن يتقدمهما مخلوق عند السلف والأئمة

بعد هذا الوجود، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] يقتضي بظاهره أن السماء خلقت من شيء، والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضًا في العالم على ظاهر الشرع، بل يتأولون، فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه أيضًا أبدًا؛ فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه، والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء» . قلت: لم يقل أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، إن هذه السموات والأرض خلقتا وحدثتا من غير أن يتقدمها مخلوق، وهذا وإن كان يظنه طائفة من أهل الكلام، أو يستدلون عليه فهذا قول باطل؛ فإن الله أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن أهل اليمن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر فقال:

«كان الله ولم يكن شيء غيره» وفي رواية في البخاري «ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض» وفي رواية: «ثم كتب في الذكر كل شيء؛ ثم خلق السموات والأرض» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وكان عرشه على الماء» وقد بسطنا هذا فيما سيأتي لما احتج المؤسس بحديث عمران هذا؛ وذكر المخلوقات التي أخبر بابتدائها القرآن وإعادتها وما يتعلق بذلك.

بطلان قول بعض أهل الكلام أن السموات والأرض لم تخلقا من مادة عند السلف والأئمة

وكذلك لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها، أن السموات والأرض لم تخلقا من مادة، بل المتواتر عنهم أنهما خلقتا من مادة وفي مدة، كما دل عليه القرآن، قال الله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9-12] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } [البقرة: 29] . وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام، الجهمية، ونحوهم في الابتداء، نظير ما يذكرونه في الانتهاء، من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار، أو الحركات، أو ينكرون وجود النفس وأن لها نعيمًا وعذابًا، ويقولون: إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس، ويزعمون أن الروح عرض من أعراض البدن، ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض، وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها.

الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الكلام مخالفون لما جاء في الكتب الإلهية ولصرائح المعقولات

لكن يقال لهؤلاء الفلاسفة: لا ريب أنكم أنتم وهؤلاء، كلاكما مخالفون لما نطقت به الكتب الإلهية، كما أنكم مخالفون لصرائح المعقولات، ومن وافق ظالمًا في ظلمه، كان جزاؤه أن يقال له: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] وأنت قد اعترفت أن الأخبار الإلهية ناطقة بأن صورة العالم -أي صورة السموات والأرض- محدثة. وأما قولك: «إن ظاهر الشرع أن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين» فليس في القرآن ما يدل ظاهره على أن وجودًا غير وجود الله، أو زمانًا موجودًا خارجًا عنه، هو مقارن لوجوده، وما ذكرته إنما يدل على أن العرش، كان قبل السموات وهذا حق، لكن ليس فيه أن وجود العرش أزلي، وقد جاء ذكر خلقه في الأحاديث كحديث أبي رزين الآتي ذكره، مع ما في القرآن من أنه رب العرش، وأمثال ذلك، وكذلك ما فيه من ذكر زمان قبل هذا الزمن، المتعلق بحركة الفلك، لا يدل على أن ذلك قديم أزلي مقارن لوجود الله تعالى، وكذلك ما فيه من ذكر مادة لخلق السموات والأرض لا يقتضي أن تلك المادة قديمة أزلية، هذا مع ما في القرآن من أنه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] في غير موضع، و {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]

الأدلة على خلق العرش من الكتاب والسنة وثبوت بقائه

ولفظ «الخلق» ينافي ما يذكرونه من لزوم العالم له، كلزوم الصفة للموصوف. وحديث أبي رزين، رواه أحمد والترمذي وغيره، قال الترمذي في كتاب التفسير، في تفسير «سورة هود» لأجل تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ثنا أحمد بن منيع، قال ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدُس، عن عمه أبي رزين، قال، قلت يارسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه، قال: «كان في عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء» قال أحمد بن منيع، قال يزيد بن هارون: «العماء» أي ليس معه شيء.

حديث أبي رزين العقيلي لا يدل على قول الدهرية بقدم ما ادعوا قدمه

فهذا الحديث فيه بيان أنه خلق العرش المخلوق قبل السموات والأرض، وأما قوله: «في عماء» فعلى ما ذكره يزيد بن هارون، ورواه عنه أحمد بن منيع، وقرره الترمذي، في أن معناه: ليس معه شيء، فيكون فيه دلالة على أن الله تعالى كان وليس معه شيء، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. ثم لو دل على وجود موجود على قول من يفسر (العماء) بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية، بقدم ما ادعوا قدمه، ولا بأن مادة السموات والأرض ليستا مبتدعتين، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27] وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع، وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة، وأخبر أيضًا أنه يغير هذه المخلوقات في مثل قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] وقوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) } [الأنبياء: 103-104] ومن المعلوم أنه لم يتعقب الإعادة عدمه، كما لم يتقدم ابتداء خلق السموات والأرض العدم المطلق، وفي قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) }

[الانشقاق: 1-2] وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) } [الانفطار: 1] وقوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) } [الطور: 7-8] وقوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) } [الطور: 9-10] وقال: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) } [الرحمن: 37] وقال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) } [المعارج: 8-9] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) } [الفرقان: 25-26] وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) } [الحاقة: 13-18] فأخبر في هذه الآيات، أن الخلق الذي ابتدأه وخلقه في ستة أيام يعيده ويقيم القيامة، وقد أخبر أنه خلقه من مادة وفي مدة، وأنه إذا أعاده لم يعدمه، بل يحيله إلى مادة أخرى، وفي مدة. وأما «العرش» فلم يكن داخلًا فيما خلقه في الأيام الستة، ولا فيما يشقه ويفطره، بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش، وقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن، سقفها عرش الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن» . وقال تعالى لما أخبر بالقيامة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ

قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر، واللفظ لمسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟» وفي الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن مسعود قال: «جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد -أو يا أبا القاسم- إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك أنا

الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال، وتصديقًا له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } [الزمر: 67] وفي الصحيحين أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلًا لأهل الجنة، قال: فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة. قال: بلى، قال تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه فقال: ألا أخبرك بإدامهم. قال: بلى، قال: إدامهم بالام ونون، قالوا ما هذا: قال: ثور، ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا» وفي

الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة، على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس بها علم لأحد» ، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: على الصراط» .

الأدلة على بقاء الجنة والنار بقاء مطلقا

ثم إنه سبحانه وتعالى لما أخبر بقبضه الأرض، وطيه للسموات بيمينه، ذكر نفخ الصور، وصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، ثم ذكر النفخة الثانية، التي يقومون بها، وذكر أنه تشرق الأرض بنور ربها، وأنه يوضع الكتاب، ويجاء بالنبيين والشهداء، وأنه توفى كل نفس ما عملت، وذكر سوق الكفار إلى النار، وذكر سوق المؤمنين إلى الجنة، إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } [الزمر: 74-75] ولم يكن العرش داخلًا فيما يقبض ويطوي ويبدل ويغير، كما قال في الآية: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 14-17] . ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءً مطلقًا، ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك، بل إنما وقع التفصيل إلى قيام

العرش باق بعد تغير السموات والأرض

القيامة، واستقرار الفريقين في الجنة والنار، وذكر ما فيهما من الثواب والعقاب، وقد أجمل من ذلك ما لا نعلمه على التفصيل كقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17] وقوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فكان الذي أخبرنا به مفصلًا، ما لنا حاجة ومنفعة بمعرفته مفصلًا، وما سوى ذلك فوقع الخبر به مجملًا، إذ يمتنع أن نعلم كل ما كان وسيكون مفصلًا، وهذا كما أنه أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء والكتب عمومًا، وقد فصل لنا من أخبار الأنبياء، وأمر كتبهم وقصصهم، وأمر الملائكة ما فصله، والثاني أجمله كما قال: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) } [الفرقان: 35-39] وأمثال هذا. فلما وقع التفصيل في خلق السموات والأرض وما بينهما، وفي القيامة التي تستحيل فيها السموات والأرض وما بينهما، لم يكن العرش داخلًا في ذلك، بل أخبر ببقائه بعد تغير السموات

والأرض، كما أخبر بكونه قبل السموات والأرض خبرًا مطلقًا، وأخبر في غير موضع أنه ربه وصاحبه، تمييزًا له من السموات والأرض، كقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) } [المؤمنون: 86-87] وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم» وقال عن أهل سبأ: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) }

[النمل: 25-26] وذكر نفسه بأنه ذو العرش في غير موضع، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) } [البروج: 14-15] وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) } [الإسراء: 42] وقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] فهذا كله يبين أن العرش له شأن آخر. كما أن الروح خصه من بين الملائكة في مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) } [المعارج: 4] وفي قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) } [النبأ: 38] وفي قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ} [القدر: 4-5] مع العلم أن ذلك جميعه مخلوق لله مملوك له، وأنه رب ذلك كله، وهم عباده. وليس فيما سكت عن الإخبار بتفصيله، ما ينافي ما علم مجملًا، وما أخبر به مفصلًا، كما ذكر البخاري، عن سليمان التيمي، أنه قال: «لو قيل لي: أين الله؟ لقلت: في السماء، فلو قيل لي: أين كان قبل أن يخلق السماء؟ لقلت: على عرشه على الماء، فلو قيل لي: أين كان قبل ذلك؟ لقلت: لا أدري.

كفر الدهرية أبين وأظهر من كفر الجهمية في قوليهما في السموات والأرض

قال البخاري: وذلك لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] يعني بما بين» . فأما قول الدهرية: بأن السموات لم تزل على ما هي عليه، ولا تزال، فهذا تكذيب صريح وكفر بين بما في القرآن، وما اتفق عليه أهل الإيمان، وعلموه بالاضطرار أن الرسل أخبروا به. وكذلك قول الجهمية أو من يقول منهم: إن السموات والأرض خلقتا من غير مادة ولا في مدة وأنهما يفنيان أو يعدمان، أو أن الجنة تفنى أيضًا، كل ذلك مخالف لنصوص القرآن، ولهذا كفَّر السلف هؤلاء، وإن كان كُفْرُ الأولين أظهر وأبين، لكن لم تكن الدهرية تتظاهر بقوله في زمن السلف، كما تظاهرت الجهمية بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك عند احتجاج المؤسس على نفي العلو بقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] كما احتج بها الجهمية قبله. والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة، وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى، ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها، وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات.

ولفظ «العالم» ليس في القرآن، ولا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين، وإنما الموجود لفظ (العالمين) وفيه العموم، كقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } [الفاتحة: 2] وقد يقال: فيه خصوص، كقوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) } [الجاثية: 16] وقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) } [آل عمران: 42] وقوله تعالى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) } [الأعراف: 80] عند من يجعل ذلك المراد به الآدميون أو أهل عصرهم. وكذلك لفظ «الخلق» هو معرف باللام، ففيه عموم، وقد ينصرف إلى المعهود، الذي هو أخص من جملة المخلوقات كقوله في حديث خلق آدم: «فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن» وفي الحديث المتقدم ذلك، وكذلك قوله في حديث الخلق: «وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» .

فساد حجج الدهرية بقسميها المعطلة للصانع والمثبتة له

والله سبحانه وتعالى أعلم. والمقصود هنا التنبيه على فساد حجج الدهرية، المعطلة للصانع تعالى، وتناقضها، ومشاركة الجهمية لهم في بعض أصولهم الفاسدة، مع حجج الدهرية المثبتة له أيضًا. وقد تقدم ما ذكره أبو المعالي من أن شبه الدهرية لحصرها أربعة أقسام: أحدها: تعرضهم للقدح في الدليل الذي ذكره أبو المعالي، دليل المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمين الذي استدلوا به على حدوث الأجسام -دليل الأعراض- ونحن قد ذكرنا في غير هذا الموضع كلام أئمة المسلمين في هذه الطريقة: تحريمًا، وكراهة وإبطالًا. قال: «والقسم الثاني يتعلق بالتعرض لنفي الصانع، ولهم في ذلك طريقان: أحدهما: أن إثبات قائم بنفسه يتقدس عن الجهات المحاذيات غير معقول. والثاني: يتعلق بالتعديل والتجويز، والحكم بأن الحكيم

لا يفعل الفعل إلا لغرض، والغرض ما له الضر والنفع، وذلك يستحيل على القديم» . قلت: هاتان أيضًا كلامهم فيهما مع المعتزلة في الأصل، فإنهم جهمية أثبتوه بالصفات السلبية، وهم أيضًا قدرية، ثم انتقلت هذه الحجة إلى المرجئة، فجاوبوهم في المقدمة الثانية ببعض جواب المعتزلة، وأجابوهم في الصفات بجواب يقال: إنه متناقض. قال أبو المعالي: «والقسم الثالث يشتمل على الاستشهادات بالشاهد على الغائب من غير رعاية وجه في الجمع بينهما» . قال: «والقسم الرابع من كلامهم يشتمل على ضروب من التمويهات» . قلت: قد نبهنا على القسم الثالث، والمقصود هنا القسم الثاني، فإنه الذي ذكروا فيه نفي الصانع، وهو أعظم كلامهم؛ والحجة العظمى التي عول عليها ابن الراوندي المصنف «كتاب التاج في قدم العالم» ومحمد بن زكريا المتطبب، فيما صنفه

حجة الدهرية العظمى على إنكار الصانع وقدم العالم

في ذلك حيث قال بالقدماء الخمسة، والاحتجاج بها على قدم العالم: تارة مع الإقرار بالعلة الموجبة، وتارة مع عدم ذلك. فأما الأول فقالوا: لو كان العالم محدثًا لكان محدثه فاعلًا مختارًا، وهو محال لوجهين: أحدهما: أن ذلك الاختيار إما أن يكون لغرض أو لا يكون، فإن كان لغرض فهو باطل لأمرين: أحدهما: أنه يجب أن يكون وجود ذلك الغرض أولى به من عدمه، وإلا لم يكن غرضًا، وإذا كان وجوده أولى به، كان مستكملًا بخلق العالم وهو محال. فإن قيل: هو فعله لا لغرض يعود إليه، بل لغرض يعود إلى غيره، وهو الإحسان إلى الغير، وهذا يدفع المحذور. قيل: الإحسان إلى الغير، إما أن يكون بالنسبة إلى ذاته أولى من تركه، وإما أن لا يكون، فإن كان مساويًا لم يكن غرضًا، وإن لم يكن مساويًا عاد المحذور. الثاني: أن من فعل لغرض غيره، كان الفاعل دون

المفعول، كالخادم والمخدوم، ومن الممتنع أن يكون غير الله أشرف منه، فيمتنع أن يفعل لغرض غيره. وإن قيل: إنه فعل العالم لا لغرض، كان عابثًا، والعبث على الحكيم محال؛ ولأنه يكون ترجيحًا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح، وهو محال. الوجه الثاني: أنه لو فعل بالاختيار فإما أن يجوز منه فعل القبيح أو لا يجوز. وإن شئت قلت: فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء، وإما أن يكون متنزهًا عن بعض الأفعال. فإن قيل: إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح، لم يؤمن من تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات، ولم يؤمن أيضًا الخبر المخالف لمخبره، فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح، وتجويز ذلك يبطل النبوات وأخبار المعاد، وهذا تبطل بهما الملل. وإن قيل: أنه لا يفعل القبيح، وهذا قبيح. الثاني: أن العالم مملوء طافح بالشرور والآفات، وأنواع الألم والعقوبات، والقول بالغرض باطل، وإذا بطل القسمان بطل القول بالفاعل المختار. وأما الاحتجاج بها على نفي الصانع مطلقًا فأن يقال: إن

تعقيب المؤلف على حجة الدهرية التي نقلها عن الجويني أبي المعالي

كان موجبًا بذاته لزم قدم المفعولات، وهو خلاف المحسوس؛ لأن الموجب لفعل المحدث الذي هو علة تامة، إن كان موجودًا في الأزل لزم قدم المحدثات، وإن لم يكن موجودًا فصدوره بعد أن لم يكن يحتاج إلى سبب حادث، والقول فيه كالقول في غيره من الحوادث، فيمتنع حدوث محدث عن موجب بذاته، وإن كان فاعلًا باختياره عادت الحجة المتقدمة. وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة، ولم فعل ما فعل؟ وهي «مسألة القدر» ظهر بها ما كان السلف يقولونه: إن الكلام في القدر هو «أبو جاد الزندقة» ، وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم: «بهذا هلكت الأمم قبلكم، أن تضربوا

كتاب الله بعضه ببعض» ، وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية، -مجوس هذه الأمة- حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة، كما أن التجهم فروع تلك الحجة. ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم، ينجون من هذه الشبهات، وكان الذي وقعوا فيه شرًّا مما وقعت فيه المجوس والقدرية، ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم، ومن معهم من الفلاسفة شرًّا من المجوس، ومن معهم من القدرية والمعتزلة وغيرهم.

فساد حجج الدهرية المعطلة للصانع وتناقضها

والمقصود بيان هذا، يقال لهم: لا ريب في هذا الوجود المشهود، المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب، فإن نفس الوجود يستلزم موجودًا قديمًا، واجبًا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبًا قديمًا أو يكون محدثًا أو ممكنًا. والمحدث لا بد له من محدث، والممكن لا بد له من واجب. وهذا مما لا ينازع فيه أحد من بني آدم؛ وإنما الدهرية تقول: هذا العالم قديم واجب بنفسه، أو يقولون: هو معلول علة قديمة واجبة بنفسها. فيقال لهؤلاء: إن قلتم إن هذا العالم واجب الوجود بنفسه قديم، لزمكم هذه المحالات وأضعافها، فإنه يقال لكم: لأي سبب تحرك الفلك الأعلى وغيره من الأفلاك، ولم حصلت هذه الاستحالات؟ فإن هذه أمور حادثة بعد أن لم تكن، وهي ممكنة قطعًا، فالمحدث لها سواء كان الفلك أو غيره، الذي قد قدر أنه قديم واجب الوجود بنفسه، إن أحدثها لغرض، لزم أن يكون مستكملًا بها، والتقدير أنه قديم واجب الوجود بنفسه، فقد لزمكم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه مستكملًا بغيره، وهذا هو المحال الذي فررتم منه، فقد وقعتم فيه، مع ما في ذلك من المحالات اللازمة على هذا التقدير، مثل امتناع كون الفلك الأعلى، هو المحدث لجميع الحركات وغير ذلك، حتى لو قدر في كل فلك متحرك، أنه قديم واجب الوجود

القول بأن العالم حدث بنفسه لم يقل به أحد لكن قد يخطر بالقلب ويوسوس به الشيطان

بنفسه، كان هذا السؤال قائمًا فيه، وفي حركاته الحادثة بعد أن لم تكن. وكذلك إن قالوا: تحرك لأجل العناية بالسافلات، لزم أن يكون الأعلى خادمًا للأدنى، وأن تكون هذه الغاية أعلى من الفاعل، الذي هو أشرف منها، وهو متناقض. وإن فرض أن قائلًا يقول، أو يخطر له: إن الفلك ليس بقديم واجب بنفسه، ولا معلول علة قديمة، بل يقول: حدث بنفسه، بعد أن لم يكن، وهذا لا نعلم به قائلًا، وقد ذكر أرباب المقالات، أنهم لم يعلموا به قائلًا، لكن هو مما يخطر بالقلب ويوسوس به الشيطان. فيقال: هذا الوجود المشهود، إما أن يكون موجودًا بنفسه، وإما أن لا يكون. وإذا كان موجودًا بنفسه، فإما أن يكون قديمًا

-وهو القسم الذي تقدم بيان تناقض أصحابه- وإما أن يكون محدثًا بنفسه، فيقال: هذا القول أظهر فسادًا وتناقضًا؛ فإنه من المعلوم بالفطرة البديهية، أن المحدث قبل أن لم يكن، لا يتصور أن يحدث عن غير محدث، ولا أن يحدث نفسه. فلا يكون الشيء صانعًا لنفسه، لا مصنوعًا لنفسه، ولا يكون أيضًا علة غائية لنفسه، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] قالوا: من غير خالق لهم، قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع. وقد تكلمنا عن هذه الآية في غير هذا الموضع، بين سبحانه باستفهام الإنكار الذي يتضمن أن الأمر المنكر من العلوم المستقرة، الملازمة للمخاطب، التي ينكر على من جحدها؛ لأنه سفسط بجحد العلوم البديهية الفطرية

الضرورية؛ فإنه من المعلوم أن ما حدث لا يكون من غير محدث أحدثه، ولا يكون هو حدث بنفسه، فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين وغيره من المحالات. وإن كانت إحالته في العقل، من أظهر العلوم الضروريات؛ فإن كونه فاعلًا لنفسه، يقتضي أن يكون وجوده قبلها، وكونها مفعولة، يقتضي أن يكون وجوده بعد نفسه، فيجب أن تكون نفسه موجودة معدومة في آن واحد. والمقصود هنا تباين تناقض حججهم، وأن الذي يقولونه فيه من المحذور أعظم مما فروا منه. فيقال: إذا قدر أنه حدث بنفسه، بلا محدث، بل عن العدم المحض، فمعلوم أن هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة، من أبعد الأشياء، عن الأمور الموجودة المحسوسة وعن القياس العقلي، فمن جوز أن يكون هذا الوجود صدر عن عدم محض، فصدوره عن علة موجبة لا تستلزم وجود المعلول، أقرب إلى العقل وأبعد عن المحذور، وهو الذي فروا منه، لأن أكثر ما في هذا، أنه تكون العلة التامة قد تخلف عنها معلولها، أو وجد المعلول عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن صدوره لا عن شيء، أعظم امتناعًا وفسادًا من صدوره عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن العلة التامة بلا معلول، أقل فسادًا وامتناعًا، من وجود المحدث لا من علة أصلًا؛ فإن المعلول إما

محدث، وإما قديم، ومعلوم بالعقل أن حاجة المعلول المحدث إلى العلة، أظهر من حاجة المعلول القديم، ووجود المعلول بلا علة، أبعد في العقل من وجود العلة بلا معلول، فإذا جوزتم صدور المحدث بلا علة ولا محدث، كان تجويز وجود العلة التامة، مع تأخير معلولها أقرب في العقل وأبعد عن المحال. وكذلك أيضًا إذا جوزتم صدوره عن العدم، فصدوره عن فاعل مستكمل بفعله، أو فاعل بفعل لا لغرض، أقرب في العقل وأبعد عن المحال مما جوزتموه؛ فإن هذا غايته أن يكون أحدثه فاعل ناقص أو عابث، وبكل حال فهذا أقل امتناعًا من أن يكون حدث لا عن شيء. وبالجملة فافتقار المحدَث إلى المحدِث، من أبدَه العلوم وأوضح المعارف، وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء، وأي قول قيل، كان أقرب إلى العقل وأبعد عن المحال من هذا، فإذا قرر هذا القول، ظهر أن المحال الذي فيه، أعظم من المحال الذي يلزم غيره، ولهذا لم نكثر تقرير هذا القول، وإنما تكلمنا على ما قال به قائلون -وهم الدهرية القائلون بقدم العالم، إما واجبًا بنفسه، وإما واجبًا بعلته- فهؤلاء إذا ظهر تناقض قولهم، كان تناقض ذلك القول أظهر. وقد ذكرنا بعض تناقضهم. ويقال لهم أيضًا: هذه الكمالات الحاصلة للفلك، بإحداث ما يحدثه من الحركات، إن كانت مقدورة له في الأزل فلم أخرها؟ وإن كانت غير مقدورة له، فقد أثبتموه عاجزًا عن غير

ما فعل من الإحداث! فإذا أقررتم بخلق الفلك، لم يلزمكم في إثباته أكثر من هذا -وهو أن يكون مستكملًا بما يحدثه من الأفعال، وأن يكون وجود تلك الأفعال في الأزل ممكنًا- وغاية ما يلتزمونه من قيام أفعال حادثة بذاته، أو من كونه جسمًا، أو غير ذلك: فإن هذا كله لازم لكم، إذا قلتم بأن الفلك قديم واجب الوجود. فإذا كان كل محذور يلزمكم على تقدير إثبات الصانع، يلزمكم أيضًا على تقدير نفي الصانع، كان القول بنفيه باطلًا قطعًا، وكانت هذه الحجة فاسدة؛ وهذا هو المقصود هنا. وأما بيان أن هذه الحوادث الموجودة في العالم، يمتنع أن يكون الفلك مستقلًّا بها، فذاك له مقام آخر، إذ الغرض هنا بيان تناقضهم، مع أن ذلك ظاهر بين، والعقلاء المعروفون، متفقون على أن الحوادث التي تحدث، لا يستقل بها الفلك، ويمتنع أن يكون في المخلوقات ما يستقل بإحداث محدث منفصل عنه، فهذا له مقام آخر، وهو دليل مستقل عظيم القدر على ثبوت الصانع تعالى. وهكذا الإلزام على «التقدير الثاني» وهو أن يقال: هذه الحركات لغير غرض. فيقال: يلزمكم بموجب كلامكم؛ أن يكون الموجود القديم الواجب الوجود، يفعل أفعالًا دائمة مستمرة لغير غرض، وقد قلتم: إنه عبث والعبث على الحكيم

وجوه فساد حجة الدهرية وتناقضها

محال، فمهما كان جوابكم عن ذلك، في هذا أمكن أن تجيبوا أنفسكم به، إذا كان القديم الواجب الوجود هو صانع الفلك، مع كون المحذور حينئذ أقل عندكم، فلو عدلتم عن القول الأخف إلى القول الأقبح -ولله المثل الأعلى- فنزهتموه إذا كان موجودًا قديمًا صانعًا، عن أن يستكمل بفعله، أو يكون عابثًا فيه، فجعلتموه معدومًا؟! وأي موجود فرض، كان خيرًا من المعدوم، فعدلتم عن أن تصفوه بنوع نقص، فوصفتموه بما يجمع كل نقص، ثم وصفتم غيره بصفات الكمال، التي هي وجوب الوجود والقدم، مع وصفكم له بتلك النقائص فاجتماع هذه النقائص مع هذه الكمالات لازم لكم، ولم تستفيدوا إلا كمال التعطيل والجحود بلا حجة أصلًا. وقد ظهر فساد حجتهم وتناقضهم فيها من وجوه: أحدها: أن الذي نفوه به، يلزمهم مثله، فيما أثبتوه من موجود قديم واجب، وهو الفلك المشهود. الثاني: أنهم قصدوا تنزيهه عن تجدد كمال له بفعله، أو عن عبث، فجعلوه أعظم نقصًا من المستكمل العابث، ومن المعلوم أنه إذا قدر فاعل يستكمل بفعله، كان خيرًا من المعدوم، فإن الفلك أو غير الفلك إذا قدر ذلك فيه لم يشك عاقل أنه خير من المعدوم، فكان نفيهم له، الذي فروا إليه شرًّا من نفي بعض الأمور، التي ظنوها كمالًا. فتدبر هذا أيضًا. وكذلك إذا قدر موجود كامل، يفعل فعلًا لغير غرض له، وقيل: إنه عابث، فهو أكمل من العدم، الذي ليس بشيء أصلًا، فإن الفاعل لغير

غرض، بمنزلة الساكن الذي لا يفعل، وهذا يقال فيه: إنه جامد، ويقال: في ذلك إنه عابث، والجامد والعابث خير من العدم المحض، لا سيما إذا كان متصفًا بسائر صفات الكمال. الثالث: ما تركب من هذين الوجهين، وهو أنهم مع التزام المحالات التي زعموا أنهم فروا منها، ومع التزام ما هو شر مما فروا منه، لم يستفيدوا بذلك إلا جحود الصانع -تعالى وتقدس رب العالمين- الذي هو أصل كل باطل، وكفر وكذب وتناقض وشر في الوجود، كما أن الإيمان به أصل كل حق وهدى، وصدق واستقامة وخير في الوجود. وهكذا يقال لهم في فعل القبائح، وعدم فعلها من وجوه: أحدها: أن هذا لازم لكم، فيما تصفونه بأنه واجب لذاته قديم، وهذا لا بد منه على كل تقدير، ولا مندوحة عنه. الثاني: أن يقال تجويز تصديق الكاذب أو الكذب، أكثر ما يقال فيه إنه يستلزم بطلان الرسالة، والخبر عن الثواب والعقاب، وهذا المحذور أخف بكثير من محذور نفي الصانع. فهل يسوغ في العقل، أن نجحد الصانع وخلقه للعالم، لأن ثبوت ذلك يستلزم بطلان النبوة والوعد والوعيد؟! فإنه يقال لذلك: وأنت إذا نفيته بطلت النبوة والوعد والوعيد أيضًا، وبطل أضعاف هذا من أمور الديانات فبتقدير أن يكون هذا لازمًا على التقديرين، لا يجوز أن يحتج به على نفي أحدهما، مع كثرة المحاذير على هذا التقدير؛ بل غاية ما يقال: إذا قدر أنه لازم فليس بمحذور، ومعلوم أن الإقرار بالصانع تعالى، مع الكفر بالرسل والمعاد،

أمثلة يتبين بها فساد حجة الدهرية على بطلان الخالق

أقل كفرًا من جحود الصانع، كما أن الإقرار بالصانع مستكملًا أو عابثًا، أقل كفرًا من جحوده، فالتزام زيادة الحجة والتعطيل بلا حجة، من أبطل الباطل. وهكذا ما احتجوا به على جحود فعل القبيح -كتكليف المحال، ووجود الشرور- فإنه يقال فيه هذان الوجهان: أحدهما: لزوم ذلك أيضًا، مع ما يصفونه بالقدم، ووجوب الوجود. الثاني: أن ذلك إنما يستلزم نقصًا، وذلك أهون من العدم. فإذا كانت الحجة إنما تستلزم في الوجود، لم يجز أن يلتزم عدمه بلا حجة؛ بل كان إثبات الوجود الناقص لا بد منه على كل تقدير. ومَثَلُ من احتج على بطلان الخالق، بأن ذلك يستلزم بطلان النبوة والمعاد، مثل من بلغه أن الله تعالى بعث رسولًا، وأن قومًا كذبوه فتأذى بذلك، فجاء إليه فقتله، وقال إنما قتلته لئلا يتأذى بالتكذيب، وهؤلاء أعدموا الخالق، لئلا تكذبه رسله على زعمهم. وكذلك مثل من أراد أن ينصر ملكًا له مملكة عظيمة، ولكن

بعض رعيته عصوه، فعمد إلى ذلك الملك فقتله، أو عزله عن الملك بالكلية، وقال إنما فعلت ذلك إجلالًا لقدره، لئلا يعصيه بعض رعيته. ويحكى عن بعض الحمقى؛ أنه رأى ذبابًا وقع على وجه مخدومه؛ فأخذ المداس فضرب به وجه مخدومه، ليطير عنه الذباب. ومثل من كان له ميراث من أبيه، غصب بعض الناس شيئًا منه، فقصد بعض الحكام أو بعض الشهود [دفع] الشر عن ذلك الوارث، ودفع تضرره بالغصب، فأثبت أنه ليس ابنه، وأنه لا يستحق شيئًا من الميراث، وقال: إنه بهذا الطريق امتنع أن يكون مغصوبًا، وزال تضرره بالغصب. أو رجل كان له عقار عظيم، من مساكن وبساتين وغيرها، وله منافع عظيمة وحقوق كثيرة، قد غصبه بعض الناس بعضها، وهو متألم لذلك، فقام قوم من الحكام والشهود والأعوان، ليزيلوا عنه، فسعوا في أخذ ذلك العقار منه بالكلية، وإخراجه من ملكه ويده بلا فائدة حصلت له أصلًا، وقالوا هذا العقار إذا كان له، فلا بد أن يؤخذ منه هذا الجزء اليسير فيتألم،

فأعدموه إياه كله بلا فائدة حصلت له. ومثل من قال: أنا لا أصلي لأني إذا صليت أقصر في ذكر الله، وعبادته وطاعته، التي ينبغي أن أفعلها في الصلاة، فأنا أترك الصلاة بالكلية، خوفًا من ترك بعض واجباتها. وكذلك من قال: لا أزكي أصلًا، لأني إذا زكيت، فقد يأخذ زكاة بعض مالي من لا يستحقها، فيحرم المستحقين لها، فأنا أحرم المستحقين جميع الزكاة، لئلا يحرموا بعضها بالمزاحمة. ومثل من ارتكب الفواحش المحرمة، وترك النكاح الحلال، قال: لأني إذا نكحت المرأة فقد أطؤها وهي حائض أو في الدبر، فاستحل الفواحش من التلوط وغيره حذرًا من هذا الذنب. أو من أخذ يسرق أموال الناس، خوفًا من تجارة أو صناعة، يكون ظلمه فيه أقل من ظلم السرقة. أو من أقام ببلاد الحرب معاونًا لهم على قتال المسلمين، خوفًا من أن يهاجر إلى بلاد المسلمين، فيقصر بجهاد أهل الحرب. والأمثال في هذا كثيرة جدًا. ومن العجب أن المتكلمين المناظرين لهؤلاء، وأمثالهم من أهل الكفر، إذا أوردوا سؤلًا من جنس هذا السؤال، أن

يدخلوا معهم في جوابه وحَلِّهِ، وقد لا يكون المجيب متمكنًا من ذلك علمًا وبيانًا، ولا ينقطع بذلك الخصم، ولا يهتدي لنقص قوى إدراكه أو سوء قصده، أو لاحتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل، وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة. فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة، وبيان تناقضهم، وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره، فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه: حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة، وهو المقصود في هذا المقام، ثم بيان الحق وتكميله مقام آخر. ومثالُ ذلك مثالُ من قدم العدو بلاده، فأخذ يبني ويغرس، ويعمر ما ينتفع به لنفسه، ويدفع به عدوه، قبل دفع العدو عن بلاده، فجعل كلما عمر شيئًا خربه العدو، وهو غير متمكن من العمارة الثانية، فإذا كان قادرًا من أول الأمر على دفع العدو كان ذلك أولى، وإن حصل له في ذلك نوع مشقة، فهي أخف من كل مشقة يلتزمها مع بقاء العدو ببلاده. والحجج الباطلة هي عَدُوُّ الحق، فهي عدو في قلب الناظر بنفسه لطلب الحق، وقلبه كبلاده، وهي أيضًا عدو له مع المناظر الذي يناظره، وسواء كان معاونًا أو مغالبًا؛ ولهذا ناظر إبراهيم الخليل بمثل هذه المناظرة المتضمنة قياس الأولى، وإلزام الخصم على قوله، أعظم مما ألزمه هو على قول خصمه، كما قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ

سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82] قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: 83] قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم. فالعلم بحسن المحاجة مما يرفع الله تعالى به الدرجات، وكذلك قال تعالى فيما أمر أن يخاطب به أهل الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) } [المائدة 59-60] .

فصل: نقل المؤلف عن كتاب مناهج الأدلة لابن رشد طرق معرفة الله تعالى وبيان الأدلة على وجود الصانع

فصل «يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة، أن يفحص عن منافع جميع الموجودات. وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين، موجودين بالقوة في جميع فطر الناس: أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة. وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] الآية؛ فإنا نرى أجسامًا جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعًا، أن هاهنا موجدًا للحياة ومنعمًا بها، وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر، أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور، مخترع من قبل غيره ضرورة. وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترَع فله مخترِع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلًا مخترعًا له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات.

ولذلك كان واجبًا على من أراد أن يعرف الله حق معرفته، أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وكذلك أيضًا من تتبع معنى الحكمة في موجود موجود؛ أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به، كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليلا الشرع. وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز، هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى [وذلك أن الآيات في الكتاب العزيز في هذا المعنى] إذا تصفحت وجدت على

ثلاثة أنواع: إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية. وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع. وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعًا. فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) } [النبأ: 6-7]-إلى قوله- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) } [النبأ: 16] ومثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) } [الفرقان 61] *إلى قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان 62] * ومثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) } [عبس: 24] الآية. ومثل هذا في القرآن كثير. وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) } [الطارق: 5-6] ومثل قوله تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) } [الغاشية: 17] الآية، ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ومن هذا قوله تعالى حكاية

عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضًا، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } [البقرة: 21] إلى قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } [البقرة: 22] فإن قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22] تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] وقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) } [آل عمران: 191] وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى، يوجد فيها النوعان من الدلالة. فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله

تعالى الناس منها إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر، الإشارة بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ} [الأعراف: 172] إلى قوله تعالى: {بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده، طاعة الله في الإيمان به، وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } [آل عمران: 18] ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه، هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص -وأعني

بالخواص العلماء-[وطريقة الجمهور] وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع، على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء، فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة. وإذا كان هذا هكذا، فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها، أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعًا موجودًا، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى

تعقيب المؤلف على كلام ابن رشد

المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة، فيها ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع، من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا، الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته» . قلت: ذكره لهذين النوعين كلام صحيح حسن في الجملة، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها، مثل ما ذكره في دلالة حركة الفلك، وتفسير الآية، وتسبيح المخلوقات، واستدلال إبراهيم. ودليل الإحداث والاختراع يدل على ربوبية الله تعالى، ودليل الحكمة والعناية والرحمة يدل على رحمته، وقد افتتح الله كتابه العزيز بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) } [الفاتحة: 2-3] وهذا أجود من طريق المتكلمين، طريقة الأعراض، وإن كان لم يستقص الكلام في دلالة ثبوت الصانع تعالى، ولم يفصل إحداث الجواهر وغير ذلك.

نقل المؤلف عن كتاب شعار الدين للخطابي في كراهة طريقة الأعراض وأنها بدعة محظورة

مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال، بنفس الذوات وبصفاتها، باب واسع ليس هذا موضعه وثير [مـ]ـمن يرغب عن طريقة الأعراض، يذكر ما في خلق الإنسان، أو في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين، من الحدوث الدال على المحدث، والحكمة الدالة على قصد الصانع، ورحمته ونعمته بما يدل عليه. وقد ذكرنا ما ذكره الخطابي من كراهة طريقة الأعراض، وأنها بدعة محظورة، وقد قال في أوائل كتابه «شعار الدين» : «القول فيما يجب من معرفة الله سبحانه وتعالى: أول ما يجب على من يلزمه الخطاب، أن يعلم أن للعالم بأسره صانعًا، وأنه هو الله الواحد لا شريك له، وقد جرى كثير من عوام المسلمين في هذا على عادة النشوء وحكم الولادة، فكان إيمانهم إيمان تلقين وتربية، وذلك أنهم يولدون في دار الإسلام، ويتربون في حجور المسلمين، وينشأون في بلادهم، فيتلقنون كلمة التوحيد من الآباء والأمهات، ويسمعون الأذان من المؤذنين، ويتلقون

القرآن من الأئمة في الصلوات، ومن المعلمين في المكاتب، فيستحكم حكم الدين في قلوبهم، ويعتقدون حسنه وصحته تقليدًا، فينتفعون به ويقتصرون عليه. ودين الإسلام إذ كان موثوقًا بصحته، مشهودًا له بالفضل على كل دين سواه، فقد يجب على كل متدين به، أن يكون مصدر اعتقاده إياه عن نظر واستدلال، ليكون العلم به أصح، والوثيقة به أشد، وقد نصب الله تعالى الأدلة وأزاح بها العلة، ووسع من وجوهها، وكثر من عددها، فهي عل اختلاف مراتبها في الوضوح والغموض، معروضة للاستدلال بها، والاستشهاد بمواضعها، فلا أحد يعقل من آحاد الناس، إلا وله في جليها مستدل، وفي واضحها مستشهد، وإن كان نزل فهمه عن دقيقها ولطيفها، فالواجب على كل من الناس أن يبذل وسعه فيه، ويبلغ جهده في دركه، فإن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } [العنكبوت: 69] . فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى، على أن للخلق صانعًا ومدبرًا، أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة؛ ثم عظامًا، ولحمًا، فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده عضوًا من الأعضاء، ولا يمكنه أن

يزيد من جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه، وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز؛ وقد يرى نفسه شابًّا، ثم كهلًا ثم شيخًا، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه؛ وأن له صانعًا صنعه، وناقلًا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر. فإن قيل: إن النطفة قديمة، وفيها قوة قابلة للاغتذاء، فإذا وقعت في الرحم، والطبائع معتدلة، قبلت بالقوة التي فيها الاغتذاء والتربية، حتى تستوي جارحة، ويتم بها خلقه. قيل: لو كانت النطفة قديمة، كما زعمتم لم يجز عليها الانقلاب والتغير؛ لأن التغير والانقلاب من سمات الحدث، فبطل أن يكون المنقلب المتصرف قديمًا. فأما ما ادعوه من قبول النطفة، بما فيها من القوة والاغتذاء والتربية، فإن ذلك لا ينكر، إذا صح العلم به من طريق العادات، ولكن الذي ننكره من ذلك، أن يكون هذا الفعل

للنطفة بذاتها، من غير مدبر دبرها لذلك، ولو كان هذا جائزًا من غير مدبر حكيم، عالم قدير، يعلم كيف يدبر النطفة، ويقلبها أطوارًا ويسوي منها السمع لما يصلح له، ويضعه في موضعه، والبصر في مكانه، الذي يليق به في البدن، وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما، والرجلين الحاملتين في أخص المواضع بهما، ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال، وسائر الأجسام في الموضع الذي هو أملك به، وأشكل لما أعد له من الفعل، واليدين. لجاز أن يرتفع الماء من [البئر] إليه، ويختلط بالطين، ويقع الطين في قالب اللبن، وينطبع به، ثم يرصف إلى موضع البناء، فيرتفع بعضه على بعض فينتضد حتى يكون بناءً رفيعًا محكمًا مشيدًا، من غير بان ولا رافع ساقًا على ساق؛ بل ينطبع الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما، فإن لم يكن هذا جائزًا، لأنه ليس من طبع الماء والتراب أن يكون منهما ما وصفت، فكذلك غير جائز تركيب الإنسان، وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان، من حسن الصورة، وعجيب التركيب، بنفس النطفة وطبعها. ويجاز على هذا بطبع الخشب، وجود سفينة اجتمعت أجزاؤها واعتدلت،

أدلة الخطابي الثلاثة على وجود الخالق تعالى

وتماسكت وداخل بعضها بعضًا، وقربت من الساحل معها دقلها وآلاتها، يعبر من يريد العبور من السواحل، ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرساها كذلك. ويجاز بطبع الماء والنار والتربة، أن يوجد حمام في أسفله نار وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة، من غير بان بناه ومسخن سخنه، ومدبر دبره. فإن لم يجز شيء مما ذكرناه، فليكن مثل ذلك ما ادعوه من النطفة واجتماع خلق الإنسان منها، من غير مدبر حكيم دبره وأحكمه. فهذا الدليل يتضمن أن المحدثَ لا بد له من محدث، وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم» . ثم ذكر دليلين في العالم: أحدهما: حدوث ما يحدث لاختلاف الحركات الطبيعية الدالة على أنه بإرادة، -كما قد نبهنا أن الإرادة هي أصل جميع الحركات-. الثاني: ما في العالم من الحكمة فقال: «دليل ثان: أنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التباين والتنافر والتفاسد، مجموعة

في بدن الإنسان، وأبدان سائر الحيوان، وهي الحرارة والبرودة، فعلمنا أن جامعًا جمعها وقهرها على اجتماع وأقامها بلطفه، ولولا ذلك لتنافرت وتفاسدت، ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات، وتتقاوم من غير جامع يجمعها، لجاز أن يجتمع الماء والنار، ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما ومقيم يقيمهما، وهذا محال لا يتوهم، فتعين أنما كان اجتماعهما بجامع قهرهما على الاجتماع والالتئام. دليل ثالث: أنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك واعتبرتها بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وضروب النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب، وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمُمَلّك البيت المخول ما فيه، وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق، بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعًا حكيمًا، تام القدرة بالغ الحكمة، وقد نبه كتاب الله عز وجل على هذا النوع من الاستدلال، فقال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) } [الذاريات: 21] إشارة إلى أثارة الصنعة الموجودة في الإنسان، من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي بهما، وعين مبصرة، وأذن يسمع، ولسان يتكلم به، وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء، ومعدة

أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يسلك إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ منها إلى الأطراف، وأمعاء يرسب إليها ثقل الغذاء، ويبرز عن أسفل البدن. وقال عز وجل: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) } [الغاشية: 17] الآية، هذا من قريب ما يستدركه العاقل من وجوه الأدلة، من غير كثير استقصاء في فعل ومعاناة بدقيق فكر؛ وذلك أنه خطاب للعرب؛ ومن سنة العربي أن يركب راحلته فيسير عليها فيما قرب من الأرض باغيًا حاجته، وفيما بعد عنها ظاعنًا في السفر في الحال يكثر في بلادهم، فإذا خلا بالمكان لم ير إلا سماءً فوقه وأرضًا تحته، وجبلًا عن يمينه وجبلًا عن شماله، ومطية هو راكبها. فإذا تأمل هذه الأشياء استبان فيها أثر الصنعة ولطف الحكمة -مما جمع الله له من المرافق فيها- أن صانعها لطيف خبير، عالم قدير، حكيم عليم. وقد قيل: إن الإبل خصت بالذكر من بين سائر الحيوان، وذلك أن الأنعام ضروبها أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. والإبل تجمع هذه الخلال كلها. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ

السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) } [البقرة: 164] فذكر خلق السموات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وسيرها في أفلاكها الذي يختلف الليل والنهار به، ويتبين زيادتهما ونقصانهما ودخول أحدهما على الآخر، وأخذ بعضها من بعض، فيكون بها انقسام فصول السنة، وتعاقب الحر والبرد، الذين بأحدهما: لقاح الشجر، وبالآخر: نضج الثمار، وذكر الله (الأرض) التي هي مسكن الحيوان والدواب، وفيها قرار البحار، التي تجمع المياه التي تحمل السفن والفلك، وذكر (الريح) التي تنشئ السحاب، وتجريها إلى حيث أذن لها أن تمطر، فيحيي بها البلاد والزرع والأنعام، وبها يجري الفلك والسفن في البحار، فتصلح بهذه الأمور معايش الناس وتكثر بها منافعهم، وباجتماع هذه الأمور ومعاونة بعضها بعضًا يتم صلاح أمر العالم وينتظم، وفي ذلك دليل على أن صانع العالم قادر حكيم عالم خبير. ووقع ذكر هذه الأمور عقب قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } [البقرة: 163] ليدل بها على صدق الخبر، عما قد يدلنا به من وحدانيته سبحانه. وذكر رحمته ورأفته بخلقه، وطرق الاستدلال كثيرة، لكنا أخبرنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام» وذكر تمام الكلام الذي كتبناه في موضعه.

تصريح الفلاسفة بالحكمة وتناقضهم في نفي كون الرب فاعلا مختارا واعتذار ابن سينا عن ذلك في كتابه الإشارات

واستدلال الناس من جميع الطوائف، بما يشهدونه في العالم من الحكمة والنعمة، والبرهنة على حكمة الرب ورحمته، وإرادته النعمة والإحسان، إلى عباده وعنايته كثيرة جدًا. وإنما المقصود هنا: أن الفلاسفة يصرحون بذلك، وهم من أكثر الناس نظرًا في حكم الموجودات، وقد اعترفوا بما تقدم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلًا مختارًا تناقض منهم. وأيضًا فلو لم يتناقضوا لكانت هذه الدلالة مع دلالة الاختصاص، كلاهما يدل على الإرادة، والاختصاص يدل على إرادة في نفس المفعول، وهذا يدل على الإرادة للمفعول ولحكمته. فهذه ثلاث طرق. وقد اعتذر ابن سينا ونحوه من المتفلسفة عن هذا فقال في «الإشارات» بعد أن ذكر حججه على نفي الفعل بالقصد والاختيار: ( «إشارة» لا تجد إن طلبت مخلصًا إلا أن تقول: إن تمثل النظام الكلي في العلم السابق، مع وقته الواجب اللائق، يفيض منه ذلك النظام على ترتيبه وتفاصيله معقولًا فيضانه، وهذا

تعقيب المؤلف على ما نقله ابن سينا

هو العناية، وهذه جملة تهتدي سبيل تفاصيلها) . وهذا الكلام أبعد ممن يقول بتخصيص العالم بوقت دون وقت، وصفة دون صفة، إنما كان لأن العلم القديم تعلق به على ذلك الوجه، كما قال ذلك طوائف من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، كما سيأتي بيانه. مثل أن هؤلاء جعلوا العلم مخصصًا لما أريد، وهؤلاء المتفلسفة جعلوا العلم مخصصًا لما لم يرد عندهم. والكلام على هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نسلم أن هذا مخلصًا، ولا أنه واقع ولا ممكن، كيف نعلم أنه لا مخلص غيره، وهم لم يذكروا حجة على ذلك، ولا يمكنهم أن يقيموا عليه حجة أصلًا. الوجه الثاني: أن يقال: العلم أبدًا تابع للمعلوم مطابق له، ثم قد يكون سببًا في وجود المعلوم، كالعلم بما يفعله العالم، مثلما ذكره من علم الرب تعالى بالنظام الكلي، وقد لا يكون سببًا، كالعلم بالأمور التي لا تكون بفعل الإنسان ولا بقصده، ثم من الناس -من المتفلسفة ونحوهم- من يجعل العلم مطلقًا صفة فعلية، أو يجعله هو وحده الموجب للمعلوم، وهو غلط كما سنبينه. ومنهم -من المتكلمين وغيرهم- من يجعله أبدًا صفة

انفعالية مطابقة للمعلوم، لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة، ويقول فيه وفي القول: ليس لمتعلقهما منها صفة ثبوتية، وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب من القول الأول ففيه تقصير؛ بل الصواب أنه يجتمع في جنسه الأمران، إذ الأولون يسلمون أنه عالم بنفسه، وهذا ليس مؤثرًا في المعلوم، والآخرون يقولون: الإرادة مشروطة بالعلم، وهذا اعتراف بتوقف المفعول عليه؛ لكن المقصود الكلام في العلم الذي له تأثير في المعلوم وهو العلم العملي، فنقول: من الأمور المعلومة بالفطرة البديهية الضرورية، أن الإنسان إذا عمل عملًا بإرادته، يجد من نفسه أنه يكون شاعرًا بما يريد أن يفعله، وأنه مع الشعور لا بد أن يكون مريدًا، ولا بد مع هذين أن يكون قادرًا عليه، ويجد من نفسه أن إحساسه وشعوره يقتضي إرادة الفعل ومحبته، وأن له شعورًا بما يفعله لأجله، وشعورًا بالحب والإرادة التي في نفسه لذلك المطلوب، وشعورًا بالفعل الذي يتوصل به إليه. فهذه أربع حقائق: مراد مطلوب بالفعل؛ وإرادة في النفس له، وفعل موصل إليه، وإرادة لذلك الفعل، كالطعام مثلًا، والشعور يتعلق بهذه الأربعة، فإنه إذا أخبر بالطعام وهو جائع أحس من نفسه بشهوته ومحبته، فأراد أكله، ومقصوده بذلك وجود لذة الأكل ودفع ألم الجوع؛ وهو يفرق بين نفس الأعيان واللذة بها وبين إرادة ذلك، ثم يريد الأكل الموصل إلى المطلوب، ويفعل هذا الفعل. وهكذا في شهوة النكاح، وهكذا في جميع الأفعال من العبادات وغيرها، والعلم سابق للإرادة

والعمل في ذلك كله. فإنه مثلًا يعرف الله تعالى وثوابه وعقابه، فيصير في قلبه محبة له أو لثوابه الملائم له. فالله تعالى هو مقصوده ومعبوده، وهو يريد التنعم بما يحصل له من النعيم، المتعلق بذاته تعالى، كالنظر إليه أو من مخلوقاته، مثل موجودات الجنة، فكلاهما مقصود له، وقصد هذا مستلزم هذا، كتلازم قصد الأعيان المطعومة، وقصد لذة الأكل، ثم يريد الأعمال الموصلة إلى ذلك ويعملها. ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعقولات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه، فمن ادعى أن مجرد العلم هو كاف في حصول المعلومات، كان مكابرًا مباهتًا؛ فإنه في المشاهد منتف قطعًا، وأما في الغائب فغايته أن يعلمه بنوع شيء: قياس الشمول، أو التمثيل.

فصل: بيان ابن سينا لماهية الملك وتوجيه الرازي له وتعقيب المؤلف عليهما

فصل ذكر ابن سينا فقال: ( «تنبيه» أتعلم ما الملك؟ الملك الحق، هو الغني الحق مطلقًا، ولا يستغني عنه شيء في شيء، وله ذات كل شيء؛ لأنه منه أو ما منه ذاته، فكل شيء غيره فهو مملوك، وليس له إلى شيء فقر) . قال الرازي: «الغرض منه ذكر ماهية الملك، ويعتبر فيها أمران: أحدهما: سلبي: وهو أن يكون غنيًّا مطلقًا عن كل ما عداه. وثانيهما إضافي: وهو أن يفتقر إليه كل ما عداه بواسطة أو بغير واسطة» . قلت: هذه الجملة متفق عليها في الجملة بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، بل المشركون من العرب وغيرهم يقرون بها، كما قال تعالى وتقدس: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ

السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) } [المؤمنون: 84-89] والأكثرون يقرؤون الأخرتين {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} كما اتفقوا على أن جواب الأول: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وهو جواب مطابق لمعنى اللفظ، لأن معنى قوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} و {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي لمن ذلك؟ فكان الجواب بقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} هذا بيان لأن المشركين يقرون بأن ملكوت كل شيء لله، وذلك مبالغة في الملك؛ فإن الملكوت أبلغ من لفظ الملك، وما ذكروه من ذلك يتضمن غناه عن كل شيء، وفقر كل شيء إليه، فهو حق؛ لكنه يتضمن أكمل من ذلك، من العلم والقدرة والتدبير على وفق المشيئة والإرادة وغير ذلك، من المعاني التي تبين أن هؤلاء الفلاسفة لا يجعلونه ملكًا حقًّا، وكيف يكون ملكًا عندهم من لا يقدر على إحداث شيء، ولا دفع شيء، ولا له تصرف بنفسه، ولا في غيره بوجه من الوجوه؛ بل هو بمنزلة المقيد بحبل معلق به من لا يقدر على دفعه عن نفسه. وما يثبتونه من غناه وافتقار ما سواه إليه يتناقضون فيها؛ فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنيًّا، وأن يكون إليه شيء ما فقير؛ لكن ليس المقصود هنا كشف أسرار أقاويلهم كلهم،

وإنما المقصود التنبيه على فساد حججهم، التي خالفوا بها أهل الملل في هذا ونحوه، وأنهم يتكلمون بجهل بسيط أو مركب. فيقال: إن كان المقصود أن الله يستحق أن يسمى ملكًا حقًّا، لثبوت هذا المعنى فلا ريب أنه قد سمى نفسه ملكًا حقًّا، ولا ريب أن هذه المعاني داخلة في ضمن هذا الاسم، وأكثر منها في صفات الكمال الثبوتية، وتنزيهه عن النقائص، لكن في هذا ما يدل على أنه ليس له إرادة وقصد؛ إلا أن يحتج على ذلك بأن لفظ الغني ينفي ذلك، أو أن ذلك يقتضي فقرًا إلى الغير، وقد تقدم الكلام على ذلك، وتبين أن ذلك مع أنه لا فقر فيه إلى غيره، فالذي يذكرونه يستلزم من المحاذير أعظم مما فروا منه من وجوه؛ بل سلب ذلك هو الذي يقتضي أن يكون فقيرًا؛ بل معدومًا؛ بل ممتنعًا لذاته، كما هو مقرر في موضعه.

فصل: نقل المؤلف عن ابن سينا والرازي إثباتهما لاسم الجود لله تعالى وتفسيرهما له

فصل ثم قال ابن سينا في تقرير نفي الإرادة والحكمة المقصودة: «تنبيه: أتعرف ما الجود؟ الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض، فلعل من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد، ولعل من يهب ليستعيض معامل، وليس بجواد، وليس العوض كله عينًا، بل وغيره، حتى الثناء والمدح والتخلص من المذمة، والتوصل إلى أن يكون على الأحسن، أو على ما ينبغي، فمن جاد ليشرُفَ أو ليُحْمَد أو ليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد. فالجواد الحق هو الذي تفيض منه الفوائد لا لشوق منه، وطلب قصدي لشيء يعود إليه. واعلم أن الذي يفعل شيئًا، لو لم يفعله لقبح به أو لم يحسن منه، فهو بما يفيده من فعله متخلص» . وقال أبو عبد الله الرازي في تفسير ذلك: «الغرض منه بيان

ماهية الجود، وحده: أنه إفادة ما ينبغي لا لغرض. وهذا فيه قيود ثلاثة: أحدها: الإفادة؛ فإن من لا يفيد شيئًا لا يكون جوادًا. وثانيها: أن يكون المفاد مما ينبغي إفادته، فإن من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد» . قال «واعلم أن لفظة «ينبغي» لفظة مجملة؛ فإنه يراد بها تارة الحسن العقلي كما يقال: العلم مما ينبغي والجهل مما لا ينبغي؛ لكن الحكماء لا يقولون بالحسن والقبح العقليين. وقد يراد بها الإذن الشرعي، كما يقال: النكاح مما ينبغي والسفاح مما لا ينبغي. أي النكاح مأذون فيه شرعًا، والسفاح ممنوع منه شرعًا. وهذا التفسير أيضًا لا يليق بالحكماء، وليس لهذه اللفظة معنى مخلص سوى هذين

المعنيين. فظهر الإجمال من هذه اللفظة. وثالثها: أن لا تكون الإفادة لعوض؛ فإن من يهب ليستعيض معامل، سواء كان العوض عينًا أو ثناءً أو مدحًا أو تخلصًا عن الذم، أو أن يكون فاعلًا للأليق والأحسن، ثم إنه لما مهد هذه القاعدة قال: فالجواد الحق» إلى آخره. ومعناه ظاهر. قال: «ولقائل أن يقول: القصد إلى إيصال الفائدة إلى الغير لو لم يكن معتبرًا في الجود لوجب أن يقال: الحجارة إذا سقطت من السقف ووقعت على رأس عدو إنسان، ومات ذلك العدو، أن تكون تلك الحجارة جوادًا مطلقًا، لأنه حصل منها ما ينفي الغرض، فإن التزم كزن الحجر جوادًا

مطلقًا، وقال هذا هو الحق وإن كان شنيعًا في المشهور. فنقول له: الذي عولت عليه أيضًا ليس حجة برهانية؛ بل كلامًا إقناعيًا خطابيًا؛ فإن غاية كلامك أن كل ما غرضه في الإفادة أن يكون فاعلًا للأولى، كان غرضه من الإفادة تخليص نفسه من الذم فهذا ضعيف، لأنه يقال إن عنيت بقولك: إنه يخلص نفسه من الذم؛ لأن غرضه من فعله أن لا يصير مستحقًّا للذم، مع علمه أنه لو لم يفعله لا يستحق الذم، فلم قلت: إن ذلك محال؟! وهل هذا إلا إلزام للشيء على نفسه؟! وإن عنيت به معنى آخر فبينه لنتكلم عليه. فصح أن الحجة التي ذكروها *لا تصير على السبك* والنظر الحق لكنها

مناقشة المؤلف لابن سينا والرازي في حجتهما في تفسير اسم الجود وبيان فسادها من خمسة عشر وجها

حجة إقناعية، وإذا كان كذلك كانت الحجة التي ذكرناها تصلح معارضة لها» . قلت: هذه الحجة من جنس التي قبلها في اسم الغني وأفسد منها، وذلك يظهر بوجوه: أحدها: أن يقال هذه الحجة مبنية على مقدمتين: إحداهما: أن الحق مسمى بأنه جواد. والثانية: أن تفسير الجواد هو ما ذكرته، ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة أصلًا لا بينة ولا شبهة، فكان ما ذكرته مجرد دعوى، لبست بها على الناس كما لبست بقولك: إنه غني، وأن الغني هو من يكون كذا. ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة؛ لكن هناك ادعيت أن ثبوت الإرادة مستلزم للفقر إلى غيره، قد ثبت أنه واجب الوجود، فلا يكون مفتقرًا إلى غيره، وهذه الحجة وإن كان قد تبين فسادها، فلم تذكر في اسم الجواد حجة نظيرها، بل كان هذا دعوى مجردة؛ إذ لا يمكنه أن يقول: واجب الوجود يجب أن يكون جوادًا كما قال: يجب أن يكون غنيًّا.

الوجه الثاني

الثاني: أن يقال: لا ريب أن الله عند أهل الملل، كريم، جواد، ماجد محسن، عظيم المن، قديم المعروف، وأن له الأسماء الحسنى، التي يثنى عليه فيها بإحسانه إلى خلقه، لكن وإن كانت هذه الحجة مبنية على تسليمهم ذلك، فليست حجة عقلية، بل جدلية، وهذا ليس بفلسفة. الثالث: أن يقال: هم سموه بهذه الأسماء الحسنى، سموه بها بالمعنى الذي يفسرونه به، بالذي لا ينافي إرادته ورحمته؛ بل عندهم نفس الرحمة، التي نفيتها أنت لنفيك الإرادة، أو إرادة الإحسان إلى عباده، هي عندهم تدل على الإحسان والجود بلا نزاع بينهم؛ لكن طائفة من نفاة الصفات يجعلون الرحمة هي نفس الإحسان، وإن وافقهم على ذلك بعض الصفاتية، حتى بعض أصحاب أحمد رحمه الله. وطائفة كبيرة من الصفاتية يقولون: الرحمة تعود إلى إرادة الإحسان، وهذا قد يقوله بعض أصحاب أحمد، والذي عليه أئمة الصفاتية وجمهورهم، أن الرحمة صفة لله ليست هي الإرادة، كما أن السمع والبصر ليس نفس العلم.

الوجه الرابع

والمقصود أنك إذا احتججت بموافقتهم لك على إطلاق الاسم، فإن كنت تحتج بالموافقة على معناه، لم يكن لك حجة، لأنهم متفقون على أن معنى هذا الاسم عندهم لا ينفي ما تنفيه أنت من إرادته وغير ذلك، وإن كنت تحتج بمجرد الموافقة على اللفظ مع التنازع في معناه، فهذه حجة فاسدة جدًّا، لأنهم أطلقوا الاسم بمعان، فادعيت أنت أنهم كان ينبغي أن يريدوا بهذا الاسم معان أُخَر، وهذا من جنس أن يقال: كان ينبغي أن يعنوا بلفظ الإحسان كذا، وبلفظ الحركة وبلفظ الفعل كذا، أو نحو ذلك من المعاني التي لم يريدوها بذلك اللفظ. وحاصله أنه اعتراض على اللغة، بأنه كان يجب أن يعني بألفاظها من المعاني أمورًا أُخَر، ولا ريب أن هذا اعتراض فاسد على اللغة؛ فضلًا أن يكونه حجة في المعاني العقلية الإلهية. الرابع: هب أنه سلم لك؛ أن اللفظ كان ينبغي أن يستعمل في المعاني التي ذكرتها، لكن هم إذا لم يستعملوها إلا في المعاني التي قصدوها، لم يكونوا موافقين لك على ما ادعيته من المعنى، وإن قصروا في العبارة؛ فيكون ما أثبته من المعنى أثبته بلا حجة لا علمية ولا جدلية، بل بمجرد الدعوى. وهذا بين

الوجه الخامس

واضح ولله تعالى الحمد. الخامس: أنه لو احتج على هذا بدليل سمعي، مثل أن يثبت بالنص أنه جواد، لم يصح أن يفسره بهذا المعنى، لهذين الوجهين: أحدهما: أن الأدلة التي يذكرها، ليست سمعية شرعية، وهو يعترف بذلك، فلا يقبل منه أن يذكر دليلًا سمعيًا، ويدعي أنه عقلي، مع أنه هذا الاسم ليس في القرآن، وإن جاء في بعض الأحاديث. الثاني: أن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع وفي بيان معناها، إلى من نقل عنه القرآن والحديث، لفظه ومعناه، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض، حتى يصل إليه، أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها ولا ريب أن الفلاسفة من أبعد الناس عن ذلك، ولو ادعوا نقلًا عن المرسلين للفظ ولمعناه، من غير رجوع في ذلك إلى أهل العلم بأثارة المرسلين، لم يكن ذلك مقبولًا باتفاق العقلاء، ثم كيف يصح أن يحتج محتج بمثل هذه الدلالة الضعيفة، على نفي إرادة الله تعالى، والقرآن مملوء من إثبات إرادته ومشيئته، ورحمته

الوجه السادس

وحكمته، ولو قدر أنه يتناول ذلك، كان من المعلوم بالاضطرار لكل أحد، أن ما ذكره ليس فيه ظهور يحتاج إلى تأويل؛ بل هو أبعد من ذلك، فكيف يتأول النصوص والظواهر لأجل ذلك؟! وإنما غاية المتأول أن يدعي معارضة المعقولات للسمعيات، ونحن قد بينا أن هذه الحجة ليست من المعقول بسبيل؛ بل هي مع كونها سمعية لفظية، فهي دعوى مجردة؛ بل كاذبة، كما سنبينه. الوجه السادس: أن يقال له: هذا الحد الذي ذكرته في «الجود» حين قلت: «إن من جاد ليشرف وليحمد، وليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد» . فهذا التفسير عمن نقلته؟! ومن ذكره من أهل التفسير للنصوص، أو من أهل اللغة العربية، بل من سائر لغات الأمم، وإن كان ذلك لا ينفعه، إن لم يبين معنى هذا اللفظ العربي في لغة العرب؛ ومن المعلوم أن هذا لم يقله أحد من أهل العلم بالنصوص الشرعية، واللغة العربية، فصار ذلك افتراء على النصوص واللغة.

الوجه السابع

الوجه السابع: أن يقال: اسم الجواد يقال: على كثير من المخلوقين، مع انتفاء هذه المعاني عنهم، فلو كان هذا المعنى داخلًا في هذا الاسم، لم يصح إطلاقه على مخلوق إلا مجازًا أو بطريق الاشتراك، وكلاهما مع كونه خلاف الأصل، إنما يكون إذا ثبت استعمال اللفظ في المعنى مجردًا. فكيف وأصل الاستعمال منتف؟. الوجه الثامن: أن يقال: معروف في الشرع واللغة والعقل، أن الذي يفعل أو يفيد ما ينبغي لا لمقصود أصلًا عابث، وإن كان لا لمقصود يعود إلى نفسه فهو سفيه أو جاهل، وكلاهما مذموم في الشرع والعقل؛ بل يستحق في الشرع أن يحجر عليه، وهو من أسوأ المبذرين حالًا؛ فإن من المبذرين من يبذل المال لأغراض محرمة، وإن كان فيها ما هو مقصود له، فأما من يبذل ما ينبغي لا لمقصود أصلًا، فهذا إن كان موجودًا فهو مذموم. واسم «الجود» في الشرع واللغة والعقل اسم مدح، فيستحيل أن يفسرها بما لا يكون عند الناس إلا مذمومًا. بل يقال في الوجه التاسع: هذا المسمى لا يعرف وجوده أصلًا، فليس في الموجودات ما يفيد وينفع لا لمقصود أصلًا، حتى الحركات الطبيعية، لحركتها منتهى ومستقر، هو منتهى ميلها، ويسمى ميلها إرادة، وقد جعلوه هم عشقًا لذلك الكمال. وإذا كان هذا المسمى معدومًا، والاسم معروفًا في الشرع واللغة لأعيان موجودة. امتنع أن يكون مسماه ما ذكره.

الوجه العاشر

بل يقال في الوجه العاشر: إن ما ذكره ممتنع لذاته، *فإنـ[ـه] بتقديرنا يفعل لعلة غائية لا لمقصود غائي، كتقدير ما يحدث لا عن علة فاعلة وكل منهما ممتنع لذاته* ولهذا هم يسلمون أن ليس في الموجودات ما هو كذلك، إلا ما يذكرونه في واجب الوجود، وهم متناقضون في ذلك: فيصرحون تارة بأنه يفعل لقصد منه للغاية ورحمة منه، وتارة يقولون: ليس له إرادة ولا قصد. وإذا كانوا متناقضين في ذلك، تبين أن أحدًا من العقلاء لم يستقر قوله على إثبات موجود بهذه الصفة التي سموها «جوادًا» . الوجه الحادي عشر: أن يقال: الجود إفادة ما ينبغي لا لغرض. هو كلام مجمل يحتمل الحق والباطل؛ بل الظاهر منه

للناس هو الحق الذي لم يرده؛ فإنه يقال لك: العوض المعروف في الشرع، واللغة والعرف والعقل، هو ما يبذله أحد المتعاوضين للآخر، في مقابلة ما بذله الآخر له، كثمن المبيع، وأجرة الأجير، وثواب الهدية، ومكافأة النعمة ونحو ذلك، فلا ريب أن من أعطى غيره عطية، ليعطيه ذلك الغير عوضها، فهذا مستعيض وليس بجواد؛ ولهذا يفرق الفقهاء بين عقود المعاوضات، والتبرعات بنحو هذا الفرق؛ ولهذا قال المخلصون: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) } [الإنسان: 9] فأخبروا أنهم لا يريدون من المنعم عليهم لا جزاءًا ولا شكورًا، ولم يقولوا: لا نريد ذلك من أحد، لا من الله ولا من غيره؛ فإن هذا إما ممتنع وإما سفاهة، ولهذا كان المحققون للإخلاص لا يطلبون من المُحْسَنِ إليه لا دعاءً ولا ثناءً ولا غير ذلك، فإنه إرادة جزاء منه؛ فإن الدعاء نوع من الجزاء على الإحسان والإساءة؛ كما جاء في الحديث: «من أسدى إليكم

معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه» وقال الشاعر: ارفع صغيرك لا يحربك ضعفه ... يومًا فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلته فقد جزى وأيضًا كانوا إذا كافأهم المُعْطَى بدعاء وغيره. قابلوه بمثل

ذلك، ليبقى أجرهم على الله تعالى، ولا يكونوا قد اعتاضوا منه، كما كانت عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسل: اسمع ما يدعون به لنا، حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا، ويبقى أجرنا على الله تعالى. فهذا ونحوه غاية ما يقدر من الجود المعروف، فأما جود أهل الجاهلية ونحوهم، ممن يقصد به الثناء عليه، ولو بعد موته فذاك دون هذا. وأيضًا فإن الإنسان قد يحب بنفسه فعل الخير والإحسان، ويتلذذ بذلك لا لغرض آخر، بل يتلذذ بالإحسان إلى الغير، كما يتلذذ الإنسان بلذاته المعروفة وأشد، وإن لم يصل إليه نفع غير لذته بالإحسان، كما أن النفوس الخبيثة قد تلتذ بالإساءة والعدوان، وإن لم يحصل لها بذلك جلب منفعة ولا دفع مضرة. فهذا أيضًا موجود وصاحبه من أهل الإحسان والجود، فإما أن يكون في الوجود من يفعل لا لمعنى فيه ولا لمعنى في غيره، فهذا لا حقيقة له أصلًا، وقد علم [أن] أهل الشرع واللغة وسائر العقلاء الذين يقولون: الجود إفادة ما ينبغي

الوجه الثاني عشر

لا لعوض أصلًا. إنما يريدون به عوضًا يكون في مقابلة العطية، إما من المعطي أو ممن يقوم مقامه، كمن يبذل لغيره مالًا ليعتق عبده، أو يخلع امرأته أو يفك أسيره. وبالجملة فالعوض الذي ينافي الجود، يشترط فيه أمران: أحدهما: أن يقصده المعطي، والثاني: أن يقصده من المعطى أو ممن يقوم مقامه. فأما من طلب العوض من الله تعالى، أو أحسن للتذاذه هو بالإحسان، فهذا لا ينافي الجود باتفاق العقلاء؛ بل لو طلب الثناء من العباد ونحوهم، لم يمتنع أن يسميه الناس جوادًا، كما سموا حاتمًا وغيره من أهل الجاهلية بالجود، وإن كانوا قد يقصدون السمعة والثناء في الخلق. الوجه الثاني عشر: قوله: «ولعل من يهب ليستعيض معامل، وليس بجواد» . وهذا فيه من الإجمال ما تقدم؛ فإن معنى العوض، الذي يمنع الجود في الشرع واللغة والعرف وعقول جميع الآدميين، أخص من العوض الذي ادعاه، فقوله: «وليس العوض كله عينًا، بل وغيره حتى الثناء

الوجه الثالث عشر

والمدح والتخلص من المذمة والتوصل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي» فيقال له: لا نسلم أن من أعطى لينال حمد الله وثناؤه عليه، والتخلص من ذم الله تعالى له لا يكون جوادًا؛ بل هذا جواد باتفاق الأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله المؤمنين، وسائر أهل السموات وأهل الأرضين. وكذلك من وهب ليكون ذلك أقرب إلى الله تعالى، وأحسن له عنده، وأعلى لدرجته، أو ليكون عند الله على ما ينبغي، فلا نسلم أن هذا ليس بجواد. وكذلك أهل كل لغة، سواء كانوا مسلمين أو كفارًا؛ من وهب لينال ما هو عندهم أحسن وأعلى، ولينال الحمد والثناء من الجناب الأعلى، لشيء يليق به عندهم أن يطلب منه الحمد والثناء، فهو جواد عندهم. فقوله: «من جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد» ليس بمسلم، ولا دليل عليه. بل يقال في الوجه الثالث عشر: هذا جواد باتفاق العقلاء من جميع الأمم، وهذا هو المجود، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ

أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] *وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] وقال {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 110] * وقال: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ} [آل عمران: 115] وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } [الزلزلة: 7-8] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا *وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا* (40) } [النساء: 40] وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] وقال: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261] وقال: {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) } [الروم: 39] ويروى عن علي أو غيره أنه قال: ما أحسنت إلى أحد، وما أسأت إلى أحد؛ إنما أحسنت إلى نفسي، وأسأت إلى نفسي. وعمل ذلك إلى لأجل الله تعالى نهاية المطلوب كما قال كل من

الوجه الرابع عشر

الرسل: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) } [الشعراء: 109] وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } [الليل: 17-21] . الوجه الرابع عشر: أن هذا الاسم بعينه لم يجئ في أسماء الله تعالى، التي في القرآن ولا في الأحاديث المشهورة في الصحيحين، وإن كان قد جاء بمعناه أسماء أخرى، كالكريم، والأكرم، والوهاب، وما يستلزم هذا المعنى [كـ] الرحمن والرحيم، والرب وغير ذلك، لكن هذا الاسم جاء ذكره في الحديث الإلهي، حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله، وقد رواه مسلم لكن هذا الاسم جاء في رواية الترمذي

وابن ماجه فيه: «يقول الله تعالى: يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط، إذا غمس في البحر غمسة واحدة، وذلك أني جواد ماجد، عطائي كلام، وعذابي كلام؛ إنما أمري إذا أردت شيئًا، أن أقول له كن فيكون» وروى هناد بن

السري، عن أبي معاوية، عن حجاج، عن سليمان بن سحيم، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جواد يُحبُّ الجود» وقال أهل العلم: الجواد في كلام العرب معناه الكثير العطاء، يقال منه: جاد الرجل يجود جودًا فهو جواد. قال أبو عمرو بن العلاء:

الجواد الكريم، تقول العرب فرس جواد. إذا كان غزير الجري، ومَطر جواد، إذا كان غزيرًا، قال عنترة: جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم وجاء في الحديث في وصفه المطر الذي استسقاه الرسول صلى الله عليه وسلم: «فما جاء أحد من جميع النواحي إلا أخبر بجود» وفي حديث أبي هريرة، الذي في صحيح مسلم، في الثلاثة الذين

الوجه الخامس عشر

يقضي الله عليهم يوم القيامة أولًا «ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت؛ ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار» فهذا الحديث الصحيح يدل على أن قولهم جواد، مثل قولهم كريم، كما قال أبو عمرو فقد ثبت بالنص، وقول أهل اللغة، أن المخلوق يسمى جوادًا، وإن كان إنما يفعل لمصلحة له، وإنما يفعل بإرادته. الوجه الخامس عشر: أن تسمية الرب سبحانه وتعالى جوادًا، وإن كان قد قيل، هو بمعنى كونه كريمًا، فالاسم «الكريم» يتناول معاني منها الجود؛ فإن فيه معنى الشرف والسؤدد، ومعنى الحلم، وفيه معنى الإحسان. ومن تأمل مقالات أهل الفلسفة والكلام، ومن يضاهيهم في هذا الأصل، وجدهم عامتهم مضطربين فيه، كل منهم وإن

أثبت نوعًا من الحق واعتصم به، فقد كذب بنوع آخر من الحق فتناقض، وأكثر عقول الناس تبخس دون تأمل هذا؛ إذ أحدهم يرى نفسه، إما أن يقول حقًّا، ويقول ما ينقضه، أو يقول حقًّا ويكذب بحق آخر، وتناقض القولين باطل، والتكذيب بالحق باطل، والحق الصريح لا يرى قلبه يستطيع معرفته، كما لا يستطيع أن يحدق بصر عينيه في نور الشمس؛ بل كما لا يستطيع الخفاش أن يرى ضوء الشمس. وقد قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } [الحج: 46] . والمقصود هنا بيان تناقض الدهرية، وفساد حجتهم. فصل المشهور بين أهل السنة والجماعة أن لا يقال في صفاته «كيف» ولا في أفعاله «لِمَ» ... إلخ.

الجزء الثاني

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء الثاني العلو - الاستواء - الحد - الجسم - الحيز - الجهة حققه د. رشيد حسن محمد علي

فصل: لا يقال في صفات الله كيف؟ ولا في أفعاله لم؟

فصل المشهور بين أهل السنة والجماعة أنه لايقال في صفات الله عز وجل كيف ولا في أفعاله لِمَ وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته كقول مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول لم

ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو وتكلمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك لكنْ كثير من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون

له ماهية وحقيقة وراء ماعلموه وكذلك إذا قلنا لايقال في

أفعاله لِمَ فإنما نفينا السؤال بـ لِمَ وذلك ينفي علم السؤال بالحكمة الغائية المقصودة بالفعل التي تصلح أن تكون جواب لِمَ وهي المقرونة في قول المجيب لكذا وهي التي تُنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرًا فعلا لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان كما تقول فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك لكن اللام تقرن بها بنفس الحكمة المقصودة ونفس قصدها وطلبها فيقال فعلت هذا لله ولابتغاء وجه الله وأما مع حذف اللام فلا يكون المنصوب إلا مايقوم بالفاعل من الباعث له كالإرادة والكراهة وما يستلزم ذلك كما يقال قعد هن الحرب جبنًا لأن الجبن يتضمن البغض والكراهة وكما يقال وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن ذم اللئيم تكرما

فإن ادخاره يتضمن قصد الانتفاع به والتكرم يتضمن قصد صون النفس عن التأذي بشتمه لكن قوله لايقال في أفعاله لم لاينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر ولاكونه مريدًا لها قاصدًا وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه ولهذا قال بعض علماء السلف إن الله علم علما علمه العباد وعلم علمًا لم يعلمه العباد وإن القَدَر من العلم الذي لم يعلمه العباد ورووا في قصة سؤال موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن سر القَدَر وأنه لو أراد أن يطاع لأطيع وقد أمر

أن يطاع وهو مع ذلك يعصى ومضمون السؤال لو أردت هذا لكان واقعًا لأنك قادر عليه فما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ثم قد أمرت به والأمر يستلزم محبته وطلبه فهلا كان المحبوب المطلوب قد أريد وقوعه فأوحى الله تعالى إليهم أن هذا سري فلا تسألوني عن سري وأن المسيح قال للحواريين القدر سر الله فلا تكلفوه والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كنه الغاية المقصودة بالأفعال كما تعجز عن كنه إدراك حقيقة الفاعل ولكن نفي الشيء غير نفي العلم به ونفي هذه الحكمة المقصودة لظن أن ثبوتها يستلزم قيام الحوادث المستلزمة حدوثه به واستكماله بغيره المقتضي حاجته ونحو ذلك هو نظير نفي صفاته الثابتة بالفطرة والشرع والعقل لظن أن ثبوتها

يستلزم حدوثه أو يستلزم افتقاره إلى غيره فما يتوهمه النفاة المكذبين من المتفلسفة والمتكلمة من أن ثبوت الصفات يستلزم حدوثًا وحاجة وأن ثبوت الأفعال أو حكمها المقصودة يستلزم حدوثًا وحاجة هو من جنس واحد وكل

جواب طائفة من المتكلمين عن حجة الفلاسفة في إبطال الحكمة في أفعال الله

منهم يلزمه فيما أثبته أعظم مما فر منه هو لم يثبت إلا هذا الموجود المحسوس بلا صانع أصلا بل كلما كان أقل إثباتًا كانت المحذورات فيما يثبته أعظم وأعظم لأن الإثبات إذا قل قلت صفات الكمال له وكان مايلزمه من النقائص وما يتوهم أنه مستلزم للحدوث والفقر أعظم وأعظم فيلزمه اجتماع هذه الأمور مع نقيضها من القدم والوجوب فليتدبر المؤمن العلم بهذا الأصل الجامع العظيم فإنه من أعظم مايهدي به الله تعالى إلى الصراط المستقيم ثم قالوا في جواب ماذكروه من إبطال الغرض قوله في الوجه الثاني في إبطال هذا القسم إن كل من فعل فعلا لغرض فهو أخس من ذلك الغرض قلنا القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا غير علمية بل خطابية فلا يمكن بناء القواعد العلمية عليها على أننا

ننقض هذه القضية بالراعي فإنه ليس أخس من الغنم وبالنبي فلأن أمته ليسوا بأشرف منه فهكذا ههنا وهذا جواب ضعيف وقد تعلمه من ابن سينا فإنه هو القائل في الشفاء إن القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا خطابية وليس الأمر كذلك فإنه من المعلوم

ببديهة العقول أن الشيء الذي لم يقصد به إلا أن يكون وسيلة وطريقًا إلى غيره فالذي هو المقصود بذاته يجب أن يكون أكمل في الوجود من الذي ليس يراد منه إلا أن يكون وسيلة إلى غيره والمعنى بالشرف كمال الوجود وبالخسة نقص الوجود وهذا أمر معقول بل على مثل ذلك تنبني عامة البراهين الصحيحة بل معرفة الفطرة بمثل هذه القضية أبين عندها من كثير من القضايا البديهية لأنه يجتمع فيها العلم والحب فتبقى معلومة بالعقل موجودة مذوقة بوجد القلب وذوقه وإحساسه فتكون من القضايا العقلية المحسوسة بالحس الباطن وإلا فهل يقول عاقل إن الموجود الذي يكون وجوده أكمل من غيره لايقصد به إلا أن يكون وسيلة إلى الموجود الذي هو دونه وأنقص منه وأما ماذكره من التمثيل بالنبي والراعي فيقال منشأ الغلط في مثل هذا هو اشتباه المقصود بالقصد الأول بالمقصود بالقصد الثاني وذلك أن الراعي ليس مقصوده الأول برعاية الغنم مجرد نفعها بدون غرض يحصل له هو من ذلك بل إنما

يقصد أولا ماكان مصلحة له ونفعًا وكمالا إما تحصيل الأجرة وهو المال الذي ينتفع به ويقضي به حاجاته أو يتشرف به وإما رحمة للغنم وإحسانا إليها ليدفع عن نفسه الألم الحاصل إذا كان الحيوان محتاجًا متألمًا وهو لايزيل ألمه أو فيحصل له الراحة والعافية من هذا الألم أو يحصل له تنعم وفرح وسرور بالإحسان إليها أو أن تكون له أو لصديقه أو لقريبه فيقصد برعايته ما يحصل له من المنفعة والفرح والسرور وزوال الضرر بمثل ذلك وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالإحسان إلى الأمة إنما يقصد مايناله من التقرب إلى الله تعالى وعبادته والإحسان إلى عباده من أنواع المطالب والمقاصد التي هي أشرف وأعظم من فعله بهم فمطلوبه ومقصوده أعظم وأشرف من فعله وربه الذي يعبده ويبتغي وجهه أعظم من العباد الذين ينفعهم فأما أن تكون الغاية المقصودة له بذاتها هي مجرد نفعهم من غير مقصود آخر يكون أشرف من هذا فهذا إنما يقوله جاهل شديد الجهل بالمقاصد والنيات وقد أجاب طائفة ثالثة من أهل الكلام من الكرامية

جواب طائفة أخرى من المتكلمين في إبطال الحكمة في أفعال الله

وغيرهم كابن الهيصم في كتابه المسمى بجمل الكلام وكالقاضي أبي يعلى الصغير في كتابه المصنف في أصول

الدين عن سؤال الحكمة بجواب خير من جواب هذين كما أن هؤلاء أيضًا قالوا في سبب الحوادث خيرًا من قول هذين وإن كان الجميع مقصرين في الأمرين جميعًا وقالوا العلة فيه استدعاء الحمد والتعظيم من عبيده وذلك أن الحكمة تستحسن استدعاء الحمد من مستحقه واستدعاء التعظيم ممن هو أهله كما أنه يستحسن طلب المحامد ممن عدمها ألا ترى أنه من عدم المعاني التي يستحق عليها الحمد والتعظيم كيف يحسن في الحكمة أن يبذل الوسع في طلبها ولذلك حسن منا طلب العلوم ومكارم الأخلاق فأما الله تعالى فقد كان كامل العلم والقدرة والجود والكرم فخلق العالم وأسكنه أهل التمييز يستدعي بذلك حمدهم له وتعظيمهم إياه وعلى ذلك يخلد من يخلده منهم في الجنة أبد الآبدين قال الله تعالى لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {70} [القصص 70] قالوا والدليل على أن وجه حكمة الله في خلق هذا العالم أن يدل على صفاته التي توجب تعظيمه وأن يستدعي الحمد له أن هذا الوجه من القصد حسن مقبول عند كل عاقل وليست المنافع كذلك من قبل أن المتقدمين والمتأخرين قد اختلفوا في

المنافع هل هي فاضلة في أنفسها أم لا وذلك يدل على أن المنفعة ليست صريح الحكمة والحسن لاشتباه ذلك على من عرفها وثبت أن صريح الحكمة والحسن استدعاء الحمد والتعظيم من مستحقها إذ كان هذا الوجه في تشبيه على ذي عقل قالوا وقد قال الله تعالى جل جلاله فيما وصف أهل الجنة لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ [القصص 70] وقال وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {10} [يونس 10] وإذ قد جعل حمدهم إياه آخر مايحشرهم إليه بكلية هذا التدبير ثبت أنه الغرض من خلق الكل وقال الله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} [الذاريات 56] يعني ليعبده منهم البعض فتكون عبادتهم وتعظيمهم إياه عوضًا عن جملة ماخلق ممن عبده وممن لم يعبده وذلك أن من لم يعبد صار سببًا لعبادة من عبد ولذلك صح أن تكون عبادة من عبده غرضًا من كلية هذا التدبير قالوا وفي تكليف من عمل أنه لايطيع لم يكن غرضه من تكليفه إياه أن يتأدى إلى حسن حال يخصه في عاقبته بل

أجرى تكليفه ذلك إلى غرض صحيح ولا يجب أن يكون غرضه في تكليف كل واحد من المكلفين مايعود إلى حسن حال يخصه وماينتفع به في عاقبة أمره بل الذي يجب أن يكون غرضه من ذلك أمرًا هو صحيح في الحكمة كما أنه خلق الجماد ولم يكن غرضه من خلقه أن يتأدى به خلقه إياه إلى منفعة تخصه في نفسه وإنما خلقه لغرض آخر وذلك أنه أظهر بتكليف من هلك ضربًا من تدبيره واستدعى بذلك محامد من علم أنهم يعتبرون به ونفع بتكليفه غيره ممن علم أنهم ينتفعون بذلك وهو إنما هلك بسوء اختياره فكان تكليفه حسنًا إذْ أن أمره له بالإيمان والطاعة والشيء الذي كلف فعله حسن لأنه كلفه أن يؤمن ويطيع والذي عرض له أيضًا حسن لأنه عرض لنعيم الجنة فأما الغرض من تكليفه فلم يكن حسن حال يخصه في عاقبته إذ قد علم أنه يهلك بسوء اختياره وإنما كان الغرض منه صلاح ضرب من التدبير علمه فيه ولولا ذلك لم يكن ليكلفه قلت وليس المقصود هنا بيان مايجب أن يقال في حكمة الله تعالى ومشيئته ورحمته وما يستحقه من الصفات والأفعال إذ لكل مقام مقال

بيان تناقض كل من الجهمية والدهرية وفساد أصول كل منهما على أصل نفسه وأصل خصمه

ولكن الغرض بيان ممانعة الجهمية والدهرية وعجز كل طائفة عن تصحيح قولها لاشتراك الطائفتين في جحد أصول فطرية ضرورية جاءت الرسل بكمالها وتمامها وشهدت بها الأقيسة الصحيحة وأن الجهمية عاجزون عن الجواب عن شبه الدهرية على أصولهم وأن الدهرية عن الجواب عن حجج الجهمية على أصول أنفسهم أعجز وأن حجة كل واحدة من الطائفتين باطلة على أصل نفسه كما هي باطلة على أصل خصمه فإذا كانت حججهم باطلة على الأصلين كما أن ذلك أيضًا باطل على الأصول الصحيحة ظهر مع بطلان أصولهم عظم تناقضهم من كل وجه

وقد تقدم أن هذه الحجة حجة الحكمة والغرض للفعل احتج بها الدهرية وذكرنا أنهم يعارضون بها على كل قول يقولونه فتبين أن الذي يلزمهم أعظم مما فروا منه ونقول قد تبين أنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها العناية والفلاسفة من أعلم الناس بهذا وأكثر الناس كلاما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم والموافقة للإنسان وغيره ومايوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه أو علم

الهيئة ونحوه من الرياضي أو العلم الإلهي وأجل

القوم الإلهيون وقد تقدم ماذكر من اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد ولاريب أن الاعتراف بهذا ضروري كالاعتراف بأن المحدث لابد له من محدث والممكن لابد له من مرجح فكما أن هناك مقدمتين إحداهما أن هنا حوادث مشهودة والحادث لابد له من محدث والأولى حسية والثانية عقلية بديهية ضرورية وكذلك أن ها هنا ممكنات والممكن لابد له من مرجح واجب فكذلك ها هنا مقدمتان إحداهما أن هنا حكمًا ومنافع مطلوبة والثانية أنه لابد لذلك من فاعل قاصد مريد وهما مقدمتان ضروريتان الأولى حسية والثانية عقلية فإن الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث وإن كان في تفصيل ذلك مايعلم بالقياس أو الخبر ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها وقد يعلم إمكانها

كالأسباب وأيضًا فإنه يقال هذا الموجود المحسوس يستلزم الواجب القديم فإن كل موجود إما قديم واجب بنفسه وإما ممكن أو محدث والممكن والمحدث يستلزم القديم الواجب فثبت الموجود الواجب بنفسه فكذلك يقال هذه المقاصد المحسوسة تستلزم وجود مقصود لنفسه لأن هذه المقصودات إما أن تكون مقصودة لنفسها أو لغيرها والمقصود لغيره يستلزم وجود المقصود لنفسه فثبت أنه لابد من مقصود لنفسه على التقديرين كما ثبت أنه لابد من موجود لنفسه على التقديرين ثم هذا يدل على وجود المريد القاصد الفاعل لأجل هذه المقصودات لغيرها ولنفسها وإذا تقرر هذا تبين تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في حجة

بيان المؤلف تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في الحكمة والغرض وحجة السبب الحادث والرد عليهم (الوجه الأول والثاني)

الحكمة والغرض وحجة السبب الحادث وهما جماع الكلام وذلك أنهم لما قالوا في حجة الغرض إذا أحدثه كان فاعلا بالاختيار وذلك محال لما تقدم من الوجهين أحدهما أن ذلك يستلزم إما استكمال بغيره وإما العبث ولما في ذلك من المحذور على تقدير جواز القبائح عليه وعدم جوازها فيقال لهم أنتم معترفون بالاختيار كما تقدم التصريح عنكم بأن هذه الحكم ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد له وهذا موجود في عامة كتب الفلاسفة وأعظمهم قدرًا هم الإلهيون المشاؤون وهم أعظم الناس تصريحًا بذلك وكذلك الطبائعيون حتى محمد بن زكريا الرازي وأمثاله

ثم يقال ثبوت القصد والاختيار كثبوت الواجب القديم كما تقدم بيانه فقد ثبت بالعلوم الضرورية وبالمقاييس البرهانية وبالاتفاق وجود الفاعل القاصد لهذه الحكم المريد لها كما ثبت كذلك وجود الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فالقدح في ثبوت الفاعل المختار كالقدح في ثبوت

الموجود القديم الواجب بنفسه وهذا إنما يمكن بإنكار وجود هذه الموجودات المحسوسة وهذا في غاية البيان والإحكام والإتقان يقال لهم حينئذ فهذا القصد والإرادة يستلزم ما ذكرتموه سواء بسواء فما كان جوابكم عن ذلك فهو جواب لمن قال بحدوث العالم سواءً وأما في مسألة السبب الحادث إذا ثبت أنه فاعل بالقصد والإرادة وأن له عناية بالمفعولات لزمكم كل ما ألزمتموه لغيركم فإن ابن رشد الحفيد قال في إلزامه للمتكلمين وأيضًا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص لابد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل حالة زائدة على ماكانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة

عدم الفعل لم يكن وجود ذلك الفعل في ذلك الوقت أولى من عدمه فيما تقدم فيقال لهم حينئذ يجب أن يتجدد له عزم في وقت حدوث هذه الحوادث وحكمها وحينئذ فالقول في حدوث ذلك العزم كالقول فيما طلبتموه من السبب الحادث للعالم وأيضًا فقد قلتم إذا كانت الإرادة قديمة لزم قدم المراد فلو كانت له إرادة قديمة لزم قدم الحوادث وفي الجملة فأنتم بين أمرين إما أن تنكروا القصد والإرادة وقد تبين أن ذلك كإنكار الموجود الواجب نقلا عنكم وإلزامًا لكم وإما أن تقروا بالقصد والإرادة فيبطل جميع مابنيتموه على لإنكار ذلك وجميع مايخالفون به أهل الملل إنما هو مبني على إنكار ذلك وإلا فمتى وقع الاعتراف بأن الصانع العالم فاعل مختار انهارت هذه الفلسفة كما ينهار ما أسس على شفا جرف هار فلاريب أن هذه الآية إشارة واعتبار لمثل حالهم فإنهم بنوا مذاهب تتخذها القلوب عقائد ومقاصد مقابلة لما جاء به المرسلون كـ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ

أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {107} لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ {108} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {109} لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {110} [التوبة 107-110] ومما يوضح ذلك أن القاضي أبا الوليد الفيلسوف ابن رشد قال في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها إذْ كان من شروط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدًا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرًا فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة

بإرادة قديمة فبدعة وشيء لايعلمه العلماء ولايقنع الجمهور أعني الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه كما قال تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {40} [النحل 40] فإنه ليس عند الجمهور كما قلنا شيء يضطرهم إلى أن يقولوا هو مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث قلت وهذا الكلام كالصريح في تجويز قيام الحوادث بالرب وبالجملة فهو لازم لهم وهو يبطل القول بقدوم الأفلاك ويبين فساد كثير مما اعترض به هذا الفيلسوف على حجج المتكلمين فإنه إنما أطعمه فيمن رد عليهم نفيهم لهذا الأصل وقد تقدم أنه ما من طائفة من الطوائف وإن نفت هذا الأصل إلا وهي تلتزم به في مواضع أخر وأن القول به لازم لجميع الطوائف وذلك أن هذا الفيلسوف قال بعد أن اعترض على حجة الأعراض التي للمتكلمين بما بعضه حق وبعضه باطل والحق منه لايمنع من القول بحدوث هذه المخلوقات ثم قال

وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين

إحداهما أن العالم بجميع مافيه جائز أن يكون على مقابل ماهو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي عليه أو عدد أجسامه غير العدد التي هي عليه أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر فأما المقدمة الأولى فهي خطبية في بادئ الرأي وهي إما في

بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسه مثل كون الإنسان موجودًا على خلقةٍ غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعضه الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية إذ كان ذلك ليس معروفًا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها أو تكون من العلل الخفية على الإنسان ويشبه أن يكون مايعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيهًا بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع وذلك أن الذي هذا شأنه إن سبق إلى ظنه أن ذلك في تلك المصنوعات أو كلها يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم

يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العليم فهذه المقدمة من جهة أنها خطبية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فليست تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة لأن الحكمة ليست شيئًا أكثر من معرفة أسباب الشيء وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره كما أنه لو لم يكن هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلاً ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تأتي بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالأذن كما يتأتى بالعين والشم يتأتى بالعين كما يتأتى

الوجه الثالث: ما ذكره ابن رشد من الأمور الضرورية إنما يجيء في حق المخلوق دون الخالق

بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك الوجه الثالث أن يقال له ماذكرته من الأمور الضرورية في الأسباب إنما يجيء في حق من لم يخلقها دون من خلقها ومن هنا وقع الغلط حيث قستم أفعال الله بأفعالنا حتى عجزتموه عن غير ماخلقه وذلك أن الواحد منا إذا أراد أمرًا من أكل وشرب ولباس وسفر وغير ذلك فإن لم يحصل الأسباب التي بها جعل الله وجود المطلوب لم يحصل والأسباب خارجة عن قدرته وإنما يمكنه تأليف مايؤلفه أو نقله من موضع إلى موضع وأمثال ذلك من الأفعال دون إبداع الأعيان وأما الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل بعض الأشياء سببًا كما جعل الأكل مثلاً سببًا للشبع وخلق الطعام يغذي الإنسان فهو الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لانعلم وإذا كان هو الخالق للجميع فيمتنع أن يكون مضطرًا إلى شيء من ذلك فإنه إذا قيل البصر لايمكن إلا بالعين والسمع لايمكن إلا بالأذن ونحو ذلك من الأسباب فيقال هو الذي جعل هذه الماهيات وأبدعها وجعل لها هذه الصفات التي يتوصل بها إلى هذه المقاصد وقد كان من الممكن أنه إذا غير

هذا التخليق أن يحصل إما فوق تلك الحكمة وإما ماهو دونها وإما مايشاركها في الجنس دون النوع وإن كان نفس الحكمة الحاصلة فهذا لايحصل إلا بمثله ألا ترى أن أهل الجنة يكونون في أبدانهم وقوامهم أعظم مما هم في الدنيا مع كون هذه الحكم هناك أكمل وأبلغ وهب أن المنازع لايصدق بمثل ذلك فمن المشهود أن أبصار الناس وأسماعهم وسائر قواهم تختلف في القوة والضعف فتكون المنافع الحاصلة لهم متفاوتة مع أن العلم الضروري بأن الذي له لو جعل لهذا والذي لهذا لو جعل في هذا لكان يفوت التعيين وذلك لايبطل أصل الحكمة وهكذا البلاد تختلف فيما خلق فيها من الأقوات والأنهار والمساكن فيختلف لذلك وجه الانتفاع مع أن أصل المقصود حاصل في الجميع وقد يحول الله ماببعض البلاد

الوجه الرابع: قول ابن رشد هذا ضروري الوجود في الأسباب والحكم يحتاج إلى تفصيل

إلى بعض مع أن نظام العالم قائم والتحويل من حال إلى حال موجود في العالم فلو كان مايوجد من الصفات والمقادير لغاية بمعنى أن وجود تلك الغاية ضروري أي لايمكن عدمه وإلالزم منه فساد عام لم يكن الأمر كذلك الوجه الرابع أن يقال قولك هذا ضروري الوجود في الأسباب والحكم ماذا تعني به أتعني به أنه واجب بنفسه بمعنى أنه يمتنع عدمه أم تعني به أنه إذا عدم عدمت الحكمة التي وجد لأجلها أما الأول فباطل قطعًا وهو لم يرده وأما الثاني فيقال لك هب أنه يلزم من عدمه عدم تلك الحكمة المعينة فتلك الحكمة المعينة ليست واجبة بنفسها بل هي أيضًا جائزة فالقول في كونها مخصوصة بالإرادة دون غيرها من الحكم لابد له من تخصيص وهو الإرادة بل تلك الحكمة لاتكون حكمة إلا أن تكون مقصودة وأنت تقول ذلك وتحتج به فصار ماجعلته ضروريًّا يدل على الإرادة المخصصة بطريق الأولى الوجه الخامس أن يقال هذه الأمور المستحيلة من حال إلى حال فحركاتها واستحالاتها إما أن تكون واجبة لذاتها

أن تكون كذلك وإما ألا تكون واجبة لذاتها بل إنما صارت كذلك بفاعل غيرها فإن قدر الأول قيل فإذا جاز فيما هو واجب بنفسه أن يتحرك حركة استحالة فيكون تارة عالمًا وتارة جاهلاً وتارة شبعان أو تارة جائعًا وتارة صحيحًا وتارة مريضًا كما يقول نحو ذلك القائلون بوحدة الوجود

كصاحب الفصوص وأمثاله ويدعون أن الكمال المطلق أن يكون واجبُ الوجود منعوتًا بكل نعت سواء كان محمودًا شرعًا

أو عرفًا وعقلاً أو مذمومًا شرعًا وعرفًا وعقلاً وأنه هو المتلذذ بكل مافي الوجود من الألم وأنه هو الذي يتجدد له العلم بعد أن لم يكن عالمًا وينشدون وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وينشدون وماأنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق وأمثال ذلك من كلامهم المعروف نثرًا أو نظمًا ويدعون أن هذا هو التحقيق الذي آمن إليه هرامس الدهور الأولية

والمعرفة التي رامت إفادتها الهداية النبوية وإن كان لهم في تفصيل هذا المذهب اضطراب قد بيناه في غير هذا الموضع فيقال إذا قدرنا هذه الموجودات المشهودة واجبة الوجود بنفسها أو هي الموجود الواجب بنفسه أو وجودها غير وجود واجب الوجود لم يكن حينئذ أن يقال في واجب الوجود إنه لايفعل بعد أن لم يكن فعل لأن ذلك يقتضي تجدد أمر ما وحدوث أمر منه ممتنع ولا أن يقال ذلك يقتضي ثبوت الصفات له أو تجزيه أو حلول الحوادث به ونحو ذلك وذلك ممتنع فإنه من جوز أن يكون واجب الوجود هو الموجود المستحيل من حال إلى حال وأنه تارة يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة وتارة حبا ثم شجرًا ثم ثمرًا وتارة حيًّا ثم

ميتًا لم يبق عنده شيء يمتنع على واجب الوجود إذ هو واصف له بكل صفات واقعة في الموجودات التي هي عند الناس مخلوقة ممكنة ومن جوز أن يوصف بكل مايوصف به كل مخلوق وممكن بطل حينئذ أن يقول هو علة قديمة لايجوز عليها التغير والاستحالة ونحو ذلك مما يصف به المشاؤون لواجب الوجود وهذا القول وإن كان فاسدًا من وجوه كثيرة فالمقصود هنا أن ندرجه في ضمن التقسيم وذلك أن الموجود الواجب بذاته أدنى خصائصه امتناع العدم عليه وهؤلاء يجعلون ما وجد وعدم من واجب الوجود لذاته وأصل ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق له وجود في الخارج فقالوا بوحدة الوجود أي الوجود الواحد ولم يعلموا أن الوجود المطلق لا وجود له في

الخارج وإنما الموجود في الخارج موجودان كل منهما متعين متميز عن الآخر وليس أحدهما هو الآخر بعينه ولا نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بل الذهن يأخذ وجودًا مطلقًا مشتركًا فيه فإذا قال بوحدة الوجود فإنما قال بوحدة هذا الوجود الذهني المطلق ومن قال الوجود زائد على الماهية قد يقول بأن وجود الماهيات من جنس واحد وهو قول فاسد لكنه لا يقول نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بعينه فإن هذا مخالفة للحس ولصريح العقل ولهذا يقول كبير هؤلاء الاتحادية في وقته التلمساني

ثبت عندنا في الكشف مايناقض صريح العقل وذلك أن الذي ينكشف لهم أنهم متوجهون بقلوبهم توجهًا لا يعرفون فيه الرب البائن عن خلقه حتى يقصدوه فيشهدون الوجود المطلق المشترك بين الموجودات وإن لم يوجد في الخارج لكن القلوب تحدده وتأخذه مطلقًا وفي كل معين منه حصة وهذا الوجود المطلق الساري في الكائنات وإن كان وجودًا فيها علي وجه التعيين والتخصيص وهو الذي يقال

له الكلي الطبيعي فذاك من أثر وجود الله تعالى ومن مخلوقاته ومصنوعاته فيظنون الوجود المخلوق هو الوجود الخالق وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس ومع أنه قائم بأجسام غيرها والمخلوقات وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه وغايته إذا قدر أن الوجود زائد على الماهيات أن يكون الوجود في الموجودات كالشعاع في الأجسام المقابلة للشمس فصار هذا الضلال ناشئا من نقص العلم والإيمان بالرب المباين للمخلوقات ومن شهود القلب لما وجد عنه من الوجود الساري في الكائنات فظن هذا هذا وقوى إضلالهم ما سمعوه من كلام المتفلسفة ومن وافقهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق وأنه لاداخل العالم ولاخارجه ونحو ذلك من مقالات الجهمية فلم يشهدوا

ما يكون كذلك إلا وجود الكائنات بعينه ولهذا يقولون بقول الباطنية القرامطة وغالية

تلخيص المؤلف ما سبق من مذهب الاتحادية وبيان بطلانه

الفلاسفة فيقولون هو من حيث ذاتهُ لااسم له ولاصفة ولا يتميز ويقولون شهود الذات مافيه خطاب ولا لذة فيه ونحو ذلك لأنهم إنما يتكلمون على ماشهدوه من الموجود المطلق الذي لا يوجد في الخارج مطلقًا وذلك ليس له حقيقة متميزة حتى يكون لها اسم أو صفة أو خطاب والمقصود هنا أنه لابد من الاعتراف بوجود قديم واجب فمن جعل ذلك هذه الموجودات المحسوسة لم يكن عنده وصف يجب تنزيه الرب عنه أصلاً من الأمور الممكنة في الوجود وحينئذ فلا يمكن هذا أن ينكر مذهبًا من المذاهب فلا يقول حدوث العالم عن واجب الوجود ممتنع لأنه يستلزم تغيره ويفتقر إلى سبب حادث فإن قوله فيه من الإحالة أعظم من هذا وأما إذا قيل بأن هنا موجودًا قديمًا واجبًا غير هذه الأمور الحادثة المستحيلة في الجملة فمن المعلوم أن ماسوى

الموجود الواجب بنفسه ليس هو موجود واجب الوجود بنفسه فثبت بهذا أن في الوجود شيئين أحدهما موجود واجب الوجود بنفسه والثاني موجود لايجب وجوده بل يكون موجودًا تارة ومعدومًا أخرى فهذا الموجود إذا وجد لم يمكن أن يقال إنه واجب الوجود بنفسه بل هو واجب الوجود بغيره وهب أن الشاك يشك في بعض الأمور التي لم يعلم عدمها واستحالتها هل هي واجبة بنفسها أم لا أما التي يعلم أنها تعدم وتستحيل فلا يشك في أنها ليست بواجبة بنفسها بل بغيرها مادامت موجودة وهي ليست واجبة العدم إذا عدمت أيضًا وليس لها من ذاتها لا وجوب الوجود ولا وجوب العدم لكن ليس لها من ذاتها إلا العدم وفرق بين أن تكون معدومة وعدمها من ذاتها وبين أن تكون واجبة العدم بذاتها فإن هذه صفة الممتنع إذ العدم ليس بشيء وإذا ثبت أن في الموجودات ماهو ممكن وجائز حصل المقصود فإن تخصيص هذا بالوجود دون العدم لابد له من موجب فاعل ثم إذا كانت ذاته قابلة للعدم فصفاته ومقاديره بطريق الأولى فتخصيصه

بصفة وقدر وزمان ومكان لابد له من مخصِّص بإرادته ومشيئته وهذا هو مطلوب أبي المعالي وغيره من أهل النظر والعلم في هذا المقام وأما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لايقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه

الله وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقًا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من مسائل الخلق والأمر وجمهور الفقهاء يقولون ذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف من

الفقهاء كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وكأبي نصر

السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام

والمقصود هنا أن أبا المعالي وهؤلاء يقولون إن القديم خلق العالم بعد أن لم يكن خالقا له لا لعلة وغرض ولا لداع وباعث وخاطر يعتريه لأن ذلك زعموا مقصور على اجتلاب المنافع ودفع المضار وذلك مستحيل في صفته ومناظرتهم في هذا الباب مع الدهرية الطبيعية ومع القدرية الإرادية وقول

إنكار أبي المعالي ومن وافقه للحكمة وتأويلهم لمعنى كون الرب حكيما في أفعاله والرد عليهم

كلا الفريقين فيه من الباطل أكثر مما يلزم هؤلاء نفاة الحكمة وإن الذي في قول الدهرية الطبيعية أكثر وقال أبو المعالي وهؤلاء نفاة التعليل معنى قولنا إنه حكيم في أفعاله أنه مصيب في ذلك ومحكم لها لأنه مالك الأعيان فيتصرف تصرف مالك الأعيان في ملكه من غير اعتراض وقد يراد بالحكمة العلم بالمعنى بكونه حكيمًا في فعله أنه خلقه على الوجه الذي أراده وعلمه وحكم به ثم لم يكن علمه وإرادته علة لفعله ولا موجبا لقدم هذه الصفات وحدوث متعلقها ففسروا حكمته بمعنى أن يفعل ما يشاء بلا ذم أو بمعنى أنه عالم ولاريب أن هذا خلاف ما عليه الناس في معنى الحكمة والحكيم فإنهم لايجعلون الحكمة كون الحكيم له أن يفعل مايشاء وإن كان الله تعالى له أن يفعل مايشاء لكن الحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض لاشتمال المفعول على مايصلح أن يكون مرادًا للحكيم وتفسيرُها بمعنى العلم بالمفعولات أبعد ومع هذا فقول أبي المعالي وأمثاله

في الفقه وأصوله يخالف هذا الأصل بخلاف غيره من المتكلمين الذين لم يكونوا في الفقه كبراعة أبي المعالي فإنه يقول بالعلل المناسبة للأحكام التي تفسر بالباعث والداعي وإثباتها ينافي هذا الأصل ثم قال أبو المعالي ونحن لاننكر أن يكون الله تعالى خلق من نفعه بخلقه ومن ضره بخلقه والذي ننكره من الغرض وننفيه عن القديم سبحانه قيام حادث بذاته كالإرادة والداعية والحاجة والمعتزلة يوافقونا على استحالة قيام الحوادث بذاته غير أنهم أثبتوا للقديم سبحانه أوصافًا متجددة وأحوالا من الإرادات التي يحدثها لا في محل والمحذور من قيام الحوادث بذات الباري تعالى تجدد الأوصاف عليه وقد ألزموه قال أبو المعالي فإن قال قائل القديم إنما خلق العالم إظهارًا لقدرته وإظهارًا لحجج وآيات يستدل بها على إلهيته ويعرف سبحانه وتعالى بنعوته وجلاله وصفاته ويعبد ويعظم ويستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ويستوجب المعرض عنها العذاب الأليم وهذا منصوص عليه في الكتاب العزيز في آي كثيرة لاتحصى من ذلك قوله تعالى وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الجاثية 22]

وقد قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ {27} [ص 27] وقوله تعالى عن المؤمنين القائلين رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} [آل عمران 191] وقال تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] قال وهذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد فقال في الجواب اللام في قوله خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا [الطلاق 12] ليست اللام لام علة وإنما هي لام صيرورة وتكون غاية أي ليعلم من في المعلوم أنه يعلم وليُجزى على ذلك ويعرض ويعاند من في المعلوم أنه يعاند ولِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {31} [النجم 31] قلت لام الصيرورة إما أن تكون لمن لايريد الغاية وذلك إنما يكون لجهل الفاعل بالغاية كقوله فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً [القصص 8] وإما لعجزه عن دفعها وإن كان كارهًا لها كقول القائل

لدوا للموت وابنوا للخراب وللموت ما تلد الوالدة فأما العالم بالعاقبة القادر على وجودها ومنعها فلا يتصور أن تكون العاقبة إلا وهو عالم بها قادر عليها والموجود الذي يحدثه الله وهو عالم به قادر عليه لايكون إلا وهو مريد له بل أبو المعالي وسائر المثبتين يسلمون أنه لايكون شيء إلا بمشيئته فيكون مريداً للغاية ومريد الغاية التي للفعل لايكون اللام في حقه لام صيرورة إذ لام الصيرورة إنما يكون في حق من لا يريد فلو قال إرادته لهذه الغايات كإرادته للأفعال التي

هي سببها لكان أمثل مع أن هذا الكلام لايدفع الحجة من الآية فإن القرآن يشهد بأن الله خلق المخلوقات لحكمة لكن ليس هذا موضع تحقيق ذلك وإزالة الشبهة العارضة فيه قال الحفيد وأما القضية الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائزًا أزليًّا ومنعه أرسطاطاليس وهو مطلب عويص ولن تتبين حقيقته إلا

لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله تعالى بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته قلت قد قدم فيما مضى أن أفلاطون وشيعته يقولون إن الزمان متناه وأنهم يقولون العالم محدث أزلي لكون الزمان متناهيًا عندهم في الماضي وان أرسطو وفرقته يقولون الزمان غير متناه في الماضي كما لايتناهى في المستقبل ولايسمون العالم محدثًا وهذا يقتضي أن الأزلي في هذا الكلام المراد به الأبدي الذي لاآخر له وإلا تناقض الكلام وأفلاطون وشيعته يقولون هو محدث جائز لكنه مع ذلك يكون أبديًّا والجائز

يمكن أن يكون أبديًّا وأما أرسطو فيقول ماكان محدثًا عن عدم فلابد له من آخر فالجائز لايكون أبديًّا وهذا الذي قاله أرسطو هو الذي تقدم قول الحفيد له إن كل محدث فهو فاسد ضرورة فهذا قول معلم طائفته أرسطو وهو أيضًا قول طائفة ممن يقول بحدوث العالم كالجهم بن صفوان ومن يقول بوجوب فناء الحوادث وأما الذي حكاه عن أفلاطون فهو قول أهل الملل إن الله يخلق شيئًا للبقاء ويخلق شيئًا للفناء كما يشاء ومع هذا فالذي ينقلونه عن أرسطو أن النفوس الناطقة عنده محدثة فتكون جائزة وهي مع هذا أبدية باقية

فهذا يناقض ما أصله فهذا القدر الذي تبين يدل على أن ماحكاه عن هذين الفيلسوفين وأصحابهما اتفاق منهم على أن ماكان جائزًا فهو محدث فإذا كان قد ثبت أن العالم جائز ثبت أنه محدث ولهذا منع هو كونه جائزًا وغلّط ابن سينا في قوله إنه جائز بنفسه مع موافقته له على قدمه فأما الذي فهمه من كلامهم في هذا المقام واعترض به وهو أن يقول عن أفلاطن إن الجائز يكون أزليًّا فهذا لايناسب ماتقدم فإنه

إذا كان قول أفلاطن إن العالم لم يتقدمه زمان وعنده أن الزمان متناه في الماضي ثبت أنه ليس بأزلي فأي حقيقة لقوله الجائز لايكون أزليًّا أي قديمًا لامتنع أن يكون عنده شيء من الممكن بذاته أزليًّا وهو خلاف قوله فهذا النقل وقع فيه غلط إما لفظ الجائز وإما لفظ الأزلي ثم يقال له يا سبحان الله من الذي جعل هذه الطائفة من اليونان وأتباعهم هم العلماء دون سائر الأمم وأتباع الأنبياء الذين لايختلف من له عقل ودين أنهم أعلمُ منهم وأي برهان عندهم يتبين به هذه الحقيقة وقد ذكرت أن نفس أهل صناعة البرهان تنازعوا فيها فلو كان ذلك منكشفًا بصناعتهم لم يتنازع أئمة الصناعة فيها ثم يقال ومن الذي خص هؤلاء بكونهم أهل البرهان مع أن غاية مايقولونه في العلم الإلهي لايصلح أن يكون من

الأقيسة الخطابية والجدلية فضلاً عن البرهانية ثم يقال وكيف يستحسن عاقل أن يجعل المتكلمين على عُجَرِهم وبُجَرِهم أهل جدل وهؤلاء أهل برهان مع أن بين تحقيق المتكلمين للعلم الإلهي بالأقيسة العقلية وبين

تحقيقهم تفاوت يعرفه كل عاقل منصف والقوم لم يتميزوا بالعلم الإلهي ولانبل أحد باتباعهم فيه بل الأمم متفقة على ضلالهم فيه إلا من قلدهم ولكن يؤثر عنهم من الكلام في الأمور الطبيعية والرياضية ماشاع ذكرهم بسببه ولولا ذلك لما كان لهم ذكر عند الأمم كيف يستجيز مسلم أن يقول إن العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه هم أهل المنطق مع علمه بأن أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا مرادين من هذا الخطاب قطعًا بل هم أفضل من أريد به بعد الأنبياء وقد ماتوا قبل أن تعرب كتب اليونان بالكلية وإن أراد بذلك البرهان العقلي الذي لايختص باصطلاح اليونان فلا اختصاص لهؤلاء به بل الصحابة والتابعون أحذق منهم في المعقولات التي ينتفع بها في الإلهية بما لا نسبة بينهمافي ذلك ثم العلماء الذين أثنى الله عليهم هم الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو ومن المعلوم لكل من عرف أحوال الأمم أن أهل الملل

أحق بهذا التوحيد من الصابئة الذين هم أهل دمن الفلاسفة ومن المشركين الذين فيهم فلاسفة كثيرون بل كانت اليونان

منهم والمسلمون وعلماؤهم أحق بهذه الشهادة من الأولين والآخرين بل يقال لك نحن لانعلم أن هؤلاء القوم كانوا يشهدون بهذه الوحدانية فإن الذي في الكتب المنقولة عنهم من التوحيد إنما مضمونه نفي الصفات كما تقوله الجهمية ومعلوم أن هذا ليس الشهادة بأنه لا إله إلا الله بل قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا التوحيد والقرآن مملوء منه ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات ولاقال ذلك أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم فلا يمكنه أن يدعي تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم وهم الذين تعلموا من الرسول لفظه ومعناه وهم الذين أدوا ذلك إلى من بعدهم قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان

وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا مافيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل

وليس معه ما يعتمد عليه أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله بل لو قيل كانوا مشركين لكان أقرب فإنه من المشهور في أخبار اليونان أهل مقدونية وغيرها أنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وهؤلاء الفلاسفة يسمون الكواكب الآلهة الصغرى والأرباب وفي كتاب لسقراط والنواميس

لأفلاطن وغيرهما من ذلك أمور كثيرة وقد ذكر هذا الرجل عنهم أن أكثرهم انتهى نظرهم إلى الفلك فلم يثبتوا وراءه موجودًُا ومعلوم أن الذي أثبتوه من واجب الوجود هو أدعى شيء إلى عبادة الكواكب والأصنام فكيف يكون هؤلاء هم أهل العلم بشهادة أن لا إله إلا الله بل إذا قيل إن هؤلاء وأمثالهم أصل كل شرك وأنهم سوس الملل وأعداء الرسل لكان هذا الكلام أقرب إلى الحق من شهادته لهم بما ذكره قلت ومقتضى ماذكره هو وذكره عن هؤلاء الفلاسفة أن ماثبت فيه أنه ممكن جائز وجب أن يكون محدثًا وأن القديم لايكون إلا واجبًا فمتى ثبت أنه جائز ثبت أنه محدث وقد تقدم التنبيه على ذلك قال الحفيد وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه

المقدمة بمقدمات إحداها أن الجائز لابد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى منه بالثاني والثانية أن هذا المخصص لايكون إلا مريدًا والثالثة أن الموجود عن الإرادة هو حادث قلت وكذلك قررها الرازي أيضًا فهذه المقدمات الثلاث مع أن نزاع الحفيد والفلاسفة في تينك المقدمتين لايضر فإنا قد بينا أنهم موافقون على أن الخالق مريد قاصد كما تبين في إثباتهم العناية وإن تناقضوا بنفي الإرادة هنا لم يفدهم لإقرارهم بذلك ولأنا قد بيّنا أن الأدلة الدالة على ذلك يقينية ضرورية وأن نفي ذلك كنفي واجب الوجود ولكن أبو المعالي والرازي ونحوهما إنما احتاجوا لهذه الطريقة لأنهم لايثبتون الحكمة الغائية وإنما يثبتون الإرادة المخصصة

وقد قدمنا أن كونه مختارًا يبينُ بما دل على الإرادة المخصصة لمفعول دون مفعول وبما دل على مافي المفعولات من الحكمة المقصودة وبالأمرين جميعًا لكن هؤلاء الفلاسفة سلكوا إحدى الطريقتين وتناقضوا في منازعتهم في الأخرى والأشعرية سلكوا إحدى الطريقتين ونازعوا في الأخرى والتناقض لازم لهم أيضًا والمقصود من الطريقتين واحد وهو كونه قاصدًا مريدًا مختارًا وهذه الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما صحيحة أيضًا توجب العلم اليقيني بكونه مريدًا مختارًا قال الحفيد ثم بين يعني أبا المعالي أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة لا يكون عنها أحد هذين الجائزين المتماثلين أعني لاتفعل المماثل دون مماثله بل تفعلهما مثال ذلك أن السقمونيا ليست

تجذب الصفراء مثلاً التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر فأما الإرادة فهي التي تخص الشيء دون مماثله ثم أضاف إلى هذه أن العالم مماثل كونه في الموضوع الذي خلق فيه في الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير الموضع من ذلك الخلاء فأنتج عن ذلك أن العالم خلق عن إرادة والمقدمة القائلة إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن

سبب تسلط الدهرية على الجهمية في الصفات والقدر شيئان

العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضًا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديمًا لأنه إذا كان محدثًا احتاج إلى خلاء قلت قد سلم المقصود بهذه المقدمة وهو أن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة وأما اعتراضه على العالم فذاك متعلق بالمقدمة الأولى وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان أحدهما ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي يفسر بها خصومهم أو غيرهم والثاني مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه فإنهم لما شاركوهم فيما شاركوهم في بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها كما احتج به هذا الفيلسوف وكما يذكره أبو عبد الله الرازي ومن قبله حتى إن الدهرية قالوا لهم القول في آيات المعاد كالقول في آيات

الصفات فكان من حجتهم عليهم وضموا ذلك إلى ماقد يطلقونه من الأدلة اللفظية لاتفيد اليقين فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضًا والآيات المتشابهة في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لاتجوزون أيضًا تأويل الآيات الواردة ها هنا فقال نحن لم نتمسك بآية معينة ولا بحديث معين ولكن نعلم باضطرار إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني ولم يقل أحد أنه علم من دينهم بالضرورة التشبيه والقدر فظهر الفرق فلينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون نحن نعلم الإخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه لأنهم عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر فعدلوا إلى ماذكروه من أنا نعلم بالاضطرار إخبارهم بالمعاد الجسماني فإن هذا الذي قالوه

صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك بالقرآن وبالأخبار وإجماع السلف وأيضًا فأهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها يقولون للطائفتين نحن نعلم أيضًا إخبارهم بما أخبروا به من الصفات والقدر بالضرورة وقول بعضهم إنه لم يقل أحد إن هذا معلوم بالضرورة من دينهم ليس كذلك بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر قيل لهم فلهذا كان السلف والأئمة مطبقين على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورًا معلومًا بالاضطرار لعموم المسلمين

حتى قبل العلم بالإيمان فيما بعد وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق

ويقال لهم قول أهل الإثبات لكم هو لكم أنتم للدهرية في معاد الأبدان ودعواكم تعارض الأدلة في ذلك أو خفاء ذلك كدعوى الدهرية ذلك فإن أبا عبد الله الرازي قال في كتابه الكبير نهاية العقول في مسألة التكفير لما حد الكفر بحد أبي حامد الغزالي وهو تكذيب الرسول في شيء مما

جاء به قال ونعني بالتكذيب إما نفس التكذيب أو ما علم من الدين ضرورة دلالته على التكذيب فأورد على هذا أن صاحب التأويل إما أن لايجعل من المكذبين بل يجعل المكذب من يرد قوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل وإما أن يجعل من المكذبين فإن كان الأول لزمنا أن لايكون الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات وإنكار الحشر والنشر كفارًا لأنهم يجعلون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم للنصوص في التشبيه لأنهم يحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات على أنه تعالى يعلم كل الجزئيات على وجه كلي ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في سعادتها

وشقاوتها بعد المفارقة قالوا إذا جاز لكم حمل الآيات والأخبار المحتملة للتشبيه على أمور روحانية بصرفها عن ظواهرها التي هي أمور جسمانية فلم لايجوز مثلها في الحشر والنشر فثبت أنا لو أردنا بالتكذيب رد النصوص لا على وجه التأويل لزمنا أن لانجعل الفلاسفة من المكذبين وإن لم يكونوا من المكذبين وجب أن لايكونوا كفرة لأن العكس واجب في الحد فأما إن جعلنا صاحب التأويل من المكذبين فمعلوم أنه ليس كل متأول مكذبًا وإلا لزم إجراء كل الأخبار والآيات على ظواهرها وذلك يوجب التشبيه والقدر والمذاهب المتناقضة وكل ذلك باطل بل يجب أن تجعل

بعض التأويلات غير موجبة للتكذيب وبعضها موجبة وعند ذلك لا نعلم حقيقة التكذيب إلا عند الضابط الذي به يصير التأويل تكذيبًا وما لم يذكروا ذلك كان التأويل غير مفيد وقال في الجواب عن هذا إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم وإثبات العلم والجزئيات وإثبات الحشر والنشر وأن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل مايخالف دينه فهو كفر فعلمنا بهاتين المقدمتين حكمه عليه السلام بكون هذه الأشياء كفرًا فمن اعتقدها كان مكذبًا له عليه السلام فمان كافرًا ومثل هذه الطريق لم توجد في التشبيه والقدر لأن الأمة غير مجمعة على أن القول بهما

مخالف لدينه عليه السلام فالحاصل أنا لانكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر بل للإجماع على الوجه المذكور ومثله غير حاصل في الاختلاف الحاصل بين الأمة فلا يلزمنا تكفير الداخلين في الأمة هذا كلام أبي عبد الله الرازي وقد ادعى طائفة من الفلاسفة في مسألة المبدأ والمعاد نظير ماادعاه هو في مسائل الصفات والقدر كما ذكر ذلك هذا الحفيد الذي تقدم نقل كلامه كما ذكر هذا أيضًا في كتابه الذي زعم أنه جمع فيه بين الشريعة والفلسفة لما ذكر ماسيأتي حكايته عنهم حيث بين تقارب الطائفتين ومخالفتهما جميعا لظاهر الشرع إلى قوله فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي

نقلا المؤلف عن ابن رشد الحفيد من كتابه "فصل المقال" اختلاف الناس في الشرع

قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء قال ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين فإن التصديق بالشيء من قبيل التوليد القائم بالنفس هو شيء اضطراري لا اختياري أعني أنه ليس لنا أن لا نصدق أو نصدق كما أن لنا أن نقوم أو لا نقوم وإذا كان من شرط التكليف الاختيار فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت إذا كان من أهل العلم معذور ولذلك قال عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وأي حاكم

أعظم من الذي يحكم على الموجود أنه كذا أو ليس بكذا وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله تعالى بالتأويل وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها وأما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف في الناس فهو إثم محض وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورًا كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور بل هو إما آثم وإما كافر وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن يجتمع له أسباب

الاجتهاد وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس فبالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه استنباطه منها وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في الطب والحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم ولايعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر وإن وقع في فيما بعد المبادئ فهو بدعة وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع وهذا مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الأدلة الثلاثة التي لا يعرى أحد من

الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جُعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان وإن كان من أهل الجل فبالجدل وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة ولهذا قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله ويؤمنوا بي يريد بأي طريق

اتفق لهم من طرق الإيمان الثلاث قلت وهذا الكلام فيه أشياء جيدة وفيه مقاصد غير صحيحة لكن هذا ليس موضع الكلام عليه ثم قال وأما الأشياء التي لخفائها لاتعلم عندهم إلا بالبرهان فقد تلطف الله فيها لعباده والذين لاسبيل لهم إلى البرهان إما من قبل فطرهم وإما من قبل عادتهم وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم فإنه ضرب لهم أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع أعني الجدلية والخطابية وهذا هو السبب في أن يقسم الشرع إلى ظاهر وباطن فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة

لتلك المعاني والباطن هو تلك المعاني التي لاتتجلى إلا لأهل البرهان وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة أو الخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب التفرقة قلت هذا الكلام في أصول النفاق نفاق الدهرية ويظهر بطلانه من وجوه أحدها قوله وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان إلى آخره يقال له قولك لا تعلم إلا بالبرهان أي لا يمكن تصورها إلا بالبرهان أولا يمكن التصديق بها عقلاً

إلا بالبرهان فأما الأول فباطل فإن التصور سابق على التصديق فلو كان لايمكن تصورها إلا بعد قيام البرهان على ثبوتها والبرهان لا يمكن أن يقوم على التصديق إلا بعد التصور لزم الدور وهو قد ذكر في غير هذا الموضع أن تصور الشيء يكون إما بنفسه وإما بمثاله وليس هذا من البرهان وإذا كان تصورها ممكنًا بدون البرهان فالرسول خبرهُ يوجب التصديق وليس هو ملزمًا لأن يقوم برهان خاص على كل مايخبر به فإذا كان تصورها ممكنًا بلا برهان وخبرهُ وحده كاف في التصديق لم يحتج إلى ماسماه برهانًا الثاني أن يقال له إذا قدر أن التصديق بها لايمكن إلا

بالبرهان فإما أن يكون الرسول أخبر بها الخاصة مثرونًا بالبرهان أو بلا برهان أو لم يخبر بها ومعلوم أن هذه البراهين التي تثبت بها الفلاسفة تجرد النفس ونعيمها وعذابها والعقول والنفوس لم تأت بها الرسل فإما أن يكونوا تركوا الإخبار بها أو أخبروا بها بدون ما ادعاه من البرهان وعلى التقديرين يظهر أن الرسول لم يسلك ما ادعاه فإنه يزعم أن الرسول علمها للخاصة دون العامة الثالث أن يقال ليس فيما يذكره الفلاسفة مايبعد فهمه على عامة الناس بأكثر من فهم مادل عليه ظاهر الشرع وإن كانوا مقصرين في فهم الأدلة ألا ترى أن المتكلمين يصرحون بما يقولونه للعامة وإن كانت أدلته كثيرة إما أن تكون أغمض من أدلة الفلاسفة وإنما هي مسائل معدودة مسألة واجب الوجود وفعله والنفس وسعادتها وشقاوتها والعقول والنفوس ومايتبع ذلك فأي شيء في هذا مما لايمكن التصريح به للعامة لو كان حقًّا فعلم أن ترك التصريح به إنما هو لما اشتمل عليه من الباطل المخالف للفطرة والشرعة والحق الذي صرحت به الشريعة

الرابع أن يقال إن الله قد أجمل في كتابه وعلى لسان رسوله ما لايمكن النفوس معرفة تفصيله مثل قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 17] ومثله قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الخامس أن يقال النقص الذي ذكرته هو إما من قبل نقص الفطرة وإما من قبل سوء العادة وإما من قبل عدم أسباب التعلم فيقال لك أما النقص فنقص بني آدم ليس له حد فمن الناس من ينقص عن فهم مايفهمه جمهور الناس ومن المعلوم أن نهاية ما عند الفلاسفة يفهمه أوسط المتفقهة في مدة قريبة والشريعة قد جاءت بما هو أبعد عن الفطر الناقصة من هذا وأما العادة والتعليم فالرسول هو المعلم الأعظم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقد نقلهم عن كل عادة سيئة إلى أحسن العادات

والسنن والشرائع فإن كان التصريح بهذه الأمور مشروطًا بالعلم التام والعادة الصالحة فلا أكمل من هذا المعلم ولا من السنن التي عودها فهلا علمها وبينها إذا كان الأمر كذلك السادس أن يقال هب أن العامة لا يمكنهم فهمها فهلاّ بينها للخاصة ومن المعلوم بالاضطرار أن الشريعة ليس فيها دلالة على مايقوله الدهرية والجهمية من الأمور السلبية في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب السابع أن يقال فإذا صرح فيها بنقيض ماهو الحق وإن قلت إنه مثال والحق المطلوب لم يبينه لاللعامة ولا للخاصة ألا يكون هذا تلبيسًا وإضلالاً الثامن أن يقال قولكم الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وإن الباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان كلام من أبطل القول وذلك أن هذه الأمور قد فسرتها

بما تتأول من صفات الله وصفات المعاد حتى ذكرت آية الاستواء والنزول ونعيم الجنة والنار وغيرهما من ذلك فيقال لهم التأويلات التي يدعون أنها باطن هذه الألفاظ معان ظاهرة معلومة للخاص والعام مثل تأويلات الاستواء بالقدرة أو بالرتبة فكل أحد من الناس يتصور أن الله قادر على المخلوقات قاهر لها أعظم مما يتصور استواءه عليها فلأي ضرورة يعبر عن المعنى الظاهر الواضح بلفظ يكون تصور ظاهره أخفى من تصور ذلك المعنى وهذا بين قاطع لمن تدبره وإن كانت الوجوه كلها كذلك ثم قال الحفيد وإذا اتفق كما قلنا أن يعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث لم يحتج أن يضرب له أمثالاً وكان على ظاهره لايتطرق إليه تأويل وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر مثل من يعتقد ألا سعادة أخروية هاهنا ولاشقاء وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس

بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم وأنها حيلة وأنه لاغاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط وإذا تقرر لك هذا فقد ظهر لك في قولنا إن هاهنا ظاهرًا من الشرع لايجوز تأويله فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة وهنا أيضًا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله تعالى في السماء أعتقها فإنها مؤمنة

إذ كانت ليس من أهل البرهان والسبب في ذلك أن هذا الصنف من الناس الذين لايقع لهم التصديق إلا من قبل التخييل أعني أنهم لايصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبًا إلى شيء متخيل ويدخل أيضًا على من لايفهم من هذه النسبة إلا المكان وهم الذين شذوا عن رتبة الصنف الأول قليلا في النظر باعتقاد الجسمية ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من

المتشابهات وأن الوقف في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران 7] وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فقد يختلفون في تأويله قلت الذين سماهم أهل البرهان هنا هم من عيّناه من الجهمية والدهرية وقد تناقض في هذا الكلام فإنه قد تقدم ماذكره في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية ولفظه وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وماذكره من أن ذلك من الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن العلو مساكن للروحانيين يريدون الله والملائكة وقوله قد

ظهر لكمن هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وقد تقدم حكاية قوله فإذا كان هذا هكذا فكيف يكون أهل البرهان متفقين على تأويل ذلك وأن يكون قول الجارية إنه في السماء مما يجب على أهل البرهان تأويله ثم يقال له هل كان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من أهل البرهان الحق أم لا فإن قلت لم يكونوا من أهله ولكن المتأخرين وفي الصابئين قبلنا من كان من أهله فهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السابقين الأولين كانوا أعظم علمًا وإيمانًا من هؤلاء وإن قلت كانوا من أهل البرهان فمن المعلوم بالاضطرار أنهم لو يؤولوه كما تأوله هؤلاء المتأخرون بل هم متفقون على أن الله تعالى فوق العرش كما ذكرت أنت إجماع الأنبياء والحكماء على ذلك وكلامهم في تحريم تأويل ذلك أعظم من أن يذكر هنا فكيف يكون واجبًا وأيضًا فالمتأولون لهذا ليس فيهم من تحمده أنت فإن تأويل ذلك إما أن يكون عن معتزلي أو أشعري أخذ عنه أو من

يجري مجراهم وهؤلاء عندك أهل جدل لاأهل برهان وأنت دائمًا تصفهم بمخالفة الشرع والعقل وإن قلت نحن أهل برهان وهم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام فهذا أكذب الدعاوى وذلك أنه لاريب عند من عرف المقالات وأسبابها أن الذي صار به المتكلمون مذمومين هو ماشاركوا به هؤلاء المتفلسفة من القياس الفاسد والتأويل الحائد وأن أحسن حال المتفلسف أن يكون مثل هؤلاء فإذا كان هؤلاء قد اتفقت الأئمة والأمة وعقلاؤهم متفقون أيضًا على أنهم فيما قالوا من خلاف مذهب السلف ليسوا أهل برهان بل أهل هذيان فكيف بأصحابك الذين اعترف أساطينهم بأنه ليس لهم في العلم الإلهي يقين والمتكلمون لايقرون على أنفسهم بمثل هذا بل يقولون إن مطالبهم تأولوها بالأدلة

العقلية وبسط هذا الكلام له موضع آخر ليس هذا موضعه وليس يلزم من كونهم أهل برهان في علم الحساب والطب والهندسة أن يكونوا أهل برهان في معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما أنه لا يلزم من كون الرجل ذا برهان في الهندسة والحساب أن يكون ذا برهان في الطب مع أن كليهما صناعة حسية وكثيرًا مايحذق الرجل فيهما ومن المعلوم أن العلم بهذه الأمور أبعد عن الطب والحساب من بعد أحدهما عن الآخر ثم يقال له هب أن تلك الجارية ليست من أهل البرهان فما الموجب لأن يخاطبها الرسول بخطاب الظاهر من غير حاجة إليه فقد كان يمكنه تعرف إيمانها بأن يقول من ربك ومن إلهك ومن تعبدين فتقول الله تعالى فلم يعدل عن لفظ ظاهره وباطنه حق إلى لفظ ظاهره باطل ثم يكلفها مع ذلك تصديق الباطل ويحرم عليها وعلى غيرها اعتقاد نقيض الباطل فهل هذا فعل عاقل فضلا عن أن يكون هذا فعل بالكذب ثم الله ورسوله يخاطب الخلق بخطاب واحد يخبر به

عن نفسه وقد فرض على طوائف أن يعتقدوا ظاهره وإن لم يعتقدوه كفروا وعلى آخرين أن يعتقدوا نقيض ما اعتقده هؤلاء وإن اعتقدوه كفروا ثم مع هذا كله لايبين من هؤلاء ولا من هؤلاء ولايبين ما هو مراده به الذي خالف ظاهره بل يدع الناس في الاختلاف والاضطراب وهذا الفيلسوف ادعى أن الاختلاف إنما نشأ من جهة كون العلماء فتحوا التأويلات للعامة فأضلوا العامة بذلك حيث فرقوهم ثم هو قد جعل الرسول نفسه أضلّ الخاصة وأوقع بينهم التفرق والاختلاف حيث عنى بهذا الخطاب باطنًا فرضه عليهم ولم يبينه لهم فإن هذا في الإضلال والتفريق بين الناس أعظم وأعظم وإضلال الخاصة والتفريق بينهم أعظم من إضلال العامة والتفريق بينهم فالذنب الذي شنعه على أهل الكلام نسب الأنبياء إلى أعظم منه وقد قال تعالى للرسل أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 13] وقال إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ {92} [الأنبياء 92] وقال إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام 159] وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} [آل عمران 102 - 105] وقال وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ {4} [البينة 4] وعلى مازعمه هؤلاء يكونون قد تفرقوا واختلفوا من قبل أن يأتيهم العلم أو تأتيهم البينة لأنهم زعموا أن في الكتاب ظاهرًا يجب على أهل البرهان تأويله وأن الذي يعلمونه هو التأويل الذي قال الله تعالى فيه وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران 7] ثم يقول وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المؤول فقد يختلفون في تأويله وذلك بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان فإذا لم يبين لهم الرسول مراده فما جاءهم العلم ولا البينة فيكونون معذورين في التفرق والاختلاف كما زعم هؤلاء المنافقون ثم يقال له البرهان يفضي إلى إحالة الظاهر مثلاً أم إلى تعيين المراد أما الأول فهم متفقون عليه وأما تعيين المراد فليس مستفادًا من مجرد القياس الذي تسميه البرهان إنما يعرف

بيان المؤلف سبب تسلط الدهرية على الجهمية

من حيث يعرف مراد المتكلم فكيف يكون اختلافهم في التأويل بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان والبرهان إنما ينفي الظاهر فقط لايبين ما هو المراد والرد على هؤلاء يطول فليس هذا موضع استقصائه وإنما الغرض التنبيه على أن هؤلاء الدهرية سلطوا على الجهمية بمثل هذا حتى آل الأمر إلى الكفر بحقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر وجعلوا ذلك هو البرهان والتحقيق الذي يكون للخاصة الراسخين في العلم حتى حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته وجعلوا أئمة الكفر والنفاق هم أئمة الهدى ورؤوس العلماء وورثة الأنبياء مع أنهم في القياس الذي سموه البرهان إنما أتوا فيه بمقاييس سفسطائية من شر المقاييس

السفسطائية فآل أمرهم إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في الشرعيات وهذه حال القرامطة الباطنية الذين عظمهم وسلك سبيلهم هذا الفيلسوف ولهذا كان ابن

سينا وأمثاله منهم وكان أبوه من دعاة القرامطة المصريين قال ولذلك اشتغلت بالفلسفة ثم قال وها هنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لايجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي لايجوز حمله على الظاهر للعلماء لعِواصة هذا الصنف واشتباهه

والمخطئ في هذا معذور أعني من العلماء فإن قيل فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب فمن أي هذه الثلاث مراتب هو عندكم ماجاء في صفات المعاد وأحواله فنقول إن هذه المسألة المر فيها أنها من الصنف المختلف فيه وذلك أنا نرى أقوامًا ممن ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون إن الواجب حملها على ظاهرها إذا كان ليس فيها برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها وهذه طريقة الأشعرية وقوم آخرون أيضًا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافًا كثيرًا وفي هذا الصنف

أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة ومنهم من يجمع فيها تأويلين كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورًا والمصيب مشكور أو مأجور وذلك إذا اعترف بالوجود

وتأول فيها نحوًا من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد لا في وجوده إذا كان التأويل لايؤدي إلى نفي الوجود وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرًا لأنه في أصل من أصول الشريعة وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على الظاهر وتأويلها في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر لذلك نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي للكفر والداعي إلى الكفر كافر ولهذا يجب أن لاتثبت هذه التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان فأما إذا ثبت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية

والخطبية والجدلية كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة وإن كان الرجل إنما قصد خيرًا وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك ولكن كثر بذلك أهل الفساد بدون كثرة أهل العلم وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبًا من المذاهب في كتبه هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف كما قيل

يوما يمان إذا لاقيت ذايمن وإن لقيت معديًا فعدناني والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم إلا لمن كان من أهل العلم كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من كان ليس أهلاً لها قلت أما عده أبا حامد ممن لايقر بمعاد الأبدان فهو وإن كان قد قال في بعض كتبه مانسب لأجله إلى ذلك فالذي لا ريب

بيان المؤلف حقيقة ما عليه شيوخ الصوفية القدامى

فيه أنه لم يستمر على ذلك بل رجع عنه قطعًا وجزم بما عليه المسلمون من القيامة العامة كما أخبر به الكتاب وأما ذكره أن هذا قول كثير من المتصوفة فلا ريب أن في المتصوفة والمتفقهة وغيرهما من هو صديق ومن هو زنديق

فإن انتحال الحلية أو القول ظاهرًا ليس بأعظم من انتحال الإسلام وإن كان في نفس ادعاء الإسلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأعصار منافقون كثيرون فهؤلاء موجودون في جميع الأصناف من المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لايقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولاريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لايقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولاريح

لها فأما شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبد الله

التستري وعمرو بن عثمان المنكي وأبي العباس بن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن

السلمي وأمثال هؤلاء فحاش لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات وانشقاقها نعم يوجد في المتحلين بحلية الصوفية من يعتقد أنواعًا من الاعتقادات كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين بكلام الفقهاء من أهل الفلسفة والكلام وغيرهم وهذا

الرجل قد ذكر أصنا فالأمة في الأمور الإلهية الذين سماهم حشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية وذكر الصنف الرابع الباطنية ولم يتعقبهم بكلام إلا ماذكره من مذهب الصوفية أنهم يلتمسون العلم بطريقة إماتة الشهوات فإن كان قد جعل هؤلاء هم الباطنية فهذا خطأ عظيم وإن كان يوجد فيهم من يقول بقول الباطنية كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين

والفقهاء لعل شبهتهم في ذلك مع ماحكاه عنهم في أمر المعاد أنهم يقولون علم الباطن وينتسبون إلى علم الباطن ولكن هذا اللفظ فيه إجمال وإبهام فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا علم الباطن أو علوم الباطن ونحو ذلك فهم لايريدون بذلك مايناقض الظاهر بل هم متفقون على أن من ادعى باطنًا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان الذي هو قلبه بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ماهو

كله تحقيق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وممايبين تناقض الفريقين لاشتراكهما في النفي والتعطيل أن كل حجة يحتج بها أحدهما على الآخر تنقض مذهبه أيضًا كما تنقض مذهب خصمه ولهذا عمدة كلامهم بيان كل طائفة تناقض الأخرى وإن كانت هي أيضًا متناقضة كما نبهنا عليه غير مرة ويوضح ذلك ماذكره هذا القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على

نقل المؤلف من كتاب "مناهج الأدلة في الرد على الأصولية" لابن رشد تقسيمه الشرع إلى ظاهر ومؤول

الأصولية هذا بعد أن قال في خطبته أما بعد فإنا كنا قد بينّا قبل هذا في قول أفردناه مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها وقلنا هناك إن الشريعة ظاهر ومؤول وأن الظاهر منها هو فرض الجمهور وأن المؤول هو فرض العلماء وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله قلت فقد جعل فرض الجمهور اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق إذا كان الحق خلاف ظاهره وقد فرض عليهم حمله على ظاهره قال وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله وأنه لايحل للعلماء أن يفحصوا بتأويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما

يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله قلت حرف لفظ حديث علي ومعناه فإن عليًّا قال كما ذكره البخاري في صحيحه من رواية معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن

علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وهذا يدل على نقيض مطلوبه لأنه قال أتحبون أن يكذب الله ورسوله فعلم أن من الأحاديث التي قالها الله ورسوله أحاديث لايطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لايطيق ذلك كذب الله ورسوله وهذا إنما يكون في

ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم به لا في خلاف ما قاله ولا في تأويل ما قال بخلاف ظاهره فإن ذكر ذلك لايوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبًا لله ورسوله إما في الظاهر وإما في الباطن والظاهر فلو أريد ذلك لكان يقول أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله أو أن تظهروا تكذيب الله ورسوله فإن المكذب من قال مايخالف قول الله ورسوله إما ظاهرًا وإما ظاهرًا وباطنًا وعلي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله وهذا لا يكون لمجرد تأويل المتأولين فإن المؤمن لايكذب الله ورسوله لقول مخالف لتأويل يخالف ذلك بل يرد ذلك عليه فإن قال هذه التأويلات الباطنية قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للخاصة قيل هذا من الإفك المفترى الذي اتفق أهل العلم بالإسلام على أنه كذب وقد ثبت عن علي رضي الله عنه

في الصحيح من غير وجه لما سأله من ظن أن عنده من الرسول علمًا اختص به فبين لهم علي رضي الله عنه أنه لم يخصه بشيء قال الحفيد فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من

ما ذكره ابن رشد من أن أشهر الطوائف في زمانه أربع هم الأشعرية والمعتزلة والباطنية والحشوية

خالفه إما مبتدع وإما كافر مباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ماعرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى بالأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة والتي تسمى بالمعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرًا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشارع ظهر أن جلها أقاويل محدثة

وتأويلات مبتدعة وأنا أذكر أن ذلك مايجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع التي لايتم الإيمان إلا بها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم دون ماجعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ماقصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز ونبتدئ من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر آراء تلك الفرقة المشهورة في ذلك فنقول أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق وعرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى

من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانًا كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لامدخل للعقل فيه وهذه الفرقة الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى وتقدس ودعاهم من قبلها على الإقرار به وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري سبحانه وتعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيه مثل قوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} [البقرة 21] ومثل قوله تعالى أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم 10] إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى وليس لقائل أن يقول إنه لو كان ذلك واجبًا على كل من آمن بالله تعالى أعني أن لايصح إيمانه إلا من قبل وقوعه عن هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه وسلم لايدعو أحدًا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العرب كلها

كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى ولذلك قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] ولايمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة ألا يفهم شيئًا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع صلى الله عليه وسلم للجمهور وهذا فهو أقل الوجود وإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع ثم قال وأما الشعرية فرأوا أن التصديق

مناقشة المؤلف للحفيد في مسمى الحشوية

بوجود الله تعالى لايكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقًا ليست هي الطرق الشرعية وساق الكلام كما ذكرنا عنه أولاً قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس هو اسمًا لطائفة معينة لها رئيس قال مقال فاتبعته كالجهمية والكلابية والأشعرية ولا اسمًا لقول معين من قاله كان كذلك والطائفة إنما تتميز بذكر قولها أو بذكر رئيسها ولهذا

كان المؤمنين متميزين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا بني الإيمان وبذلك وجب الموالاة والمعاداة كما قال تعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ إلى قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة 55, 56] وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة 71] وأمثال ذلك وقال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ {104} [المائدة 104] وكذلك ذكر ذلك في البقرة والمائدة ولقمان فذكر أنَّ الكفار

لايستجيبون لذاك وكذلك ذكر عن المنافقين فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً {61} [النساء 60 , 61] فأخبر عن الكافرين والمنافقين أنهم يعرضون عن الاستجابة للكتاب والرسول فعلم أن المؤمنين ليسوا كذلك بل هم كما قال الله تعالى إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور 51] وقال فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {65} [النساء 65] وبذلك أمرهم حيث قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وبذلك حكم بين أهل الأرض كما قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {213} [البقرة 213] وشواهد هذا الأصل كثيرة

والناس منذ بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف إما كافر معلن وإما منافق مستتر وإما مؤمن موافق ظاهرًا وباطنًا كما ذكر الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة في أو سورة البقرة وحينئذ فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنًا وظاهرًا وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه رده إلى الكتاب والسنة ولايجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته لاأخص من المؤمنين أو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية والشافعية والحنبلية أو غير ذلك ولا أعم من ذلك مما يدخل فيه المسلم والكافر كجنس النظر والعقل أو العبادة المطلقة ونحو ذلك ولايجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها مادلت عليه ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو بن عبيد رئيس

المعتزلة فقيههم وعابدهم فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال كان ابن عمر حشويًّا نسبة إلى الحشو وهم العامة والجمهور فإن الطوائف الذين تميزوا عند أنفسهم بقوله تميزوا به عما عليه جماعة المسلمين وعامتهم يسمونهم بنحو هذا الاسم فالرافضة تسميهم

الجمهور وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية والمعتزلة تعني بذلك كلمن أثبت الصفات وأثبت القدر وأخذ

ذلك عنها متأخرو الرافضة فسموا الجمهور بهذا الاسم وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم ونحو ذلك سموه حشويًّا كما رأينا ذلك مذكورًا في مصنفاتهم والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الحسي والنعيم الحسي حشويًّا وأخذوا ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية سموا من أقروا بما ينكرونه من

الصفات ومن يذم مادخلوا فيه من بدع الكلام والجهمية والإرجاء حشويًّا ومنهم أخذ ذلك المصنف ومما يبين ذلك أن القول الذي حكاه عنهم لايعرف في الإسلام عالم معروف قال به ولا طائفة معروفة قالت به ولكن قد يقول بعض العوام قولا لا يفصح معناه وحجته يظن به مستمعه أنه يعتقد ذلك والتحقيق أن هذا النقل إنما نقلته المعتزلة ومن وافقهم عليه كهذا الرجل بطريق اللزوم لا أنهم

سمعوه منه أو وجدوه مأثورًا عنهم وذلك أنهم يسمعون أهل الإيمان من أهل الحديث والسنة والجماعة والفقهاء والصوفية يقولون الكتاب والسنة وإذا تنازعوا في مسألة من موارد الشرع بين الأمة في مسائل الصفات أو القدر أو نحو ذلك قالوا بيننا وبينكم الكتاب والسنة فإذا قال لهم ذلك المنازع بيننا وبينكم العقل قالوا نحن مانحكم إلا بالكتاب والسنة ونحو هذا الكلام الذي هو حقيقة أهل الإيمان وشعار أهل السنة والجماعة وحلية أهل الحديث والفقه والتصوف الشرعي قالوا بموجب رأيهم يلزم من هذا أن تكون معرفة الله تعالى لاتحصل إلا بخبر الشارع إذا لم يكن للعقل مجال في إثبات المعرفة وهذا جهل منهم وقول بلا علم فإن أحدًا من هؤلاء لم يقل إن الله تعالى لايعرف إلا بمجرد خبر الشارع الخبر المجرد فإن هذا لايقوله عاقل فإن تصديق المخبر في قوله إنه رسول الله بدون المعرفة أنه رسول ممتنع ومعرفة أنه رسول الله ممن لايعرف أن الله موجود ممتنع فنقل مثل هذا

القول عن طائفة توجد في الأمة أو عن عالم معروف في الأمة من الكذب البين وهو من جنس وضع الملاحدة للأحاديث المتناقضة على المحدثين ليشينوهم بذلك عند الجهال لكن من عموم المؤمنين أهل الحديث وغيرهم من لايحسن أن يجيب عما يورد عليه من الشبه أو من لا يحسن البيان عما انعقد في نفسه من البرهان واستقر عنده من الإيمان ولكن هذا لايبيح أن ينقل عنهم البهتان كيف وشعارهم الدعاء إلى الكتاب والسنة والقرآن مملوء من طريق تعريف الله تعالى لعباده بالأدلة الواضحة المعقولة والأمثال المضروبة التي هي القياسات العقلية

ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الإحكام ونهاية التمام وأن خلاصة مايذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض مابينه القرآن والحديث مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف واشتماله عما تقصر عنه نهايات عقولهم ومالايطمعون أن يكون من مدلولهم وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة فإن مثل هذا الظن بالشارع هو الذي أوجب أن يلمزوا المؤمنين بما هو أولى وأحرى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {58} [الأحزاب 58] وهذا حال الكفار والمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا

مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} [البقرة 13 - 14] وقال إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31} [المطففين 29 - 31] فإن الله سبحانه ضمن كتابه العزيز فيما أخبر بع عن نفسه وأسمائه وأفعاله من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبات ما يبين ثبوت المخبر بالعقل الصريح كما يخاطب أولي الألباب والنَّهي والحِجر ومن يعقل ويسمع بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد مانبه عليه في غير موضع كقوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ {54} [فصلت 53 - 54] فكيف يكون أهل الكتاب والسنة والإيمان يقولون إن الله تعالى إنما يعرف بوجوده بمجرد خبر الشارع المجرد وأما ما قد يقولونه من أن العقل لامجال له في ذلك أو

ينهون عن الكلام أو عما يسمى معقولات ونظرًا وبعضهم قد لايفرق بين مايدخل في ذلك من حق وباطل وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة كما ذكره هذا الرجل ولاريب أن التقصير ظاهر على أكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك فيقال من الوجوه الصحيحة أن مانطق به الكتاب وبينه أو ثبت بالسنة الصحيحة أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه معقولا ونظرًا أو كلامًا وبرهانًا وقياسًا عقليًّا أصلا بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علمًا كليًّا عامًّا وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب على كل أحد بل يعلمه بعض الناس دون بعض وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ماعارض النص والإجماع من هذه وإن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112} [الأنعام 112] فأعداء النبيين دائمًا يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا

وكذاك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لاتفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله وذلك أن أقوى العقول متفاوتة مختلفة وكثيرًا مايشتبه المجهول بالمعقول فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ [هود 118 - 119] وأهل الرحمة هم أهل الإيمان والقرآن ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لاتعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام إما بخبره وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180 - 182]

مناقشة المؤلف للحفيد فيما ذكره عن الأشعرية

ثم ذكر ابن رشد الكلام على الطريق التي عزاها إلى الأشعرية وأبو الحسن الأشعري قد بين في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب أن هذه الطريق مبتدعة وأنها

ليست هي طريقة الأنبياء وأتباعهم بل هي محرمة عندهم كما سنذكر ذلك عنه وكذلك ذكر غير واحد من متقدمي أصحابه ومتأخريهم حتى أبو عبد الله الرازي بين أن معرفة الله تعالى ليست منحصرة في هذه الطريق التي حكاها عن الأشعرية وبين غلط أبي المعالي في قوله اعلم أن أول مايجب على البالغ العاقل القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم وبين أن العلم بحدوث العالم يمكن أن يعلم بالسمع فضلا عن أن لا يكون طريقًا إلى إثبات الصانع إلا العلم بحدوثه بالطريق الذي ذكره وأن يكون القصد إلى النظر في هذه الطريق وكذلك الغزالي قبله بين حصول المعرفة بدون هذه الطريق

نقل المؤلف كلام الخطابي في أول ما يجب على المكلف من كتاب "شعار الدين" والتعليق عليه

وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في ذلك ولايوجبونها بل إما يحرموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لاتتوقف على هذه الطريقة ولايجب سلوكها ثم هم قسمان قسم يسوغها ويسوغ غيرها ويعدها طريقًا من الطرق فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها وينهون عنها إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم كما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته كما سنذكره عنه كما ذكر ذلك طوائف ممن لايبطل تلك الطريقة كأبي سليمان الخطابي ونحوه قال الشيخ

أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين أما بعد فإن أخًا من إخواني سألني بيان مايجب على المسلمين علمه ولايسعهم جهله من أمر الدين وشرح أصوله في التوحيد وصفات الباري تعالى والكلام في القضاء والقدر والمشيئة والدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز القرآن والقول في ترتيب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وما يتصل به من الكلام وطلب إليّ أن أورد في كل شيء منها أوضح ما أعرفه من الدلالة وأقربها من الفهم لينتفع به من لايرضى بالتقليد في مايعتقده من أصول الدين وكان مع ذلك ممن لايحب النظر في الكلام ولا يجرد القول على مذهب المتكلمين وذكر تمام الكلام وذكر عدة أصول من الاستدلال بخلق الإنسان والاستدلال بتركيب المتضادات وتأليفها والاستدلال بما في الوجود من الحكمة الغائية الذي يسميه ابن رشد دليل

العناية الدال على الإرادة والرحمة والعناية الدال على الصانع إلى أن قال وطرق الاستدلال كثيرة إلا أنا اخترنا منها في الكتاب ماهو أقرب إلى الأفهام وأشبه بمذاهب السلف والعلماء وقد أنزل الله تعالى كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم وحاج به قومه وهم عرب ليسوا بفلاسفة ولا متكلمين وإنما خاصمهم بما يفهمه أولو العقول الصحيحة ويستدركه ذوو الطباع السليمة وتشهد له المعارف وتجري به العادات القائمة فما قامت الحجة عليه كان في الاستدلال على إثبات الصانع وحدوث العالم قال وقد أبى متكلمو زماننا هذا إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها وزعموا أنه لادلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه ونحن وإن كنا لاننكر

الاستدلال بهذا النوع من الدلالة فإن الذي نختاره ونؤثره هو ماقدمنا ذكره لأنه أدلة اعتبار طريق السلف من علماء أمتنا وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير فمن الناس من ينكرها وزلا يثبتها رأسًا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر والاستدلال لايصح بها إلا بعد استبراء هذه الشبهة وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب قال وقد سلك بعض مشايخنا في هذا طريقة الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في وجود قبول مادعا إليه صلى الله عليه وسلم وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لا يتسع فهمه لاستدراك وجوه سائر الأدلة ولم يتبين تعلق الأدلة بمدلولاتها ولن يكلف الله نفسًا إلا وسعها

نقل المؤلف كلام الخطابي في "الغنية" وتعليقه عليه

قلت هذه الطريق يستدل صاحبها بالنبوة على حدوث العالم لأن معرفة الصانع تعلم بدون ذلك إما بالأدلة الأُخر وإما بالفطرة وصدق الرسول مبني على مقدمات ضرورية قريبة أو نظرية قريبة من الضرورية ثم يستدل بقوله على حدوث العالم فالخطابي في هذه الطريق ذكر أن طريقة الأعراض غير منكرة عنده ولكنه كرهها ورغب عنها إلى ماذكره أنه طريق السلف لأنها بدعة ولأن فيها آفات وقد قال في رسالته في الغنية عن الكلام وأهله كلامًا أسد من هذا وبين أنها محرمة كما ذكره الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر فقال الخطابي في هذه الرسالة عصمنا الله تعالى وإياك من الأهواء المضلة والآراء

المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالح الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لايعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونفعنا وإياك بما علمنا وجعله سببًا لنجاتنا ولاجعله وبالا علينا برحمته وقفت على مقالتك وماوصفته من أمر ناحيتك وظهور ماظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في

ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حريمها وفهمت ماذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن توقفك بين أن تسلم لهم مايدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على مايزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولايقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لايمكنهم ردها ولايسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين وأنا أسأل الله تعالى أن يوفق

لما ضمنت لك وأن يعصم من الزلل فيه واعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت فشاعت في البلاد واستفاضت ولايكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين وأهله فلا تنكر ما تشاهده منه

وسل الله العافية من البلاء واحمده على ماوهبه لك من السلامة ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة وعد واحدًا من الجمهور والكافة فحركهم بذلك إلى التنطع في النظر والتبدع في مخالفة السنة والأثر ليبينوا عن طريقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة

عمن هو دمنهم في الفهم والذكاء واختدعهم بهذه المقدمة حتى أزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا في حقائقها ولم يخلصوا فيها إلى شفاء نفس ولاقبلوها بيقين ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ماانتحلوه ويشهد عليهم بباطل مااعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض فتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ماوضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنته المأثورة عنه وردوها

على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالفرية ونسبوهم إلى ضعف السنة وسوء المعرفة بمعاني مايروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سلكو سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين ورَوْح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {213} [البقرة 213] واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزًا عنه ولا انقطاعًا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة

وكان في زمانهم هذه الشبهة والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله به من توفيقهم وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم المتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ويدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا

في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة في الرأي وعيبًا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان فإن قال هؤلاء فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها قلنا إنا لاننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكن لانذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ماهو أوضح بيانا وأبين برهانًا وإنما هو شيء أخذتموه عن

الفلاسفة وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لايثبتون النبوات ولايرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ماتعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعوجة التي لايؤمن العنت على راكبها والإبداع والانقطاع على سالكها وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين والاستدلال على معرفة الصانع سبحانه وتعالى وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لايتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه هو أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا

وقال له يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة 67] وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اللهم هل بلغت فكان ماأنزل الله تعالى وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة 3] فلم يترك شيئًا من

أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لاخلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لاتبرح فيهما الحاجة داعية أبدًا في كل وقت وزمان ولو أخر فيهما البيان لكان قد كلفهم ما لاسبيل لهم إليه وإذا كان الأمر على ماقلنا وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم من هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها إذ لايمكن أحدٌ من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن واحد من أصحابه من هذا النمط حرفًا واحدًا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف

مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم قلت وهذا الكلام يشبه ماذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته الثغرية ومضمون ذلك أن هذه الطريقة محدثة مبتدعة مستغني عنها منهي عن سلوكها لذلك وليس فيه بيان أنها باطلة ولكون أمثال هؤلاء لا يعتقدون بطلانها في الباطن وإن نهوا عن سلوكها وقع منهم أقوال مبنية على بعض مقدماتها وغن خالفت النصوص والمعقول والذي عليه حذاق الأئمة والعلماء أنها طريقة باطلة كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفلاسفة وهذا الحفيد وإن بين بطلانها لكن طريقته في الباطن أبطل من هذه وإن سماها طريقة البرهان ولهذا لما فرغ من الرد على الأشعرية في هذه الطريقة وذكر طريقة ثانية لأبي المعالي وهي أن العالم جائز والجائز لابد له من

نقل الؤلف كلام ابن رشد الحفيد في إبطال طريقة المتكلمين في إثبات الصانع

مخصص تكلم عليها بما ليس هذا موضعه إلى أن قال فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة وجود الباري ليست طرقًا نظرية يقينية ولا طرقًا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة في المقدمات الأولى قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس

عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة مثل قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة 282] ومثل قوله تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69} [العنكبوت 69] ومثل قوله تعالى إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال 29] إلى أشياء كثيرة في الشرع يظن أنها عاضدة لهذا المعنى ونحن نقول إن هذه الطريقة ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها في الإنسان عبثًا والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطًا في صحة النظر مثل ماتكون الصحة شرطًا في ذلك لا أن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها

نقل المؤلف عن الحفيد ما ذكره من طريقة المعتزلة في المعرفة بالله

وإن كانت شرطًا فيها كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ماحث الله على العمل لاأنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه قال وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية قال فإن قيل فإذْ قد تبين أن هذه الطرق كلّها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري سبحانه

تعقيب المؤلف على ما نقله عن ابن رشد في بيان طريقة المعتزلة في المعرفة بالله

وتعالى فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدتها الصحابة رضوان الله عليهم قلنا الطرق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرئ الكتاب العزيز وُجدت تنحصر في جنسين أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله ولنسم هذا دليل العناية والطريقة الثانية مايظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل ولنسم هذا دليل الاختراع ثم تكلم على شرح كل واحد من الطريقين قلت أما المعتزلة فطريقتهم هي طريقة الأعراض هم أهل هذه الطريقة وأشهر الطوائف بها وعنهم تلقاها من تلقاها من الأشاعرة وبمثل هذه الطريقة ولوازمها كثر ذم

السلف والأئمة لهم فيما ذموه من الكلام ومن الجهمية فإنهم من أشهر الطوائف بهذا الكلام المبني على هذه الطريقة طريقة الأعراض والجواهر ومذهب الجهمية الذي هو نفي الصفات إذ البدع المضافة إلى الأشعرية هي بقايا من أصولهم وبذلك نعتهم من نعتهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة أيضًا كما ذكره أبو نصر في رسالته إلى أهل

زبيد قال ولقد حكى لي محمد بن عبد الله المالكي المغربي وكان فقيهاً صالحاً عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء

نقل المؤلف عن أبي الحسن الأشعري في "المقالات" أن طريقة المعتزلة في المعرفة بالله مأخوذة عن المتفلسفة

المالكيين أنه قال الأشعري أقام أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وعودته قلت وسبب هذا مقدمات هذه الحجة ونحوها حيث لم يبطلها وأبو الحسن الأشعري يذكر أن المعتزلة مع الفلاسفة كذلك كما ذكره في كتاب المقالات فقال الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة الحائرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له ولا عزة

له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعًا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ماكانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم

قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري ليس بعالم قادر سميع بصير حكيم جليل في حقيقة القياس وكذلك ذكر في الإبانة وأما الفرقة الرابعة وهي الباطنية فلم يذكر لهم مقالة

تعقبها برد وذلك لأنه منهم فإنه يرى أن ظواهر الشريعة في وصف الله تعالى واليوم الآخر له باطن يخالف ظاهره وأن فرض الجمهور اعتقاد ظاهره ومن تأوله فقد كفر وفرض الذين سماهم أهل البرهان اعتقاد باطنه ووجوب تأويله ومن لم يتأوله فقد كفر لكن قد ذكر عن الصوفية أنهم يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية ولم يرض هذه الطريقة بل ذكر أن إماتة الشهوات شرط في صحة النظر لا أنها تفيد المعرفة بذاتها وقد ذكر قبل هذا عن طائفة من

حقيقة الأمر في اسم الباطنية وأنه يطلق في كلام الناس على صنفين

الصوفية أنهم يرون في المعاد رأي الفلاسفة المشائين فيكون الصوفية معدودين عنده من الباطنية وإن كان اسم الباطنية يتناولهم عنده ويتناول الفلاسفة المشائين وحقيقة الأمر أن اسم الباطنية قد يقال في كلام الناس على صنفين أحدهما من يقول إن للكتاب والسنة باطنًا يخالف ظاهرهما فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة وهم الذين عناهم هذا الفيلسوف وهؤلاء في الأصل قسمان قسم يرون ذلك في الأعمال الظاهرة حتى في الصلاة والصوم والحج والزكاة وتحريم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك ونحو ذلك فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفونها كما يقولون الصلاة معرفة أسرارنا والصوم

كتمان أسرارنا والحج والزيارة إلى شيوخنا القدسيين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة ثم خواصهم لايقولون برفعها عن الخاصة كما يقولون في الأمور العلمية فإن من دفع أن يكون الخطاب العملي مرادًا به هذه الأعمال فهو للخطاب العلمي أعظم دفعًا وهذا الصنف يقع في القرامطة المظهرين للرفض ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية ويقع في غالية المتكلمة لكن هؤلاء قد يدّعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج وإن كان ذلك كذبًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل لايدعون رفع حكم الخطاب مطلقًا وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم إنما

يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات وأما العمليات فيقرونها على ظاهرها وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوبهم من المرض والنفاق وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة وابن سينا كان مضطربًا في ذلك لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة وهم في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفته وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس ولايكاد تفصيل الباطل ينضبط أما القسم الثاني فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من العمال والعلوم لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنًا يناقض الظاهر فهو منافق زنديق فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة وذلك في علم الدين والإسلام كما للإنسان بدن وقلب وهؤلاء من أعظم الناس إنكارًا على من

يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم دع الباطنية الدهرية وهم أشد إيمانًا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا من غيرهم وأشد تعظيمًا للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم ولكن يوجد منهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدع والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر ومن يدعي أن للقرآن باطنًا يخالف ظاهره ونحو ذلك من صنوف المنافقين الزنادقة فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشايخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنادقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم الموجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشايخ الصوفية برءاء من بدع أهل التصوف فضلا عن

بدع من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته واعتبر ذلك بما ثبت مقبولاً عن أئمة المشايخ كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي

والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وخلائق قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الذين ذكرهم أبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء وذكرهم أبو الفرج

بيان المؤلف أن المصنفات في أخبار الزهاد ثلاثة أقسام

ابن الجوزي في كتابه صفوة الصفوة من المتقدمين والمتأخرين فإن المصنفات في أخبار الزهاد ثلاثة أقسام قسم جردوا النقل لأخبار القرون المفضلة من الصحابة

والتابعين ونحوهم كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المشهور في الزهد فإنه صنفه على الأسماء وذكر فيه زهد الأنبياء والصحابة والتابعين وإن كان آخرون من المصنفين في الزهد كعبد الله بن المبارك وهناد بن السري

صنفوا ذلك على الأبواب وقسم ذكروا أخبار الزهاد المتأخرين من حين حدث اسم التصوف كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه في طبقات الصوفية وكما فعل أبو القاسم القشيري في

رسالته وابن خميس في مناقب الأبرار ونحو هؤلاء وقسم ذكروا المتقدمين والمتأخرين كما فعل الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما

تبرئة مشايخ الصوفية القدامى مما نسبه إليهم ابن رشد وغيره

وهؤلاء المشايخ الموجودون في هذه الكتب ليس فيهم من هو معروف باعتقاد مذهب الباطنية المخالف للظاهر بل لهم من الكلام في نقيض ذلك بل في رد البدع الصغار وحفظ الشريعة باطنًا وظاهرًا من الكلام والقوة في ذلك والموالاة عليه والمعاداة عليه ما لا يوجد كثير منه لكثير من أئمة الفقهاء وحذاق الشيوخ أكثر عناية بالرد على الجهمية من كثير من حذاق الفقهاء لاسيما الكاملين في التصوف منهم وهم أهل الحديث كما كانوا يوصون الإنسان أن يكتب الحديث وان يتصوف فإن هؤلاء من أعظم الناس رعاية لما جاءت به الشريعة من الأقوال والأعمال ومحافظة على ما دل عليه ظاهرها مع تحقيق باطنها فيجمعون بين الظاهر والباطن وأما ما حكاه عنهم حيث قال وأما الصوفية

فطرقهم في النظر ليست طريقة نظرية أعني من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون المعرفة بالله وبغيره من الموجودات بشيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب فيقال هذه الأشياء إنما أخذها هذا من كلام أبي حامد فإنه كثيرًا ما يذكر في كتبه أن الطريق إلى المعرفة هي هذا وهو يذكر ذلك في الكتب التي يذكر فيها كلام المشايخ الصوفية كـ الإحياء وغيره ويذكر بعض ما في النصوص والآثار

وكلام المشايخ الصوفية من الدلالة على تأثير العمل الصالح في حصول العلم فظن هذا وأمثاله أن هذا مذهب الصوفية كما حكاه وليس الأمر على ماقالوه بل مشايخ الصوفية الذين لهم في الأمة لسان صدق متفقون على وجوب تعلم العلم الشرعي وتدبر كتان الله تعالى والنظر فيما ذكره فيه من الآيات والأمثال المضروبة ومتفقون أيضًا على النظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات بل هم أعظم تجردًا لكثير من النظر والاعتبار في الآيات المسموعة والآيات المشهودة من كثير من أهل الكلام والفقه وحالهم في ذلك أشهر عند من يعرفه من أن يحتاج إلى بسط وأما أنهم يقولون إن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة الحقائق من معرفة ما جاءت به الرسل ومن غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا

نعم فيهم من قد يجرد بعض العبادات كالذكر ويوصون بذلك في الابتداء ليصفى به القلب ويثبت على الإيمان وينقطع عن الالتفات إلى غير الله فليس ذلك مجرد ترك الشهوات بل نفس الذكر لله تعالى والاستحضار هو الذي يرقي النفس ويصلح القلب وينوره ويقويه ويثبته وإنما ترك الشهوات معين على ذلك أو شرط فيه لا أنها هي كل الطريق إذ الأمور العدمية لا تحصِّل بنفسها أمورًا وجودية ولكن قد تكون شرطًا في الأمور الوجودية وأيضًا فهم وغيرهم من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون إن المعارف التي يزعم النظار أنها لا تحصل بالقياس قد تحصل بالفطرة البديهية الضرورية عند ترك النفس هواها وتوجهها إلى طلب الحق وهذا والله أعلم هو أصل المعنى الذي قال عنهم لأجله ما قال ولكن هذا ليس كلام الصوفية وحدهم بل وحذاق المتكلمين يوافقونهم على هذا حتى أبو عبد الله الرازي ونحوه فإنه قال في مسألة وجوب النظر لما ذكر أن المعرفة الـ واجبة لا تحصل

إلا به فطالب المعارض بالدليل على أن المعرفة لاتحصل إلا بالنظر فقال من جهة نفسه الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء إما الحس أو الخبر أو النظر والأولان لا يكونان طريقين فتعين النظر وقال من جهة المعترض لانسلم أن طريق تحصيل المعارف هذه الطرق الثلاث فما الدليل عليه ثم أنا نبين ها هنا طريقًا آخر وهو تصفية النفس عن العلائق الجسدانية والهيئات البدنية فإنها متى خلت عن هذه الأمور حصل لها عقائد يقينية وهذا هو طريق الصوفية وأصحاب الرياضة فإنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في

المعارف الإلهية وأما أصحاب النظر فقلما يحصل لهم مثل هذا الجزم وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى معرفة الله تعالى فلا أقل من أن تكون من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله فإذا كان كذلك بطل ما ذكرتموه من الحجة وقال في جواب هذا قوله لما لا يجوز أن تكون التصفية طريقًا إلى اكتساب المعارف قلنا العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية وإما أن لاتكون فغن كانت فلا كلام لنا فلما قلنا هذا علم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية أو لايلزم فإن لزم قتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية ولا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد تحصل لأصحاب الرياضة من المبطلين نحو اليهود

والنصارى والدهرية قلت وقد رأيت بخط القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي حكاية مضمونها أن الشيخ أحمد

الخيوقي المعروف بالكبرى أخبره انه دخل عليه إمامان من أئمة الكلام أحدهما أبو عبد الله الرازي والآخر من شيوخ المعتزلة الذين بتلك البلاد بلاد جرجان وخوارزم

قال فقالا لي يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت لهما نعم فقالا كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى كذا كلما أقام دليلاً أظنه قال على صحة الإسلام أفسدته وكلما أقمت دليلاً أفسده وقمنا ولم يقدر أحدٌ منا أن يقيم دليلاً على الآخر فقال فقلت ماأدري ماتقولان أنا أعلم علم اليقين فقالا فصف لنا علم اليقين قال فقلت هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها وهذا الجواب مناسب لما يعلمانه من حد العلم الضروري فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لايمكنه الانفكاك عنه فبين أن اليقين الذي يحصل لنا أمر نضطر إليه يرد على قلوبنا لا نقدر على دفعه قال فقالا له كيف الطريق إلى هذه الواردات فدلهما على طريقة وهي الإعراض عن الشواغل الدنيوية والإقبال على ما يؤمر به من العبادات والزهد قال فقال الرازي أنا لايمكنني هذا فإن لي تعلقات كثيرة وأما المعتزلي فقال أنا محتاج إلى هذه الواردات فقد أحرقت

الشبهات قلبي فأمره الشيخ بما يعمله من الذكر والخلوة فتعبد مدة فلما خرج من الخلوة قال ياسيدي والله ماالحق إلا فيما يقوله هؤلاء المشبهة هذا معنى الحكاية أو نحو ذلك وذلك أن المعتزلة يسمون من أثبت الصفات مشبهًا وكان يعتقد النفي لا يرى أن الخالق يتوجه إليه القلب إلى جهة فوق ولا نحو ذلك فلما خلا قلبه من تلك العقائد والأهواء التي هي الظن وماتهوى النفس حصل له بالفطرة علوم ضرورية توافق قول المثبتة ومع هذا فالمشايخ الصوفية العارفون متفقون على أن

ما يحصل بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة وغير ذلك من المعارف متى خالف الكتاب والسنة أو خالف العقل الصريح فهو باطل ومن زعم من المنتسبين إليهم أنهم يجدون في الكشف مايناقض صريح العقل أو أن أحدهم يرد عليه أمر يخالف الكتاب والسنة بحيث يكون خارجًا عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره أو أنه يحصل له علم مفصل بجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به فهو عندهم ضال مبطل بل زنديق منافق لايجوزون قط طريقًا يستغنى به عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به الرسول ويأمر به فضلا عن أن يسوغ له مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره وخبره وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولو جاز ذلك لأحد لكان مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن محتاجًا إلى متابعته في خبره وأمره وهذا حال الذين قال الله تعالى فيهم وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ [الأنعام 124] وقال تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً {52} [المدثر 52]

ولكن هؤلاء الضالون المنافقون منهم المسوغون للاستغناء عن الرسول بكشفهم أو مشاهدتهم أو لمخالفته بخاصة انفردوا بها عن جميع المؤمنين هم في ذلك بمنزلة كثير من أهل الكلام الظانين أنهم يصلون بالأدلة العقلية إلى مايستغنون به عن الرسول وأنهم يدركون بمقاييسهم العقلية نقيض ما أخبر به الرسول وهذه الزندقة والنفاق في الطائفتين هي في حال المتفلسفة والباطنية ونحو هذه الأصناف المعروفين بالنفاق وأما قوله ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ماحث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلناه فيقال الشارع لم يأمر بالأعمال لمجرد كونها معينة للنظر على حصول العلم بل هذا إنما يظنه هؤلاء المتفلسفة ونحوهم من المبطلين الذين يظنون أن غاية الكمال الإنساني المطلوب هو أن يكون الإنسان عالمًا وهذا في غاية

الجهل كما قد بسطنا في غير هذا الموضع بل مقدمهم الجهم بن صفوان لما ادعى أن المعرفة في القلوب تنفع وإن لم يكن معها عمل أطلق غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وغيره تكفير من يقول ذلك فكيف بمن يقول إنها

المقصود فقط وما سواها وسيلة هذا لعمري لو كان

مقصودهم المعرفة التي دلت عليها الرسل فكيف وهم يعنون بالمعرفة عقائد أكثرها باطلة مناقضة للشرع والعقل بل كل واحد من علم القلب وعمله الذي أصله محبة القلب هو أمر مأمور به مقصود للشارع فالعلم بمنزلة السبب والأصل يوجب المحبة والإرادة وطلب المحبوب المعبود ثم كلما ازداد العبد معرفة ازداد محبة وعبادة وكلما ازداد محبة ازداد عبادة والمطلوب المقصود الذي هو الغاية هو الله سبحانه وتعالى وأن يكون العبد عابدًا له قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} [الذاريات 56] وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية بل أصل العبادة كمال معرفته وكمال محبته وكمال تعظيمه وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع وكل منهما معين للآخر وشرط

في حصول المقصود بالآخر فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لايحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من العمل بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر فلابد من سلوك الطريقين معًا ليس ذلك في وقت واحد ولا بد أن يكون ذلك جميعه موافقًا لما أخبر به الرسول وأمر به فإذا حصل هذا وهذا كان العبد من الذين هم على هدى من ربهم الذين هم المفلحون وإلا كان من المغضوب عليهم والضالين مثل من اقتصر على النظر دون العمل أو على العمل دون النظر أو جمعهما وأعرض عن كون نظره وعمله على الوجه المشروع المأمور به فكيف بمن كان له نظر مجرد غير شرعي كحال كثير من المتفلسفة والمتكلمين أو عمل مجرد غير شرعي كحال كثير من عباد المتفلسفة والمتصوفين فهذا هذا والله أعلم

ولا ريب أن من أشهر مشايخ الصوفية وأعظمهم عندهم وعند العامة في عصر أبي المعالي الجويني شيخَ الإسلام أبا إسماعيل الأنصاري وأبا القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما فلينظر ماذكره هؤلاء في مصنفاتهم ولهذا لما كانت هذه الحجة التي جعلها المتكلمون الجهمية الدين وهي حجة الأعراض مستلزمة في الحقيقة لحدوث الرب وتعطيله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا

نقل المؤلف عن الهروي في "ذم الكلام" ذم المتكلمين ونفاة الكلام وبيان القواعد الثلاث التي هي أبنية الزندقة الأولى

وكانت في المعتزلة أخذها من أخذها من الأشعرية وكانت بينها وبين مذهب الدهرية من الملازمة ماتؤول إليه كما نبهنا عليه تكلم الناس بذلك حتى قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه المشهور في ذم الكلام وأهله ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما ادعته من أمور

الفلاسفة ولم نقف فيها إلا على التعطيل البحت وان قطب مذاهبهم ومنتهى عقدتهم ماصرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم أن الفلك دوار والسماء خالية وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حُشًّا فرارًا من الإثبات وذهابًا عن التحقيق وأن قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا حياة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئًا لأشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة ولا لاصفة خافوا على قلوب ضعفى المسلمين

وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن وإن كان اعتصامًا به من السيف واجتناناً به منه وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعانيهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكثهم فياطول مالقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسنا العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية في مقالات علماء المسلمين فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين

على إخراجهم من الملة فعلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغًا يكون ألواح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم يجدوا بذلك المساغ ويتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخازيق تراءى للغبي بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يُكسى لحاء السنة وعقد الجهمية تنُحل ألقاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] فينكرون الغُل وينكرون اليد فيكونون أسوأ حالا من اليهود لأن الله تعالى أثبت الصفة ونفى العيب واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه

فيقولون لايكون في المخلوق إلا المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة فاسمعوا الآن ياذوي الألباب وانظروا مافضل هؤلاء على أولئك قالوا قبح الله مقالتهم إن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم رضي

الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا يُدرى أين هو ولايوصف بمكان وليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحد وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلامًا وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهم متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حرف وقالوا هذا ثاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النقش وأريد به النفس وهذا صوت القارئ أما ترى منه حسنًا وغير حسن وهذا لفظه أو ما تراه مجازًا به حتى قال رأس

رؤوسهم أو يكون قرآن من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبربها عن القرآن والله تعالى تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم القرآن غير موجود لفظته الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشر مرات

وأولئك قالوا لاصفة وهؤلاء يقولون وجه يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين لعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداراهما يتراءيان ويدٌ كيد المنة والعطية والأصابع كما يقال خراسان هي أصبع الأمير والقدمين كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أي أنا مالك أمره

وقال الكرسي العلم والعرش الملك والضحك الرضا والاستواء الاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئًا ولم يبقوا موجودًا ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لانفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد عيابًا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] وإنما قالوها

بالعبرانية فحكاها الله عنهم بالعربية وكان يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبًا بالعربية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبره له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يُدعى بكل لسان باسمه فيجيب

ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة وقالوا ماهو بعد مامات بمبلغ فلا تلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار رحمه الله يحكم به عليهم وإن كانوا موهوها ووروا عنها أو

استوحشوا من التصريح بها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وسموا الإثبات تشبيهًا فعابوا القرآن وضللوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تكاد ترى فيهم رجلاً ورعًا ولا للشريعة معظمًا ولا للقرآن محترمًا ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول فانظر فلا هو طالب آثاره ولا متتبع أخباره ولا متأصل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلد مرتبة العلم وما عرف حديثًا واحدًا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم لاتنفذ لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك ألبسوا ظلمة

الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب وقد ذكر قبل ذلك باب تعظيم إثم من سنّ سنة سيئة أو دعا إليها وذكر الأحاديث في هذا الباب ثم ذكر حديثًا رواه من حديث عثمان بن سعيد حدثنا يحيى بن الحماني حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح حدثني أبو صخر

حميد بن زياد أن نافعًا أخبره عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون في أمتي مسخ وذلك في قدرية

وزندقية

قال فلم يكن بدٌّ أن يكون ماقال هو كائن كائنًا فلم يظهر شيء من ذلك حتى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلمًا وهي إحدى فتنتي هذه الأمة اللتين لا ثالث لهما توازنهما التي ثانيتهما فتنة الدجال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في الحديث أنه من نجا من ثلاث فقد نجا موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال فلما قتل ذو

النورين رضي الله عنه بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام وفي حرم الرسول عليه الصلاة والسلام بأعين المسلمين وانشقت العصا وتفرقت الجماعة تشامست الأعين وتجادلت الأنفس واختلفت الآراء وتباعدت القلوب وساءت الظنون واشتعلت الريب واستقوت التهم وجدت كل فتنة فرصتها فلفظت غصتها واشتغل الرعاء وأسلم

النشأ وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا فأخذت الغواة أزمة الضلالة فتهوست لها قلوب أهل الغفلة فمما ظهر في المسلمين من زيغ الدين الكلام في التوحيد تكلفًا وهي الزندقة الأولى وهي ثلاث قواعد نجم بعضها على أثر بعض الأولى منها القول بالقدر وهي فتنة البصرة ثم قصب السلف وهي فتنة الكوفة ثم إنكار الكلام لله وهي فتنة المشرق فأما فتنة القدر فأول من تكلم بها معبد الجهني رجل

من البصرة كان عنده سوء حظ من العلم يقال له معبد بن خالد ويقال معبد بن عبد الله بن عويمر مات بعد الهزيمة وكان يومئذ مع ابن الأشعث وأصابته جراحة وهو أول من تكلم بالقدر وهو الذي تبرأ منه عبد الله ابن عمر بن الخطاب فتكلم

عليه عمرو بن عبيد وجادل به غيلان وغيلان هو ابن

أبي غيلان أبو مروان من موالي عثمان بن عفان وكان عنده حظ من العلم تكلم به أمام عبد الملك بن مروان واستتابه عمر بن عبد العزيز ثم ظهر منه تكذيب التوبة فصلب على باب الشام بأخزى حالة لقيها

بشر قصته قد تقصيتها في كتاب تكفير الجهمية وأما عمرو بن عبيد وهو عمرو بن عبيد بن كيسان بن باب مولى بني تميم البصري مات سنة ثلاث وأربعين ومائة في طريق مكة فإنه أول من بسط أساسه فأصبح رأسه ونظم له كلامًا ونصبه إمامًا ودعا إليه ودل عليه فصار مذهبًا يسلك وهو إمام الكلام وداعية الزندقة الأولى ورأس المعتزلة سموا بها لاعتزاله حلقة الحسن

البصري وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة وحذر منه إمام أهل المشرق عبد الله بن المبارك الحنظلي وقد قدمنا أسانيد تلك الأقاويل فسلط الله عليه

وعلى من استتبع واخترع سيفًا من سيوف الإسلام وهو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني واسم أبيه كيسان من أهل البصرة فهتك أستاره واظهر عواره ووسمه باللعنة والحق به بلاء تلك الفتنة وهو الذي يقول قتيبة بن سعيد إذا رأيت الرجل من أهل البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق وقال رجل لأحمد بن حنبل رحمه الله من السني قال من أين أنت قال من أهل البصرة قال أتحب أيوب السختياني قال نعم قال فأنت سني هذه قصة أهل

البصرة أما قصة غيلان فظهرت بليته بالشام وافتتن بها ثور ابن يزيد ومكحول الفقيه وجماعة من أهل العلم بتلك الناحية فسلط الله عز وجل عليهم ريحانة من أهل الشام أبا عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي فلحظهم

بالصغار ووضعهم في المقدار وبسط عليهم لسانًا أعطي بيانًا وضن عليهم ببشاشة الوجه وطلاقة اللقاء حتى ذل به الأعزة في سبيل الضلالة وعز به الأذلة في سبيل السنة بحمد الله رب العالمين ومنه وأما فتنة قصب السلف فإن الكوفة دارها التي خرجتها ثم طار في الآفاق شررها واستطار فيها ضررها وإنما هاجتها أحلام فيها ضيق وأشربتها قلوب فيها حمق ولها عروق خفية السلامة للقلوب في ترك إظهار بعضها وأربابها أحمق خلق الله تعالى عرضت تساوي بين علي بن أبي طالب وبين أبي بكر وعمر رضي الله

عنهم ثم أخذت تفضله عليهما ثم جعلت توليه عليهما وتخاصمهما له وتظلمهما وتوليه حقهما بالقياس العقلي ترفعه ببنت الرسول صلى الله عليه وسلم وسبب البتول رضي الله عنها ثم جاءت تعدله بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وتشركه في وحي السماء ثم خطأت جبريل في نزوله فحلت الأمة من النبوة وأحوجتها إلى علي رضي الله عنه ثم ادعت له الإلهية ثم ادعتها

لولده قال الإمام الشعبي لو كانوا دوابًا لكانوا حمرًا أو كانوا طيرًا لكانوا رخمًا فاستظهرت بهؤلاء الغالية أرباب

القلوب المريضة فتظاهرت على قصب السلف الصالح الذين هم الناقلون وفيهم قانون الدين وديوان الملة فترى أمثلهم طريقة وأصوبهم وثيقة من يتستر بفضائل علي رضي الله عنه ويربأ به عن منزله الذي أنزله الله تعالى من الشرف به ثم روى من طريق العباس بن عقدة حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قرأت على

أبي حدثنا ابن الحباب عن عبد الأعلى هو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لاتصلح الصلاة إلا على النبي

صلى الله عليه وسلم فلما

تعادنت أولئك الغواة

بتلك الضلالة وتعاونت عليها قيض الله لها إمامًا خلصه حسامًا وهو أبو محمد عبد الله بن إدريس الأودي فصرح بقدحهم ودفع في نحرهم ونادى على خباياهم وأورى عن خفاياهم فلم تكابد الأمة من شؤم شيء ماكابدت من شؤم تلك الفتنة لم يكد قلب مسلم يسلم من شوب منها إلا من رحم ربك فعصم وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل فأول من بدعها

جعد بن درهم فلما ظهر جعد قال الزهري وهو أستاذ أئمة الإسلام حينئذ ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورواه بإسناده من طريق ابن أبي حاتم فأخذ منه جهم بن

صفوان هذا الكلام فبسطه وطراه ودعا إليه فصار به مذهبًا لم يزل هو يدعو إليه الرجال وامرأته زهرة تدعو إليه النساء حتى استهويا خلقًا من خلق الله كثيرًا فأما الجعد فكان خزري الأصل فيما أخبرنا وأسنده عن قتيبة بن سعيد ولكن جهم بسط ذلك المذهب وتكلم فيه وهو صاحب ذلك المذهب الخبيث وكانوا قد حذروه فيما أخبرناه

وأسند ذلك من طريق ابن أبي حاتم إلى مقاتل بن حيان قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال من أين أنت قلت من أهل بلخ قال كم بينك وبين النهر قلت كذا فرسخًا قال هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يُهلك

خلقًا من هذه الأمة يدخله الله وإياهم النار مع الداخلين فأما الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ من نكير وذلك سنة نيف وعشرين ومائة وأما الجهم وكان

بمرو فكتب هشام بن عبد الملك إلى واليه على خرسان نصر بن سيار يأمره بقتله فكتب إلى سلم بن أحوز وكان على مرو فضرب عنقه بين

نظارة أهل العلم وهم يحمدون ذلك فهذه قصة فتنة أهل المشرق بها بسطت ومهدت ثم سارت في البلاد فقام لها ابن أبي دؤاد وبشر بن غياث فملآ

الدنيا محنة والقلوب فتنة دهرًا طويلاً فسلط الله تعالى عليهم علما من أعلام الدين أوتي صبرًا في قوة اليقين أبا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني فشد المئزر وأبى الفتنة وجاد بالدنيا وضن بالدين وأعرض عن الغضاضة على طيب العيش ولم يبال في الله خفة الأقران ونسي قلة الأعوان حتى هدّ ماشدوا وقدّ مامدوا فأما قول الطائفة التي قال بالقدر فأرادت منازعة في

الربوبية وقعت فيها فضاهت المجوسية الأولى وهم الزنادقة التي كانت تشوش على الأولين دينهم ولعنهم الله تعالى على لسان سبعين نبيًّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا آخرهم

وأما الذين قالوا في السلف الصالح بالقول السيئ فأرادت القدح في الناقل لأن القدح في الناقل إبطال للمنقول فأرادوا إبطال الشرع الذي نقلوا وإنما تعلقوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تسلحًا وروي عن أبي الربيع الزهراني قال كان من هؤلاء الجهمية عندنا رجل

وكان يظهر من رأيه الترفض وانتحال حب علي رضي الله عنه فقال له رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه قد علمت أنكم لاترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي صبّكم على الترفض وحب علي قال إذًا أصدُقَك إنا إذا أظهرنا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقوامنًا ينتحلون حب علي ويظهرونه ويقعون بمن شاؤوا وانتسبوا بذلك إلى الرفض والتشييع ويعتقدون ماشاؤوا ويقولون ما شاؤوا وقد حبس الخليفة رجلاً في الزندقة فدخل عليه رجل فقال له قد كنا نعرفك بسب الصحابة والرفض فما خرج بك إلى الزندقة فقال نايغمائي وما

جنى عليّ أبو بكر وعمر لولا بغض صاحبهما قال وقد صدق مارأيت من رجل يُزَن بشيء من الرفض إلا كانت تخرج من فيه أشياء لاتشبه كلام المسلمين وأما الذين قالوا بإنكار الكلام لله عز وجل فأرادوا إبطال الكل لأن الله تعالى إذا لم يكن على زعمهم الكاذب

متكلمًا بطل الوحي وارتفع الأمر والنهي وذهبت الملة عن أن تكون سمعية فلا يكون جبريل عليه السلام سمع مابلغ ولا الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ ما أنفذ فيبطل التسليم والسمع والتقليد ويبقى المعقول الذي به قاموا وهذا قول عثمان بن سعيد إن جهمًا إنما بنى زندقته على نفي الكلام لله عز وجل فهذه القواعد الثلاث أبنية الزندقة الأولى وهم الزنادقة الذكور كما سمعت يحيى ابن عمار يقوله وروى بإسناده عن

زر بن صالح السدوسي قال قلت لجهم بن صفوان هل نطق الرب قال لا قلت فينطق قال لا قلت فمن يقول لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر 16] ومن يرد عليه لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 16] فقال لا أدري زادوا في القرآن ونقصوا ثم قال باب ذكر كلام الشعري وذكر ماقدمناه عنه وذكر قبل هذا قال سمعت عدنان بن عمدة النميري يقول سمعت أبا بكر البسطامي يقول كان أبو الحسن الأشعري أولاً ينتحل الاعتزال ثم رجع فتكلم عليهم وإنما

مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه وقال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يلعن الكلابية قال وسمعت

عبد الرحمن بن محمد بن الحسن يقول وجدت أبا حامد الإسفراييني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور

الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله قال وسمعت عبد الواحد بن ياسين المؤذن أنا جعفر يقول رأيت بابين قلعًا من مدرسة أبي الطيب بأمره من بيتي شابين حضرا أبا بكر ابن فورك

فصل في بيان أن مسألة الجوهر الفرد هي أصل المتكلمين في إثبات الخالق والمعاد

فصل وأصل هؤلاء المتكلمين من الجهمية المعتزلة ومن وافقهم الذي بنوا عليه هذا هو مسألة الجوهر الفرد فإنهم ظنوا أن القول بإثبات الصانع وبأنه خلق السموات والأرض وبأنه يقيم القيامة ويبعث الناس من القبور لايتم إلا بإثبات الجوهر الفرد فجعلوه أصلا للإيمان بالله واليوم الآخر أما جمهور المعتزلة ومن وافقهم كأبي المعالي وذويه فيجعلون الإيمان بالله تعالى لايحصل إلا بذلك وكذلك الإيمان باليوم الآخر إذ كانوا يقولون لايعرف ذلك إلا بمعرفة حدوث العالم ولايعرف حدوثه إلا بطريقة الأعراض وطريقة الأعراض مبنية على أن الأجسام لاتخلو منها وهذا لم يمكنهم أن يثبتوه إلا بالأكوان التي هي الاجتماع والافتراق والحركة

والسكون فعلى هذه الطريقة اعتمد أولوهم وآخروهم حتى القائلين بان الجواهر لا تخلو عن كل جنس من أجناس الأعراض وعن جميع أضداده إن كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن احد الضدين وإن قدر عرض لاجنس له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه إذا لم يمنع مانع من قبوله فإن هذا أبلغ الأقوال وهو قول أصحاب الأشعري ومن وافقهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأبي الحسن

الزاغوني وغيرهم فإنه لم يمكنهم أن يثبتوا أن الجسم لايخلو من الأعراض إلا بالأكوان ثم عند التحقيق لم يمكنهم أن يثبتوا ذلك إلا بالاجتماع والافتراق فإن منهم من يقول الكون أمر عدمي ومنهم من يقول الكون الذي هو الحركة والسكون إنما يلزم إذا كان الجسم في مكان فأما إذا لم يكن في مكان فيجوز خلوه عن الحركة والسكون كما يقوله طوائف كالذين قالوا ذلك من الكرامية فآل الأمر بهذه الطريقة إلى الاجتماع والافتراق وعلى ذلك اعتمد أبو المعالي وغيره من الأشعرية وعلى ذلك اعتم محمد بن الهيصم وغيره من الكرامية ومعلوم أن قبول الاجتماع والافتراق لم يمكنهم حتى يثبتوا أن الجسم يقبل الاجتماع والافتراق وذلك مبني على انه مركب من الأجزاء التي هي الجواهر المنفردة فصار الإقرار بالصانع مبنيًّا عند هؤلاء المتكلمين على إثبات الجوهر الفرد

نقل المؤلف عن كتاب "نهاية العقول" للرازي أن ثبوت المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد والرد عليه

ثم الذين ذكروا أن لهم طريقًا إلى إثبات الصانع غير هذه كأبي عبد الله الرازي وغيره وهو الذي عليه أبو الحسن الأشعري وغيره من الحذاق قال من قال من هؤلاء إن إثبات المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد وهذا قول أبي عبد الله الرازي وغيره وهو مخلص ممن جعله الأصل في الإيمان بالله فجعله هو الأصل في الإيمان بالمعاد مع كونه يجعله أصلا في نفي الصفات التي ينكرها كما سيأتي بيانه قال في بعض أكبر كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في الأصل السابع عشر اعلم أن معظم الكلام في المعاد إنما يكون مع الفلاسفة ولهم أصول يفرعون شبههم عليها فيجب علينا إيراد تلك الأصول أولاً ثم الخوض بعدها في المقصود فلا جرم رتبنا الكلام في هذا الأصل على أقسام ثلاثة القسم الأول في المقدمات وفيه ثمان مسائل المسألة الأولى في الجزء الذي لايتجزأ ولا شك أن الأجسام التي نشاهدها قابلة

للانقسامات فالانقسامات التي يمكن حصولها فيها إما أن تكون متناهية أو لاتكون فيخرج من هذا التقسيم أقسام أربعة أولها أن تكون الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها ألا تكون حاصلة ولكن مايمكن حصوله منها يكون متناهيًا ورابعها أن لاتكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون غير متناه فالأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني مذهب النظام والثالث

مذهب بعض المتأخرين والرابع مذهب الفلاسفة فنخلص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه قابلاً للانقسامات هل يعقل أن يكون واحدًا هل يعقل أن يكون قابلاً للانقسامات الغير متناهية وأعجب من هذا أنهم يجعلون إثبات الجوهر الفرد دين المسلمين حتى يعد منكره خارجًا عن الدين كما قال أبو المعالي وذووه اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادًا وكل جزء لايتجزأ ولاينقسم وليس له طرف وحد وجزء شائع ولايتميز

وإلى هذا صار المتعمقون في الهندسة وعبروا عن الجزء بالنقطة فقالوا النقطة شيء لاينقسم وصار الأكثرون من الفلاسفة إلى أن الأجسام لاتتناهى في تجزئها وانقسامها وإلى هذا صار النظام من أهل الملة ثم اعترف بأنه تنتهي قسمتها بالفعل ولاتنتهي قسمتها بالقوة ويعنون بالقوة صلاحية الجزء للانقسام والعجب أنهم اتفقوا على أن الأجرام متناهية الحدود والقطار منقطعة الأطراف والأكثاف وكذلك على كل

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الجويني والرازي من وجهين

جملة ذات مساحة فغن لها غايات ومنقطعات بالجهات ثم قضوا بأنها تنقسم أجزاءً بلا نهاية والجملة المحدودة كيف تنقسم أجزاءًا لاتتناهى ولا يحاط بها قلت والكلام في ذلك من وجهين أحدهما أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يبنوا شيئًا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد ولاانتفائه وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة وذلك بمنزلة تنوع اللغات وتركيب الألفاظ المفردات وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة والنفاة بلفظ الجوهر الفرد لم يبن عليها احد من سلف الأمة وأئمتها مسألة واحدة من مسائل الدين ولا ربطوا بذلك حكمًا علميًّا ولا علميًّا فدعوى المدعي انبناء أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ذلك يضاهي دعوى المدعي أن ما بينوه من الإيمان بالله واليوم الآخر ليس هو على مابينوه بل إما أنهم ماكانوا يعلمون الحق أو يجوز الكذب في هذا الباب لمصلحة الجمهور كما يقول نحو ذلك من يقوله من

المنافقين من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم من الباطنية فإنهم إذا أثبتوا من أصول الدين مايعلم بالاضطرار انه ليس من أصول الدين لزم قطعًا تغيير الدين وتبديله ولهذا زاد أهل هذا الفن في الدين ونقصوا منه علمًا وعملاً وإذا كان كذلك لم يكن الخوض في هذه المسألة مما يبنى عليه الدين بل مسألة من مسائل الأمور الطبيعية كالقول في غيرها من أحكام الأجسام الكلية وأيضًا فإنه أطبق أئمة الإسلام على ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض ثم هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله واليوم الآخر على ثبوته قد شكوا فيه وقد توقفوا في آخر عمرهم كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري وإمام المتأخرين من

الأشعرية أبي المعالي الجويني وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبد الله الرازي فإنه في كتابه بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة قال في المسألة بعينها لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد فقال وأما المعارضات التي ذكروها فاعلم أن من العلماء من مال إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات

الوجه الثاني

العقول وأبو الحسين البصري هو احذق المعتزلة توقف فيها ونحن أيضًا نختار هذا التوقف فأي ضلال في الدين وخذلان له أعظم من هذا الوجه الثاني دعواهم أن هذا قول المسلمين أو قول جمهور متكلمي المسلمين ومن المعلوم أن هذا إنما قاله أبو الهذيل العلاف ومن اتبعه من متكلمي المعتزلة والذين أخذوا ذلك عنهم

وقد نفى الجوهر الفرد من أئمة المتكلمين من ليسوا دون من أثبته بل الأئمة فيهم أكثر من الأئمة في أولئك فنفاه حسين النجار وأصحابه كأبي عيسى برغوث ونحوه وضرار بن عمرو وأصحابه كحفص

الفرد ونحوه ونفاه أيضًا هشام بن الحكم وأتباعه وهو

المقابل لأبي الهذيل فإنهما متقابلان في النفي والإثبات ونفته الكلابية أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وذووه ونفاه أيضًا طائفة من الكرامية كمحمد بن صابر ونفاه ابن الراوندي وليس نفي هؤلاء موافقة منهم

لا للفلاسفة ولا للنظام بل قول النظام ظاهر الفساد وكذلك قول الفلاسفة أيضًا وأكثر هؤلاء الذين ذكرناهم من النجارية والضرارية والكلابية والكرامية وغيرهم لايقولون في ذلك بقول النظام ولا الفلاسفة ولايقولون

التحقيق في مسألة الجوهر الفرد قول طائفة ثالثة أنه إذا صغر استحال

بإثباته وذلك أن دعوى الفلاسفة قبول الأجسام والحركات والأزمنة الانقسام إلى غير نهاية باطل كما ذكره المثبتون وكذلك قول مثبتيه باطل بما ذكره نفاته من أنه لابد من انقسامه حتى إن أبا المعالي وغيره اعترفوا بأنه غير محسوس ومن تدبر أدلة الفلاسفة القائلين بما لايتناهى من الانقسام والقائلين بوجود الجزء الذي لايقبل الانقسام وجد أدلة كل واحدة من الطائفتين تبطل الأخرى والتحقيق أن كلا المذهبين باطل والصواب ماقاله من قاله من الطائفة الثالثة المخالفة للطائفتين أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغر فإنه يستحيل هواءً أو ترابًا فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة كما يقوله المثبتون له فإن هذا باطل بما ذكره النفاة من أنه لابد أن يتميز جانب له عن جانب ولايكون قابلاً للقسمة إلى غير نهاية فإن هذا أبطل من الأول بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيرًا وليس استحالة الجسام في صغرها

محدودًا بحد واحد بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعًا من القسمة وغيره لايستحيل حتى يكون أصغر منه وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية بل هذا إنما يكون في المقدرات الذهنية فأما وجود مالا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة وسواء كان بالفعل أو بالقوة ووجود موجود لايتميز جانب له عن جانب مكابرة بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام فلا يقبل شيء منها انقسامًا لا يتناهى كما أنها إذا كثرت وعظمت تنتهي إلى حد تقف عنده ولا تذهب إلى أبعاد لا تتناهى ولكن بنى هذه الطائفة المشهورة من المتكلمين على مسمى هذا الاسم الهائل الذي هو الجوهر الفرد عندهم إثبات الخالق والمعاد وهو عند التحقيق ما لايمكن أحدًا أن يحصر هـ بحسه باتفاقهم وعند المحققين لامس له وما أشبهه بالمعصوم المعلوم الذي بدعته القرامطة

والمنتظر المعصوم الذي بدعته الرافضة والغوث

الذي بدعته جهال الصوفية هو نظير ما يعظمه مقابل هؤلاء الفلاسفة المشائين وأتباعهم من الجوهر المجرد وهو ما يدعونه في النفس والعقول من أنها شيء لا داخل العالم ولا خارجه ولا متحرك ولا ساكن ولا متصل بغيره ولا منفصل عنه وأمثال هذه الترّهات فقول هؤلاء في إثبات هذا الجوهر المجرد كقول أولئك في الجوهر الفرد ثم إن هؤلاء وهؤلاء يدعون أن هذا حقيقة الإنسان هؤلاء يدعون أنه هذا الجوهر المجرد وهؤلاء يقولون إنه جوهر واحد منفرد أو جواهر كل منها يقوم به حياة وعلم وقدرة أو تقوم الأعراض المشروطة بالحياة ببعضها وثبت الحكم للجملة وعلى هذه المقالات يبنون المعاد

فصل: الوجه العاشر من الوجوه التي استدل بها الرازي على مقدمته

فصل ثم قال الرازي العاشر أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب إلى العقول من معرفة ذات الله تعالى ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف حكم الحس والخيال يقال له إن أردت أن أفعال الله تعالى وصفاته تثبت بلا مثال فهذا حق فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وقال تعالى فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {74} [النحل 74] وذلك أنا لانعلم الشيء إلا أن ندركه نفسه أو ندرك ماقد يكون مماثلا له أو مشابهًا له من بعض الوجوه والله يعلم الأشياء كلها ونحن لانعلم فليس لنا أن نضرب له الأمثال بلا علم وإن أراد به أن يثبت ما يعلم بالحس أو العقل عدمه فهذا باطل وقد تقدم هذا في أول هذه المقدمة وبينا الفرق بين

ما يعلم عدمه وبين ما يعلم عدم مثاله كما بينا الفرق بين مايعلم عدمه وبين مالا يعلم وجوده أو كيفيته وهذا الأصل ينبغي استبصاره واستذكاره فإنه بسبب الاشتباه فيه يقع من لبس الحق بالباطل ما الله به عليم وأيضًا فإنه لا اختصاص للحس والخيال بكونهما يثبت على خلاف حكمهما فإنه إن أراد أنها تنافي ما علم بالحس والخيال أنها تنافي معرفة أفعاله لأن الحس والخيال يدرك عدم ذلك فهو باطل ولو أراد أنه يثبت من أفعاله ما لا يعلم نظيره أو ما لا يحيط العلم بحقيقته بحسِّ ولا خيال فيقال وما لايعلم نظيره بعقل ولا علم ولاقياس فلا فرق بين ثبوتها بهذا الاعتبار على خلاف حكم الحس والخيال أو على خلاف حكم العلم والعقل وهذا الكلام أيضًا كلام نافع في هذه المواضع وليس لأحد أن يفرق بينهما بأن العلم والعقل يدرك من أفعاله ما لايدركه الحس والخيال لوجهين أحدهما أنه لافرق في هذا بين أفعال الله تعالى وصفاته

وبين سائر الأشياء فإن الإنسان إذا أحس أمرًا أو تخيله حصل له من العلم والعقل بسبب ذلك ما لم يدركه الحس والخيال كما يعقل الأمور العامة الكلية عند إحساس بعض أفرادها بالقياس والاعتبار ولايجوز أن يقول في جميع المعقولات إنها تثبت على خلاف حكم الحس والخيال وإن أراد أحد بهذا اللفظ هذا المعنى لم يضر ذلك إذ يكون التقدير أن الإنسان ينال بعقله من العلم ما لايناله بحسه وهذا لانزاع فيه لكن لايقتضي ذلك تنافي المحسوس والمعقول بل ذلك يوجب تصادقهما وموافقتهما الوجه الثاني أن الحس يمكنه إدراك كل موجود فما من شيء من الإدراك إلا ويمكن معرفته بالإحساس الباطن أو الظاهر كما قد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الأجوبة بل هذا المنازع وأصحابه قالوا من ذلك ماهو من أبلغ الأمور في مسألة الرؤية وغيرها حيث يجوزون رؤية كل موجود بل

تقرير الرازي للمعنى الذي ذكره في دليله العاشر في أفعال الله وأن معرفتها أقرب إلى العقول من معرفة ذاته من وجوه

يجوزون تعلق الحواس الخمس من السمع والبصر والشم والتذوق واللمس بكل موجود فلم يبق عندهم في الموجودات مايمتنع أن يكون محسوسًا فلا يصح أن يقال إنه يدرك بالعقل والعلم مايمتنع إدراكه بالحس إلا إذا قيد الامتناع بأن يقال ما لا يمكننا إحساسه في هذه الحالة أو ماتعجز قدرتنا عن إحساسه ونحو ذلك وإلا فإحساسه ممكن والله تعالى قادر عليه ويفعل من ذلك مايشاء كما يشاء ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال أبو عبد الله الرازي أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذلك من وجوه أحدها أن الذي شاهدناه هو تغير الصفات مثل انقلاب الماء والتراب نباتًا وانقلاب النبات جزء بدن حيوان فأما حدوث الذوات ابتداءً من غير سبق مادة وطينة فهذا شيء ماشاهدناه البتة ولايقضي بجوازه وهمنا وخيالنا مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات ابتداءً من غير سبق مادة وطينة

رد المؤلف على الرازي في الوجه الأول ببيان غلطه في معرفة تكوين الأشياء

قلت الكلام على هذا من وجوه أحدها قوله لم نشهد إلا تغير الصفات ليس هذا مخاطبة باللغة المعروفة والاصطلاح المشهور بل هذا يفهم معنى فاسدًا لايقوله أحد وذلك أن الصفة في الاصطلاح المشهور هي عرض يقوم بجوهر قائم بنفسه كقيام اللون والطعم والريح بالجسم فإذا قال القائل لم نشاهد إلا تغير الصفات كان مقتضاه أن الجواهر والأجسام لا تتبدل ولا تستحيل ولا تنقلب وإنما تتغير أعراضها القائمة بها مثل تغير الشمس والقمر والنجوم بحركاتها ومعلوم أن هذا باطل بل نفس الجواهر التي هي أعيان قائمة بنفسها تنقلب وتتبدل وتستحيل كما ذكره من انقلاب الماء والتراب نباتًا فلم يكن التغير في مجرد أعراض الماء والتراب وإنما ذلك مثل أن ينقل من موضع إلى موضع أو يجمع ويفرق أو يسخن ويبرد ونحو ذلك فأما إذا صار الماء والتراب نباتًا فقد انقلبت الحقيقة وتبدلت وكذلك إذا صار المني حيوانًا والبيضة طيرًا وكذلك إذا صار النبات المأكول دمًا ثم عظمًا ولحمًا وعرقًا ونحو ذلك فلا يقال في مثل هذا لم نشهد إلا تغير الصفة بل شهدنا تبدل الحقيقة وتغير العيان القائمة بنفسها التي هي جواهر بمعنى استحالتها وانتقالها من حقيقة إلى حقيقة في ذاتها

وقدرها ووصفها وسائر الأمور لكن لم نشهد تكون شيء إلا من شيء فهذا حق كما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز كما قال خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ {14} وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ {15} [الرحمن 14، 15] وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14} [المؤمنون 12، 13، 14] وقال تعالى وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ [البقرة 164] وقال وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57} [الأعراف 57] وقال وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً {17} ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً {18} [نوح 17، 18] وقال تعالى هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود 61] وقال تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا {31} [النازعات 30، 31] وقال تعالى وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ

دعوى الرازي أن حدوث الذوات ابتداء من غير سبق مادة وطينة شيء لم يشاهد البتة

عَبْدٍ مُّنِيبٍ {8} وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ {10} رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ {11} [ق 7 - 11] وهذا في كتاب الله تعالى كثير يبين خلق الأشياء بعضها من بعض وببعض وفي بعض ويقرننا أنا نرى ذلك ونشهده كقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ {71} إلى قوله أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ {77} [يس 71 - 77] وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج 5] وقال تعالى أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19} وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ {20} [الغاشية 17 - 20] وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة 260] الوجه الثاني فأما حدوث الذوات ابتداءً من غير سبق مادة ولا طينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة

رد المؤلف على الرازي ببيان مشاهدتنا لحدوث الذوات في الحيوانات والنباتات المشهودة

ليست هذه المخلوقات من الماء والطين مثل الصور التي يصورها بنو آدم من المواد مع أن الذات باقية كتصوير الخاتم والدرهم ونحو ذلك من الفضة وتصوير السرير والباب ونحو ذلك من الخشب وتصوير الثوب من الغزل فإن هذه المواضع لم تحدث فيها الذوات وإنما تغيرت صفة الذات وأما الحيوانات والنباتات المشهودة فنفس هذه الذوات شهدنا حدوثها وخلقها لكن خلقت من شيء آخر ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وهذا من أبدع الأمور وأعظمها فلم يكن ما منه خلقت هذه الأمور وإن سماها بعض الناس مادة مثل المواد المعروفة تكون بعينها باقية في الصور أو تكون من جنس الصور وإذا كان كذلك فقد شهدنا إبداع هذه الحقائق الموجودة وصفاتها بعد أن لم تكن موجودة كما قال تعالى أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً {67} [مريم 67] غاية ما في هذا الباب أنا شهدنا خلقها من شيء ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وشهدنا أنها تخلق من أوضع الأشياء وأحقرها وأبعدها عن صفات الكمال كخلق الإنسان من تراب كما قال الشاعر الذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد

وهذا الذي شهدناه من أبلغ الإبداع أنه يخلق من الشيء ما لا يكون مجانسًا له ولا يكون الأصل مشتملاً على ما فيه الفرع من الصفات فهذه الأمور المخلوقة التي لم تكن موجودة في أصلها ولا كامنة فيه هي مبدعة بعد العدم لا منقولة من وصف إلى وصف ولو كانت منقولة فنفس الصفات القائمة بها مبدعة بعد العدم فقد شهدنا إبداع الجواهر والأعراض بعد عدمها وهذا كاف في ذلك إذ لايجب أن نشهد إبداع كل جوهر وعرض بعد العدم بل إذا شهدنا إبداع ما شاء الله من الجواهر والأعراض بعد عدمها كان ذلك محسوسًا لنا ثم عقلنا بطريق الاعتبار والقياس ما لم نشهده وهكذا علمنا بجميع الأشياء نحس بعض أفرادها ونقيس ماغاب على ما شهدناه وإلا فلا يمكن أن يعلم الشخص بإحساسه كل شيء فظهر بذلك أن طريق علمنا بأفعال الله حسًّا وعقلاً مثل طريق علمنا بجميع الأمور وظهر أن ما غاب عنا من أفعال

الله وعلمناه بعقلنا ليس على خلاف ما أحسسناه وتخيلناه بل هو من جنسه مشابه له فضلاً عن أن يكون مباينًا له ونحن قد بينا فيما تقدم الفرق بين مايعلم عدمه وامتناعه بحس أو عقل وبين ما لايعلم له نظير بحس أو عقل فالأول لايجوز أن يكون موجودًا وهذا ينفعنا في ذات الله فإنه ليس كمثله شيء وأما أفعاله ومخلوقاته ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده والغائب من جنس الشاهد وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات كما قال تعالى وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] فلو لم يكن الغائب من أفعاله نظيرًا للشاهد لم يجز ذكره ولايقال إنه على خلاف حكم العقل فالحس والخيال كما في ذاته تعالى فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها ياسبحان الله أيما أبلغ في عقل الإنسان إبداع الإنسان بعد عدمه أم إبداع طينته التي خلق منها بعد عدمها فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه أفليس ذلك أعظم من إبداع تراب أو ماء بعد عدمه والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق آدم آخر

المخلوقات كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ومن

دعوى الرازي أن حدوث الذوات ابتداء ما شاهدناه ولا يقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا

خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلقه نفسه ولا ما خلق قبله كما قال تعالى مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ [الكهف 51] وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده الوجه الثالث قوله أما حدوث الذوات ابتداءً فهذا شيء ماشاهدناه البتة ولايقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا فيقال له قولك لايقضي بجوازه وهمنا ولاخيالنا أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه أو تريد أنه لايعلم جوازه وأيما أردت فعنه جوابان أحدهما أن لا نسلم أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه لوجهين أحدهما أن الوهم والخيال لايمنع كل ما لم يعلم نظيره وإن قيل إنه لايدركه إلا أن يريد الوهم والخيال الفاسد فهذا لانزاع فيه الثاني أن الوهم والخيال قد أدرك نظير هذا كما قدمنا من تخيل ما أحسه من إبداع الجواهر

وأعراضها بعد عدمها الجواب الثاني عن التقدير الأول أنا لو سلمنا أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك فليس محذورًا إذا علمنا جوازه بعقلنا وحسنا فإن أحدًا لم يقل إن كل ما أحاله مجرد التوهم والتخيل يكون ممتنعًا وإنما قيل ما أحالته الفطرة الإنسانية والبديهة والفرق بينهما ماتقدم وأما الجوابان على التقدير الثاني وهو أن الوهم والخيال لا يعلمان جواز ذلك فأحدهما أن لانسلم أن الوهم والخيال لايعلم جواز ذلك فإن الإنسان قد يتخيل ما أحسه بحواسه من الموجودات بعد عدمها وهو يؤلف بتخيل من ذلك ما لم يتخيله كما هو عادة التخيل فيتخيل نظير ذلك وما يركبه من ذلك مما ليس له نظير كما يتخيل جبل ياقوت وبحر زئبق فيتخيل من

تسليم الرازي أن الله هو المحدث للذوات ابتداء من غير سبق مادة وطينة مع منعه لمشاهدتنا حدوث ذلك ومنعه لكون الوهم والخيال يقضي بجوازه ورد المؤلف عليه

المخلوقات ما ليس له نظير ويتخيل الإبداع الذي ليس له نظير فكيف بما له نظير الثاني أنا لو سلمنا أن الوهم والخيال لايعلم جواز ذلك لم يضر ولو لم يعلم جواز نظيره أو وجوده بحس أو عقل فكيف إذا علم ذلك فإنما المدفوع ما علم بالفطرة امتناعه لاما عجز مجرد الوهم عن معرفته الوجه الرابع قوله من أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات ابتداءً من غير سبق مادة وطينة يقال له هذا الذي تذكره إنما ينفعك أن لو كان ماعلمناه بالفطرة يدفع ماسلمنا فكيف إذا لم يدفعه ماعلمناه لا بضرورة بل ولا يدفعه ضرورة ولا نظر بل كيف إذا كان ما شهدناه نظيرًا له ومشابهًا بل كيف إذا كان الذي شهدناه أبلغ من الذي سلمناه فغن الذوات التي ابتدعت ابتداءً إنما هي ذوات بسيطة كالماء ونحوه ومن المعلوم أن إبداع هذا الإنسان المركب بما فيه من الأعضاء المختلفة ومنافعها وقواها والأخلاط المختلفة ومقاديرها وصفاتها من أشياء بسيطة أعظم في الاقتدار وأبلغ في الحكمة من إبداع شيء بسيط لا من شيء لأن هذه المركبات كلها كائنة بعد عدم وتأليفها وتركيبها كذلك وما فيها من

الوجه الثاني للرازي في تقرير دليله العاشر

الجواهر والتأليف والصفات الكائن بعد العدم أبلغ مما في تلك البسائط وهذا كما أن ماشهدناه من الخلق الأول أبلغ مما أخبرنا به من الخلق الثاني في المعاد كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 27] وقال وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79} [يس 78، 79] ونظائره في القرآن فإذا كان مستقرًا في الفطرة العقلية أن ابتداء الخلق أعظم من إعادته فمستقر فيها أن إبداع المركبات وتركيبها وصفاتها بعد العدم أبلغ من إبداع البسائط المفردات لكن المركب لابد أن يكون مسبوقًا قال الرازي وثانيها أنا لانعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان البتة فيقال لو قال لم نتوهم ولم نتخيل أو لم نحس لكان مناسبًا للفظ دعواه حيث ادعى أن معرفة أفعال الله على خلاف الحس والخيال ولم يدع أنها على خلاف المعقول فإن

ذلك يسد عليه طريق الإقرار بها ويوجب جحودها حيث لايثبت ما يخالف المعقول إلا أن يفسر المخالف للمعقول بعدم النظير وحينئذ فلا فرق بين مخالفة المعقول والمحسوس في أن ذلك لا يكون مانعًا في وجود ما يخالف المحسوس والمعقول وهو لايتم غرضه إلا أن يبين الفرق بينهما بثبوت ما يحيله الحس دون العقل كما قدمناه وتلخيص النكتة أن يقال إذا لم تعقل حدوث شيء إلا في زمان وأثبت مالم تعقله فهل هذه حجة لك في إثبات ما تعلم بعقلك امتناعه أم لا فإن كان هذا حجة لك في إثبات ما يعلم العقل امتناعه لم يكن له بعد هذا أن يحيل وجود شيء بعقله بل يجوز وجود الممتنعات المعلوم امتناعها بالعقل ضرورة ونظرًا وهذا لايقوله عاقل وإن قال ليس هذا حجة في إثبات ما يعلم بالعقل امتناعه لم يكن ذلك نافعًا لك في محا النزاع لأن المنازع يدعي أنه يعلم امتناع ما أثبته بفطرته وهذا لم يدل على إحالة ما يعلم امتناعه بالعقل كما سلمته ولا بالحس لأنك لم تذكره

ثم يقال كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في زمان بمنزلة كزننا لم نشهد حدوث شيء إلا في مكان ثم كما أن هذا يقتضي افتقار كل مكان إلى مكان فكذلك ذاك يقتضي افتقار كل زمان إلى زمان وأكثر ما في ذلك عدم نظيرٍ فيما شهدناه ومجرد عدم النظير لايكون حجة على نفي الشيء المعلوم بحس أو عقل فلم يقل احد من العقلاء إن الشيء الذي يعلم ثبوته لايجوز الإقرار به حتى يكون له مثل ونظير مطابق له وهذا كما أنا لم نشهد شيئًا إلا وله خالق ثم لايجب أن يكون للخالق خالق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا هذا وقد أخرجاه في الصحيحين عن عروة عن أبي هريرة ورواه

أبو داود في الرد على الجهمية من سننه ورواه النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لايزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من

ذلك شيء فليقل آمنت بالله وهو أيضًا فيهما عن عروة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أحدكم الشيطان فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ورواه مسلم من حديث محمد

ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لايزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله قال وهو آخذ بيد رجل يعني قد سأله فقال صدق الله ورسوله قد سألني اثنان وهذا الثالث أو قال سألني واحد وهذا الثاني ورواه أيضًا أبو داود والنسائي من طريق آخر وفيه فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد الله الصمد

لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا ويقال له الزمان الذي رأينا الأشياء تحدث فيه هو مقدار حركة الشمس والقمر أو ما يشبه ذلك إذا لم نشهد زمانًا غير مقدار الحركة أو مايقرب من ذلك لتنوع عبارات الناس في تفسير الزمان وإذا كان الزمان من جملة الأعراض مفتقرًا إلى الحركة والمتحرك إذا كان له وجود في الخارج فمعلوم أنا شهدنا حدوث سبب الزمان الموجب له المتقدم عليه بالذات وهو الحركات والحركة والزمان متقاربان في الوجود والحركة متقدمة على الزمان بالذات وإذا كان كل منهما مقارنًا للآخر لاينفك عنه فليس القول باحتياج الحركة التي الحدوث والانتقال إلى الزمان بأولى من القول باحتياج الزمان إلى الحركة والحدوث بل هذا الثاني أقرب لأن افتقار المعلول إلى العلة والمشروط إلى الشرط والمسبب إلى السبب اظهر من الأول يوضح ذلك أن الزمان قد يراد به الليل والنهار كما يراد بالمكان السموات والأرض وهذا هو الذي يعنيه طوائف منهم

الرازي في كتابه هذا كما ذكر ذلك حيث قال الحجة الحادية عشر قوله قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ [الأنعام 12] قال وهذا يشعر بأن المكان وكل مافيه ملك لله تعالى وقوله تعالى وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام 13] وذلك يدل على أن الزمان وكل مافيه ملك لله تعالى ومجموع الآيتين يدل على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان قال وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصبهاني في

تفسيره واعلم أن في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان سرًّا شريفًا وحكمة عالية يشير إلى أنه سببه كما تقدم قلت وإذا كان المراد بالمكان والمكانيات السموات والأرض وما فيهما وبالزمان والزمانيات الليل والنهار وما سكن فيهما فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ {1} [الأنعام 1] وقد قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} [آل عمران 190] ونحو ذلك في القرآن ومعلوم أن النهار تابع للشمس وأما الليل فسواء كان عدم النور أو كان وجوديًّا عرضيًّا كما يقوله قوم أو أجسام سود كما يقوله بعضهم فالله جاعل ذلك كله وهو سبحانه وتعالى كما قال عبد الله بن مسعود إن ربكم

ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وقد جاء في قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً {62} [مريم 62] أن أهل الجنة يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر من جهة العرش فيكون بعض الأوقات عندهم أعظم نورًا من بعض إذ ليس عندهم ظلمة وهذه الأنوار المخلوقة كلها

خلقها الله تعالى فقول القائل بعد هذا لانعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان مثل أن يقال أنا لم أعقل حدوث شيء إلا في ليل أو نهار ثم حكمنا بأن الليل والنهار حدثا لا في ليل ولا نهار ولم نعقل شيئًا إلا في السموات والأرض ثم عقلنا حدوث السموات والأرض لا في سموات وأرض ومعلوم أن هذا الكلام من أفسد الكلام في الحس والعقل فإن الإنسان كما يشهد حدوث الأشياء لا في ليل ولا نهار فهو يشهد أيضًا

حدوث الليل والنهار من غير ليل ونهار وقد يراد بالزمان مجرد التقدير بالحوادث كما يقال هذا قبل هذا بكذا وكذا وهذا بعد هذا بكذا وكذا فيكون المراد به تقدير مابين الحوادث بحوادث أخر وهذا التقدير من جنس العدد للمعدودات فإنه بالعدد يظهر زيادة احد المعدودين على الآخر ونقصانه عنه ومساواته له ثم مع ذلك فليس العدد للمعدودات أمرًا موجودًا في الخارج لجوهر قائم بنفسه أو عرض قائم فيها وإنما هو من باب الفصل والتمييز بين بعضها وبعضها وهي ممتازة ومنفصلة بذواتها وأعيانها لا بشيء غير ذلك والعدد لها كالحيز لها كما سنذكره إن شاء الله تعالى وكذلك الوقت لها ولهذا يفرق بين الوقت والعدد كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما إن ذكر الله مأمور به في كل حال ليس له وقت ولا عدد أي ليس له وقت مخصوص

ولا عدد مخصوص كالصلاة وغيرها وهذا موضع تغلط فيه الأذهان حيث يشتبه عليها ما يأخذه الذهن من الحقائق الموجودة في الخارج بنفس الحقائق الموجودة في الخارج كما يشتبه على بعض الناس الصور الذهنية الكلية المطلقة أنها توجد في الخارج حتى يظن أنها بعينها موجودة في الخارج فالعلم بالحقائق وبعددها وزمانها ومكانها كله متقارب ولا ريب أن الحقائق موجودة في نفسها متميزة بعضها عن بعض بنفسها بما فيها من الصفات القائمة بها وما يتبع ذلك من حيزها ووقتها وعددها وليست هذه الأمور جواهر وأعراضًا منفصلة عن تلك الحقائق بل هي تارة نسب بينها وبين غيرها إنما تعقل باعتبار الغيرين ولهذا يكثر تنازع الناس في مثل هذه الأمور هل هي أمور وجودية أو عدمية وبكل حال فقول القائل إن كل وقت يفتقر إلى وقت وكل حيز إلى حيز بمنزلة قوله كل عدد يفتقر إلى عدد وقوله كل حقيقة قائمة بنفسها تفتقر إلى حقيقة قائمة بنفسها ومما يوضح ذلك أن يقال له أيضًا قول القائل ثم حكمنا

الوجه الثالث للرازي في تقرير دليله العاشر

بأن الزمان حدث لا في زمان أضعف من قول القائل حكمنا بأن الحركة حدثت بلا حركة فإن الزمان هو مفتقر إلى الحركة دون زمان آخر والحركة هي سبب الزمان وإن كانت مقارنة له وليست مفتقرة إلى حركة أخرى فالتعجب من حدوث حركة بلا حركة وهي سبب الزمان وأغنى عن الزمان من الزمان عنها أقرب إلى الصواب من تعجب المتعجب من حدوث زمان في غير زمان وإذا كان التعجب من عدم افتقار كل حركة إلى حركة نوعًا من السخف والهذيان فالتعجب من عدم افتقار كل زمان إلى زمان أبلغ منه في السخف والهذيان كما يتعجب من عدم افتقار كل فاعل إلى فاعل وهذا السؤال من آخر مايورده ويسأل عنه الشيطان لعلمه بأنه آخر مراتب الباطل والهذيان قال وثالثها أنا لانعلم فاعلاً يفعل بعد ما لم يكن فاعلاً إلا لتغير حالة وتبدل صفة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك يقال هذه الوجوه التي أوردها هنا هي من حجج الدهرية إما القائلين بقدم العالم وإما المنكرين للصانع

حيث يحتجون بها على امتناع إبداع كل شيء بعد العدم ويوجبون قدم مادة وكذلك يوجبون قدم مدة وكذلك يقولون يمتنع حدوث الفعل بدون حدوث قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك من أسباب الفعل وهذه حجج الدهرية المتفلسفة المشائين المنتسبين إلى معلمهم الأول أرسطو وإن كان من معظميه من يزعم أنه لم يكن قائلاً بقدم العالم ولكن تكلم بكلام مجمل في ذلك كما زعمه بعض الفلاسفة اليهود فيما جمعه وألفه بين فلسفته وبين الملة التي بعث الله بها الرسل فالمقصود هنا أن نعرف أصل هذا الكلام ونعلم أن

هذا الرازي وإن أورده هنا من جهة أصحابه المسلمين الموافقين على حدوث العالم في احتجاجهم على إخوان لهم مسلمين في مسائل الصفات فإن هذه الحجج هو دائمًا يذكرها في معارضة حجج المسلمين وسائر أهل الملل على نفي قدم العالم فتارة يظهر منه التحير وتكافؤ الأدلة وتقابل الطائفتين بمنزلة المنافق المذبذب الذي لا هو مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وتارة ينصر المسلمين بما يصلح من الجدل ويكثر مما لا يصلح وتارة يؤيد أقوال أولئك المشركين الصابئين المبدليين تأييد عاجز عنهم أو معاون لهم أو معترض عليهم بحق أو بباطل ونحن في هذا المقام الذي غرضه أن يقرر ثبوت ما يعلم امتناعه بالبديهة ويزعم أن هذا من حكم الحس والخيال المردود واحتجاجه بما ذكره من أفعال الله تعالى نجيب عنه بأن نبين أنا شهدنا من أفعال الله تعالى ماهو نظير مالم نشهده أو أبلغ منه وأن ماتعجب منه هو مثل ما شهدناه أو دونه وبأن

نبين أنه إذا ثبت من أفعال الله تعالى ما لم نشهد نظيره فلا محذور في ذلك فإن ثبوت ما لا نعلم له نظيرًا ليس بمحذور في حس ولا عقل وبأن نبين أن الحس والعقل في ذلك سواء فلا يثبت ما يعلم بهما عدمه ويثبت ما لم يعلم بهما نظيره وقد ذكرنا ذلك في المادة والمدة ونصوص المسلمين وسائر أهل الملل ومعارضتهم لهؤلاء الدهرية كثيرة حسنة لكن ليس هذا موضعها وكذلك ما ذكروه في الفاعل وهي حجة ابن سينا أفضل متأخري هؤلاء الدهرية فإنها هي التي اعتمدها حيث زعم أن الذات الواحدة لايصدر عنها شيء بعد أن لم يكن صادرًا إلا بحدوث أمر من الأمور والكلام في ذلك الأمر كالكلام في

الأول فيمتنع الحدوث فيجب القدم ثم ذكر في كيفية صدور

العالم بصدور العقل ثم العقل والنفس والفلك من الكلام ما لا يرتضيه أسخف الناس عقلاً ولايستحسن أحد أن يستعمله إلا في المضاحك والهزليات دون ما هو من أعظم الأمور الإلهيات وذكروا لهم مااختص به العالم من المقادير والصفات وغير ذلك وما الموجب لتخصيصه بذلك دون غيرها إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه إذ الغرض جواب ما ذكره الرازي وهو من نمط الذي قبله أيضًا بوجوه أحدها أن غاية مايذكره إثبات فاعل ليس له نظير وهذا لانزاع فيه وليس ذلك ممتنعًا لا في حس ولا خيال ولا عقل حتى يكون نظيرًا لمورد النزاع وكون ذلك على خلاف حكم الحس والخيال هو مثل كونه على خلاف حكم العقل والقياس الوجه الثاني أن الانتهاء إلى فاعل لا فاعل له مما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية كما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية امتناع حدوث فعل بلا فاعل وكما قالوه في امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإذا كان هذا مما يعلم بالضرورة الفطرية كيف يُجعل معارضًا أيضًا لما يعلم بالضرورة الفطرية

فالفطرة الضرورية تعلم امتناع أن يكون لكل فاعل فاعلاً وامتناع أن يكون الفعل بلا فاعل وأن يكون الفاعل لا داخل المفعول القائم بنفسه ولا خارجه وإذا كان كذلك فتمثيل الفاعل الذي لا فاعل له بالفاعل الذي له فاعل ممتنع أيضًا في الفطرة الضرورية الوجه الثالث أن قوله لم نشهد فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً إلا تغير حالة وتبدل صفة إن أراد به استحالته من حال إلى حال بحيث أن ذاته تستحيل فليس الأمر كذلك فإن الشمس والقمر والكواكب كل في فلك يسبحون ومع هذا لم يتغير حالها ولم تتبدل صفاتها وإن عنى به أن نفس الحركة هو تغير وتبدل كما يقوله من يقول من المتكلمين كان المعنى لم نشهد فاعلاً إلا متحركًا متحولاً إما حركة روحانية وإما حركة جسمانية فقوله بعد ذلك ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم من غير شيء من ذلك مما ينازعه فيه خصومه هنا وغير خصومه فإن المتكلمين يسمون هذه مسألة حلول الحوادث بذاته وقد علم أن مذهب الكرامية القول

بها وهم خصومه في هذه المسألة وقد ذكر في أعظم كتبه نهاية العقول أنه ليس في هذه المسألة دليل عقلي على النفي فلا يمكنه أن يقيم عليهم فيها دليلاً عقليًّا وغاية ما اعتصم فيها بما ادعاه من الإجماع على أنه سبحانه وتعالى غير موصوف بالنقائص وأن الحادث إن كان صفة كمال فقد كان قبل ذلك ناقصًا وإن لم يكن صفة كمال فالإجماع منعقد على أنه تعالى لا يوصف بغير صفة الكمال وقد تكلمنا على ماذكر في غير هذا الموضع وإذا لم يكن في ذلك دليل عقلي لم يصح أن يكون ذلك معارضًا لما يقول المنازع أنه معلوم بالفطرة الضرورية ومن أعجب العجب قوله عن المشبهة وهم عنده الكرامية والحنابلة أنهم وافقوه على ماادعاه من أن معرفة

أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف الحس والخيال ثم يحتج على ذلك بأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء في ذاته وهو يعلم أن القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى وتقدس هو شعار الكرامية وأنهم متفقون على ذلك وهذا مثل أن يقال عن المعتزلة وقد وافقونا على أن الله تعالى يحدث أفعال العباد بغير فعل منهم ثم إن القول بذلك هو مذهب أكثر أهل الحديث بل قول أئمة أهل الحديث وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة وأئمتها وكثير من الفقهاء والصوفية أو أكثرهم وفيهم من الطوائف الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية من لايحصي عدده إلا الله تعالى وقد ذكر هو في غير موضع من كتبه أن القول بحلول الحوادث يلزم كل الطوائف حتى المعتزلة والفلاسفة وذكر ذلك عن

أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهو من أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرًا وأنه قال إن ألوهيته لهذا العالم لا تتم إلا بذلك فكيف يحكى الاتفاق على خلاف ذلك

الوجه الرابع للرازي في تقرير دليله العاشر

فإن قال قائل الفاعل منا وإن حدثت فيه حركة فالمحدث لها غيره وخالق العالم لا محدث لفعله غلا هو فهذا هو الفرق قيل هذا حق كما أن ذاتنا محدثة أحدثها غيرنا وهو سبحانه قديم واجب الوجود رب كل شيء ومليكه هو الخالق وما سواه مخلوق ولهذا كان السؤال عمن خلق الله منتهى مسائل الشيطان التي يضل بها الإنسان مع ظهور فسادها بالبرهان والرازي لم يستدل بكونه فاعلاً لما لم يفعله من غير محرك من خارج وإنما استدل بكونه فاعلاً من غير فعل في نفسه وهذا هو الذي ينازعونه فيه وهو لو استدل بالأول لم يصح لأنها هي مسألة وجود الصانع نفسه وهو في هذا المقام مقصوده أن يبين أن أفعاله على خلاف حكم الحس والخيال ليس مقصوده أن نفسه ثابتة على خلاف الحس والخيال قال الرازي ورابعها أنا لانعقل فاعلاً يفعل فعلاً إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم

رد المؤلف عليه من وجوه

لغير شيء من هذا والكلام عليه من نمط الذي قبله وإن كان هذا السؤال هو ببحوث القدرية والمعتزلة أخص كما أن الذي قبله ببحوث الفلاسفة والدهرية أخص وذلك من وجوه أحدها أن غاية هذا ثبوت ما لا نظير له وليس ذلك ممتنعًا كما تقدم ولا فرق في ذلك بين حكم الحس والخيال وحكم العقل كما تقدم غير مرة الثاني أنه هو خالق كل شيء ومن أجلب لنفسه منفعة من غيره أو نفع عن نفسه مضرة من غيره كان محتاجًا إلى ذلك وهذه حال الفقر إلى غيره فما دل على أنه رب العالمين دل على غناه عن غيره وبذلك أخبر عن نفسه كما قال يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني

وتمام الكلام كما بيناه قبل الوجه الثالث أن يقال ماتعني بقولك إنا لانعقل فاعلاً يفعل فعلاً إلا لجلب منفعة أو لدفع مضرة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا أتريد أنه سبحانه منزه عن نعوت المخلوقين الناقصين المحتاجين إلى غيرهم في اجتلاب منافعهم ودفع مضارهم كما يوجد أن الحي من الإنسان وغيره يطلب ما ينفعه ويلائمه من غيره ويدفع ما يخاف عليه من الضرر من نفسه ومن غيره فهذا حق فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إليهم بل هو الأحد الصمد الحي القيوم وهو سبحانه لايخاف ضرر شيء لا من نفسه ولا من غيره بل العباد عاجزون عن أن يلحقوا به ضررًا أو نفعًا قال تعالى في الحديث الصحيح الذي رواه رسوله صلى الله عليه وسلم يا عبادي إنكم لن

تقرير الرازي أن معرفة صفات الله أقرب إلى العقول من معرفة ذاته وأنها على خلاف حكم الحس والخيال من وجوه

تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني أو تريد أنه سبحانه وتعالى لايحب فعله ويرضاه ويفرح به فإن أردت هذا لم يسلم لك ذلك فإن الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة قد دل على وصفه بالمحبة والرضا والفرح أو تريد أنه لايحدث له في هذه الأمور مالم يكن قبل ذلك فهذا هو الوجه الأول وقد تقدم الكلام عليه ثم قال الرازي وأما تقرير هذا المعنى في الصفات فذلك من وجوه أحدها أنا لانعقل ذاتًا تكون عالمة بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة

مناقشة المؤلف للرازي ورده عليه من وجوه

فإنا إذا جربنا أنفسنا وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ثم إنا مع ذلك نعتقد أنه تعالى وتقدس عالم بما لا نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل فيه اشتباه والتباس فكان كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات أمرًا على خلاف مقتضى الوهم والخيال والكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا الكلام أن علم الله ليس من جنس علومنا ولا مماثلاً له وأنا لانستطيع أن نعلم كعلم الله تعالى هذا من أوضح الأمور وأبينها عند الخاصة والعامة فإن أحدًا من الخلق كما لا يظن أن ذاته كذات الله تعالى لايظن أن علمه كعلم الله تعالى ومن المعلوم لكل أحد أن الله أكبر وأعظم مما تعلمونه وتقولونه فيه فكذلك علمه وقدرته وسائر صفاته أكبر وأعظم من أن يعلم كنه علمه أو يوصف ولم يقل أحد من البشر إن علم الله تعالى مثل علمنا ولا توهم أحد ذلك ولا تخيله فأي شيء في هذا مما هو على خلاف مقتضى الوهم

والخيال غاية ما فيه أنه ليس مثلما نتوهمه ونتخيله في نفوسنا وهذا لا ريب فيه وهذا يظهر بالوجه الثاني وهو أن الله سبحانه ليس مثل مانعلمه ونعقله ونحسه من نفوسنا فضلاً عن أن يكون مثل ما نتخيله ونتوهمه من نفوسنا فلا اختصاص للوهم والخيال بذلك وإذا كان الله سبحانه ليس مثل ما نحسه ونعلمه ونعقله ونتخيله فينا ولم يكن في ذلك ما يقتضي أن يكون منافيًا لما نعلمه لم يجب أن يكون منافيًا لما نحسه ويقرر هذا بالوجه الثالث وهو أن العلم بامتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه علم فطري ضروري ليس هو من خصائص الوهم والخيال وأما ماذكره من إحاطة علم الله تعالى فليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك بحال الوجه الرابع أن كل ما وصف به علم الله ليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك لا محسوس ولا متوهم ولا متخيل ولا معقول إلا أن يكون من الاعتقادات الباطلة التي لم تعلم بضرورة ولا نظر ولا ريب أن ذات الله وصفاته على خلاف الاعتقادات الباطلة التي يظن أنها معقولة أو محسوسة أو متخيلة ولكن لا فرق في ذلك بين ما يظن انه معقول معلوم وما يظن أنه محسوس ومتخيل

الوجه الخامس أن قوى بني آدم في العلم متفاوتة تفاوتًا لاينضبط طرفاه أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان ولبعضهم من القوة على استحضار معلومات في وقت واحد ما ليس لبعض وليس لذلك حد معلوم للناس يعتقدون أن أحدًا من البشر لا يمكن أن يكون أقوى من ذلك بل فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى كما قال السلف وإذا كان بنو آدم متفاوتين في العلم والقدرة ولم يكن عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر من العلوم والأعمال مانعًا من اعتقاده ثبوت ذلك لغيره مع كونه مجانسًا له مساويًا في الحقيقة فلأن لا يكون عجز أحدهم عما يوصف الله تعالى به من العلم مانعًا من

اعتقاد وجوب ذلك في ربه عز وجل بطريق الأولى والأحرى ولا يكون ذلك معتقدًا ما يخالف محسوسه ولا معقوله الوجه السادس أنه إذا كان الآدمي يعلم من اقتدار غيره على استحضار العلوم المعضلة في زمن واحد ما لايقدر هو عليه كان ذلك دليلاً عنده على أن رب العالمين أولى بأن يكون موصوفًا بالعلم بمعلومات معضلة لايقدر العبد عليها الوجه السابع أن العبد يعلم أن ربه يدبر أمر السموات والأرض في آن واحد لايشغله شأن عن شأن ومعلوم أن التدبير يحتاج إلى قدر زائد عن العلم من القدرة والمشيئة والحكمة مع أن العبد يعلم عجز نفسه عن نظيره من نحو ذلك بأن يكون معتقدًا بأن ربه بكل شيء عليم وإن كان عاجزًا عن ذلك بطريق الأولى والأحرى وبالجملة فهذا الوجه من الوجوه التي ذكرها في تقريره هذه المقدمة وكذلك ما ذكره في قدرة الله تعالى وفي سمعه وفي بصره بعد هذا كما سنذكره

الوجه الثاني من وجوه الرازي في تقرير أن صفات الله على خلاف الحس والخيال

قال الرازي وثانيها أنا نرى أن كل من فعل فعلاً فلابد له من آلة وأداة وأن الأفعال الشاقة تكون سببًا للكلال والمشقة لذلك الفاعل ثم إنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع انه منزه عن المشقة واللغوب والكلال يقال له لاريب أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة 255] أي لايكرثه ولا يثقل عليه وقال في كتابه وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ {38} [ق 38] وقد ذُكر أنها نزلت لما قال من قال من اليهود إن الله خلق السموات والأرض ثم استراح يوم السبت فأخبر الله أنه ما مسه من لغوب واللغوب الإعياء وإنما يستريح من

أعيا ومنه قول أبي قتادة في حمار الوحش فسعى القوم حتى لغبوا وقال أهل الجنة وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ

إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ {35} [فاطر 34 , 35] وهذا مما لايتنازع فيه المسلمون وإذا كان كذلك فالكلام على ماذكرته من وجوه أحدها أن هذا بيان أن قدرة الله تعالى كاملة تامة لانقص فيها ليست مثل قدرة العباد كما ذكرنا في العلم وهذا حق ولم يقل أحد إن هذا مخالف لا للمحسوس ولا للمعقول وإنما هو مخالف لمقدار صفاتنا الثاني أن هذا يُشبه هذا أن المعلوم والمعقول والمحسوس والمتخيل نسبة واحدة فقولك إن ثبوت هذا على خلاف حكم الوهم والخيال كقول القائل إنه ثابت على خلاف

حكم العقل والعلم الثالث أن هذا معناه أن الله ليس مثلنا ولا صفاته كمقدار صفاتنا وقد مضى أن انتفاء مثل الشيء لا يوجب انتفاءه فكيف إذا كان إنما نفى مماثلته لنا فقط وإن كان الله تعالى ليس كمثله شيء وقد قدمنا أنه إن عنى بثبوته على خلاف الحس والخيال عدم النظير فهو حق لكن نفي موجود لا داخل العالم لا خارجه معلوم بالفطرة البديهية لابالقياس ولا بعدم النظير الرابع أن هذه القدرة ليس عندنا اعتقاد بنفيها لا محسوس ولا معقول بخلاف وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن عندنا من العلوم الضرورية والنظرية ما ينفي ذلك الخامس أن قوى بني آدم في العقل مختلفة فإذا كان عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر ليس مانعًا من اعتقاد ثبوت تلك القدرة مع اشتراكهم في الجنس فأن لا يكون عجز أحدهم مانعًا من الإيمان بقدرة خالقه أولى وأحرى السادس أنه إذا كان أحدهم يعلم من قدرة غيره على العمل ما ليس هو عنده ولا يكون ذلك ممتنعًا لا في حسه ولا في

الوجه الثالث من وجوه الرازي في تقرير أن صفات الله على خلاف الحس والخيال

خياله ولا في عقله فأن يعلم من قدرة خالقه ما ليس هو عنده أولى وأحرى قال الرازي وثالثها أنا نعتقد أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السموات العلى وتحت الأرضين السفلى ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود مع أنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى كذلك يقال له لاريب أنه سبحانه وتعالى كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وإنه ليخفى على بعض كلامها فأنزل الله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة 1] وفي

الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم أترون الله يسمع مانقول فقال الآخر يسمع إن أعلنا ولايسمع إن أسررنا فقال الثالث إن سمع منه شيئًا فإنه يسمع كله فأنزل الله تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا

تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ {23} [فصلت 22 ¸23] لكن الكلام في سعة سمعه وبصره سبحانه وتعالى كالكلام في سعة علمه وقدرته سواء وليس فيما ذكره إلا أن ذلك ليس مثل سمعنا وبصرنا وثبوت مثل هذا مما لاينازع فيه عاقل ولا ينفيه حس ولا عقل ولا تخيل بل ثبوت مالا نظير له في الخلق

لا ينفيه الحس والعقل فكيف بما ليس له نظير مساو أيضًا فالعقل والحس والخيال والوهم بالنسبة إلى هذا سواء فقوله ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود بمنزلة قول القائل إن العقل البشري والعلم الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود وهو لايقول إن الله ثابت على خلاف حكم العقل والعلم فيلزمه في الحس والوهم والخيال مثل ذلك وأيضًا فقوله على خلاف ذلك إن أراد به أن الوهم والخيال يعجز عن إدراك ذلك لم يضر فإن العجز عن إدراك الشيء من بعض الوجوه لا ينفي القدرة على معرفته من وجه آخر وإن أراد أن الوهم والخيال يدرك ما ينافي ذلك للم يصح ذلك فليس في وهمنا وخيالنا الصحيح ما ينافي ذلك وإن فُرض اعتقاد فاسد ينافي ذلك فهو كالاعتقاد الذي يظن صاحبه أنه معقول أو معلوم وقد قدمنا أن لفظ الوهم والخيال يقال على الباطل تارة وعلى المطابق أخرى فالمطابق لا ينافي ذلك والباطل لا نزاع فيه وأيضًا فاعتقاد امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه

النتيجة التي استخلصها الرازي من أدلته العشرة وهي القول بأن تنزيه الرب عن الحيز والجهة لا يرده صريح العقل

ثابت بالضرورة الفطرية والمتوهم المتخيل لا يكون ثابتًا بالفطرة الضرورية كما تقدم قال الرازي فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال وقد ثبت أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة كنه الصفات فلما عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال فلأن نعزلهما في معرفة الذات كان ذلك أولى وأحرى فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه سبحانه وتعالى منزهًا عن الحيز والجهة ليس أمرًا يدفعه صريح العقل وذلك هو تمام المطلوب قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه

والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولاً لم يجب أن يكون هذا معقولاً الثالث أن المنازع له قال أنا أعلم بالفطرة الإنسانية التامة امتناع هذا الموجود لا يقول إن ذلك نعتقده بوهمنا وخيالنا دون علمنا وعقلنا الرابع أن جميع ماذكره إنما يدل على ثبوت ما لا نظير له لا يدل على ما نعتقد انتفاءه والأول مسلم ومورد النزاع من الثاني الخامس أن الوهم والخيال المطابق والعلم والعقل والإحساس فيما ذكره سواء كما تقدم بيانه ثم إنه لم يعزل العلم والعقل في معرفة الله تعالى فلا يعزل الحس الصحيح والتخيل الصحيح وأما الفاسد فهو معزول وإن قيل إنه

معقول ومعلوم كما يعزل ما يذكره الجهمية وغيرهم من أهل الإلحاد من الأمور التي يسمونها عقليات وهي جهليات السادس أن المنازع له قد يسلم أن يعزل الوهم والخيال في معرفة أفعال الله تعالى وصفاته وذاته لكن لم يعزل الفطرة الإنسانية والمعارف الضرورية ومسألتنا من هذا الباب ولم يذكر حجة واحدة تنفي كون ذلك معلومًا بالضرورة ولا يقبل الاحتجاج على خلاف ما يعرف بالضرورة السابع أنه إنما أثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته ليست مماثلة لأفعالنا وصفاتنا وذلك لايقتضي كونها ثابتة على خلاف الوهم والخيال فإن الوهم والخيال لاينفي ما لم يكن مثاله موجودًا فيه بل غاية ماذكره انتفاء المثل في الوجود والوهم والخيال لاينفي ما لا مثل له بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء إثباتًا لما لا نظير له فيما يقدره ويصوره من الأمور التي تكون موجودة فيه وليس لها نظير في الخارج وأما قوله فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه منزهًا عن الحيز والجهة ليس أمرًا يدفعه صريح العقل وذلك تمام

المطلوب فقد تبين بأدنى نظر أنه ليس فيها وجه واحد يبين إمكان وجود ذلك لا الإمكان الذهني ولا الخارجي أعني لم يثبت أن العقل يعلم إثبات ذلك ولا أنه لا يعلم امتناعه ولو لم يكن عندنا اعتقاد ينفي إمكان ذلك بضرورة أو نظر فكيف إذا كان اعتقاد امتناع ذلك معلومًا بالضرورة وقد تقدم أن ما اعتقد امتناعه بالضرورة وأراد الرجل أن يبين أنه غير ممتنع بالضرورة ولا بالنظر بل هو ممكن في الذهن فلا بد أن يبين أن ما يعلم امتناعه بالضرورة أو النظر ليس هو الذي لا يعلم امتناعه في الذهن ليبقى الإمكان الذهني مع أن الإمكان الذهني لا يستلزم الإمكان الخارجي كما تقدم

فصل: في أجوبة أهل الإثبات المنازعين للنفاة كالرازي وأمثاله في دعواهم وصف واجب الوجود بأنه لا داخل العالم ولا خارجه

فصل ثم إن المنازعين له إذا كانوا يقولون نعلم بالضرورة امتناع ذلك بل وقالوا إن مايقول النفاة إنه الحق الذي يجب وصف واجب الوجود به فإنه ممتنع وجوده معلوم امتناعه بضرورة العقل بل يقولون إنا نعلم بضرورة العقل أن رب العالمين فوق العالم فنحن نعلم بضرورة العقل وجوب ماادعى امتناعه بالنظر وامتناع ماادعى إمكانه بالنظر وقد يقولون نحن نعلم بالفطرة والضرورة أن الموجود أو أن الموجود الذي ليس هو صفة لغيره أو أن واجب الوجود لا يكون إلا قائمًا بنفسه يمتنع غيره أن يكون بحيث هو وأنه ليس خيالاً وشبحًا في النفس بل هو شيء موجود له التحقق والثبوت الذي يعلم بالقلوب أنه تحقق وثبوت وإن سماه المنازع تحيزًا وتجسمًا ونحو ذلك ونعلم بالضرورة والفطرة أن ما لا يكون كذلك لا يكون إلا معدومًا كما نعلم

بالضرورة والفطرة أنه ما من موجودين حيين عالمين قادرين بل ما من موجودين إلا وهما مشتركان في مسمى الوجود والثبوت وإن تميز أحدهما عن الآخر بخاصيته التي تخصه سواء كان واجبًا أو لم يكن وما به الاشتراك ليس هو ما به الامتياز ولا مستلزمًا له وإلا كان أحدهما هو الآخر إذا كان المشترك مستلزمًا للمميز فإنه إذا لم يكن أحدهما مختصًّا بما يميزه بل حيث تحقق المشترك تحقق المميز والمشترك ثابت لهما فإذا كان المميز ثابتًا لهما لم يكن لأحدهما تميز يخصه فلا يكون أحدهما غير الآخر إذ لابد في المعينين من أن يمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وإذا كان كل منهما موصوفًا بقدر مشترك والقدر المشترك أن يكون لأحدهما شبه ما للآخر ولو من بعض الوجوه امتنع أن يكون في الوجود موجود لا يشارك الموجودات في شيء من الأمور الوجودية ولا يشابهها في شيء من ذلك ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن العلماء يعلمون بعقلهم انتفاء ذلك كما قال الإمام أحمد رحمه الله في رده

على الجهمية لما ذكر عنهم ما وصفوه من السلوب وأنهم قالوا كل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه وهذا معنى قول المؤسس وذويه إنه على خلاف الحس والخيال أو العقل وقد تقدم ذكر ذلك قال فقلنا هو شيء قالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لاشيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لايثبتون شيئًا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون به في العلانية فإذا قيل لهم

من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لاتثبتون شيئًا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فذكر أولاً أن ما يقال إنه شيء ثم يقال إنه لا كالأشياء أي لا يشابهها بوجه من الوجوه بل يخالفها من كل وجه فهذا قد عرف أهل العقل أنه لا شيء لأن العلم بذلك عام في أهل العقل ولما ذكر ثانيًا من يعبدون قالوا نعبد المدبر لهذا الخلق فهذا إخبار عن المعبود الذي تجب عبادته في الدين فلما قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة قال قد علم المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا لأن المسلمين يوجبون عبادة الله تعالى فذكر أولاً عن عموم أهل العقل أنهم لا يثبتون شيئًا وذكر ثانيًا عن أهل الدين أنهم لا يعبدون شيئًا ذكر في كل مقام ما يناسبه وذلك لأن المجهول لايعرف فلا يقصد ولا يعبد ومن لا يعرف

بصفة تميزه من غيره لم يكن معلومًا فلا يكون معبودًا فهنا ذكر أن لابد من صفة تميزه عن غيره والنفاة يقولون هذا تجسيم وذكر أولاً أنه يمتنع أن لا يكون بينه وبين شيء من الموجودات قدر مشترك ولا شبه بوجه من الوجوه والنفاة يقولون هذا تشبيه فهم بما عنوه بلفظ التشبيه والتجسيم أوجبوا أن يكون الموصوف بنفي ذلك على المعنى الذي قصدوه معدومًا بل واجب العدم ممتنع الوجود وإن كان اللفظ يحتمل نفي معان باطلة مثل نفي كونه مشابهًا للمخلوقات مماثلاً لها من بعض الوجوه فإن نفي هذا واجب وكذلك نفي كونه يقبل التفريق والتفكيك فلا يكون صمدًا أحدًا هو أيضًا واجب فتكلموا أيضًا باللفظ المجمل المتشابه الذي يحتمل الحق والباطل ولكن قصدوا به ماهو باطل وإن قصدوا به ما هو أيضًا حق أوهموا الناس أنهم لم يقصدوا به إلا نفي ما هو باطل كما قال أحمد رحمه الله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويوهمون جهال الناس بما يشبهون عليهم

فصل: في الجواب الثاني من أجوبة أهل الإثبات المنازعين للنفاة وهو الاستدلال بالنظر العقلي على أن الذي أثبتموه ممتنع وجوده معلوم امتناعه من وجوه

فصل ويقول المنازعون نحن نعلم بالنظر العقلي والاستدلال كما علمنا بالفطرة الضرورية لامتناع وجود ما أثبته المنازع من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ونعلم انتفاء ذلك وثبوت ضده بالكتاب والسنة وبالإجماع وبالنقل المتواتر عن الأنبياء المتقدمين وباتفاق أهل الفطر السليمة من جميع العقلاء فصاروا يقولون إن كل واحد من ثبوت ما يقوله ونفي ما يقوله الجاحد المخالف يعلم بالفطرة والضرورة والبديهة والذوق

الوجه الأول: قاعدة جليلة وهي أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقا وتارة باطلا باتفاق العقلاء وهو قسمان

والوجد ويعلم بالفطرة والأدلة العقلية ويعلم بالأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع ويعلم بالنقل المتواتر عن الأنبياء ويعلم باتفاق العقلاء ذوي الفطر السليمة وإذا استدلوا بالنظر والقياس والمعقول والبراهين التي يحتج بنظيرها مخالفوهم بل بالبراهين التي هي أصح من ذلك وهي حق في أنفسها قرروا ذلك من وجوه أحدها وفيه قاعدة جليلة جامعة وهو أن يقال لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقًّا وتارة باطلاً وهذا متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كل ما لم يحسه مماثلاً لما أحسه إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها ولم يحس ما يماثلها من كل وجه بل من الأمور الغائبة عن حسه ما لا يعلمه أو مايعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ماشهده وهذا هو المعقول كما أن الأول هو المسموع

والمحسوس ابتداءً هو ما يحسه بظاهره أو باطنه وهذا بين القسم الثاني وهو أنهم متفقون على أن من الأمور الغائبة عنة حسه ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شهده كما يعلم ما يغيب عنه من أفراد الآدميين والبهائم والحبوب والثمار وأفراد الأطعمة والأشربة واللباس ونحو ذلك فإنما يسميه الفقهاء ونحوهم جنسًا واحدًا أو هو ماله اسم جامع يجمع أنواعًا يميز بينها بالصفات كالحنطة والثمر والإنسان والفرس وهو الذي يسميه المنطقيون النوع وما هو اخص من ذلك وإن كان قد يسمى أيضًا جنسًا أو صنفًا أو نوعًا كالعربي والعبري والفارسي والرومي وكالتمر البرني والمعقلي ونحو ذلك لا ريب أن الإنسان لم يحس جميع أعيانه وأفراده وإنما يعلم غائبها بالقياس على شاهدها فهذا أصل متفق عليه بين العقلاء ومن حكى من أهل الكلام أن من الأمم أمة لا تقر بشيء من المعقولات وإنما تقر بما أحسته ويذكرون ذلك عن

البراهمة السمنية فلا ريب أن هذا النقل وقع فيه غلط من هؤلاء وتغليط من أولئك وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أصل هذا النقل لما ذكر مبدأ حدوث الجهمية في هذه الملة فقال وكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من الترمذ وكان صاحب خصومات

وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي ناسًا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا بالجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلهًا قال الجهم نعم فقالوا له هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مجسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى صلى الله على نبينا وعليه هي من روح الله تعالى ومن ذات الله

تعالى فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحًا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا أو مجسًّا قال لا قال فكذلك الله لايُرى له وجه ولايُسْمَعُ له صوت ولا تُشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] ولاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه كله على هذه الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف

الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بشرًا كثيرًا فقد ذكر بأن السمنية طالبوه بأن يكون إلهه معروفًا ببعض حواسه الخمس وأن ما لا يعرفه هو بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعلمه وهذا يقتضي أن ما لا يحسه الإنسان بشيء من حواسه الخمس فإنه لايعرفه وهذا تغليط منهم فظن أنهم يقولون إن مذهبهم أن الإنسان لايعرف شيئًا إلا ما يحسه ببعض حواسه الخمس ثم إن الجهم أجابهم بدعوى وجود موجود لا يمكن إحساسه أيضًا فقطعهم مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضًا ولو كانوا هم لايقرون إلا بما

أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس وقياس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لايمكن أن يحتج بقول الأنبياء على كذبهم ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لايقبلون القياس في المحسوس لكانوا لايقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء ر يعرف حكمه من جهة النظير بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودًا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس لايقولون الإنسان المعين لايعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضًا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لايتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ

مبلغ التواتر لايتفقون على إنكار ما يعلم بالضرورة كما ذكر المؤسس في هذا الكتاب أن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به طوائف العقلاء أن يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لايتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطؤ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطؤ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كما قد يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لعارض فهو وإن كان ظلومًا جهولاً فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدًا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لايعيشون بدونه لايتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبًا وأمًّا وأخًا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه

لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لابد من الاعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لابد أن يعرفوا أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وان أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا بد أن أحدهم يستعين بالآخر على جلب منفعة ودفع مضرة فيأتيه فيصلح له طعامًا وشرابًا أو لباسًا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعاتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضًا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أتى به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأسباب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل أمة من رئيس مطاع وكبير منهم

لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحسيات وهذه الأفعال ولكن اشتبه النوع بالشخص فلما كان قولهم إن ما لا يعرف بجنس الحواس لم يعترف به اشتبه ذلك بأن كل ما لا يعرفه هذا الجنس المعنى لم يعترف به وبين القولين بون عظيم جدًّا فإن هذا الثاني في غاية الجحد والتكذيب ولهذا اشتد إنكار الناس كلهم لهذا القول وجعل هؤلاء المتكلمون هذا أحد أنواع السفسطة

معنى السفسطة ومنشأ الغلط في جملتها وتفصيلها

ولكن غلطهم في تفصيل السفسطة كغلطهم في جملتها فإنهم ذكروا أن من الناس من ينكر جملة العلوم ويجحدها ومنهم من يشك ويقول لا أدري ويسمونهم المتجاهلة واللاأدرية ومنهم من يقول إن الحقائق تتبع العقائد ثم قالوا منهم من يعترف بالحسيات فقط ومنهم من يضم إلى ذلك المتواترات ويقولون إن رئيس هؤلاء شخص يقال له سفسطاء نسبوا إليه كما نسبت المانوية

تقسيم الحكمة القياسية

والجهمية إلى رئيسهم وهذا غلط فإن أمة من الأمم لا يتصور أن تنكر ذلك ولا يتصور أن عاقلاً يصر على إنكار ذلك ولكن قد يعرض للعقل نوع من الفساد كما يعرض للحس فينكر المنكر لذلك ما دام به ذلك المرض والآفة العارضة لعقله أو حسه أما أن يكون ذلك مقالة ومذهبًا يقولها طائفة عقلاء يعيشون بين بني آدم فهذا لايتصور ولكن وقع الاشتباه في هذا النقل فإن هذه الكلمة هي كلمة معربة وأصلها باليونانية سوفسقيا أي حكمة مموهة فإن صوفيا باليونانية هي الحكمة ولهذا يقولون فيلاسوفا أي محب الحكمة وهم قسموا الحكمة القياسية إلى خمسة أنواع

أثر تعريب الكتب اليونانية في انقسام الناس وفي عقائدهم

برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة ومغلطية فهذه المموهة المغلطية هي التي تشبه الحق وتوهم أنها حق وهي باطلة قطعًا لايجوز أن يظن صدقها ولا أن تتأثر النفس بها فإن الشعرية قد تتأثر النفس بها كما يتأثر الإنسان بأقوال الشعر التي فيها من المدح والذم ما يجزم عقله بكذبه لكن لما فيها من التخييل والتشبيه يؤثر في النفس وإن علم انها ليست مطابقة وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل فسموها سوفسقيا أي حكمة مموهة ثم إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية وقبل ذلك وبعد ذلك وأخذها أهل الكلام وتصرفوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم وفيها من أمور الطب والحساب ما لا يضر كونه في ذلك وصار الناس فيها أشتاتًا قوم يقبلونها وقوم يحكون مافيها وقوم يعرضون

ما فيها على أصولهم وقواعدهم فيقبلون ما وافق ذلك دون ما خالفه وقوم يعرضونها على ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة وحصل بسبب تعريبها أنواع من الفساد والاضطراب مضمومًا إلى ما حصل من التقصير والتفريط في معرفة ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة حتى صار ما مدح في الكتاب والسنة من مسمى الحكمة يظن كثير من الناس أنه حكمة هذه الأمة أو نحوها من الأمم كالهند وغيرها ولم يعلموا أن اسم الحكمة مثل اسم العلم والعقل والمعرفة والدين والحق والعدل والخير والصدق والمحبة ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها

فإن كل أمة من أهل الكتب في كثير من ذلك أو أكثره إن تتبع إلا الظن وما تهوى الأنفس ولهذا قال تعالى وتقدس كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] فإنما يفصل النزاع بين الآدميين كتاب منزل من السماء ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين عند تنازعهم بالرد إليه كما قال تعالى وتقدس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وهذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعبرون باللفظة المعربة من سوفسقيا إلى سوفسطا عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويهه بالباطل وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق وليس الأمر كذلك وإنما هو عارض لبني آدم في كثير من أمورهم

فكل من جحد حقًّا معلومًا وموّه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقرًّا بأمور أخرى وهو معاند سوفسطائي إذا علم ما أنكره قال تعالى وتقدس وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل 14] فهؤلاء سوفسطائيون في هذا الجحود وإن كانوا مقرين بأمور أخرى وقال تعالى وتقدس فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ {33} [الأنعام 33] ولهذا كان جمهور من يكذب بالحق الذي بعث الله به رسله من ذوي التمييز هم من الجاحدين المعاندين وهم من شر السوفسطائيين فهكذا ماذكروه عن السمنية إنما كان اصل قولهم إن الموجود لابد أن يمكن أن يكون محسوسًا بإحدى الحواس لا أنه لابد لمن أقر به أن يحس به وهذا الأصل الذي قالوه عليه أهل الإثبات فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يُرى متفقين على أن ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدومًا لا موجودًا

فكان حق الجهم أن يقول لهم إن أردتم أني لابد أن أحس بإلهي فلا يجب عندكم أن ينكر الإنسان ما لم يحسه هو وإن أردتم انه لا بد أن يمكن أن يحس به فإلهي يمكن أن يرى وأن يسمع كلامه وإن أردتم أنه لابد أن يكون قد عرفه بالحس بعض الآدميين فهذا مع أنه غير واجب فقد سمع كلامه من سمعه من الرسل وهو احد الحواس وقد رآه بعضهم أيضًا عند كثير من أهل الإثبات وكان يقول لهم أتريدون أنه

لابد أن يحسه هذا الحس الظاهر أم يكفي إحساس الباطن إياه وشهوده إياه الأول منقوض بأحوالنا الباطنة الجسمانية والنفسانية وأما الثاني فمسلم وقد شهدته بعض القلوب

فعدل عن ذلك وادعى وجود موجود لا يمكن إحساسه وهو الروح وهذا هو قول المتفلسفة المشائين فيها وحجته هذه من جنس حجة أبي عبد الله الرازي لما ادعى جواز وجود موجود لايمكن إحساسه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه واحتج على ذلك بقول هؤلاء المتفلسفة ومن وافقهم في العقول والنفوس ويقول بقولهم وقول من وافقهم من متكلمي المسلمين في النفوس الناطقة فجهم أول هؤلاء

اضطراب المتكلمين والفلاسفة في قياس الغائب على الشاهد والسلف في ذلك على العدل والاستقامة وموافقة العقل والنقل

ومقدمهم الأول ولهذا ألزمته هذه الحجة أن يصف الرب تعالى وتقدس من الحلول والاتحاد بنحو مما قالته النصارى في المسيح لكن أولئك خصوه بالمسيح والجهمية تطلقه في الموجودات فقولهم في كل مكان نظير قول النصارى أنه حال في المسيح إذا تبين ذلك فنقول المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطربون كل منهم يستعمله فيما يثبته وينكره فيما ينفيه وإن ذلك فيما ينفيه أولى منه فيما يثبته ويرد على منازعه مااستعمله من ذلك وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي كما تجدهم أيضًا في النصوص النبوية كل منهم يقبل منها ما وافق قوله ويرد منها ما خالف قوله وإن كان المردود من الأخبار المقبولة باتفاق أهل العلم والحديث والذي قبله من الأحاديث المكذوبة باتفاق أهل العلم والحديث فحالهم في الأقيسة العقلية كحالهم

في النصوص السمعية لهم في ذلك من التناقض والاضطراب ما لايحصيه إلا رب الأرباب وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترئون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الإلهية والمقاصد الربانية ما لم تصل إليه آراء هؤلاء المتكلفين في المسائل والوسائل في الأحكام

والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساويًا له أصلاً بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوًا وسميًّا وهم مع هذا كثيرو البراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوًا وندًّا وسميًّا

كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر بن هبيرة في كتاب الإيضاح في شرح الصحاح أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات

وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكل ماثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى بأن يكون هو موصوفًا به إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله غيره فغن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة وكذلك ماكان منتفيًا عن المخلوق لكونه نقصًا وعيبًا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع

وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحقَّ بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحقَّ بالتنزيه منها لأنه عن العدم ابعد من سائر الموجودات ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته وذاته بذاته تنافي العدم وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته فإذا أثبتت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريقة القياسية العقلية التي لله فيها المثل العلى كان ذلك اعتبارًا صحيحًا وكذلك إذا نفى عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطرق ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية فاستعملوا مثل هذا فيما أثبتوه لله تعالى وفيما نفوه عنه وفيما ردوه من قول الجهمية وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائمًا بنفسه

الوجه الثاني من وجوه الجواب الثاني من أجوبة أهل الإثبات المنازعين للنفاة وهو أن تسميته بالموجود دليل على أنه بحيث يجده الواجد والموجود هو المحسوس وما لا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد

أو موصوفًا أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به ألا يكون بحيث يكون غيره وأن لايكون معدومًا بل ما أوجب أن يكون قائمًا بنفسه مباينًا لغيره وأمثال ذلك من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد جَارٍ على هذا الصراط المستقيم فكلما كان اقرب إلى الموجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد الوجه الثاني أن يقال من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودًا ومنه قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء [المائدة 6] وقوله حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ [النور 39] وقوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى {7} [الضحى 6 , 7] وأمثال ذلك فالموجود هو الذي يجده الواجد فنسبة الموجود إلى الواجد كنسبة المعلوم إلى العلم والمذكور إلى الذكر والمحس أو المحسوس إلى الحس والمشهود إلى الشهود والمرئي إلى الرؤية وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودًا لواجد يجده لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي وموجود ونحو ذلك لما يكون بحيث يشهده الشاهد ويراه

الرائي ويجده الواجد وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده ويراه ويجده غيره وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الواجد وكثيرًا ما يقصدون به المعنى الأول فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد وكذلك لفظ الوجود يريدون به تارة المصدر الذي هو الأصل فيها ويريدون به تارة المفعول أي الموجود كما في لفظ الخلق ونحوه وكذلك لفظ الفعل فإنهم يقولون وُجد هذا وهذا صيغة فعل مبني للمفعول فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم صار لفظ الموجود عندهم والوجود يراد به الثبوت والكون والحصول من غير أن يستشعروا فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق فهذه ثلاث معان لكن عزوف هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت وغن كان المعنى الآخر لازمًا له وحينئذ فنقول اتفاق الناس على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى دليل على تلازمهما فكما أن كل ماوجده واجد فله

حصول في نفسه فكما له حصول في نفسه فإنه بحيث يجده الواجد ولا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد لأن هذا سلب لمعنى اللفظ الذي به صح إطلاقه على هذا المسمى كما أن اسم الحي والعالم والقادر لما أطلقوه على المسمى باعتبار كونه عالمًا وحيًّا وقادرًا لم يجز أن تخرج هذه المعاني من هذه الأسماء ولهذا كثيرًا ممن أطلق هذا الاسم على الله تعالى لا يريد به إلا ما فيه من معنى الإضافة مثل قول الداعي يامقصود ياموجود وقول المذكر والداعي يا من يجيب من قصده ومن طلب الله صادقًا وجده وعلى هذا دل قوله حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ [النور 39] فإنما دل على هذا المعنى بلفظ الفعل الماضي وهو قوله وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ لكنه عدّاه إلى مفعولين وإذا كان كذلك علم أنه يجب أن يكون بحيث يجده القاصد والطالب ويجده الواجدون وهذا بعينه هو انه بحيث يحسونه فإن وجود الشيء وإحساسه متلازمان بل هو هو ولا يستعمل لفظ موجوده ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به البتة وهذا معنى احتجاج المثبتة بهذا كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر أثبت الجهة بعد أن كان

ينفيها ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقائل هذا بمثابة من قال إثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده قال ولأن العوام لايفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم فبينوا أن المستقر في فطر الناس أن قولهم طلبته فلم أجده في موضع ما هو يدل على أنهم لم يحسوه في أين من الأيون هذا بمنزلة قولهم فإذا هو معدوم لأن ضد المعدوم هو ما يكون حيث يجده الواجد

الوجه الثالث من وجوه الجواب الثاني وهو أنه يعلم بالضرورة العقلية أن الموجود في الخارج القائم بنفسه لا بد أن يوصف ويخبر عنه بما هو مختص به متميز ولا يكون مرسلا مطلقا لا يتميز بشيء إذ فساد هذا معلوم بالضرورة

وقولنا بحيث يجده الواجد هو إشارة إلى الأين الذي يوجد فيه فما لا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد وما امتنع أن يجده الواجد لم يكن موجودًا بل كان معدومًا كما بين أن نفي الأين والحيث ونحوهما من الظروف من جميع الوجوه كنفي المقارنة بالقبل والبعد والمع ومعلوم أن هذا لاينطبق إلا على المعدوم فكذلك الآخر والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدًا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه وفطنته وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال هذا لا شيء ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون وأنهم أعدموه وأمثال ذلك وقد استقرأت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا الوجه الثالث أن يقولوا نحن نعلم بالضرورة العقلية أن الموجود إما أن يكون موصوفًا وإما أن يكون صفة أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفًا وهذا متفق عليه بين

الصفاتية ومن نازع في ذلك قيل له أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلاً مطلقًا لا يتميز بشيء بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين على أن الكلي لا يكون في الخارج كليًّا مطلقًا بل لا يكون إلا مخصوصًا معينًا وإذا كان كذلك فلا يُعنى بالموصوف إلا ما يوصف سواء قيل إن الصفة ذاتية أو معنوية كقولنا

الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكذلك نعلم أن الموجود إما جسم وإما عرض وغما متحيز وإما قائم بمتحيز وحي وقادر ونحو ذلك وبمثل ما علمنا هذا نعلم أن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره لمن كان يفهم معاني هذه العبارات الاصطلاحية فإن من فهم هذا وهذا وهذا وتصوره تصورًا تامًّا حصل له حينئذ العلم البديهي الضروري الفطري فإن العلم البديهي يعنون به ما كان تصور طرفيه كافيًا في التصديق به فعدم التصديق به كثيرًا ما يكون لعدم التصور

الصحيح للطرفين وهذه العبارات المجملة قد لايتصور أكثر الناس مراد أهل الاصطلاح بها فإذا تصوروا معناه ومعنى الموصوف والقائم بنفسه كان علمهم بهذا كعلمهم بهذا كل ذلك فطري ولذلك اتفق على ذلك محققو المثبتة ومحققو النفاة أما النفاة العقلاء من المتفلسفة والقرامطة وأهل الوحدة وأمثال هؤلاء فقد علموا أنهم مضطرون إلى أن يقولوا هو الوجود المطلق وهو لا يتعين ولا يتخصص ولا كذا ولا كذا لعلمهم بأنه متى كانت له حقيقة معينة في الخارج وخاصة تتميز بها لزم أن يكون جسمًا متحيزًا داخل العالم أو خارجه وهم قد يسلمون نفي ذلك فصاروا دائرين بين المعنى الذي سموه تجسيمًا وبين هذا النفي والتعطيل فذهبوا إلى هذا لكنهم ظنوا إمكان وجود ما أثبتوه في الخارج وجميع العقلاء

يعلمون بالفطرة الضرورية استحالة وجود مطلق في الخارج ويعلمون أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهؤلاء أيضًا يعلمون ذلك إذا تدبروه ورجعوا إلى ما معهم من العلوم الفطرية الصحيحة العقلية ولهذا لما خاطبت بهذا غير واحد من أفاضل أهل الوحدة الكبار وثبت هذا لهم تبين الأمر وعلموا من أين دخل الداخل على من كانوا عندهم أئمة العالم في التحقيق والعرفان ومن كان حاذقًا في هذه الأمور منهم يقول ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صرائح العقول ولذلك عبر هذا بالكشف والذوق والمشاهدة وهذا لايحصل إلا بالرياضة والمجاهدة

والخلوة ونحو ذلك من الطرق العبادية الزهدية الصوفية وقلت لبعض أكابرهم لما خاطبني في هذا وكان مهتما في ذلك وطلب مني ألا أخاطبه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وقال أنا لا أقول إنها خبر والخبر محتمل لكن أمور أخرى وكنت علمت من حاله ما علمت معه ضعف تلك الأدلة في نفسه وكان مخاطبته بالأمور العقلية أيسر عليه وأبين له وإن كان ذلك ما يثبته كتاب الله تعالى الذي ضرب للناس فيه من كل مثل وجعله حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمر المؤمنين عند التنازع فِي ظُلُمَاتٍ ولَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ {8} يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ {9} وقال فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {46} [الحج 46] كما قال تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج 46] ونحو ذلك مما يبين أن القول المختلف باطل وذم من لايعقل مثل ذلك ويعمى عن الحق المعقول فقلت له لا نزاع في أنه قد

يحصل من العلم بالكشف والمشاهدة ما لا يحصل بمجرد العقل سواء كان للأنبياء فقط أو للأنبياء والأولياء أو لهم ولغيرهم لكن يجب الفرق بين مايقصر العقل عن دركه وما يعلم العقل استحالته بين ما لا يعلم العقل ثبوته وبين ما يعلم العقل انتفاءه بين محارات العقول ومحالات العقول فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول وهو ماتعجز العقول عن معرفته ولا يخبرون بمحالات العقول وهو ما يعلم العقل استحالته قلت وهذا بين واضح فلو قال قائل إنه يعلم بالكشف والذوق والمشاهدة أو بالأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو غير ذلك أن الواحد ليس نصف الاثنين وأن الواجب لذاته يكون ممتنعًا لذاته وأن المخلوق يماثل الخالق في الحقيقة وأن الوجود كله ممكن الوجود ليس في الوجود وجود واجب ولا وجود قديم ونحو ذلك من القضايا التي يعلم العقل وجوبها وامتناعها وإمكانها فمن ادعى أنه يعلم بالكشف والبصر أو بالسماع والخبر عن الأنبياء عليهم السلام ما ينافي هذا كانت هذه الدعوى باطلة

فلما بينت له ذلك اعترف بهذا الأصل وبه يتبين زيف هؤلاء فلما تقرر هذا بينت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون في الخارج وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان لا في الخارج وكان عارفًا بهذه العلوم وبينت له ما تستلزم أقوالهم من الجموع الكثيرة بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببدائه العقول وما كان كذلك فإذا ادعى المدعي أنه عرفه كشفًا وشهودًا وذوقًا علم أنه خيالات فاسدة وأذواق فاسدة وذلك أنه لا بد من أحد أمرين إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان فاعتقد وجوده في الأعيان كما يقع لكثير من الناس ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج وكثيرًا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج فظن انه الخالق وغنما هو مخلوق ليس هو

الخالق فكل شهود وذوق وكشف يُدّعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله وذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل ويخالف الكتاب والسنة والإجماع فإنه يكون المشهود به إما في الذهن وإما في الخارج ولكن ليس هو الله ولا هو ما يقال ذاته هو وجوده وبسط الكلام في هذا له موضع آخر فإن المؤسس وأمثاله وإن كانوا هم وهؤلاء يشتركون في إنكار الأصل وهو إنكار حقيقة وجود الله ومباينته لخلقه الذي يستلزم إنكاره هذه المقالات المتناقضة وفي الإقرار بثبوت ما يخالف ذلك من الأمور الممتنعة لكن هو وأمثاله

الوجه الرابع من وجوه الجواب الثاني وهو أن النفاة يسلمون أن الموجود إما قائم بنفسه أو بغيره والقائم بنفسه لا يعقل إلا أن يكون مختصا بجهة

لا يقولون بهذا ويسلمون أنه ليس وجودًا مطلقًا بل له حقيقة تختص به يمتاز بها عمّن سواه ولكن المقصود بيان أنه هو وأمثاله كما يعلمون بصريح العقل بطلان قول هؤلاء النفاة فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجودًا معينًا مخصوصًا قائمًا بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز كما يعلمون انه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه ولهذا لا يعقل احد ما هو قائم بنفسه إلا مايقولون هو متحيز وجسم فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائمًا بنفسه ولا قائمًا بغيره وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أن يقال هم لا ينازعون أن الموجود إما قائم بنفسه وإن نازعوا في وصف غيره بأنه قائم بنفسه

لتنازعهم في أن القائم بنفسه هل يراد به الموجد المستغني عن المحل أو المستغني عن المحل والمخصص والمكان وغير ذلك لكن المقصود هنا أنه لا يعقل ما هو قائم بنفسه بمعنى أنه غير حال في محل إلا ما هو مختص بما يقولون إنه جهة وإن كان حقيقته أمرًا عدميًّا وما تصح عليه المحاذاة على اصطلاحهم وما هو في اصطلاحهم جسم ومتحيز وهو المعلوم في صرائح العقول ومن قيل له هل تعقل شيئًا قائمًا بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا أنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعًا له ولا مفارقًا له ولا قريبًا منه ولا بعيدًا عنه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ولا مماسًا له ولا محايثًا له وأنه لايشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكمًا بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود كما سمعنا ورأينا أنه يقول ذلك عامة من يذكر له ذلك من أهل العقول الصحيحة الذكية وكما يجده العاقل في نفسه إذا تأمل هذا القول

وأعرض عما تلقنه من الاعتقادات السلبية وما اعتقده من يعظمها ويعظم قائلها واعتقاده أنهم حرروا هذه المعقولات فإن هذه العقائد التقليدية هي التي تصد القلوب عما فطرت عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ثم إن هذه المقالات السلبية لم يقل شيئًا منها إمام من أئمة المسلمين ولا نطق بها كتاب ولا سنة والطوائف المتكلمون قد أنكرها من حذاقهم من لا يحصيه إلا الله فإن قيل الاستغناء عن المحل وصف سلبي فإذا كان القيام بالنفس وصفًا سلبيًّا لم يدل على معنى ثبوتي وهو كونه

الوجه الخامس من وجوه الجواب الثاني وهو أن القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة ولا يكون قائما بنفسه إلا المتحيز

متحيزًا أو مجسمًا قال له منازعه أولاً هذا منقوض بوصف الأجسام والجواهر بأنها قائمة بنفسها غنية عن المحل فإن هذا السلب يستلزم هذا الثبوت وقالوا ثانيًا نحن لم نجعل نفي السلب هو الثبوت وإنما قلنا الشيء الموجود المحكوم عليه المخبر عنه بهذا السلب هو الذي يعلم القلوب أنه محكوم عليه مخبر عنه بهذا الثبوت ونعلم أنه لا يكون هذا السلب عن أمر موجود إلا مع هذا الثبوت وقالوا ثالثًا المستلزم لهذا الثبوت هو الأمر الوجودي المسلوب عنه المحل فهذا الأمر الوجودي هو الذي سموه المتحيز والجسم وقالوا رابعًا وهو الوجه الخامس إن القائم بنفسه لا يقوم بالقائم بنفسه ولا يكونان في حيز واحد بل كل منهما يمتنع أن يكون بحيث يكون هو الآخر وهذا معنى قول المتكلمين إن الأجسام لا تتداخل ولما ذكروا عن النظام أنها تتداخل

قالوا هذا قريب من جحد الضرورة ومن قال تتداخل لم يرد المعنى الذي يعلم بالضرورة بطلانه ولكن النظام جعل أعراض الجسم غير الحركة أجسامًا كاللون والطعن والريح وهذه متداخلة في محل واحد وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في تسميته أجسامًا فأما الجسم القائم بنفسه فلم يقل أحد إنه يداخل مثله بل إذا تحلل في تضاعيف غيره زاد ذلك الغير في نفس حجمه وإذا كان القائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما بحيث الآخر وإن كان القيام بالنفس عبارة عن عدم المحل فمعلوم أن كل واحد منهما له حيث يخصه وهو حيزه أو له قدر يخصه وجسم يخصه ونحو ذلك من العبارات وذلك مانع من المحايثة والمداخلة وإلا فإذا قدر أن كل من الصفتين عدمي فالأمور العدمية لا تكون مانعة من الأمور الوجودية والمتكلمون قد ذكروا تعليل منع كون الجسم بحيث الجسم الآخر فقالت المعتزلة وطائفة من

الوجه السادس من وجوه الجواب الثاني وهو أن الفطرة الضرورية تحكم بأن الموجود لا يكون إلا قائما بنفسه أو قائما بغيره من غير تفريق بين واجب وممكن

الصفاتية المانع منه التحيز والموجب لهذا الامتناع والتحيز وعلى هذا فيجب نفي الحكم لانتفاء علته فما لا يكون متحيزًا لا يكون مانعًا مما ذكرناه وقال بعضهم الموجب لذلك تضاد كونيهما وعلى هذا فما لا يكون لا يضاد غيره والأكوان إنما تكون للأجسام باتفاقهم وهو ظاهر وقال بعضهم الاستحالة والامتناع لا يعلل أي هي ثابتة للذات وعلى هذا فالمعلوم أن ذلك ثابت للذوات المتحيزة فما لا يكون متحيزًا لا تعقل فيه هذه الاستحالة وعلى كل تقدير فيجب أن يكون ما ليس بمتحيز إذا كان قائمًا بنفسه أن لا يكون مانعًا لغيره أن يداخله وهذا باطل قطعًا وإذا كانت القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة وهذا الحكم مختص بالمتحيز علم أنها لا تعلم قائمًا لنفسه إلا المتحيز الوجه السادس أن يقال ما علم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسمًا أو عرضًا أو لا يكون إلا جوهرًا أو جسمًا أو عرضًا أو لا يكون إلا متحيزًا أو

قائمًا بمتحيز أو لايكون إلا موصوفًا أو صفة أو لا يكون إلا قائمًا بنفسه أو بغيره يعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب أو القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقًا والمعتزلة ومن اتبعهم الذين يخرجون القديم من هذا التقسيم مما اعتقدوه لما اعتقدوه وهذا قول طائفة من الفلاسفة لا جميعهم وكذلك ذاك قول طائفة من المتكلمين لا جميعهم وكما أن قول هؤلاء الفلاسفة لم يكن مانعًا للمتكلمين ومن وافقهم من الفلاسفة من التقسيم فكذلك قول هؤلاء المتكلمين ليس مانعًا لمن خالفوه من جماهير الناس وأهل الكلام والفلسفة من هذا التقسيم

تقسيم الموجودات عند أئمة المتكلمين ومن تبعهم من متكلمي الصفاتية

ولهذا قال أئمة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية ومن أخذ ذلك عنهم من متكلمي الصفاتية كالأستاذ أبي المعالي إمام الحرمين وأمثاله في تقسيم الموجودات الموجود إما أن يكون له أول وإما أن يكون بلا أول والذي له أول هو الحادث وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي الحوادث إلى المحل قال وهذه القسمة أيضًا تستند إلى نفي وإثبات قال ول قيل هذه القسمة قسمة الموجودات لم يكن بعيدًا غير أن الوجود الأول لابدء له ولا نهاية لوجوده وكذلك أيضًا لا نهاية لذاته ولا نهاية لصفاته وجودًا وحكمًا فكذلك لا يتطرق إلى ذات القديم ولا إلى صفاته الأوهام ولا تجول فيه الأفكار قلت وهذا لا يمنع من التقسيم فإن وصفه بالنهاية وعدمها فيه ماهو معروف في موضعه وهو لا يريد بسلبها أن ذاته لا تتناهى إنما يريد أنها بحيث لا يقال فيها هي متناهية أو

ليست متناهية فهي عنده لا تقبل أحدًا من الوصفين كما لا تقبل الوصف بالمحايثة والمباينة والدخول والخروج ونحو ذلك والخلو عن هذين الوصفين فرع إمكان ذلك أو ثبوته فلا يجعل دليلاً على مايقتضي وجوده إذا الشيء لا يكون دليلاً على نفسه إذا كان مطلوبًا بالدليل فكيف تكون دعوى الإمكان والثبوت دليلاً على وجود الشيء قبل العلم بوجوده وأيضًا فقوله لاتتطرق إليه الأوهام ولاتجول فيه الأفكار إن أراد به لا تحيط به ولا تدركه فهذا حق وإن أراد به لا تثبته ولا تُقِرُّ به فهذا باطل وأيضًا فعدم التناهي وعدم تطرق الأوهام والأفكار لا يمنع صحة التقسيم كما إذا قلنا الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما خالق وإما مخلوق وقد قال أولاً في أقسام الموجودات تنقسم قسمين موجود لاافتتاح لوجوده وهو القديم سبحانه

وصفاته وموجود لوجود افتتاح وهو الحادث قال وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي لأن الموجود إما أن يكون له أول وإما أن لا يكون له أول فإذا كان قد أدخله في تقسيم الموجود إلى قديم ومحدث فكذلك يجب أن يدخله في قسمة الموجود إلى مستقل ومفتقر بل هذا التقسيم أبين وأوضح والعقلاء متفقون عليه فإنه لا نزاع بينهم أن الباري سبحانه هو موجود مستقل وغير مفتقر كما أنهم متفقون على أنه قديم غير محدث لكن العلم باستقلاله وقيامه بنفسه هو أولى به وأبين وأسبق في القلب من كونه قديمًا كما أن العلم بوجوده أولى به من العلم بوجوب وجوده إذ لو لم يكن مستقلاًّ بنفسه غنيًّا عن المحل امتنع أن يكون قديمًا وحده أو واجبًا بنفسه كما أنه إذا لم يكن موجودًا امتنع أن يكون واجبًا بخلاف العكس فإن ما لم يكن قديمًا وحده أو لم يكن واجبًا بنفسه لا يمتنع أن يكون مستقلاًّ أو موجودًا فصار هذا مع هذا كالذات والصفات وأيضًا فإذا كان الموجود الأزلي لا بدء له ولا نهاية لوجوده وذلك لا يمنع من دخوله في تقسيم الموجود إلى قديم

وحادث فكذلك كونه لا نهاية لذاته وصفاته إن صح ذلك لا يكون مانعًا من دخوله في التقسيم إلى مستقل ومفتقر ومما يبين ذلك أن التقسيم الأول بالنسبة إلى الدهر والزمان كالتقسيم الثاني بالنسبة إلى الحيز والمكان والقديم لا تحصره الأزمنة كالمستقل الذي لاتحويه المكنة ثم قال هؤلاء ثم المحدث الذي يستغني عن المحل هو الجوهر في اصطلاح المتكلمين والمفتقر إلى المحل هو العرض ويشتمل القسمين اسم العالم ثم إن طائفة من متكلمة المعتزلة لما أثبتوا أعراضًا لا في محل كالإرادة والكراهة والفناء اتفق سائر العقلاء على أن هذا خروج عن المعقول لكونه أثبت ما لا يقوم بنفسه لا في محل فكذلك من أثبت قائمًا بنفسه ليس مباينًا لغيره فإن علم العقل باستحالة

عرض لا في محل كعلمه باستحالة قائم بنفسه ليس بمباين لغيره أو ليس بجسم فإنه كما أن الأول فيه جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل وكذلك في الثاني جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل ثم قالوا فإن قيل هل في المقدور حدوث ما يخرج عن القسمين قلنا إنما يوصف الرب سبحانه وتعالى بالاقتدار على الممكنات فإن الذي يحصره ويضبطه الذكر حسًّا أو حكمًا على هذا الحكم قسمان أحدهما موجود وهو جِرم متحيز لو اتصل بمثله اتصل به على طريق المجاورة لا بالمداخلة والحيثية بل ينحاز أحدهما عن الآخر ويختص عنه بجهة ويصير احد جهاته ولو نظر الناظر إليهما أدركهما شيئين متجاورين لكل واحد منهما حظ من المساحة وما هذا وصفه قد يسمى قائمًا بنفسه لاستغنائه عن محل يقوم به فيكون صفة له ومعنى تحيزه شغله الحيز وانه إذا وجد في فراغ أخرجه عن كونه فراغًا وما هذا وصفه يسمى

جوهرًا وأما القسم الثاني وهو الذي لو قدر شيئان منه لايمتنع حصولهما في محل واحد وحيثٍ واحد ولا يتصور ازدحامهما فيه ومن تأمل ما ذكرنا من القسمين وأنصف علم استحالة تقدير قسم ثالث خارج عن القسمين وهذا الكلام يتناول الموجود مطلقًا ويقال فيه مطلقًا ما قاله في المحدث فإن قوله الذي يضبطه الذكر حسًّا أو حكمًا يعم ذلك في الموجود لا يفرق في ذلك بين كونه قديمًا أو محدثًا بل ضبط الذكر حسًّا أو حكمًا لهذين القسمين هو للموجود مطلقًا من غير تقييد بحدوث أو قدم ويبين ذلك أن الذكر يضبط هذين القسمين قبل علمه بانقسام الموجود إلى محدث وقديم وقبل علمه باستحالة وصف القديم بأحدهما أو بهما أو جواز ذلك عليه وبالجملة فحكم الفطرة إن كان مقبولاً في هذا التقسيم فهو مقبولاً مطلقًا وإن لم يكن مقبولاً فليس مقبولاً مطلقًا إذ الفطرة لا تفرق ولهذا كان يقول غير واحد من أفاضل زماننا من الفضلاء العالمين بالفلسفة والشريعة ما ثم إلا مذهب المثبتة أو الفلاسفة وما بينهما متناقض وثبت أن الفلاسفة أكثر

الوجه السابع من وجوه الجواب الثاني وهو أنه لا بد لكل موجود في الخارج من صفة وقدر ينفصل بها ويتميز عن غيره وتقدير موجود ليس كذلك لا وجود له في الخارج بل وجوده ذهني

تناقضًا الوجه السابع أن ما به يعلم أنه لابد لكل موجود في الخارج من صفة وخاصة ينفصل بها ويتميز بها عما سواه يعلم به أنه لابد لكل موجود من حد ومقدار ينفصل به عما سواه إذ كل موجود فلابدله من صفة تخصه وقدر يخصه وليس المراد بالحد هنا الحد النوعي فإن ذاك هو القول الدال على المحدود وهو كلي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه وإذا أريد بالحد نفس المحدود وحقيقته فليس في الخارج محدود كلي بشرط كونه كليًّا بل يقال حقيقة هذا تشبه حقيقة هذا فالحدود على هذا تتشابه وتتماثل إذا عني بها حقيقة الموجودات الخارجية ولا بد لكل موجود من هذه الحدود والحقائق كما ذكرنا وتقدير موجود قائم بنفسه ليس له صفة

نقل المؤلف عن الجويني أقوال المعتزلة والأشاعرة في حقيقة الرب ووجوده

ولا قدر هو الذي يراد بالكيفية والكمية كتقدير موجود ليس قائمًا بنفسه ولا بغيره وهو الذي يراد بالعرض والجوهر ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن الكيف غير معقول وغير معلوم ويقولون إن لله عز وجل حدًّا لا يعلمه إلا هو فهم دائمًا ينفون علم العباد بكيفية الرب وكيفية صفاته وبحده وحد صفاته لاينفون ثبوت ذلك في نفسه بل ينفون علمنا به يبين هذا أن الذي قاله أئمة أهل الكلام في الصفة يقال مثله في القدر قال الأستاذ أبو المعالي ذهب قدماء المعتزلة إلى أن حقيقة الإله قدمه وذلك أخص وصفه وقال بعضهم حقيقته وجوب وجوده وقال أبو هاشم

أخص وصف الإله به حال هو عليها يوجب كونه حيًّا عالمًا قادرًا قال فهذا قول مبهم لابيان له قال وأما أصحابنا فقال بعضهم حقيقته تقدسه عن مناسبة الحوادث في جهات الاتصالات وقال بعضهم حقيقته غناه وقال بعضهم حقيقته قيامه بنفسه بلا نهاية قال وهذه العبارات تشير إلى نفي الحاجة وقال الأستاذ يعني أبا إسحاق حقيقة الإله صفة تامة اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان قال أبو المعالي

وهذا أيضًا فيه إبهام لأنه يلقى من صفة النفي إثباتًا قال وحكى القاضي أبو جعفر السمناني عن القاضي أبي بكر حقيقة الإله لا سبيل إلى إدراكها هذا الأوان قال وسنعود إلى هذا في كتاب الإدراكات قال وكان شيخنا أبو القاسم القشيري يقول هو الظاهر بآياته الباطن فلا سبيل إلى درك حقيقته وقال الأستاذ أبو المعالي لا شك في ثبوت وجوده سبحانه وتعالى فأما الموجود المرسل من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال لكن ليس يتطرق إليها

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الجويني في وجود الرب وأنه وجود مختص

العقول ولا هي علم جهمي ولا علم مبحوث عنه إنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فغنه سبحانه وتعالى يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهي إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله قلت المقصود هنا أنه بين امتناع أن يكون وجوده مرسلاً وهو المطلق من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره وانه يعلم تلك الحقيقة وجوز أن يعلمها العباد وأما الذي أحال عليه في كتاب الإدراكات فإنه قال في باب الرؤية فصل قال ضرار بن عمرو إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه بها

ثم قال هذا الرجل لله عز وجل مائية لا يعلمنا في وقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة لايصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيره وقال مرة بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه وهو سبحانه رائي نفسه عالم بمائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته قال القاضي أبو بكر الحاسة قد تطلق والمراد بها الإدراك يقال أحس فلان الشيء إذا أدركه وقد يراد به الجارحة فإن أراد ضرار بالحاسة الجارحة والبنية المخالفة لبقية الحواس شاهدًا فقد سبق الرد على من قال الإدراك مفتقر إلى بنية وإن زعم أن الإدراك هو الذي أثبته خارج من قبيل الإدراكات إلا انه مخالف لها لمخالفة متعلقة متعلق الإدراكات فهذا صحيح ولكنه أخطأ في تسميته سادسًا وإن هو أومى فيما ذهب إليه إلى اختلاف الإدراكات فتخرج الإدراكات شاهدًا عن

الخمس والخمسين قال القاضي فلو قال قائل فما مذهب الرجل قلنا مذهبه إثبات الرؤية وبشرط بنية سادسة وصرف الحاسة إلى البنية والتأليف دون الإدراك قلت الحاسة يراد بها الإدراك ويراد بها العضو المدرك ويراد بها القوة التي في العضو والسادس يجوز أن يراد به البنية والتأليف ويجوز أن يراد به القوة ويجوز أن يراد به الإدراك أي يخلق جنسًا من الرؤية مخالفًا للجنس الموجود في الدنيا وهذا من جنس قول هؤلاء الذين يقولون يرى لا في جهة وليس المقصود هنا ذلك قال وأما المائية التي أثبتها فقد صار على إثباتها بعض الكرامية ولم يسلكوا في ذلك مسلك ضرار فإنه

من نفاة الصفات وإن عنى بها صفة نفسية وحالا فهو مذهب أبي هاشم فإنه صار إلى أنه سبحانه وتعالى في ذاته على صفة وحالة وهي أخص صفاته وبها يخالف خلقه وهذا تصريح بمذهب ضرار وإنما اختلفا في عبارة فإن أبا هاشم سماها خاصة وسماها ضرار مائية وقد رددنا على أبي هاشم مذهبه في إثبات الأحوال وقال القاضي أبو بكر لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب سبحانه وتعالى يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والعدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات المعنوية فهذا أقصى ما يقال في ذلك قال وقد تردد القاضي في أن الذين يرون الله في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية أم لا فمرة قال يعلمونها ومرة قال لا يعلمها أحد إلا الله قال وقد

قدمنا من مذهب الأستاذ أبي إسحاق أنه أوجب لله صفة توجب التقدس عن الأحياز والجهات والانفراد بنعوت الجلال فإنا نعلم أنه ليس من قبيل ما نشاهده من الجواهر والأعراض وأنه مما لا يتصور في الأوهام ولسنا نعني بقولنا ليس في العالم ولا خارج العالم نفي وجوده تعالى كما نسبتنا إلى ذلك المجسمة وإنما نعني به إثبات وجود غير محدود بوجه ومن أثبت لله حدًّا ونهاية من وجه فيلزمه إثبات النهاية من سائر الجهات فإن قول القائل إنه في العالم أو خارج العالم يقتضي حدًّا ونهاية يصح لأجلهما عليه الدخول في العالم أو الخروج منه وقال بعض المتكلمين أخص وصفه وجوب وجوده وقال بعض أصحابنا أخص وصفه قيامه بنفسه مع انتفاء النهاية والحجمية وهذا معنى قول الأستاذ ولم ينقل عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله تعالى في ذلك شيء غير أنه قال إنما ينفرد الرب سبحانه عن الأغيار بالهيئة وهي قدرته على الاختراع واستحقاقه نعوت الجلال وذكر

الأستاذ أبو بكر في كتاب الانتصار عن بعض الأصحاب أنه قال لله سبحانه وتعالى مائية ثم فسرها بصفاته التي تفرد بها عن المخلوقات من العلم المحيط والقدرة الكاملة والإرادة النافذة وغير ذلك من تقدسه عن سمات الحدث ومن الكرامية من أثبت لله كيفية ومائية فغن عنوا بالمائية ما أشار إليه القاضي والأستاذ وما أراهم يريدون ذلك فيبقى بيننا وبينهم الاختلاف في الاسم فنحن نقول المائية تقتضي الجنس والكيفية تقتضي الكمية والشكل ويتعالى الله عن ذلك فإنه ليس نوعًا لجنس ولا جنسًا لنوع بل هو الأحد الصمد

تعقيب المؤلف على ما نقله الجويني عن المتكلمين في كتابه "الإدراكات"

قلت ليس هذا موضع بسط الكلام على هذا فإن قوله المائية تقتضي الجنس إنما يعني أن يكون له ما يجانسه أي يماثله في حقيقته وليس الأمر كذلك فإن من أثبت له مائية وهي الحقيقة التي تخصه ويمتاز بها عن غيره لم يلزمه أن تكون تلك المائية من جنس المائيات كما أن الذين يطلقون عليه اسم الذات لا يلزمهم أن تكون ذاته من جنس سائر الذوات وإن فسر ذلك بثبوت قدر ما يتفقان فيه فهذا لا بد منه على كل تقدير ولفظ الجنس فيه عدة اصطلاحات فإن فسر بما يوجب مثلا لله فهو منتف عنه وإن فسر بالحد اللغوي الذي هو مدلول الأسماء المتواطئة والمشككة كما في اسم

الحي والعليم والقدير ونحو ذلك من الأسماء فهذا لابد منه باتفاق أهل الإثبات والنزاع في ذلك معروف عن الملاحدة ومن ضاهاهم ونفي ذلك تعطيل محض وأما قوله الكيفية تقتضي الكمية والشكل فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم وإذا كان هذا مستلزمًا للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة إلا وله قدر يخصه وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال بل كما قال الشريف أبو علي بن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهما وهو موافق لقول

السلف رضي الله عنهم والأئمة كما قالوا لا يعلم كيف هو إلا هو كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وأمثال هذا كثير في كلامهم ومنهم من ينفي ذلك ويقول لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيف فيخطر ببال وهذا قول ابن عقيل وغيره وهذا موافق لقول نفاة الصفات

أقوال الناس في وجود الحق تعالى

فقد تبين أن الأقوال في وجود الحق على مراتب فمن قال إنه وجود مطلق فقوله باطل بالبديهة ومن قال إنه يتميز بصفات سلبية مثل امتناع عدمه ونحو ذلك فهو نظيره بل هو هو ومن قال يتميز ببعض الصفات المعنوية كعلمه وقدرته قيل له وإن اختص بذلك لكن لابد له من ذات موصوفة بتلك الصفة وأن تكون تلك الذات لها حقيقة في نفسها يتميز بها عن سائر الحقائق وأن القول الرابع وهو أن له حقيقة يختص بها هو الصواب ومعلوم أن الموجود ينظر في نفسه وفي صفته وفي قدرته وإن كان اسم الصفة يتناول قدره ويستلزم ذاته أيضًا

فإذا علم بصريح العقل أنه لابد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره فإن الموجود لا يتصور أن يكون موجودًا إلا بذلك ودعوى وجود موجود بدون ذلك دعوى تخالف البديهة والضرورة العقلية ولذلك حكموا على من نفى ذلك بالتعطيل لأنه لازم قوله وإن كان لا يعلم لزومه والتحقيق انه جمع في قوله بين الإقرار بما يستلزم وجوده والإقرار بما يستلزم عدمه فهو مقر به من وجه منكر له من وجه متناقض من حيث لا يشعر ولهذا يقول المشايخ العارفون إن هؤلاء المنكرين لا تتنور قلوبهم ولا يفتح عليها ولا ينالون زينة أولياء الله تعالى الكاملين لما عندهم من الجحود والإنكار المانع لهم من حقيقة معرفة الله تعالى ومحبته والقرب منه فإنهم ٍالتزموا التكذيب بالحق الذي تقربهم معرفته وقصده إلى الله تعالى ففاتهم من معرفة الله وقصده والتقرب إليه بقلوبهم ما به ينالون ولايته التي نعت بها أولياءه المتقين الكاملين وإن كانوا قالوا من ذلك بحسب ما عندهم من الإيمان والتقوى

الوجه الثامن من وجوه الجواب الثاني وهو أن رؤية الله تعالى ثابتة بالقرآن وبالسنة المتواترة وباتفاق السلف والأئمة ومن المعلوم عقلا أن المرئي لا يكون إلا في جهة من الرائي

الوجه الثامن أنه قد أثبت بالسنة المتواترة وباتفاق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام الذين ائتموا بهم في دينهم أن الله سبحانه وتعالى يُرى في الدار الآخرة بالأبصار عيانًا وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور في مواضعه والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح والسنن والمسانيد وقد اعتنى بجمعها أئمة مثل الدارقطني في كتاب الرؤية وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر

الآجري وطوائف كثيرون وفي الصحيحين نحو عشرة أحاديث فيها أن رؤية الأبصار ليست ممتنعة والجهمية الذين يدخلون في هذا الاسم عند السلف

كالمعتزلة والنجارية والفلاسفة ينكرون الرؤية ويقولون لأن ذلك يستلزم أن يكون بجهة من الرائي وأن يكون جسمًا متحيزًا وذلك منتف عندهم ومسألة الرؤية كانت هي أكبر المسائل الفارقة بين السنة المثبتة وبين الجهمية حتى كان علماء أهل الحديث والسنة يصنفون الكتب في الإثبات ويقولون كتاب الرؤية والرد على الجهمية وكذلك الأحاديث التي تنكرها الجهمية من أحاديث الرؤية وما يتبعها ويعدون من أنكر الرؤية معطلاً قال الخلال في كتاب السنة أخبرني

حنبل قال سمعت أبا عبد الله يقول وأدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئًا أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين قال وسمعت أبا عبد الله يقول

القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبد الله يقول قالت الجهمية إن الله لا يُرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يُرى لقول الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22 , 23] وقال تعالى لموسى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف 143] فأخبر الله تعالى أنه يُرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر رواه جرير وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال

كلكم يخلو به ربه وإن الله يضع كنفه على عبده فيسأله

ماذا عملت هذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروى صحيحة

عن الله تعالى انه يُرى في الآخرة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يُرى يوم القيامة وقول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} [طه 7] وقال إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال أبو عبد الله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترع مقالة من نفسه وتأول رأيه فقد خسر خسرانًا مبينًا وسمعت أبا عبد الله يقول من قال إن الله لا يُرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل وروي عن يعقوب بن بختان أنه سمع أبا عبد الله يقول صارت محبتهم كفرًا صراحًا يقولون إن الله تبارك وتعالى لا يُرى في الآخرة وسمعته يقول كفرهم ضروب

نقل المؤلف من كتاب "النقض على بشر المريسي" لعثمان الدارمي إثبات الرؤية والرد على المعطلة

وعن حنبل سمعت أبا عبد الله يقول إن الله لايُرى في الدنيا ويُرى في الآخرة فثبت في القرآن وفي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وقال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد في نقضه على الجهمي المريسي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد ثم انتدب المريسي الضال لرد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤية في قوله عليه السلام إنكم سترون ربكم يوم القيامة لاتضامون في رؤيته كما لا تضامون في رؤية

الشمس والقمر ليلة البدر فأقر الجاهل بالحديث وصححه وثبت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلطف لرده وإبطاله بأقبح تأويل وأسمج تفسير ولو قد رد الحديث أصلاً كان أعذر له من تفاسيره هذه المقلوبة التي لا يوافقه عليها أحد من أهل العلم ولا من أهل العربية فادعى الجاهل أن تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته تعلمون أن لكم ربًّا لا تشكون فيه كما لا تشكون في القمر أنه قمر لا على أن أبصار المؤمنين تدركه جهرة يوم القيامة لأنه نفى ذلك عن نفسه بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] قال وليس على معنى قول المشبهة فقوله ترون ربكم تعلمون أن لكم ربًّا لا تعتريكم فيه الشكوك والريب ألا ترون أن الأعمى يجوز أن يقال ما أبصره أي ما أعلمه وهو لا يبصر شيئا ويجوز أن يقول الرجل نظرت في المسألة وليس للمسألة جسم ينظر إليه فقوله نظرت فيها رأيت فيها فتوهمت المشبهة الرؤية جهرة ويس ذلك من جهة العيان فيقال لك أيها المريسي أقررت بالحديث وثبته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الحديث بحلقك لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرن التفسير بالحديث فأوضحه ولخصه فجمعهما جميعًا إسناد

واحد حتى لم يدع لمتأول فيه مقالاً فأخبر أنه رؤية العيان نصًّا كما تُوهّم هؤلاء الذين سميتهم بجهلك مشبهة فالتفسير فيه مأثور مع الحديث وأنت تفسره بخلاف ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أثر تأثره عمن هو أعلم منك فأي شقي من الأشقياء وأي غوي من الأغوياء يترك تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم المقرون بحديثه المعقول عند العلماء الذي يصدقه ناطق الكتاب ثم يقبل تفسيرك المحال الذي لا تأثره إلا عن من هو أجهل منك وأضل أليس قد أقررت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم لا تضامون فيه كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر يعني معاينة قلت وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا تشكون يوم القيامة في ربوبيته وهذا التفسير مع مافيه من معاندة الرسول محال باطل خارج عن المعقول لأن الشك في ربوبية الله زائل عن

المؤمن والكافر يوم القيامة وكل مؤمن وكافر يعلم يومئذ أنه ربهم لا يعتريهم في ذلك شك فيقبل الله ذلك من المؤمن ولا يقبله من الكافرين ولا يعذرهم يومئذ بمعرفتهم ويقينهم به فما فضل المؤمن على الكافر يوم القيامة عندك في معرفة الرب إذ مؤمنهم وكافرهم لا يعتريه في ربوبيته شك أو ما علمت أيها المريسي أنه من مات ولم يعرف قبل موته أن الله ربه في حياته حتى يعرفه بعد مماته فإنه يموت كافرًا ومصيره النار أبدًا ولن ينفعه الإيمان يوم القيامة بما يرى من آياته إن لم يكن آمن به من قبل فما موضع بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين برؤية ربهم يوم القيامة إذ كل مؤمن وكافر في الرؤية يومئذ سواء عندك إذ كل لا يعتريه فيه شك ولا ريبة أو لم تسمع أيها المريسي قول الله تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ {12} [السجدة 12] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام 30] فقد أخبر تعالى الكفار أنهم به يومئذ موقنون فكيف المؤمنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سألوه هل نرى ربنا تعالى وقد

علموا من قبل أن سألوه أن الله ربهم لايعتريهم في ذلك شك ولا ريب أو لم تسمع ما قال الله تعالى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا [الأنعام 158] يقال في تفسيره إنه طلوع الشمس من مغربها فإذا

لم ينفع الرجل إيمانه عند الآيات في الدنيا فكيف ينفعه يوم القيامة فيستحق به النظر إلى الله تعالى فاعقل أيها المريسي ما يجلب عليك كلامك من الحجج الآخذة بحلقك وأما إدخالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حقق من رؤية الرب تعالى يوم القيامة قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] فإنما يدخل على من عليه نزل وقد عرف ما أراد الله تعالى به وعقل فأوضحه تفسيرًا وعبَّره تعبيرًا ففسر الأمرين جميعًا تفسيرًا شافيًا سأله أبو ذر هل رأيت ربك يعني في الدنيا فقال نور أنى أراه حدثنا

الحوضي وغيره عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا معنى

قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] في الحياة الدنيا فحين سئل عن رؤيته في المعاد قال نعم جهرة كما ترى الشمس والقمر ليلة البدر ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنيين على خلاف ما ادعيت والعجب من جهلك بظاهر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ تتوهم في رؤية الله جهرة أنها كرؤية الشمس والقمر ثم تدعي أنه من توهم من سميتهم بجهلك مشبهة فرسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواك أول المشبهة إذ شبه رؤيته برؤية الشمس والقمر كما شبه هؤلاء المشبهون في دعواك وأما أغلوطتك التي غلطت بها جهال أصحابك في رؤية الله يوم القيامة فقلت ألا ترى أن قوم موسى حين قالوا أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً [النساء 153] أخذتهم الصاعقة وقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] فأخذتهم الصاعقة وقالوا أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً {21}

[الفرقان 21] فادعيت أن الله تعالىا أنكر عليهم ذلك وعابهم بسؤالهم الرؤية فيقال لهذا المريسي تقرأ كتاب الله تعالى وقلبك غافل عما يتلى عليك فيه ألا ترى أن أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله في الدنيا إلحافًا فقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] ولم يقولوا حتى نرى الله في الآخرة ولكن في الدنيا وقد سبق من الله القول بأنه لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] أبصار أهل الدنيا فأخذتهم الصاعقة بظلمهم وسؤالهم ما حظره على أهل الدنيا ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم لم تصبهم تلك الصاعقة ولم يقل لهم إلا ما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذ سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم لاتضارون في رؤيته فلم يعبهم الله تعالى ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك بل حسنه لهم وبشرهم بشرى جميلة كما رويت أيها المريسي عنه وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه فقال عز من قائل

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22, 23] وقال للكفار كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين 15] إلى أن قال وقد فسرنا أمر الرؤية وروينا ما جاء فيها من الآثار في الكتاب الأول الذي أمليناه في الجهمية وروينا منها صدرًا في صدر هذا الكتاب أيضًا فالتمسوها هناك وأعرضوا ألفاظها على قلوبكم وعقولكم تنكشف لكم عورة كلام هذا المريسي وضلال تأويله ودحوض حجته إن شاء الله تعالى

وهو في الكتاب الأول الذي أحال عليه ذكر في ذلك عدة من الأحاديث والآثار مثل حديث جرير وأبي هريرة وأبي سعيد المشهورين الطويلين وهذه في الصحيحين

ومثل حديث صهيب في قوله تعالى لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26]

وحديث أبي موسى وجابر في الورود وهذه في

صحيح مسلم وحديث ابن عمر في الدجال واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذه الألفاظ في الصحيح وذكر حديث أبي بكر الصديق المرفوع

وحديث عبادة في الدجال وحديث ابن الحسين عن

بعض الصحابة وحديث ابن عباس وحديث

أنس في يوم المزيد وحديث عمار بن ياسر الذي فيه

أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وحديثًا عن ابن عمر في النظر وهذه الأحاديث في السنن والمسانيد

وذكر الآثار عن الصديق وحذيفة وأبي

موسى وابن أبي

ليلى والضحاك وعامر بن سعد في تفسير الزيادة

أنها النظر إلى وجه الله تعالى وذكر قول أبي موسى فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة وذكر أيضًا النظر إليه عن

عمار وانس والضحاك وعكرمة

وكعب وعمر بن عبد العزيز والذي تركه من ذلك أكثر

مما رواه ثم قال أبو سعيد فهذه أحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه من مشايخنا ولم يزل المسلمون قديمًا وحديثًا يروونها ويؤمنون بها لايستنكرونها ولا ينكرونها ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم وأجزل ثواب الله تبارك وتعالى في أنفسهم النظر إلى وجه الله الكريم خالقهم يوم

القيامة حتى ما يعدلون به شيئًا من نعيم الجنة قال وقد كلمت بعض أولئك المعطلة وذكر كلامًا طويلاً في تقرير الرؤية والجواب عن شبه النفاة إلى أن قال وقال بعضهم إنا لانقبل هذه الآثار ولانحتج بها قلت أجل ولا كتاب الله تعالى تقبلون أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فيهم يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنًا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسبنا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولها العلماء والفقهاء فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولاأثر وقد علمتم إن شاء الله تعالى أنه لايستدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا بهذه الآثار والأسانيد على مافيها من الاختلاف وهي السبب إلى ذلك

والنهج الذي درك عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله تعالى منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجًا بها واحتسابًا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله تعالى ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كلام الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من أثرهم واقتبسوا الهدي في سبيلهم وارضوا بهذه الآثار إمامًا كما رضي بها القوم لأنفسهم إمامًا فلعمري ما أنتم أعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم بل أضل وأجهل ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على

ماتروى فمن لم يقبلها فإنه يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين وقال الله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] فقال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا هنا ضللتم عن سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس لشيء محدود موصوف عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نَعْدُ ولكن الله تبارك وتعالى قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {53} [المؤمنون 53] فوجدنا المعقول عند كل حزب ما

تعقيب المؤلف على ما نقله من النصوص وكلام العلماء في مسألة الرؤية وأنها جائزة عقلا وواقعة شرعا في الآخرة

هم عليه والمجهول عندهم ماخالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفين كل فرقة منكن تدعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه والمجهول ماخالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بيّن في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن نرد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيضين بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الحائدة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ماخالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا هذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم منها بزعمكم فأنى تهتدون قلت كلام السلف والأئمة كثير في مسألة الرؤية وتقرير وجودها بالسمع وتقرير جوازها بالعقل وتقرير أن نفي جوازها

مستلزم للتعطيل وقد نبه السلف ومتكلمة الصفاتية على ماهو معلوم بالمعقول أنه من قال غنه لا يمكن رؤيته فقد لزم أن يعطله ويجعله معدومًا لأنه إذا كان موجودًا جازت رؤيته ثم للناس هنا طريقان أحدهما وهي طريقة أبي محمد ابن كلاب وغيره كأبي الحسن بن الزاغوني أن كل ما هو قائم بنفسه فإنه تجوز رؤيته ولم يلزموا ذلك في سائر الأعراض والصفات والثانية وهي طريقة أبي الحسن الشعري ومن اتبعه وقد سلكها القاضي أبو يعلى وغيره أن كل موجود تصح رؤيته سواء كان قائمًا بنفسه أو قائمًا بغيره وقد قرروا ذلك بطرق منها ما هو غير بين ويرد عليه أسئلة والتزموا لأجل ذلك لوازم يظهر فسادها وقد بينا في غير هذا الموضع كيف تقرير الطريقة العقلية في ذلك على وجه يفيد المقصود ولكن نشير هنا إشارة فنقول

معلوم أن الرؤية تتعلق بالموجود دون المعدوم ومعلوم أنها أمر وجودي محض لايسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة شيء من المذوق وكالأكل والشرب الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق وإذا كانت أمرًا وجوديًّا محضًا ولا تتعلق إلا بموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته ومالا يمكن رؤيته إما أن يكون موجودًا محضًا أو متضمنًا أمرًا عدميًّا والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببًا له ولا يكون شرطًا أو جزءًا من السبب إلا أن يتضمن وجودًا فكيف ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلاً عليه ومستلزمًا له ونحو ذلك وهذا من الأمور البينة عند التأمل ومن قال من العلماء إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة أو شرط علة فإنما يقول ذلك في قياس الدلالة

ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم لايقول أحد إن نفس العدم هو المقتضي للوجود ولايقول إن الوصف المركب من وجود وعدم هما جميعًا مقتضيان للوجود المحض وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية والمصحح للرؤية والفارق بين ما تجوز رؤيته وبين ما لاتجوز إما أن يكون وجودًا محضًا فلا حاجة بنا إلى تعيينه سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس أوبالعين بشرط المقابلة والمحاذاة أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع لكن المقصود أنه أمور وجودية وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود إذ وجوده هو الوجود الواجب ووجود كل ما سواه هو من وجوده وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود وحينئذ فيكون الله وله المثل الأعلى أحقّ بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لانستطيع التحديق في شعاع الشمس بل كما

لايطيق الخفاش أن يراها لا لامتناع رؤيتها بل لضعف بصره وعجزه كما قد لايستطاع سماع الأصوات العظيمة جدًّا لا لكونها لا تسمع بل لضعف السامع وعجزه ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع لا لكون ذلك المر مما يمتنع رؤيته وسماعه ولهذا وردت في الأخبار في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وغيره بان الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ماعجزوا عنه وتمام بسط هذا وتقريره له موضع آخر وإنما المقصود أن نقول إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بدائه العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ترون ربكم كما

ترون الشمس والقمر فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورًا في الدنيا وغنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم بل من المعلوم أن رؤية ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بدائه العقول وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية والفلاسفة وإنما خالف فيه فريق من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء كما قد يوافقهم القاضي أبو يعلى في المعتمد هو وغيره ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية إنه يرى لا في جهة ويلتزمون مااتفق أهل العقول على أنه من

الممتنع في بدائه العقول بل يقولون إن المعلوم ببدائه العقول أنه لايرى إلا ماهو متحيز أو قائم بمتحيز ومن ادعى رؤية ما ليس بمتحيز ولا قائمًا بمتحيز فقد خرج عن ضرورات العقول باتفاق عقلاء بني آدم من جميع الطوائف إلا هذا الفريق الذي اتفق الناس على تناقضهم فإن موافقيهم من الجهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على إمكان وجود موجود ليس بمتحيز ولا حال فيه وعلى إمكان معرفة ذلك بالعقل وإن كانوا عند جمهور العقلاء مخالفين لضرورة العقل فإنهم لا يوافقونهم على أن من كان كذلك فإنه يرى بل هؤلاء يوافقون جمهور العقلاء في أن ما لا يكون متحيزًا ولا حالاً في متحيز لا يمكن رؤيته حتى إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي

حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع والمعلوم جوازها بدلائل المعقول بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به لكن هؤلاء المثبتة الذين وافقوا عامة المؤمنين على إمكان رؤيته وانفردوا عن الجماعة بأنه يرى لافوق الرائي ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته هم قد وافقوا أولئك الجهمية في وجود موجود يكون كذلك فموافقتهم لهؤلاء في إمكان وجود موجود بهذا الوصف أبعد عن الشرع والعقل من قولهم تمكن رؤية هذا الموجود ولهذا تنكر الفطر وجوده أعظم مما تنكر رؤيته بتقدير وجوده كما قد ذكرنا أن قولهم هو فوق العرش وليس بجسم أقرب من قولهم لا داخل العالم ولا خارجه

نقل المؤلف عن "مناهج الأدلة" لابن رشد الحفيد كلامه في الرؤية

وهذا أيضًا مما عظم فيه إنكار المدعين للجمع بين الشريعة والفلسفة كالقاضي أبي الوليد بن رشد الحفيد فإنه قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وقال ما ذكرناه عنه إلى قوله ولذلك اضطررنا نحن أيضًا إلى وضع قول في موافقة الحكم للشريعة قال وإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول إن الذي بقى علينا من هذا الجزء ومن المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا

الجزء أعني في الجزء المتقدم يعني جزء التنزيه فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية وقال فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء المتقدم لقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] ولذلك أنكرها المعتزلة وردّت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع الأمر عليهم والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه وتعالى واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول وأعلوا الأحاديث

أنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون في الحجج ما يوجد في الناس أعني أنه كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة فيوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجج مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في

دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال فأما ما عاندوا به قول المعتزلة أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال إن هذا إنما حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذا كان جائزًا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة أعني في مكان ولا في كل جهة فقط بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضًا وهي ثلاثة أشياء حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون

المبصر ذا ألوان ضرورة والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الأبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع علوم المناظر والهندسة وقد قال القوم أعني الأشعرية إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا أن كل عالم حي لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطًا في وجود العالم وإن كلن كذلك قلنا لهم وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية فألحقوا الغائب منها بالشاهد على أصلكم وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بـ الاقتصاد أن

يعاند هذه المقدمة أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان يبصر ذاته في المرآة وأن ذاته ليست منه في جهة غير جهة مقابلة وذلك انه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته ليست تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط والخيال منه هو في جهة إذا كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة

وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عنهم في ذلك حجتان إحداهما وهي أشهر عندهم ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو أن يرى من جهة انه متلون أو من جهة انه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه ثم يقولون وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي ما هو غير جسم وباطل أن يرى من قبل أنه ملون إذ لو كان كذلك لما رئي اللون وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي الجسم قالوا وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب فلم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي من قبل

المرئي بذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون ولذاك ما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذا كله خلاف ما يعقل وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن ترى وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان فإنه من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محسوس هذه غير محسوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعًا كما ليس يمكن

أن يعود اللون صوتًا والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت ما فقد يجب أن يُسألوا فيقال لهم ما هو البصر فلابد أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات الألوان وغيرها ثم يقال لهم ما هو السمع فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط أو سمع فقط فإن قالوا هو سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا أنه بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرًا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سمعًا فقط لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معًا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئًا واحدًا حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسب يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه يعني هؤلاء الأشعرية وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة

وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وهي هذه الطريقة وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهو أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات والذات هي نفس الوجود المشترك لجميع الموجودات فإذاً الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما

أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه ولكان بالجملة لا يمكن في الحواس لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدًا فلا يكون فرق بين مدرك السمع وبين مدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أن ما يدرك ذاتيًّا أخذ أنه مدرك بذاته ولولا النشوء على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائمين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل

الهجينة التي هي ضحكة عند من عني بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله به وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أن من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودًا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا لايليق أيضًا الإفصاح به للجمهور فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك من التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى فوصف لهم نفسه سبحانه وتعالى بأوصاف تقرّب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لايجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من

ذلك بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب لهم المثال به إذ كان النور هو اشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودة في المعاد أعني أن تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذاً متى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل إنه نور وإن له حجابًا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا في حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفّروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل

وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضربت مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفًا من الناس لئلا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه السلام إنا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ومن جعل الناس شرعًا واحدًا في

تعقيب المؤلف على ما نقله عن ابن رشد وحكمه عليه بأنه يرى رأي الفلاسفة المنكرين للرب والمعاد

التعليم فهو كمن جعلهم شرعًا واحدًا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول وقد تبين لك من هذا أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا بإثباتها قلت قد عرف أن هذا الرجل يرى رأي الفلاسفة وأن ما أخبرت به الرسل في الإيمان بالله واليوم الآخر أكثره أمثال

مضروبة وهذا من أفسد الآراء وهو قول حذاق المنافقين الزنادقة وإن كانوا قد لايعلمون أن ذلك نفاقًا وزندقة بل يحسبونه كمال التحقيق والمعرفة كما يحسب ذلك هؤلاء المتفلسفة وليس هذا الموضع موضع بيان لذلك وإنما المقصود أنه مع كونه في الباطن يرى رأي الفلاسفة والمعتزلة في الرؤية وأنها مزيد علم كما يرى نحوًا منه طائفة من متأخري الأشعرية فقد علم انه لايمكن إثبات الرؤية التي أخبر بها الشارع مع نفي ما يقولونه إنه الجسم بل إثباتها مستلزم لما يقولون إنه الجسم والجهة فقد تبين أنه من جمع بين هذين فإنه مكابر للمعقول والمحسوس وهذا مما قد بينه بالدليل فيقبل منه وأما زعمه أنها في الباطن مزيد علم فهو لم يذكر عليه دليل حجة وقد بين فيما تقدم أنه لاحجة له على أصل

ذلك وهو نفي كونه جسمًا إلا إثبات أن النفس الناطقة ليست بجسم وبين فساد مااحتج به المتكلمون على أنه ليس بجسم بحجج واضحة ومعلوم أن الأصل الذي بنى عليه هو هذا النفي وهي مسألة النفس أضعف بكثير وأن جمهور العقلاء يضحكون مما يقوله هؤلاء في النفس من الصفات السلبية أكثر مما يضحكون ممن يثبت رؤية مرئي ليس هو في اصطلاحهم بجسم ولا في جهة كما قد بيناه في غير هذا الموضع وأما دعواه ودعوى غيره من الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن الرؤية التي أخبر بها الرسول مزيد علم فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة وأيضًا فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية وإن لم يُسلك في ذلك ما ذكره من المسالك الضعيفة فإن تلك المسالك الضعيفة إنما ضعفت لأن أصحابها أثبتوا رؤية ما ليس في جهة ولا هو متحيز ولا حال في متحيز فاحتاجوا لذلك أن يحذفوا من الرؤية الشروط التي لا تتم الرؤية بدونها

لاعتقادهم امتناع تلك الشروط في حق الله تعالى فأما إذا قيل إن الرؤية المعروفة يصح تعلقها بكل قائم بنفسه وإن شُرط فيها أن يكون المرئي بجهة من الرائي وأن يكون متحيزًا وقائمًا بمتحيز كانت الأدلة العقلية على إمكان هذه الرؤية مالا يمكن العقلاء أن يتنازعوا في جوازها وإنما ينفيها من نفاها لظنه أن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه على اصطلاحهم ليس بجسم ولا متحيز ولا حال في المتحيز ونحو ذلك من الصفات السلبية التي ابتدعوها مع مخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول والمقصود أن المنازعين للمؤسس يقولون له نحن نثبت بالكتاب والسنة والإجماع ونثبت بالأدلة العقلية الصريحة إمكان رؤية الرب ونثبت بالضرورة وبالنظر أن الرؤية لا تتعلق إلا بما يكون في اصطلاحهم في جهة وإلا بما يكون متحيزًا أو حالاً في المتحيز وإذا ثبت أن الرؤية لا تتعلق إلا بمتحيز أو حال في المتحيز مع أن المصحح لها هو الوجود وكماله ثبت أنه ليس في الموجودات ما لايكون متحيزًا ولا حالاً في المتحيز بل ثبت امتناع وجود ذلك وهذا يبقي هذه الصفة في النفس وفي الملائكة وفي الرب سبحانه وتعالى كما تقدم من الوجوه وكما ذكروه من الضرورة العقلية

الوجه التاسع من وجوه الجواب الثاني وهو أن العلو ثابت بالفطرة والعقل والاستواء ثابت بالشرع وهذا يقتضي إثبات الجهة والتحيز عند العقلاء

الوجه التاسع أن يقال قد أثبت بالفطرة التي اتفق عليها أهل الفطر السليمة وبالنقول المتواترة عن المرسلين من الأخبار وما نطقت به كتب الله تعالى وما اتفق عليه المؤمنون بالرسل قبل حدوث البدع أن الله تعالى عز وجل فوق العالم وثبت أيضًا بالكتاب والسنة والإجماع أنه استوى على العرش فالعلو على العالم معروف بالفطرة والمعقول وبالشرعة والمنقول وأمل الاستواء فإنما علم بالسمع المنقول وأكثر أهل الكلام والفلسفة من النفاة والمثبتة يقولون هذا لا يمكن إلا أن يكون جسمًا متحيزًا فيكون التحيز من لوازم علوه على العرش كما قد يقول ذلك أهل الفطر السليمة إذا بين لهم معنى الكلام وهذا يقتضي أن المعقول والمنقول يستلزم ذلك وهذه المقدمة الثانية قد قررها المؤسس ومتأخرو أصحابه في غير موضع والأولى قد قررها عامة الناس من المثبتين للصفات وسائر أهل الملل وسائر أهل الفطر السليمة حتى أئمة أصحابه وإذا ثبت هذا في واجب الوجود امتنع أن يكون غيره من النفس وغيرها موصوفًا بهذه السلوك لأن أحدًا لم يقل ذلك من

العقلاء لأن الفطرة والشرعة تقتضي ذلك فيها أيضًا فإنهم يعلمون بهذه الطرق أن جميع الأمور داخلة في العالم وجزء منه يمتنع أن تكون لا داخلة فيه ولا خارجة منه

فصل: في ختم الرازي مقدمته الأولى بما نقله عن أرسطاطاليس من أن من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى، والرد عليه من وجوه

فصل ثم قال الرازي ونختم هذا الباب بما روي عن أرسطاطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى

قال أبو عبد الله الرازي وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة فإنه ذكر مراتب تكوين الجسد في قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} [المؤمنون 12] فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر [المؤمنون 14] وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح بالبدن ليس مثل انقلاب النطفة من حال إلى حال بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدمة فلهذا السبب قال ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر [المؤمنون 14] فكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية تأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجًا آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وهذا آخر الكلام في هذه المقدمة قلت والكلام على هذا من وجوه

الوجه الأول في الرد

أحدها أن هذا الكلام هو وما ذكره من الحجة له أشبه بكلام أهل الجهل والضلالة ومن لا يدري ما يخرج منه من المقال من كلام أهل العقل والعلم والبيان وهو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين من كلام العلماء المجادلين بالحق وما أحسن ماقال الإمام أحمد رحمه الله في بشر المريسي إمام الجهمية قال كان صاحب خطب لم يكن صاحب حجج بل هذا الكلام دون كلام أهل الخطب والحجج الثاني أن يقال له ألم يكن في أثارة الأنبياء والمرسلين ما يُستغنى به في أعظم المطالب وأشرف المعارف عن مايروى عن معلم المبدلة من الضالين الذين انتقلوا عن الحقيقة الثابتة بالعقل والدين وهو رأس هؤلاء الدهرية ثم هذا الكلام لم تعلم أنه ثابت عنه وإنما قلت بما يروى عنه فهو منقطع عن هؤلاء الصابئة المبدلين

الوجه الثالث في الرد

الثالث أنه لو نقل واحد في هذا الباب شيئًا من الإسرائيليات عن المتقدمين لم تقم به حجة إن لم يكن ذلك ثابتًا بنقل نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم وأما ما يذكره لنا أهل الكتابين ومن أسلم منهم عن الأنبياء المتقدمين فليس لنا تصديقه ولا تكذيبه إن لم يكن فيما علمناه مايدل على صدقه أو كذبه كما في صحيح البخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمَنَّا بِاللهِ

وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا الآية [البقرة 136] وفي سنن أبي داود عن ابن أبي نملة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم قال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماحدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلاً

لم تصدقوه وإن كان حقًّا لم تكذبوه وروى البخاري أيضًا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزِلَ على رسوله أحدث الكتب عهدًا بالرحمن تقرؤونه محضًا لم يشب وقد أخبركم ربكم أن أهل الكتاب بدلوا كلام الله وغيروه وكتبوا بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً ألا نهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل

عليكم وروى البخاري أيضًا عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان من أصدق

هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب فإذا كان أهل الكتاب الذي أنزله الله تعالى والذي وجب علينا أن نؤمن بما فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وقال قولوا آمنا بالله ورسله إذا رووا لنا شيئًا من ذلك لم نصدقه إن لم نعلم من غير ذلك الوجه أنهم صادقون وهم يقرؤون ذلك بلسان الأنبياء ثم يترجمونه لنا بالعربية فهؤلاء الذين قرؤوا كتب الصابئة من الفلاسفة وغيرهم بلغتهم اليونانية وغيرها ثم ترجموها بالعربية كيف نقبل ذلك منهم والمنقول عنهم ليسوا أنبياء ولا ممن يصدقون لو

الوجه الرابع في الرد

شافهونا ولو كانـ ـوا من علماء أهل الكتابين لم يقبل ما يقولونه فكيف وهم من الصابئة المبدلين المتكلمين في العلم الإلهي بما يخالف ما جاءت به الرسل عليهم السلام وهم أشد تبديلاً وتغييرًا من أهل الكتابين بشيء كثير فكيف في كلام مرسل لم يوجد في كتبهم وإنما نقل عنهم نقلاً مطلقًا الوجه الرابع أن جميع العقلاء الذين خبروا كلام أرسطو وذويه في العلم الإلهي علموا أنهم من أقل الناس نصيبًا في معرفة العلم الإلهي وأكثر الناس اضطرابًا وضلالاً فإن كلامه وكلام ذويه في الحساب والعدد ونحوه من الرياضيات مثل كلام بقية الناس والغلط في ذلك قليل نادر وكلامهم في الطبيعيات دون ذلك غالبه جيد وفيه باطل وأما كلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب مع قلته فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيُرتقى ولا سمين فينتقل

هو قليل كثير الضلالة عظيم المشقة يعرفه كل من له نظر صحيح في العلوم الإلهية فكيف يستدل بكلام مثل هؤلاء في العلم الإلهي وحالهم هذه الحال وهذا المصَنّّف هو القائل لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن

هذا بمنزلة أن يستدل الرجل في مسائل الحلول والتثليب بكلام بطرس صاحب

الرسائل التي عند النصارى وهو ممن غير دين المسيح وبدله وقد اعترف أساطين الفلسفة بأن العلم الإلهي لاسبيل لهم إلى العلم واليقين فيه وإنما يؤخذ فيه بالأولى والأخلق الأحرى وممن ذكر ذلك عنهم صاحب هذا الكتاب أبو عبد الله

الوجه الخامس في الرد

الرازي في كتابه الذي سماه المطالب العالية فإذا كانوا معترفين بأنه ليس عندهم علم ولا يقين في العلم الإلهي كيف يستدل بكلامهم فيه الوجه الخامس أن يقال له لم تقبل هذه الوصية التي نقلتها عن الذي ائتممت به من أئمة الضلال وذلك أنه قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة

أخرى وهذا يناسب ترتيب تعاليمه حيث ينقل أتباعه من درجة إلى درجة كما ينقلهم من المنطق والرياضي إلى الطبيعي ثم إلى الإلهي الذي لهم فجعل ذلك معلقًا على إرادة الشرع في المعارف الإلهية وأنت جعلت ما تذكره من النفي في هذا الباب اعتقادًا واجبًا على جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم بل كفّرت في الكتاب من خالفك فلو تركت الماس على ما هم عليه إلا من أراد أن يشرع في معارفك لكنت متابعًا لهذا الإمام المضل لكنك ابتدأت بخطاب ذلك الملوك والعامة وغيرهم ممن لم يُرد الشروع في معارفك الإلهية

الوجه السادس في الرد

الوجه السادس أن يقال ما معنى قوله فليستحدث لنفسه فطرة أخرى وهم مع ذلك قد نصوا على أن روم نقل الطباع من ردي الأطماع شديد الامتناع فكيف يحدثون فطرة أخرى والفطرة هي الخلقة التي فطر الله عباده عليها أتريد أن يبدل خلقته وما فيها من قوى الإدراك والحركة فهذا غير مقدور للبشر فإن الله تعالى فطر عباده على ذلك أم تريد أن يترك ما فطر عليه من المعارف والعلوم ويستحدث لنفسه معارف تخالف ذلك وهذا هو الذي يصلح أن يريده فهذا أمر تبديل فطرة الله التي فطر عليها عباده وهي طريقة المبتدعة المبدلين لفطرة الله وشرعته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه فأهل الكتاب المنزل بدلوا وحرفوا من كتاب الله تعالى مابدلوه وحرفوه وهم مع الصابئين والمشركين القائمين بالنظر العقلي بدلوا من فطرة الله تعالى التي فطر عباده عليها وغيروا منها ما

غيروا ولهذا قيل إن أرسطو هذا بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم فغيروا فطرة الله تعالى وبدلوا كتاب الله والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته خلقه وأمره وأفسدوا اعتقادات الناس وإراداتهم إدراكاتهم وحركاتهم قولهم وعملهم من هذا وهذا كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل القول الذي أمروا به والعمل الذي أمروا به ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل لهم وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ [البقرة 58] فدخلوا الباب يزحفون على

أستاهم وقالوا حبة في شعرة وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن مبدأ التجهم في هذه الأمة كان أصله من المشركين ومبدلة الصابئين من الهند واليونان وكان من مبدلة أهل الكتاب من اليهود وأن الجعد ابن درهم ثم الجهم بن صفوان ومن اتبعهما أخذوا ذلك

عنهم وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبيلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل أرسطو وذويه وظهر في ذلك الزمان الخرمية وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين وبعض دين المجوس كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل

والنفس وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان وهم كانوا كثيرًا يميلون إلى طريقة الصابئة المبدلين وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا وذكر ابن

سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر وظهر بذلك تصديق ما اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن وروى

البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لاتقوم الساعة حتى تأخذ أمتي ما أخذ القرون شبرًا بشبر وذراعًا بذراع فقيل يارسول الله كفارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك

ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى والنبوة كلما ظهر نورها انطفت البدع وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورًا فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج

والتشيع ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلاً وكفرًا كفرهم من جنس كفر

الوجه السابع في الرد

فرعون بل شر منه الوجه السابع أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله وأن يقروهم على فطرتهم التي فطروا عليها وبذلك جاءتهم الرسل لم يأمروهم باستحداث فطرة غير الفطرة التي فطروا عليها ولا بتغيير تلك الفطرة كما أمرهم هؤلاء المبدلون لفطرة الله تعالى وكتبه والله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على الإقرار به وعبادته وحده قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ

فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} [الروم 30 - 32] وهؤلاء الصابئة المبدلون ومن بدل دينه من اليهود والنصارى وسائر المشركين هم مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وهم من الذين اختلفوا من بعد ما كانوا امة واحدة كما قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [البقرة 213] ولهذا يوجد بين هؤلاء الصابئة المتفلسفة وغيرهم من الاختلاف والافتراق في أصول الدين أعظم مما يوجد بين اليهود والنصارى لأن أهل الكتاب اقرب إلى الهدى من الصابئين فمبتدعتهم دون مبتدعة الصابئين والتفرق والاختلاف في الصابئين أكثر ولهذا فيهم من عبادة الأصنام والكواكب والشرك ما لا يوجد منه في أهل الكتابين وإن كان قد وجد فيهم من الشرك ما وجد فهو في أولئك أعظم وهؤلاء وأمثالهم هم الذين بدلوا وغيروا ما فطر الله تعالى عليه عباده وأرسل به رسله وصار فيهم من الاستكبار وطلب العلو ودعوى التحقيق في العلوم

والمعارف وعلو الهمة في الأعمال ماهم في الحقيقة متصفون به كما قال تعالى فيهم إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ [غافر 56] وقال تعالى وتقدس فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {83} فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ {84} فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر 83 - 85] وقال تعالى وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ {124} [الأنعام 124] وبالجملة فهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل وخطاب القرآن لهم كثير جدًّا فإنهم أئمة لأتباعهم وهم من السادة والكبراء الذين قال الله تعالى في أتباعهم إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً {68} [الأحزاب 64- 68] وكان

فرعون موسى من أكابر ملوك هؤلاء وقد ذكر الله تعالى في قصته في القرآن مافيه عبرة وكذلك مشركو قريش الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً كان فيهم الشبه بهؤلاء أن يكونوا أئمة من كفر بعدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم وكان من أئمة الكفر الوحيد الذي قال الله تعالى فيه

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً {12} وَبَنِينَ شُهُوداً {13} إلى قوله تعالى إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} [المدثر 11 - 19] فاستعمل نظر أهل المنطق من التفكير الذي يطلب به الحد الأوسط ثم التقدير الذي هو القياس الذي ينتقل فيه من الحد الأوسط إلى المطلوب وكذب بكون القرآن كلام الله تعالى وجعله كلام البشر وهذا في الحقيقة قول هؤلاء المتفلسفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب فأمر الأمة بقبول وصية أمثال هؤلاء دون أن يذكر في ذلك ما أوصى الله تعالى به عباده وما وصت به رسله والوصية متضمنة تبديل فطرة الله تعالى بفطرة أخرى من أعظم تبديل الفطرة في العلوم والأعمال وذلك من تبديل دين الله

فصل: في المقدمة الثانية للرازي ومناقشة المؤلف له

فصل قال أبو عبد الله الرازي المقدمة الثانية اعلم أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشيء واحتج عليه بثلاث حجج ثم قال فظهر فساد قول من يقول لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله سبحانه وتعالى وبينا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية قلت نفي النظير والمثل الكفء والسمي ونحو ذلك عن

الله سبحانه وتعالى متفق عليه بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن وقد بينا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه وبَيَنَّا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته وانه يستلزم كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا قديمًا محدثًا خالقًا مخلوقًا واجبًا ممكنًا والحجج الثلاثة التي ذكرها الرازي في هذا المطلوب ضعيفة كما سنبينه إن شاء الله وإن كانت هذه المقدمة في نفسها حقًّا إذا فسرت بما يوافق الكتاب والسنة والعقل الصريح فإن هذا الرجل كثيرًا مايقول الحق ولكن تكون الحجج التي يقيمها عليه ضعيفة وكثيرًا مايقول ماليس بحق وكثيرًا ما يتناقض وهو في هذه المقدمة لم يثبت نفي الشبيه والنظير عن الله تعالى ولكن أراد أن يثبت أنه لايجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه فأثبت سلب هذا العموم لم يثبت نفي النظير عن الله تعالى ومتى ثبت نفي المثل عن الله تعالى ثبت سلب هذا العموم لانتقاض هذه

القضية العامة الكلية ولايلزم من ثبوت نقيض هذه القضية وسلبها ثبوت نفي المثل عن الله فإنه إذا لم يجب أن يكون لكل موجود نظير لم يلزم من ذلك عدم وجود النظير لكل موجود إذ نفي الوجوب لاينفي الوجود ولو ثبت أن في الموجودات ما لانظير له بل ما يجب نفي النظير عنه لم يثبت بمجرد هذا الإبهام أنه الله إلا بدليل آخر فكيف إذا لم يثبت إلا مجرد عدم وجوب النظير لكل موجود وإذا عرف مضمون هذه المقدمة فإنما استفاد بها قوله فثبت فساد قول من يقول إنه لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا وإذا كان هذا هو الذي استفاده بهذه المقدمة فينبغي أن يعلم أن هذا الكلام لايقوله من يجزم بقول ولا يقوله أحد من أهل الأقوال المعتبرة وما أعلم أحدًا يقوله ممن يذكر له قول لكن لعله قد قاله بعض الجهال بالمذاهب والدلائل وأهل الريب والشك في ذلك وذلك أن المنازعين له عندهم يُعلم بضرورة العقل ونظره امتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإذا كان هذا ممتنعًا عندهم لم يجز أن يكون لهذا الممتنع نظير

خلاصة مناقشة المؤلف للرازي في لفظ النظير

ولم يجز أن يقول عاقل إن هذا الممتنع لا أعقله إلا إذا كان له نظير فإن هذا يكون تعليقًا لعقله على وجود نظيره ويكون عاقلاً له إذا كان له نظير ومتى جوز وجود نظيره لم يكن هو في نفسه ممتنعًا عنده والقائل لهذا إن كان يعتقد امتناع هذا لم يجوز أن يكون له في نفسه وجود فضلاً عن أن يجوّز وجود نظير له وغن كان يعتقد إمكانه لم يحتج عقله له إلى وجود نظير لكن قد يقول هذا من لايعلم امتناعه ولا إمكانه ويقول أنا لا أعقل شيئًا إلا شيئًا له نظير فهذه المقدمة تبطل هذا القول لو كان أقام حجة صحيحة عليها وتحقيق الأمر أن لفظ النظير إن أراد به هذا القائل أني لا أعقل شيئًا إن لم يكن له نظير من كل وجه فهذا لا ينفعه فإنه يسلم أن الله تعالى ليس له نظير من كل وجه وإن قال إن لم يكن له نظير من بعض الوجوه بمعنى أن يكون بينه وبين غيره مشابهة في شيء فالرازي لم يقم دليلاً على إفساد هذا بل قد سلم في كتبه أن هذا يقوله كل أحد قال في كتابه نهاية العقول وهو اجل ماصنفه في الكلام في المسألة الثالثة في

نقل المؤلف من كتاب "نهاية العقول" للرازي الاختلاف في تكفير المخالف للحق من أهل الصلاة

أن مخالف الحق من أهل الصلاة يكفر أولا قال قال أبو الحسن الأشعري في أول كتاب مقالات الإسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ضلل بعضهم بعضًا فصاروا فرقًا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم قال فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب من كفر المخالفين قال فأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال لاأرد شهادة كل أهل الأهواء والأقوال إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل

الكذب وأما أبو حنيفة فقد حكى الحاكم صاحب

المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدًا من أهل القبلة وحكى الرازي عن الكرخي

وغيره مثل ذلك قال وأما المعتزلة فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال قال وأما المشبهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول أكفر من يكفرني فكل مخالف يكفرنا نكفره وإلا فلا قال والذي نختاره أنا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة وهذا الذي اختاره آخرًا خلاف ماذكره في تأسيسه ومحصله من

تكفير المجسمة دون غيرهم والمقصود هنا أنه ذكر حجج من كفر المشبهة وتكلم عليها فقال وأما تكفير المشبهة فقد كفرهم أصحابنا والمعتزلة من وجوه إلى أن قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن

يكون هو أن يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس مشبهًا لخلقه من كل الوجوه أو ليس كذلك والأول باطل لأن أحدًا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك ولايجوز أن يجمعوا على تكفير من لاوجود له بل المشبه الذي يثبت الإله على صفة يشبهه معها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا أثبت جسمًا مخصوصًا بحيزٍ معين فإنه يشتبه عليه بالأجسام المحدثة فثبت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع فالمجسم كافر ثم قال في الجواب عن هذا قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلاً بكون الله تعالى وتقدس شبيهًا بخلقه من كل الوجوه فلا شك في

بيان المؤلف تسليم الرازي أن كون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه متفق عليه بين المسلمين

كفره لكن المجسمة لايقولون بذلك فلا يلزم من قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولايلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق قال وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله تعالى شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه فهذا لايقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود وشيء وعالم وقادر والحيوانات أيضًا كذلك وذلك لايوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى الإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه قلت هذا الكلام منه تسليم لأن كون الله شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه متفق عليه بين المسلمين لاتفاقهم على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر وعلى هذا فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه لاشتراكهما في الوجود

نقل المؤلف عن الرازي في "نهايته" على لسان منازعيه إجماع المسلمين على تكفير المشبهة

والشيئية فقوله بعد هذا لايجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه إن عنى به شبيهًا به من كل وجه فقد ذكر أن أحدًا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك وإن عنى به شبيهًا من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا محل وفاق بين المسلمين وإن أراد نوعًا من التشبيه فهو لم يذكر في هذه المقدمة تفصيلاً ولم يوضح سبيلاً ومن العجب انه ذكر في نهايته على لسان منازعيه إجماع المسلمين على تكفير المشبهة وأنه ليس هو الذي يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس شبيهًا بخلقه من كل الوجوه فإن هذا لم يذهب إليه عاقل فتعين أن يكون هو الذي يثبت الإله على صفة يشبهه معها بخلقه ثم ذكر هو إجماع المسلمين على كون الله شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه

فالذي ذكر أولئك إجماع المسلمين على تكفير قائله ذكر هو إجماع المسلمين على القول به وهذا الذي قرره في نهاية العقول في علم الأصول الذي صنفه بعد هذا الكتاب وقرر في أوله أن علم أصول الدين أجل العلوم وأشرفها وأعلاها وأنهاها قال ثم إن جماعة من الأفاضل الذين لايوجد أمثالهم غلا على تباين الأعصار ونوادر الأدوار لما طال اقتراحهم لدي وكثر إلحاحهم علي في تصنيف كتاب في أصول الدين يشتمل على نهايات الأفكار العقلية وغايات المباحث العلمية صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى على نحو ملتمسهم وأوردت فيه من الدقائق والحقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين

والمخالفين وإن كتابي يتميز على سائر الكتب المصنفة في هذا المعنى بثلاثة أمور أحدها الاستقصاء في الأسئلة والأجوبة والتعمق في بحار المشكلات على وجه ربما يكون انتفاع صاحب كل مذهب بكتابي هذا أكثر من انتفاعه بالكتب التي صنفها أصحاب ذلك المذهب فإني أوردت من كل كلام زبدته ومن كل بحث نقاوته حتى إني إذا لم أجد لأصحاب ذلك المذهب كلامًا يعول عليه ويلتفت إليه في نصرة مذهبهم وتقرير مقالتهم استنبطت من نفسي أيضًا ما يمكن أن يقال في تقرير ذلك المذهب وتحرير ذلك المطلب وإن كنا نرد بالعاقبة كل رأي ونزيف كل رؤية سوى مااختاره أهل السنة والجماعة ونبين بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة أن ذلك

الذي يجب له الانقياد بالسمع والطاعة وثانيهما استنباط الأدلة الحقيقية والبراهين اليقينية المفيدة للعلم الحقيقي واليقين التام لا الإلزامات التي منتهى المقصود من إيرادها مجرد التعجيز والإفحام وثالثها الترتيب العجيب والتلفيق الأنيق الذي يوجب التزامه على ملتزمه إيراد جميع مداخل الشكوك والشبهات والاجتناب عن الحشو والإطناب وهذا كله لايعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوعه على مجامع مباحث العقلاء من المحققين والمبطلين والموافقين والمخالفين حتى يمكن بعد ذلك فهم مافيه من الأدلة العقلية والشكوك العويصة القوية فإني قلما تكلمت في المبادئ والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفًا إلى

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الرازي في مقدمة كتابه "نهاية العقول"

تلخيص النهايات والغايات قال ولما خرج الكتاب على هذا الوجه سميته نهاية العقول في دراية الأصول ليكون الاسم موافقًا للمسمى واللفظ مطابقًا للمعنى وجعلته خالصًا لوجه الله تعالى الكريم وطلب مرضاته والفوز العظيم بثوابه والهرب من اليم عذابه وسألت الله تعالى أن يعظم لي الانتفاع به وللمسلمين في الدارين ويجعله سبب السعادة في المنزلتين إنه قريب مجيب فهذا وصفه لكلامه في هذا الكتاب الذي صنفه بعد هذا وقد نقض فيه ماذكر في هذا الكتاب في اسم المشبهة وتكفيرهم وذكر اتفاق المسلمين على إثبات التشبيه من بعض الوجوه وإذا كانوا متفقين عليه كيف يكون صاحبه هو المشبه المذموم في قول

نقل المؤلف عن كتاب "أساس التقديس" للرازي تقريره أن إثبات المساواة في بعض الأمور لا يوجب التشبيه وسرد الأمثلة على ذلك

المسلمين وذكر أن القائلين بالجسم واختصاص الله تعالى بالمكان وإن غناهم متكلم بلفظ التشبيه فلا حجة على تكفيرهم وقد ذكر في هذا الكتاب ضد هذين القولين في اسم التشبيه وفي تكفير المشبه مع أن الحجج التي ذكرها في هذا الكتاب من جانب منازعه قوية عظيمة توافق مارجع إليه في نهايته فقال في القسم الرابع وقد جعله ثلاثة فصول قال الفصل الثاني في أن المجسم هل يوصف بأنه مشبه أم لا قال المجسمة إنا وإن قلنا إنه جسم مختص بالحيز والجهة غلا أنا نعتقد أنه بخلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته وذلك يمنع من القول بالتشبيه فإن إثبات المساواة في بعض الأمور لايوجب إثبات التشبيه ويدل على ذلك أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ولم يقل أحد بأن ذلك يوجب التشبيه فالأول قال سبحانه وتعالى في صفة نفسه إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال في صفة الإنسان

فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً {2} [الإنسان 2] والثاني قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود 37] وقال في الإنسان تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة 83] والثالث قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وفي الإنسان ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج 10] وقال في نفسه مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً [يس 71] وفي الإنسان يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] الرابع قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال في الإنسان لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف 13] الخامس قال في صفة نفسه الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر 23] ووصف الخلق بذلك فقال إخوة يوسف يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ [يوسف 78] وقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} [غافر 35]

السادس سمى نفسه بالعظيم ثم وصف العرش به فقال رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {26} [النمل 26] السابع وصف نفسه بـ الحفيظ العليم ووصف يوسف نفسه بهما فقال إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {55} [يوسف 55] وقال فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ {101} [الصافات 101] وقال في آية أخرى بِغُلَامٍ عَلِيمٍ {28} [الذاريات 28] الثامن سمى تحيتنا سلامًا فقال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب 44] وسمى نفسه سلامًا وكان يقول صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام

التاسع المؤمن قال تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات 9] ووصف نفسه تعالى به فقال السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ [الحشر 23] العاشر الحكم فقال أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ [الأنعام 62] ووصفنا به فقال فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا [النساء 35] الحادي عشر الراحم الرحيم وهو ظاهر

الثاني عشر الشكور فقال إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} [فاطر 34] الثالث عشر العلي والإنسان يسمى بذلك منهم علي رضي الله عنه الرابع عشر الكبير قال عن نفسه وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {23} [سبأ 23] وقال إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً [يوسف 78] وقال حكاية عن المرأتين وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} [القصص 23] والخامس عشر الحكيم والله تعالى وصف نفسه في كتابه به فقال تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {42} [فصلت 42] السادس عشر الشهيد قال في حق الخلق فَكَيْفَ إِذَا

جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء 41] وقال في حق نفسه أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} [فصلت 53] السابع عشر الحق قال الله تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه 114] وقال وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء 105] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان 26] وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ [الفرقان 33] وهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [الفتح 28] الثامن عشر الوكيل قال تعالى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {102} [الأنعام 102] وقد يوصف الخلق بذلك فيقال فلان وكيل فلان التاسع عشر المولى قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ {11} [محمد 11] ثم قال تعالى في حقنا وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء 33] والنبي صلى الله عليه وسلم

قال من كنت مولاه فعلي مولاه العشرون الولي قال تعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة 55] وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ

وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة 71] الحادي والعشرون الحي قال الله تعالى اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} [آل عمران 2] وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 30] الثاني والعشرون الواحد قال تعالى قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام 19] ويقع هذا الوصف على أكثر الأشياء فيقال ثوب واحد وإنسان واحد الثالث والعشرون التواب قال الله تعالى إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً {16} [النساء 16] وسمى الخلق به فقال إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة 222]

الرابع والعشرون الغني قال الله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد 38] وقال إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء [التوبة 93] وقال النبي صلى الله عليه وسلم خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم الخامس والعشرون النور قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور 35] وقال يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم [الحديد 12]

السادس والعشرون الهادي قال تعالى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [القصص 56] وقال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ {7} [الرعد 7] السابع والعشرون المستمع قال تعالى فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ {15} [الشعراء 15] وقال لموسى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} [طه 13] الثامن والعشرون القديم قال تعالى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} [يس 39] قال واعلم أنه لانزاع في أن لفظ الموجود والشيء والواحد والذات والمعلوم والمذكور والعالم والقادر والحي والمريد والسميع والبصير والمتكلم والباقي واقع على الحق سبحانه وتعالى وعلى خلقه فثبت بما ذكرناه أن المشابهة من بعض الوجوه لاتوجب أن يكون قائله موصوفًا

بأنه شبه الله بالخلق وبأنه مشبه ونحن لانثبت المشابهة بينه وبين خلقه إلا في بعض الأمور والصفات لأنا نعتقد أنه وإن كان جسمًا إلا أنه بخلاف سائر الجسام في ذاته وحقيقته فثبت أن إطلاق اسم المشبهة على هذه الطائفة كذب وزور وهذا جملة كلامهم في هذا الباب قال واعلم أن حاصل هذا الكلام من جانبنا أنا قد دللنا في القسم الأول من هذا الكتاب على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان الباري جسمًا لزم أن يكون مثلاً لهذه الأجسام في تمام الماهية وحينئذ فيكون القول بالتشبيه لازمًا ولما لم يدل الدليل على أن الأشياء المتساوية في

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الرازي في مبحث المساواة بين الخالق والمخلوق

الموجودية والعالمية والقادرية فإنه لا يجب تماثلها في تمام الماهية فظهر الفرق قلت قد ذكر ماذكر في حجج الذين سماهم مجسمة مع تقصير فيها فإنها حجج كثيرة جدًّا ومع هذا فلم يمكنه أن يمنعهم ثبوت التشبيه من بعض الوجوه كما قرره ولا أمكنه أن يمنع أن هذا ثابت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين لكن ادعى أن التجسيم يوجب إثبات مثل لله في تمام ماهيته وذلك ليس تشبيهًا في بعض الأمور بل هوة مماثلة في كمال الحقيقة والماهية قلت ولا ريب أن من أثبت لله مثلاً في كمال حقيقته فهو مشبه بل هو أعظم من أن يقال مشبه بل هو جاعل لله تعالى كفوًا وشبهًا وندًّا قال فالأشياء المشتركة في الموجودية والعالمية والقادرية لايجب تماثلها في تمام الماهية قلت وهذا حق فإن اشتراك الشيئين في كونهما موجودين أو عالمين

اعتراف الرازي في "تأسيسه" بأن التشبيه من بعض الوجوه ثابت بالكتاب والسنة واتفاق العقلاء

أو قادرين لايوجب استواءهما في حقيقتهما والغرض انه في هذا الكتاب أيضًا قد اعترف بأن التشبيه من بعض الوجوه ثابت بالكتاب والسنة واتفاق العقلاء فضلاً عن المسلمين لكن خصومه المجسمة إنما عابهم بإثباتهم المشابهة في تمام الماهية وهذا مورد النزاع بينه وبينهم وسنذكر إن شاء الله تعالى مايجب الحكم بالقسط بينه وبينهم إذا انتهينا إلى ذكر حججه التي أحال عليها ونبين أن الأجسام كلها هل هي مستوية في تمام ماهيتها وكمال حقيقتها أم لا إذ هذا ليس موضع الكلام في ذلك وهذا الفصل وإن كان ذكره في آخر الكتاب فذكرناه في هذا الموضع لنبين اعترافه واعتراف سائر الخلق بما قامت عليه الأدلة الشرعية والعقلية من ثبوت المشابهة من بعض الأمور وأن ذلك لايستلزم التماثل في الحقيقة وظهر بذلك ما في هذا اللفظ من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والمقصود هنا أن لفظ الشبيه والنظير فيه إجمال كبير واشتراك في اللفظ وإجمال في المعنى فإن أراد بما نفاه بهذه

المقدمة نفي الشبيه من كل وجه فهذا محل وفاق ولاينفعه ذلك وإن أراد به نفي الشبيه من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا متفق على ثبوته فلم يرد نفيه ولم يقم دليلاً على نفيه والقول الذي ذكره عن بعض منازعيه لا يمكننا عقل موجود لامتصل ولا منفصل إلا إذا وجدنا له نظيرًا قد ذكرنا أنه لايقوله من يعلم امتناع موجود لا متصل ولا منفصل ولايقوله من يعلم إمكانه وإنما يقوله الواقف الذي يطلب للشيء نظيرًا وقد ذكر هذا الرازي أنه لايطلب أحد من العقلاء نظيرًا من كل وجه وذكر أن الشبيه من بعض الوجوه ثابت للرب سبحانه وتعالى باتفاق المسلمين فضلاً عن أن يكون ثابتًا لغيره وهذا المنازع له لايطلب إلا نظيرًا من بعض الوجوه فإذا كان مطلوبه حاصلاً باتفاق المسلمين لم يكن قوله فاسدًا فأحد الأمرين لازم إما أن لايكون قال أحد هذا القول أو يكون

الحجة الأولى من حجج الرازي في تقرير مقدمته الثانية

هذا القول حقًّا مسلمًا بالاتفاق وعلى التقديرين فلا تصح مناظرة قائله فإن قيل هذا المنازع طلب نظيرًا في مورد النزاع وهو أني لا أثبت موجودًا لاداخل العالم ولا خارجه إن لم يكن له شبيه من هذا الوجه والمخالفون له لايثبتون المشابهة من هذا الوجه قيل هذا حق وهو تشبيه من وجه مخصوص لكن المصنف لم يثبت جواز وجود موجود بدون هذا التشبيه الخاص إذ لو أثبت ذلك لكان قد أثبت جواز موجود لايكون داخل العالم ولاخارجه وذلك لو أثبته كان له مغنيًا عن هذه المقدمة بل ادعى أنه لايجب في الوجود الشبيه والنظير لكل موجود ولفظ الشبيه مجمل كما قد ذكره هو وإذا كانت الدعوى مجملة تحتمل مورد النزاع وما هو اعم منه وما هو أخص منه لم تكن إقامة الدليل عليها دافعة للخصم وهذا بين وأما حججه فإنه قال الحجة الأولى أن بديهة العقل لاتستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفًا له في تلك الخصوصية وإذا لم يكن هذا

جواب المؤلف عليها من وجوه

مدفوعًا في بدائه العقول علمنا أنه لايلزم من عدم نظير الشيء عدم ذلك الشيء وعلى هذا وجوه الأول إن عدم استبعاد البديهة لايقتضي عدم استبعاد العلم النظري وكذلك كونه غير مدفوع في بديهة العقل لا يقتضي أنه لايكون مدفوعًا في نظره فإن حاصل هذا أنه لا يعلم بالبديهة امتناع هذا وفرق بين أن لايعلم بالبديهة امتناعه وبين أن يعلم بالبديهة إمكانه وإذا لم يعلم بالبديهة امتناعه لم يجز أن يقال فعلمنا أنه لايلزم من عدم نظير الشيء عدم الشيء فإن هذا لم يعلم مما ذكره إنما أفاد ماذكره عدم العلم البديهي بوجود موجود لانظير له لم يعدم وجود علم بإمكانه ولو كان قد قال نعلم بالبديهة أن الشيء قد يكون موجودًا ولا يكون له نظير ونعلم بالبديهة إمكان وجود شيء لانظير له لكان الدليل تامًّا لكن هو لم يذكر إلا الإمكان الذهني دون الخارجي والإمكان الذهني ليس فيه علم لا بالامتناع ولا بالإمكان ولكن العلم بالإمكان الخارجي فيه بالإمكان الثاني أن الذي ادعاه أنه لايستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ماسواه مخالفًا له في تلك

الحجة الثانية من حجج الرازي في تقرير مقدمته الثانية

الخصوصية وهذا إثبات للمخالفة في الخصوصية وإن كانت المشابهة ثابتة في غير الخصوصية بحيث يكون بينهما قدر مشترك وقدر مميز والمنازع له لم ينف وجود هذا بل قد حكى الإجماع على أن أحدًا من العقلاء لم يثبت المشابهة من كل وجه فلا يفيده هذا الوجه الثالث أن المنازع له الذي ذكره في هذه المقدمة طلب إثبات شيء يكون لاداخل العالم ولا خارجه وذكر أنه لا يقر بهذا إلا إذا علم المشابهة في هذا فإن لم يقم دليلاً على أن وجود موجود لايقتضي وجود شبيه له من هذا الوجه إما دليلاً يخص هذا الوجه أو دليلاً يعم هذا الوجه وغيره لم يكن قد استدل وهذا الدليل إنما فيه جواز المخالفة في تلك الخصوصية ولايلزم من جواز المخالفة في تلك الخصوصية جواز المخالفة في كونه لاداخل العالم ولاخارجه ثم قال الحجة الثانية هي أن وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود مايشابهه أو لايتوقف والأول باطل لأنهما لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم

إبطال المؤلف لهذه الحجة من وجوه

فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول بل توقف كل واحد منهما على نفسه وذلك محال في بدائه العقول يقال هذه الحجة أفسد من التي قبلها من وجوه أحدها أن هذه إنما تنفي وجوب التشابه الموجب للاستواء في جميع اللوازم وهذا هو التماثل وقد حكى الإجماع على أن أحدًا من العقلاء لايثبت لله مثلاً يشاركه في جميع اللوازم ولا ريب أن انتفاء هذا ظاهر وإذا كان أحدًا من العقلاء لم يقل بهذا لم ينفعه في دفع ماذكره عن منازعه الذي طل التشابه في صفة واحدة لا في جميع اللوازم الوجه الثاني أنه كثيرًا مايحتج بمثل هذه الحجة في كتبه وهي من الأغاليط ولايميز بين دور التقدم والتأخر

وبين دور التفاوت وذلك أنه يمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر لأن العلة متقدمة للمعلول فيلزم أن يكون كل منهما علة للآخر ومعلولاً له فيلزم تقدمه عليه وتأخره عنه وذلك يستلزم تقدمه على نفسه بدرجتين وتأخره عن نفسه بدرجتين ويستلزم كونه علة لنفسه ومعلولاً لنفسه لأنه يكون علة علته ومعلول معلوله جميعًا ولايمتنع أن يكون كل من الشيئين مقارنًا للآخر بحيث لايوجد إلا معه كالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة ونحو ذلك وهذا دور

الشروط فيجوز أن يكون وجود كل من الأمرين شرطًا في وجود الآخر بحيث لايوجد إلا معه فهذا جائز ليس بممتنع فقوله وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه إن أراد بالتوقف توقف المعي بحيث يكون كل منهما موجودًا مع الآخر فلم قال إن هذا ممتنع قوله لأن التشابه يقتضي الاستواء في اللوازم فيلزم من توقف جود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول يقال غايته أنه توقف كل منهما على وجود الآخر وهذا أول المسألة وهو توقف الشيء على وجود مايشبهه فلم قلت إن هذا محال إذا أريد بالتوقف وجوب وجوده معه لا وجوب وجوده به ومعلوم أن هذا لايقتضي وقف الشيء على نفسه وأن هذا ليس بمحال في بدائه العقول بل المحال أن يكون وجود كل منهما بوجود الآخر وفرق بين كون وجوده معه

الحجة الثالثة من حجج الرازي في تقرير مقدمته الثانية

أو وجوده به فهذه الحجة كما قال الإمام أحمد رحمه الله في هؤلاء يتمسكون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم الوجه الثالث أن يقال نختار القسم الثاني وهو أن وجود الشيء لايتوقف على وجود مايشبهه بل يجوز وجوده بدونه لكن لم قلت إذا كان وجوده لايتوقف على النظير أنه لايجب أن يكون له نظير وإن لم يتوقف عليه وجوده كمعلولي العلة الواحدة لا يتوقف أحدهما على الآخر بأن كان وجود احدهما مستلزمًا لوجود الآخر وأيضًا فالمنازع الذي ذكرته لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا فإنما نفى عقل نفسه فلم قلت إنه إذا جاز وجود هذا الموجود يمكن عقلنا له وهذا لا يحصل إلا إذا ثبت انه يمكن أن يعقل كل ماجاز وجوده وهذا لم تذكر عليه حجة ثم قال الحجة الثالثة هو أن تعين كل شيء من حيث إنه

إبطال المؤلف لهذه الحجة من وجوه

هو ممتنع الحصول في غيره وإلا لكان ذلك الشيء عين غيره وذلك باطل في بدائه العقول فثبت أن تعين كل شيء من حيث إنه هو ممتنع الحصول في غيره فعلمنا أن عدم النظير والمساوي لايوجب القول بعدم الشيء يقال هذه الحجة أفسد من غيرها وهي أيضًا أغلوطاته فإنه لم يذكر فيها مايدل على مطلوبه لوجوه أحدها أن إثبات نظير الشيء وشبهه ومثله يقتضي أن يكون عين أحدهما ليس عين الآخر إذ لو كانت عينُه عينَه لم يكن مثله ونظيره بل كان هو إياه وإذا كان نفس إثبات النظير يقتضي التغاير في التعيين صار وجود النظير مستلزمًا لامتناع كون احدهما عين الآخر وثبوت اللازم لايقتضي عدم الملزوم فكون عين الشيء يمتنع أن يكون لغيره لايقتضي نفي ذلك كما لايقتضي ثبوته وإذا لم يكن مقتضيًا لثبوت النظير ولا نفيه لم يكن فيه إلا عدم الدليل على وجوب النظير وعدم الدليل ليس دليل العدم فتبين أن ماذكره لايمنع وجوب النظير كما

لايوجب ثبوت النظير ولكن غايته أنه لايدل على ثبوت النظير لكن قد يقول هو إذا كان تعينه يمتنع أن يكون لغيره فلا يقتضي وجود التعين وجوده ولا عدمه فيقال هذه الحجة لم تفد غير ماهو معروف بدونها من أنه يمكن العقل أن يتصور وجود الشيء الذي ليس له نظير وأن ذلك ممكن فإن هذه الحجة ليس فيها إقامة دليل خاص على نفي الحاجة إلى النظير وإنما غايتها وجود عين الشيء من غير نظير ولو قال قائل قد يكون وجود الشيء موقوفًا على نظيره لكون وجوده مشروطًا بوجود النظير أو وجود الغير كالأمور المتضايقة وأنتم لم تقيموا دليلاً على نفي وجوب التلازم فإنه ليس في حجه ماينفي التلازم لكان قوله صحيحًا لكن يقال نحن نتصور إمكان وجوده بدون التلازم فلا حاجة إلى حجته يبين ذلك أنه يكون امتناع كون عين الشيء حاصلاً في غيره يمنع وجوب الشبيه أو النظير فإن ذلك يستلزم أن يكون إثبات الشيء مستلزمًا لعدمه لأن إثبات التشابه والتناظر والتساوي يقتضي ثبوت التغاير في التعيين وأن عين احدهما ليست عين الآخر فلو كان هذا التغاير في التعيين مانعًا من وجوب مشابه لكان لازم الشيء بل بعض معناه مانعًا من وجوبه فإن اللازم

لا يمنع وجوب الملزوم ولا يوجب وجوده الوجه الثاني إن كون تعين الشيء ممتنع الحصول في غيره لايقتضي عدم نظير ذلك التعين في الثاني وإنما يقتضي عدم نفس ذلك التعين في الثاني والمنازع إنما يثبت نظير التعين في الثاني لانفس التعين فلم قلت إن نظير ذلك التعين غير واجب فإن قلت يلزم أن يكون لكل تعين نظيرًا قيل له كل من التعينين نظير الآخر الوجه الثالث أن تعين الشيء في اقتضائه لنفي وجوب المثل كما هو في اقتضائه لنفي وجود المثل ثم من المعلوم أنه إذا كان امتناع حصول التعين في الغير يقتضي نفي المثل وجب أن لايكون لشيء من الأشياء نظير ولا شبيه ولا مثل فإنه ما من شيء إلا له عين مخصوصة يمتنع حصولها في غيره فإن كان عدم حصول عين الشيء في غيره يقتضي عدم مثله ونظيره فليس في الوجود ماله نظير وشبيه وهذا من أبطل الأشياء وإذا لم يكن تعين الشيء مانعًا من وجود النظير لم يكن مانعًا من وجوب النظير فإنه لايدل على هذا ولا هذا

فصل: في المقدمة الثالثة للرازي

فصل قال الرازي المقدمة الثالثة أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان ثم المنقول عن مشبهة الأمة انه على صورة إنسان شاب وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ وهؤلاء لايجوزون الانتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى وأما المحققون من المشبهة فالمنقول عنهم أنه على صورة نور من الأنوار قال وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس

على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة واعلم أن كثيرًا من هؤلاء يمنع من جواز الحركة والسكون على الله تعالى وأما الكرامية فهم لا يقولون بالأعضاء والجوارح بل يقولون إنه مختص بما فوق العرش ثم

تعقيب المؤلف على ما ذكره الرازي في مقدمته الثالثة

إن هذا المذهب يحتمل وجوهًا ثلاثة فإنه تعالى إما أن يقال إنه ملاق للعرش وإما أن يقال إنه مباين عنه ببعد متناه وإما أن يقال إنه مباين ببعد غير متناه وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة طائفة من الكرامية واختلفوا أيضًا في أنه تعالى مختص بتلك الجهات لذاته أو لمعنى قديم بينهم اختلاف في ذلك قلت هذا الكلام فيه تقصير كثير في معرفة مذاهب الناس وتحقيقها وذلك أن القائلين بأن الله تعالى فوق العرش والقائلين بالصفات الخبرية وهم السلف وأهل الحديث وأئمة الأمة وجماهيرها وجمهور الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وجمهور المشهورين بالإمامة في الفقه والتصوف في الأمة من جميع الطوائف جمهورهم لايقول هو جسم ولا ليس بجسم لما في اللفظين من الإجمال والاشتراك

المشتمل على الحق والباطل ومنهم طوائف يقولون هو جسم وطوائف يقولون ليس بجسم ثم إن كثيرًا من أئمة السنة والحديث أو أكثرهم يقولون إنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه بحد ومنهم من لم يطلق لفظ الحد وبعضهم أنكر الحد وممن ذكر ما عنده في ذلك من مذاهب أهل الحديث والكلام وإن كان بمقالات أهل الكلام أخبر أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين الذي من أول ما ذكره فيه أخذ الرازي وغيره

نقل المؤلف عن كتاب "المقالات" لأبي الحسن الأشعري قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة

مذهبه في عدم تكفير أهل الصلاة قال أبو الحسن هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايردون من ذلك شيئًا وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن اله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له يدين بلا كيف كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وكما قال تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وان له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن له وجهًا كما قال تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن 27] وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة

والخوارج وأقروا أن لله علمًا كما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وكما قال وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله تعالى كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله تعالى القوة كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم لايقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولايقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسي عليه السلام سأل الله تعالى الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعل دكا فأعلمه بذلك أنه لايراه في الدنيا بل يراه في الآخرة وذكر مذهبهم في باب الإيمان والوعيد والأسماء

والأحكام إلى أن قال ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير فلم يرض بالشر وإن كان مريدًا له وذكر مذهبهم في الصحابة والخلافة والتفضيل ثم قال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له كما جاء في الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له ويأخذون

بالكتاب والسنة كما قال تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لايتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء كما

نقل المؤلف عن أبي الحسن الأشعري قول ابن كلاب وأصحابه

قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وذكر مذهبهم في الأمراء والصلاة خلفهم وترك الخروج عليهم وأشياء غير ذلك ثم قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب ثم قال فأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان يعني ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الله لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلاً كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وذكر غير ذلك قال وكان يزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستو على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء

نقل المؤلف عن أبي الحسن الأشعري قول زهير الأثري وأصحابه

ثم قال ذكر قول زهير الأثري فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرًا كان يقول إن الله تعالى بكل مكان وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] بلا كيف ويزعم أن القرآن كلام محدث غير مخلوق وأن القرآن يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وأن إرادة الله ومحبته قائمتان بالله تعالى ويقول بالاستثناء كما يقول أصحاب الاستثناء المرجئة الذين حكينا قولهم في الوعيد ويقول في القدر بقول المعتزلة وذكر قوله في الإيمان أنه موافق لقول المرجئة

نقل المؤلف عن أبي الحسن قول أبي معاذ التومني

قال وأما أبو معاذ التومني فإنه يوافق زهيرًا في أكثر أقواله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله حدث غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في إرادته ومحبته وقال في باب اختلاف الناس في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو يحمله العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من

ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول بأنه في مكان دون مكان قال وقال قائلون هو جسم خارج من جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بطعم ولا لون ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وانه فوق الأشياء وفوق العرش وليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه تعالى في مكان دون مكان وان مكانه هو العرش وانه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحدَّه وقال بعض أصحابه إن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له قال وقال بعض من ينتحل الحديث إن العرش لم يمتلئ به وأنه يُقْعِد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على

العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وانه على العرش كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولانقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجهًا كما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وان له يدين كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وانه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئًا إلا ماوجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف الأمة في العين واليد والوجه

قال واختلف الناس في حملة العرش ماالذي تحمل قال قائلون الحملة تحمل الباري تعالى وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وان العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل قال الأشعري وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولاتحمله الحملة قال وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه تعالى على العرش وإنه بائن منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل ببينونة ليست على العزلة والبينونة من صفات الذات قال أبو الحسن الأشعري واختلفوا يعني

الأمة في العين واليد والوجه على أربع مقالات فقالت المجسمة له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب ويذهبون إلى الجوارح والأعضاء وقال أصحاب الحديث لسنا نقول في ذلك إلا ماقال الله تعالى أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف وقال عبد الله بن كلاب أطلق العين واليد والوجه خيرًا لأن الله تعالى أطلق ذلك ولاأطلق غيره فأقول هي صفات لله تعالى كما قال في العلم والقدرة والحياة إنها صفات وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه وتأولت اليد بمعنى النعمة وقوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] أي بعلمنا والجنب بمعنى الأمر وقالوا في قوله تعالى أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر 56] أي في أمر الله وقالوا نفس الباري هي هو وكذلك ذاته هي هو وتأولوا قوله الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 2] على وجهين أحدهما أنه السيد والآخر أنه المصمود إليه بالحوائج

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف الناس في الرؤية

قال وأما الوجه فإن المعتزلة قالت فيه قولين قال بعضهم وهو أبو الهذيل وجه الله هو الله تعالى وقال غيره معنى قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن 27] أي يبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجهًا يقال إنه هو الله تعالى أو لا يقال ذلك فيه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار على تسع عشرة مقالة فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز بعضهم عليه الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنسانًا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك حكي ذلك عن أصحاب مضر

وكهمس وحكي عن أصحاب عبد الواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله تعالى يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقد قال قائلون إنا نرى الله تعالى في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رقبة بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في

النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء أربعين سنة

قال وامتنع كثير من القول إنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة قال واختلفوا أيضًا في ضرب آخر فقال قائلون نرى جسمًا محدودًا مقابلاً لنا في مكان دون مكان وقال زهير الأثري ذات الباري في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن نراه في الآخرة على عرشه تعالى وتقدس بلا كيف وكان يقول إن الله تعالى يجيء يوم القيامة إلى مكان لم يكن خاليًا منه وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ولم تكن خالية منه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا فقال قائلون هي إدراك له بالأبصار وهو يدرك الأبصار وقال قائلون يرى الله تعالى بالأبصار ولايدرك بالأبصار واختلفوا في ضرب آخر فقال قائلون نرى الله جهرة ومعاينة

قال قائلون لا يرى الله جهرة ولا معاينة ومنهم من يقول أحدق إليه إذا رأيته ومنهم من يقول لا يجوز التحديق إليه وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق حاسة يوم القيامة سادسة غير حواسنا هذه فندركه بها وندرك ماهو بتلك الحاسة وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها ويكلم خلقه فيها وقال الحسين النجار يجوز أن يحول الله تعالى العين إلى القلب ويجعل لها قوة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له أي

علمًا له قال وأجمعت المعتزلة على أن الله تعالى لا يرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة إن الله تعالى يرى بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بها وأنكر ذلك الفوطي وعباد وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية

إن الله لايرى بالأبصار في الدنيا والآخرة ولايجوز ذلك عليه واختلفوا في الرؤية لله تعالى بالأبصار وهل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محالة على مقالتين فقال قائلون يجوز أن يرى الله تعالى في الآخرة بالأبصار وقال قائلون إنه بيانًا قال نقول إنه يرى بالأبصار وقال قائلون نقول

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف الناس في علم الباري وقدرته وإرادته وحركته

بالأخبار المروية وبما جاء في القرآن أنه مرئي بالأبصار في الآخرة بيانًا يراه المؤمنون قال وكل المجسمة إلا نفرًا يسيرًا يقولون بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لايقول بالتجسيم قال واختلفوا هل يقال إن الباري تعالى لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا أم لايقال ذلك على مقالتين فقال قائلون لم يزل الله تعالى عالمًا قادرًا حيًّا وزعم كثير من المجسمة أن الباري كان قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد ثم أراد وإرادته عندهم حركته فإذا أراد تكون شيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك وليست الحركة غيره وكذلك قالوا في قدرته وعلمه وسمعه وبصره إنها معان وليست غيره وليست بشيء لأن الشيء هو الجسم وقال قائلون إن حركة الباري غيره واختلف القائلون إن الباري يتحرك على

مقالتين فزعم هشام أن حركة الباري هي فعله الشيء وكان يأبى أن يكون الباري يزول مع قوله يتحرك وأجاز عليه السكاك الزوال وقال لايجوز عليه الطفر وحكي عن رجل كان يعرف بأبي شعيب أن الباري يسر بطاعة أوليائه

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف المعتزلة في المكان

وينتفع بها وبإنابتهم ويلحقه العجز بمعاصيهم إياه قال واختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ الأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان وقال أيضًا اختلف المعتزلة في المكان فقال قائلون الباري بكل مكان بمعنى أنه مدبر لكل مكان وأن تدبيره في كل مكان والقائلون بهذا القول جمهور المعتزلة أبو الهذيل والجعفران

والإسكافي

والجبائي وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل وهو قول هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر وغيرهم من المعتزلة قال وقالت المعتزلة في قول الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف المنكرين للتجسيم وشرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره

اسْتَوَى {5} [طه 5] يعنى استولى قال أبو الحسن وهذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون أن الباري تعالى ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قلت هذا الذي أحال عليه ذكره في قول المعتزلة فقال هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض ولا أجزاء

وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين ولاشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناهٍ ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود ولا والد ولا مولود ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار ولا تدركه الحواس ولا يقاس بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ولا تحل به العاهات وكل ماخطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له ولم يزل أولاً سابقًا متقدمًا للمحدثات موجودًا قبل المخلوقات ولم يزل عالمًا قادرًا حيًّا ولا يزال كذلك لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع شيء لا كالأشياء عالم قادر حي لا كالعلماء

القادرين الأحياء وأنه قديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق لم يخلق الخلق على مثال سبق وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب منه لايجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات ولايصل إليه الأذى والآلام ليس بذي غاية فيتناهى ولايجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء قال أبو الحسن فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شركهم في هذه الجملة الخوارج وطوائف من الشيع وإن كانوا للجملة التي يظهرونها ناقضين ولها تاركين ثم ذكر من اختلافهم في مسائل الصفات ما ليس هذا موضع حكايته كلامًا طويلاً

نقل المؤلف عن أبي الحسن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم

قلت فهذا هو قوله قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري ليس بجسم ولا محدود ولاذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفت المجسمة فيما بينهم من التجسيم وهل للباري تعالى وتقدس قدر من الأقدار وفي مقداره على ست عشرة مقالة فقال هشام بن الحكم إن الله جسم محدود عريض عميق طويل طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه نور ساطع له قدر من الأقدار بمعنى أن له مقدارًا في طوله وعرضه وعمقه ولا يتجاوزه في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه وطعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون ولم يثبت لونًا غيره وأنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد

قال وحكى عنه ابن الراوندي أنه يزعم أن الله يشبه الأجسام التي خلقها من جهة من الجهات ولولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه أنه قال إنه جسم لا كالأجسام ومعنى ذلك أنه شيء موجود قال وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونًا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلاً أو عريضُا أو عميقا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت خلق الخلق قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفًا بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصفه هشام غير أنه تعالى على العرش مماس له دون ما سواه

قال أبو الحسن واختلفوا في مقدار الباري تعالى بعد أن جعلوه جسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري عز وجل جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك المقدار وقال بعضهم هو تعالى في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكى عن هشام بن الحكم أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه قال وقال بعضهم ليس لمساحة الباري تعالى نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف

والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لايقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب وقال بعضهم إن معبودهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به قال وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان

إن الله جسم وإنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لايشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكي عن الجواربي أنه كان يقول أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ماسوى ذلك وكير من الناس يقولون هو مصمت ويتأولون قول الله تعالى الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 2] المصمت الذي ليس بأجوف قال وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله تعالى على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحمًا ودمًا وأنه نور

نقل المؤلف عن الحسن بن موسى النوبختي من كتابه "الآراء والديانات" أقوال الموحدين والمشبهين عنده

ساطع يتلألأ بياضًا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وأن له وفرة سوداء قال أبو الحسن وممن قال بالتجسيم من ينكر أن يكون الباري صورة وقد ذكر أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي في كتاب الآراء والديانات وهو ممن يذهب مذهب

المعتزلة في توحيدهم وعدلهم فقال في كتابه باب قول الموحدين والمشبهين زعمت المعتزلة بأجمعها والخوارج بأسرها وأكثر الزيدية وكثير من الشيع والمرجئة سوى أصحاب الحديث من أهل الإرجاء أن الله ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر ولا جزء ولا عرض وليس يشبه شيئًا من ذلك وقال هشام بن الحكم وعلي بن منصور ومحمد بن

الخليل السكاك ويونس بن عبد الرحمن ومن قال بقولهم من الشيع إن الله تعالى جم لا كالأجسام هذه جملة اجتمع هشام بن الحكم وأصحابه عليها فاجتمعت حكاية المخالفين لهذا القول عنه إلا ما أومأ إليه الراوندي في كتابه الذي احتج به لمذهب هشام في الجسم فزعم أنه تعالى وتقدس يشبه الخلق من جهة دون جهة والذي صح عندي من قول هشام بعد ذلك عمن وافقه من أصحابه بعد في الحكاية عنه أنه كان يزعم أن الله تعالى بعد حدوث الأماكن في مكان دون مكان وأنه يجوز أن يتحرك وسمع قومًا من أصحابه يحكون عنه أنه يزعم أنه نور وقال آخرون منهم إنه كان يزعم أنه متناهى الذات واختلف

الحاكون من مخالفي هشام عن هشام فحكوا عن ضروبًا من الأقاويل مختلفة لا تليق به وما رأيت أصحابه يدفعونها عنه فمن ذلك أن الجاحظ ذكر عن النظام أن هشامًا قال في التشبيه في سنة واحدة خمسة أقاويل قطع في آخرها أن معبوده بشبر نفسه سبعة أشبار وحكى أبو عيسى الوراق في كتابه

على المشبهة عن كثير من مخالفي هشام أنه كان يزعم أن القديم على هيئة السبيكة وقال بعضهم إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وحكى بعضهم كما قلت إنه سبعة أشبار قال وحكى بعضهم أنه ذو صورة وحكوا عنه غير ذلك أيضًا مما رأيت أصحاب هشام يدفعونه عنه وينكرونه

ويزعمون أنه لم يزد على قوله جسم لا كالأجسام وإنما أراد بذلك إثباته وأنه نور لقول تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] وينفون عنه المساحة والذرع والشبر والتحديد قال وسمعت ذلك من غير واحد منهم ممن ينتحل القول بالجسم وناظرونا به وقد وجدت الأمر على ما حكاه الوراق من ذلك وقد أضاف قوم القول بالجسم وإلى أبي جعفر الأحول المعروف بشيطان الطاق الذي يسميه

أصحابه مؤمن الطاق واسمه محمد بن النعمان وإلى هشام بن سالم المعروف بالجواليقي وإلى أبي مالك الحضرمي قال وليس من هؤلاء أحد جرد القول بالجسم ولكنهم كانوا يقولون هو نور على صورة الإنسان وينكرون قول القائل بالجسم فقاس من حكى ذلك عنهم عليهم وحكى من طريق القياس إذ كان الحاكي لذلك يعتقد أن الصور لاتكون إلا للأجسام فغلط عليهم وكذا غلط كثير من أهل الكلام وذكر أن هشام بن سالم وأبا جعفر الأحول أمسكا بعد قولهما بالصورة عن الكلام في الله تعالى رجعا إلى تأويل آية

من القرآن فرويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول الله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} [النجم 42] قال فإذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا فأمسكا عن الكلام في ذلك والخوض فيه حتى ماتا وأقام على القول بالصورة من أقام عليه من أتباعهما قال النوبختي وأقول أن هذا الذي ذكره الوراق قد روي وقد رأيت نفرًا من أصحاب هشام بن سالم يزعمون أنه لم يزل يناظر على القول بالصورة إلى أن مات قال أبو عيسى وأما علي بن إسماعيل بن ميثم فإن

أصحابه ومخالفيه مختلفون في الإخبار عنه فبعضهم يزعم أنه كان يقول بالجسم والصورة وبعضهم يزعم أنه كان لايقول بالصورة وبعضهم يزعم أنه كان يقول بالصورة ولا يقول بالجسم قال ولا ثبت عندي في ابن ميثم أنه قال بالصورة ولا بالجسم قال أبو عيسى في هذا الباب وقد حكى ذلك لي كثير من المتكلمين أن مقاتل بن سليمان ونعيم بن حماد المصري وداود الجواربي في خلق كثير من العامة وأصحاب الحديث قالوا الله تعالى في صورة وأعضاء قال أبو عيسى وبلغني عن داود الجواربي أنه قال أعفوني عن الفرج

واللحية واسألوني عما وراء ذلك أو قال عما شئتم وقد حكى كثير من المتكلمين عن داود ومقاتل أنهما قالا إن معبودهم جسم ولحم ودم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن الجواربي حكاية أخرى أنه كان يقول إنه أجوف من فمه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وذكر أن مقاتل بن سليمان كان يأبى هذا القول الأخير وحكى إبراهيم النظام في كتابه عن المشبهة أن قومًا لا أدري هم من الملة أم ليسوا من الملة زعموا أن معبودهم جسم فضاء وأن الأجسام كلها فيه وحكى أن آخرين قالوا هو فضاء وليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان وهو نفسه المكان وحكى الجاحظ في كتابه عن المشبهة أن

بعضهم قال هو جسم في مكانه إلا أنه فاضل عن الأماكن خلا أن له نهاية لازمة قال وزعم بعضهم أنه ذاهب في الجهات الست لا إلى نهاية وهو ليس بجسم وهذا أيضًا قول ما علمت أن أحدًا من أهل الصلاة قال به ولا كان شيء منه وهذه أقاويل أهل الملة قال النوبختي وللفلاسفة القدماء في الباري أقوال مظلمة غير بينة وكان عنايتهم بغير أمر الديانات وكان أكثر كلامهم في أمور الطبيعة والنفس والفلك والكون والفساد والجواهر والأعراض وقد زعم أرسطاطاليس على ما قرأناه في مقالة اللام التي فسرها ثامسطيوس أن الله تعالى

جوهر أزلي بسيط غير مركب ليس بجسم ولا تجوز عليه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وسماه مرة عقلاً وطبيعة تارة وقال في موضع آخر منها إنه يعقل ذاته ويعلم ذاته وسائر الأشياء التي هو علة لها وذكر فرفوريوس في رسالته التي زعم أنه يحكي فيها مذاهب أرسطاطاليس في الباري والمبادئ أنه يصف الله تعالى بأنه خير وأنه حكيم وأنه قوي وزعم

أفلاطون في كتابه كتاب النواميس أن أشياء لاينبغي للإنسان أن يجهلها منها أن له صانعًا وأن صانعه يعلم أفعاله فأثبت لله العلم بأفعاله وزعم قوم من فلاسفة دهرنا أن أفلاطون إنما وضع هذا على سبيل التأديب للناس وبحسب السنة وما كان يذهب إليه لا على الاعتقاد قال وهذا ظن من هؤلاء القوم فأما قول أفلاطون فهو ما ذكره في كتابه في تفسير سمع الكنان وأن الله تعالى إنما يعرف بالسلب فيقال إنه لاشبه له ولا مثال إلا

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف الروافض في التجسيم

الشمس وحدها فإنه كما أن الشمس تفوق جميع الأشياء التي في العالم كذلك تفوق العلة الأولى جميع الموجودات وتفضلها فضلاً يجوز كل قياس قال وكما أن الشمس تدبر جميع الأشياء على طريقة واحدة وقال أبو الحسن الأشعري أيضًا اختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق فالفرقة الأولى هشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد وذكر مثل ما تقدم عن هشام وزاد أنهم لم يعينوا طولاً غير الطول وإنما

قالوا طوله مثل عرضه على المجاز دون التحقيق وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث بالمكان بأن تحرك الباري فحدث المكان بحركته فكان فيه وزعم أن المكان هو العرش قال وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له إن ربه لجسم ذاهب جاء يتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال فقلت له فأيما أعظم إلهك أو هذا الجبل قال وأومأت إلى جبل أبي قبيس قال فقال هذا الجبل يوفي عليه أي هو أعظم منه قال وذكر أيضًا ابن الراوندي أن هشام بن الحكم كان يقول إن بين إلهه وبين الأجسام المشاهدة تشابهًا

بجهة من الجهات لولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه خلاف هذا انه كان يقول إنه جسم وأبعاض لايشبهها ولاتشبهه غير أن هشام بن الحكم في بعض كتبه كان يزعم أن الله تعالى إنما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب في عمق الأرض ولولا ملابسته لما وراء ما هنالك لما درى ما هناك وزعم أن بعضه يرى وهو شعاعه وأن الثرى محال على بعضه ولو زعم هشام أن الله يعلم ما تحت الثرى بغير اتصال ولا خبر ولا قياس كان قد ترك تعلقه بالمشاهدة وقال بالحق وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل زعم مرة أنه كالبلورة وزعم مرة أنه كالسبيكة وزعم مرة أنه غير صورة وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال هو جسم لا كالأجسام

قال وزعم أبو عيسى الوراق أن بعض أصحاب هشام أجابه مرة غلى أن الله تعالى وتقدس على العرش مماس له وأنه لايفضل على العرش ولا يفضل العرش عنه قال والفرقة الثانية من الرافضة الإمامية يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون الباري تعالى ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله تعالى وتقدس على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن ربهم تعالى وتقدس على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسمًا والفرقة الرابعة منهم الهشامية أصحاب هشام بن

سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحمًا ودمًا ويقولون هو نور ساطع يتلألأ ضياءً وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه تعالى وتقدس وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود والفرقة الخامسة يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف الروافض في حملة العرش

قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا صورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فكانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه قال أبو الحسن واختلف الرافضة في حملة العرش هل يحملون العرش أم يحملون الباري تعالى وتقد س وهم فرقتان فرقة يقال لهم اليونسية أصحاب يونس بن

نقل المؤلف عن أبي الحسن اختلاف الراوفض في الإرادة

عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين يزعمون أن الحملة يحملون الباري واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكُرْكِي وأن رجليه تحملانه وهما دقيقتان وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والباري يستحيل أن يكون محمولاً قال أبو الحسن الأشعري واختلفت الروافض في إرادة الله تعالى وهم أربع فرق الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله تعالى حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله تعالى ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله

تعالى وتقدس إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراده والفرقة الثانية ومنهم أبو مالك الحضرمي وعلي بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله تعالى غيره وهي حركة الله تعالى كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك والفرقة الثالثة منهم وهم القائلون بالاعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله تعالى ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله تعالى لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله تعالى لتكوين الشيء هو الشيء وإرادته لأفعال عباده هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم نافون أن يكون الله تعالى أراد المعاصي فكانت والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن لله تعالى إرادة فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا

نقل المؤلف عن أبي الحسن مقالات المرجئة في التوحيد

فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها وذكر عنهم في القول بأن الله حي عالم قادر سميع بصير إله وغير ذلك مقالات يطول وصفها جمهورها يقتضي وصفه بالحركة والتحول كما في الإرادة وقال أبو الحسن الأشعري مقالات المرجئة في التوحيد فقال قائلون منهم في التوحيد بقول المعتزلة وقال قائلون منهم بالتشبيه وهم ثلاث فرق فقالت الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب مقاتل بن سليمان إن الله تعالى جسم وإن له جمة وإنه على صورة الإنسان وإنه لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه وقالت الفرقة الثانية أصحاب داود

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الأشعري من مقالات الفرق في الصفات

الجواربي مثل ذلك غير أنهم قالوا أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وقالت الفرقة الثالثة منهم هو جسم لا كالجسام فقد ذكر الأشعري أن القول بأن الله تعالى فوق العرش وثبوت الصفات الخبرية هو قول أهل السنة وأصحاب الحديث وذكر أن ذلك قول ابن كلاب وأصحابه وقوله وذكر التنازع في نفي هذه الصفات وإثباتها بين فرق الأمة فنفيُ الجسم وهذه الصفات هو قول المعتزلة والخوارج وطائفة من المرجئة ومتأخري الشيعة وإثبات الجسم وهذه الصفات قول جمهور الإمامية المتقدمين وطائفة من المرجئة وغيرهم

نقل المؤلف عن أبي الحسن أصناف الناس العشرة من المنتسبين إلى الإسلام

وهو مع هذا لم يذكر تفصيل أقوال أئمة الإسلام وسلف الأمة وعلماء الحديث وإنما ذكر قولاً مجملاً ولهم في هذا الباب من الأقوال المفصلة وعندهم في ذلك من النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما هو معروف عند أهله وقد ذكر الأشعري عشرة أصناف فقال واختلف المسلمون عشرة أصناف الشيع والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية وهم النجارية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلابية أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان ومعلوم أن أئمة الأمة وسلفها ليسوا في شيء من هذه

الطوائف إلا في أهل الحديث والعامة وهؤلاء مع جمهور الشيع والمرجئة والكلابية والأشعرية من أهل الإثبات لأن الله تعالى فوق العرش والصفات الخبرية وإن كان فيهم من يثبت الجسم وفيهم من لا ينفيه ولا يثبته وأما نفي ذلك مطلقًا فإنما ذكره عن المعتزلة والخوارج وأما الضرارية والبكرية والنجارية فتوافقهم في بعض ذلك وتوافق أهل الإثبات في بعض ذلك وهذه المقالة التي نسبها هو إلى المعتزلة هي المشهورة في كلام الأئمة وعلماء الحديث بمقالة الجهمية فإن الأئمة نسبوها إلى من أحدث هذه المقالات وابتدعها ودعا الناس إليها والمعتزلة إنما أخذوها

عنه كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ ذلك عن الجهم قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وأصحاب عمرو ابن عبيد هم المعتزلة فإنه أول المعتزلة هو وواصل بن عطاء وإنما كان شعار المعتزلة أولاً هو المنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد وبه اعتزلوا الجماعة ثم دخلوا بعد ذلك في إنكار القدر وأما إنكار الصفات فإنما ظهر بعد ذلك وكذلك حكاية ذلك عن الخوارج إنما يكون عن متأخرة الخوارج الموجودين بعد حدوث هذه المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك أما قدماء الخوارج الذين كانوا على عهد الصحابة والتابعين فماتوا قبل حدوث هذه الأقوال المضافة إلى المعتزلة والجهمية وذلك أن مقالات هؤلاء ونحوهم إنما نقلها من كتب المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك لم يقف هو على شيء

من كلام الخوارج والمعتزلة يستكثر بالخوارج لموافقتهم لهم في إنفاذ الوعيد ونفي الإيمان والخروج على الأئمة والأمة ولكن الأشعري كان بمقالات المعتزلة أعلم منه بغيرها لقراءته عليهم أولاً وعلمه بمصنفاتهم وكثيرًا ما يحكي قول الجبائي عنه مشافهة وقد ذكر مقال جهم في كتابه فقال ذكر قول الجهمية الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط وأنه لافعل لأحد في الحقيقة إلا لله تعالى وحده وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله تعالى إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختيارًا منفردًا بذلك كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولونًا كان به

نقل المؤلف عن كتاب "الإبانة" لأبي الحسن الأشعري مذهب المعتزلة والقدرية في الرؤية والصفات والقدر والشفاعة وعذاب القبر

متلونًا قال وكان الجهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتل جهم بمرو قتله سلم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية قال ويحكى عنه أنه كان يقول لاأقول إن الله تعالى شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء قال وكان يقول إن علم الله تعالى محدث فيما حكى عنه ويقول بخلق القرآن وأنه لايقال إن الله لم يزل عالمًا بالأشياء قبل أن تكون وكذلك قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة

له بعد الخطبة أما بعد فإن كثيرًا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على رأيهم تأويلاً لم ينزل الله به سلطانًا ولا أوضح به برهانًا ولا نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين فخالفوا رواية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله تعالى بالأبصار وقد جاءت بذلك الروايات من الجهات المختلفات وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين وجحدوا عذاب القبر وان الكفار في قبورهم يعذبون وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ودانوا بخلق القرآن نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} [المدثر 25] فزعموا أن القرآن كقول

البشر وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرًا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر وزعمت القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر وزعموا أن الله تعالى يشاء ما لايكون ويكون ما لايشاء خلافًا لما أجمع عليه المسلمون من أن الله ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وردًّا لقول الله تعالى وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] فأخبر الله أنا لانشاء شيئًا إلا قد شاء الله أن نشاءه ولقوله وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ [البقرة 253] وقوله وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة 13] وقوله تعالى فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ {16} [البروج 16] ولقوله سبحانه وتعالى خبرًا عن شعيب أنه قال وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ [الأعراف 89] ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا

قولهم وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس وأنه يكون من الشر ما لايشاء الله كما قالت المجوس ذلك وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردًّا لقول الله تعالى قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللهُ [الأعراف 188] وانحرافًا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم عز وجل فأثبتوا لأنفسهم غنى عن الله عز وجل ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله تعالى فكانوا مجوس هذه الأمة إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقوالهم ومالوا إلى أضاليلهم وقنطوا الناس من رحمة الله وأيّسوهم من روح الله سبحانه وتعالى وحكموا

على العصاة بالنار والخلود خلافًا لقول الله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء 48] وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها خلافًا لما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يخرج من النار قومًا بعد ما امتحشوا فيها فصاروا حممًا ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] ولقوله تعالى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] ونفوا ماروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

نقل المؤلف عن كتاب "الإبانة" لأبي الحسن الأشعري معتقده في أصول الدين

من قوله صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا قال وأنا ذاكر ذلك بابًا بابًا إن شاء الله تعالى قال فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفوا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون

قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول أحمد بن حنبل نضر الله وجه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المناهج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهّم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا أنَّا نقر باله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم ولانرد من ذلك شيئًا وأن الله عز وجل واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له وجها كما قال عز وجل وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن له يدين كما قال عز وجل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال سبحانه وتعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين بلا كيف كما قال عز وجل تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن من زعم أن اسم الله تعالى غيره كان ضالا وأن الله تعالى علمًا كما قال تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وقال سبحانه

وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] ونثبت لله قدرة وقوة كما قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك عنه كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن كما قد قال سبحانه وتعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {40} [النحل 40] وأنه لايكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى وذكر الكلام في مسائل القدر وخلق الأفعال إلى أن قال ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن من قال بخلق القرآن كان كافرًا

وندين بأن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله عز وجل كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لايراه في الدنيا ونرى ألا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحلاًّ لها إذا كان غير معتقد لتحريمها كان كافرًا ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام

إيمانًا وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

وندين بأن لاننزل أحدًا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله عز وجل يخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان حق والحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله عز وجل يوقف العباد بالموقف ويحاسب

المذنبين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بحب السلف رضي الله عنهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونثني عليهم بما أثنى الله تعالى عليهم ونتولاهم ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وان الله سبحانه وتعالى أعز به الإسلام والدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ثم عثمان نضر الله وجهه وأن

الذين قاتلوه قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله تعالى أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلاء لايوازنهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما أثبتوه ونقلوه خلافًا لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعوّل فيما اختلفنا فيه على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله تعالى بدعة لم يأذن الله تعالى بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم

القيامة كما قال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء كما قال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وكما قال عز وجل ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} [النجم 8, 9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وفاجر وكذلك سائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبد الله ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج ونرى المسح على

نقل المؤلف عن عثمان الدارمي من كتابه "النقض على بشر المريسي" مسألة الحد والعرش

الخفين في الحضر والسفر خلافًا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى رأي الخوارج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ونقول إن لذلك تفسيرًا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله تعالى ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرًا وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار

مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالاً وحرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية كما قال تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 275] وكما قال مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} [الناس 4-6] ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم نارًا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين بأن الله تعالى

يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وماكان وما يكون وما لايكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانبة أهل الأهواء وقال وسنحتج لما ذكرنا من قولنا ومما بقى منه مما لم نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا ثم ذكر من دلائل ذلك وحججه ما قد يُذكر بعضه إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما ذكره الرازي من الأدلة وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد

فيما افترى على الله تعالى في التوحيد قال فيه باب الحد والعرش وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله تعالى لاشيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لامحالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لايعلمه غيره ولا

يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله تعالى ولمكانه أيضًا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك بم نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن صالح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن مبارك

فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لاشيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله تعالى وجحد آيات الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء

قال اعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها مؤمنة دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لايجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله فحدثنا أحمد بن منيع البغدادي الأصم

حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا قال سبعة ستة في الأرض وواحدًا في

السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فحصين في كفره يومئذ كان أعلم بالله الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض وقد اتفقت

الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحِنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه تعالى يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله تعالى وبمكانه أعلم من الجهمية قال ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله فيها حرفًا بعد حرف وشيئًا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتوك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذين

نقل المؤلف عن كتاب "السنة" للخلال أقوال السلف في إثبات الحد

سمعوا بذكره وذكر الكلام في الصفات وقال الخلال في كتاب السنة أخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له روي عن

علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله عز وجل قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] ثم قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] قال الخلال أخبرنا الحسن بن صالح العطار حدثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال كنا عند أبي

عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] وتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وهو على العرش وعلمه مع كل شيء قال الخلال وأخبرنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر

الأثرم حدثنا محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال الخلال

أخبرنا حرب بن إسماعيل قال قلت لإسحاق يعني ابن راهوية على العرش بحد قال نعم بحد وذكر عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد

نقل المؤلف عن كتاب "المسائل" لحرب بن إسماعيل مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة في الإيمان والعلو والحد

وقد ذكر أيضًا حرب بن إسماعيل في آخر كتابه في المسائل كلها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدي بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والشام والحجاز وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن

منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم إن الإيمان قول وعمل إلى أن قال وخلق الله سبع سموات بعضها فوق بعض وقد تقدم حكاية قوله إلى قوله لأن الله تبارك وتعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لايخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد الله تعالى أعلم بحده والله تعالى على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره ولكن هذا اللفظ يحتمل أن يعود فيه الحد إلى العرش بل ذلك أظهر فيه

نقل المؤلف عن كتاب "إبطال التأويل" لأبي يعلى إثبات الحد

قال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل رأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر بن أبي داود سمعت

نقل المؤلف عن كتاب "السنة" للخلال روايته عن الإمام أحمد في نفي إدراك العباد حدا لله أو غاية

أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تعالى حد فقال نعم لايعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين وروى الخلال أيضًا في كتاب السنة أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئًا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] قال أخبرني

عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بأن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه لاتدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه ليس من الله تعالى شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] وكان الله تعالى قبل أن يكون شيء والله تعالى الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير

تعقيب المؤلف على ما نقله الخلال عن الإمام أحمد

فهو في هذا الكلام أخبر أنه بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فنفى أن تحيط به صفة العباد أو حدهم وكذلك قال لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] بحدّ ولاغاية فبين أن الأبصار لاتدرك له حدًّا ولا غاية وقال أيضًا ولا يدركه صفة واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله تعالى شيء محدود كما قال بعد هذا ولايبلغ أحد حد صفاته فنفى في هذا الكلام كله أن يكون وصف العباد أو حد العباد يبلغه أو يدركه كما لاتدركه أبصارهم قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله تعالى يرى وأن

الله تعالى يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاءت به الرسل حق ونعلم أن ما ثبت عن الرسول صلى اله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد صحيحة ولا نرد على قوله ولا نصف الله تبارك وتعالى بأعظم مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وقال حنبل في موضعٍ آخر ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء

فيعبد الله تعالى بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولايبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه تعالى ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضع كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا حيًّا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفاته وصف بها نفسه لاتدفع

ولاترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قال إبراهيم لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً {42} [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يُعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وبتثبيت القرآن لايصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة

وقال أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شيء فقلت له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال ما أردت بها قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لاننكر ذلك ولا نرده قلت له والمشبهة ما

يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه قال عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ور نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء به والنهي عما نهى

بيان المؤلف عدم المنافاة بين إثبات الحد ونفيه في كلام السلف

وأسماؤه وصفاته منه غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير وقال الخلال وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255] لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يُقدِّرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها كما ذكرنا من كلامهم في

غير هذا الموضع ما يبين ذلك وأصحاب الإمام أحمد منهم من ظن أن هذين الكلامين يتناقضان فحكي عنه في إثبات الحد لله تعالى روايتين وهذه طريقة الروايتين والوجهين ومنهم من نفى الحد عن ذاته تعالى ونفى علم العباد به كما ظنه موجَبُ ما نقله حنبل وتأول ما نقله المروذي والأثرم وأبو داود وغيرهم من إثبات الحد له على أن المراد إثبات حد للعرش ومنهم من قرر الأمر كما يدل عليه الكلامان أو تأول نفي الحد بمعنى آخر والنفي هو طريقة القاضي أبي يعلى أولاً في المعتمد وغيره فإنه كان ينفي الحد والجهة وهو قوله الأول قال فصل وقد وصف الله نفسه بالاستواء على العرش

الجزء الثالث

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء الثالث الجسم - الحد - الجهة - الفوقية - اليد الحيز - الرؤية حققه د. أحمد معاذ حقي

فصل: الرد على الرازي في تأسيسه

فصل وقد وصف الله تعالى نفسه بالاستواء على

في اختلاف القائلين بأن الله جسم

العرش والواجب إطلاق هذه الصفة من غير تفسير ولا تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة والحلول ولا على معنى العلو والرفعة ولا على معنى الاستيلاء والعلم وقد قال أحمد في رواية حنبل نحن

نؤمن أن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد قال فقد أطلق القول في ذلك من غير كيفية الاستواء وقد علق القول في موضع آخر فقال في رواية المَرُّوذي يروى عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله تعالى قال على العرش

رد المؤلف على تأويل القاضي للحد في كلام ابن المبارك

بحد قال قد بلغني ذلك وأعجبه قال القاضي وهذا محمول على أن الحد راجع إلى العرش لا إلى الذات ولا إلى الاستواء وقصد أن يبين أن العرش مع عظمته محدود قلت وهذا الذي قاله القاضي في الاستواء هنا هو الذي يقوله أئمة الأشعرية المتقدمين وهو قريب من قول أبي محمد بن

كُلاَّب وأبي العباس القلانسي وغيرهم من أهل الحديث والفقه ولهذا قال خلافًا لمن قال من المعتزلة معناه

الاستيلاء والغلبة وخلافًا لمن قال من الأشعرية معناه العلو عن طريق الرتبة والعظمة والقدرة وهذا قول بعض

الأشعرية لا أئمتهم المتقدمون قال وخلافاً للكَرَّامية

والمجسمة معناه المماسة للعرش بالجلوس

عليه ثم إنه قال في الحجة والذي يبين صحة ما ذكرنا أنه مقالة السلف من أهل اللغة وغيرهم فذكر ابن قتيبة في كتاب مختلف الحديث الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] استقر كما قال تعالى فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون 28] أي استقررت وذكر ابن بطة عن ابن

الأعرابي قال أرادني ابن أبي داود أن أطلب في بعض لغات العرب ومعانيها الرحمن على العرش استولى فقلت والله ما يكون هذا ولا أصبته وقال يزيد بن

هارون من زعم أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي وعن

عبد الوهاب قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال قعد وعن ابن المبارك قال الله على العرش بحد والقاضي في هذا الكتاب ينفي الجهة عن الله كما قد صرح بذلك في غير موضع كما ينفي أيضًا هو وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره

التحيز والجسم والتركيب والتأليف والتبعيض

ونحو ذلك ثم رجع عن نفي الجهة والحد وقال بإثبات ذلك كما ذكر قوليه جميعًا فقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث الأوعال

فإذا ثبت أنه تعالى على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كَرَّام وابن

منده الأصبهاني المحدث والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو على العرش فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا الله تعالى فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجاً منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولامعه ولا بعده ولأن العوام لايفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم

قال واحتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها فدل على أنه في مكان قلت وهذا الكلام من القاضي وابن منده ونحوهما يقتضي أن الجهة المثبتة أمر وجودي ولهذا حكوا عن النفاة أنه ليس في جهة ولا خارجًا منها وأنها غيره وفي كلامه الذي سيأتي ما يقتضي أن الجهة والحد هي من الله تعالى وهو ما حاذى لذات العرش فهو الموصوف بأنه جهة وحد ثم ذكر أن ذلك من صفات الذات ثم قال وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي وقد ذُكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك

نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال احمد هكذا هو عندنا قال ورأيت بخط أبي إسحاق ثنا أبو بكر احمد بن نصر الرفاء قال سمعت أبا بكر بن أبي داود قال سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله

تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله تعالى وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما على معنى أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات الستة بل هو خارج العالم مميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز ولهذا يسمى البواب حدادًا لأنه يمنع غيره

من الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا ثم قال ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالتين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أن ما حاذى العرش من ذاته هو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق

تعقيب المؤلف على كلام القاضي في جمعه بين كلامي أحمد في الحد

والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي جمع به بين كلامي أحمد وأثبت الحد والجهة من ناحية العرش والتحت دون الجهات الخمس يخالف ما فَسَّر به كلام أحمد أولاً من التفسير المطابق لصريح ألفاظه حيث قال فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما يقال على جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لايعلمه إلا هو والثاني أنه صفة يَبِين بها عن غيره ويتميز فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع

من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرناه فهذا القول الوسط من أقوال القاضي الثلاثة هو المطابق لكلام أحمد وغيره من الأئمة وقد قال إنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لايعلمه إلا هو ولو كان مراد أحمد رحمه الله الحد من جهة العرش فقط لكان ذلك معلومًا لعباده فإنهم قد عرفوا أن حده من هذه الجهة هو العرش فعلم أن الحد الذي لا يعلمونه مطلق لا يختص بجهة العرش وروى شيخ الإسلام في ذم

الكلام ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله قال لإسحاق بن إبراهيم

وهو الإمام المشهور المعروف بابن راهوية ما تقول في قوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ [المجادلة 7] الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وقال حرب أيضًا قال إسحاق بن إبراهيم لايجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقول الله تعالى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} [الأنبياء 23] ولايجوز لأحد أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر

المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله عز وجل موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى سماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما يشاء كما

يشاء وروى شيخ الإسلام عن محمد بن إسحاق الثقفي سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال دخلت يومًا على طاهر بن عبد الله وأظنه عبد الله بن طاهر

وعنده منصور بن طلحة فقال لي منصور يا أبا يعقوب تقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة قلت ونؤمن به إذا أنت لا تؤمن أن لك ربًّا في السماء فلا تحتاج أن تسألني عن هذا فقال ابن طاهر ألم أنهك عن هذا الشيخ وروي عن محمد بن حاتم سمعت

إسحاق بن راهوية يقول قال لي عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذه الأحاديث التي تروونها أو قال ترونها في النّزول ما هي قال أيها الأمير هذه الأحاديث جاءت مجيء الأحكام الحلال والحرام ونقلها العلماء ولا يجوز أن ترد هي كما جاءت بلا كيف فقال عبد الله بن طاهر صدقت ما كنت أعرف وجوهها حتى الآن وفي رواية قال رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا مع هذه عدولاً وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع فقال له شفاك الله كما شفيتني أو كما قال وروى أيضًا شيخ الإسلام ما ذكره أبومحمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على

الجهمية حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد ابن الحسن الشيباني رجلاً في التجهم فتاب

فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب قال شيخ الإسلام لشرح مسألة البينونة في كتاب الفاروق باب أغنى عن تكريره هاهنا قال شيخ الإسلام وسألت يحيى بن

عمار عن أبي حاتم بن حبان البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سِجسْتَان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله

فأخرجناه من سجستان قلت وقد أنكره طائفة من أهل الفقه والحديث ممن يسلك في الإثبات مسلك ابن كُلاَّب والقلانسي وأبي الحسن ونحوهم في هذه المعاني ولا يكاد يتجاوز ما أثبته أمثال هؤلاء مع ماله من معرفة بالفقه والحديث كأبي حاتم هذا وأبي سليمان الخطابي وغيرهما ولهذا يوجد للخطابي وأمثاله من الكلام ما يظن أنه متناقض حيث يتأول تارة ويتركه

أخرى وليس بمتناقض فإن أصله أن يثبت الصفات التي في القرآن والأخبار الموافقة له أو ما في الأخبار المتواترة دون ما في الأخبار المحضة أو دون ما في غير المتواترة وهذه طريقة ابن عقيل ونحوه وهي إحدى طريقي أئمة الأشعرية كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وهم مع هذا يثبتونها صفات معنوية

مقالة الخطابي في الحد والرد عليها من وجوه

قال الخطابي في الرسالة الناصحة له ومما يجب أن يعلم في هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لايجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة التي قد ثبتت صحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قومًا من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلاً في الصفات وأدخلوها في جملتها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله صلى الله عليه وسلم فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى

أن لله تعالى مكانًا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه لفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له في روايته كخلاف البينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا معًا وقد تحتمل

هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أن يجد ربه عز وجل بمكانه الأول من الإجابة في الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويًّا في الخبر أنه يعود مرارًا فيسأل ربه تعالى في المذنبين من أمته كل ذلك يشفعه فيهم ويشفعه بمسألته لهم قال ومن هذا الباب أن قومًا منهم زعموا أن الله حدًّا وكان أعلى ما احتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك نعرف ربنا بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلاً في هذا

الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائنًا من كان علت درجته أو نزلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية قد رويت لنا أنه قيل له أتعرف ربنا بجد فقال نعم نعرف ربنا بجد بالجيم لا بالحاء وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال إن له تعالى حدًّا لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أحوجنا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي أرأيت إن قال جاهل رأس لا كالرؤوس قياسًا على قولنا يد لا كالأيدي هل تكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجيءْ ذكر

ليس لله صفة يقال لها الحد

الرأس لم يجز القول به قلت أهل الإثبات المنازعون للخطابي وذويه يجيبون عن هذا بوجوه أحدها أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات كما يوصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها الحد وإنماالحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره كما هو المعروف من لفظ الحد في الموجودات فيقال حد الإنسان وحد كذا وهي الصفات المميزة له ويقال حد الدار والبستان وهي جهاته وجوانبه المميزة له ولفظ الحد في هذا أشهر في اللغة والعرف العام ونحو ذلك ولما كان الجهمية يقولون

ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها ويجحدون قدره حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي عالم قدير قد عرفنا حقيقته وماهيته ويقولون إنه لايباين غيره بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم فيقولون لا داخل العالم ولا خارجه ولا كذا ولا كذا أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجود المخلوقات فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه وذكر الحد لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد فلما سألوا أمير المؤمنين في كل شيء عبد الله بن المبارك بماذا نعرفه قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فذكروا له لازم ذلك الذي تنفيه الجهمية وبنفيهم له ينفون ملزومه

الذي هو موجود فوق العرش ومباينته للمخلوقات فقالوا له بحد قال بحد وهذا يفهمه كل من عرف ما بين قول المؤمنين أهل السنة والجماعة وبين الجهمية الملاحدة من الفرق الوجه الثاني قوله سبيل هؤلاء أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس فيقولون له لو وفيت أنت ومن اتبعته باتباع هذه السبيل لم تحوجنا نحن وأئمتنا إلى نفي بدعكم بل تركتم موجب الكتاب والسنة في النفي والإثبات أما في النفي فنفيتم عن الله أشياء لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا إمام من أئمة المسلمين بل والعقل لايقضي بذلك عند التحقيق وقلتم إن العقل نفاها فخالفتم الشريعة بالبدعة والمناقضة المعنوية وخالفتم العقول الصريحة وقلتم ليس

هو بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شيء من شيء وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدْر أويكون له قَدْر لا يتناهى وأمثال ذلك ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة مع اتفاق السلف على ذم من ابتدع ذلك وتسميتهم إياهم جهمية وذمهم لأهل هذا الكلام وأما في الإثبات فإن الله تعالى وصف نفسه بصفات ووصفه رسوله بصفات فكنتم أنتم الذين تزعمون أنكم من أهل السنة

والحديث دع الجهمية والمعتزلة تارة تنفونها وتحرفون نصوصها أو تجعلونها لا تعلم إلا أماني وهذان مما عاب الله تعالى به أهل الكتاب قبلنا وتارة تقرونها إقرارًا تنفون معه ما أثبتته النصوص من أن يكون النصوص نفته وتاركين من المعاني التي دلت عليه مالا ريب في دلالتها عليه مع ما في جمعهم بين الأمور المتناقضة من مخالفة صريح

المعقول فأنت وأئمتك في هذا الذي تقولون إنكم تثبتونه إما أن تثبتوا ما تنفونه فتجمعوا بين النفي والإثبات وإما أن تثبتوا ما لا حقيقة له في الخارج ولا في النفس وهذا الكلام تقوله النفاة والمثبتة لهؤلاء كمثل الأشعري والخطابي والقاضي أبي يعلى وغيرهم من الطوائف ويقول أهل المُثْبِتَة كيف سوغتم لأنفسكم هذه الزيادات في النفي وهذا التقصير في الإثبات على ما أوجبه الكتاب والسنة وأنكرتم على أئمة الدين ردهم لبدعة ابتدعها الجهمية مضمونها إنكار وجود الرب تعالى وثبوت حقيقته وعبروا عن ذلك بعبارة فأثبتوا تلك العبارة ليبينوا ثبوت المعنى الذي نفاه أولئك فأين في الكتاب والسنة أنه يحرم رد الباطل بعبارة

مطابقة له فإن هذا اللفظ لم نثبت به صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة بل بينا به ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته لخلقه وثبوت حقيقته ويقولون لهم قد دل الكتاب والسنة على معنى ذلك كما تقدم احتجاج الإمام أحمد لذلك بما في القرآن مما يدل على أن الله تعالى له حد يتميز به عن المخلوقات وأن بينه وبين الخلق انفصالاً ومباينة بحيث يصح معه أن يعرج الأمر إليه ويصعد إليه ويصح أن يجيء وهو يأتي كما سنقرر هذا في موضعه فإن القرآن يدل على المعنى تارة بالمطابقة وتارة

بالتضمن وتارة بالالتزام وهذا المعنى يدل عليه القرآن تضمنًا أو التزامًا ولم يقل أحد من أئمة السنة إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لايفهم معناها بل من فهم معاني النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره وهذه نكت لها بَسْط له موضع آخر

مقالة أبي نصر السجزي في الحد

وممن نفى لفظ الحد أيضًا من أكابر أهل الإثبات أبو نصر السِّجْزِي قال في رسالته المشهورة إلى أهل زَبِيد وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته وأن الأمكنة غير خالية من علمه وهو بذاته تعالى فوق العرش

بلا كيف بحيث لا مكان وقال أيضًا فاعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكَرَّامية ومن تابعهم على القول بالمماسة ضُلاّل وقال وليس من قولنا إن الله فوق العرش تحديد له وإنما التحديد يقع للمحدثات فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود والله سبحانه وتعالى فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد لاتفاقنا أن الله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان قال وإنما يقول بالتحديد من يزعم أنه سبحانه وتعالى على مكان وقد علم أن الأمكنة محدودة فإن كان فيها

مقالة الرازي نقلا عن أبي معشر المنجم

بزعمهم كان محدودًا وعندنا أنه مباين للأمكنة ومن حلها وفوق كل محدَث فلا تحديد لذاته في قولنا هذا لفظه وأما قول الرازي وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام

رد المؤلف من وجوه

كالفرع على مذهب المشبهة فالكلام على هذا من وجوه أحدها أنه من العجب أن يذكر عن أبي معشر ما يذم به عبادة الأوثان وهو الذي اتخذ أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم الأمر في عبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وقد قيل إنه صنفه لأم الملك علاء الدين محمد

ابن تكش أبي جلال الدين وأنها أعطته عليه ألف دينار وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب والتوصل بذلك إلى الرئاسة وغيرها من المآرب وقد ذكر فيه عن أبي معشر أنه عبد القمر وأن في عبادته ومناجاته من الأسرار والفوائد ما ذكر فمن تكون هذه حاله في الشرك وعبادة الأوثان كيف يصلح أن يذم أهل التوحيد الذين يعبدون الله تعالى لايشركون به شيئًا ولم يعبدوا لا شمسًا ولا قمرًا ولا كوكبًا ولا وثنًا بل يرون الجهاد لهؤلاء المشركين الذين ارتد إليهم أبو معشر والرازي وغيرهما مدة وإن كانوا رَجَعوا عن هذه الردة إلى الإسلام فإن سرائرهم عندالله لكن لا نزاع بين المسلمين أن الأمر بالشرك كفر وردة إذا كان من مسلم وأن مدحه والثناء عليه والترغيب فيه كفر وردة إذا كان من مسلم

فأهل التوحيد وإخلاص الدين لله تعالى وحده الذين يرون جهاد هؤلاء المشركين ومن ارتد إليهم من أعظم الواجبات وأكبر القربات كيف يصلح أن يعيبهم بعض المرتدين إلى المشركين بأنهم يوافقون المشركين على أصل الشرك وهؤلاء لا يؤمنون بالله وبما أَنْزَل إلى أنبيائه وماأشبه حال هؤلاء بقوله تعالى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلى قوله عَن سَوَاء السَّبِيلِ {60} [المائدة 59-60] فإن هؤلاء النفاة الجهمية منهم من عبد الطاغوت وأمر بعبادته ثم هؤلاء يَعيِبون من آمن بالله ورسوله يوضح ذلك أن هذا الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل تنكلوشا البابلي ومثل طمطم الهندي ومثل

ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية ومعلوم أن الكلدانيين والكشدانيين من أهل بابِل وغيرهم أتباع

نمرود بن كنعان البابلي وغيره وأهل الهند هم أعظم المم شركًا وهم أعداء إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فكيف يكون أتباع هؤلاء المشركين أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام مُعيِّرين بأتباع المشركين لأهل الملة الحَنِيفِيَّة الذين اتبعوا إبراهيم وآل إبراهيم في إثبات صفات الله وأسمائه وعبادته فإن هؤلاء الجهمية ينكرون حقيقة خلة إبراهيم لله تعالى وتكليمه كما أنكره سلفهم أعداء الخليل وأعداء الكليم

وأول من أظهر في الإسلام التجهم وهذا المذهب الذي نصره الرازي وأبو معشر ونحوهما هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري وخطب الناس يوم النحر فقال ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مُضَحٍ بالجعد ابن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى تكليمًا تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ثم نزل فذبحه

فهذا أول الجهمية نفاة الصفات في هذه الأمة هو مكذب بحقيقة ما خص الله به إمام الحنفاء المخلصين الذين يعبدون الله ولا يشركون به شيئًا وكليم الله الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه والله تعالى يفضل هذين الرسولين ويخصهما في مثل قوله تعالى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى {18} صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {19} [الأعلى 18-19] وقوله أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى {36} وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37} [النجم 36-37] وهما اللذان رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فوق الأنبياء كلهم في السماء السادسة والسابعة فرأى أحدهما في السادسة ورأى الآخر في السابعة وقد جاءت الأحاديث التي في الصحيح بعلو هذا وعلو هذا فإذا كان سلف الجهمية ومخاطبو الكواكب هم من أعظم المشركين المعادين لرسل الله تعالى الآمرين بعبادة الله تعالى

وحده لا شريك له كيف يصلح لهم أن يعيبوا أهل الإيمان بالله ورسوله والذين يقرون بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له يقرون بتوحيد الله العلمي القولي كالتوحيد الذي ذكره في سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} [الإخلاص 1-3] قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} [الكافرون 1-6] كيف يصلح لأولئك الذين أشركوا وائتموا بالمشركين في نقيض التوحيد من هذين الوجهين فأمروا بعبادة غير الله ودعائه ورغبوا في ذلك وعظموا قدره وجهَّلوا من ينكر ذلك وينهي عنه وأنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته وحقيقة عبادته مالا يتم الإيمان والتوحيد إلا به كيف يصلح لهؤلاء أب يعيبوا أولئك باتباع المشركين ويجعلوا موافقيهم على هذا الكفر أعظم قدرًا من أولئك المؤمنين الذين ليس لهم نصيب من قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله نَصِيراً [النساء 51-52]

فإن سبب نزول هذه الآية ما فعله كعب بن الأشرف رئيس اليهود من تقديمه لدين المشركين على دين المؤمنين لما كان بينه وبين المؤمنين من العداوة فمن آمن بالجبت

هو السحر والطاغوت وهو ما عظم بالباطل من دون الله تعالى مثل رؤساء المشركين وله من علوم المسلمين ماله ففيه شبيه من أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ [النساء 51] الذين يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء 51] وإذا كان هؤلاء يتعصبون لأولئك المشركين وينصرونهم ويذمون المؤمنين ويعيبونهم ألم يكن لهم نصيب من قوله تعالى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً {51} [النساء 51] فيكون لهم نصيب من قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً {52} [النساء 52] وتمام الكلام في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً {61} [النساء 60-61] وهذه الآية مطابقة لحال هؤلاء كما بيناه في غير موضع

لا يجوز الاستدلال في التوحيد بكلام أبي معشر

الوجه الثاني أن الاستدلال في توحيد الله تعالى الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه بمثل كلام أبي معشر المنجم ونقله عن الأمم المتقدمة يليق بمثل الرازي وذويه أترى أبي معشر لو كان من علماء أهل الكتاب المسلمين كمن أسلم من الصحابة والتابعين ونقل لنا شيئًا عن الأنبياء المتقدمين أكان يجوز لنا في الشريعة تصديق ذلك الخبر إذا لم نعلم صدقه من جهة أخرى إذا كان الناقل لنا إنما أخذه عن أهل الكتاب وفي الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه

وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه فكيف وأبو معشر الناقل لذلك وإنما خبرة الرجل بكلام الصابئة المشركين عباد

الكواكب ونحوهم وهم من أقل الناس خبرة ومعرفة بالتوحيد الذي بعث الله به رسله وبحال أهله المؤمنين مع الكفار المشركين الوجه الثالث أن هذه الحكاية تقتضي أن الناس كانوا قبل ابتداع الشرك على المذهب الذي سماه مذهب المشبهة وأنهم كانوا حينئذ يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا كما ذكره فيكون هذا الاعتقاد هو مذهب القوم في الدهر الأقدم قبل عبادة الأوثان ثم إنه بسبب هذا الاعتقاد استحسنوا عبادة الأوثان ومعلوم أن الناس كانوا قبل الشرك على دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي دين الإسلام العام الذي لا يقبل الله من احد غيره كما قال تعالى وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [يونس 19] وقال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] وقد ثبت عن ابن

عباس رضي الله عنهما أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في حديث الشفاعة عن نوح قول أهل الموقف له وأنت أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض وقد قال تعالى وَلَقَدْ

بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] فإذا كان الله تعالى قد بعث في كل أمة رسولاً يدعوها إلى عبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت ونوح أول من بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض علم أنه لم يكن قبل قوم نوح مشركون كما قال ابن العباس وإذا كان كذلك وأولئك على الإسلام ومذهبهم هو المذهب الذي سماه مذهب المشبهة ثَبَتَ بموجب هذه الحكاية أن هذا هو مذهب الأنبياء والمرسلين والمسلمين من كل أمة الوجه الرابع أن في هذه الحكاية أنهم اشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة وقد ذكر الله تعالى قول المشركين في كتابه الذين جعلوا معه إلهًا آخر فلم يذكر أنهم كانوا يعتقدون أنهم يعبدون الله إذا عبدوا الأوثان ولكن ذكر أنهم اتخذوا هذه الأوثان شفعاء وذكر أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولكن في هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إن عباد الأوثان ما عبدوا إلا الله تعالى

عبادة الأوثان مشهورة عن نفاة الصفات من الفلاسفة وذويهم

وأن عابد الوثن هو العابد لله كما ذكرنا ذلك فيما تقدم عن صاحب الفصوص وذويه وهو من رؤساء هؤلاء الجهمية وأئمتهم الوجه الخامس أن عبادة الأوثان إنما هي مشهورة ومعروفة

عن نفاة الصفات من الفلاسفة الصابئين سلف أبي معشر والرازي وذويهم مثل النمرود بن كنعان وقومه أعداء الخليل عليه الصلاة والسماء وأتباعه وأولياء رهط أبي معشر ومثل فرعون عدو موسى كليم الرحمن عز وجل وأتباعه وأولياء الجهمية نفاة الصفات ومن يدخل فيهم من الاتحادية والقرامطة

وكما صرح بعضهم بموالاته فرعون وتعظيمه كما فعل صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي صنفه

للقرامطة وكما فعله صاحب الفصوص وذووه ومن لم يصرح بموالاة فرعون ولم يعتقد موالاته فإنه موافق له فيما كذب فيه موسى حيث قال يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] قاله خلائق من العلماء وممن قال ذلك أبو الحسن الأشعري إمام طائفة الرازي قال فرعون كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات

إن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتاب وإنما كان من غيرهم

وهؤلاء النفاة يوافقون فرعون في هذا التكذيب لموسى الوجه السادس أن القول الذي يسمونه مذهب المشبهة بل التشبيه الصريح لايوجد إلا في أهل الكتب الإلهية كاليهود والمسلمين كما ذكر الرازي عن مشبهة اليهود ومشبهة المسلمين وأما من ليس له كتاب فلا يعرف عنه شيء من التشبيه الذي يعير أهله بأنه تشبيه أو الذي يقول منازعوهم إنه تشبيه ومن المعلوم أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتاب وإنما كان من غيرهم فإن الله لم يبعث رسولاً ولم يُنزل كتابًا إلا بالتوحيد كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 36] وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ

آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال تعالى شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} [الشورى 13] وقال تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه [الشورى 21] وقال يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} [المؤمنون 51-52] ولم يحدث في أهل الكتاب وأتباع الرسل من العرب وبني إسرائيل وغيرهم شرك إلا مأخوذ من غير أهل الكتاب كما ابتدع عمرو بن لحي بن قَمَعَة سيد خزاعة الشرك في العرب الذين كانوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وسلم ابتدعه لهم

بمكة بأوثان نقلها من الشام من البلقاء التي كانت إذ ذاك دار الصابئة للمشركين سلف أبي معشر وذويه وكذلك بنو إسرائيل عبد من عبد منهم الأوثان كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه تعالى وتقدس وإنما حَدَث فيهم هذا في جيرانهم الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه فإذا كان أصل المذهب الذي سموه مذهب التشبيه لا يعرف إلا عمن هو من أهل كتابٍ منزل من السماء وأهل الكتاب لم يكونوا هم الذين ابتدعوا الشرك أولاً عُلم أن الشرك لم يبتدعه أولاً القوم الذين سماهم أهل التشبيه

الوجه السابع أنه إذا كان الإشراك متضمنًا لما سماه تشبيهًا فمن المعلوم أن المرسلين كلهم ليس فيهم من تكلم بنقض هذا المذهب ولا نهى الناس عن هذا الذي سماه تشبيهًا فليس في القرآن عن محمد صلى الله عليه وسلم ولا عن المرسلين المتقدمين ولا في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب ولا في الأحاديث المأثورة عن أحد من المرسلين أنهم نهوا المشركين أو غيرهم أن يقولوا إن الله تعالى فوق السموات أو فوق العرش أو فوق العالم أو أن يصفوه بالصفات الخبرية التي يسميها هؤلاء تشبيهًا ولا ذموه ولا أنكروه ولا تكلموا بما هو عند هؤلاء توحيد وتنزيه ينافي هذا التشبيه عندهم أصلاً ثبت أن المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه كلهم كانوا مقررين لهذا الذي سموه تشبيهًا وذلك يقتضي أنه

لم يعلم عن أحد من المشركين أنه اعتقد أن الوثن على صورة الله

حق فهذا النقل الذي نقله أبو معشر واحتج به الرازي إن كان حقًّا فهو من أعظم الحجج على صحة مذهب خصومهم الذين سموهم مشبهة وإن لم يكن حقًّا فهو كذب فهم إما كاذبون مفترون وإما مخصومون مغلوبون كاذبون مفترون في نفس المذهب الذي انتصروا عليه الوجه الثامن أن الشرك كان فاشيًا في العرب ولم يُعلم أحد منهم كان يعتقد أن الوثن على صورة الله تعالى وقبلهم كان في أمم كثيرة وله أسباب معروفة مثل جعل الأوثان صورًا لمن يعظمونه من الأنبياء والصالحين وطلاسم لما يعبدونه من الملائكة والنجوم ونحو ذلك ولم يعرف عن أحد من هؤلاء المشركين أنه اعتقد أن الوثن صورة الله والشرك في أيام الإسلام ما زال بأرض الهند والترك فاشيًا والهند فلاسفة وهم من أعظم سلف أبي معشر ومع هذا فليس في الهند والترك من يقول هذا فَعُلم أن هذا أول مفتر الوجه التاسع لو كان هذا من أسباب الشرك فمن المعلوم أن غيره من أسباب الشرك أعظم وأكثر وأن الشرك في غير هؤلاء الذين سماهم مشبهة أكثر فإن كان الشرك في

اعتقاد ثبوت الصفات ليس موجبا لعبادة الأصنام

بعض مثبتة هذه الصفات عيبًا فالشرك في غيرهم أكثر وأكثر وكان الطعن والعيب على نفاة الصفاة بما يوجد فيهم من الشرك أعظم وأكبر الوجه العاشر قوله فَثَبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المُشَبِّهة كلام مجمل فإن من الفرع ما يكون لازمًا لأصله فإذا كان الأصل مستلزمًا لوجود الفرع الفاسد كان فساد الفرع وعدمه دليلاً على فساد الأصل وعدمه ومن الفروع ما يكون مستلزمًا للأصل لا يكون لازمًا له وهوالغالب فلا يلزم من فساده وعدمه فساد الأصل وعدمه ولكن يلزم من فساده وعدمه فساد هذا الفرع وعدمه فالأول كما قال الله تعالى ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ {26} [إبراهيم 24-26] فالكلمتان كلمة الإيمان واعتقاد التوحيد وكلمة الكفر واعتقاد الشرك فلا ريب أن الاعتقادات توجب

الأعمال بحسبها فإذا كان الاعتقاد فاسدًا أورث عملاً فاسدًا ففساد العمل وهو الفرع يدل على فساد أصله وهو الاعتقاد وكذلك الأعمال المحرمة التي تورث مفاسد كشرب الخمر الذي يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء فهذه المفاسد الناشئة من هذا العمل هي فرع لازم للأصل ففسادها يدل على فساد الأصل وهكذا كل أصل فهو علة لفرعه وموجب له أما القسم الثاني فالأصل الذي يكون شرطًا لا يكون علة كالحياة المصححة للحركات والإدراكات وأصول الفقه التي هي العلم بأجناس أدلة الفقه وصفة الاستدلال ونحو ذلك فهذه الأصول لا تستلزم وجود الفروع وإذا كان الفرع فاسدًا لم يوجب ذلك فساد أصله إذ قد يكون فساده من جهة أخرى غير جهة الأصل وذلك نظير تولد الحيوان بعضه من بعض فالوالدان أصل للولد والله تعالى وتقدس يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فالكافر يلد

المؤمن والمؤمن يلد الكافر وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اعتقاد ثبوت الصفات بل اعتقاد التشبيه المحض ليس موجبًا لعبادة الأصنام ولا داعيًا إليه وباعثًا عليه أكثر ما في الباب أن يقال اعتقاد أن الله تعالى وتقدس مثل البشر يمكن معه أن يجعل الصنم على صورة الله تعالى بخلاف من لم يعتقد هذا الاعتقاد فإنه لا يُجْعَل الصنم على صورة الله تعالى فيكون ذلك الاعتقاد شرطًا في اتخاذ الصنم على هذا الوجه وهذا القدر إذا صح لم يوجب فساد ذلك الاعتقاد بالضرورة فإن كل باطل في العالم من الاعتقادات والإرادات وتوابعها هي مشروطة بأمور صحيحة واعتقادات صحيحة ولم يدل فساد هذه الفروع المشروطة على فساد تلك الأصول التي هي شرط لها فإن الإنسان لا يصدر منه عمل إلا بشرط كونه حيًّا قادرًا شاعرًا ولم يدل فساد ما يفعله من الاعتقادات والإرادات على فساد هذه الصفات والذين أشركوا بالله تعالى وتقدس وعبدوا معه إلهًا آخر كانوا يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويق4ولون هم شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أن الله يملكهم كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك وقد قال تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم

مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقد اخبر عنهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وقال قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال عكرمة يؤمنون أنه

رب كل شيء وهم يشركون به فإذا كانوا إنما أشركوا به لاعتقادهم أنه رب كل شيء ومليكه وأن هذه الشفعاء والشركاء ملكه وآمنوا بأنه رب كل شيء ثم اعتقدوا مع ذلك أن عبادة هذه الأوثان تنفعهم عنده فهل يكون ما ابتدعوه من الشرك الذي هو فرع مشروط بذلك الأصل قادحًا في صحة ذلك الإيمان والإقرار الحق الذي قالوه الوجه الحادي عشر أن الذين أشركوا بالله تعالى حقيقة من عباد الشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين والذين اتخذوا أوثانًا لهذه المعبودات إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم وجود الشمس والقمر والكواكب والملائكة

والأنبياء واعتقادهم ما تفعله من الخير تشبيهًا فهل يكون ذلك قادحًا في وجودها وفي اعتقاد ما هي متصفة به أم لا فإن كان ذلك فلزم أبا معشر والرازي أن يقدحوا في العلوم الطبيعية والرياضية ويقدحوا في الملائكة والنبيين وفن لم يكن كذلك ما ذكره من الحجة باطلاً الوجه الثاني عشر قوله فَثَبَت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة يقال له الثُّبوت إنما يكون بذكر حجة عقلية أو سمعية وهب أن ما ذكره أبو معشر إنما هو خبر عن أمم متقدمين لم يذكرهم ولم يذكر إسناده في معرفة ذلك وليس أبو معشر ممن يحتج بنقله في الدين بإجماع أئمة الدين فإنه لم يكن كافرًا منافقًا كان فاجرًا فاسقًا وقد قال الله تعالى وتقدس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] فلو قدر أن هذا النقل نقله بعض أئمة التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان هذا عنده خبرًا مرسلاً لا يثبت به حكم في فرع من الفروع فكيف

والناقل له مثل أبي معشر عن أمم متقدمة فهذا خبر في غاية الانقطاع ممن لا تُقبلُ روايته فهل يَحْسن بذي عقل أو دين أن يُثبت بهذا شيئًا في أصل الدين ومن العجب العجيب أن هذا الرجل المحاد لله ولرسوله عمد إلى الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي توارثها عن أئمة الدين وورثة الأنبياء والمرسلين واتفق على صحتها جميع العارفين فقدح فيها قدحًا يشبه قدح الزنادقة المنافقين ثم يحتج في أصل الدين بنقل أبي معشر أحد المؤمنين بالجبت والطاغوت أئمة الشرك والضلال ونعوذ بالله من شرورهم وأقوالهم والله المستعان على ما يصفون والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل في مناقشة حجج الرازي السمعية على نفي الجسمية والحيز والجهة

فصل قال الرازي الفصل الثاني في تقرير الدلائل السمعية على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز والجهة قلت لم يذكر في هذا الفصل حجة تدل على مطلوبه دلالة ظاهرة فضلاً عن أن تكون نصًّا بل إما أن يكون ما ذكره عديم الدلالة على مطلوبه وذلك يتبين بذكر حججه قال الحجة الأولى قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 1-4] قال واعلم أنه قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل الله هذه السورة إذا عرفت هذا فنقول هذه السورة يجب أن تكون من

المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابًا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثَبَت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً

قلت كون هذه السورة من المحكمات وكون كل مذهب يخالفها باطلاً هو حق لا ريب فيه بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وعليها اعتمد

الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهم من أئمة الإسلام وهي على نقيض مطلوب

الجهمية أدل منها على مطلوبهم كما قررناه في موضعه وربما نذكر منه هنا ما ييسره الله لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته مثل آية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يُذكر في غيرها من اسمه الأحد

الصمد ومثل نفي الأصول والفروع والنظراء جميعًا وإلا فاسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الاسم فأثبته الله لنفسه ردًّا عليهم وهذا أبلغ في كونه محكمًا من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يَرِد عليه نفي ولا إثبات وقد قال وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً {60} [الفرقان 60] وقال تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} [الرعد 30] وكذلك قول فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] هذا أبلغ في كون موسى صرح له بأن إلهه فوق السموات حتى قصد تكذيبه بالفعل من الإخبار عن ذلك بلفظ موسى وكذلك مسألة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون من رؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر صحوًا ليس دونه سحاب فقالوا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤيته كما لا تضارون في

رؤية الشمس والقمر وسائر ما في هذا المعنى من الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة مع ورودها على سؤال السائل وجوابه بهذا التصريح هو من أبلغ ما يكون في إثبات هذه الرؤية وأبعد عن التشابه كما يظنه الرازي وغيره ممن يحرف الرؤية عن حقيقتها اتباعًا للمريسي وغيره من الجهمية وإن كان الرازي في

الظاهر مقرًّا بالرؤية فإن إقراره بها كإقرار المريسي وذويه بألفاظها ثم يحرفون الكلم عن مواضعه ثم قال الرازي فنقول إن قوله تعالى أَحَدٌ يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أَحَدٌ مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية قال وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول أما الذين

ينكرون الجوهرالفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وذلك لأنه لابد أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكلما تميز فيه شيء عن شيء فهو منقسم لأن يمينه موصوف بأنه يمين لايسار ويساره موصوف بأنه يسار لايمين فلو كان يمينه عين يساره لاجتمع في الشيء الواحد أنه يمين وليس بيمين ويسار وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال قالوا فثبت أن كل متحيز فهو منقسم وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد فلما كان الله موصوفًا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزًا أصلاً وذلك ينفي كونه جوهرًا وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد فإنه لا يمكنهم الاستدلال

على نفي كونه تعالى جوهرًا من هذا الاعتبار ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا من وجه آخر وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به أيضًا نفي الضد والند ولو كان الله تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثْلاً له وذلك ينفي كونه أحدًا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لايكون في شيء من الأحياز والجهات لأن كل ما كان مختصًّا بحيز وجهة فإن كان منقسمًا كان جسمًا وقد بينا إبطال ذلك وإن لم يكن كان جوهرًا ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلاً فثبت أن قوله أَحَدٌ يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة أصلاً

رد المؤلف على استدلال الرازي بقوله (أحد) على نفي الجسمية والحيز والجهة

قلت هذا الاستدلال هو معروف قديمًا من استدلال الجهمية النافية فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد وأنه يثبت تعدد القدماء لايجعل القديم واحدًا فقط فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة

وغيرهم يبنون على هذا وقد يسمون أنفسهم الموحدين ويجعلون نفي الصفات داخلاً في مسمى التوحيد ومبنى ذلك على أصل واحد وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكَلِم عن مواضعه وقد ذكر تلبيسهم وتحريفهم وإلحادهم أئمة السلف والخلف وممن نبه عليه الإمام أحمد قال في رسالته في الرد على الزنادقة والجهمية فقالت الجهمية

لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولا نقول ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلاً في ذلك فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكَرَب وليف وسَعَف

وخُوص وجُمَّار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لانقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علمًا فعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا لا متى ولا كيف قال وسمى الله رجلاً كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة

المخزومي فقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقد كان الذي سماه وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة وقد سماه وحيدًا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء هو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودًا بشيء يقال إنه من صفاته فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب

والتجزئة إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات كما يقولون النوع مركب من الجِنْس والفصل ويستلزم أيضًا التشبيه والتوحيد عندهم نفي التشبيه والتجسيم ويقولون إن

تفسير الجهمية والمعتزلة والمتكلمين والفلاسفة للواحد والتوحيد

الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسوله وهذا أصل تعظيم يجب معرفته فقال نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدر ويعبرون عن هذا المعنى بعبارات فيقول من يريد هذا المعنى من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله إن واجب الوجود واحد من كل وجه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم أو يقال ليس فيه

كثرة حد ولا كثرة كم أو يقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل ولا تركيب الأجسام ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة وكذلك تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم إن القديم واحد ليس معه في القدم غيره ولو قامت به الصفات لكان معه غيره وأنه ليس بجسم إذ الجسم مركب مؤلف منقسم

وهذا تعديد ينافي التوحيد أو يقولون أيضًا إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وعددًا في ذاته وذلك خلاف التوحيد ويسمون أنفسهم الموحدين والعلم الذي يعلم له هذا علم التوحيد وهذا عندهم أول الأصول الخمسة التي هي عندهم التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وانفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن هنا أخذ محمد بن التومرت هذا اللقب وسمى

طائفته الموحدين ووضع لهم المرشدة المتضمنة لمثل عقيدة المعتزلة وغيرهم من الجهمية في التوحيد ولم يذكر اعتقاد الصفاتية كابن كلاب والأشعري فضلاً عن اعتقاد السلف والأئمة لكن ذكر في القدر مذهب أهل الإثبات وهذا

الذي ذكر يشبه قول حسين النجار وضرار بن عمرو وكان حفص الفَرد من أصحاب النجار وكان برغوث من

أصحاب ضرار وذاك خصم الشافعي

وهذا من خصوم أحمد وذهب حسين النجار وطائفة من المعتزلة إلى أن معنى الواحد هو الذي لا شبيه له كما يقول فلان واحد دهره وقد يقولون التوحيد يجمع المعنيين جميعًا فالأول نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه فإن نفي الصفات عندهم هو نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه والتوحيد ينافي التشبيه والتجسيم وجماع قولهم إن التوحيد يجمع ثلاث معان أنه واحد في نفسه لا صفة له وقَدْر فليس بمركب

ولا محدود ولا موصوف بصفة تقوم به وهو أيضًا واحد لا شبيه له فهذان نفي التجسيم والتشبيه والثالث أنه واحد في أفعاله لا شريك له وهذا الثالث هو متفق عليه بين المسلمين لكن الناس يقولون هذا التوحيد لايتم للقدرية الذين يجعلون بعض العالم مفعولاً لغير الله ويجعلون من يفعل كفعل الله فإن هذا إثبات شريك له في الملك ثم إن المعتزلة وغيرهم من الجهمية وإن وافقهم بقية المسلمين على نفي التشبيه فإنهم يدخلون في اسم التشبيه كل من أثبت لله صفة كما هو معروف عنهم ولذلك نقله عنهم الأئمة كما ذكره الإمام أحمد في الرد عليهم فقال في وصف الجهم وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث

رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئًا وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة

ووضع دين الجهمية وأكثر الشيعة المتأخرين على هذا التوحيد ونفي القَدر وأمل الشيعة المتقدمون الذين أدركوا زمن الأئمة فكان

جمهورهم على الإثبات وغالب الإمامية مُصرِحون بالتجسيم قلت أصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن عمرًا هو الإمام الأول الذي ابتدع دين المعتزلة هو وواصل بن عطاء

وأما الذين اتبعوه من أصحاب أبي حنيفة فهم من جنس الذين قاموا بأمر محنة المسلمين على دين الجهمية لما دَعُوا الناس إلى القول بخلق القرآن وغيره من أقوال الجهمية وهم مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دُواد قاضي القضاة وأمثالهم ولما أدخلت الجهمية هذا النفي الذي ابتدعوه في مسمى التوحيد أظهر المسلمون خلافهم من الأئمة والفقهاء وأهل الحديث والكلام كما وروى أبو عبد الرحمن السلمي ومن طريقه شيخ

الإسلام الأنصاري عن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرًا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل

معنى الواحد عند الصفاتية

على باطل وكان المثبتة من أهل الكلام يخالفونهم في مسمى الواحد وكذلك الصفاتية وقد تقدم كلام أبي محمد ابن كُلاَّب في معنى الواحد وأنه قال في كتاب التوحيد في معنى قول القائل إن الله واحد وفي معنى قولنا مطلقًا للشيء إنه واحد فقال ومعنى قولنا الله واحد أنه منفرد بنفسه لا يدخله غيره وقال في معنى مطلق قولنا إنه واحد إنه قد يقال ذلك لما هو أشياء كثيرة مجتمعة وهو أجسام متماثلة كما يقال إنسان واحد وقولنا للخالق واحد لا على هذا المنهاج لأجل أنه المنفرد بنفسه الذي لا يدخله غيره قال وقد كان الله واحدًا قبل خلقه فلم تداخله الأشياء حين خلقها ولم يُدَاخلها ولو كان ذلك كذلك لم يكن واحدًا قال ول كان داخلاً فيها لكان حكمه حكمها ولو كانت داخلة فيه كان كذلك ومن زعم أنها فيه أو هو فيها

لزمه أن يحكم فيه بحكم المخلوق إذ كان في المخلوق أو المخلوق فيه فلما استحال في ربنا أن يداخل المخلوقين فيكون بعضاً لهم أو يداخلوه فيكونوا بعضاً له لم نجد منزلة ثالثة غير أنه بائن بخلق الأشياء فهي غير داخلة فيه ولا مماسة له ولا هو داخل فيها ولا مماس لها ولولا أن ذلك كذلك كان حكمه حكمها فإن قالوا فيعتقبه الطول والعرض قيل لهم هذا محال لأنه واحد لا كالآحاد عظيم لا تقاس عظمته بالمخلوقات كما أنه كبير عليم لا كالعلماء كذلك هو واحد عظيم لا كالآحاد العظماء فإن قلت العظيم لا يكون إلا متجزيًا قيل لك والعليم لا يكون إلا متجزيًا وكذلك السميع والبصير لأنك تقيس على المخلوقات قال ابن فورك وحكى حاكون عن ابن كلاب أنه

لا يصح أن يضبط بالوهم شيء واحد أراد أنه إن كان قديماً فلابد من صفات وإن كان محدثاً فمن أعراض قلت هذا الكلام يقال إبطالاً لمذهب الجهمية ونحوهم من الفلاسفة والمعتزلة أن الواحد لا صفة له فيقال لهم فيمتنع على هذا القول أن يكون في الوجود واحد كما سنبين إن شاء الله مخالفة قولهم للغة والعقل والشرع ولكن كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد والتوحيد بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك كما سنذكره لكن مع تفسيرهم إياه بما ينفي التجسيم والتشبيه لم يلتزموا أن ذلك ينفي الصفات بل عندهم تفسير الواحد بذلك لا ينافي ثبوت الصفات القائمة به وهذا من مواقع النزاع بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة وغيرهم من الجهمية فإن هؤلاء يزعمون أن نفي الصفات داخل في مسمى الواحد وأما الصفاتية فينكرون ذلك

قال الأستاذ أبو المعالي قال أصحابنا الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم أو لا يصح انقسامه قال القاضي أبوبكر ولو قلت الواحد هو الشيء كان كافيًا ولم يكن في الحد تركيب وفي قول القائل الشيء الذي لاينقسم نوع تركيب قال الأستاذ أبو المعالي يقال للقاضي التركيب في الحدود وهو أن يأتي الحاد بوصف زائد يستغنى عنه وقد

لا تفهم من الشيء المطلق ما تفهم من المقيد وليس يفهم من الشيء ما يفهم من الواحد الذي لاينقسم فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء المقصود من التحديد والإيضاح أجاب القاضي بأن قال كلامنا في الحقائق والشيء المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم قال منازعوه ويقال قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء فهما أمران متلازمان فلابد من التعرض لهما ثم قال أبوالمعالي ثم قال أصحابنا إذا سئلنا عن الواحد فنقول هذه اللفظة تردد بين معان فقد يراد به الشيء لايقبل وجود القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الأشكال والنظائر عنه وقد يطلق والمراد أنه لا ملجأ وملاذ سواه وهذه المعاني

متحققة في وصف القديم سبحانه وتعالى وقال الأستاذ أبوبكر بن فورك إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع يعني الوصول والفصل قال الأنصاري إشارة إلى وحدة الإله فإن الجوهر

واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية والإله سبحانه واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلاً ولا وصلاً قال فإن قال قائل الوحدانية ترجع إلى صفة إثبات أم هي من الأوصاف التي تفيد النفي قلنا قال بعض المتكلمين المقصد من الواحد انتفاء ماعدا الموجود الفرد وربما يميل القاضي أبوبكر إلى هذا وقال الجُبَّائي كونه واحدًا ثابت لا للنفس ولا للمعنى وطرد ذلك شاهدًا وغائبًا والذي يدل عليه كلام

القاضي أن الاتحاد صفة إثبات ثم هي صفة النفس قال أبو المعالي فإن قيل أوضحوا معنى التوحيد قيل مراد المتكلمين من إطلاق هذه اللفظة اعتقاد الوحدانية والحكم بذلك وأبو المعالي كثيرًا مايقول قال الموحدون ويعني بهم هؤلاء وسلك سبيله ابن التومرت في لفظ الموحدين لكن لم يذكر في مرشدته الصفات الثبوتية كما يذهب إليه أبو المعالي ونحوه لكن اقتصر على الصفات السلبية وعلى الأحكام

وهذه طريقة المعتزلة والنجارية ونحوهم وكذلك قد وافق هؤلاء في تفسير الواحد بهذه المعاني الثلاثة طائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم قال القاضي

أبويعلى في المعتمد كما ذكر ابن الباقلاني وأما الواحد والفرد والوتر فمعناه استحالة التجزئة والانقسام والتبعيض عليه فقال ونفي الشريك عنه ونفي الثاني عنه فيما لم يزل ونفي المِثْل عنه تعالى وعن صفاته الأزلية فجعل في هذا الموضع اسم الواحد يعم هذه المعاني الثلاثة وأما في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات ففسر الواحد بما لا شريك له وجعل هذه المعاني ثلاثة أقوال فقال وأما وصفه بأنه واحد فمعناه الذي لا شريك له القهار يقهر كل جبار والحد والواحد بمعنى واحد وقيل معناه شيء وكل شيء واحد وكل واحد شيء فإذا قيل للجملة إنها واحدة فإنه يُقدّر فيها حكم الواحد الذي لاينقسم وقيل المراد به نفي النظير كقولهم فلان واحد زمانه

لكن كثير ممن يفسر الواحد بعدم التجزي يريد بذلك ما يعرفه الناس من معنى التجزي وهو انفصال جزء عن الآخر كما يعنون بلفظ المنقسم انفصال قسم من قسم وليس هذا فقط هو المعنى الذي يريده نفاة الجسم بقولهم ليس بمنقسم ولا متجزي فإن هذا المعنى لا يشترطون فيه وجود هذا الانفصال ولا إمكان وجوده وهذا الاصطلاح قول أبي الوفاء بن عقيل في كتاب الكفاية باب في نفي الولد والتجزية وهو سبحانه واحد لا يتجزأ لقوله تعالى لَمْ يَلِدْ لأنه لو كان والدًا لكان متجزأ لأن الولد هو انفصال جزأ من الوالد قال سبحانه وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً [] الزخرف 15] يعني ولدًا قال لأن التجزي لا يجوز إلا على المركبات وقد أفسدنا التركيب حيث أفسدنا كونه جسمًا قال ونخص هذا بدلالة أخرى فنقول إن الإيلاد تحلل والتحلل لا يجوز إلا على ذات مستحيلة تتعاقب عليها الأزمان وتتغالب فيها الطباع تأخذ من الأغذية حظًّا وتعيد منها فضلاً والقديم سبحانه ذات لا يداخله شيء ولا يُداخل شيئًا ولا يتصل بشيء ولا ينفصل عنه شيء لأنه واحد والتجزي والانقسام لا يتصور إلا على آحاد التأمت بالاجتماع فتوحدت

وتفككت بالانقسام فتعددت ألا ترى أن العلل والأحكام والعقول والعلوم لما لم توصف بالتركيب لم يتسلط عليها التجزئة وكذلك قال أبو الوفاء بن عقيل في باب نفي التشبيه وهو سبحانه غير مُشَبه بالأشياء فليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا على صفة من صفات الموجودات قال سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] معناه ليس مثله شيء والكاف زائدة والدلالة على أنه ليس بجسم ولا مشبه للأشياء أنه لو كان جسمًا لكان مؤلفًا لأن حقيقة الجسم هو المؤتلف ولهذا أدخلت عليه العرب التزايد فيقال هذا أجسم ويراد به أكثر أجزأ وأكبر جثة ولو كان مؤلفًا لاحتاج إلى مؤلف كما احتاجت سائر الأجسام ويُجاز عليه ما يجوز عليها من التجزي والانقسام والتفكك والالتيام ولو جوزنا قِدم غائب مع كونه جسمًا لاقتبسنا من العلم بحدث هذا الجسم الحاضر حدث الغائب ولأن المشبه للشيء ما سد مسده وقام مقامه فلو أشبه

هذه الأشياء الموجودة أو شيئًا مناه لسد مسده وقام مقامه في القدم والإحداث والصفة والاختراع وإلى غير ذلك من صفات القديم سبحانه ولنه لو كان يشبهها من وجه من الوجوه لاحتاج إلى ما احتاجت إليه من الأمكنة التي يقوم بها ويتحول إليها وكذلك لوجب قدم الأمكنة لوجود قدم الكائنات وفي ذلك إما قدم العالم أو حدث القديم وكلاهما محال فما أدى إليه محال قلت وطائفة أخرى تجعل قول النصارى في الأقانيم بمعنى الأجزاء الأبعاض لكن ليس في نقلهم أنهم يوجبون كون الولادة انفصال جزء عن غيره كما يذكر الأولون قال

أبو عبد الله بن الهيصم الفصل الرابع وأما القول في أنه أحدي الذات فإن النصارى زعمت أن الله جل عن قولهم أقانيم ثلاثة رب واحد وفسر بعضهم الأقانيم بأنها الأشخاص وقال بعضهم إنها الخواص قال وقال أهل التوحيد إن الله واحد في ذاته ليس بذي أقانيم ولا أبعاض واحتجت النصارى بأنكم قد وافقتمونا على أن الله عز ذكره قد كان لم يزل وله حياة وكلام وذلك ما أردناه بقولنا أقانيم ثلاثة قال والرد عليهم أن يقال لهم إن الحياة والكلام عندنا صفتان لذاته وليستا في حكم الذات ولا يقع عليهما اسم الله فإن الله هو الموصوف بهما دونهما وليس يصح إضافة شيء من أفعال الربوبية إليهما لأن الحياة والكلام لا يفعلان وإنما يفعل الحي المتكلم وهو الله الموصوف بهما وليس كذلك قولكم من قبل أنكم جعلتم الروح والابن أقنومين يتناولهما اسم الله وأفعال الربوبية عندكم منسوبة إلى مجموع الأب والابن والروح القدس قد جعلتموها بمنزلة أركان الإنسان التي يتناول مجموعها اسم الإنسان وتنسب إلى جملتها أفعاله وهذا هو

وصفه بالتجزئة والتبعيض وليس ما وصفنا به من الحياة والكلام كذلك ثم يقال لهم وإذ قد كان الله عندنا وعندكم موصوفًا بالقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والرحمة والعزة كما كان موصوفًا بالحياة والكلام فهلا جعلتم هذه كلها أقانيم له وما لكم قصرتم الأقانيم على الثلاثة وفي هذا ما يدل على أنكم لم تذهبوا من الأقانيم مذهب إثبات الصفات له لذلك فرقتم بين هذه الصفات وبينها وإنما ذهبتم فيها مذهب الأبعاض والأجزاء تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا قلت مذهب النصارى لكونه متناقضًا في نفسه لا يعقل إذ لا حقيقة له كما لا تعقل الممتنعات صاروا يضطربون في قوله فكل طائفة منهم تفسره بغير ما تفسره الأخرى وكذلك يضطرب الناس في نقله فلهذا ذكر هذا أن الأقانيم عندهم أبعاض كأركان الإنسان وإن كان الآخرون من النصارى

لا يقولون ذلك فإن عندهم كل إله من الأقانيم إله يدعى ويعبد مع قولهم عن الثلاثة إله واحد وبعض الإله ليس هو إلهًا ولكن عندهم الذات الموصوفة بالأمور الثلاثة مع كل صفة أقنوم ثم يقولون إن الواحد هو المتحد بالمسيح فإن كان متحدًا لصفة فالصفة ليست إلها يخلق ويرزق وعندهم المسيح إله وإن كان المتحد الذات فيكون المسيح هو الأب والابن الروح القدس إله وهم لا يقولون ذلك وإنما يقولون المتحد به الكلمة التي هي الابن ويقولون هو ابن الله لذلك ويقولون أيضًا هو الله لأن المتحد به هو الذات التي هو الله فيجعلون المتحد به هو الذات بصفة دون الذات بالصفتين الأخريين ومن المعلوم أن الصفات لا تفارق الذات وقد يكونون يقولون كما حكى هذا الأقانيم أبعاض وأجزاء كل منهما إله أيضًا وإذا عُرِفَ أن مراد أئمة هذا القول بنفي التجزي والانقسام ليس هو وجود الانقسام بانفصال بعضه عن بعض ولا إمكان ذلك وإن كان اللفظ في ذلك أظهر منه في غيره فإن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفيًا وإثباتًا ولهذا قال الإمام أحمد فيهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام

اتفق المسلمون على نفي التجزي والانقسام والتركيب بمعناها اللغوي عن الله

ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذان المعنيان مما اتفق المسلمون فيما أعلمه على تنزه الله وتقدسه عنهما فإن الله سبحانه أحد صمد لا يتجزى ولا يتبعض وينقسم بمعنى أنه ينفصل بعضه عن بعض كما ينفصل الجسم المقسوم المُعَضَّى مثل ما تقسم الأجسام المتصلة كالخبز واللحم والثياب ونحو ذلك ولا ينفصل منه بعض كما ينفصل عن الحيوان ما ينفصل من فضلاته وهذه المعاني هو منزه عنها بمعنى أنها معدومة وأنها ممتنعة في حقه فلا تقبل ذاته التفريق والتبعيض بل ليس هو بأجوف كما قال الصحابة والتابعون في تفسير الصمد أنه الذي لا جوف له كما سيأتي بيانه وأكثرالناس لا يفهمون من نفي التبعيض والتجزئة

والانقسام والتركيب إلا هذين المعنيين ونحوهما وذلك متفق على نفيه بين المسلمين اللهم إلا أن يكون بعض من لا أعلم من الجهال الضلال قد جوز على الله أن ينفصل منه بعضه عن بعض كما يحكى ذلك عن بعض الكفار فبنو آدم لا يمكن حصر ما يقولونه وإنما المقصود أن المقالات المحكية عن طوائف الأمة لم أجد فيها من حكى هذا القول عن أحد من الطوائف وإنما مراد أئمة هذا القول من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم من الصفاتية بنفي ذلك ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا هو عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء ولا يمكن أيضًا عند التحقيق أن يرى منه شيء دون شيء وهذا عندهم نفي الكم والمساحة وأما غير الصفاتية فيريدون أنه لا صفة له إذ وجود الصفات يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب كما سيأتي بيان قولهم فيه وهؤلاء ينفون التجسيم والتشبيه وهم متناقضون في ذلك عند النفاة والمثبتة الذين يخالفونهم كما أن النفاة تثبت موجودًا مطلقًا مجردًا عن الصفات والمقادير وهم في ذلك متناقضون عند

جماهير العقلاء وكذلك من أثبت أنه حي عالم قادر ونفى الصفات كان متناقضًا عند جماهير العقلاء ومن أثبت من الصفاتية الصفات الخبرية كالوجه واليدين مع نفي التجسيم والتشبيه هم متناقضون في ذلك عند من يخالفهم من الصفاتية وسائر النفاة والمثبتة كما هو قول ابن كلاب والأشعري وغيرهما ثم متكلمة أهل الحديث وفقهاؤهم الذين يوافقون هؤلاء على النفي مع إثبات المعاني الواردة في آيات الصفات وأحاديثها وهم متناقضون في ذلك عند هؤلاء ولهذا لما صنف القاضي أبو يعلى كتابه الذي سماه كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وقال في أوله أحمده حمدًا يرضيه وأستعينه على أوامره ونواهيه وأبرأ إليه من التجسيم والتشبيه وصار في عامة ما يذكره من أحاديث الصفات يقر الحديث على مايقول إنه ظاهره ومقتضاه مع قوله بنفي التجسيم كما يقول سائر الصفاتية في الوجه واليد وكما يقولونه في العلم والقدرة ونحو ذلك وهذا تناقض عند أكثر أهل الإثبات والنفي

ولهذا صار في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من يشهد بتناقضه إما مائلاً إلى النفي كرزق الله التميمي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم وإما مائلا إلى الإثبات كطوائف أجلّ

وأكثر من هؤلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم وطوائف آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم يوافقونه على مجمل ما ذكره وإن نازعوه في بعض المواضع وهؤلاء أكثر وأجل من المائلين إلى النفي كالشريف أبي جعفر وأبي الحسن القزويني

والقاضي أبي الحسين وأبي وإن كانوا يخالفونه في أشياء مما أثبتها إما لضعف الحديث أو لضعف دلالته وأما التشبيه فهو اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل والمتشابهان هما المتماثلان وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه وبينهم نزاع في إمكان التشابه الذي هو التماثل من وجه دون وجه وهل التشابه الذي هو التماثل بنفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات وهذا التشبيه أيضًا منتف عن الله وإنما خالف فيه المشبهة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم كما قال الإمام أحمد

المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه وكما قال إسحاق وأبو نعيم ومحققو المتكلمين على أن هذا التشابه الذي هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي بها يقوم أحدهما مقام الآخر وأما التشبيه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة كما يقال للصورة المرسومة في الحائط إنها تشبه الحيوان ويقال هذا يشبه هذا في كذا وكذا وإن كانت الحقيقتان مختلفتين

ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فإن مقتضى هذا كونه معدومًا ومنهم طوائف يطلقون هذا لكن من هؤلاء من يريد بنفي التشابه نفي التماثل فلا يكون بينهما خلاف معنوي إذ هم متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه كما دَلّ على ذلك القرآن كما قد بيناه في غير هذا الموضع كما يعلم أيضًا بالعقل وأما النفاة من الجهمية وأشباههم فلا يريدون بذلك إلا نفي الشبه بوجه من الوجوه وهذا عند كل من حقق هذا المعنى لا يصلح إلا للمعدوم وقد قرر ذلك غير واحد من أئمة المتكلمين حتى أبو عبد الله الرازي كما سنذكر كلامه في ذلك وكذلك لفظ التجسيم هو كلفظ التأليف والتركيب والتبعيض والتجزئة من معناه ما هو متفق على نفيه بين

المسلمين ومنه ما هو متفق على نفيه بين علماء المسلمين من جميع الطوائف إلا ما يحكى عن غلاة المجسمة من أنهم يمثلونه بالأجسام المخلوقة وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة الذين يقولون هو جسم لا كالأجسام فهذا هو مورد النزاع بين أئمة أهل الكلام وغيرهم وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته لإثبات مايستلزمه كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يطلقون الألفاظ المُبْتَدعة المتنازع فيها لا نفيًا ولا إثباتًا إلا بعد الاستفسار والتفصيل فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني وينفي ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني والمقصود هنا أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون وإن كان فيها ما هو داخل في

التوحيد الذي جاء به الرسول فهم مع زعمهم أنهم موحدون ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئًا فقد وحده ومن عبد من دونه شيئًا من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال الذي يزعم هؤلاء المتكلمون أنه يقر أنه لاإله إلا هو ويثبتون بما توهموه من دليل التمانع وغيره لكان مشركًا وهذه حال مشركي العرب الذين بعث الرسول إليهم ابتداء ونزل القرآن ببيان شركهم ودعاهم إلى توحيد الله وإخلاص

الدين له فإنهم كانوا يقرون بأن الله وحده هو الذي خلق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في القرآن كما في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وفي قوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال ابن عباس تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره فهذا الشرك المذكور في القرآن في مواضع كثيرة المضاد للإخلاص والتوحيد كما في حديث جابر وابن

عمر وسعد وغيرهم وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع والتوحيد الذي جاء به الرسول يتناول التوحيد في العلم والقول وهو وصفه بما يوجب أنه في نفسه أحد صمد لا يتبعض ويتفرق فيكون شيئين وهو واحد متصف بصفات تختص به ليس

له فيها شبيه ولاكفؤ والتوحيد في الإرادة والعمل وهو عبادته وحده لا شريك له وقد أنزل الله سورتي الإخلاص قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} [الكافرون 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] الواحدة في توحيد العمل ولهذا كان القول فيها لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} [الكافرون 2] وهي جملة إنشائية فعلية والأخرى في توحيد العلم وهي قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] ولهذا كان القول فيها جملة خبرية اسمية والكلام إما إنشاء وإما إخبار فالإخبار يكون عن العلم والإنشاء يكون عن الإرادة ولهذا قال الله تعالى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {163} [البقرة 163] وقال قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ {108} [الأنبياء 108] وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد [الكهف 110] وقال وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ [النحل 51] وقال أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص 5-6] وفي القرآن من نفي

النصارى في التوحيد خير من الفلاسفة

الألوهية عن غيره من المخلوقات وإثباتها له وحده ما لا يحصى إلا بكُلفة كقوله فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً {9} [المزمل 9] رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً {14} هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً {15} [الكهف 14-15] لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً {22} [الإسراء 22] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد 19] إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} [الصافات 35] ونحو ذلك ممايتضمن وحدانية في الإلهية فلا يجوز أن يكون إله معبود إلا هو والإلهية تتضمن استحقاقه للعبادة والدعاء لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن الأشعري فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين وأخذ يقول إن الفلاسفة يوحدون وأنهم من أعظم الناس توحيدًا ويفضلهم على النصارى في التوحيد فبينت له أن الأمر ليس كذلك بل النصارى في التوحيد خير منهم وأنهم مشركون

لا موحدون فقلت الفلاسفة الذين تذكرهم إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون عليه ويعادون وإما صابئون يسوغون الشرك ويجوزون عبادة ما سوى الله وكتبهم مشحونة بهذا ولهذا كان أحسن أحوالهم أن يكون صابئة أو هم علماء الصابئة وهل كان نمرود وقومه وفرعون وقومه وغير هؤلاء إلا منهم وهل عبدت الكواكب وبنيت لها الهياكل وأصنامها إلا برأي هؤلاء المتفلسفة بل وهل عبد الصالحون وعكف على قبورهم ومثلت صورهم إلا بآرائهم حتى الذين كانوا متظاهرين بالإسلام منهم قد صنفوا في الإشراك بالله وعبادة الكواكب والأصنام وذكروا ما في هذا الشرك من الفوائد وتحصيل المقاصد وبالاضطرار يعلم من عرف دين الرسل محمد وغيره أنهم إنما بعثوا بالنهي عن هذا الإشراك وجميع الرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقد اتفق المسلمون على أن دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين

وغيرهم والعلماء على تنوع أصنافهم من الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأرباب المقالات وإن اختلفوا في الصابئين فلتنوعهم ولهذا كان للفقهاء فيهم طريقان أحدهما أن في كونهم من أهل الكتاب قولين للشافعي وأحمد والطريق الثاني أنهم صنفان فمن تدين منهم بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا هذا هو المختار عندهم

وأما الشرك الذي في النصارى فإنما ابتدعوه تشبهًا بأولئك فكان فيهم قليل من شرك أولئك قال تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ [التوبة 30] كالذين قالوا الملائكة أولاد الله كما يقوله هؤلاء المتفلسفة الصابئون فإنهم كانوا قبل النصارى قلت وأما التوحيد الذي يذكر عن الفلاسفة من نفي الصفات فهو مثل تسمية المعتزلة لما يقولونه توحيدًا وهذا في التحقيق تعطيل مستلزم للتمثيل والإشراك وأما النصارى فهم لا يقولون عن ثم إلهين متباينين بل يقولون قولاً متناقضًا حيث يجعلون الثلاثة واحدًا ويجعلون الواحد هو المتحد

بالمسيح دون غيره مع عدم إمكان تميز واحد عن غيره وهذا الكفر دون كفر الفلاسفة بكثير وتكلمت في ذلك بكلام بعد عهدي به وفساد هذا وتناقضه أعظم حتى لقد قال عبد الله بن المبارك إنا لنحكي قول اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهذا يتبين بما نقوله وهو أن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا اصل لها في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة باطل بلا ريب شرعًا وعقلاً ولغة أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب ولا يرى منه شيء دون شيء إذ القرآن وغيره من الكلام العربي متطابق

على ما هو معلوم بالاضطرار من لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرًا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسمًا إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها وزائدة عليها وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدًا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء وسيأتي بيان هذا ونذكر ما في اللغة من ذكر الواحد مع كونه موصوفًا ذا مقدار بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار كقوله تعالى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [الزمر 6] وقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقال وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وسئل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أَوَ لكلكم ثوبان وقال لا يصلِّ أحدكم

في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وسيأتي بسط هذا إن شاء الله وأما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولايحاط به وإن سماه المسمي جسمًا وأيضًا فإن التوحيد إثبات لشيء هو واحد فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية ولا مجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدًا ولهذا فسر ابن كلاب وغيره الواحد بأنه المنفرد عن غيره المباين له وهذا المعنى داخل في معنى الواحد في الشرع وإن

لم يكن إياه ولذلك أهل الإثبات من أهل السنة والحديث يصنفون كتب التوحيد يضمنونها ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة لأن تلك الصفات في كتابه تقتضي التوحيد ومعناه وأما الشرع فنقول مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم يُعرّف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي

العنيد فيما افترى على الله في التوحيد وذكر أن بعض من كان بنواحيه ممن أظهر معارضة السنة والآثار بكلام بشر المريسي وصنف في ذلك إلى أن قال افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه منشئًا لكلام المريسي مدلسًا على الجهال بما فهم أن يحكى ويرى من قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار أن مذهب جهم والمريسي في التوحيد كبعض

اختلاف الناس في الإيمان في القول والعمل والزيادة والنقصان وكاختلافهم في التشيع والقدر ونحوها كيلا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي وأكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة

والقدرية

قال وقد أخطأ المعارض محجة السبيل وغلط غلطًا كثيرًا في التأويل لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم والمريسي وجهم وأصحابهما لم يشك أحد منهم في إكفارهم سمعت محبوب بن موسى الأنطاكي أنه سمع

وكيعًا يكفر الجهمية وكتب إلى علي بن خشرم أن ابن المبارك يخرج الجهمية من عداد المسلمين

وسمعت يحيى بن يحيى وأبا توبة وعلي بن المديني

يكفرون الجهمية ومن يدعي أن القرآن مخلوق فلا يقيس الكفر ببعض اختلاف هذه الفرق إلا امرؤ جهل العلم ولم يوفق فيه لفهم فادعى المعارض أن الناس قد تكلموا في الإيمان وفي التشيع والقدر ونحوه ولا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير الصواب إذ جميع خلق الله تدرك بالحواس الخمس اللمس والشم والذوق والبصر بالعين والسمع والله بزعم المعارض لايدرك بشيء من هذه الخمس قال قلنا لهذا المعارض الذي لا يدري كيف تناقض أما قولك لا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير

الصواب فقد صدقت وتفسير التوحيد عند الأمة وصوابه قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاء بها مخلصًا دخل الجنة

وأمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله من قالها فقد وحد الله وكذلك روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل بالتوحيد في حجته فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك حدثنا

أبو بكر بن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد

عن أبيه عن جابر فهذا تأويل التوحيد وصوابه عند الأمة فمن أدخل الحواس الخمس أيها المعارض في صواب التأويل من أمة محمد ومن غيرها فأشر إليه غير ما ادعيتم فيه من الكذب على ابن عباس من رواية بشر المريسي ونظرائه

ولمن تأول في التوحيد الصواب لقد تأولت أنت فيه غير الصواب إذ ادعيت أن الله لا يدرك ولن يدرك بشيء من هذه الحواس الخمس إذ هو في دعواك لا شيء والله مكذب من ادعى هذه الدعوى في كتابه إذ يقول عز وجل وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء 164] وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ [البقرة 174] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فأخبر في كتابه أن موسى أدرك منه الكلام بسمعه وهوأحد الحواس عندك وعندنا ويدرك في الآخرة بالنظر إليه بالأعين وهي الحاسة الثانية كما قال الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23]

وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر جهرًا لا تضارون في رؤيته وروى عنه عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فذاك الناطق من قول الله وهذا الصحيح المشهور من

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي حواس بأبْيَن من هذا فلذلك قلنا إن المعارض قد تأول فيه غير الصواب وروى أبو عبد الرحمن السلمي فيما صنفه في ذم الكلام ما ذكره أيضًا من طريق شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي في تصنيفه المشهور في ذلك قال أبو عبد الرحمن سمعت أبا نصر أحمد بن حامد السجزي يقول سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس ابن سُرَيج ما التوحيد قال

توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك وهذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله الواحد وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم لعدمه منافٍ لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد الصمد وأنه العلي العظيم وأنه الكبير المتعال وأنه استوى على العرش وأنه يصعد إليه ويعرج إليه ويوقف عليه وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر وأنه يكلم عباده وأنه السميع البصير وقوله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] إذ هو لا يكون

نقض حجة الرازي على نفي الجسمية

له قَدْر في نفسه وإنما قدره عندهم في القلوب وكذلك لا يكون له في نفسه عظمة وإنما عظمته في النفوس وذلك يظهر بالكلام على حجته وذلك من وجوه أحدها أنه قال الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية يقال له هذا يقتضي أن شيئًا مما يقال له جسم لا يوصف بالوحدة حيث قلت إن الجسم مركب وذلك ينافي الوحدة ومعلوم أن هذا خلاف ما في الكتاب والسنة وخلاف لغة العرب قال الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم وحواء خلقت من ضلع آدم القُصيراء من جسده خلقت لم تخلق من روحه حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم وجسد آدم جسم

من الأجسام وقد سماها الله نفسًا واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد فوصفه بأنه واحد أولى ومع هذا فهو جسم من الأجسام وقال تعالى يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] فوصف المرأة بأنها واحدة وهذا جسم موصوف بالوحدة حيث لم يكن لها نظير في كونه بنتاً لهذا الميت وقال تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة 6] وقال تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف 36] الآيات وقال تعالى قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] والفرد

والوِتر من جنس لفظ الواحد وقد قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] وقال تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً {80} [مريم 80] وقال تعالى فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء إلى قوله قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص 25-26] وقد قال تعالى بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف 19] وقال تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات 12] وقال تعالى وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف 32] وقال وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً [النساء 20] وقال تعالى أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة 266] وقال تعالى وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى في موضعين

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أو لكلكم ثوبان وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء بل في الصحيح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحدكم في ثوب واحد وليس على عاتقه منه شيء وفي الصحيح عن عمر بن أبي سَلمة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به وفي حديث المتلاعنين الذي

في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب وفي الصحيح عن سليمان بن صُرَد قال استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها

لذهب عنه الذي يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وفي حديث إبراهيم اللهم أنت واحد في السماء وأنا واحد في الأرض وفي الصحيحين عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهمايعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة وفي

السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا غضب أحدكما وهو قائم فليجلس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا وفي الصحيحين عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن احدهم إذا أتى أهله قال اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقنا فقُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس وهو في البخاري من حديث أبي برزة أن النبي

صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أوكلما غزونا غزوة خلف أحدهم له نَبِيب كَنَبِيبِ التَّيْسِ وفي الصحيحين عن

أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي

صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى وفي لفظ البخاري إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه وفي لفظ مسلم ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع

أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه فإذا تنخع أحدكم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته وفي صحيح البخاري عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن إذا هَمَّ أحدكم بالأمر

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل وفيهما أنه قال لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه وفي رواية لأن يأخذ أحدكم وفي الصحيحين قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيح أيضًا أنه قال لا يبولن أحدكم في

الماء الدائم ثم يغتسل منه وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه وفي الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أتى أحدكم الغائط

فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها وفي الصحيح أنه قال إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بِصَنِفَةِ إزاره الحديث وفيهما إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه وفيهما

لا يقولن أحدكم اسْقِ ربك وَضِّئ ربك وفيهما أنه قال بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسِّي وفيهما لا يَمْشي أحدكم في نعل واحد وفيهما إذا شرب

الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا وفيهما أنه قال مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع وفيهما أنه قال إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في داره وفي الصحيحين لو اطلع في بيتك احد ولم تأذن له

فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح وفي الصحيحين عن أبي بكر قال قلت يا رسول الله ونحن في

الغار لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا وفي الصحيح أيضًا أن الصحابة قالوا يا رسول الله أينطلق أحدنا إلى منى ومَذَاكِيره تقطر منيًّا وفي الصحيحين أيضًا أنه قال لا يضربن أحدكم امرأته ضرب العبد ثم يجامعها بالليل وفي الصحيحين أنه قال لايزال أحدكم في صلاته مادامت الصلاة تحبسه وفيهما أيضًا أنه قال إن الملائكة تصلي على أحدكم

ما دام في مصلاه ما لم يحدث وفي الصحيحين عنه أنه قال لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده وفيهما أنه قال لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه خير له من أن يمتلئ شعرًا وفيهما أنه قال السفر قطعة من العذاب

يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه وفي الصحيحين أنه قال يكون كنز أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حَمْحَمةٌ لا أُلفينَّ أَحَدَكُم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة

لها ثُغاءٌ لاأُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح لا أُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقَاع تخفق لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت وفيهما أنه قال أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه

قبل الإمام وفيهما أنه قال لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وفيهما أنه قال لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب وفيهما أنه قال إذا صلى

أحدكم للناس فليخفف وفيهما أنه قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة وفيهما أنه قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة بعشر أمثالها الحديث وفيهما أنه قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد وفيهما أنه قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل

عليه في المال والخلق فلينظر إلى من أسفل منه وفيهما في حديث داود فذهب الذئب بابن أحدهما وفيهما أنه قال نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده وفيهما إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وفي لفظ إذا

أصبح أحدكم صائمًا وفيه فإن شاتمه أو قاتله أحد فليقل إني صائم وفيهما عن أبي هريرة اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد وفيهما عنه أنه قال إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه وفي مسلم إذا ثُوب

بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس

الاستدلال بالقرآن يكون بلغة العرب لا بالمصطلحات الحادثة

الوجه الثاني أن الاستدلال بالقرآن إنما يكون بحمله على لغة العرب التي أنزل بها بل قد نزل بلغة قريش كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} [الشعراء 195] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص بل لا يحمله إلا على تلك اللغة فإذا كان أهل الكلام من قد اصطلح في لفظ الواحد والأحد والجسم وغير ذلك من الألفاظ على معانٍ عنوها بها إما من المعنى اللغوي أو أعم أو مغايرًا له لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو بل يضع القرآن على مواضعه التي بينهاالله لمن خاطبه القرآن بلغته ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفًا للكلم عن مواضعه ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها كما أن من المتكلمين من يقول الأحد هو الذي لا ينقسم وكل جسم منقسم ويقول الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة حتى يدخل في ذلك الهواء

وغيره لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته وهي لغة العرب عمومًا ولغة قريش خصوصًا ومن المعلوم المتواتر في اللغة الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون درهم واحد ودينار واحد ورجل واحد وامرأة واحدة وشجرة واحدة وقرية واحدة وثوب واحد وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد فيقولون رجل واحد ورجلان اثنان وثلاثة رجال وأربعة رجال وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها فكيف يجوز أن يقال إن الوحدة لايوصف بها شيء من الأجسام وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام وتحريف هؤلاء للفظ الواحد كتحريفهم للفظ المثل كما نذكره إن شاء الله الوجه الثالث أن أهل اللغة قالوا اسم الأحد لم يجئ اسمًا في الإثبات إلا لله لكنه مستعمل في النفي والشرط والاستفهام كقوله تعالى في نفس السورة التي ذكرها

وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] وكقوله تعالى فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً {110} [الكهف 110] وقال وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً {21} قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً {22} [الجن 19-22] وقال تعالى قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً {37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً {38} [الكهف 37-38] وقال وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} [الليل 19] وقال تعالى وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} [الحجر 65] وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ [هود 81] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحد أغير من الله وفي السنن من غير وجه أنه قال لا أُلِفْيَنَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه المر من أمري مما أمرت به

أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم كتاب الله وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كتبت له مائةُ حسنة وحُطَّ عنه مائة سيئةٍ وكانت له حِرزًا من الشيطان يَومهُ حتى يمسي ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه وفي الصحيحين أن

النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطب الناس فقال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمسلمين وإنها لم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي ولاتحل لأحد بعدي وإنما أحلّت لي ساعة من نهار وفي رواية فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إنما أَحلّها الله لرسوله ولم يُحِلَّها لك وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال أُحِلَّت لنا الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلنا وقال

النابغة وقفتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلها عَيَّتْ جَوابًا وما بالرَّبْع من أَحَدِ

إلا الأَوارِيَّ لَأْياً ما أُبَيِّنُها والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلُومَةِ الجلدِ

فلو كان لفظ الأحد لايقع على جسم أصلاً لكان التقدير ولم يكن ما ليس بجسم كفوًا له وهذا عنده ليس إلا الجوهر الفرد عند من يقول به فيكون المعنى لم يكن الجوهر الفرد كفوًا له وأما سائر الموجودات فلم ينف مكافأتها له ولا أشرك بربي ما ليس بجسم ولن يجيرني من الله ما ليس بجسم ومعلوم أن عامة ما يعلم من المخلوقات القائمة بأنفسها هي أجسام كأجسام بني آدم وغيرهم والأرواح تدخل في مسمى ذلك عند عامة المسلمين وإن لم تدخل عند بعضهم ومن المعلوم أن الله لم ينه عن أن يشرك به ما ليس بجسم فقط بل نهيه عن أن يشرك به الأجسام أيضًا لاسيما وعامة ما أشرك به من الأوثان والشمس والقمر والنجوم إنماهي أجسام وفي السنن حديث أبي بكر الصديق لما استأذنه أبو برزة في قتل بعض الناس فقال إنها لم تكن لأحد بعد

رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لن يدخل

أحدًا منكم عمله الجنة وفي لفظ لن ينجو أحد منكم بعمله وفيهما أنه قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يَتْبَعني رجل مَلَكَ بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سُقُوفها ولا أحد اشترى غنمًا أو خَلِفِاتٍ وهو ينتظر أولادها وفيهما أنه قال ما منكم

اختلاف المتكلمين في الجسم يبطل الاستدلال بهذه الحجة

من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان وفي الصحيح أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا وفي الصحيح أنه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة الوجه الرابع أن قوله لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا

من جوهرين هذا إنما يتم على رأي المُثْبِتين للجوهر الفرد وإلا فنفاته عندهم الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من الجواهر المنفردة وهذا المصنف قد صرح في أشرف كتبه عنده أن هذه المسألة متعارضة من الجانبين وهو لماأقام أدلته على إثبات الجوهر الفرد في هذا الكتاب في مسألة المعاد وزعم أنها قاطعة ثم ذكر المعارضات قال في الجواب أما المعارضات التي ذكروها فاعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في

كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضًا نختار التوقف فإذًا لا حاجة بنا إلى الجواب عما ذكروه فإذا كان أذكى المتأخرين من الأشعرية النافية للصفات الخبرية وإمامهم وهو أبو المعالي وأذكى متأخري المعتزلة

وهو أبو الحسين وابن الخطيب إمام مُتَّبعيه توقفوا في كون الجسم هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تنقسم أم ليس مركبًا منها كانت هذه المقدمة التي استدل بها مما لايعلم صحتها أفاضل الطوائف المتبوعين الموافقين له فقوله بتسليمهم ذلك حجة فاسدة وأقل ما في ذلك أن هذه المقدمة ممنوعة فلا يُسلم له منازعوه أن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين والنزاع في ذلك بين أهل الكلام بعضهم مع بعض وبين المتفلسفة أيضًا مشهور وهولم يذكر حجة على كونه مركبًا فلا يكون قد ذكر دليلاً أصلاً فإن قيل نفاة الجوهر الفرد يقولون إنه يقبل التقسيم والتجزيء إلى غير غاية فما من جزء إلا وهو يحتمل التقسيم فيكون عدم الوحدة في الجسم أبلغ على قولهم قيل هؤلاء إن قالوا إن لفظ الواحد لا يقال إلا على ما لا يقبل القسمة وعندهم كل شيء قابل للقسمة فهذا اللفظ عندهم ليس له مسمى معلوم متفق عليه أصلاً إذ مورد النزاع فيه من الخفاء والنزاع ما لا يصلح أن يكون اللفظ مختصًّا به إذ

اللفظ المشهور بين العامة والخاصة لا يكون مسماه ما قد تنازع الناس في إثباته ولا يعلم إلا بدقيق النظر إن سلم ثبوته وأيضًا فهؤلاء يصرحون بأن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من جوهرين ولا من جواهر وإذا كانوا يصفونه بالوحدة ويمنعون أن يكون مركبًا لا من جوهرين امتنع أن تصح هذه الحجة على أصلهم فهذه الوجوه الأربعة تبين بطلان ما ذكره من دلالة اسم الأحد على نفي كونه جسمًا الوجه الخامس أن الجسم إما أن يكون مركبًا من الجواهر المنفردة وأقل ما يتركب منه جوهران أو لا يكون فإن كان الأول صحيحًا أبطلت الحجة الثانية التي ذكرها على نفي كونه جوهرًا فإنها مبنية على أن الجسم ليس أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وإن كان باطلاً فَسَدت هذه الحجة التي نفى بها كونه جسمًا فثبت بطلان إحدى الحجتين وبقيت الحجة الثالثة التي ذكرها لنفي الجوهر الفرد وسنتكلم عليها إن شاء الله وذلك أن الجسم إن كان أقله مركبًا من جوهرين فالجوهر

ليس بمنقسم بل هو فرد فلا تصح تلك الحجة وإن لم يكن أقله مركبًا من جوهرين بَطَلت هذه الحجة فبطلت إحدى الحجتين إما التي نفى بها التجسيم أو التي نفى بها الجوهر ويلزم من بطلان إحداهما بطلان الأخرى الوجه السادس أن يقال ما ذكرته في منع الجوهر الفرد وأن كل متحيز فهو منقسم قد اعترفت بأن هذه الحجة مكافئة لنظيرها ولم تعلم الحق في ذلك ثم يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد هذا لا يصح على قول هؤلاء فإنهم يقولون الجسم واحد في نفسه كماأنه واحد في الحس وهو واحد متصل ليس مركبًا من الجواهر المنفردة فيصفونه بالوحدة وإن قالوا إنه قابل للانقسام فقبوله للانقسام عندهم لا يمنع وصفه بالوحدة عندهم وتسميتهم إياه واحدًا بل يصفون بالوحدة ما هو أبلغ من ذلك فيقولون أحد بالجنس وواحد بالنوع وواحد بالشخص

الوجه السابع أن يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد لم تذكر على هذا دليلاً أصلاً لا بينة ولا شبهة وهو لم يذكر قبل هذا إلا أن الجسم مركب من جوهرين وقال وذلك ينافي الوحدة وتلك أيضًا دعوى لم تُقِمْ عليها دليلاً ولو ثبت ذلك في ما هو مركب بالفعل لم يثبت فيما هو قابل للقسمة فإن هذا ليس فيه من التعدد ما في ذلك المركب فكيف إذا لم تذكر حجة على شيء من ذلك فأين هذا الثبوت الذي أحال عليه والشيء لا يقال فيه ثبت إلا إذا كان معلومًا بالبديهة أو قد أقيمت عليه حجة الوجه الثامن أن طوائف كثيرة من أبناء جنسك من المتكلمين من الأولين والآخرين يقولون إنه لا موجود إلا جسم أو ما قام به أو لا موجود إلا الجسم فقط وأنه

لا يعقل موجود إلا كذلك فهؤلاء عندهم إذا فسرت الحد بما ليس بجسم ولا جوهر يقولون لك فسرته بالمعدوم مثل أن تفسره بما ليس بخالق ولا مخلوق أو تفسره بما ليس بقديم ولا محدث فتحتاج أولاً أن تثبت وجود موجود غير الجسم ليمكنك تفسير لفظ الأحد به وإذا كان حجتك موقوفة على هذه المقدمة فلو ثبتت هذه المقدمة استغنيت عن هذه الأدلة التي ذكرت أنها سمعية لا تتم الوجه التاسع أن يكون لفظ الحد لا يقال على الجسم والجوهر ليس نصًّا في اللغة ولا ظاهرًا بل إن كان صحيحًا فإنما يُعلم بهذه المقدمات الخفية التي فيها نزاع عظيم بين أهل الأرض ومعلوم أن إفهام المخاطَبِين بمثل هذه الطريق لا يجوز وليس هذا من البلاغ المبين الذي وصف الله به الرسول وقد وصف كتابه بأنه بيان للناس وليس هذا من البيان في شيء لاسيما والقوم كانوا يستعملون لفظ الواحد والأحد في كلامهم وهم لا يعلمون إلا الجسم أو ما قام به لا يطلقون هذا اللفظ إلا على ذلك فإذا قصد بهذا الفظ أن يبين لهم أن معناه ما لا يكون جسمًا كانوا قد خوطبوا بنقيض معنى لغتهم ولو فرض أن لغتهم لا تنفي هذا فهي لا تدل عليه

بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام الظاهر بل بلزوم خفي لا يصلح مثله لدلالة اللفظ فإنه يحتاج أن يقال لهم لفظ الأحد والواحد ينفي العدد فهذا ظاهر ثم يقال لهم وكل ما ترونه وتعلمونه من الموجودات فليس هو واحدًا لأنه يمينه ليست بيساره وأعلاه ليس هوأسفله وكل ما تميز منه شيء عن شيء فليس هو بواحد ولا أحد ومعلوم أن هذا لا يخطر ببال عامة الخلق بل لا يتصورونه إلا بعد كُلْفَة وشدة وإذا تصوروه أنكرته فطرتهم وأنكروا أن يكون هذا هو لسانهم الذي خوطبوا به واستلزم ذلك أن يقال الشمس ليست واحدة والقمر ليس واحدًا وكل كوكب من هذه الكواكب ليس واحدًا وكل سماء من السموات ليست واحدة وكل إنسان ليس بواحد وكل عين ويد ورجل وحاجب وأنف وسن وشفة ورأس وشجرة وورقة وثمرة وغير ذلك ليس بواحد إذ هذا جميعه يميز جانب منه عن جانب وأعلاه عن أسفله الوجه العاشر أن هذه الحجة يحتج بها نفاة الصفات بأسرها الذين يقولون ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة فإن تعدد

الصفات يمنع أن يكون الموصوف بها أحدًا وينافي الوحدة لأن هناك عددًا من الصفات والوحدة تنافي العدد ولهذا احتج الجهمية المحضة بهذه الحجة كما ذكره الإمام أحمد وغيره وهذا المستدل هو ممن يثبت الصفات في الجملة ويقول بإثبات الصفات السبع من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة فإن كانت هذه الحجة صحيحة لزم إبطال مذهبه ذاك وإن كانت باطلة لزم بطلان هذا الاستدلال وما كان جوابه عن استدلال نفاة الصفات مطلقًا بها كان جوابًا لمنازعيه في إثبات العلو وما يتبعه بل ذلك يبطل استدلاله بذلك على المجسمة المحضة

الوجه الحادي عشر أن يقال أعظم الناس نفيًا للصفات غلاة الفلاسفة والقرامطة وأئمتهم من المشركين الصابئين وغيرهم وهم لابد إذا أثبتوا الصانع أن يثبتوا وجوده ويثبتوا أنه واجب الوجود غير ممكن الوجود وأنه ابتدع العالم سواء قالوا إنه علة أو والدٌ أو غير ذلك فمسمى الوجود إن كان هو مسمى الوجوب لزم أن يكون كل موجود واجبًا بنفسه وهو خلاف المشهود بالإحساس وإن كان هذا المسمى ليس هذا المسمى ففيه معنيان وجود ووجوب وليس الوجوب مجرد عدم إذ هو توكيد الوجود والعدم المحض لا يؤكد الوجود فإن كان لفظ الأحد والواحد يمنع تعدد المعاني المفهومة الثبوتية بالكلية كما يزعم ابن سينا وذووه من مرتدة العرب المُتَّبِعِينَ لمرتدة الصابئة أنه إذا كان واحدًا من كل وجه فليس فيه تعدد من جهة الصفة ولا من جهة القَدْرِ ويعبر عن ذلك بأنه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم لزم أن يكون الوجوب والوجود والإبداع معنى واحدًا وهو معلوم الفساد بالبديهة وإن كان هو في نفسه

إن الدلالة على نفي كونه تعالى جوهرا فردا متفقا عليه بين الناس

متسمًا بالأحد والواحد مع ثبوت هذه المعاني المتعددة علم أن هذا الاسم لا يُوجِب نفي الصفات بل هو سبحانه أحد واحد لا شبيه له ولا شريك وليس كمثله شيء بوجه من الوجوه وكذلك هوأيضًا ذات وهو قائم بنفسه باتفاق الخلائق كلهم وسائر الذوات وكل ما هو قائم بنفسه يشاركه في هذا الاسم ومعناه كما يشاركه في اسم الوجود ومعناه وهو سبحانه يتميز عن سائر الذوات وسائر ما هو قائم بنفسه بما هو مختص به من حقيقته التي تميز بها وانفرد واختص عن غيره كما تميز بوجوب وجوده وخصوص تلك الحقيقة ليس هو المعنى العام المفهوم من القيام بالنفس ومن الذوات كما أن خصوص وجوب الوجود ليس هو المعنى العام المفهوم من الوجود فسواء سمى المُسمي هذا تعدادًا أو تركيبًا أو لم يسمه هو ثابت في نفس الأمر لا يمكن دفعه والحقائق الثابتة لا تُدفع بالعبارات المجملة المبهمة وإن شنع بها الجاهلون الوجه الثاني عشر قوله إن مُثْبِتَةَ الجوهر الفرد يمكنهم الاحتجاج بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا فردًا من وجه

آخر وهو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به نفي الضد والند ولو كان تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثالاً له وذلك ينفي كونه أحدًا وأكدوا هذا الوجه بقوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له يقال هذه الدلالة المشتركة بين جميع الناس نفاة الجوهر وغيرهم فكل أحد يمكنه من ذلك ما أمكن هؤلاء وأيضًا فالمطلوب بهذا الدليل وهو نفي كونه جوهرًا فردًا أمر متفق عليه بين الخلائق كلهم بل هو معلوم بالضرورة العقلية أن رب السموات والأرض ليس في القدر بقدر الجوهر الفرد فإنه عند مُثْبِتيه أمر لا يُحسه أحد من حقارته فهو أصغر من

الذرة والهباءة وغير ذلك فكيف يَخْطُر ببال أحد أن رب العالمين بهذا القدر حتى يحتاج هذا إلى دليل على نفيه ولا ريب أن كونه واحدًا يمنع أن يكون له شبيه وكذلك قوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] يمنع الكفؤ فيمتنع أن يكون من الجواهر المتماثلة لكن هذه الدلالة إنما تتم إذا كانت الجواهر المنفردة متماثلة في حقائقها الوجه الثالث عشر قوله وإذا ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات

يقال له هذا مما يُنَازِعُك فيه كثير من أصحابك وغيرهم من متكلمي الصفاتية ويقولون قد يكون في الجهة ما ليس بجسم وهذا هو الذي سلمته لهم في أشرف كتبك وهو نهاية العقول قال المسألة الثالثة في أنه تعالى ليس في الجهة وقبل الخوض في الاستدلال لابد من البحث عما لا يكون جسمًا هل يعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة ونفي الجسمية أنا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل

الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات متى ثبت ذلك ثبت أنه لايلزم من نفي كون الشيء جسمًا نفي اختصاصه بالحيز والجهة قال وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي

الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الحيز والجهة ثم احتج على ذلك بما تكلمنا عليه في موضعه لما ذكرناه فهذا الكلام وإن كان لمن قال بالأول أن يقول يلزم من نفي كون الشيء جسمًا أو قائمًا بجسم نفي اختصاصه بالحيز والجهة لكن المقصود هنا أن كثيرًا من الصفاتية أهل الكلام كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وغيرهم من أئمة الصفاتية المتكلمين من يقول ليس بجسم ولا جوهر ويقول مع ذلك إنه فوق العرش كما قرروه في كتبهم لكن منهؤلاء من يطلق لفظ الجهة ومنهم من لا يطلق لفظ الجهة ولفظ الحيز وهذا قول طوائف من الفقهاء أهل المذاهب الأربعة ومن الصوفية وأهل الحديث وغيرهم

فصل في الرد على دعوى الرازي في أن إثبات بعض الصفات الخبرية يوجب حاجة الرب إليها

يجمعون بين نفي الجسم وبين كونه نفسه فوق العرش فصل قال الرازي لو كان مركبًا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين وفي الفعل إلى اليد وفي المشي إلى الرجل وذلك ينافي كونه صمدًا مطلقًا قلت هذه الحجة كان يمكن أن يذكرها في اسم الله كما ذكرها في الاسم الصمد إذ مضمونها الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على الغنى على عدم هذه الصفات لكن لما كانت من جنس الحجة التي قبلها لم يذكرها إلا في الاسم الصمد لظهور دلالته على الغنى وقد قدمنا أن لفظ الجوارح

نقض دعوى الرازي من وجوه

والأعضاء مما لا يقولها الصفاتية فمضمون حجته أنه لو كان الله خلق آدم بيديه وكتب التوراة بيديه وخلق عَدْناً بيديه لكان الله محتاجًا في الفعل إلى يد وذلك ينافي كونه صمدًا وهذا قد ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة المتفق على صحتها المتلقاة بالقبول والكلام على هذا من وجوه أحدها أن ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه قال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا عبد الله بن صالح

حدثني ليث حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم

عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لقد قالت الملائكة يا ربنا منا الملائكة المقربون ومنا حملة العرش ومنا الكرام الكاتبون ونحن نسبح الله الليل والنهار ولا نسأم ولا نفتر خلقت بني آدم فجعلت لهم الدنيا

وجعلتهم يأكلون ويشربون ويستريحون فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة فقال لن أفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة فقال لن لأفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة بمثل ذلك فقال لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان

وقد روى نحو هذا عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أظنه مرسلاً

وقال الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن

مهران وهو المكتب حدثنا مجاهد قال عبد الله بن عمر خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدْن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان

وقال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن

عطاء بن السائب عن ميسرة قال إن الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده

وقال حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن

زُرَيع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس

عن كعب قال لم يخلق الله بيده غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ثم قال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة أن موسى يقال له أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ وكتب لك التوراة بيده وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده وأما الفعل باليد غير الخلق فقد ثبت بالكتاب والسنة قبضته الأرض والسموات وقد تواترت بذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما كقوله يَطْوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يَطْوي الأرض بيده الأخرى وفي رواية مسلم بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون

أين المتكبرون وقوله تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يَتَكَفَّؤُهَا الجبَّارُ بيده كما يَتَكَفَّأُ أحدكم خُبْزَتَهُ في السفر نُزُلاً لأهل الجنَّةِ وهذا كما أنه سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ وفي غيره ما كتبه من مقادير الخلائق وقال تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ

يَسِيرٌ {70} [الحج 70] وقال تعالى مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد 22-23] ثم لم تدل كتابته لذلك على أنه محتاج إلى الكِتَاب والكُتَّاب خوف النسيان والغلط مع أن الكتاب أمر منفصل عنه فَخَلْقُه ما يَخْلُقُه بيديه أولى أن لا يدل على حاجته إلى ذلك الوجه الثاني أن يقال إنه سبحانه الغني الصمد القادر وقد خلق ماخلقه من أمر السموات والأرض والدنيا والآخرة بالأسباب التي خلقها وجعل بعض المخلوقات سببًا لبعض كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف 57] وقال تعالى وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ [البقرة 164] وقال تعالى وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} [ق 9] وقال تعالى يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل 11] وقال تعالى فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل 60]

فإذا كان خلقه بعض المخلوقات ببعض لا يوجب حاجته إلى مخلوقاته ولا ينافي كونه صمدًا غنيًّا عن غيره فكيف يكون خلقه لآدم بيده وقبضه الأرض والسموات بيده موجبًا لحاجته إلى غيره ومن المعلوم أن فعل الفاعل بيده أبعد عن الحاجة إلى الغير من فعله بمصنوعاته الوجه الثالث أن هذه الحجة من جنس حجة الجهمية المحضة على نفي الصفات فإن قولهم لو كان له علم وقدرة وحياة وكلام لكان محتاجًا في أن يعلم ويقدر ويتكلم إلى علم وقدرة وكلام بمنزلة قول هذا القائل لو كان له يد لكان محتاجًا في الفعل على اليد وذلك ينافي كونه صمدًا فما كان جوابه لأولئك كان جوابًا له عن هؤلاء لا سيما أن هذا أوكد لأنه قد تقدم أنه قادر على الخلق والفعل بيده وبغير يده ولا يجوز أن يقال إنه عالم بلا علم وقادر بلا قدرة فإن كان ثبوت الصفات موجبًا حاجته إليها فالحاجة في هذه أقوى وإن لم تكن موجبة حاجته إليها بطلت الحجة الوجه الرابع أن الغني الصمد هو غني عن مخلوقاته ومصنوعاته لايصح أن يقال هو غني عن نفسه وذاته كما تقدم وصفاته تعالى ليست خارجة عن ذاته فوجود الصفات والفعل بها كوجود الذات والفعل بها وقد تقدم الكلام على ما في

هذا من الألفاظ المجملة مثل الافتقار والجزء وغير ذلك وبينا أن ذلك مثل قول القائل واجب الوجود بنفسه وبنفسه فعل ونحو ذلك من العبارات الوجه الخامس أن المخلوق إذا صح تسميته بأنه غني وأنه صمد مع ما له من الصفات ولا ينافي ذلك إطلاق هذا الاسم كيف يصح أن يقال إن تسمية الخالق بهذه الأسماء ينافي هذه الصفات

فصل في القولين المشهورين للناس في أن الله فوق العرش والعالم وبيان أصحهما

فصل قال الشيخ رحمه الله للناس في أن الله فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والصوفية والفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهما أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوقات والخالق وبين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حلول الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني وهو المشهور عن السلف وأئمة الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه

فصل في الرد على دعوى الرازي في أنه لو كان في العرش لكان حامل العرش حاملا لمن في العرش

وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئه وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما يحيل ذلك فصل للناس في حملة العرش قولان أحدهما أن حملة العرش يحملون العرش ولا يحملون من فوقه والثاني أنهم يحملون العرش ومن فوقه كما تقدم حكاية القولين فيذكر ما يقوله الفريقان في جواب هذه الحجة

فإنهم ينازعونه في المقدمتين جميعًا فيقال من جهة الأولين لانسلم أن من حمل العرش يجب أن يحمل من فوقه فالمقدمة الأولى ممنوعة وذلك أن من حمل السقف لايجب أن يحمل ما فوقه إلا أن يكون ما فوقه معتمدًا عليه وإلا فالهواء والطير وغير ذلك مما هو فوق السقف ليس محمولاً لما يحمل السقف وكذلك السموات فوق الأرض وليست الأرض حاملة السموات وكل سماء فوقها سماء وليست السفلى حاملة للعليا فإذا لم يجب في المخلوقات أن يكون الشيء حاملاً لما فوقه بل قد يكون وقد لا يكون لم يلزم أن يكون العرش حاملاً للرب تعالى إلا بحجة تبين ذلك وإذا لم يكن العرش حاملاً لم يكن حملة العرش حاملة لما فوقه بطريق الأولى الوجه الثاني أن الطائفة الأخرى تمنع المقدمة الثانية فيقولون لا نسلم أن العرش وحملته إذا كانوا حاملين لله لزم أن يكون الله محتاجًا إليهم فإن الله هو الذي يخلقهم ويخلق قواهم وأفعالهم فلا يحملونه إلا بقدرته ومعونته كما لا يفعلون شيئًا

من الأفعال إلا بذلك فلا يحمل في الحقيقة نفسه إلا نفسه كما أنه سبحانه إذا دعاه عباده فأجابهم وهو سبحانه الذي خلقهم وخلق دعاءهم وأفعالهم فهو المجيب لما خلقه وأعان عليه من الأفعال وكذلك إذا فرح بتوبة التائب من عباده أو غضب من معاصيهم وغير ذلك مما فيه إثبات نوع تحول عن أفعال عباده فإن هذا يقوله كثير من أهل الكلام مع موافقة جمهور أهل الحديث وغيرهم فيه مقامان مشكلان أحدهما مسألة حلول الحوادث والثانية تأثير المخلوق فيه وجواب المسألة الأولى مذكور في غير هذا الموضع وجواب السؤال الثاني أنه لا خالق ولا بارئ ولا مصور ولا مدبر لأمر الأرض والسماء إلا هو فلا حول ولا قوة إلا به وكل ما في عباده من حول وقوة فبه هو سبحانه فيعود المر إلى أنه هو المتصرف بنفسه سبحانه وتعالى الغني عما سواه وهؤلاء يقولون هذا الذي ذكرناه أكمل في صفة الغني

عما سواه والقدرة على كل شيء مما يقوله النفاة فإن أولئك يقولون لا يقدر أن يتصرف بنفسه ولايقدر أن ينزل ولايصعد ولاياتي ولا يجيء ولايقدر أن يخلق في عباده قوة يحملون بها عرشه الذي هو عليه ويكونون إنما حملوه وهو فوق عرشه بقوته وقدرته من كونه لايقدر على مثل ذلك ولا يمكنه أن يقيم نفسه إلا بنفسه كما أنه سبحانه إذا خلق الأسباب وخلق بها أمورًا أخرى ودبر أمر السموات والأرض كان ذلك أكمل وأبلغ في الاقتدار من أن يخلق الشيء وحده بغير خلق قوة أخرى في غيره يخلقه بها فإن من يقدر على خلق القوى في المخلوقات أبلغ ممن لا يقدر على ذلك ولهذا كان خلقه للحيوان ولما فيه من القوى والإدراك والحركات من أعظم الآيات الدالة على قدرته وقوته قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} [الذاريات 58] قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي وصاحبه وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن

كان الله أصغر فقد صيرتم العرش أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر مع خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يُضل بها لو كان من يعمل لله لقطع قشرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة

ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض وكيف تنكر أيها النفاخ أن عرشه يُقِلُّه والعرش أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة فكيف تنكر هذا وأنت تزعم أن الله في الأرض في جميع أمكنتها والأرض دون العرش في العظمة والسعة فكيف تقله الأرض في دعواك ولايقله العرش الذي هو أعظم منها

وأوسع وأدخل هذا القياس الذي أدخلت علينا في عظم العرش وصغره وكبره على نفسك وعلى أصحابك في الأرض وصغرها حتى تستدل على جهلك وتفطن لما تورد عليك حصائد لسانك فإنك لا تحتج بشيء إلا هو راجع عليك وآخذ بحلقك وقد حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح أنه قال أول ما خلق الله حين كان عرشه على الماء حملة العرش فقالوا ربنا لما خلقتنا فقال خلقتكم لحمل عرشي قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك فقال لهم إني خلقتكم لذلك

قال قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك قال فقال خلقتكم لحمل عرشي قال فيقولون ذلك مرارًا قال فقال لهم قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فيحملكم والعرش قوة الله

قال أفلا تدري أيها المعارض أن حملة العرش لم يحملوا العرش ومن عليه بقوتهم وبشدة أسرهم إلا بقوة الله وتأييده وقال في كتابه حدثني محمد بن بشار بندار حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي

قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن

عتبة عن جُبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه

عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالراكب

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في كتاب الرد على

الجهمية عن عدة مشايخ منهم ابن بشار قال فيه عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جُهِدَتِ الأنفس وضاعت العيال ونُهِكَتِ الأموالُ وهلكت الأنعام فاسْتَسْقِ الله لنا فإنانستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لايستشفع به على احد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكبِ قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه

وعرشه فوق سمواته وساق الحديث وقوله في الحديث بأن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه أي الله هو الذي يفعل لا يشفع إلى غيره في أن يفعل وهذا كما يقوله بعض الشعراء مخاطبًا للنبي صلى الله عليه وسلم شفيعي إليك الله لا شيء غيره وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارًا للجهمية وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعًا لما فيه من ذكر الأطيط كما فعل أبو القاسم المؤرخ ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق

عن يعقوب بن عتبة عن جبير ثم يقول بعضهم ولم يقل ابن إسحاق حدثني فيحتمل أن يكون منقطعًا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع أن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولاً بين أهل العلم خالفًا عن سالف ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية مُتَلَقين لذلك بالقبول حتى قد رواه الإمام أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه في التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بأحاديث الثقات

المتصلة الإسناد رواه عن بندار كما رواه الدارمي وأبو داود سواء وكذلك رواه عن أبي موسى محمد بن المثنى بهذا الإسناد مثله سواء فقال حدثنا محمد بن بشار ثنا وهب يعني ابن جرير ثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وعن جبير بن محمد

ابن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال يا رسول الله جُهِدت الأنفس وجاعت العيال ونُهِكَت الموال وهَلَكَت الأنعام فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من جميع خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله على عرشه وعرشه على سمواته وسمواته على أرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه لَيَئِطّ به أَطِيطَ الرَّحْل بالرَّاكب قال ابن خزيمة قرئ على أبو موسى وأنا أسمع أن وهبًا حدثهم بهذا الإسناد مثله سواء وممن احتج به الحافظ أبومحمد بن حزم في مسألة

استدارة الأفلاك مع أن أبا محمد هذا من أعلم الناس لا يقلد غيره ولا يحتج إلا بما تثبت عنده صحته وليس هذا الموضع وهؤلاء يحتجون في معارضة ذلك من الحديث بما هو عند أهله من الرأي السخيف الفاسد الذي يحتج به قياسو الجهمية كاحتجاج أبي القاسم المؤرخ في حديث أملاه في التنزيه بحديث أسنده عن عوسجة وهذا

الحديث مما يعلم صبيان أهل الحديث أنه كَذِب مختلق وأنه مفترى وأنه لم يروه قط عالم من علماء المسلمين المقتدى بهم في الحديث ولا دونوه في شيء من دواوين الإسلام ولا يستجيز أهل العلم والعدل منهم أن يورد مثل ذلك إلا على بيان أنه كذب كماثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين فمن رد تلك الأحاديث المتلقاة بالقبول واحتج في نقضها بمثل هذه الموضوعات فإنما سلك سبيل من لا عقل له ولا دين وكان في ذلك ممن يتبع الظن وما تهوى النفس وهو من المقلدين لقوم لا علم لهم بحقيقة حالهم كما قال

تعالى وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} [الشورى 14] وروى أيضًا عثمان بن سعيد قال ثنا عبد الله بن رجاء ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن

خليفة قال أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله أن يدخلني الجنة فَعَظَّم الرب وقال إن كرسيه وسع السموات والأرض وإنه ليقْعُدُ عليه فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع ومد أصابعه الأربعة وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد إذا ركبه من يثقله

وقال أيضًا موسى بن إسماعيل ثنا حماد وهو

ابن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود قال إن ربكم ليس عنده

ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالمس أول النهار فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات

العرش والملائكة

وأصحاب هذا القول فيستشهدون بما روي عن طائفة في تفسير قوله تعالى تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ [الشورى 5] قال عثمان بن سعيد في رده على الجهمية ثنا عبد الله ابن صالح المصري حدثني الليث وهو ابن سعد حدثني

خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن زيد بن أسلم حدثه عن عطاء بن يسار قال أتى رجل كعبًا وهو في نفر فقال يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار فأعظم القوم قوله فقال كعب دعوا الرجل فإن كان جاهلاً تعلم وإن كان عالمًا ازداد علمًا ثم قال كعب أخبرك أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ثم جعل ما بين كل سماءين كما بين

السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك وجعل بين كل أرضين كما بين السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك ثم رفع العرش فاستوى عليه فما في السموات سماء إلا لها أطيط كأطيط الرّحل العُلا في أول ما يرتحل من ثُقل الجبار فوقهن وهذا الأثر وإن كان في رواية كعب فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا دافعها لا يصدقها ولا يكذبها فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدثوا به هم وغيرهم ولم ينكروا ما فيه من قوله من ثقل الجبار فوقهن فلو كان هذا القول منكرًا في دين الإسلام عندهم لم يحدثوا به على هذا الوجه

وقد ذكر ذلك القاضي أبو يعلى الأزجي فيما خرجه من أحاديث الصفات وقد ذكره عن طريق السنة عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا أبو المغيرة حدثتنا عبدة بنت خالد بن معدان عن أبيها خالد بن معدان أنه

كان يقول إن الرحمن سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش قال القاضي وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في

تاريخه بإسناده حدثنا عن ابن مسعود وذكر فيه فإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيه ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين

يحملون العرش وذكر الخبر اعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره وأن ثُقْلَه يحصل بذات الرحمن إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته قال على طريقته في مثل ذلك لأنا لا نثبت ثقلاً من جهة المماسة والاعتماد والوزن لأن ذلك من صفات الأجسام ويتعالى عن ذلك وإنما نثبت ذلك صفة لذاته لا على وجه المماسة كما قال الجميع إنه عال على الأشياء لا على وجه التغطية لها وإن كان في حكم الشاهد بأن العالي على الشيء يوجب تغطيته قال وقيل إنه تتجدد له صفة يثقل بها على العرش ويزول في حال كما تتجدد له صفة الإدراك عند خلق المدركات وتزول عند عدم المدركات فإن قيل ذلك محمول على ثقل عظمته وهيبته في قلوبهم وما يتجدد لهم في بعض الأحوال من

ذكر عظمته وعزته كما يقال الحق ثقيل مر وليس المراد به ثقل الأجسام وقال سبحانه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] قال القاضي قيل هذا غلط لأن الهيبة والتعظيم مصاحب لهم في جميع أحوالهم ولا يجوز مفارقتها لهم ولهذا قال سبحانه يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ {20} [الأنبياء 20] وما ذكره من قول القائل الحق ثقيل وكلام فلان ثقيل فإنما لم يحمل على ثقل ذات لأنها معانٍ والمعاني لا توصف بالثقل والخفة وليس كذلك هنا لأن الذات ليست معاني ولا أعراضًا فجاز وصفها بالثقل وأما قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] فقد فسره أهل النقل أن المراد به ثقل الحكم ولأن الكلام ليس بذات قال فإن قيل يحمل على أنه يخلق في العرش ثقلاً على كواهلهم وجعل لذلك أمارة لهم في بعض الأحوال إذا قام المشركون قيل هذا غلط لأنه يُفضي أن يَثْقل عليهم بكفر

المشركين ويخفف عنهم بطاعة المطيعين وهذا لا يجوز لما فيه من المؤاخذة بفعل الغير وليس كذلك إذا حملناه على ثقل الذات لأنه لا يفضي إلى ذلك لأن ثقل ذاته عليهم تكليف لهم وله أن يُثقِّل عليهم في التكليف ويخفف قلت المقصود هنا التنبيه على أصل كلام الناس في ذلك وأما الكلام في الخفة والثقل ونحو ذلك فربما نتكلم عليه إن شاء الله في موضعه فإن طوائف من المتفلسفة يقولون السموات ليست خفيفة ولا ثقيلة قالوا لن الجسم الثقيل هو الذي يتحرك إلى أسفل وهو الوسط والخفيف هو الذي يتحرك على فوق من الوسط والأفلاك مستديرة لا تتحرك إلى فوق ولا إلى أسفل فلذلك لم نصفها بثقل ولا خفة كما لم يصفوها بشيء من الطبائع الأربعة وهذا النزاع قد يكون لفظيًّا وقد

يكون معنويًّا إذا اصطلحوا على أنهم لا يسمون خفيفًا وثقيلاً إلاَّ ما هو كذلك فهو نزاع لفظي وأما النزاع في كون أجسام السموات يمكن صعودها وانخفاضها لولا أن الله يمسكها بقدرته كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا [فاطر 41] وقال وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 25] فهذا نزاع معنوي وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث كُرَيْبٍ عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث

أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال مازلت على الحال الذي فارقتك عليها قالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته وفي رواية سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته فالمقصود بالحديث نهاية ما يمكن من الوزن كما ذكره وغاية ما يمكن من المعدود وغاية ما يمكن من القول والمحبوب هو كلام الرب ورضاه وذكر

عدد خلقه وزنة عرشه الوجه الثالث أن يقال هذه المسألة تدل على نقيض مطلوبك فإنه أثبت أن العرش له حملة وأنه يحمل مع ذلك اليوم ويوم القيامة وظاهر هذا الخطاب أنه على العرش وأن العرش يُحْمَل مع ذلك سواء دلّ الخطاب على أن حملة العرش يحملونه أم لم يدل على ذلك فإن دل على ذلك أيضًا فقد دل على ما هو أبلغ من نقيض مطلوبه ثم إذا خالف هو هذه الآية يحتاج إلى تأويلها أو تفويضها فلا تكون الآيات المثبتة للعرش ولحملته أو لحمل الملائكة لما فوقه تنفي كونه على العرش هذا تعليق على الدليل ضد موجبه ومقتضاه ولكن قوله يلزم الافتقار من باب التعارض فيحتاج إلى الجمع بين موجب الآية وبين هذا الدليل لا تكون

الآية لأجل ما يقال أنه يعارضها تدل على نقيض مدلولها هذا لا يقوله عاقل الوجه الرابع في تقرير ذلك ثم إن قوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر 7] وقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} [الحاقة 17] يوجب أن لله عرشًا يحمل ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية فإن الملك هو مجموع الخلق فهنا دلت الآية على أن لله ملائكة من جملة خلقه يحملون عرشه وآخرون يكونون حوله وعلى أنه يوم القيامة يحمله ثمانية إما ثمانية أملاك وإما ثمانية أصناف وصنوف وهذا إلى مذهب المثبتة أقرب منه إلى قول النافية بلا ريب الوجه الخامس أن العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه وكالسقف بالنسبة إلى ما تحته فإذا كان القرآن قد جعل لله عرشًا وليس هو بالنسبة إليه كالسقف علم أنه بالنسبة

إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره وذلك يقتضي أنه فوق العرش الوجه السادس أن إضافة العرش مخصوصة إلى الله لقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] يقتضي أنه مضاف إلى الله إضافة تخصه كما في سائر المضافات إلى الله كقوله بيت الله وناقة الله ونحو ذلك وإذا كان العرش مضافًا إلى الله في هذه الآية إضافة اختصاص وذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله من النسبة ما ليس لغيره فما يذكره الجهمية من الاستيلاء والقدرة وغير ذلك أمر مشترك بين العرش وسائر المخلوقات وهذه الآيات التي احتج بها تنفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك وتوجب اختصاصاً للعرش بالله ليس لغيره كقوله عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] وهذا إما أن يدل على قول المثبتة أو هو إلى الدلالة عليه أقرب وأيهما كان فقد دلت الآية على نقيض مطلوبه وهو الذي ألزمناه فلم يذكر آية من كتاب الله على مطلوبه إلا وهي لا دلالة فيها بل دلالتها على نقيض مطلوبه أقوى

نقض شبهة الرازي في أنه لو كان الله على العرش لكان الابتداء بخلق العرش قبل السموات

قال الرازي الحجة الثالثة عشرة لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لأنه على القول بأنه مستقر على العرش يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده والأقرب إلى العقول أن تكون تهيئة مكان نفسه مقدمًا على تهيئة مكان العبيد لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش لقوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي قلت الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا والحمد لله الذي جعل لرسوله منه سلطانًا نصيرًا والحمد لله الذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ينصرهم بسلطان الحجة وسلطان القدرة وهو الذي يؤتي رسله

والمؤمنين به حجة على من خالفهم وجادلهم فيه بالباطل كما قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] فإن هذا الرجل وأمثاله لا يحتجون بحجة إلا وهي عليهم لا لهم لكن يزيد فيهم ذلك من يكون الله قد أيده بروح منه وكتب في قلبه الإيمان وجعل في قلبه من نور يفهم دقيق ذلك وأما جليله فيفهمه جمهور الناس وهذه من جليل ذلك وذلك أنه لا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب أن العرش خلق قبل السموات والأرض الوجه الأول فقول هذا المحتج لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لا يضرهم بل ينفعهم فإن الأمر في الترتيب

ذلك ما كان وقول المثبتة يستلزم تقديم خلق العرش فهكذا وقع ولله الحمد وإن لم يكن مستلزمًا هذا الترتيب بطلت هذه الحجة فهي باطلة على التقديرين وأما قوله لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش فيقال هذا لم يعلمه أحد لا من الأولين ولا من الآخرين ولا قاله أحد يعرف بالعلم وأما احتجاجه على تقدم خلق السموات بقوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي فهنا إنما ذكر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض فأين قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] من قوله ثم خلق العرش فهذا لا يخفى على أحد فليس في كتاب الله ما يوهم تأخر خلق العرش فضلاً عن أن يدل فلا دلالة في القرآن على خلق السموات قبل العرش الوجه الثاني أن القرآن يدل على أن خلق العرش قبل خلق السموات والأرض بهذه الآية التي ذكرها وبغيرها فإن

قوله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] يقتضي أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ولم يذكر أنه خلقه حينئذ ولو كان خلقه حينئذ لكان قد ذكر خلقه ثم استواءه عليه ولأن ذكره للاستواء عليه دون خلقه دليل على أنه كان مخلوقًا قبل ذلك ولأنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين وأهل الكتاب أن الخلق كان في ستة أيام وقد قال تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود 7] فأخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان حينئذٍ على الماء وفي الصحيح عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولا شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض

قال البخاري في كتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة باب قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود 7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {129} [التوبة 129] عن عمران بن الحصين قال إني كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وفد بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا فدخل من ناس أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى

يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكان ذلك مناسبًا في العقل لأن يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده كان ثابت بالآية التي تلاها وبغيرها من الآيات والأحاديث واتفاق المسلمين دليل على مذهب منازعه دون مذهبه الوجه الرابع أنه لو فرض أن الله خلق العرش بعد السموات والأرض لم يكن في هذا ما ينافي أن يكون عليه كما أنه خلق السموات بعد الأرض فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة 29] بعد قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت 11] بعد

قوله أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10} [فصلت 9-10]

فصل في الرد على براهين الرازي على أن الله ليس بمختص بحيز ولا جهة

قال الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه فصل ثم قال أبوعبد الله الرازي في تأسيسه الفصل الرابع في إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك وقد ذكر على ذلك ثمانية براهين مع أن بعضها مبني على ما تقدم من نفي أنه جسم فإنه قرر أن ذلك يستلزم نفي أن يكون على العرش وأكثرها غير مبني على ذلك وهذا الفصل يتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق السموات وأن الرسول لم يعرج به إليه وأنه لا يَصْعد إليه

شيء ولا ينزل من عنده شيء ولا ترفع الأبصار أو الرؤوس أو الأيدي إليه في الدعاء بل لا تتوجه القلوب إلى فوق قصدًا للتوجه إليه أصلاً لا في دعاء ولا عبادة ولا غير ذلك ويتضمن أنه ليس فوق العالم رب ولا إله وليس هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف وأن ما فوق العرش وما تحت الأرض السابعة سواء في ذلك فكما أنه ليس في جوف الأرض فليس فوق العرش بل منهم من يقول إنه في كل مكان أو في كل موجود إما بمعنى أن تدبيره فيهم إما بمعنى أن ذاته في كل مكان أو أن ذاته هي كل موجود وأما ما فوق العرش فليس هناك شيء لأنه هو ليس هناك عندهم وليس فوق العالم موجود آخر مخلوق حتى يقال إنه فيه بمعنى التدبير أو بذاته أو بمعنى أن وجوده وجوده فهذه أقوال الجهمية متكلمهم

ومتعبدهم لكن ثَمَّ طائفة تقول هو بذاته فوق العرش وفي كل مكان كما ذكر كذلك الأشعري في المقالات عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني

وإخوانهم فقال إنهم يقولون إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك مستوٍ على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ [الفجر 22] وهذا في نفاة الجسم يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إِنه لا نهاية له ومتكلمو الجهمية إلى النفي المطلق أقرب إذ الكلام قد يصف الموجود بصفة المعدوم ويشبه ذلك وأما عبادهم فلهم قصد وإرادة فيمن يعبدونه والقصد لا يتوجه إلى العدم المحض فلهذا كثيرًا ما يجعلونه

هو في كل مكان أو يجعلونه هو الوجود كله والعامة منهم إلى هذا أقرب لأنه لا تخرج القلوب أن تعبد شيئًا موجودًا وبنو آدم قد أشركوا بالله فعبدوا ما شاء الله من المخلوقات فإذا ذكر لهم ما يقتضي عبادة كل شيء كما فعلته الاتحادية لم ينفروا عن هذا نفورهم عن أن تعطل قلوبهم عن عبادة شيء من الأشياء بالكلية فهؤلاء يشركون شركًا ظاهرًا وأما أولئك فالجحود المحض أغلب على قلوبهم ولهذا يوجد فيهم من الاستكبار عن العبادة وقسوة القلوب ما لا يوجد في الآخرين وكل واحد من الاستكبار والإشراك ينافي الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فإن الإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له فمن عبد الله وغيره فقد أشرك به كما كان مشركو العرب وغيرهم ومن

امتنع عن عبادة الله كفرعون ونحوه فهو جاحد وهو اكفر من هؤلاء وإن كان مشركًا حيث له آلهة يعبدها ولما كان الإسلام هو دين الله العام الذي اتفق عليه الأولون والآخرون من جميع عباد الله المؤمنين كما قال نوح عليه السلام فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72} [يونس 72] عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131} [البقرة 131] وقال مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 67] وقال قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161} [الأنعام 161] وقال وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {132} [البقرة 132] وقال يوسف عليه السلام تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {101} [يوسف 101] كما قال إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم

بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ {38} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {39} مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {40} [يوسف 37-40] وقال موسى عليه السلام يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ {84} [يونس 84] وقال إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة 44] وقالت بلقيس رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} [النمل 44] وقد قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء 125] وقال تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ

عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {112} [البقرة 111-112] وهذا عام في الأولين والآخرين كما قال سبحانه أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {83} قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {84} وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85} [آل عمران 83-85] وقال تعالى شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران 18-19] ثم قال وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20} [آل عمران 19-20] وقوله إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران 19] فيه بيان أنهم اختلفوا

في دين الله الذي هو الإسلام من بعد ما جاءهم العلم حملهم على الاختلاف البغي وهذا كما قال شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15} [الشورى 13-15] واختلاف أهل الكتاب في دين الله الذي هو الإسلام قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ومن ذلك أن اليهود يغلب عليهم الاستكبار والقسوة فهم يعرفون الحق ولا يتبعونه وبذلك وصفهم الله في القرآن ومن فسد من أهل العلم والكلام كان فيه شبه منهم ولهذا يوجد في متكلمة الجهمية من المعتزلة ونحوهم شبه كثير حتى أن من أحبار اليهود من يقرر الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويوجد فيهم من التكذيب بالقدر والصفات وتأويل ما في التوراة وغير

ذلك مما فيه مضاهاة للمعتزلة وأما النصارى فيغلب عليهم الإشراك والجهل فهم يتعبدون ويرحمون لكن بضلال وإشراك وبذلك وصفهم الله في القرآن ولهذا يوجد في متعبدة الجهمية من الاتحادية وغيرهم منهم شبه كثير حتى قد رأيت من هؤلاء الاتحادية من أخذ كلام النصارى النسطورية يزنه بكلامهم وحتى إن من النصارى من

فوقية الله مما اتفقت عليه الأنبياء وسلف الأمة

يأخذ فصوص الحكم لابن عربي فيعظمه تعظيمًا شديدًا ويكاد يغشى عليه من فرحه به ولهذا يوجد في شيوخ الاتحادية موالون للنصارى ولعلهم يوالونهم أكثر من المسلمين وإذا كان كذلك فينبغي أن يعلم أن الكلام في هذا الفصل مقصود لنفسه وفيه ينفصل أهل التوحيد من أهل الإلحاد فإن القول بأن الله فوق العرش هو مما اتفقت عليه الأنبياء كلهم وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل وقد اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف وجميع طوائف الصفاتية تقول بذلك من الكلابية وقدماء

أسماء الله الحسنى كلها أسماء مدح وحمد

الأشعرية وأئمتهم والكرامية وقدماء الشيعة من الإمامية وغيرهم بخلاف لفظ الجسم والمتحيز فإن هذا لم يثبته السلف والأئمة مطلقًا ولا نفوه مطلقًا وإن كان فيما أثبتوه ما يوافق ما قد يعنيه مثبتو ذلك وفيما نفوه ما قد يوافق بعض قول نفاة ذلك وذلك أن الله سبحانه له الأسماء الحسنى كما سمى نفسه بذلك وأنزل به كتبه وعلمه من شاء من خلقه كاسمه الحي والعليم والرحيم والحكيم والأول والآخر والعلي والعظيم والكبير ونحو ذلك وهذه الأسماء كلها أسماء مدح وحمد تدل على ما يحمد به ولا يكون معناها مذمومًا وهي مع ذلك قد تستلزم معاني إذا أخذت مطلقة وسميت بأسمائها عمت المحمود والمذموم مثل اسمه الرحيم فإنه يستلزم الإرادة فإذا أخذت الإرادة

مطلقًا وقيل المريد فالمريد قد يريد خيرًا يحمد عليه وقد يريد شرًّا يُذم عليه وكذلك اسمه الحكيم والصادق وغيرهما يتضمن أنه متكلم فإذا أخذ الكلام مطلقًا وقيل متكلم فالمتكلم قد يتكلم بصدق وعدل وقد يتكلم بكذب وظلم وكذلك الاسم الأول يدل على أنه متقدم على كل شيء فإذا أخذ معنى التقدم وقيل قديم فإنه يقال على ما تقدم على غيره وإن تقدم غيره عليه كالعرجون القديم والإفك القديم وكذلك اسم الحق بل وسائر الأسماء تدل على أنه بحيث يجده الواجدون فإذا أخذ لفظ الموجود مطلقًا لم يدل إلا على أنه يجده غيره لم يدل على أنه حق في نفسه وإن لم يكن ثم غيره يجده وكذلك إذا قيل ذات أو ثابت ونحو ذلك لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على

خصوصية وكذلك اسم العلي والعظيم والكبير يدل على أنه فوق العالم وأنه عظيم وكبير وذلك يستلزم أنه مباين للعالم متحيز عنه بحده وحقيقته فإذا أخذ اسم المتحيز ونحوه لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على ما يمدح به الرب ويتميز به عن غيره وقد قال من قال من العلماء إن مثل أسمائه الخافض الرافع والمعز المذل والمعطي المانع والضار النافع لا يذكر ولا يدعى بأحد الاسمين الذي هو مثل الضار والنافع والخافض لأن الاسمين إذا ذكرا معًا دلّ ذلك على عموم قدرته وتدبيره وأنه لا رب غيره وعموم خلقه وأمره فيه مدح له وتنبيه على أن ما فعله من ضرر خاص ومنع خاص فيه حكمة ورحمة بالعموم وإذا ذكر أحدهما لم يكن فيه هذا المدح والله له الأسماء الحسنى ليس له مثل السوء قط فكذلك أيضًا الأسماء التي فيها عموم وإطلاق لما يحمد ويذم لا توجد في أسماء الله تعالى الحسنى

لأنها لا تدل على ما يحمد الرب به ويمدح لكن مثل هذه الأسماء ومثل تلك ليس لأحد أن ينفي مضمونها أيضًا فيقول ليس بضار ولاخافض أو يقول ليس بمريد ولا متكلم ولا بائن عن العالم ولا متحيز عنه ونحو ذلك لأن نفي ذلك باطل وإن كان إثباته يثبت على الوجه المتضمن مدح الله وحمده وإذا نفاها نافٍ فقد تقابل ذلك النفي بالإثبات ردًّا لنفيه وإن لم تذكر مطلقة في الثناء والدعاء والخبر المطلق فإن هذا نوع تقييد يقصد به الرد على النافي المعطل وهذا في الإثبات والنفي جميعًا فمن العيوب والنقائص ما لا يَحْسن أن يثنى على الله به ابتداء لكن إذا وصفه به بعض المشركين نفي ذلك ردًّا لقولهم كمن يقول إن الله فقير ووالد ومولود أو ينام ونحو ذلك فيُنفى عن الله الفقر والولادة

إن لألفاظ النصوص حرمة لا يصادمها إلا من أفرط في الجهل

والنوم وغير ذلك فهذا أصل في التفريق بين ما ذكر من أسماء الله وصفاته مطلقًا وما لا يذكر إلا مقيدًا إما مقرونًا بغيره وإما لمعارضة مبطل وصف الله بالباطل فـ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] ومما ينبغي أن يعلم أن المبطل إذا أراد أن ينفي ما أثبته القرآن أو يثبت ما نفاه لم يصادم لفظ القرآن إلا إذا أفرط في الجهل مثل من ينكر من الجهمية إطلاق القول بأن الله كلم موسى تكليمًا أو أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ونحو ذلك وقد يقول إنما أنكرت إطلاقه لأن مطلقه عنى به معنى فاسدًا ويكون المطلق لم يعن غير ما عناه الله ورسوله ومنهم من لا يمكنه منع إطلاق اللفظ فيطلق من التصريف ماجاء به نص آخر وما هو من لوازم هذا النص مثل أن يقول يقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا يقال الله ولا الرب

على العرش استوى أولا يقال هو مستوٍ فإذا قيل لأحد هؤلاء فقد قال في الآية الأخرى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وقال اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد 2] بقي حائرًا كما يروى أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء أحب أن تقرأ هذا الحرف وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164} [النساء 164] ليكون موسى هو الذي كلم الله ولا يكون في الكلام دلالة على أن الله كلم أحدًا فقال له وكيف تصنع بقوله وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف 143]

وإذاكان ألفاظ النصوص لها حرمة لا يمكن المظهر للإسلام أن يعارضها فهم يعبرون عن المعاني التي تنافيها بعبارات أخرى ابتدعوها ويكون فيها اشتباه وإجمال كما قال الإمام أحمد فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ومن هذا الباب قول هذا المؤسس ونحوه ممن فيه تجهم إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك فإن المقصود الذي يُورِدُه على منازعه بهذا الكلام أنه ليس على العرش ولا فوق العالم كما يذكره في سائر كلامه ويحرف النصوص الدالة على ذلك ولكن لم يترجم للمسألة

اختلاف أهل الإثبات في إطلاق لفظ الجهة والحيز

بنفي هذا المعنى الخاص الذي أثبتته النصوص بل عمد إلى معنى عام مجمل يتضمن نفي ذلك وقد يتضمن أيضًا نفي معنى باطل فنفاهما جميعًا نفى الحق والباطل فإن قول القائل ليس في جهة ولا حيز يتضمن نفيه أنه ليس داخل العالم ولا في أجواف الحيوانات ولا الحشوش القذرة هذا كله حق ويتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق العالم وهذا باطل وكان في نفيه نفي الحق والباطل ولهذا كان أهل الإثبات على فريقين منهم من يقول بل هو في جهة وحيز لأنه فوق العرش وهذا مما دخل في عموم كلام النافي والنافية الكلية السالبة تناقض بإثبات معين كما في قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [الأنعام 91] ومقصود هذا المثبت جهة معينة وحيزًا معينًا وهو ما فوق العرش ومنهم من لا يطلق أنه في جهة ولا في حيز إمالأن

هذا اللفظ لم ترد به النصوص وإما لأنه مطلق لا يبين المقصود الحق وهو أنه على العرش وفوق العالم وإما لأن لفظه لا يُفْهِمُ أو يُوهم معنى فاسدًا مثل كونه قد أحاط به بعض المخلوقات فإن كثيرًا من عامة النفاة وإن كان مشهورًا عند الناس بعلم أو مشيخة أو قضاء أو تصنيف قد يظن أن قول من قال إنه في السماء أو في جهة معناه أن السموات تحيط به وتحوزه وكذلك إذا قال متحيز يظن أن معناه الحيز اللغوي وهو كونه تحيز في بعض مخلوقاته حتى إنهم ينقلون ذلك عن منازعهم إما عمدًا أو خطأ وربما صغروا الحيز حتى يقولوا إن الله في هذه البقعة أو هذا الموضع ونحو ذلك من الأكاذيب المفتراة وأيضًا فمن المثبتة الضُّلال من يقول إن الله متحيز بهذا

الاعتبار مثل من يقول إنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في الطواف أو في بعض سكك المدينة وأن مواضع الرياض هي مواضع خطواته ونحو ذلك مما فيه من وصفه بالتحيز أمر باطل مبني على أحاديث موضوعة ومفتراة ولهذا الإجمال والاشتراك الذي يوجد في الأسماء نفيًا وإثباتًا تجد طوائف من المسلمين يتباغضون ويتعادون أو يختصمون أو يقتتلون على إثبات لفظ ونفيه والمثبتة يصفون النفاة بما لم يريدوه والنفاة يصفون المثبتة بما لم يريدوه لأن اللفظ فيه إجمال واشتراك يحتمل معنى حقًّا ومعنى باطلاً فالمثبت يفسره بالمعنى الحق والنافي يفسره بالمعنى الباطل

ثم المثبت ينكر على النافي بأنه جحد من الحق والنافي ينكر على المثبت أنه قال على الله الباطل وقد يكون احدهما أو كلاهما مخطئًا في حق الآخر وسبب ذلك مع اشتراك اللفظ نوع جهل أو نوع ظلم ولا حول ولا قوة إلا بالله وإذا كان القول بأن الله فوق العرش وفوق العالم ولوازم هذا القول الذي يلزمه بالحق لا بالباطل هو قول سلف الأمة وأئمتها وعامة الصفاتية لم يكن رد هذا المؤسس ونحوه على طائفة أو طائفتين بل على هؤلاء كلهم وقد ذكرنا بعض ما يعرف به مذاهبهم في غير هذا الموضع فإن المقصود الأكبر هنا إنماهو النظر العادل فيما ذكره من دلائل الطرفين ليحكم بينهما بالعدل وأما ما للمثبتة من الحجج التي لم يذكرها هو وذكر القائلون بالإثبات فلم يكن ذلك هو المقصود لكن

الكلام يُحْوِجُ إلى ذكر بعضه فينبه على ذلك فمن ذلك طائفة هذا المؤسس وهم أبو الحسن الأشعري وأتباعه فإن قدماءهم جميعهم وأئمتهم الكبار كلهم متفقون على أن الله فوق العرش ينكرون ماذكره هذا المؤسس وطائفة معه كأبي المعالي وأبي حامد من نفي ذلك أو تأويل آيات القرآن كقوله ثم استوى بمعنى استولى وقد ذكرت قبل ذلك

أبو الحسن الأشعري يثبت استواء الله على عرشه

لفظ أبي الحسن الأشعري في كتاب الإبانة حيث قال فإِنْ قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والحرورية

والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن ذلك معتصمين وبما كان يقول

أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا إنا نقر بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئًا وان الله عز وجل فرد أحد صمد لاإله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من

في القبور وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له وجهًا كما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وان له يدين كما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال سبحانه لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وان له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالاًّ وأن لله علماً كما قال عز وجل أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وقال سبحانه وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] ونثبت لله تعالى قدرة وقوة كماقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ

مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن فيكون كما قال سبحانه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} [يس 82]

وأنه لايكون في الأرض شيء من خير ولا شر إلا ماشاء الله وأن الأشياء تكون بمشية الله وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله الله عز وجل ولا يستغني عن الله ولا يقدر على الخروج من علم الله وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدرة له كما قال سبحانه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {96} [الصافات 96] وأن العباد لايقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون كما قال سبحانه لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ

يُخْلَقُونَ {20 { [النحل 20] وكما قال عز وجل أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} [الطور 35] وهذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تعالى مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف 178] وأن الله سبحانه وتعالى يقدرأن يصلح الكافرين ويَلْطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكن أراد أن يكونوا كافرين كما علم وأن الله خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره وخيره وشره وحلوه ومره ونعلم أن ما أصابنا

لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأنا لا نملك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا إلا ماشاء الله وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول إن القرآن كم الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرًا وندين بأن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كمايرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا وأعلم بذلك موسى

أن لايراه في الدنيا ونرى أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة وما أشبهها مستحلاً لها كان كافرًا إذا كان غير معتقد لتحريمها ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانًا وندين بأن الله يقلب القلوب وأن القلوب بين إصبعين من أصابعه

وأنه يضع السموات علي إصبع والأرضين على إصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بأن لا ننزل أحدًا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرجوا الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار قومًا بعد ما امتحشوا

بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان والحوض حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَدِين بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بماأثنى الله عليهم ونتولاهم

ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله

وجهه قتله قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد

لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب سبحانه وتعالى يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافًا لماقاله أهل الزيغ والتضليل

ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال سبحانه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وكما قال ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} [النجم 8-9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وغيره وكذلك سائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن

المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافًا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهم المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ونقول إن لذلك تفسيرًا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وأن

رسم السحر كائن موجود في الدنيا ونؤمن بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً وحرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه

ويخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله عز وجل الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 275] وكما قال الله عز وجل مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} [الناس 4-6] ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في الأطفال أطفال المشركين إن الله سبحانه يؤجج لهم نارًا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية

بذلك وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم إليه صائرون وما كان وما يكون وما لايكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين

ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانبة أهل الهواء وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا ونتكلم عن مسألة رؤية الله بالأبصار وعلى القرآن ثم قال باب ذكر الاستواء وذكر ما قد نبه عنه قريبًا الذي أوله فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال سبحانه وتعالى بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى

الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وقال فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] فأكذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال سبحانه أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] والسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يعني جميع السماء بقوله السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 16] ولم يرد أن القمر يملؤهن

جميعًا وأنه فيهن جميعًا ورأينا المسلمين جميعًا إذا دعوا يرفعون أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض قال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق فذهبوا في الاستواء إلى الاستيلاء ولو كان هذا كما قالوه كان لافرق بين العرش والأرض السابعة

السفلى لأن الله تعالى قادر على كل شيء ثم قال أبو الحسن الأشعري باب الكلام في الوجه والعينين والبصر قال الله تبارك وتعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] فأخبر سبحانه أن له وجهًا لا يفنى ولا يلحقه الهلاك وقال تعالى تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] فأخبر عن العينين ولله تعالى ذكره عين ووجه كما قال لا يحد ولا يكيف وقال سبحانه وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه 39] وقال الله

تعالى وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً {134} [النساء 134] وقال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] فأخبر عن سمعه ورؤيته وبصره قال ونفت الجهمية أن يكون له وجه كما قال وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر ووافقوا النصارى لأن النصارى لم تثبت لله سمعًا ولا بصرًا إلا على معنى أنه عالم وكذلك قالت الجهمية قال وحقيقة قول الجهمية أنهم قالوا إن

الله عالم ولا نقول سميع بصير على غير معنى عالم وكذلك قول النصارى وقالت الجهمية إن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر وإنما قصدوا إلى تعطيل التوحيد والتكذيب فقالوا سميع بصير لفظًا ولم يحصلوا تحت قولهم معنى ولولا أنهم خافوا السيف لأفصحوا أن الله غير سميع ولا بصير ولا عالم ولكن خوف السيف منعهم من إظهار كفرهم وكشف زندقتهم وهذا قول المعتزلة الجهال قال وزعم شيخ منهم مقدم عندهم أن علم الله هو سبحانه وأن الله علم

فنفى العلم من حيث أوهم أنه يثبته حتى التزم أن يقول يا علم اغفر لي إذا كان علم الله هو الله وكان الله على قياسه علمًا وقدرة وهو أبو الهذيل تعالى الله عما

يقولون علوًا كبيرًا ومن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل وجهًا قيل له نقول ذلك خلافًا لما قاله المبتدعون وقد دل على صحة ذلك قوله سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وإن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل يدين قيل له نعم نقول ذلك لقوله سبحانه وتعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن

الله خلق آدم بيديه وغرس شجرة طوبى بيده وقال سبحانه وتعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلتا يديه يمين وقال سبحانه لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} [الحاقة 45] وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا وكذا بيدي وهو يعني به النعمة وإذا كان الله سبحانه خاطب العرب بلغتها وما تجده مفهومًا في كلامها ومعقولاً في خطابها ولا يجوز أن تقول في خطابها

فعلت بيدي وتعني به النعمة بطا أن يكون معنى قوله بيديَّ النعمة وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل لي عليه يدان يعني له عليه نعمتان ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها ودفع ذلك دفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد نعمة إلا من جهة اللغة فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يحتج بها وأن لا يقرأ القرآن

مناقشة أبي الحسن الأشعري المعتزلة في نفيهم اليد عن الله عز وجل

ولا يثبت اليد نعمة من قبلها لأنه إن رجع في تفسير قوله بيديَّ يعني نعمتي إلى الإجماع فليس المسلمون على ما ادعاه من ذلك متفقين وإن رجع إلى اللغة أن يقول معنى نعمتي أن يقول القائل بيديَّ نعمتي وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد إلى ذلك سبيلاً ويقال لأهل البدع لم زعمتم أن معنى قوله بيديَّ نعمتي أزعمتم ذلك إجماعًا أو لغة فلا يجدون في ذلك إجماع ولا في لغة فإن قالوا قلنا ذلك من

القياس قيل لهم من أين وجدتم في القياس أن قول الله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لا يكون معناه إلا نعمتي ومن أين يمكن أن يعلم العقل أن يفسر لفظة كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال سبحانه أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء 82] ولولا أن القرآن بلسان العرب ما جاز أن تتدبره

ولا أن تعرف العرب معانيه إذا سمعته فلما كان من لايحسن كلام العرب لا يحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم علموه لأنه بلسانهم نزل قال وقد اعتل معتل بقول الله عز وجل وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] قال الأيدي القوة فوجب أن يكون معنى قوله بيدي أي بقدرتي قيل لهم هذا التأويل فاسد من وجوه أحدها أن الأيد ليس بجمع اليد لأن جمع يد أيدي وجمع اليد التي هي نعمة أيادي والله عز وجل لم

يقل بأيدي ولا قال بأيادي وإنما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فبطل أن يكون معنى قوله بيدي معنى قوله بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] وأيضًا فلو أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي وهذا مناقض لقول مخالفينا ومجانب لمذاهبهم لأنهم لا يثبتون قدرة الله عز وجل فكيف يثبتون قدرتين وأيضًا فلو كان الله عز وجل عنى بقوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس لعنه الله في ذلك مزية والله عز وجل أراد أن يرى فضل آدم عليه السلام إذ خلقه بيديه دونه فلو كان خالقًا لإبليس بيده كما خلق

آدم بيده لم يكن لتفضيله على إبليس بذلك وجه وكان إبليس محتجًّا على ربه عز وجل أن يقول وأنا أيضًا خلقتني بيدك كما خلقت آدم بها فلما أراد تفضيله عليه بذلك قال له توبيخًا على استكباره على آدم أن يسجد له مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص 75] فدل ذلك على أنه ليس معنى الآية القدرة إذْ كان الله عز وجل قد خلق الأشياء جميعها

بقدرته وأنه إنما أراد إثبات يدين لم يشارك إبليس لعنه الله آدم عليه السلام في أنه خلق بهما قال وليس يخلو قوله عز وجل لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين أو يكون معنى ذلك إثبات جارحتين أو يكون معنى ذلك إثبات قدرتين أو يكون معناه معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين ولا يوصفان

إلا كما وصف الله ولا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز أن يقول القائل عملت بيديّ وهو يعني نعمتي ولا يجوز أن يعني عندنا ولا عند خصومنا جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فكيف يثبتون قدرتين وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله عز وجل بيدي إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين ولا يوصفان إلا أن يقال إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجًا عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت وأيضًا فلو كان معنى قوله بيدي نعمتي لكان

لا فضيلة لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا لأن الله قد ابتدأ إبليس بنعمة على قولهم كما ابتدأ بذلك لآدم فليس تخلو النعمتان أن يكون عنى بهما بدن آدم أو تكونا عرضين خلقا في آدم فإن عنى بذلك بدن آدم فالأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد وإذا كان الأبدان عندهم جنسًا واحدًا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ماحصل في جسد آدم وكذلك إن كان عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس فهذا يوجب أنه

لا فضيلة لآدم على إبليس في ذلك والله عز وجل إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم في ذلك الفضيلة فدل ما قلناه على أن الله عز وجل قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لم يعن نعمتي ويقال لهم ماأنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله يدي يدين ليستا نعمتين فإن قالوا لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة قيل لهم ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم

يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعتلالكم ناقصين وإن أثبتم حيًّا لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي أخبر الله عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين

ولا كالأيدي وكذلك يقال لم تجدوا مدبرًا حكيمًا إلا إنسانًا وأثبتم الباري مدبرًا حكيمًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف للشاهد فإن قالوا فإذا أثبتم لله يدين لقوله سبحانه وتعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فلم لا أثبتم له أيدي لقوله سبحانه مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] قيل لهم

قد أجمع على بطلان قول من قال ذلك فوجب أن يكون الله عز وجل ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين لأن الدليل قد دل على صحة الإجماع وإذا كان الإجماع صحيحًا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين لأن القرآن على ظاهره

ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة فوجدنا حجة أولنا بها ذكر الأيدي على الظاهر إلى ظاهر آخر ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقة لا يزول عنها إلا بحجة فإن قال قائل إذا ذكر الله الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يكون ذكر الأيدي ويريد به يدًا واحدة قيل له ذكر الله عز وجل أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على

بطلان قول من قال أيدي كثيرة وقال من قال يد واحدة فقلنا يدان لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف ظاهره فإن قال قائل ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] على المجاز قيل له حكم كلام الله على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ألا ترون أنه إذاكان ظاهر كلام عموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس على حقيقة الظاهر وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم بغير حجة فكذلك قوله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] على ظاهره من إثبات الأيدي ولايجوز أن يعدل به عن

ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا بغير حجة فلو كان ذلك جائزًا لجاز مدع أن يدعي أن ماظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه وأنه محال أن يكون مجازًا بغير حجة بل واجب أن يكون لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] إثبات يدين لله تعالى في غير نعمتين إذْ كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم فعلت بيدي وهو يعني نعمتي

قلت وهذا القول الذي ذكره الأشعري في الإبانة ونصره ذكره في كتاب المقالات الكبير الذي فيه مقالات الإسلاميين ومقالات الطوائف غير الإسلاميين وكتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين أنه قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة فقال بعد أن ذكر مقالات الشيعة ثم الخوارج ثم المعتزلة ثم المجسمة ثم الجهمية ثم الضرارية ثم

البكرية ثم قوم من النساك ثم قال هذه حكاية قول

جملة أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا والله تعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له يدين بلا كيف كما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وكما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وأن له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن الله علمًا كما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وكما قال وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ

إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال الله تعالى وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير 29] وكما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقالوا إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا

صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علمهم وخذلهم ولم يصلحهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال ويقولن إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهم مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله سبحانه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم

عن الله محجوبون قال الله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل ربه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكًّا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان

ويقرون بأن الله مقلب القلوب ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله تعالى حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله

ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون

الله ينزلهم حيث شاء ويقولن أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله يخرج قومًا من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في

القدر والمناظرة فيما يناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة ويقولون بأن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدًا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبابكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًّا رضي الله عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم

ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كماقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر

عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى ابن مريم يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال تعالى وأن السحركائن موجود في الدنيا ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وموارثتهم ويقولون إن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله

وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً كانت أو حرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ بالقرآن

وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمر بيد الله ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والكبر والفخر والإزراء على الناس والعجب

ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول إليه ونذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير ثم قال وأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان وهو ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الباري تعالى لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلاً كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا

ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى ويقولون أسماء الله وصفاته لا يقال هي غيره ولا يقال إن علمه غيره كما قالت الجهمية ولا يقال إن علمه هوهو كما قال بعض المعتزلة وكذلك قولهم في سائر الصفات ولا يقولون العلم هو القدرة ولا يقولون غير القدرة ويزعمون أن الصفات قائمة بالله وأن الله لم يزل راضيًا عمن يعلم أنه يموت مؤمنًا ساخطًا على من يموت كافرًا وكذلك قوله في الولاية والعداوة والمحبة وكان يزعم أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقوله في القدر كما حكينا عن أهل السنة والحديث وكذلك قوله في أهل الكبائر وكذلك

قوله في رؤية الله بالأبصار وكان يزعم أن الباري سبحانه وتعالى لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستوٍ على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء تعالى وقال أيضًا أبو الحسن الأشعري في باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو تحمل العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول أنه في مكان دون مكان قلت وكان قد ذكر في شرح اختلاف الناس في

التجسيم فقال فاختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه جسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك يتناهى غير أن مساحته أكثر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم ثم قال وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب

قال وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية فهاتان هما الفرقتان قال وقال قائلون هو جسم خارج عن جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بلون ولا طعم ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش وليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه في كل مكان

دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده وقال بعض أصحابه إن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له وقال من ينتحل الحديث أن العرش لم يمتلئ به وأنه يقعد نبيه عليه السلام معه على العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم

ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا نتقدم بين يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن له يدين كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئًا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه

بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن قال واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل فقال قائلون الحملة تحمل الباري وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وأن العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولاتحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل ويحمله الحملة وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه على العرش وإنه مباين

منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل بينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات قال واختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الله بكل مكان وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على مالم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ للأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن في كتاب الإبانة هو الذي يذكره من ينقل مذهبه جملة ويرد بذلك على الطاعنين فيه كما ذكر ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي وأبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى

الشيخ أبي الحسن الأشعري والذي ذكره الأشعري في كتاب المقالات هو الذي ذكره أبو بكر بن فورك في كتاب مقالات ابن كلاب فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبوالحسن في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وقواعدهم وما أبان في آخره أنه هو يقول بجميع ذلك وأن أبا محمد عبد الله بن سعيد يقول بذلك وبأكثر منه وهكذا ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في عامة كتبه مثل التمهيد والإبانة وكتابه الذي سماه كتاب الرد على من نسب إلى الأشعري خلاف قوله بعد فصول ذكرها قال وكذلك قولنا في جميع المروي عن رسول اله صلى الله عليه وسلم في صفات الله تعالى إذا ثبتت بذلك الرواية من إثبات اليدين اللتين نطق بهما

القرآن والوجه والعينين قال تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وقال تعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال في قصة إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] قال وروي في الحديث من رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجال قال إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور فأثبت له العينين

قال وهذا حديث غير مختلف في صحته عند العلماء بالحديث وهو في صحيح البخاري وقال عليه السلام فيما يروى من الأخبار المشهورة وكلتا يديه يمين ونقول إن الله تعالى يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام والملائكة كما نطق بذلك القرآن وأنه ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى أو مستغفر فيغفر له الحديث وأنه عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال قد بينا دين الأئمة وأهل السنة وأن هذه الصفات تُمَرُّ كما جاءت بغير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير كما روي عن

ابن شهاب وغيره وروى الثقات عن مالك أن سائلاً سأله

اتفاق سلف الأمة أن الله فوق العرش

عن قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] فقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة قال فمن تجاوز هذا المروي من الأخبار عن التابعين ومن بعدهم من السلف الصالحين وأئمة الحديث فقد تعدى وضل وابتدع في الدين ما ليس منه وذكر باقي الكتاب وهذا لفظه فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة وأن الله فوق العرش وأن له وجهًا ويدين وتقرير ما ورد من النصوص الدالة على أنه فوق العرش وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين ونحو ذلك علم أن هذا الرازي ونحوه هم المخالفون

لأئمتهم في ذلك وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه وكذلك نقل الناس مذهبهم كما قال الإمام أبوبكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف

المتأخرين في الاستواء قول الطبري يعني أبا جعفر صاحب التفسير الكبير وأبي محمد

عبد الله بن أبي يزيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه

أعني القاضي أبي بكر القاضي عبد الوهاب نصًّا وهو أنه سبحانه مستوٍ على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه قال القاضي أبو بكر وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان ولا كون فيه ولا مماسة قال أبو عبد الله القرطبي في كتاب شرح الأسماء الحسنى هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد

الأوائل وقاله الأستاذ أبوبكر بن فورك في شرح أوائل الأدلة له وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي

وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولاً وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات

وقال هذا القرطبي في تفسيره الكبير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس 3] هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب الأسني في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً قال والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم المتأخرين تنزيه الباري عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون وذلك

مستلزم للتحيز والتغير والحدوث هذا قول المتكلمين قال وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال مالك رحمه الله الاستواء معلوم يعني في اللغة والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وكذا قالت أم سلمة رضي الله

عنها وهذا القدر كاف قال والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار وذكر كلام الجوهري وغيره

وأما نقل مذاهب سلف الأمة وأئمتها وسائر الطوائف فروى أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بإسناد صحيح من الأوزاعي قال كنا والتابعون

متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق سماواته ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته وقال أبو بكر النقاش صاحب

التفسير والرسالة حدثنا أبو العباس السراج سمعت قتيبة بن سعيد يقول هذا قول الأئمة في الإسلام

والسنة والجماعة نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة

له وأئمتنا كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان ن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن

سلمة وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهوية الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء

وقال الإمام أبو عمر الطلمنكي في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد 4] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أيضًا قال أهل السنة في قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز

وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال وهذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد ولا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله

تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة قال وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله تعالى وذكر بعض الآيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم

عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة 7] هو على العرش وعلمه في كل مكان وماخالفهم في ذلك من يحتج بقوله وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة وتزعم أن من أقر بها مشبه وهم

عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله فهم أئمة الجماعة قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصفهاني أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين فذكر عقيدة قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلاكيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز وجل بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة

ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأنه سميع بصيرعليم خبير متكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر قال ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في العقيدة

المشهورة عنه طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لايحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي سألت أبي

وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار قالا أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع

جهاته إلى أن قالا وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علمًا وهذا مشهور عن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم من وجوه وقد ذكره عنه الشيخ نصر المقدسي في كتاب

الحجة له وقال نصر في هذا الكتاب إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فأذكر مذاهبهم وما اجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم ومن

مسألة العلو عند السلف ليست من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد

بلغني قوله من غيرهم فذكر جُمَل اعتقاد أهل السنة وفيه وأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه كما قال في كتابه أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن 28] ونقل أقوال السلف من القرون الثلاثة ومن نقل أقوالهم في إثبات أن الله تعالى فوق العرش يطول ولا يتسع له هذا الموضع ولكن نبهنا عليه ولم يكن هذا عندهم من جنس مسائل النزاع التي يسوغ فيها الاجتهاد بل ولا كان هذا عندهم من جنس

مسائل أهل البدع المشهورين في الأمة كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة بل كان إنكار هذا عندهم أعظم عندهم من هذا كله وكلامهم في ذلك مشهور متواتر ولهذا قال الملقب بإمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة فيما رواه عنه الحاكم من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة

كما روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم يدورون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويَدُورون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا

وعن عباد بن العوام الواسطى من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد قال كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء

وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعى من هذه الطبقة وهو إمام البصرة إذ ذاك علمًا ودينًا أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شرٌّ قولاً من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش وهم قالوا ليس عليه شيء وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب الإمام

المشهور قال سمعت حماد بن زيد وهو الإمام الكبير المشهور وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وعن عاصم بن علي بن عاصم

شيخ أحمد والبخاري قال ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا وقال أحمد بن حنبل ثنا سريح ابن النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ سمعت مالك

ابن أنس يقول الله في السماء وعلمه في كل مكان وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله

ابن المبارك أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا وكذلك قال الإمام أحمد وغيره وقال الإمام أبو عبد الله البخاري صاحب الجامع

الصحيح في كتاب خلق الأفعال باب ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله قال وقال وهب بن جرير الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى قال وقال حماد بن زيد القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يجادلون إلا أنه ليس في السماء إله

قال وقال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سمواته على العرش وقال لرجل منهم أتظنك خال منه فَبُهِت الآخر وقال من قال لاإله إلا هو مخلوق فهو كافر وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية قال وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي

وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا قال أبو عبد الله البخاري نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل

ما يشاء وقال وحديث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي قال وقال ضمرة بن ربيعة عن صدقة سمعت

سليمان التيمى يقول لو سئلت أين الله تبارك وتعالى لقلت في السماء فإن قال فأين كان عرشه قبل السماء لقلت على الماء فإن قال فأين كان عرشه قبل الماء لقلت لا اعلم وروى عن يزيد بن هارون أنه ذكر أبا بكر الأصم والمريسي فقال هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالا الدم

قال وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضي أو عدل فصلِّ خلفه قلت فالجهمية قال لا هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة قال وقال وكيع بن الجراح الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهم والجهمية شر هذه

الأصناف قال البخاري وقال زهير السجستاني سمعت سلام بن أبي مطيع يقول الجهمية كفار وكلام السلف والأئمة في هذا الباب أعظم وأكثر من أن يذكر هنا إلا بعضه كلهم مطبقون على الذم والرد على من نفى

أن يكون الله فوق العرش كلهم متفقون على وصفه بذلك وعلى ذم الجهمية الذين ينكرون ذلك وليس بينهم في ذلك خلاف ولا يقدر أحد أن ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفًا واحدًا يخالف ذلك لم يقولوا شيئًا من عبارات النافية إن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا أنه داخل العالم ولا خارجه ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا أنه في كل مكان أو أنه ليس في مكان أو أنه لا تجوز الإشارة غليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة بأن يكون فوق العرش لا نصًّا ولا ظاهرًا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم وإذا كان كذلك فليعلم أن الرازي ونحوه من الجاحدين لأن يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها الذين لهم في الأمة لسان صدق ومخالفون لعامة من يثبت الصفات من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والمتكلمين مثل الكرامية والكلابية والأشعرية الذين هم

دعاوى الرازي وبراهينه في نفي العلو والرد عليها

الأشعري أئمة أصحابه ولكن الذين يوافقونه على ذلك هم المعتزلة والمتفلسفة المنكرون للصفات وطائفة من الأشعرية وهم في المتأخرين منهم أكثر منهم في المتقدمين وكذلك من اتبع هؤلاء من الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الحديث وحينئذ فيذكر ما يُتكلم به على حججه ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الرازي الفصل الرابع في إقامة الحجج والبراهين على أن الله ليس بمختص بحيز ولا جهة بمعنى أنه يشار بالحس أنه هاهنا أو هناك ويدل

عليه وجوه البرهان الأول وذلك أنه لم يخل إما أن يكون منقسمًا أو غير منقسم فإن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وإن لم يكن منقسمًا كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء وأيضًا فإن من ينفي الجوهر الفرد يقول إن كل ما كان مشارًا إليه بأنه هاهنا أو هناك فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا فثبت بأن القول بأنه مشار إليه بحسب الحس يفضي إلى هذين الباطلين فوجب أن يكون القول به باطلاً فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى واحد منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا

قوله العظيم يجب أن يكون مركبًا منقسمًا وذلك ينافي كونه أحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل وأيضًا لِمَ لا يجوز أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر قوله إنه حقير وذلك على الله محال قلت الذي لا يمكن أن يشار غليه ولا يحس به يكون كالعدم فيكون أشد حقارة فإذا جاز هذا فلم لا يجوز ذلك والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا

إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد أو جزء لا يتجزأ مع كونه جبلاً وذلك شك في البديهات فثبت أنه لابد من التزام التركيب والانقسام وإما أن لا يحصل فوقها شيء آخر ولا على يمينها ولا على يسارها ولا من تحتها فحينئذ يكون نقطة غير منقسمة وجزءًا لا يتجزأ وذلك باتفاق العقلاء باطل فثبت أن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب بل هو مبني على التقسيم الدائر بين النفي والإثبات قال واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف

أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فزعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة ولا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل أما قولهم الذي لا يحس ولا يشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أما إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم

يلزم وصفه بالحقارة يقال هذه الحجة مع كل من قال إنه فوق العرش وقال مع ذلك إنه غير مؤلف ولا مركب ممن يثبت له معنى الجسم كمن ذكره من الكرامية وممن ينفي عنه معنى الجسم كالكلابية وأئمة الأشعرية ومع كل طائفة ممن يوافقها من الفقهاء والصوفية وغيرهم وإن كان عامة أهل السنة وأئمة الدين وأهل الحديث لا يقولون هو جسم ولا يقولون ليس بجسم وهو قد نصها وهي أيضًا مع من نقل عنه أنه يُوصَفُ بالتركب والتأليف يرجع إلى قوله والكلام عليها من وجوه أحدها أن يقال قد تقدم أن لفظ المنقسم لفظ مجمل بحسب الاصطلاحات فالمنقسم في اللغة العربية التي نزل بها

القرآن هو ما فصل بعضه عن بعض كقسمة الماء وغيره بين المشتركين كما قال الله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر 28] وقال تعالى لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر 44] وقال تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف 32] وقال تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف 32] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنا قاسم أقسم بينكم وهذا هو حقيقة المقسوم بدليل صحة نفي اللفظ عما ليس كذلك كما في الحديث الصحيح قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يُقْسَم وكما في قوله أيما ميراث قسم في الجاهلية

فهو على ما قسم وأيما مال أدركه الإسلام فهو على قَسْم الإسلام

وكما قال لا يَقْتَسِمْ ورثتي دينارًا ولا درهمًا وتقول الفقهاء العقار إما أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة فإن كان كالرحى الصغيرة والحانوت الصغير التي لا تحتمل القسمة ففي ثبوت الشفعة فيه نزاع مشهور بين الفقهاء وإن كان يحتمل القسمة كالأرض البيضاء الكبيرة ونحو ذلك ثبتت فيه الشفعة بالاتفاق وكذلك يقولون في باب القسمة إن

المال إما أن يحتمل القسمة وإِما أن لا يحتملها فالذي لا يحتمل القسمة كالعبد الواحد والفرس الواحد وكالجوهرة والإناء الواحد ونحو ذلك فهذا الباب باب القسمة وما فيه من المسائل كقولهم القسمة هل هي إفراز الحقوق وتمييز الأنصباء أم هي بيع وقولهم مالا يمكن قسمته إذا طلب أحد الشريكين بيعه ليقسم الثمن هل يجبر الآخر على البيع وقولهم إذا كان في القسمة ضرر على أحد الشريكين فهل يجبر الممتنع فيها ونحو ذلك ومن ذلك قولهم في المضاربة والغنيمة ونحوها هل يملك الربح أو المغنم بالظهور أو لا يملك إلا بالقسمة وقولهم باب قَسْم الصدقة والغنائم والفيء وأمثال ذلك مما

لا يحصيه إلا الله إنما يريد الخاصة من العلماء والعامة من الناس بلفظ القسمة هنا تفصيل الشيء بعضه عن بعض بحيث يكون هذا في حيز وهذا في حيز منفصل عنه ليتميز أحدهما عن الآخر تميزًا يمكن به التصرف في احدهما دون الآخر وإذا كان هذا المعنى هو الظاهر في لغة الناس وعادتهم بلفظ القسمة فقوله بعد ذلك إما أن يكون منقسمًا أو لا يكون يختار فيه المنازع جانب النفي فإن الله ليس بمنقسم وليس هو شيئين أو أشياء كل واحد منها في حيز منفصل عن حيز الآخر كالأعيان المقسومة وما نعلم عاقلاً يقول ذلك وما كان منقسمًا بهذا المعنى فهو اثنان كل منهما قائم بنفسه ولم يقل أحد من الناس إن الله أو إن خالق العالم هما اثنان متميزان كل منهما قائم بنفسه إلا ما يحكى عن بعض الثنوية من قولهم إن أصل العالم النور والظلمة القديمان

لكن هؤلاء لا يقولون بتساويهما في الصفات وأيضًا فهؤلاء لا يسمون كلاًّ منهما الله أو رب العالمين ولا يسمون اثنيهما باسم واحد فلم يقل أحد من العقلاء إن مسمى الله أو رب العالمين هو منقسم الانقسام المعروف في نظر الناس وهو أن يكون عينان لكل منهما حيز منفصل عن حيز الآخر وأيضًا فلم يقل أحد إن الله كان واحدًا ثم إنه انفصل وانقسم حتى صار بعضه في حيز وبعضه في حيز فهذا المعنى المعروف من لفظ المنقسم منتف باتفاق العقلاء وهو مناف لأن يكون رب العالمين واحدًا منافاة ظاهرة ولكن لا يلزم من بطلان هذا بطلان مذهب المنازع الذي يقول إن الله واحد

ليس هو اثنين منفصلين كل منهما في حيز منفصل عن حيز الآخر وقد يريد بعض الناس بلفظ المنقسم ما يمكن الناس فصل بعضه عن بعض وإن كان في ذلك فساد تنهى عنه الشريعة كالحيوان الحي والآنية ونحو ذلك فإن أراد بلفظ المنقسم ذلك فلا ريب أن كثيرًا من الأجسام ليس منقسمًا بهذا الاعتبار فإن بني آدم يعجزون عن قسمته فضلاً عن أن يقال إن رب العالمين يقدر العباد على قسمته وتفريقه وتمزيقه وهذا واضح وقد يراد بلفظ المنقسم ما يمكن في قدرة الله تعالى قسمته لكن العباد لا يقدرون على قسمته كالجبال وغيرها ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقال إن الله يمكن قسمته وأنه قادر على ذلك كما لا يجوز أن يقال إنه يمكن عدمه أو موته أو نومه وأنه قادر على ذلك فإنه واحد لا إله إلا هو وهذه القسمة تجعله اثنين منفصلين كل منهما في حيز آخر وهذا ممتنع على الله وذلك ظاهر ولا نزاع بين المسلمين بل بين العقلاء في ذلك وإنما تنازع الناس في كثير من الأجسام هل يمكن

قسمتها وتفريقها أم لا يمكن كأرواح بني آدم والملائكة بل كالعرش وغيره وقد خالف كثير من الفلاسفة المسلمين في أن الأفلاك تقبل الانقسام والتفريق أو لا تقبلها فالناس تنازعوا في كون بعض الأجسام تقبل الانقسام الذي هو تفريق بعض الجسم عن بعض فأما الخالق تعالى وتقدس فما علمنا أحدًا منهم يصفه بذلك ولو وصفه واصف بذلك لم يكن ما ذكره الرازي حجة على بطلان قوله كما سنذكره وإن كان غير منقسم لا بالمعنى الأول الذي هو وجود الانقسام المعروف ولا بالمعنى الثاني الذي هو إمكان هذا الانقسام فقوله وإن لم يكن غير منقسم كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد ليس بلازم حينئذ فإنما يوصف بأنه واحد

من الأجسام كقوله تعالى وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك جسم واحد ومتحيز واحد وهو في جهة ومع ذلك ليس هو منقسمًا بالمعنى الأول فإن المنقسم بالمعنى الأول لا يكون إلا عددًا اثنين فصاعدًا كالماء إذا اقتسموه وكالأجزاء المقسومة التي لكل باب من جهنم منها جزء مقسوم وإذا كان هذا فيما يقبل القسمة كالإنسان والذي يقدر البشر على قسمته وما لايقبل القسمة أولى بذلك وهذا ظاهر محسوس بديهي لا نزاع فيه فإن أحدًا لم ينازع في أن الجسم العظيم الذي لم يفصل بعضه عن بعض فيجعل في حيزين منفصلين أولا يمكن ذلك فيه إذا وصف بأنه غير منقسم لم يلزم من ذلك أن يكون بقدر الجوهر الفرد بل قد يكون في غاية الكبر والعظم

مقصد الرازي بالمنقسم يخالف الكتاب والسنة ولغة العرب

ولا ريب أن الرازي ونحوه ممن يحتج بمثل هذه الحجة لا يفسرون الانقسام هنا بهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه فإن أحدًا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار ور يلزم من كونه جسمًا أو متحيزًا أو فوق العالم أو غير ذلك أن يكون منقسمًا بهذا الاعتبار وإن قال أريد بالمنقسم أن ما في هذه الجهة منه غير ما في هذه الجهة كما نقول إن الشمس منقسمة يعني أن حاجبها الأيمن غير حاجبها الأيسر والفلك منقسم بمعنى أن ناحية القطب الشمالي غير ناحية القطب الجنوبي وهذا هو الذي أراده فهذا مما يتنازع الناس فيه فيقال له قولك إن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وتقدم الجواب عن هذا الذي سميته مركبًا وتبين

أنه لا حجة أصلاً على امتناع ذلك بل تبين أن إحالة ذلك تقتضي إبطال كل موجود ولولا أنه أحال على ما تقدم لما أحلنا عليه وتقدم بيان ما في لفظ التركيب والحيز والغير والافتقار من الإجمال وان المعنى الذي يقصدونه بذلك يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبًا أو ممكنًا وأن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة وتبين أن كل أحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبًا حتى الفلاسفة وأن هذا المنازع يقول مثل ذلك في تعدد الصفات وأنه ألزم الفلاسفة مثل ذلك فقول من يقول من هؤلاء ما يكون منقسمًا أو مركبًا بهذا

الاعتبار فإنه لا يكون واحدًا ولا يكون أحدًا فإن الأحد هو الذي لا ينقسم خلافا لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ولغة العرب من تسمية الإنسان واحدًا كقوله وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك وتحرير هذا المقام هو الذي يقطع الشغب والنزاع فإن هذه الشبهة من أكبر أو أكبر أصول المعطلة لصفات الرب بل المعطلة لذاته وهو عند التحقيق من أفسد الخيالات ولاحول ولاقوة إلا بالله فإن الإشراك قد ضل به كثير من الناس كما قال الخليل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ

إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس [إبراهيم 35-36] وإذا شرح الله صدر العبد للإسلام يتعجب غاية العجب ممن ضل عقله حتى أشرك كما روي أن بعض الناس قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لهم عقول يعني لمشركي قريش فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم عقول أمثال الجبال ولكن كادها باريها وروي أن خالد بن الوليد

لما هدم العزى وكانت عند عرفات قال يا رسول الله عجبت من أبي وعقله كان يجيء إلى هذه العزى فيسجد لها وينسك لها ويحلق لها رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك عقول كادها باريها ولهذا يعترف المشركون بالضلال يوم القيامة كما قال تعالى فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ {99} [الشعراء 94-99] قال تعالى عن قوم

عاد الذين كانوا من أعظم بني آدم وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {26} [الأحقاف 26] وهذه الشبهة وإن تنوعت عباراتها هي التي ذكرها الأئمة أنها أصل كلام الجهمية كما ذكر الإمام أحمد حيث قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرًا كثيرًا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل التِّرْمِذ

وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم السُّمَنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهًا قال جهم نعم فقالوا هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا

قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مَجَسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ذلك أن زنادقة

النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسُّمَني ألست تزعم أن فيك روحًا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا

قال فهل وجدت له حسًّا أو مجسًّا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان فهذا الذي حكاه الإمام أحمد من مناظرة السُّمَنية المشركين للجهم هو كما ذكره أهل المقالات والكلام عنهم أنهم لا يقرون من العلوم إلا بالحسيات ولكن قد يقول بعض الناس إنهم أرادوا بذلك أن ما لا يدركه الإنسان بحسه فإنه

لا يعلمه حتى يقولوا عنهم إنهم ينكرون المتواترات والمجربات والبديهات وهذا والله أعلم غلط عليهم كما غلط هؤلاء في نقل مذهب السوفسطائية فزعموا أن فرقة من الناس تنكر وجود شيء من الحقائق ومن المعلوم أن أمة يكون لهم عقل يفارقون به المجانين لا يقولون هذا ولكن قد تقع السفسطة في بعض الأمور وبعض الأحوال وتكون كما فسرها بعض الناس أن السفسطة هي كلمة معربة وأصلها

يونانية سوفسقيا ومعناها الحكمة المموهة فإن لفظ سوفيا يدل في لغتهم على الحكمة ولهذا يقولون فيلاسوفا أي محب الحكمة فلما كان من القضايا ما يعلم بالبرهان ومنه ما يثبت بالقضايا المشهورة وبعضها يناظر فيه بالحجج المسلمة وبعضها تتخيله النفس وتشعر به فيحركها وإن لم

تكن صادقة وهي القضايا الشعرية ومنها ما يكون باطلاً لكن يشبه الحق فهذه الحكمة المموهة هي المسماة بالسفسطة عند هؤلاء وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع فهؤلاء السمنية يكون قولهم إن مالا يدرك بالحواس لا يكون له حقيقة ثم الرجل قد يعلم ذلك بحواسه وقد يعلم ذلك بإِخبار من عَلِم ذلك بحواسه ويدل على ذلك أن هؤلاء قوم موجودون فالرجل منهم لابد أن يقر بوجود أبويه وجده وولادته وحوادث بلده الموجودة قبله وما يحتاج إليه من أخبار الناس والبلاد وهذه الأمور كلها لا يعلمها أحدهم إلا بالخبر فإنه لا يدرك بحسه ولادته وإحبال أبيه لأمه ونحو ذلك لكن المخبرون يعلمونها بالإحساس ولا يتصور أن يعيش في العالم أمة يكذبون بكل ما لا يحسونه بل هذا يلزم أن بعضهم لا يزال غير مصدق لبعض في معاملاتهم واجتماعاتهم والإنسان

مدني بالطبع لا يعيش إلا مع بني جنسه ومن لم يقر إلا بما أحسه لم يمكنه الاستعانة ببني جنسه في عامة مصالحه وإذا كان مقصودهم أن مالا يحس به لم يكن موجودًا كان من الجواب السديد لهم أن يقال لهم إلهي سبحانه يمكن إحساسه فتمكن رؤيته وسماع كلامه وقد كلم في الدنيا بعض خلقه وسوف يكلم عباده ويرونه في الدار الآخرة فإن كانوا ينكرون العلم والإقرار بكل ما لا يحسه الإنسان أمكنه أن يقرر عليهم العلم بالخبريات

والمجربات والبديهيات وغير ذلك وإن كانوا يقولون إن كل موجود فلابد أن يمكن إحساسه فهذا الذي قالوه هو مذهب الصفاتية كلهم الذين يقرون بأن الله يرى في الدار الآخرة وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها لكنه هنا ضل فظن أن الله لا يمكن إحساسه ولا رؤيته واحتاج حينئذ إلى إثبات موجود لا يمكن إحساسه فزعم أن روح بني آدم كذلك لا يمكن إحساسها بشيء من الحواس وقاس وجود الله على وجود الروح من هذا الوجه وهذه هي الطريقة التي سلكها هذا المؤسس في أول تأسيسه حيث أثبت وجود مالا يكون داخل العالم ولاخارجه بما قال من قال من الفلاسفة وموافقيهم من المسلمين إن الروح الذي في بني آدم لا داخل العالم ولاخارجه ولا يمكن إحساسها فقول جهم هو قول هؤلاء كما قال تعالى

وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] وقال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {50} وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {51} كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {52} أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {53} [الذاريات 50-53] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 112] قال الإمام أحمد وجد الجهم ثلاث آيات من القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا واتبعه على قوله

رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بوصفين مختلفين وفي نسخة لا يكون شيئين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون

وفي نسخة ولا له نور ولا له جسم ليس هو معلوم أو معقول وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي يكون لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئًا أو قال لا يأتون بشيء ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق

فقلنا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا أو قال لا تأتون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنالهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يتكلم ولا يكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر

وفي نسخة إنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله ثم ذكر أحمد الكلام في مناظرتهم في القرآن والرؤية والصفات والعرش ونحو ذلك وكان الأئمة كالإمام أحمد والفضيل بن عياض

وغيرهما إذا أرادوا أن يذكروا ما يستحقه الله من التنزيه ذكروا سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن وأنها مستوفية كل ما ينفى في هذا الباب ولهذا لما ناظرت الجهمية الإمام أحمد كأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث وغيره من البصريين والبغداديين وذكروا الجسم وملازمه ذكر لهم أحمد سورة الإخلاص فإن ما فيها من التنزيه هو الحق دون ما ادخلوه في لفظ الجسم من الزيادات الباطلة وذلك أن مايذكرونه يدور على أصلين نفي التشبيه ونفي التجسيم الذي هو التركيب والتأليف ولهذا يذكر من العقائد التي ينفى فيها التنزيه الاعتقاد السليم من التشبيه والتجسيم

فأصل كلامهم كله يدور على ذلك ولا ريب أنهم نزهوا الله بنفي هذين الأمرين عن أمور كثيرة يجب تنزيهه عنها وما زادوه من التعطيل فإنما قصدوا به التنزيه والتقديس وإن كانوا في ذلك ضالين مضلين وسورة الإخلاص تستوفي الحق من ذلك فإن الله يقول قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 1-2] وهذان الاسمان الأحد والصمد لم يذكرهماالله إلا في هذه السورة وهما ينفيان عن الله ماهو منزه عنه من التشبيه والتمثيل ومن التركيب والانقسام والتجسيم فإن اسمه الأحد ينفي المثل والنظير كما تقدم الكلام على ذلك في أدلته السمعية وبيّنا أن الأحد في أسماء الله ينفي عنه أن يكون له مثل في شيء من الأشياء فهو أحد في كل ما هو له واسمه الصمد ينفي عنه التفرق والانقسام والتمزق وما يتبع ذلك من تركيب ونحوه فإن اسم الصمد يدل على الاجتماع وكذلك كل واحد من معنييه اللذين يتناولهما هذا الاسم

وهو أن الصمد هو السيد الذي كمل سؤدده ويصمد إليه في الأمور والصمد هو الذي لا جوف له كما يقال الملائكة صمد والآدمي أجوف والمصمت ضد الأجوف فإن اسم السيد يقتضي الجمع والقوة ولهذا يقال السواد هو اللون الجامع للبصر والبياض اللون المفرق للبصر ويقال للحليم السيد لأن نفسه تجتمع فلا تتفرق ولا تتميز من الغيظ والواردات عليها وكذلك هو الذي يصبر على الأمور

والصبر يقتضي الجمع والحبس والضم وضده الجزع الذي يقتضي التفرق وكذلك التعزي والتعزز وعززته فتعزى أو هو لا يتعزى هو ضد الجزوع فإن التعزز والتعزي يقتضي الاجتماع والقوة والجزع يقتضي التفرق والضعف والإنسان له في سؤدده وعزته حالان أحدهما أن يستغني بنفسه عن غيره ويعز نفسه عن غيره فلا يحتاج إلى الغير الذي يحتاج إليه غيره لغناه ولايخاف منه لعزته والثاني أن يكون هو قد احتاج إليه غيره ويكون قد أعز غيره فغلبه وأعزه فمنعه فيكون الناس قد صمدوا له أي قصدوه وأجمعوا له وهذا هو الصمد السيد وذلك إنما يكون من كمال سؤدده وصمديته التي تنافي تفرقه وتمزقه وضعفه ولفظ الصمد يدل على أنه لا جوف له وعلى أنه السيد ليس كما تقول طائفة من الناس أن الصمد في

اللغة إنما هو السيد ويتعجبون مما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الصمد هو الذي لا جوف له فإن أكثر الصحابة والتابعين فسروه بهذا وهم أعلم

باللغة وبتفسير القرآن ودلالة اللفظ على هذا أظهر من دلالتها على السؤددة وذلك أن لفظ ص م د يدل على الاجتماع والانضمام المنافي للتفرق والخلو والتجويف كما يقال صمد المال وصمده تصمدًا إذا جمعه وضم بعضه إلى بعض ومنه في الاشتقاق الأكبر الصمت والتصمت فإن التاء والدال أخوان متقاربان في المخرج والاشتقاق الأكبر هو ما يكون فيه الكلمتان قد اشتركت في جنس الحرف

فالكلمتان اشتركتا في الصاد والتاء والتاء والدال أخوان يقال صمت صماتًا وصموتًا وأصمت وإصماتًا وهو جمع وضم ينافي الانفتاح والتفريج ولهذا يقال للعظام ونحوها من الأجسام منها أجوف ومنها مُصْمَت فظهر أن اسم الأحد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه عنه من التشبيه ومماثلة غيره له في شيء من الأشياء واسمه الصمد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه من الانقسام والتفرق ونحو ذلك مما ينافي كمال صمديته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما ما تزيده المعطلة على ذلك من نفي صفاته التي وصف بها نفسه التي يجعلون نفيها تنزيهًا وإثباتها تشبيهًا ومن نفي حده وعلوه على عرشه وسائر صفاته التي وصف بها نفسه يجعلون نفيها تنزيهًا ويجعلون إثبات ذلك إثباتًا لانقسامه

وتفرقه الذي يسمونه تجسيمًا وتركيبًا فهذا باطل وليتدبر هذا المقام فإنه من أعظم الأشياء منفعة في أعظم أصول الدين الذي جاءت به هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن وفيه عظم اضطراب الخلائق وكثر فيه تعارض الحجج وتفرق الطوائف وإذا كانت هذه الشبهة ونحوها هي أصل ضلال الأولين والآخرين لما فيها من ألفاظ المُشْبَهة المُجْمَلة كما قال الإمام أحمد في وصف الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة قال فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُشَبِّهون عليهم فطريق حل مثلها وأمثالها ما تقدم من الكلام على الألفاظ المتشابهة المجملة التي فيها

والتي أحدثوها وليس لها أصل في كتب الله ولهذا كان هؤلاء من الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر 35] إذ السلطان هو كتاب الله فمن جادل بغير سلطان من الله كان ممن ذمه الله في الكتاب قال الله تعالى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} [غافر 35] قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {56} [غافر 56] فإن هذه الألفاظ المُشْتَبِهة متى استفسر عن معانيها وفُصِّلَت زال ما في حجتهم من الاشتباه وتبين أنها حجة داحضة وإن كان هؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] وقال تعالى أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ {35} [الشورى 34-35]

الوجه الثاني أن قوله من ينفي الجوهر يقول إن كل ما كان يشار إليه بحسب الحس بأنه هاهنا أو هناك فلابد لأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا إنما يريد هؤلاء بكونه منقسمًا أنه يمكن أن يتميز في نفسه بعضه عن بعض أو يتميز منه شيء عن شيء أو العقل يميز منه شيئًا من شيء وليس لهذا التميز حد يُوقَفُ عنده لا يقولون إن فيه انقسامًا غير هذا بل يقولون إنه واحد في نفسه كما أنه واحد في الحس ويقولون إن الجسم منقسم إلى بسيط وإلى مركب وأما مثبتوه فلهم قولان أحدهما أنه أيضًا واحد في نفسه وفي الحس ولكنه قسمته تنتهي إلى حد والثاني أن

فيه أجزاء موجودة فالمشار إليه بحسب الحس لايفضي إلى الأمرين جميعًا بل على أنه إن كان منقسمًا كما ذكر لم يفض إلى شيئين بل غايته أن يفضي إلى ما ذكره من التركيب الذي تقدم الكلام عليه وإن لم يكن منقسمًا وذلك عنده لايكون إلا على مثبتة الجوهر الفرد أفضى إلى أن يكون في غاية الحقارة وهذا الجوهر الفرد إما أن يكون منتفيًا في نفس الأمر وإما أن يكون ثابتًا فلا يقول العاقل إن رب العالمين بقدره فلم يبق ما يقال إلا ما ذكره من الانقسام والتركيب وقد تقدم الكلام عليه وثبت أنه لا يفضي إلى هذين الأمرين جميعًا بل إنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط لكن يفضي إلى هذا على تقدير وإلى هذا على تقدير آخر فظهر أن كونه يشار إليه بالحس لا يفضي إلى الأمرين اللذين ذكرهما وإنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط الوجه الثالث السؤال الذي أورده وهو أنه لم لا يجوز أن

يكون غير منقسم ولا يكون بقدرالجوهر الفرد بل يكون واحدًا عظيمًا منزهًا عن التركيب والتأليف والانقسام وهذا ليس قول من ذكره من الكرامية فقط بل إذا كان هو قول من يقول إنه فوق العرش وهوجسم فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس بجسم بطريق الأولى والأحرى فإن نفي التركيب والانقسام على القول بنفي الجسم أظهر من نفيه على القول بثبوت الجسم فإذًا على ما ذكره هذا السؤال يورده على كل من يقول إنه فوق العرش ويقول مع ذلك إنه ليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف لا يحصون من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم بل قد ذكر الأشعري أن هذا قول أهل السنة وأصحاب الحديث فقال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه

الأشياء وأنه على العرش وقد تقدم قوله في ذلك وقول غيره وهؤلاء طوائف عظيمة وهم أجلّ قدرًا عند المسلمين ممن قال إنه ليس على العرش فإن نفاة كونه على العرش لا يعرف منهم إلا من هو مأبون في عقله ودينه عند الأمة وإن كان قد تاب من ذلك بل غالبهم أو عامتهم حصل منهم نوع ردة عن الإسلام وإن كان منهم من عاد إلى الإسلام كما ارتد عنه قديمًا شيخهم الأول جهم بن صفوان وبقي أربعين يومًا شاكًّا في ربه

لا يقر بوجوده ولا يعبده وهذه ردة باتفاق المسلمين وكذلك ارتد هذا الرازي حين أمر بالشرك وعبادة الكواكب والأصنام وصنف في ذلك كتابه المشهور وله غير ذلك بل من هو أجل منه من هؤلاء بقي مدة شاكًّا في ربه غير مقر بوجوده حتى آمن بعد ذلك وهذا كثير غالب فيهم ولاريب أن هذا أبعد العالمين عن العقل والدين فإذا كان هؤلاء يناظرون ويخاطبون ويستعد لرد قولهم الباطل لما احتيج إلى ذلك فالذين هم أولى بالعقل والدين منهم أولى منهم بذلك ونحن نورد من كلامهم ما تبين به أن جانبهم أقوى من جانب النفاة وليس لنا غرض في تقرير ما جمعوه من النفي والإثبات في هذا المقام بل نبين أنهم في ذلك أحسن حالاً من نفاة أنه على العرش فيما جمعوه من النفي والإثبات وقد أجاب

هؤلاء عما ألزمهم به النفاة من التجسيم الذي هو التركيب والانقسام كقول القاضي أبي بكر فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهًا ويدًا قيل قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن 27] وقوله مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا فإن

فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لاتعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة قلنا لا يجب هذا كمالا يجب إذا لم يعقل حيًّا عالمًا قادرًا إلا جسمًا أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله ولا يجب في كل شيء كان قائماً بنفسه أن يكون

جوهرًا لأنا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك قال وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضًا واعتلوا بالوجود فإن قال قائل أتقولون إنه في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستوٍ على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16}

[الملك 16] قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها مالم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله وقال أبو الحسن الأشعري يقال لهم ما أنكرتم أن يكون الله عنى بقوله بِديَّ يدين ليستا نعمتين فإن قالوا

لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعْتِلاَلِكُمْ ناقضين وإن أثبتم حيًّا

الرازي وطائفة يثبتون الصفات ويقولون هو واحد غير مركب ولا ينقسم فكذلك يقال إن له قدرا وهو واحد غير مركب ولا ينقسم

لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي خبر الله عنْهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي وكذلك يقال لهم لم تجدوا حكيمًا قديرًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فيه فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد الوجه الرابع قوله عن المنازع لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى وحده منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا قوله العظيم يجب أن يكون منقسمًا وذلك ينافي

كونه واحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد

يقال له هؤلاء قد يقولون لا هو عينه ولا هو غيره كما عرف من أصولهم أن غيرالشيء ما جاز مفارقته له وأن صفة الموصوف وبعض الكل لا هو هو ولا هو غيره فطائفة هذا المؤسس هم ممن يقولون بذلك وحينئذ فلا يلزم إذا لم يكن عينه أن يكون مغايرًا له فلا يفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد وإذا جاز أن يقولوا إن هذا الموصوف الذي له صفات متعددة هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم جاز أيضًا أن يقال إن الذي له قَدْر هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم وإن كان في الموضعين يمكن أن يشار إلى شيء منه فلا يكون المشار إليه هو عين الآخر فإن قيل فهذا يقتضي أن يكون كل جسم غير مركب ولا منقسم والغرض في هذا السؤال وخلافه فإن هذا السؤال فرق فيه بين العظيم الشاهد والعظيم الغائب وان الشاهد منقسم بخلاف الغائب

منازعو الرازي يلزمونه بالصفات التي أثبتها بمثل ما ذكره في العظيم والكبير

قيل هذا الجواب هو مبني على أن غير الشيء ما جاز مفارقته له وكل مخلوق فإن الله سبحانه قادر على أن يفرق بعضه عن بعض وإذا جاز مفارقة بعضه لبعض جاز أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أن علمه وقدرته لما كان قيام هبه جائزًا لا واجبًا كان عرضًا أي عارضًا للموصوف لا لازمًا له والرب تعالى لا يجوز أن يفارقه شيء من صفاته الذاتية ولا يجوز أن يتفرق بل هو أحد صمد إذا كان كذلك لم يلزم عند هؤلاء أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أصلوه الوجه الخامس أنهم قد ألزموا المنازع مثلما ذكره وقالوا إذا كان حيًّا عالمًا قادرًا ولم يعقل في الشاهد من يكون كذلك إلا جسمًا منقسمًا مركبًا وقد أثبته المنازع حيًّا عالمًا قادرًا ليس بجسم منقسم مركب فكذلك يجوز أن يكون إذا كان عظيمًا وكبيرًا وعليًّا ولم يعقل في الشاهد عظيم وكبير وعليٌّ إلا

ما هو جسم مركب منقسم لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا إلا إذا كان وجب أن يكون كل حي عليم قدير جسمًا مركبًا منقسمًا وكذلك يقولون لمن يقول إن حياته وعلمه وقدرته أعراض وكذلك يقول هؤلاء لمن يسلم إثبات الصفات فيقال إذا كان القائم بغيره من الحياة والعلم والقدرة وإن شارك سائر الصفات في هذه الخصائص ولم يكن عندك عرضًا فكذلك القائم بنفسه وإن شارك غيره من القائمين بأنفسهم فيما ذكرته لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا ولا فرق بين البابين بحال فإن المعلوم من القائم بنفسه أنه جسم ومن القائم بغيره أنه عرض وأن القائم بنفسه لابد أن يتميز منه شيء عن شيء والقائم بغيره لابد أن يحتاج إلى محله فإذا أثبت قائمًا بغيره يخالف ما علم من حال القائم بنفسه في ذلك فكذلك لزمه أن يثبت قائمًا بنفسه يخالف ما علم من حال القائمين بأنفسهم وجماع الأمر أنه سبحانه قائم بنفسه متميز عن غيره وله أسماء وهو موصوف بصفات فإن كان كونه عظيمًا وكبيرًا موجبًا لأن يكون كغيره من العظماء الكبراء في وجوب الانقسام

ما ذكره الرازي من التقسيم على العظيم يرد نظيره في كل ما يثبت للرب

الممتنع عليه فكذلك كونه حيًّا عالمًا قادرًا وله حياة وعلم وقدرة وسنتكلم على قوله إن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب وأما ما ذكره من التقسيم فيقال له في الوجه السادس أن ما ذكرته من التقسيم يَرِدُ نظيره في كل ما يثبت للرب فإنه يقال إذا أشرناإلى صفة أو معنى أو حكم كعلمه وقدرته أو عالميته أو قادريته أو وجوبه ووجوده أو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً ونحو ذلك فإما أن تكون الصفة أو المعنى أو الحكم الآخر هو إياه أو هو غيره فإن كان هو إياه لزم أن يكون كونه حيًّا هو كونه عالمًا وكونه عالمًا هو كونه قادرًا وكونه موجودًا هو كونه فاعلاً وكونه فاعلاً هو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً وهذا يفضي إلى تجويز جعل المعاني المختلفة معنى واحدًا وأن يكون كل عرض وصفة قامت بموصوف صفة واحدة وهذا شك في البديهيات فهذا نظير ما ألزموه للمنازع فإنه يجب الاعتراف بثبوت معنيين ليس المفهوم من أحدهما هو

المفهوم الآخر وهذا قد قررناه فيما تقدم فإن كان ثبوت هذه المعاني يستلزم التركيب والانقسام كان ذلك لازمًا على كل تقدير وإن لم يكن مستلزمًا للتركيب والانقسام لم يكن ما ذكره مستلزمًا للتركيب والانقسام فإن مدار الأمر على ثبوت شيئين ليس أحدهما هو الآخر وهذا موجود في الموضعين وهذا يتقرر بالوجه السابع وهو أن يقال المراد بالغيرين إما أن يكون ما يجوز وجود أحدهما دون الآخر أو ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فإن كان المراد بالغيرين هو الأول لم يجب أن يكون ما فوق المشار إليه غيره إلا إذا جاز وجود أحدهما دون الآخر وهذا ممتنع في حق الله تعالى بالاتفاق وبأنه واجب الوجود بنفسه على ما هو عليه كما هو مقرر في موضعه ثم قد يقال في سائر المعاني إنه يجوز وجود أحدهما دون

الآخر فيجوز حصول الوجود دون الوجوب أو دون الفاعلية أو دون العلم والعناية ودون كونه حيًّا عالمًا قادرًا ونحو ذلك وإن كان المراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر كالإحساس بأحدهما دون الآخر كما ذكر من جَوَّزَ الإشارة إلى نقطة دون ما فوقها فيقال لا ريب في جواز العلم ببعض المعاني الثابتة لله دون الآخر كماقد يعلم وجوده دون وجوبه ويعلم وجوبه دون كونه فاعلاً ويعلم ذلك دون العلم بكونه حيًّا أو عالمًا أو قادرًا أو غير ذلك وإذا كانت المغايرة ثابتة بهذا المعنى على كل تقدير وعند كل أحد ولا يصح وجود موجود إلا بها وإن كان واحدًا محضًا كان بعد هذا تسمية ذلك تركيبًا أو تأليفًا أو غير تركيب ولا تأليف نزاعًا لفظيًّا لايقدح في المقصود الوجه الثامن أن يقال اصطلاح هؤلاء أجود فإنه إذا ثبت أن الموجودات تنقسم إلى مفرد ومؤلف أو إلى بسيط ومركب أو إلى واحد وعدد علم أن في الموجودات ما ليس بمركب ولا مؤلف ولا عدد وهذه المعاني لا يخلو منها شيء من الموجودات فعلم أن هذه المعاني لا تنافي كون الشيء واحدًا ومفردًا فيما إذا كان مخلوقًا فكيف ينافي كون الخالق واحدًا

فردًا غير مركب ولا مؤلف فهذا الاعتبار المعروف الذي فطر الله عليه عباده يوضح هذا أنا قد قدمنا أن اسمه الأحد ينفي أن يكون له مِثل في شيء من الأشياء فهوينفي التشبيه الباطل واسمه الصمد ينفي أن يجوز عليه التفرق والانقسام وما في ذلك من التركيب والتجسيد وذلك لأنه سبحانه وصف نفسه بالصمدية كما وصف بالأحدية وهو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] في جميع صفاته بل هو كامل في جميع نعوته كما لا يشبهه فيها شيء فهو كامل الصمدية كما أنه كامل الأحدية والواحد من الخلق قد يوصف بأنه واحد كما قال

وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء 11] وكما في ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ويوصف بالأحد مقيدًا أو مطلقًا كقوله فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى [النحل 58] وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ويوصف أيضًا بالصمد وكما قال يحيى بن أبي كثير الملائكة صمد والآدميون جوف وكما قال الشاعر

أَلاَ بَكَّرَ النَّاعي بخير بني أشد بعمرو بن مسعودٍ وبالسيدِ الصمد وكما قال فأنت السيِّدُ الصَّمَدُ

وكذلك لما في العبد من معنى الوحدة ومعنى الصمدية مع أنه جسم من الأجسام فعلم أن كون الموجود جسمًا لا يمنع أن يكون واحدًا وأن يكون أحد الأجسام وأن يكون صمدًا مع أن كونه جسمًا لا يمنع أن يكون حيًّا عالمًا قادرًا لكن العبد ليس له الكمال الذي يستحقه الله في شيء من صفاته ولاقريب من ذلك فالله تعالى إذا وصف أنه واحد صمد عالم قادر كان في ذلك على غاية الكمال الذي لا يماثله في شيء منه شيء من الأشياء لكن إذا كان ما ذكروه من المعاني التي يجعلونها كثرة وعددًا وتركيبًا ثابتة لكل موجود وذلك لا يمنع أن يكون المخلوق واحدًا فكيف يمتنع ذلك أن يكون الإله الذي ليس كمثله شيء أحدًا وذلك يظهر بالوجه التاسع وهو أن هذه المعاني التي يعلم

القلب أن أحدها ليس هو الآخر أمر لابد منه كما قد علم على كل تقدير ونفي هذه نفي لكل موجود وهو غاية السفسطة ونهايتها وذلك يجمع كل كفر وضلال ويخالف كل حس وعقل فهذا التميز إن أوجب أن تكون الحقيقة في نفسها فيها نوع من التميز لم يكن هذا منافيًا لما هو الواجب والواقع من الوحدانية فإن ذلك إذا لم ينف أن يكون كثير من المخلوقات واحدًا فأن لا ينفي ذلك في الخالق أولى وأحرى مع أن أحديته لها من الخصائص ما لا يجوز مثله لشيء من المخلوقات فإنه لا مثل له في شيء من الأشياء وأما غيره فله الأمثال قال الله تعالى وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] قال فتعلمون أن خالق الأزواج واحد وإن قيل كما يقوله بعض الناس إن هذا الامتياز

والتعدد الذهني لا يوجب أن يكون كذلك في الخارج وجعلوا هذا مثل الاتحاد الذي في المعاني الكلية فإنه كما أن الذهن يدرك إنسانية واحدة وجسمًا واحدًا كليًّا عامًّا أو مطلقًا يطابق الأفراد الموجودة في الخارج مع أنه ليس في الخارج شيء إلا موجود بعينه لا يوجد فيها ما هو كلي عام ولكن لما بين الحقائق من التشابه والتماثل يوجد في هذا نظير ما يوجد في هذا فهو باعتبار النوع لا باعتبار العين بل هو نظيره باعتبار العين فإذا كان هذا التشبيه والتمثيل الموجود في الخارج أوجب للذهن إدراك معنى عام كلي يجمع الأمرين وإن لم يكن في الخارج عامًّا كليًّا فكذلك ما يوجد في العين الواحدة مما يظن أنه أجزاء كم وكيف قد يقال للذهن هو الذي يفرق تلك ويميز بعضها عن بعض وإلا فهي في

نفسها واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ولا تركيب فالذهن هو الذي يأخذ الشيء الواحد فيفصله ويركبه بعد التفصيل كما أنه هو الذي يأخذ الشيئين فيمثل أحدهما بالآخر ويجعلهما واحدًا بعد التمثيل فما يذكر من التشبيه والتمثيل الذي يعود إلى معنى عام كلي يشتركان فيه وما يذكر من الأجزاء والصفات الذي يعود إلى معان تتميز في الذهن فيركبها ويؤلفها هو الذي عليه مدار باب التشبيه والتمثيل وباب التجسيم الذي هو التركيب وفي أحدهما يجعل الذهن العدد واحدًا وفي الآخر يجعل الواحد عددًا لكن باعتبارين صحيحين لا يخالف ما هو عليه الحقيقة في نفس الآخر لهذا تغلط الأذهان هنا كثيرًا لأن بين ما في الأذهان وما في الأعيان مناسبة ومطابقة وهو من وجه مطابقة العلم للمعلوم ومخالفة من وجه وهوأن ما في النفس من العلم ليس مساويًا للحقيقة الخارجة فلأجل ما بينهما

من الائتلاف والاختلاف كثر بين الناس الائتلاف والاختلاف ومن فهم ما يجتمعان فيه ويفترقان زاحت عنه الشبهات في هذه المحارات والغرض في هذا الوجه الذي يقال في مواقع الإجماع بين الخلائق التي لابد من إثبات شيء منها لكل عاقل في كل موجود يقال في مواقع النزاع بين مثبتة الصفات ونفاتها ولهذا يقال ما من أحد ينفي صفة من الصفات التي وردت بها النصوص أو يتأولها على خلاف مفهومها فرارًا من محذور ينفيه إلا ويلزمه فيما أثبته نظير مافر منه فيما نفاه فسبحان من لا ملجأ منه إلا إليه اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

وهذا القدر وإن كان فيه رد على الطائفتين فيما نفته بغير حق فلا يضر في هذا المقام فإن المقصود هنا حاصل به وهو أن هؤلاء المثبتة لعلو الله على عرشه مع نفيهم ما ينفونه يلزمون نفاة العلو على العرش بأعظم مما يلزمونهم به الوجه العاشر قوله أن نقول إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل بناء على البرهان

القطعي وهو ما ذكره من التقسيم فيقال له كل برهان قطعي يستعملونه في حق الله تعالى فلابد وان يتضمن نوعًا من قياس الغائب على الشاهد فإنهم إنما يمكنهم استعمال القياس الشمولي الذي هو القياس

المنطقي الذي لابد فيه من قضية كلية سواء كانت القضية جزئية حملية أو كانت شرطية متصلة تلازمية أو كانت شرطية منفصلة عنادية تقسيمية فإنه إذا قيل الواحد لا يصدر

عنه إلا واحد وقيل لو كان يشار إليه بالحس لكان إما منقسمًا أو غير منقسم أو لو كان فوق العرش لكان إما كذا وإما كذا ولكان جسمًا أو غير ذلك فلابد في جميع ذلك من قضية كلية وهو أن كل واحد بهذه المثابة وأن كل ما كان مشارًا إليه بالحس لا يخرج عن القسمين وان كل ما كان فوق شيء فإما أن يكون كذا وكذا ولابد أن يدخلوا الله تعالى في هذه القضايا العامة الكلية ويحكمون عليه حينئذ بما يحكمون به على سائر الأفراد الداخلة في تلك القضية ويشركون بينها وبينه في ذلك ومشاركته لتلك الأفراد في ذلك الحكم المطلق والمعلق على شرط ومشابهته لها في ذلك هو القياس بعينه

ولهذا لما تنازع الناس في مسمى القياس فقيل قياس الشمول أحق بذلك من قياس التمثيل كما يقوله ابن حزم وطائفة وقيل بل قياس التمثيل أحق باسم القياس من قياس الشمول كما يقوله أبو حامد وأبو محمد المقدسي وطائفة

وقيل بل اسم القياس يتناول القسمين جميعًا حقيقة كان هذا القول أصوب فما من أحد يقيس غائبًا بشاهد إلا ولابد أن يدخلهما في معنى عام كلي كما في سائر أقيسة التمثيل وما من أحد يدخل الغائب والشاهد في قياس شمول تحت قضية كلية إلا ولابد أن يشرك بينهما ويشبه أحدهما بالآخر في ذلك فقول القائل لو كان عظيمًا مشارًا إليه لكان منقسمًا لأنا لا نعلم عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك أو لا نعقل عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك هو كقوله لأن كل عظيم فإذا أشرنا فيه إلى نقطة فإما أن تكون هي ما فوقها وتحتها أولا تكون هي ذلك فإنه

في الموضعين لابد أن يتصور عظيمًا مطلقًا مشارًا إليه ويُشْرك بين العظيم الشاهد المشار إليه وبين العظيم الغائب المشار إليه في ذلك لكن قوله لا يعقل أبلغ من قوله لانعلم أو لم نشهد لأن قوله لا نعلم أو لم نشهد إنما ينفي ما قد علمه وشهده دون ما لم يعلمه ويشهده بعد وقله لا يعقل ينفي أن يكون معقولاً في وقت من الأوقات ومتى لم يعقل العظيم المشار إليه إلا كذلك فالبرهان الشمولي إنما هو بناء على ما تصوره المستدل به وعَقَلَه في معنى العظيم المشار إليه فإن فرضية النقطة في ذلك العظيم المشار إليه وقوله إما أن تكون هي الأخرى أو لاتكون إنما فرض ذلك وقَدَّره فيما عقله وعلمه فارتسم في ذهنه وهو الذي يعقله من معنى العظيم المشار إليه فإن جاز أن يثبت الغائب على

خلاف ما يعقل بطل هذا البرهان وكان لمنازعه أن يُثبت واحدًا عظيمًا مشارًا إليه منزهًا عن التركيب وإن كان ذلك على خلاف ما يعقل من معنى العظيم المشار إليه وإن كان لا يثبت الغائب إلا على ما يعقل بطلت مقدمة الكتاب وبطل قوله إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه وبإثبات موجودين ليس أحدهما متصل بالآخر ولا منفصلاً عنه وهذا كلام في غاية الإنصاف لمن فهمه فإنا لم نقل إن هذا البرهان باطل لكن قلنا صحة مثل هذا البرهان يستلزم صحة مذهب الذي يقول إنه خارج العالم ويمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن كان البرهان صحيحًا صح قوله إنه فوق العرش وإن كان البرهان باطلاً لم يدل على أنه ليس فوق العرش

ليس للرازي الاستدلال بالدليل العقلي لأنه أبطل الاستدلال في الإلهيات بالعقل

وهذا يتقرر بالوجه الحادي عشر وهو أن يقال ما قاله المنازع في مقدمة الكتاب مثل قوله الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ومنهجًا آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وتقريره لما ذكره عن معلم الصابئة المبدلين أرسطو حيث قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى

فيقال له قولك إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أولا يحصل هذا هو العقل الذي يهتدي به إلى معرفة الجسمانيات فإن الكلام في النقطة والخط وما يتبع ذلك من علم الهندسة وهو متعلق بمقادير الأجسام فإن كان مثل هذا الدليل حقًّا في أمر الربوبية بطلت تلك المقدمة التي قررت فيها أنه لا ينظر في الأمور الإلهية بالعقل الذي به تعرف الجسمانيات وإذا بطلت صح قول منازعك أن وجود موجود لا داخل العالم ولاخارجه ممتنع ومتى بطلت كان قول منازعك معلومًا بالبديهة والفطرة الضرورية التي لا معارض لها حيث لم يعلم فسادها إلا إذا بطل حكم العقل الذي به تعرف الجسمانيات في أمر الربوبية وإذا كان هذا الدليل لما أنه متعلق بالجسمانيات لا يجوز الاستدلال بمثله في أمر الربوبية فقد بطل هذا الدليل ولم يكن

لك طريق إلى إفساد قول من يقول إنه فوق العالم وفوق العرش وإنه مع ذلك ليس بمركب ولا مؤلف أو يقول ليس بجسم كما ذكرنا القولين فيما تقدم يوضح ذلك الوجه الثاني عشر هو أن علوه وكونه فوق العرش هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى والعلم والقول في صفات الموصوف يتبع العلم والقول في ذاته فإن كان مثل هذا الدليل حجة في صفاته نفيًا وإثباتًا كان حجة مثل حجة في ذاته نفيًا وإثباتًا لأن العلم بالصفة دون العلم بالموصوف محال فإذا قال لو كان فوق العرش لكان منقسمًا مركبًا مؤلفًا فإنما هو حكم على ذاته بأنها لا تكون فوق العرش إلا إذا كانت منقسمة مركبة مؤلفة والعلم بذلك ليس أظهر في العقل من العلم بأنه إذا كان موجودًا لم يكن إلا داخل العالم

أو خارجه فإن جميع ما ذكره من الحجج في معارضة قولهم إذا كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارجه هو بعينه يقال في قوله إذا كان فوق العرش مشارًا إليه فإما أن يكون منقسمًا وإما أن يكون حقيرًا بل تلك يقال فيها إنا نعلم بالاضطرار أنه فوق العالم ونعلم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه فهاتان قضيتان معينتان ونعلم بالاضطرار أن الموجودين فإما أن يكون أحدهما داخلاً في الآخر بحيث هو كالعرض في الجسم وإما أن يكون مباينًا عنه ونعلم بالاضطرار أن وجود موجود لا يكون داخلاً في الآخر ولا خارجًا عنه محال فهذان علمان عامان مطلقان فإن جاز دفع هذه بأن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من

كون الله تعالى فوق العرش لا منقسم ولا حقير أظهر للعقل من كونه مرئيا لا في جهة

الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال فقول القائل إذا كان فوق العرش فإما أن يكون منقسمًا مركبًا وإما أن يكون بقدر الجوهر الفرد أولى بالدفع أن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال وكون الشيء الذي فوق غيره والذي يشار إليه بالحس لابد أن يكون منقسمًا أو حقيرًا هو من حكم الحس والخيال قطعًا يقرر ذلك الوجه الثالث عشر وهو أنك وسائر الصفاتية تثبتون رؤية الرب بالأبصار كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنك وطائفة معك تقولون إنه يرى لا في جهة ولا مقابلاً للرائي ولا فوقه ولا في شيء من جهاته الست وجمهور عقلاء بني آدم من مثبتة الصفاتية ونفاتها يقولون إن فساد هذا معلوم بالبديهة والحس ومن المعلوم أن كونه فوق

العرش غير منقسم ولا حقير أظهر للعقل من كونه مرئيًّا بالأبصار لا في شيء من الجهات الست فإن هذا مبني على أصلين كلاهما تدفعه بديهة العقل والفطرة أحدهما إثبات موجود لا في شيء من الجهات ولا داخل العالم ولا خارجه ولهذا كان عامة سليمي الفطرة على إنكار ذلك والثاني إثبات رؤية هذا بالأبصار فإن هذا يخالفك فيه من وافقك على الأول فإن كونه موجودً أيسر من كونه مرئيًّا فإذا كنت تجوز رؤية شيء بالأبصار لا مقابل للرائي ولا في شيء من جهاته الست فكيف تنكر وجود موجود فوق العالم وليس بمركب ولا بجزء حقير وهو إنما فيه إثبات وجوده على خلاف الموجود المعتاد من بعض الوجوه وذلك فيه إثباته على خلاف الموجود المعتاد من وجوه أعظم من ذلك ودليل ذلك أن جميع فطر بني آدم السليمة تنكر ذلك أعظم

الاعتراف بأن الله فوق العالم في العقل والدين أعظم بكثير من الاعتراف بأنه يرى في الآخرة

من إنكار هذا وأن المخالفين لك في ذلك أعظم من المخالفين لك في هذا فإن كون الرب فوق العالم اظهر في فطر الأولين والآخرين من كونه مرئيًّا بل العلم بالرؤية عند كثير من المحققين إنما هو سعي محض أما العلم بأنه فوق العالم فإنه فطري بديهي معلوم بالأدلة العقلية وأما دلالة النصوص عليه فلا يحصيها إلا الله وما وقع في هذا من الغلط يكشفه الوجه الرابع عشر هو أن معرفة القلوب وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها أن ربها فوق العالم ودلالة الكتاب والسنة على ذلك وظهور ذلك في خاصة الأمة وعامتها وكلام السلف في ذلك أعظم من كونه تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة أو أن رؤيته بالأبصار جائزة ويَشْهد لهذا أن الجهمية أول ما ظهروا في الإسلام في أوائل المائة الثانية وكان حقيقة قولهم في الباطن تعطيل هذه الصفات كلها كما ذكر ذلك الأئمة لايصفونه إلا بالسلوب المحضة التي لا تنطبق إلا على المعدوم وقد ذكر هذا

المؤسس أن جهمًا ينفي الأسماء كلها أن تكون معانيها ثابتة لله تعالى وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى أو أن يتكلم بالقرآن أو غيره أو يكون فوق العرش أو أن يكون موصوفًا بالصفات التي جاءت بها الكتب وعُلمت بدليل من الدلائل العقلية وغيرها لكن ما كانوا يظهرون من قولهم للناس إلا ما هو

أبعد عن أن يكون معروفًا مستيقنًا من الدين عند العامة والخاصة وأقرب إلى أن يكون فيه شبهة ولهم فيه حجة ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية والشرعية والقياسية وغير ذلك فهذا شأن كل من أراد أن يُظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم فإن شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداء ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة فإنهم لا يتمكنون ومما عليه العلماء أن مبدأ الرفض كان من الزنادقة

القرامطة الباطنية من أعظم الناس كفرا وإلحادا

المنافقين ومبدأ التَّجهم كان من الزنادقة المنافقين بخلاف رأي الخوارج والقدرية فإنه إنما كان من قوم فيهم إيمان لكن جهلوا وضلوا ولهذا لما نبغت القرامطة الباطنية وهم يتظاهرون بالتجهم والرفض جميعًا وهم في الباطن من أعظم بني آدم كفرًا وإلحادًا حتى صار شعارهم الملاحدة عند الخاص والعام وهم كافرون بما جاءت به الرسل مطلقًا ومن أعظم الناس منافقة لجميع الناس من أهل الملل المسلمين واليهود

والنصارى وغير أهل الملل وضعوا الرأي الذي لهم والتدبير على سبع درجات سموا آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم وكان من وصيتهم لدعاتهم أن المسلمين إذا أتيتهم فلا تأت هؤلاء الذين يقولون الكتاب والسنة فإنهم صعاب عليك لا يستجيبون لك ولكن ائتهم من جهة التشيع فأظهر الموالاة لآل محمد والتعظيم لهم والانتصار لهم والمعاداة لمن ظلمهم واذكر من ظلم الأولين لهم ما أمكن فإن ذلك يوجب أن يستجيب لك خلق عظيم وبذلك يمكنك القدح في دينهم أخيرًا ثم ذكر درجات دعوته درجة

درجة كيف تُدْرِجُ الناس فيها بحسب استعدادهم وموافقتهم له بما يطول وصفه هنا

وإنما الغرض التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل والأقرب إلى موافقة الناس إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين وهذا مما يفعله بعض أهل الحق أيضًا في دعوة الناس إلى الحق شيئًا بعد شيء بحسب ما تقتضيه الشريعة وما يناسب حاله وحال أصحابه

وإذا كان كذلك فالجهمية الذين كان باطن أمرهم السلب والتعطيل لما نبغوا لم يكونوا يظهرون للناس إلا ما هو أقل إنكارًا عليهم فأظهروا القول بأن القرآن مخلوق وأظهروا القول بأن الله لايرى وكانت مسألة القرآن عندهم أقوى ولهذا أفسدوا من أفسدوه من ولاة الأمور في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون وأخيه أبي إسحاق المعتصم

والواثق جعلوا هذه المسألة يمتحنون بها الناس

وأظهروا أن مقصودهم إنما هو توحيد الله تعالى وحده لأنه هو الخالق وكل ما سواه مخلوق وأن من جعل شيئًا ليس هو الله تعالى وقال إنه غير مخلوق فقد أشرك وقال بقول النصارى ونحو ذلك فصار كثير ممن لم يعرف حقيقة أمرهم يظن أن هذا من الدين ومن تمام التوحيد فضلوا وأضلوا وكانوا يتظاهرون بأن الله لا يرى لكن لم يجعلوا هذه المسألة المحنة لأنه لا يظهر فيها من شبهة التوحيد العامة بما يظهر في أن كل ما سوى الله مخلوق وكان أهل العلم والإيمان قد عرفوا باطن زندقتهم ونفاقهم وان المقصود بقولهم إن القرآن مخلوق أن الله لا يكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول وبهذا تتعطل سائر الصفات من العلم والسمع والبصر وسائر ما جاءت به الكتب الإلهية وفيه أيضًا قدح في نفس الرسالة فإن الرسل إنما جاءت بتبليغ كلام الله فإذا قدح في أن الله يتكلم كان ذلك قدحًا في رسالة المرسلين فعلموا أن في باطن ما جاؤوا به قدحًا عظيمًا

في كثير من أصلي الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله لكن كثيرًا من الناس لا يعلمون ذلك كما أن كثيرًا من الناس لا يعلمون باطن حال القرامطة لأنهم إنما يظهرون موالاة آل محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن كل مؤمن يجب عليه أن يواليهم وإن أظهروا شيئًا من التشيع الباطل الذي يوافقهم عليه الشيعة الذين ليسوا زنادقة ولا منافقين لكن فيهم جهل وهوى تلبس عليهم فيه بعض الحق كما أن هؤلاء الجهمية وافقهم بعض العلماء والأمراء في بعض ما يظهرونه من لم يكن من الزنادقة المنافقين لكن كان فيهم جهل وهوى تلبس به عليهم نفاقهم العظيم قال الله تعالى في صفة المنافقين لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا

زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر الله أن المنافقين لا يزيدون المؤمنين إلا خبالاً وإنهم يوضعون خلالهم أي يبتغون بينهم ويطلبون لهم الفتنة قال الله تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر أن في المؤمنين من يستجيب للمنافقين ويقبل منهم فإذا كان هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان استجابة بعض المؤمنين لبعض المنافقين فيما بعده أولى ولهذا استجاب لهؤلاء الزنادقة المنافقين طوائف من المؤمنين في بعض ما دعوهم إليه حتى أقاموا الفتنة وهذا موجود في الزنادقة الجهمية والزنادقة الرافضة والزنادقة الجامعة للأمرين وأعظمهم القرامطة والمتفلسفة ونحوهم فإن متقدمي الرافضة لم يكونوا جهمية بخلاف المتأخرين

الشيعة المتقدمون خير من الخوارج الذين قاتلهم علي ومتأخرو الرافضة شر من الخوارج

منهم فإنه غلب عليهم التجهم ولهذا كانت الشيعة المتقدمون خيرًا من الخوارج الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأما كثير من متأخري الرافضة فقد صار شرًّا من الخوارج بكثير بل فيهم من هو من أعظم الناس نفاقًا بمنزلة المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفوقهم أو دونهم ولهذا قال

البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الأفعال ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهودي والنصراني ولايسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم قال وقال عبد الرحمن بن مهدي هما ملتان فاحذروهم الجهمية والرافضة إذا عرف ذلك فالجهمية أظهروا مسألة القرآن وأنه مخلوق وأظهروا أن الله لا يرى في الآخرة ولم يكونوا يظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم إنكار أن الله فوق العرش وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وإنما كان العلماء يعلمون هذا منهم بالاستدلال والتوسم كما يعلم المنافقون في لحن القول قال

الله تعالى وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد 30] فأقسم سبحانه وتعالى أن المنافقين لتعرفنهم في لحن القول وهذا كما قال حماد بن زيد الإمام الذي هو من أعظم أئمة الدين القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله وقال أيضًا سليمان بن حرب سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عباد بن العوام الواسطي كلمت بشر المريسي

وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عبد الرحمن بن مهدي ليس في أصحاب الهواء شر من أصحاب جهم يَدُورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا وقال أيضًا أصحاب جهم يريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا

وقال عاصم بن علي ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء ربًا وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا هكذا وجدت هذا عنه في كتاب خلق الأفعال للبخاري والأول رواه ابن أبي حاتم عن عاصم بن علي بن عاصم في كتاب

الرد على الجهمية وكان إسماعيل بن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحدًا يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة والله لقد فررت إلى اليمن حين تكلم أبو العباس ببغداد بهذا فرارًا من هذا الكلام

وقال وكيع بن الجراح من كذب بحديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله

إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فهو جهمي فاحذروه قال وكيع أيضًا لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل وقال الحسن بن موسى الأشيب وذكر الجهمية فنال

منهم ثم قال أُدخل رأس من رؤساء الزنادقة يقال له سمعلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك

فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية الجهمي إذا غلا قال ليس ثم شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هم اثنان خالق خير وخالق شر فضرب عنقه وصلبه ومثل هذا كثير من كلام السلف والأئمة كانوا يردون ما أظهرته الجهمية من نفي الرؤية وخلق القرآن ويذكرون ما تبطنه الجهمية مما هو أعظم من ذلك أن الله ليس على العرش ويجعلون هذا منتهى قولهم وأن ذلك تعطيل للصانع وجحود للخالق إذ كانوا لا يتظاهرون بذلك بين المؤمنين كما كانوا يظهرون مسألة الكلام والرؤية لأنه قد استقر في قلوب المسلمين بالفطرة الضرورية التي خلقوا عليها وبماجاءتهم به الرسل من البينات والهدى وبما اتفق عليه أهل الإيمان من ذلك مما لا يمكن الجهمية إظهار خلافه وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] فهذا يبين أن الاعتراف بأن الله فوق العالم في العقل والدين

قاعدة: ما من سؤال يرد على مسألة العلو إلا ويرد على مسألة الرؤية ما هو أعظم منه

أعظم بكثير من الاعتراف بأن الله يرى في الآخرة وأن القرآن غير مخلوق فإذا كان هؤلاء الشرذمة الذين فيهم من التجهم ما فيهم مثل الرازي وأمثاله يقرون بأن الله يرى كان إقرارهم بأن الله فوق العالم أولى وأحرى فإنه لا يَرِد على مسألة العلو سؤال إلا ويَرِد على مسألة الرؤية ما هو أعظم منه ولا يمكنهم أن يجيبوا لمن يناظرهم في مسالة الرؤية بجواب إلا أجاب من يناظرهم في مسألة العرش بخير منه فإن نفاة الرؤية قالوا إن أحد حججهم الواحد منا لايرى إلا ما يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي والله يستحيل أن يكون كذلك فيستحيل أن يكون مرئيًّا لنا قالوا واحترزنا بقولنا أو لآلة الرائي عن رؤية الإنسان وجهه في المرآة أما المقدمة الأولى فهي من العلوم

الضرورية الحاصلة بالتجربة وأما المقدمة الثانية فمتفق عليها احتجوا بهذه الحجة وبحجة الموانع وهو أنه لو صحت رؤيته لوجبت رؤيته الآن لارتفاع موانع الرؤية وثبوت شروطها وهي صحة الحاسة وحضور المرئي وأن لا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية ولا تكون الحجب حاصلة وزعموا أن هذه الشروط متى وجدت وجبت الرؤية وإذا انتفى بعضها امتنعت الرؤية قال الرازي وهاتان الطريقتان يعني حجة الموانع

وحجة المقابلة عليهما تعويل المعتزلة في العقليات يعني في مسألة نفي رؤية الله تعالى وقال في الجواب عن هذه الحجة من وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى أن المقابلة ليست شرطًا لرؤيتنا لهذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام الثاني سلمنا أن المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فلم قلتم إنها تكون شرطًا في صحة رؤية الله تعالى فإن رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه

الأشياء فلا يلزم من اشتراط في رؤية نوع من جنس اشتراط رؤية نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا أنه يستحيل كوننا رائين الله تعالى ولكنه لا يدل على أنه لا يرى نفسه وأنه في ذاته ليس بمرئي لا يقال ليس في الأمة أحد قال إنه يصح أن يكون مرئيًّا مع أنه يستحيل منا رؤيته فيكون مردودًا بالإجماع لأنا نقول إنا لا نسلم أن أحدًا من الأمة لم يقل بذلك فإن أصحاب المقالات قد حكوا ذلك عن جماعة وهو قد ذكر قبل في مسألة كون الله سميعًا بصيرًا من

دعوى الضرورة في هذه الأمور ومن مقابلة الدعوى بالمنع ما هو أعظم مما يكون في مسألة العرش فإن قيل هذا يبين أن مسألة العلو أظهر في الفطرة والشريعة من مسألة الرؤية فلأي شيء هؤلاء أقروا بهذه وأنكروا تلك قيل أن سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن وإنكار الرؤية ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو كما تقدم فكان الذين يناظرونهم من متكلمة إثبات الصفة كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأصحابهما فظهر من مخالفتهم لهم في هاتين المسألتين بسبب ظهور الخلاف

فيهما ما لا يظهر فيما يخفونه من المسائل ومع هذا فقد كان أولئك يخالفونهم أيضًا في إنكار أن الله فوق العرش كما تقدم ذكره من كلامهم لكن لم يأتوا في مناظرتهم بما يقطع مادة التجهم ويقلع عروقه بل سلموا لهم بعض الأصول التي بنوا عليها التجهم ومباحثهم في مسألة حدوث العالم والكلام في الأجسام والأعراض هو من الكلام الذي ذمه الأئمة والسلف حتى قال محمد بن خويز منداد أهل البدع والهواء عند مالك

وأصحابه هم أهل الكلام فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء أشعريًّا كان أو غير أشعري وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل

الفاسدة وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة مالا يوجد في كلام عامة الطوائف فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة ونحوهم فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهم فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية وأخذوا لوازمها وكان أبو المعالي الجويني كثير المطالعة لكتب أبي

هاشم بن أبي علي الجبائي وكان من أذكياء العالم وكان هو وأبو الحسن الأشعري كلاهما تلميذًا لأبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع إلى مذهب الأثبات الذين يثبتون الصفات والقدر ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار ولا يكفرون أحدًا من أهل الإيمان بذنب ولا يرون القتال في الفتنة فناقض المعتزلة في أصولهم الخمس التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة التي يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما أبو هاشم فكان على هذه الأصول مع أبيه وإٍِن

كان يخالفه في كثير من المسائل وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية ويسلمون لهم نفي علو الله على

العرش وهذا عكس الواجب ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم حتى يقول قائلهم من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله أو نحو هذا الكلام ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف ما أطمع أولئك فيهم وصاروا يفزعون منهم ويجنبون عنهم ويستطيلون على إخوانهم المؤمنين وبسبب ما وقع في أهل الإيمان والسيف وأهل العلم والقلم أديلت عليهم الأعداء كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [آل عمران 155] حتى إن بعض الأعيان الذي كان في باطنه ميل إلى الفلسفة والاعتزال ولا يتظاهر بذلك درس مسألة

الرؤية من جانب المثبتين وذكر حجتهم فيها ولا ريب أن ذلك يُظْهر من استطالة المعتزلة عليهم ما يشفي به قلبه ولهذا صار كثير من أهل العلم والحديث يصف أقوال هؤلاء بأن فيها نفاقًا وتناقضًا حيث يوافقون أهل السنة والجماعة على شيء من الحق ويخالفونهم فيما هو أولى بالحق منهم ويفسرون ما يوافقون فيه بما يحيله عن حقيقته وهذا كله لما وقع من الاشتباه عندهم في هذه المسائل ولما تعارض عندهم من الدلائل والله هو المسئول أن يغفر لجميع المؤمنين ويصلح لهم أمر الدنيا والآخرة والدين إنه على كل شيء قدير وهذا القدر الذي يوجد في هؤلاء قد يوجد من جنسه في منازعيهم من أهل الإثبات بحيث يَعْظُم اهتمامهم لما ينازعون فيه إخوانهم الذين يوافقونهم في أكثر الإثبات من أدقِّ

الأجزاء والأبعاض عند الحنابلة

مسائل القرآن والصفات وغير ذلك بحيث يوالون على ذلك ويعادون عليه مع إعراضهم عمن هم أبعد من هؤلاء عن الحق والسنة حتى يفضي بكثير منهم الجهل والظلم إلى أن يحب أولئك ويثني عليهم لما يرى فيهم من نوع خير أو أنه لا يبغضهم ولا يذمهم مع أنه يبغض هؤلاء ويذمهم وهذا من جهله بحقيقة أحوال الناس ومراتب الحق عند الله ومن ظلمه حيث يكون غضبه لنفسه لما يناله من أذى هؤلاء أحيانًا أعظم من غضبه لربه فيما فعله أولئك والدين إنما يقوم بالعلم والعدل المضاد للجهل والظلم وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله والله تعالى يؤلف بين قلوب عباده المؤمنين على ما يحبه ويرضاه الوجه الخامس عشر قوله واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فإنهم زعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة فلا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل

يقال قولك عن الحنابلة إنهم يقولون بالتأليف والتركيب ويعبرون بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض أتعني به أنهم يطلقون هذا اللفظ أم تعني به أنهم يثبتون الصفات المستلزمة لهذا المعنى فإن عنيت الأول فلم نعلم أحد من الحنابلة يطلق هذا اللفظ كله وإن كنت أنت اطلعت على أحد منهم يقول هذا اللفظ فهذا ممكن لكن يكون هؤلاء طائفة قليلة منهم والذي بلغنا من ذلك أن لفظ البعض جاء في كلام طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وهو مذكور في كتب السنة جاء عن عبيد بن

عمير من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه ورواه عنه حماد بن سلمة وصرح به ورواه سفيان الثوري وأظنه اختصربعضه ورواه سفبان بن عيينة فكنى عنه وكذلك

في خبر مسألة رؤية محمد ربه شيء يشبه ذلك من كلام

ما من نوع غلو يوجد في بعض الحنابلة إلا ويوجد في غيرهم أكثر منه

عكرمة عن ابن عباس ثم ذلك ليس مختصًّا بالحنابلة ولا هو فيهم أكثر منه في

غيرهم بل يوجد في الشافعية والمالكية والحنفية والصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام من الإمامية وغيرهم من يطلق من هذه الألفاظ أمورًا لا يصل إليها أحد من الحنابلة فما من نوع غلو يوجد في بعض الحنابلة إلا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو أكثر منه وهذا موجود في كتب المقالات وكتب السنة وكتب الكلام وفي طوائف بني آدم المعروفين وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع وبينا سبب ذلك أن الإمام أحمد له من الكلام في أصول الدين وتقرير ما جاءت به السنة والشريعة في ذلك ما هو عليه جماعة المؤمنين وإظهار دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك والرد على أهل الأهواء والبدع المخالفين للكتاب والسنة في ذلك أعظم مما لغيره لأنه ابتلى بذلك أكثر مما ابتلى به غيره ولأنه اتصل إليه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم والأئمة بعدهم أعظم مما

اتصل إلى غيره فصار له من الصبر واليقين الذي جعلهما الله تعالى سببًا للإمامة في الدين بقوله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24} [السجدة 24] ما جعله الله له من الإمامة في أصول الدين السّنية الشرعية ما أنعم الله به عليه وفضله به فأتباعه لا يمكنهم مع إظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء

ولهذا مازال كثير من أئمة الطوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وإن كانوا في فروع الشريعة مُتَّبعين بعض أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين فإنهم يقولون نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل لا يقولون ذلك لاختصاص أحمد بقول لم يقله الأئمة ولا طعنًا في غيره من الأئمة بمخالفة السنة بل لأنه أظهر من السنة التي

اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهره غيره فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه وظهور المخالفين للسنة وقلة أنصار الحق وأعوانه حتى كانوا يشبهون قيامه بأمر الدين ومنعه من تحريف المبتدعين المشابهين للمرتدين بأبي بكر يوم الردة وعمر يوم

السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم

حروراء ونحو ذلك

فيما فيه تشبيه له بالخلفاء الراشدين فيما خلفت فيه الرسل وقامت فيه مقامهم وكذلك سائر أئمة الدين كل منهم يخلف الأنبياء والمرسلين بقدر ما قام به من ميراثهم وما خلفهم فيه من دعوتهم والله يرضى عن جميع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وإن كان يعني بالتركيب والتأليف واعترافهم بالأجزاء والأبعاض هو إثباتهم للصفات التي ورد بها الكتاب والسنة مثل الوجه واليدين ونحو ذلك فهذا قول جميع سلف الأمة وأئمتها وجميع المشهورين بلسان الصدق فيها من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وهو قول الصفاتية قاطبة من الكلابية والكرامية والأشعرية وقد ذكر محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له هذه المسألة وأثبت صفة الوجه

واليد فقوله عن الكرامية إنهم لا يثبتون ذلك إن أراد به بعضهم فلعله يكون وإلا فلا ريب أن فيهم من يثبت هذه الصفات الخبرية كالوجه واليد التي يسميها هو الجوارح والأبعاض ويطلقون أيضًا لفظ الجسم إما لفظًا وإما لفظًا ومعني وأما الحنبلية فلا يعرف فيهم من يطلق هذا اللفظ لكن فيهم من ينفيه وفيهم من لا ينفيه ولا يثبته وهوالذي كان عليه الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وإن كانوا مع ذلك يثبتون ما جاءت به النصوص مما يسميه المنازعون تجسيمًا وتشبيهًا بل يقولون إثبات هذه المعاني أحق بمعنى التجسيم ممن يثبت

لفظه دون معناه وكذلك قوله عن الكرامية إنهم زعموا أنه غير متناهٍ فهذا إنما هو قول بعضهم كما تقدم ذكره لذلك وأن منهم من يقول هو متناهٍ ثم إن كلا من القولين ليس من خصائص الكرامية بل النزاع في ذلك مشهور عن غيرهم وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من النزاع فيما ذكره الأشعري في المقالات وكذلك قولهم لا يقبل القسمة هذا اللفظ قد يطلقه طوائف منهم ومن غيرهم وقد لا يطلقه طوائف لما فيه من الإجمال والتناقض فالذي يقال على الكرامية بإثباتهم واحدًا فوق العرش لا ينقسم أو يشار إليه ولا ينقسم يقال على غيرهم ففي الطوائف الأربعة من الفقهاء كثير ممن يقول نحو ذلك وكذلك

ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه يقولون نحو ذلك فإن كان كل من قال إنه فوق العرش وقال إنه ليس بجسم أو أثبت له هذه الصفات التي وردت بها النصوص كالوجه واليد وقال مع ذلك إِنه ليس بجسم يرد عليه ذلك فإنه يلزمه أنه يشار إليه بحسب الحس وأنه واحد لا ينقسم هذه القسمة التي زعمها ولهذا نجد في هذه الطوائف منازعة بعضهم لبعض في ذلك كما يوجد في أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وكذلك يوجد في أصحاب الأشعري من يتنازعون في ذلك فنفاة الجهة منهم يقولون إن أدلتهم وأئمتهم الذين يقولون إن الله تعالى فوق العرش وإِنه ليس بجسم متناقضون وكذلك

نفاة الصفات الخبرية يقولون إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون ومثبتة العلو منهم والصفات الخبرية يقولون إن نفاة ذلك منهم يتناقضون حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوق كالعلم والقدرة والحياة قالوا وليس هو بعرض في حق الخالق ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه ويقولون ليس بجسم في حق الخالق وكذلك أصحاب الإمام أحمد فطائفة منهم كابن عقيل وصدقة بن الحسين وأبي الفرج بن الجوزي قد يقولون إن ابن حامد والقاضي أبا يعلى

وأبا الحسن بن الزاغوني ونحوهم متناقضون حيث ينفون الجسم ويثبتون هذه الصفات وجمهورهم يقول بل هؤلاء هم المتناقضون الذين يثبتون الشيء تارة وينفونه أخرى كما هو معروف من حالهم واجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد أعظم من اجتماعهما في لوازمه وملزوماته فإن كان كل منهما في وقتين فالأول أعظم وكذلك إن كانا في وقت واحد وأماإن كان الأول في وقتين والثاني في وقت واحد فهذا أبلغ من وجه وهذا أبلغ من وجه ويقولون إن أولئك متناقضون حيث يسلمون ثبوت الصفات التي هي فينا أعراض ويمنعون ثبوت الصفات التي هي فينا أجسام الوجه السادس عشر قوله فلا جرم صار

قول الكرامية على خلاف بدهية العقل يقال هذا العقل الذي هذا على خلاف بديهته إما أن يكون حكمه وشهادته في الربوبية مقبولاً أو مردودًا فإن لم يكن مقبولاً لم يضر هؤلاء ولا غيرهم مخالفته فإنه بمنزلة الشاهد الفاسق الذي قال الله تعالى فيه إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] وإن كان حكمه وشهادته مقبولاً كان هذا المنازع وموافقوه أعظم مخالفة له من هؤلاء كما قد تقدم بيان ذلك وإذا كان مخالفة قولهم لبديهة العقل أعظم من قول هؤلاء لم يجب على هؤلاء أن يرجعوا عن القول الذي هو أقل مخالفة لبديهة العقل بل يكون الواجب على هذا التقدير على الطائفتين الاعتراف بما في بديهة العقل فيعترفون جميعًا بأنه فوق

النفاة أحق بالتشبيه الباطل من أهل الإثبات

العالم ويمتنع أن يكون لا داخله ولا خارجه وحينئذ يكون مشارًا إليه بحسب الحس وحينئذ يكون فيه ما سماه تأليفًا وانقسامًا وإن لم يكن هو المعروف من التأليف والانقسام فإن المعروف من ذلك يجب تنزيه الله تعالى عنه كما نزه عنه نفسه في سورة الإخلاص كما تقدم التنبيه عليه بقوله تعالى الله الصمد فإن الصمد فيه من معنى الاجتماع والقوة والسؤدد ما ينافي الانقسام والافتراق الوجه السابع عشر أنه ورد من جهة المنازع تشبيه بالمعدوم وذلك أن النفاة كثيرًا ما يصفون أهل الإثبات بالتشبيه والتجسيم الذي هو التأليف ومن المعلوم أنهم أحق بالتشبيه الباطل حيث يشبهونه بالمعدومات والناقصات وهم يجمعون بين التمثيل والتعطيل بينما هو قول المشركين الذين هم

بربهم يعدلون وقول الكافرين الذين هم لربهم جاحدون وذلك أنهم يقولون إن كل ما هو عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ونحو ذلك فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه متحيز والمتحيزات كلها متماثلة ويقولون كل ما هو فوق شيء فإنه من جنس واحد متماثل لأنه متحيز والمتحيزات متماثلة ويقولون كل ما له سمع وبصر فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه من المتحيزات التي هي متماثلة وهذا كله قول الجهمية المعتزلة وغيرهم وقد سلك الرازي ذلك في قوله إن الأجسام متماثلة لكن قصده به نفي العلو على العرش ونفي الصفات الخبرية وأما المعتزلة ونحوهم من الجهمية الذين ابتدعوا هذا القول أولاً فمقصودهم به النفي المطلق وكل ذلك بناء على أن جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا في كل ما هو موصوف به حتى إن غاليتهم من الملاحدة والجهمية يقولون كل ما يقال له حي

وعالم وقادر فهو جنس واحد متماثل هؤلاء جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا وندًّا في كل ما له من الأسماء والصفات حتى لزم من ذلك أن يكون كل جسم عدلاً لله ومثلاً وكفوًا حتى البقة والبعوضة وأن يكون كل حي عَدْلاً لله وكفوًا وسميًّا وكل ذلك بناء على أن كل ما هو مسمى بهذه الأسماء موصوف بهذه الصفات فإنه جنس واحد متماثل وهذا من أعظم العدل بالله وجعل الأنداد لله ثم إنهم نفوا ذلك عن الله فجحدوه بالكلية وعطلوه فصاروا مشركين معطلين ولهذا جوز الاتحادية منهم عبادة كل شيء وجعلوا كل شيء عابدًا ومعبودًا وجوزوا كل شرك في العالم فجمعوا جميع ما عليه المشركون من الأقوال والأفعال فهذا تمثيلهم وعدلهم بالله وإشراكهم به وتشبيههم إياه بخلقه فيما لله من صفات الإثبات وأما عدلهم وتمثيلهم فيما يصفونه به من السلوب فهم

يعدلونه بالمعدوم تارة وبالمنقوصات أخرى فإنهم تارة يصفونه بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم فيكونون عادلين به المعدومات وقد قدمنا فيما مضى أن الله سبحانه لا يوصف بصفة سلب إن لم تتضمن معنى ثبوتيًّا وأما الصفة السلبية التي لا تتضمن ثبوتًا فلا يوصف بها إلا المعدوم وبينَّا أيضًا أن كل صفة تصلح للمعدوم المحض فإنها لا تصلح لله تعالى لأن تلك الصفة لا مدح فيها بحال إذ المعدوم المحض لا يمدح بحال وما ليس فيه مدح فإن الله لا يوصف به سبحانه وتعالى بل له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ولما ذكرناه أيضًا فيما تقدم وأما تمثيلهم له وعدلهم إياه بالمنقوصات القبيحات من المخلوقات فقولهم إنه لا يتكلم وإن وصفوه بالكلام ظاهرًا موافقة للمؤمنين فمعناه عندهم أنه خلق كلامًا في غيره

وكذلك قولهم إنه ليس له سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك وإذا كان كذلك ظهر ما ذكر من جهة المنازع فإن المنازع قلب عليهم القضية وقال إذا ألزمتمونا أن نجعله كالجوهر الفرد فأنتم جعلتموه كالمعدوم وذلك أنه لما قال إنه لا يمكن أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر لأن ذلك حقير وذلك على الله محال فقال المنازع أنتم قلتم لا يمكن الإحساس به أو الإشارة إليه بحال والذي لا يمكن الإحساس به ولا الإشارة إليه يكون كالمعدوم فيكون أشد حقارة فإذا جاز وصفكم بهذا فلم لا يجوز الأول وهو كلام قوي جدًّا والمنازع وأصحابه يعلمون صحة هذا الكلام لأنهم يقرون في مسألة الرؤية أن كل موجود يجوز أن يحس بالحواس الخمس ويلتزمون على ذلك أن الله يجوز أن يحس به

بالحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس وأن مالا يحس به بالحواس الخمس لا يكون إلا معدومًا فعامة السلف والصفاتية على أن الله يمكن أن يُشْهد ويُرى ويحس به وأول من نفى إمكان إحساسه الجهم بن صفوان لما ناظره السُّمنية المشركون الوجه الثامن عشر أنه قال في الجواب أما قولهم الذي لا يُحَس ولا يُشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أماإذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة

يقال له هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت أثبت تنزيهه عن الحيز بهذه الحجة التي جعلت من مقدماتها أنه ليس بحقير بقدر الجوهر الفرد فقيل لك ما لا يمكن الإشارة إليه وإحساسه أحقر من الجوهر الفرد وقد وصفته بذلك فلا يكون وصفه بقدر الجوهر الفرد محالاً على أصلك فقلتَ أما كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم إذا كان له حيز ومقدار وأما إذا كان منزهًاعن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة فيقال لك الكلام إنما هو في تنزيهه عن الحيز والمقدار فأنت تنفي ذلك ومنازعك يثبته وهو محل النزاع فإذا كان جوابك مبنيًّا على محل النزاع كنت قد صادرت منازعك على المطلوب حتى جعلت المطلوب مقدمة في إثبات نفسه والمقدمة لابد أن

تكون معلومة أو مسلمة فتكون قد طلبت منه تسليم الحكم قبل الدلالة عليه وادعيت علمه قبل حصول علمه وقد صادرته عليه وطلبت منه أن يسلمه لك بلا حجة وإيضاح هذا أن العلم بكونه إذا وصفته بأنه لا يُحس ولا يُشار إليه ليس بأحقر من الجوهر الفرد إما أن يقف على العلم بكونه ليس بذي حيز ومقدار أو لا يتوقف فإن توقف عليه لم يصح هذا الجواب حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ومقدار حتى يتم الجواب عما أُورد على الحجة فإذا كان جواب الحجة لا يتم حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ولا مقدار ولا يثبت ذلك حتى يتم جواب الحجة لم يكن واحدًا منهما حتى يكون الآخر قبله وذلك دور ممتنع وإن كان العلم بكونه ليس أحقر من الجوهر الفرد إذا وصف بأنه لا يحس ولا يشار إليه لا يقف على العلم بأنه ليس بذي حيز

ومقدار لم يصح هذا الجواب وهو قولك كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره بل كان الجواب أن يقال لا يلزم أن يكون أحقر من الجوهر الفرد سواء قيل إِنه ذو حيز ومقدار أو لم يقل ذلك لكنه لو قال ذلك لظهر أن كلامه باطل فإنه يعلم بالحس والضرورة أن كل ما كان ذا حيز ومقدار قيل إنه لا يحس ولا يشار إليه فإنه أصغر من الجوهر الفرد ومما يوضح الأمر في ذلك أن هذا السؤال الذي ذكره من جهة المنازع هو من باب المعارضة فإنه لما ذكر حجته على أنه ليس بذي جهة بأن ذلك يستلزم التركيب والحقارة قال له المعارض ما ذكرته من أنه لا يمكن إحساسه والإشارة إليه يستلزم أن يكون معدومًا وذلك أبلغ في الحقارة من الجوهر الفرد فقال له قولك يستلزم من الحقارة أعظم مما ألزمت به أهل الإثبات فأجاب عن المعارضة بمنع الحكم وأن صحته ملازمة لصحة قول المنازع وهذا من أفسد الأجوبة فإن المعارض يقول بل هو عندي ذو حيز ومقدار فلم قلت إنه ليس كذلك وهل النزاع إلا فيه وقولك أما إذا لم يكن ذا حيز ومقدار لم يلزم وصفه بالحقارة يقال لك من الذي سلم لك ذلك وهل النزاع إلا فيه وهذه الحجة التي ذكرتها إنما أقمتها

على نفي ذلك وهي لاتتم إلا بالجواب على المعارضة فكيف تجيب عن المعارضة المستلزمة لنقيض مذهبك بنفس مذهبك وهل هذا إلا بمنزلة أن يقدح المعترض في دليلك بأنه يستلزم نقيض مذهبه فإن قيل هو لم يجب عن المعارضة بنفس مذهبه لكن قال صحة المعارضة مبنية على نقيض مذهبه وهو لا يقول ذلك فهو يقول للمعترض مالم تثبت نقيض قولي لا تصح معارضتك وهو في هذا الباب في مقام المنع والمعترض يستدل وللمستدل الأول أن يمنعه بعض المقدمات ويجعل سند منعه أنه لا يقول بذلك فهو ذكر ذلك لإبداء سند المنع لا حجة للمنع فإن المانع المطالب بالدليل ليس عليه حجة فيقال المعترض لم يبن دليله على هذا بل ذكر أن ما لا يحس ولا يشارإليه معدوم أحقر من الجزء الذي لا يتجزأ فادعيت أن هذا إنما يلزم إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة فهذا الملزوم إنما تقول إنه لازم لدليله

أن دليله مستلزم لهذا فمتى صح دليله هذا فهذا القدر ينفعه ولا يضره لأنه يكون دليله حينئذ قد دل على شيئين على أنك جعلته أحقر من الجوهر الفرد وجعلته معدومًا وأنه ذو حيز ومقدار فيدل على صحة مذهبه وعلى أن مذهبك يستلزم أن الله معدوم هذا بإقراره أن دليله يستلزم صحة ذلك وإن قلت إن دليله يتوقف على صحة هذا بمعنى أنه لم يثبت أن الله ذو حيز ومقدار لم يثبت أنه إذا كان لايحس ولا يشار إليه أنه أصغر من الجوهر الفرد فهذا لم تثبته بل ادعيته دعوى ساذجة فلا تكون قد أجبت عن المعارضة وهو المطلوب وذلك أنه لا يسلم أنا إذا علمنا أن الشيء لا يحس ولا يشار إليه لم يعلم أنه معدوم حتى يعلم قبل ذلك أنه ذو حيز ومقدار بل قد يكون العلم بأنه ذو حيز ومقدار بعد ذلك أو قبله أو معه إذا كانا متلازمين وهذا لازم على أصلك وأصل أصحابك لزومًا قويًّا فإنكم

أنتم وسائر الصفاتية تسلمون أن كل موجود فإنه يمكن أن يحس وأن الذي لا يمكن إحساسه هو المعدوم وكثير من أهل السنة والحديث يقولون بأنه يلمس أيضًا وأنتم تريدون أنه يدرك بالحواس الخمس وأنتم تثبتون هذا مثل إثبات أنه ذو حيز ومقدار ولم يكن العلم بذلك موقوفًا على العلم بأنه ذو حيز ومقدار وإذا كنت قد قلت إن كونه موصوفًا بأنه أحقر من الجوهر الفرد فإذا كان لا يحس ولا يشار إليه فقد لزمك إما أن يكون معدومًا أو يكون ذا حيز ومقدار وإذا قلت إنه يحس بطل ما ذكرته هنا من أنه لا يحس ولا يشار إليه وهذا الذي يورده المنازع حُمِّد في النظر الصحيح في المناظرة العادلة فإِنه يظهر به من تناقض منازعه وضعف

الرازي وأصحابه جوزوا رؤية الله ولمسه! فتجويز الإشارة إليه أولى وأحرى

حجة ما يدفعه به عنه ويظهر به من صحة حجته ما ينفع الناظر والمناظر وهذا يتقرر بالوجه التاسع عشر وهو أن هؤلاء المنازعين له الذين ينتصر لهم المؤسس يقولون إنه تجوز رؤيته بل يجوزون كونه مدركًا بإدراك اللمس بل يجوزون كونه مدركًا بغير ذلك من الحواس مع قولهم إنه ليس فوق العرش ولا يمكن أن يكون مشارًا إليه بالحس ولا يمكن أن يحس به لا ريب أنهم متناقضون في ذلك غاية التناقض فإن من المعلوم أن إدراك اللمس به أبعد من كونه مشارًا إليه بالحس أو كونه في جهة فإن لمس الإنسان قائمًا بذاته التي هي في جهة معينة فإدراكه الشيء بلمسه يقتضي من الاتصال به والملاصقة وكونه في جهة من اللامس وغير ذلك مالا يقتضيه مجرد كونه ترفع إليه الأيدي أو الأعين فإن من المعلوم أنا نشير إلى كل شيء من الموجودات التي نراها ومع هذا فلا يمكننا أن نلمس منها إلا بعضها فإذا جاز كونه باللمس فلأن يجوز كونه مشارًا إليه باليد والعين أولى وأحرى

وكذلك كل ما يلمسه فلا يكون إلا في جهة وكثيرًا ما يكون الشيء في جهة ولا يمكننا لمسه فكيف يجوز إثبات لمسه مع منع كونه في جهة أليس هذا تناقضاً محضاً بل هذا نفي الشيء مع إثبات ما هوأبلغ منه وتحريم الشيء مع استحلال ما هو أعظم منه كما قال ابن عمر يستفتوني في دم البعوضة وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كما قال تعالى قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ [البقرة 217] وهو بمنزلة من يقول إن الله لا يرى ولكن يُصافح ويُعانق وكذلك قولهم إنه يرى وقولهم إنه يتعلق به إدراك اللمس مع قولهم لا يمكن أن يحس به تناقض ظاهر وإذا كان ذلك تناقضًا منهم ومن المعلوم أن مسألة الرؤية ثابتة بالنصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع سلف الأمة وأئمتها فتكون صحتها مستلزمة لكونه يحس وذلك مستلزم لبطلان ما

قالوه في هذه المسألة فإن قيل دليلهم العقلي في الرؤية ضعيف قيل لا نسلم أنه ضعيف ثم إن كان ضعيفًا فليس هو بأضعف مما ذكروه في هذه المسألة فإن كان أضعف ظهر تناقضهم في النفي والإثبات في هاتين المسألتين الوجه العشرون أنهم قد قرروا في هاتين المسألتين هنا وهناك أن ما لا يمكن أن يشار إليه ويحس به يكون معدومًا وقرر هناك أن كل موجود فإنه يصح أن يرى وأن يلمس فيحس به ويلمس وهو أبلغ من الإشارات الحسية إليه وأن الله يصح أن يرى وأن يتعلق به إدراك اللمس فإن كل واحد من الرؤية واللمس مشترك بين الجوهر والأعراض فيتعلق بالله تعالى وهذا يوجب أن يكون الله يمكن أن يشار إليه ويمكن أن يحس به خلاف ماذكره هنا كما تقدم وقرر هنا أن ما كان كذلك فإنه يكون ذا حيز ومقدار وأنه يلزمه أن يكون منقسمًا مركبًا الانقسام والتركيب العقلي الذي ألزم به مخالفه هنا وهذا

يقتضي أنه من لوازم أصولهم التي هم معترفون فيها بالأصل وبلازم الأصل لم يلزمهم إياه غيرهم بالدليل بل هم اعترفوا به أن يكون الله له حيز ومقدار وأنه مركب مؤلف له أجزاء وأبعاض وهذا هو الذي أنكره في هذا الموضع وليس هذا من جنس ما يلزم الرجل غيره شيئًا بالحجة لكن هذا أقر بأن الله سبحانه وتعالى موصوف بوصف وأقر في موضع آخر أنه إذا كان موصوفًا بذلك الوصف لزم أن يكون كذا وكذا فمجموع الإقرارين أقر فيهما بما ذكرناه الوجه الحادي والعشرون أنه اعترف هنا أنه يكون أشد حقارة من الجوهر الفرد وأن يكون معدومًا إذا كان ذا حيز ومقدار وقلنا إنه لا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس وقد ذكر هنا أنه لا يمكن أن يشار إِليه ولا يمكن أن يحس به فلزم أن يكون معدومًا أحقر من الجوهر الفرد ولا ريب أن هذه حقيقة قولهم وقد اعترف هو بمقدمات ذلك لكن مفرقة لم يجمعها في موضع واحد إذ لو جمعها لم يخفَ عليه وهذا شأن المبطل الوجه الثاني والعشرون أن منازعه يقول قد ثبت بالفطرة الضرورية وبالضرورة الشرعية واتفاق كل عاقل سليم

الفطرة من البرية أن رب العالمين فوق خلقه وأن من قال إنه ليس فوق السموات رب يعبد ولا هناك إله يصلى له ويسجد وإنما هناك العدم المحض فإنه جاحد لرب العالمين مالك يوم الدين فإن اعتقد أنه مقر به وهذا يقتضي كما قلت أنه ذو حيز ومقدار وكلما كان ذا حيز ومقدار وهو لا يمكن الإشارة الحسية إليه ولا يمكن الإحساس به فإنه معدوم كما اعترف به وكما

هو معروف في الفطر وهو أحقر من الجوهر الفرد بلا ريب فثبت أن قولك يستلزم أن الباري معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد وهذا مما اتفق علماء السلف وأئمة الدين أن قول الجهمية أنه ليس فوق العرش ولا داخل العالم ولا خارجه يتضمن أنه معدوم لا حقيقة له ولا وجود وقد صرحوا بذلك في غير موضع وكذلك هو في جميع الفطر السليمة وإن أردت أن تلزمه عدمه من غير بناء على المقدار فيقال الوجه الثالث والعشرون أنه إذا عرض على الفطر السليمة التي لم تقلد مذهبًا تتعصب له شيء لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس به ولا هو في شيء من الجهات الست فإن الفطرة تقضي بأن هذا لا يكون موجودًا إلا أن يكون معدومًا وهذا قبل أن يخطر بفكر الإنسان الحيز والمقدار نفيًا وإثباتًا ثم بعد ذلك إذا علم أن الموجود أو أن هذا لا يكون إلا ذا حيز ومقدار كان ذلك لازمًا آخر يقرر مذهب المنازع لهذا المؤسس

الوجه الرابع والعشرون أن المنازعين له في مسألة الرؤية قالوا لهم ما ذكرتموه من الحجة يقتضي كون الباري مدركًا بإدراك اللمس وذلك لأنا من حيث اللمس نميز بين الطويل والأطول كما أن نميز من حيث البصر بين الطويل والأطول فإن اقتضى ذلك كون الأجسام مرئية اقتضى أن تكون ملموسة ولا شك أنا ندرك من حيث اللمس الفرق بين الحرارة والبرودة فإن إدراك اللمس معلق بالأجسام والأعراض فيعود ما ذكرتموه من الرؤية بتمامه في اللمس فيلزمكم تعلق اللمس للباري تعالى وأنه باطل بالضرورة وقال في الجواب إن أصحابنا التزموا ذلك ولا طريق إلا ذلك

وقال أيضًا قولهم لو كان الوجود علة لصحة رؤية الحقائق لصح منا رؤية الطعوم والعلوم وذلك معلوم الفساد بالضرورة قلنا دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مقبولة وذكر أيضًا أن المخالفين له في مسألة الرؤية يدعون العلم الضروري بوجوب الرؤية عند الشروط النهائية وامتناعها عند عدمها وهو ماإذا كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضرًا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرًا جدًّا ولا لطيفًا ولا يكون بين المرئي والرائي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلاً للرائي أو في حكم المقابلة فتارة يَدَّعون أن ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد

الاختيار ولا حاجة فيه إلى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال أن ذلك معلوم بالضرورة وقال في الجواب أما دعوى العلم الضروري بحصول الإدراك عند حضور هذه الأمور فلا نزاع فيه وأما العلم الضروري بعدمه عند عدمها ففيه كل النزاع قال فإن زعمت أنا مكابرون في هذا الإنكار حلفنا بالأيمان المغلظة أنا لما رجعنا إلى أنفسنا لم نجد العلم بذلك أكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تَغيُّرها عن مجاريها فإن الإنسان كما يستبعد أن يأخذ الحديدة المحماة بيده ولا يجد حرارتها فكذلك يستبعد أن يذهب إلى جَيْحُون فيجد ماءه بالكلية دمًا أو عسلاً ويرى

شخصًا شابًّا قويًّا مع أن ذلك الشخص حدث في تلك اللحظة من غير أب وأم على ذلك الوجه ويرى طفلاً رضيعًا مع أن ذلك الطفل كان مولودًا قبل ذلك بمائة ألف سنة على تلك الحال وليس استبعاد ما ذكروه بأقوى من هذه الأمور استبعادًا مع أن شيئًا من ذلك ليس بممتنع وكذا فيما ذكروه

قال واعلم أن تجويز انخراق العادات لازم على الفلاسفة أو المسلمين والمتكلمين وبين ذلك إلى أن قال فليس لأبي الحسين إلا دعوى الضرورة في أول المسألة وليس لنا في مقابلتها إلا المنع فإذا كانت هذه ثلاث قضايا ادعى منازعوه فيها العلم الضروري وهو يثبتها لإثبات رؤية موجود لا داخل العالم ولا خارجه كيف ينكر على منازعه فيما ادعاه من العلم البديهي بأن الموجود إذا كان خارج العالم لم يكن إلا منقسمًا أو حقيرًا مع أن هذا أظهر بوجوده

فصل في الرد على البرهان الثاني للرازي في أنه يمتنع أن يكون مختصا بالحيز والجهة

فصل قال الرازي البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون مختصًّا بالحيز والجهة وذلك أنه لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان محتاجًا في وجوده إلى ذلك الحيز وتلك الجهة وذلك محال فكونه في الحيز والجهة محال بيان الملازمة أن الحيز والجهة أمر موجود والدليل عليه وجوه أحدها أن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون

الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات وإذا ثبت أن هذه الأحياز مختلفة في الماهيات وجب كونها أمورًا موجودة لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك الثاني هو أن الجهات مختلفة بحسب الإشارات فإن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت بالإشارة والعدم المحض والنفي الصِّرف يمتنع تمييز بعضه عن بعض في الإشارة

الحسية الثالث أن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز فالمتروك مغاير لا مَحَالة للمطلوب والمُنْتَقَل عنه مغاير للمُنْتَقَل إليه فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الحيز والجهة أمر موجود ثم إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة فثبت أنه تعالى لو كان مختصًّا بالجهة والحيز لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه الأول أن المفتقر في وجوده إلى الغير يكون في وجوده بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وكل ذلك في حق واجب الوجود

لذاته محال الثاني أن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لما بينا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر ويمكن وصفه بالزائد والناقص وكلما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالشيء المسمى بالحيز والجهة ممكن لذاته فلو كان الله مفتقرًا إليه لكان مفتقرًا إلى الممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بأن يكون ممكنًا لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودًا في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات فيلزم امتناع كونه في الحيز والجهة فإن قيل لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة

إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه تعالى كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير والذي يدل على صحة ما ذكرناه أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا فلم لا يجوز مثله في كون الله تعالى مختصًّا بالحيز والجهة والجواب أما قوله الحيز والجهة ليس أمرًا موجودًا فجوابه أنا قد بينا بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة وبعد قيام البراهين على صحته لا يبقى في صحته شك وأما قوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز

كونه منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو مباينًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لانزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لايكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة وهو كون الشيء بحيث يصح أن يشار إليه بأنه هاهنا أو هناك وهذا هو مراد الخصم من قولهم إنه تعالى مباين عن العالم أو منفرد عنه وممتاز عنه إلا أنا بينا بالبراهين القاطعة أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز

أمرًا موجودًا ويقتضي أن المتحيز يحتاج إلى الحيز قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق يقال هذه الحجة وغيرها من الحجج كلها مبنية على أن القول بكونه فوق العرش يستلزم أن يكون متحيزًا كما قدمه في الحجة الأولى فقد تقدم أن هذا فيه نزاع مشهور بين الناس من مثبتة الصفات ونفاتها فإن كثيرًا من الصفاتية من الكلابية والأشعرية وغيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون ليس بجسم وهو فوق العرش وقد يقولون ليس بمتحيز وهو فوق العرش إذا كان المراد بالمتحيز الجسم أو الجوهر الفرد

وكثير منهم من الكرامية والشيعة والفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون هو فوق العرش وهو جسم وهو متحيز ولكن منهم من يقول ليس بمركب ولا منقسم ولا ذي أجزاء وأبعاض ومنهم من لا ينفي ذلك وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم فألفاظهم فيها أنه فوق العرش وفيها إثبات الصفات الخبرية التي يعبر هؤلاء المتكلمون عنها بأنها أبعاض وأنها تقتضي التركيب وال انقسام وقد ثبت عن أئمة السلف أنهم قالوا لله حد وأن ذلك لايعلمه غيره وأنه مباين لخلقه وفي ذلك لأهل الحديث والسنة

مصنفات وهذا هو معنى التحيز عند من تكلم به من الأولين فإن هؤلاء كثيرًا ما يكون النزاع بينهم لفظيًّا لكن أهل السنة والحديث فيهم رعاية لألفاظ النصوص وألفاظ السلف وكثير من مبتغي ذلك يؤمن بألفاظ لا يفهم معانيها وقد يؤمن بلفظ ويكذب بمعنى آخر غايته أن يكون فيه بعض معنى اللفظ الذي آمن به ولهذا يطعن كثير من أهل الكلام في نحو هؤلاء الذين يتكلمون بألفاظ متناقضة لا يفهمون التناقض فيها لكن وجود هذا وأمثاله في أهل الكلام أكثر منه في أهل الحديث بأضعاف

مضاعفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب وإذا كان كذلك فالجواب عن هذه الحجة وأمثالها مبني على مقامين المقام الأول مقام من يقول إنه نفسه تعالى فوق العرش ويقول إنه ليس بجسم ولا متحيز كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري وكثير من الصفاتية فقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم وهو كثير فيهم فاش ظاهر منتشر والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية وقد تكلمنا بين الطائفتين فيما تقدم بما ينبه على حقيقة الأمر وتبين أن الأولين أعظم مخالفة للضرورة العقلية وأعظم تناقضًا من هؤلاء وأن هؤلاء لا يع أحدهم في نظره ولا مناظرته أن يوافق أولئك على ما سلكوه من النفي فرارًا مما ألزموه إياه من التناقض لأنه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار فيكون الذي وقع فيه من

التناقض ومخالفة الفطرة والضرورة العقلية أعظم مما فر منه مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وإن كان قد يضطر إلى نوع باطل في الأول فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء أناأجد حرارتها وألمها فيقال له النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألمًا وإن كنت لا تجد حين وقوفك على الرمضاء بل تجدها حين تباشرها فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة فوقع في أنواع من التناقضات ومخالفة الضرورات وبقي ما امتاز به الأول في كلامه من الزندقة والإلحاد ومشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين زيادة على ذلك ولهذا كان من هؤلاء المثبتة ممن له في الأمة من الثناء ولسان الصدق ما ليس لمن هو من أولئك وإن كان قد يذمه من وجه آخر فليس الغرض بيان صوابهم مطلقًا ولكن بيان أن طريقهم أقل

خطأ وطريق الأولين أعظم ضلالة فهذا أحد المقامين وقد تقدم بيانه فلا نعيده وأما المقام الثاني فهو مقام من يسلم له أنه فوق العرش وهو متحيز وله حد ونهاية ويطلق عليه أيضًا لفظ الجهة فإن أهل الإثبات متنازعون في إثبات لفظ الجهة وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم كما أنهم متنازعون في اسم الحد أيضًا وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فنقول وعلى هذا التقدير فالكلام على هذا من وجوه الأول أن كلام هذا وغيره في حيز هل هو أمر وجودي أو عدمي أو إضافي مضطرب متناقض فإنه وإن كان قد قرر هنا أنه وجودي فقد قرر في غير هذا الموضع أنه عدمي ويكفي نقض كلامه بكلامه فإنا قد اعتمدنا هذا مرات فإن هذا موجود

في عامة هؤلاء تحقيقًا لقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً [النساء 82] بخلاف الحق الذي يصدق بعضه بعضًا فقد ذكر في البرهان الرابع بعد هذا نقيض هذا فقال الوجه الرابع فيه أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساوية فيكون حكمها واحدًا وذلك يمنع من القول بأنه تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين وقال فإن قيل لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى قلنا هذا باطل لوجهين أحدهما أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء

الصرف والعدم المحض فلم يكنْ هناك فوق ولا تحت الثاني أنه لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أمورًا موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك فهذا تصريح بأنها مختلفة في الحقائق وأنها خلاء صِرْف وفراغ محض وهذا يناقض ما ذكره هنا ومن لم يكنْ لسانه وراء قلبه كان كلامه كثير التقلب والتناقض وذكر في نهايته في مسألة حدوث العالم لما ذكر نزاع المنازع في أن الكون والحصول في الحيز أمر زائد على ذات الجسم وذكر أسئلتهم على دليله ثم قال وإن سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الحصول في الحيز زائد على ذات الجسم لكن معنا مايدل على نفي ذلك وهو أمور ثلاثة

الأول وهو أن الحصول أمر نسبي والأمور النسبية تستدعي وجود أمرين لتتحقق بينهما تلك النسبة فلو كان الحصول في الحيز أمرًا ثبوتيًّا للزم أن يكون الحيز أمرًا ثبوتيًا وهو باطل لأنه لو كان موجودًا لكان إما أن يكون حالاً في الجسم أو لا يكون حالاً فيه فإن كان حالاً في الجسم لم يكن الجسم حالاً فيه فلا يكون حيزًا للجسم وإن لم يكن حالاً فيه فإما أن يكون ذا حيز أو لا يكون والأول يقتضي التسلسل ثم ذكر الثاني والثالث وليس هذا ذكر موضعهما ثم إنه في الجواب سلَّم أن الحيز ليس أمرًا وجوديًّا وأجاب عما ذكروه فقال قوله الحصول في الحيز أمر نسبي

فوجوده في الخارج يستدعي وجود الحيز في الخارج قلنا هذا باطل بالعلم فإنه نسبة أو ذو نسبة بين العالم والمعلوم ثم إنا نعلم به المحالات ولا وجود لها في أنفسها مع أن النسبة المسماة بالعلم حاصلة موجودة فعلمنا أن وجود النسبة لا يقتضي وجود كل واحد من المنتسبين وقال في نهايته في آخر هذه الطريقة واعلم أن هذه الطريقة مبنية على جواز خروج كل جسم عن حيزه وقد دللنا على ذلك بما مر ويمكن أن يستدل عليه بوجوه أُخر منها أن نقول لو وجب حصول جسمين في حيز لكان الحيز الذي حصل فيه الجسم الآخر إما أن يكون مخالفًا للحيز الأول أو لا يكون فإن كان مخالفًا له كان أمرًا ثبوتيًّا لأن العدم الصِّرْف والنفي المحض لا يتصور فيه الاختلاف لأن المعقول في الاختلاف أن تكون حقيقته غير قائمة مقام الحقيقة الأخرى وذلك يستدعي حقائق متعينة في أنفسها وذلك في العدم محال ولما بطل ذلك ثبت أن الأحياز لو كانت

متخالفة لكانت أمورًا وجودية وهي إما أن يكون مشارًا إليها أو لا يكون والقسم الأول على قسمين إما أن تكون حالة في الأجسام فحينئذ يستحيل حصول الجسم فيها وإلا لزم الدور أو لا تكون حالة في الأجسام مع أنه يمكن الإشارة إليها وذلك هو المتحيز فيكون الحيز متحيزًا وكل متحيز فله حيز وللحيز حيز آخر ولزم التسلسل وإن لم يكن الحيز مشارًا إليه استحال حصول الجسم المشار إليه فيه قال فثبت أن الحيز نفي محض وأنه إذا كان كذلك استحال أن يخالف حيزًا وقال أيضًا في نهايته في الحجة الثانية على حدوث العالم وهو أنه ممكن وكل ممكن محدث وقرر إمكانه بوجوه منها الكلام الذي حكيناه عنه قبل هذا في تقرير أن

واجب الوجود لا يقال لا ينفي في ضمن الكلام على حجته على نفي الجسم وكون كل حيز هل يكون واجب الوجود أم لا فهي طريقة الفلاسفة التي قررها واستضعفها وفي ضمنها سؤال أورده وهو أنالا نسلم أن الوجوب أمر ثبوتي فيقال في الجواب قوله لا نُسلّم أن الوجوب أمر ثبوتي قلنا يدل عليه أمران وذكر أحدهما ثم قال الثاني أن المعقول من الوجوب استحقاق الوجود والعلم الضروري حاصل فإن استحقاق الوجود وصف ثبوتي كما أن العلم الضروري حاصل فإن حصول الجسم في الجهة أمر ثبوتي بل هاهنا أولى لأن حصول الجسم بالجهة عبارة عن انتساب مخصوص للجسم إلى الجهة والجهة أمر تقديري

لا وجود له فإذا كان العلم الضروري حاصلاً هناك مع هذا الإشكال فهاهنا مع عدم ذلك الإشكال أولى وقال أيضًا في نهايته في مسألة الجهة بعينها ما سنذكره عنه في آخر هذه الحجج وهو قوله لو كان الله حاصلاً في الحيز لكان إما أن يكون واجبًا أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز كان حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر هذه الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز أمورًا وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضًا ولو كانت الأحياز أمورًا وجودية لكان إما أن تُمْكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسمًا فيكون الباري الحال فيه منقسمًا أو لا يكون منقسمًا فيكون ذلك

الشيء مختصًّا بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية إليه أي الحيز الذي حصل الباري فيه وجب استحالة الإشارة الحسية إلى الباري لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه وكذلك قال في التأسيس في هذه الحجة الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن كلَّ ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي بل قد يقال إن المسمى بالجهة والحيز منه ما يكون وجوديًّا وهو الأمكنة الوجودية مثل داخل العالم فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية ولها جهات وجودية

وهو ما فوقها وما تحتهاونحو ذلك ومنه ما يكون عدميًّا مثل ما وراء العالم فإن العالم إذا قيل إنه في حيز أو جهة فليس هو في جهة وجودية وحيز وجودي لأن ذلك الوجودي هو من العالم أيضًا والكلام في جهة جميع المخلوقات وحيزها ولأن ذلك يفضي إلى التسلسل وهو لم يقم دليلاً على أن كل ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي وإذا لم يثبت ذلك لم يجب أن يقال إن الباري إذا كان في حيز وجهة كان في أمر وجودي وذلك لأن الأدلة التي ذكرها إنما تدل لو دلت على وجود تلك الأمور المعينة المسماة بالحيز والجهة فلم قلت إن كل ما يسمى بالحيز أو الجهة يكون موجودًا الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن الحيز لا يطلق إلا على المعدوم ولا يطلق على الموجود بحال وهذا قول كثير من المتكلمين الذين يفرقون بين الحيز والمكان ويقولون

العالم في حيز وليس في مكان وما في العالم في مكان والحيز عندهم هو تقدير المكان بمنزلة ما قبل خلق العالم ليس بزمان ولكنه تقدير الزمان وإذا كان أمرًا مقدورًا ومفروضًا لا وجود له في نفسه بطل ما ذكره لكن يحتاج على الجواب عن وجوهه الثلاث فأما الوجه الأول فإنه احتجاج بقول المنازع له إنه يجب أن يكون الله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات فإن كان قول المخالف حقًّا فقد صح مذهبه الذي تستدل على إبطاله ولم تسمع منه الدلالة على ذلك وإن كان باطلاً لم يدل على أن الحيز أمر وجودي فعلى التقديرين لا تكون هذه الحجة مقبولة لأنها إما أن تكون باطلة أو تكون مستلزمة لصحة قول المنازع فإن قال أنا ألزم المنازع بها قيل له فغاية ما في الباب أن تكون حجة جدلية احتججت فيها بكذب خصمك وهذا لا يكون برهانًا قاطعًا على أن الحيز أمر وجودي ثم يقال لك أنت من أين تعلم أو تفيد الناس الذين يسترشدون منك ولا يتقلدون مذهبًا أن الحيز أمر وجودي فإن

كنت تعلم ذلك وتعلمه لقول خصمك لزم صحته وبطل مذهبك وإن لم تحتج بقول خصمك الذي تدفعه عنه بَطُلَتْ هذه الحجة أن تكون طريقًا لك إلى العلم أو إلى التعليم والإرشاد وكان غايتها ذكر تناقض الخصم وللخصم عنها أجوبة لا نحتاج إلى ذكرها هنا وأما قوله في الوجه الثاني أن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت في الإشارة فيقال له إن كانت الإشارة إلى ما فوقنا من العالم وما تحتنا منه فلا ريب أن هذا موجود لكن ليس ذلك هو مسمى الحيز والجهة الذي ينازعونك في أن الله فيه فإنهم لم يقولوا إن الله في جوف العالم وإنما قالوا هو خارج العالم فإن كانت الإشارة إلى ما فوق العالم وماتحته فلا نسلم أن أحدًا يشير إلى ما تحت العالم أصلاً وأما ما فوق العالم فالله هو الذي فوق العالم فالإشارة إلى ماهناك إشارة إليه سبحانه وتعالى ولا نسلم أنه يشار إلى شيء موجود فوق العالم غير الله تعالى فلم تحصل إلى شيء معدوم بحال ولم يشر أحدٌ إلى جهة عدمية بحال بل المشار إليه ليس هو الجهة التي ينازع فيها المنازعون وأما قوله في الوجه الثالث إن الجوهر إذا انتقل من حيز

إلى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب فيقال إن كان الانتقال في أجسام العالم الموجودة فهذه أمور وجودية وإن كان فيما ليس كذلك فلا نسلم أن هناك شيئاً يكون متروكًا ومطلوبًا أصلاً بل الأحياز الموجودة قد لا يكون المنتقل فيها طالبًا لحيز دون حيز بل قصده شيء آخر فكيف يجب أن يكون كل منتقل ومتحرك طالبًا لحيز وجودي يكون فيه وتاركًا لحيز وجودي انتقل عنه الوجه الرابع أن يقال لا ريب أن الجهة والحيز من الأمور التي فيها إضافة ونسبة فإنه يقال هذا جهة هذا وحيزه والجهة أصلها الوجه الذي يتوجه إليها الشيء كما يقال عِدَة ووعد وزِنَة ووزن وجهة ووجهة والوجهة من ذلك كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] وأما الحيز فإنه فيعل من حازه يحوزه إذا جمعه وضمه وتحيز تفعيل كما أن يحوز يفعل كما قال تعالى وَمَن

يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ [الأنفال 16] فالمقاتل الذي يترك مكانًا وينتقل إلى آخر لطائفة تفيء إلى العدو فاجتمع إليها وانضم إليها فقد تحيز إليها وإذا كان كذلك فالجهة تضاف تارة على المتوجه إليها كما يقال في الإنسان له ست جهات لأنه يمكنه التوجه إلى النواحي الست المختصة به التي يقال إنها جهاته والمصلي يصلي إلى جهة من الجهات لأنه يتوجه إليها وهنا تكون الجهة ما يتوجه إليها المضاف وتارة تكون الجهة ما يتوجه منها المضاف كما يقول القائل إذا استقبل الكعبة هذه جهة الكعبة وكما يقول وهو بمكة هذه جهة الشام وهذه جهة اليمن وهذه جهة المشرق وهذه جهة المغرب كما يقال هذه ناحية الشام وهذه ناحية اليمن والمراد هذه الجهة والناحية التي يتوجه منها أهل الشام وأهل اليمن فأما الحيز فلفظه في اللغة يقتضي أنه ما يحوز الشيء ويجمعه ويحيط به ولذلك قد يقال على الشيء المنفصل عنه كداره وثوبه ونحو ذلك وقد يقال لنفس جوانبه وأقطاره إنها

حيزه فيكون حيزه بعضًا منه وهذا كما أن لفظ الحدود التي تكون للأجسام فإنهم تارة يقولون في حدود العقار حده من جهة القبلة ملك فلان ومن جهة الشرق ملك فلان ونحو ذلك فهنا حد الدار هو حيزها المنفصل عنها وقد يقال حدها من جهة القبلة ينتهي إلى ملك فلان ومن جهة الشرق ينتهي إلى ملك فلان فحدها هنا آخر المحدود ونهايته وهو متصل ليس منفصلاً عنه وهو أيضًا حيزه وقد جاء في كتاب الله تعالى في موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة 187] والحدود هنا هي نهايات المحرمات وأولها فلا يجوز قربان شيء من المحرم وفي موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة 229] والحدود هنا نهايات الحلال فلا يجوز تعدي الحلال

وإذا كان هذا هو المعروف من لفظ الجهة والحيز في الموجودات المخلوقة فنقول إذا قيل إن الخالق سبحانه في جهة فإما أن يراد في جهة له أو جهة لخلقه فإن قيل في جهة له فإما أن تكون جهة يتوجه منها أو جهة يتوجه إليها وعلى التقديرين فليس فوق العالم شيء غير نفسه فهو جهة نفسه سبحانه لا يتوجه منها إلى شيء موجود خارج العالم ولايتوجه إليها من شيء موجود خارج العالم وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجه منه ولا يتوجه إليه ومن قال إن العالم هناك ليس في جهة بهذا الاعتبار فقد صدق ومن قال إنه جهة نفسه بهذا الاعتبار فقد قال معنى صحيحًا ومن قال إنه فوق المخلوقات كلها في جهة موجودة يتوجه غليها أو يتوجه منها خارجة عن نفسه فقد كذب وإن أريد بما يتوجه منه أو يتوجه إليه ما يراد بالحيز الذي هو تقدير المكان فلا ريب أن هذا عدم محض وأما الحيز فقد يحوز المخلوق جوانبه وحدود ذاته وقد يحوزه غيره فمن قال إن الباري فوق العالم كله يحوزه شيء موجود ليس هو داخلاً في مسمى ذاته فقد كذب فإن كل ما هو خارج عن نفس الله التي تدخل فيها صفاته فإنه من العالم ومن

قال إن حيزه هو نفس حدود ذاته ونهايتها فهنا الحيز ليس شيئًا خارجاً عنه وعلى كل تقدير فمن قال إنه فوق العالم لم يقل إنه في حيز موجود خارج عن نفسه ولا في جهة موجودة خارجة عن نفسه وإذا كان صاحب المذهب يصرح بنفي ذلك فالاحتجاج على أنه ليس في حيز موجود احتجاج في غير محل النزاع فلا يضر ذلك المنازع الوجه الخامس قوله الأحياز الفوقانية مخالفة بالحقيقة للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات يقال له الذي اتفق عليه أهل الإثبات أن الله فوق العالم ويمتنع أن لا يكون فوق العالم سواء قدر أنه في التحت أو غير

ذلك بل كون الله تعالى هو العلي الأعلى المتعالي فوق العالم أمر واجب ونقيضه وهو كونه ليس فوق العالم ممتنع فثبوت علوه بنفسه على العالم واجب ونقيض هذا العلم ممتنع هذا هو الذي اتفق عليه أهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل الفطر السليمة المقرة بالصانع وأما ما ذكره من قول القائل يجب أن يكون مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والحياز فهؤلاء يريدون بذلك أنه يجب أن يكون فوقنا ويمتنع أن يكون تحتنا أو عن يميننا أو عن شمائلنا وهم لا يعنون بذلك أنه يكون متصلاً برؤوسنا بل يعنون أنه فوق الخالق فالعبد يتوجه إليه هناك لا يتوجه إليه من تحت رجليه أو عن يمينه أو عن شماله وقد قلنا إن الجهة فيها معنى الإضافة فالعبد يتوجه إلى ربه بقلبه إلى جهة العلو لا إلى جهة السفل واليمين واليسار كما قال ابن عباس وعكرمة في قوله تعالى عن إبليس ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} [الأعراف 17] قال ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم

وهم لا يريدون بذلك أنه من جهة العلو الموجودة في العالم دون جهة اليمين واليسار والتحت بل ليس هو فيما على رأس العبد من الأجسام ولا فيما عن يمينه ولا فيما عن شماله فهذه الأجسام المختلطة بالعبد من جهاته الست ليس شيء منها مما يجب أن يكون الله فيه وما أعلم أحدًا قط يقول إنه يجب أن يكون في شيء موجود منفصل عنه سواء كان ذلك فوق العبد أو تحته فالرب يجب عندهم أن يكون فوق العالم وهي الجهة التي هي فوق ولايجوز أن يكون فوق العالم وغيره بالنسبة إليه سواء

وأما أن القوم يثبتون وراء العالم أمورًا وجودية يقولون يجب أن يكون الله في واحد منها دون سائرها فهذا ما علمنا أحدًا قاله وإن قاله أحد تكلم معه بخصوصه ولا يجعل هذا قول أهل العلم والإيمان الذين يقولون إن الله فوق العرش ولكن منشأ غلط كثير من الناس هنا أن الجهة نوعان إضافية متغيرة وثابتة لازمة حقيقة فالأولى هي بحسب الحيوان فإن كل حيوان له ست جهات جهة يؤمها هي أمامه وجهة يخلفها وهي خلفه وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي يساره وجهة فوقه وجهة تحته وهذه الجهات تتبدل وتتغير بحسب حركته وليس لها صفة لازمة ثابتة وإنما الجهة اللازمة الثابتة الحقة هي جهتا العلو والسفل فقط فالعلو مافوق العالم والسفل سجين وأسفل السافلين وهو أسفل العالم وقعره وجوفه وإذا كان الأمر كذلك لزم من مباينة الله للعالم أن يكون

فوقه وليس هناك شيء آخر يجوز أن يكون جهة لله تعالى لا يمين العالم ولا يساره ولا تحته وكلام هؤلاء خارج باعتبار جهاتهم الإضافية المتنقلة لا باعتبار الجهة اللازمة الحقة الوجه السادس أن يقال هَبْ أن وراء العالم ست جهات وقالوا يجب اختصاصه بالعلو دون غيره كما أنه يجب أن يكون فوقنا فالاختصاص في الأمور النسبية والإضافية قد يكون لمعنى فيه وفي العالم أو لمعنى فيه لا في العالم أو في العالم لا فيه لا لمعنى في أمر وجودي غيرهما وقوله يمتنع أن يكون في سائر الجهات والحياز المعنى فيه سبحانه وهو أنه العلي الأعلى وهو الظاهرالذي لا يكون فوقه شيء فالحاصل أن وجوب علوه هو لمعنى فيه سبحانه يستحق به أن يكون هو الأعلى الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء فلا يجوز أن يكون في جهة تنافي علوه وظهوره وذلك لا يوجب أن تكون الجهة وجودية لأن العلو والظهور نسبة بينه وبين الخلق فإذا قيل يجب أن يكون فوقهم وأن يكون عاليًا

عليهم ولا يجوز غير ذلك لم يكن فيما يقتضي أن يسبق ذلك ثبوت محل وجودي له بحيث لو فرض أن وراء العالم ست جهات وأن العالم كالإنسان الذي له ست جهات لكان إذاقيل يجب أن يكون الله فوقه ولا يكون عن يمينه ولا عن يساره إنما هو إيجاب لنسبة خاصة وإضافة خاصة له إلى العالم لا يقتضي ذلك أن يكون هناك أمور وجودية فضلاً عن أن تكون مختلفة الحقائق الوجه السابع أن وجود كونه فوق العالم أمر مشروط بوجود العالم فإنه قبل خلق العالم لا يقال إنه فوقه ولا إنه ليس فوقه إذ العلو والفوقية هي من الأمور التي فيها نسبة وإضافة وإن كان الناس قد تنازعوا هل علوه وفوقيته واستواؤه على العرش من الصفات الذاتية التي وجبت له بنفس ذاته وإن كان

فيه إضافة ظهر حكمها بخلق العالم والعرش كما يقولون في المشيئة والعلم أو هو من الصفات الفعلية وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه أو هو إضافة محضة بينه وبين العرش أم متضمن لأمرين من ذلك أو للأمور الثلاثة فلا ريب أن وجود العلو على العرش الاستواء عليه

إنما هو بعد خلقه ولو قدر أن العالم أو العرش خلق في حيز آخر لكان الله سبحانه وتعالى عاليًا عليه ومستويًا عليه حيث خلق كما أنه سبحانه إذا كان مع عبده بعلمه وقدرته أو نصره وتأييده وغير ذلك فحيث كان العبد كان مع الله وإذا كان كذلك لم يكن لبعض الأحياز حقيقة يتميز بها عن حيز آخر لأجلها يستحق أن يكون الله فيه وإنما وجوب اختصاصه هو تابع لوجوب علوه ولاستوائه وعلوه واستواؤه على عرشه ينافي أن لا يكون عاليًا عليه فما يفرض من سفول وتياسر ونحو ذلك مما ينافي العلو كان منتفيًا لأن أحد النقيضين ينفي الآخر لا لصفة ثابتة لأحد الحيزين دون الآخر الوجه الثامن قوله ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق يقال لا نسلم ذلك ولم يذكر على ذلك حجة فالمنع المجرد يكفي هذه الدعوى ثم يقال اختصاص الشيء بوجوب كونه فوق الآخر دون كونه عن يمينه ويساره قد يكون لمعنى في الأعلى أو لمعنى في الأسفل أو لمعنى فيهما وهكذا كل أمر فيه إضافة بين أمرين

كالحب والقدرة ونحو ذلك قد يكون لمعنى في المضاف وقد يكون لمعنى في المضاف إليه وقد يكون لمعنى فيهما كالحب والقدرة ونحو ذلك يقتضي معنى في المحب والمحبوب وكذلك القدرة ولذلك يختصان بشيء دون شيء وأما العلم فيقتضي معنى في العالِم لا يقتضي معنى في المعلوم فإن العلم يتعلق بكل شيء لا يختص بموجود دون معدوم ولا بممكن دون ممتنع فالاختصاص فيه إنما هو في العالم لا في المعلوم وكذلك القول ونحوه وأما العلو فقد يكون لمعنى في العالي كصعود الإنسان على السطح فإنه هو الذي تحرك حركة أوجبت علوه والسطح لم يتغير فالرجل يكون تارة فوقه وتارة تحته لتحوله هو دون السطح والطير إذا حاذى الإنسان وكان فوق رأسه ثم نزل حتى صار تحت مكان هو فيه كان الطير فوقه تارة وتحته أخرى لتحول الطير دون تحوله هو وإذا كانت الأمور الإضافية لاتستلزم وجود معنى في غير المضاف والمضاف إليه وإن جاز وجود ذلك لكن نفس المعنى في أحدهما قد يكفي في الصفات الذاتية التي فيها إضافة عارضة لها فكيف يكون في الإضافات المحضة فالعلو سواء كان صفة ثبوتية مستلزمًا للإضافة أو كان فعلاً مستلزمًا للإضافة أو كان فيه الأمران أو كان إضافة محضة يكفي في تحققه وجود معنى في العالي تارة وفي السافل أخرى من غير

اختلاف في حقيقة الأحياز يوضح هذا الوجه التاسع أن الأحياز التي لا ريب في وجودها كالهواء والسطوحات ونحوها قد يعلو عليها الحيوان وتعلو عليه أخرى وتكون تارة عن يمينه وتارة عن شماله مع أن حقائقها في جميع هذه الأحوال سواء لم يتجدد لها باختلاف الحال في كونه عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة صفة أصلاً فإذا كانت الأحياز التي عُلِمَ وجودها ولا يزال حكم الجهات يختلف فيها بكونها عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة وهي مع ذلك لا يحدث فيها شيء من التغير فكيف يقال إنه لولا كون الأحياز التي هي الفوق والتحت واليمين واليسار مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة فوق ومما يوضح ذلك الوجه العاشر وهو أن رأس الإنسان ينبغي أن يكون مختصًّا بجهة فوق بالنسبة إلى سائر بدنه ويده اليمنى يجب أن تكون مختصة بجهته اليمنى ويده اليسرى يجب أن تكون مختصة بجهته اليسرى وصدره وبطنه يجب أن بجهة أمامه وظهره يجب أن يختص بجهة خلفه وأسفل قدميه يجب أن يختص بجهة تحته ومع هذا الوجوب المعلوم بالإحساس ليس ذلك لاختلاف حقائق الجهات التي اختصت بها

هذه الأعضاء ولا لاختلاف صفاتها بل هذا الاختصاص لا يؤثر في الجهات شيئًا أصلاً وإنما الاختصاص لمعنى في الإنسان نفسه لا لمعنى في الجهات الوجه الحادي عشر أنه إذا قدر أن الحيز والجهة أمر موجود لم نسلم المقدمة الثانية وهو قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه والذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك أن وجود موجود مستغن عن الله ممتنع فإن كل ما سواه مفتقر إليه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وقوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قياس شمول عام عدل الله فيه بأحقر المخلوقات فإن الأجسام الضعيفة من المواد والحيوان كالحجر والمدر والبعوضة ونحوها إذا كانت في مكان أو حيز فلا ريب

أنها قد تكون محتاجة إليه وهو مستغن عنها لكن قياس الله الخالق لكل شيء الغني عن كل شيء الصمد الذي يفتقر إليه كل شيء بالمخلوقات الضعيفة المحتاجة عدل لها برب العالمين ومن عدلها برب العالمين فإنه في ضلال مبين وذلك أن أعظم الأمكنة العرش ولا خلاف بين المسلمين الذين يقولون إنه مستو عليه أو مستقر أو متمكن عليه والذين لا يقولون ذلك أن العرش مفتقر إلى الله والله غني عن العرش ولا يقول أحد ممن يتظاهر بالإسلام أن الله يفتقر إلى العرش أو إلى غير العرش بل هم متفقون على أن الله بقدرته الذي يمسك العرش وحملة العرش وسائر المخلوقات هذا مع ما جاء في الآثار من إثبات مكانه تعالى كالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب تعالى وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني

وفي شعر حسان تعالى علوًا فوق عرشٍ إلهنا وكان مكان الله أعلى وأرفعا

فقوله إن الحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قضية عامة ضرب بها مثلاً في قياس شمولي ليس معه فيه إلا مجرد تمثيل الخالق بالمخلوق الضعيف الفقير وإن كان من الجنس الحقير وهؤلاء الجهمية دائمًا يشركون بالله ويعدلون به ويضربون له الأمثال بأحقر المخلوقات بل بالمعدومات كما قدمنا التنبيه عليه غير مرة فلما رأوا أن المستوي على الفلك أو الدابة أو السرير يستغني عن مكانه قالوا يجب أن يكون الله أيضًا يستغني عن مكانه تشبيهًا له بهذا المخلوق العاجز الضعيف ولما رأوا أن الحجر والمدر والشجر والأنثى والذكر يستغني عنه حيزه ومكانه قالوا فرب الكائنات مُشَبَّه بهذه المتحيزات في افتقاره إلى ما هو مستغن عنه تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ثم يقال له في الوجه الثاني عشر إن كثيرًا مما سمى مكانًا وحيزًا وجهة للإنسان يكون مفتقرًا إليه بل ولغير الإنسان أيضًا فمن قال إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي

الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي كبطانة قميص اللابس كان كثير من الأمكنة محتاجًا إلى الممكن كاحتياج القميص إلى لابسه واستغناء صاحبه عنه وكذلك الحيز قد ذكرنا أنه يراد به حدود الشيء المتصلة به التي تحوزه وهو جوانبه وتلك تكون داخلة فيه فلا تكون مستغنية عنه مع حاجته إليها وقديرا دبه الشيء المنفصل عنه الذي يحيط به كالقميص المخيط وهذا قد يكون مفتقرًا إلى الإنسان كقميصه وقد يكون مستغنيًا عنه وإن كان مستغنيًا عن الإنسان لكن الإنسان لا يحتاج إلى حيز معين خارج عن ذاته بحال بل وكذلك جميع الموجودات حيزها إما حدودها المحيطة بها ونهاياتها وهي منها فتلك لا توصف بالاستغناء عنها وإما ما يحيط بها منفصلاً عنها فليس في المخلوقات مايحتاج إلى حيز بعينه وأما الجهة فهي لا تكون جهة إلا بالتوجه فهي مفتقرة في كونها جهة إلى المتوجه والمتوجه لا يفتقر إلى جهة بعينها

بحال وإذا كانت المخلوقات لا تفتقر إلى حيز موجود وجهة موجودة أو مكان موجود بعينه وإن كان فيها ما يفتقر إلى نوع ذلك على البدل وما يسمى لها مكانًا قد يفتقر إليها وكذلك ما يسمى حيزًا لها متصلاً أو منفصلاً قد يكون مفتقرًا إليها وكذلك الجهة مفتقر إليها في معنى كونها جهة كان دعوى افتقار المتحيزات للحيز مع استغناء الحيز عنه في حق المخلوقات ليس على إطلاقه بل إطلاق ذلك دعوى باطلة فكيف في حق الخالق الغني عن كلما سواه المفتقر إليه كل ما سواه الوجه الثالث عشر قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في الجهة يقال له الأجسام كلها حاصلة في الحيز كما ذكرته أفتقول إنه يستحيل عقلاً حصول كل جسم في غير جهة وجودية فهذا لا يقوله عاقل بل يعلم ببديهة العقل أن كل جسم يمكن حصوله في غير جهة وجودية منفصلة كما أن العالم حاصل في غير جهة وجودية وما علمنا عاقلاً قال إن كل جسم يجب أن يكون

حاصلاً في حيز وجودي منفصل عنه وإذا كان كذلك كان قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في جهة التي قد قدم إنها وجودية قول معلوم الفساد ببديهة العقل متفق على فساده بين العقلاء وهذا ليس مما يخفي على من تأمله وإنما الرجل غلط أو خالط في المقدمتين فإنه قد سمع وعلم أن الجسم لا يكون إلا متحيزًا فلابد لكل جسم من حيز ثم سمى حيزه جهة وقد قرر قبل هذا أن الجهة أمر وجودي فركب أن كل جسم يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه وهذا الغلط نشأ من جهة ما في لفظ الحيز والجهة من الإجمال والاشتراك فيأخذ أحدهما بمعنى ويسميه بالآخر ثم يأخذ من ذلك الآخر المعنى الآخر فيكون بمنزلة من قال المشترى قد قارن زحل وهذا هو المشترى الذي اشترى العبد وقد قارن البائع فيكون البائع هو زحل أو يقول هذه

الثريا والثريا قد نكحها سهيل وقارنها فتكون هذه الثريا قد قارنها سهيل ونحو ذلك ومن المعلوم أن الجهة التي نصر أنها وجودية وهي مستغنية عن الحاصل فيها ليست هي الحيز الذي يجب لكل جسم يوضح ذلك الوجه الرابع عشر وهو أنه قال إن

المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز مستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك يقتضي أن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وجهة فيكون محتاجًا إلى الحيز والجهة وقد قرر أن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه فيكون الحيز والجهة مستغنيًا عن الحيز المتوجه وذلك يقتضي أن المتحيزات بأسرها مفتقرة إلى أحيازها وأن أحيازها التي يستحيل عقلاً حصولها في غيرها مستغنية عنها ومن المعلوم لكل عاقل أن تحيز الجسم أمر قائم به محتاج إليه ليس هو مستغنيًا عن الجسم وهذا هو الذي يستحيل عقلاً حصول المتحيز بدونه فإنه يستحيل حصول متحيز بدون تحيز وكل جسم متحيز وحصول المتحيز بدون التحيز محال وهو مثل حصول الجسم أو حصول المقدور بدون تَقَدُّر أو حصول المميز بدون التميز وأما كون المتحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وراء هذا التحيز فالعقل يعلم

خلاف ذلك فيعلم أن المتحيز لا يفتقر إلى حيز وجهة غير هذا التحيز الذي قام به فظهر أنه ناقض مايعلم بالعقل خلافه بأن العقل يعلم افتقار المتحيز إلى حيز منفصل عنه بل يفتقر إلى حيز هو نهايته التي تُحيط به فقلب القضية وجعل الحيز المنفصل الذي هو للجهة مستغنيًا عن المتحيز والمتحيز يستحيل عقلاً حصوله بدونه وظهر ببطلان المقدمتين بطلان المقدمة الأولى من الحجة وهو قوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره ونتكلم على الثانية فنقول الوجه الخامس عشر قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره لفظ مجمل قد تقدم الكلام على نظيره غير مرة وهو أن لفظ الغير عند كثير من الصفاتية أو أكثرهم منهم أصحابك هو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود أو ما جاز وجود أحدهما دون الآخر وعند كثير من نفاة الصفات ومثبتيها ما جاز العلم

بأحدهما دون الآخر فما الذي تريد بلفظ الغير في قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره إن أردت به لكان مفتقرًا إلى ما يجوز وجوده دونه فهذا باطل فليس في الموجودات ما يجوز وجوده دون الله وعلى هذا التقدير فيمتنع افتقار الله إلى غيره لامتناع الغير الذي يجوز وجوده دونه كما يمتنع افتقاره إلى مثله لامتناع مثله ويمتنع خوفه من نده لامتناع نده فالفقر والحاجة إلىما يستغنى عنه محال هذا إن أراد وجود ذلك الغير دونه وإن أراد وجود الله دون ذلك الغير فيكون المعنى أنه مفتقر إلى الغير الذي يجوز وجود الله دونه وهذا جمع بين النقيضين فإنه إذا كان هو سبحانه موجودًا دونه لم يكن مفتقرًا إليه وإذا كان مفتقرًا إليه لم يكن سبحانه موجودًا دونه فقول القائل

إنه مفتقر إلى الغير الذي يوجد دونه مثل قوله مفتقرًا إلى ما هو سبحانه وتعالى مستغن عنه وذلك مثل قول القائل يفتقر لا يفتقر ويستغني لا يستغني وكذلك إن أراد بالغير ما يجوز مفارقته لله بزمان أو مكان أو وجود فالحيز الذي هو من لوازم وجوده كالصفة الذاتية اللازمة له لا يفارقه في زمان ولا مكان وقد ذكرنا أن الحيز الوجودي يراد به حد الشيء المتحيز الذي يحوزه ويراد به شيء منفصل عنه يحوزه والله ليس هو بل ولا غيره من المخلوقات مفتقرًا إلى حيز وجودي بالمعنى الثاني وأما الحيز الوجودي بالمعنى الأول فهذا لايجوز أن يفارق المتحيز لا في زمان ولا في مكان ولا وجود إلا إذا فرق ذلك المتَحيز وحينئذ فلا يكون هو إياه مع أن الله سبحانه صمد لا يجوز عليه التفرق والانقسام فإن أراد بالغير هذا المعنى كان التقدير لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ما هو لازم لذاته لا يجوز مفارقته له ولا انفصاله عنه وهكذا حكم جميع الصفات الذاتية فيكون المعنى كما لو قيل لو كان له صفة ذاتية لكان مفتقرًا إليها افتقار الموصوف إلى الصفة وهذا من

شبه نفاة الصفات التي يبطلها هذا المؤسس نفسه كما تقدم الكلام عليه وهذا أحد الوجوه التي ذكرها في حجة نفاة الصفات في نهايته فقال الثالث أن عالمية الله وقادريته لو كانت لأجل صفات قائمة به لكان الباري محتاجًا إلى تلك الصفات لكن الحاجة على الله محال فبطل القول باتصاف ذاته بالصفات فقوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ذلك مثل هذه سواء إذا فهم أن الحيز الذي يلزم المتحيز هو أمر لازم له ليس شيئًا منفصلاً عنه وأن المتحيز لا يفتقر إلى حيز موجود منفصل عنه بضرورة العقل والحس واتفاق العقلاء وقد تقدم الكلام على مثل هذه الحجة غير مرة وهي مثل قولهم يستلزم التركيب والكثرة الموجبة لافتقاره إلى أجزائه

وقد قال هو قولهم يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات المخصوصة في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما نلتزمه فأين المحال قال وأيضًا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا ويلزمكم أيضًا في الصورة المرتسمة في ذاته من المعقولات ما ألزمتمونا ونحن قد بينا أن هذه الأمور ليست غيرًا له بهذا الاصطلاح فلا يصح أن يقال هو مفتقر إلى غيره وأما إن أراد بالغيرين ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فنقول ثبوت هذه المعاني في حق الله تعالى متفق عليه بين

العقلاء معلوم بضرورة العقل فلابد منه في كل موجود فإنه يعلم شيئاً ثم يعلم شيئاً آخر فإن كان ثبوت هذه الأمور مستلزم حاجة الله إلى الغير فهذا اللازم على كل تقدير ولكل العقلاء وحينئذ فلا يكون محذورًا بهذا التفسير فظهر أن قوله لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير إما منع الملازمة أو منع انتفاء اللازم وذلك بسبب اشتراك لفظ الغير بضرورةالعقل واتفاق العقلاء فإن الغير إن عنى به مايجوز مفارقته في وجود أو زمان أو مكان منعت المقدمة الأولى وهو قوله لكان مفتقرًا إلى غيره فإن الحيز الوجودي الذي يلزمه ليس مما تجوز مفارقته له وإن عنى بالغير ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فثبوت هذا في حق الله معلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء وإن كان فيهم من لا يسميه غير فالمقصود هنا

المعنى دون الألفاظ فتكون المقدمة الثانية باطلة بضرورة العقل واتفاق العقلاء الوجه السادس عشر يقال له ما تعني قولك لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير فإن الافتقار المعروف عند الإطلاق أن يكونَ الشيء محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه كافتقار العبد إلى الله وأما الشيئان اللذان لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر كالموصوف وصفته اللازمة أو المقدرة وقدرة اللازم له وكالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة والعلو والسفل ونحو ذلك فهذه الأمور لا توصف بافتقار أحدهما إلى الآخر دون العكس لكن إذا قيل كل منهما مفتقر إلى الآخر كان بمنزلة قول القائل الشيء مفتقر إلى نفسه والمعنى أن أحدهما لا يوجد إلا مع الآخر كما أن الشيء لا يكون موجودًا إلا بنفسه فإذا كان مخلوقًا كان الفاعل له لنفسه والفاعل لأحدهما هو الفاعل للآخر وإذا كان ذلك هو الخالق لم يكن سبحانه مفتقرًا إلى غير ذاته وإنما المعنى أنه واجب الوجود بنفسه ووجوده لازم لزومًا لا يمكن عدمه وأحد هذه الأمور لازم للآخر لزومًا يمكن معه عدمه

وإذا كان هذا المعنى هو الذي يمكن أن يراد بلفظ الافتقار هنا فيكون المعنى لو كان له صفة ذاتية لازمة له أو لو كان له تحيز لازم لكان ملازمًا له لا ينفك عنه وحينئذ فيتحد اللازم والملزوم ويكون هذا من باب تحصيل الحاصل كما لو قيل لو كان واجبًا بنفسه لكان مفتقرًا إلى نفسه والمعنى أن نفسه لازمة لنفسه لزمًا لا يمكن عدمه فإنما تغلط الأذهان هنا وتحصل الشبهة عند كثير من الناس والوهم في قلوبهم لما في لفظ الافتقار إلى الغير من المحذور وهؤلاء عمدوا إلى هذا اللفظ فاستعملوه في غير المعنى المعروف في اللغة وسموا لزوم صفاته له افتقارًا إلى الغير فلما عبروا عن المعاني الصحيحة بل المعاني التي يعلم بضرورة العقل ثبوتها في نفس الأمر بل لا يستريب في ثبوتها أحد من العقلاء مادام عاقلاً عبروا عنها بالعبارات المشتركة المجملة التي قد تستعمل في معانٍ فاسدة يجب تنزيه الباري سبحانه وتعالى عنها كان هذا الاشتراك مما أشركوا فيه بين الله وبين خلقه وهو من نوع شركهم وعدلهم بالله حيث أشركوا بين المعاني الواجبة لله والممتنعة عليه في لفظ واحد ثم نفوا به

ما يجب لله وكانوا مشركين معطلين في اللفظ كما كانوا مشركين معطلين في المعاني كما تقدم التنبيه على ذلك غير مرة بمنزلة من سمى رحمان اليمامة الرحمن وجعل يقول للناس أنا كافر بالرحمن يوهمهم أن رحمان اليمامة هو كافر بالرحمن الذي على العرش أو بمنزلة من سمى الأوثان آلهة والإله وجعل يقول للمؤمنين قد عبدت الإله ودعوت الإله وإنما يعني به الوثن أو بمنزلة الله اللات

والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهو يعني الكفر بالله فهذا المثل نظير ما فعلوه من تسميته لما أثبته الله لنفسه بأسمائه وآياته بأسماء باطلة من المفتقر والغير ونحو ذلك ثم جعل يقول ينزه الله تعالى عن أن يكون مفتقرًا إلى الغير وهو مثل من يسمي نبيه محمدًا مذممًا ثم يقول العنوا مذممًا وهو صلى الله عليه وسلم محمد وليس بمذمم والله سبحانه الغني بما لَه من الأسماء والصفات وليس بمفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه وإن سموه هم مفتقرًا إلى غيره إذا ثبتت له هذه الصفات كما سمى المشركون محمدًا مذممًا لما دعاهم إلى توحيد الله وعبادته وهذا حال فريق ممن خالف سلطان الله الذي بعث به رسله

وسمى سبحانه الأشياء بما تستحقه من الأسماء من أهل الكفر والبدع التي تشتمل على ما هو من الإيمان وما هو من الكفر فإنهم يسمون الأشياء بأسماء تتضمن حمدًا وذمًّا ونفيًا وإثباتًا وتلك الأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وذلك مثل تسمية الكفار النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا وساحرًا وكاهنًا ومجنونًا وذلك لنوع شبهة قد أزاحها بما أظهره من البينات فلما رأوا القرآن كلامًا موزونًا شبهوه بالشعر الموزون ورأوا الرسول يخبر بالغيوب عن روح ينزل إليه بها

فشبهوه بالكاهن الذي يخبر بكلمة فيكذب معها مائة كذبة عن روح شيطاني ينزل عليه بها ورأوه يزيل ما في النفوس من الاعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة إلى الصحيح الذي فطر الله النفوس عليه فشبهوه بالساحر الذي يغير الأمر في إدراكاتهم وحركاتهم حتى يعتقدوا الشيء بخلاف ما هو عليه ويحبوا ما أبغضوه ويبغضوا ما أحبوه ورأوه قد أتى بما يخالف عاداتهم الفاسدة وما يذمونه عليه فشبهوه بالمجنون الذي يخرج عما يعرف في العقل ويأتي ما يذم عليه

كذلك يسمي أهل البدع من اتبع سبيله الذي قال الله حكاية عنه قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108} [يوسف 108] بأسماء باطلة كتسمية الرافضة لهم ناصبة مع محبتهم أهل البيت وموالاتهم تشبيهًا لهم بمن يبغضهم ويعاديهم لاعتقادهم أن لا ولاية لهم إلا بالبراءة من الصحابة وزعموا أنهم كانوا يعادونهم وكتسمية القدرية لهم مُجْبِرَة مع كونهم يعتقدون أن

العبد فاعل حقيقة وله إرادة وقدرة وتشبيهًا بمن يسلب العبد الفعل ويجعله كالجمادات التي لا إرادة لها لما اعتقدوا أن الله خالق كل شيء وهو خالق العبد وصفاته وأفعاله وكذلك تسمية الجهمية لهم مشبهة مع كونهم يعتقدون

أن الله ليس كمثله شيء في صفة من صفاته أصلاً تشبيهًا لهم بالممثلة الذين يجعلون الله من جنس المخلوقات لمااعتقدوا أن الله موصوف بصفات الإثبات التي جاءت بها النبوات وأما في الذم فتسمية الكفار أصنامهم الإله وتسميتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وما في ذلك لها من معنى الهيبة والعزة والتقدير وكذلك تسمية أهل البدع لأنفسهم بأسماء لا يستحقونها كما تسمي الخوارج أنفسهم المؤمنين دون بقية أهل القبلة ويسمون دارهم دار الهجرة وكذلك الرافضة تسمي أهلها المؤمنين وأولياء الله دون بقية أهل القبلة وكذلك الجهمية ونحوها يسمون أنفسهم الموحدين ويسمون نفي الصفات توحيد الله

وتسمي المعتزلة ذلك توحيدًا وتسمي التكذيب بالقدر عدلاً وتسمي القتال في الفتنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك تسمية الصابئة لعلومهم أو أعمالهم الحكمة أو الحكمة الحقيقية أو المعارف اليقينية مع أن فيها من الجهل والشبه والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال وكذلك تسمية الاتحادية أنفسهم أهل الله وخاصة الله والمحققين وهم من أعظم الناس عداوة لله وأبعد

الناس عن التحقيق وما من اسم من هذه الأسماء الباطلة في الحمد والذم إلا ولابد لأصحابه من شبهة يشتبه فيها الشيء بغيره بل قد يفعل المبطلون أعظم من ذلك كتسمية بعض الزنادقة المتفقرة المسجد إِسطبل البطالين وهذا كثير فيمن يسمي الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وتلك كلها أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وإنما فعلوها لنوع من الشبه التي هي قياس فاسد كشبه الجهمية وقاسهم أنه لو كان لله صفات لازمة لكان مفتقرًا إلي غيره فسموه لأجل ما هو به مستحق الحمد والثناء والمجد وهو الغني الصمد سموه لأجل ذلك مفتقرًا إلى الغير وهذا منهم باطل ما أنزل الله به من سلطان الوجه السابع عشر قوله المفتقر في وجوده إلى الغير

يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال يقال إذا كان الشيء مفتقرًا إلى شيء آخر مستغن عنه وأنه يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الثاني عدم الأول أو لا وجود للأول إلا بالثاني وما كان كذلك فإنه ممكن لذاته لكن إذا كان الثاني غير مستغن عن الأول بل كان الثاني مفتقرًا إلى الأول بحيث يلزم من عدم الأول عدمه لم يمكن أن يجعل الأول ممكنًا لافتقاره إلى الثاني بأولى من أن يجعل الثاني ممكنًا لافتقاره إلى الأول وحينئذ يجب دخولهما جميعًا في وجوب الوجود إذا ثبت أن كلا منهما حاجته على الآخر كحاجة الآخر إليه فكيف والموصوف هنا المستلزم للصفة وذلك يظهر بالوجه الثامن عشر وهو أنه قد عرف أن الغير هنا لا يعني الغير المنفصل عنه بل ما تغاير في العلم وأن الافتقار المراد به التلازم فيكون المعنى أن الموصوف

مستلزم الصفة ومعنى افتقاره إليها أنه لا يكون له حقيقة أو لا يكون على ما هو عليه إلا بها وأنه يلزم من عدمها عدمه لكن تلك الصفة أيضًا يلزم من عدم الموصوف عدمها ولا حقيقة لها ولا وجود إلا بالموصوف وكونها مستلزمة الموصوف وهوافتقارها إلى الموصوف أبلغ من كون الموصوف مستلزمًا لها وإذا كان كذلك كان الموصوف واجبًا للوجود ولم يكن يفتقر إلى شيء منفصل عنه ولكن معنى حاجته استلزامه للصفة التي هي مستلزمة له وهذا حق وهوغير منافٍ لوجوب الوجود بل لا يكون وجود واجب ولا غير واجب إلا كذلك الوجه التاسع عشر أنه لو فرض أن ذاته مستلزمة لشيء منفصل عنه من حيز أو غيره لكان بحيث يلزم من عدم ذلك اللازم لذاته المنفصل عنه عدم الملزوم الذي هو ذاته ثم لم يقل أحد من الخلائق بأن رب العالمين مفتقر لأجل ذلك إلى ما يكون منفصلاً عنه ولا على قول القائل بالتعليل والتوليد الذين منهم خرج التكلم بواجب الوجود فإنهم يقولون إنه علة تامة مستلزم

لوجود معلوله الذي هو العالم الذي تولد عنه ومع هذا فهو واجب الوجود ليس بممكن الوجود ولا يفتقر إلى غيره الوجه العشرون قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لأنه يمكن تقديره بالذراع والشبر وما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالمفتقر إليه أولى أن يكون ممكنًا يقال له قد تقدم أن الحيز الوجودي الذي يقال إن ذات الله مستلزمة له ليس هو شيئًا منفصلاً عنه حتى يقال إنه مركب من الأجزاء والأبعاض أم ليس بمركب وهذا الوجه إنما هو إقامة دليل على حيز وجودي منفصل عن الله تعالى مثل العرش والمنازعون له يقولون إن ذات الله ليست مستلزمة لوجود حيز وجودي منفصل عنه وإنما قد يقول من يقول منهم إنه يكون على العرش

أو يأتي في ظلل من الغمام أو كان قبل أن يخلق العرش في عماء وهو السحاب الرقيق لكن لم يقولوا إن ذلك لازم له بل هو من الأمور الجائزة عليه فلا يكون مفتقرًا إليه الوجه الحادي والعشرون أنه إذا قال قائل إنه لابد من حيز وجودي غير ذاته كغمام أو غيره أو الخلاء عند من يتخيل أنه موجود فإنه قد يقول لا نسلم أن ما ذكره من تقديره ومساحته يدل على إمكانه فإن هذه هي الأدلة الدالة على إمكان ذوات المقدار وقد تقدم بيان بطلانه وأنه لم يقم على ذلك حجة لما ذكر من أدلته على أن كل متحيز وكل جسم فهو ممكن الوجه الثاني والعشرون أنه إذا قدر أن ذلك ممكن لذاته فإنه لايكون إلا مفتقرًا إلى الله لأن كل ما سواه مفتقر إليه وغايته أن تكون حقيقة الرب مستلزمة له ويكون افتقاره إليه كما يقال من افتقار الموصوف إلى صفته وأكثر ما يقال إنه مفتقر إليه كافتقار العلة إلى معلولها الذي هو مفتقر غليها يعني أن العلة لا تكون

موجودة إلا بوجود معلولها ومعلولها هو مفتقر إليها فجعل العلة الموجبة بنفسها مفتقرة على معلولها حاصله أن وجوده لا يكون إلى مع وجوده وهذا لا يوجب أن يكون واجب الوجود ممكنًا الوجه الثالث والعشرون قوله والمفتقر على الممكن بذاته أولى أن يكونَ ممكنًا لذاته فيقال إذا كان معنى الفقر ما يعود إليه حاصل كلامك وأن معناه أن الواجب بنفسه مستلزم لوجود ما هو ممكن بذاته وهو الواجب لذلك الممكن وهو مع حاجته إليه هو الموجب فيكون حقيقة الأمر أن الواجب بنفسه أوجب أو أوجد ما يحتاج إليه وهذا لا يوجب أن يكون محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه ولا أن يكون ممكنًا بل لا يوجب حاجته إلى ما هو غيره لأن ذاته هي الموجبة لكل مايحتاج إليه فلا حاجة به إلى غيره بحال هذا مع تسميتنا هذه المعاني حاجة وافتقارًا على ما زعمته ولكن لو كان محتاجًا إلى ممكن مستغن عنه بوجه من الوجوه كان فيه إمكان أما إذا كان ذلك الأمر محتاجًا إليه من كل وجه غير مستغن عنه فالحاجة إلى مالا يقوم إلا بنفسه كالحاجة إلى نفسه وذلك لا ينافي وجوبه بنفسه بل حقيقة الواجب بنفسه أن لا يستغني عن نفسه ولا يكون إلا بنفسه سميت ذلك فقرًا إلى نفسه أو لم تسمه وهذه الحجة لأمور قد

تقدم الكلام عليها فلهذا نختصر الكلام عليها هاهنا الوجه الرابع والعشرون قوله في الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودين في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين يقال له هؤلاء إذا قالوا بأنه مختص بحيز وجودي أزلاً وأبدّا فليس ذلك عندهم شيئاً خارجاً عن مسمى الله كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجًا عنه بل هو منه وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة والحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لزومه للذات كما أنه كذلك في سائر المتحيزات فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته أبلغ في لزومه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك

ثم إن هذه الحجة التي ذكرها من لزوم إثبات قديم غير الله تعالى مشهورة من حجج النفاة للصفات وقد ذكرها هو في نهايته فقال في حجتهم الرابع الصفات القديمة لابد وأن تكون مساوية للذات القديمة في القدم وذلك يقتضي تماثلهما وأجاب عن ذلك بأجوبة صحيحة بين فيها أن الاشتراك في القدم لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة ولا يستحيل أن يكون للذات صفات قديمة لكن هذا الموضع لا يحتاج إلى ذلك فإن احتج على نفي قديم غير الله بإجماع المسلمين فيكون الجواب في الوجه الخامس والعشرين وهو أن المسلمين لم يجمعوا على أنه ليس لله صفة قديمة بل عامة

أهل القبلة على إثبات ذلك ولكن أجمعوا على أنه ليس فيما هو خارج عن مسمى الله وهو الأمور المخلوقة شيء قديم فأين هذا من هذا فهذا الإجماع إنما يلزم لو قيل إن هناك حيزًا وجوديًّا خارجًا عن مسمى الله تعالى يختص له أزلا وأبدًا الوجه السادس والعشرون أن احتجاجك في هذا بالإجماع لا يصح فإنك قد حكيت نزاع المسلمين في أن الباري هل هو متحيز ومختص بحيز وجهة وقررت أن الحيز أمر وجودي فتكون قد حكيت نزاع المسلمين في ثبوت حيز قديم مع الله بل قد يقال حكيت اختلافهم في ثبوت حيز قديم وجودي غير الله وإذا حكيت اختلافهم في ذلك لم يجز أن تحكي إجماعهم على نفي قديم غير الله تعالى وتقرير هذا في الوجه السابع والعشرين أن يقال هذه الحجة من أولها مبنية على أن الحيز أمر وجودي وبذلك أبطلت المنازع لك في أن الباري متحيز فلا يخلو إما أن يكون الحيز وجوديًّا أم لا فإن كان الحيز وجوديًّا فقد ثبت تنازع الأمة في ثبوت قديم غير الله معه لأن النزاع في تحيزه معلوم مشهور وأنت إنما قصدت الرد على المخالف في ذلك وإن لم يكن

الحيز وجوديًّا بطلت الحجة من أصلها وعلى التقديرين لا يصح أن تحتج بالإجماع على نفي قديم غير الله تعالى مع حكايتك الخلاف في أن الله متحيز وبنائك الحجة على أن الحيز أمر وجودي بل إن كان ما ذكرته من النزاع نقلاً صحيحًا وما ذكرته من الحجة صحيحة فقد ثبت أن في الأمة من يقول بثبوت قديم غير الله وإن لم يكن صحيحًا بطل الاستدلال من أوله الوجه الثامن والعشرون أن هذا اللفظ بعينه لا ينقل عن سلف الأمة حتى يحتج بمضمون اللفظ ولكن لما علم من مذهب الأمة أن الله خالق كل شيء وأن العالم محدث ذكر هذا اللفظ نقلاً لمذهبهم بالمعنى وإذا كان كذلك لم يكن هذا متناولاً لموارد النزاع بين الأمة الوجه التاسع والعشرون أنه أورد من جهة المنازع أنه لا يعني بكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا أنه مباينٌ عن العالم منفردٌ عنه ممتازٌ عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجودًا آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير وهذا كلام جيد قوي كما قد بيناه فيما مضى أن الحيز لا خلاف بين الناس أنه قد يراد به ما ليس بخارج عن

مسمى الذات وأن هؤلاء المنازعين له لا يقولون إن مع الباري موجودًا هو داخل في مسمى نفسه أو موجودًا مستغنيًا عنه فضلاً عن أن يكون الرب مفتقرًا إليه بل كل ما سواه فإنه محتاج إليه وقد قرر لهم ذلك بالعالم فقال والذي يدل على صحة ما ذكرنا أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى ههنا فلم لا يجوز مثله في كون الباري مختصًّا بالحيز والجهة وهذا كلام سديد وهو قياس من باب الأولى ومثل هذا القياس يستعمل في حق الله تعالى وكذلك ورد به الكتاب والسنة واستعمله سلف الأمة وأئمتها كقوله تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الروم 39] وقوله أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات 153]

وقوله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ {59} لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {60} [النحل 58-60] وقوله وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ {62} [النحل 62] فإن الله أخبر أنهم إذا لم يرضوا لأنفسهم أن يكون مملوك أحدهم شريكه ولم يرضوا لأنفسهم أن يكون لهم البنات فربهم أحق وأولى بأن ينزهوه عما لا يرضوه لأنفسهم للعلم بأنه أحق منهم بالتنزيه عما هو عيب ونقص عندهم وهذا كما يقول المسلم للنصراني كيف تنزه البتريك عن أن يكون له ولد وأنت تقول إن لله ولدًا وكذلك هنا

هو ينزه العالم المتحيز أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود ولا ينزه الرب المعبود إذا كان فوق العرش أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود والخالق أحق بالغنى من المخلوق فتنزيهه عن الشريك والولد والحاجة كل ذلك واجب له فإذا نزه بعض الموجودات عن شيء من ذلك كان تنزيهه الباري عنه أولى وأحرى ولم يجب عن هذا القياس والمثل الذي ضربوه له بالعالم بجواب صحيح بل قال قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في هذا الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما

كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق فيقال له أنت وجميع الخلق تسلمون أن كون العالم في حيز وجهة لا يستلزم احتياجه إلى حيز موجود مستغن عن العالم فإن هذا لم يقله عاقل فإنه يستلزم التسلسل وإذا كان قد علم بالعقل والاتفاق أن العالم يستغني في تحيزه عن حيز موجود خارج عنه فخالق العالم أولى أن يكون مستغنيًا عن ذلك ومن قال إنه في تحيزه يكون مفتقرًا إلى شيء موجود خارج عنه فلم يكفه أن عدله بالمخلوق بل فضل المخلوق بالاستغناء عليه تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما قوله أيضًا في الجواب قد بينا بالبراهين القاطعة أن الأحياز أشياء موجودة فلا يبقى في

صحتها شك فيقال له قد تبين أن هذه من أضعف الشبه مع أنك مبطل لها كما تقدم ثم ما ذكرته في نهايتك في ذلك منقوض عليك في العالم فما كان جوابك فيه كان جواب منازعك هنا فإنك ضربت لله أمثالاً أوجبت فيها أنه محتاج مع وصفك لمن هو دونه بالغنى عما جعلته محتاجًا إليه ويكفيك ضلالاً أنك لو أشركت بالله وجعلته مثل المخلوقات لنجوت من هذا الضلال الذي أوجبت فيه حاجة رب العالمين إلى غيره إذا كان فوق العالم بل هذه الحال التي سلكتها أسوأ من حال المشركين في هذا المقام حيث أغنيت المخلوق عما أحوجت إليه الخالق هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد 4] ومثله في هذه المناظرة كما وقع بين اثنين واحد من المثبتة الذين يُثَبِّتُهم الله بالقول الثابت وآخر من النفاة قال النافي للمثبت إذا قلتم أن الله فوق العالم أو فوق العرش لزم أن يكون محتاجًا إلى العرش أو يكون محمولاً له محتاجًا إليه

كما إذا كان أحدنا على السطح فقال له المثبت السماء فوق الأرض وليست محتاجة إليها وكذلك العرش فوق السموات وليس محتاجًا إليها فإذا كان كثير من الأمور العالية فوق غيرها ليس محتاجًا إليها فكيف يجب أن يكون خالق الخلق الغني الصمد محتاجًا إلى ما هو عال عليه وهو فوقه مع أنه هو خالقه وربه ومليكه وذلك المخلوق في بعض مخلوقاته مفتقر في كل أموره إليه فإذا كان المخلوق إذا علا على كل شيء غني عنه لم يجب أن يكون محتاجًا إليه فكيف يجب على الرب إذا علا على كل شيء من مخلوقاته وذلك الشيء مفتقر إليه أن يكون الله محتاجًا إليه الوجه الثلاثون أنه قال في الاعتراض لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى

فقال في الجواب أماقوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز والجهة كونه تعالى منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو بائنًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لا نزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله عن الجهة لا يكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل فيقال له هذا الذي ذكرته ليس دليلاً على أن المخالفة في الحقيقة والماهية لا تقتضي الجهة فإن قولك إن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وليس ذلك بالجهة إنما يكون حجة لو ثبت أن الحيز والجهة أمر وجودي فإن الكلام هنا إنما هو في الامتياز والمباينة التي من الأمور الموجودة لا بين الموجود والمعدوم فإن المعدوم ليس شيئاً في الخارج حتى يحتاج إلى التمييز بينه وبين غيره وليس له

حقيقة وماهية حتى يميز بينه وبين غيره ولو فرض أنه محتاج إلى التمييز بينه وبين غيره فالكلام هناك وفي المباينة التي بين موجودين وهي المباينة بين الله وبين العالم وإذا كان كذلك كان احتجاجه بالمباينة التي بين الله وبين الجهة على المباينة بين الموجودين يكون بالحقيقة لا بالجهة إنما يصح إذا كانت الجهة أمرًا وجوديًّا وهذا هو محل النزاع الذي نازعه فيه المنازع على أن الجهة المضافة إلى الله تعالى ليست أمرًا موجودًا فإنه لا معنى لكون الباري في الجهة إلا كونه مباينًا للعالم ممتازًا عنه منفردًا وهو لا يقتضي وجود أمر سوى ذات الله فإذا احتج على أن المباينة التي بين الله تعالى وبين العالم إنما هي بالحقيقة ومباينة الشيء بالحقيقة لا يقتضي الجهة كمباينة الرب للجهة كان قد سلم أن الجهة أمر وجودي في هذا الجواب وهذه مصادرة على المطلوب حيث جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه والمنازع يقول لا أسلم أن الجهة أمر موجود حتى يقال إن الله تعالى مباين لشيء موجود بغير جهة فإن النزاع ما وقع إلا في وجودها وهذا أول المسألة فكيف يحتج في وجوده بدليل محتج فيه بوجوده وهذا

ظاهرلا يخفى على من تدبره وظهر أنه لم يذكر حجة على أن المخالفة بالحقيقة لا تقتضي الجهة الوجه الحادي والثلاثون أن يقال المعلوم من المباينة والامتياز بالحقيقة والماهية لا يخلو عن الجهة وذلك أنه إما أن يكون بين جوهرين وجسمين وما يقوم بهما وكل منهما مباين للآخر بالجهة وإما أن يكون بين عرضين بجوهر واحد وعين واحدة كطعمه ولونه وريحه وعلمه وقدرته أو بين العين وبين صفاتها وأعراضها كالتمييز بين الجسم وبين طعمه ولونه وريحه وهذان الموضعان لا يخلو الأمران عن الجهة أيضًا فإن الجوهر هو في الحيز بنفسه بخلاف العرض الذي فيه فإنه قائم في الحيز تبعًا لغيره وأما الصفتان والعرضان فهما أيضًا قائمان بمتحيز وإن كان أحدهما لا يتميز عن الآخر بمحله فليس في الأشياء الموجودة التي يعلم تباينها وتمايزها ما تخلو عن الجهة والحيز فإن قيل فأحد العرضين مباين الآخر بحقيقته مع اتفاق محلهما فبقال الوجه الثاني والثلاثون وهو أن كل شيئين قائمين

بأنفسهما لا يباين أحدهما الآخر إلا بالجهة وذلك أن الموجودات كلها الواجب والممكن إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره فالقائمات بأنفسها لا تتميز بعضها عن بعض إلا بالجهة وأما القائم بغيره فإنه تبع في الوجود للقائم بنفسه يوضح ذلك أن القائم بغيره هو محتاج إلى محل ومكان وأيضًا فقد يقال الأعراض نوعان أحدهما مالا تشترط له الحياة وهو قسمان أحدهما الأكوان وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فهذه لا تتميز وتتباين إلا بالجهة والحيز وإن كان تبعًا للمحل فلا يفرق بين الحركة والسكون ولا بين الاجتماع والافتراق إلا بالحيز والجهة فإن الحركة انتقال في حيز بعد حيز والسكون دوام في حيز واحد

والاجتماع يكون بتلاقي الحيزين والافتراق يكون بتباينهما والثاني الطعوم والألوان والروايح وهذه هي الصفات فهذه الأمور لا تدرك بشيء واحد بل تتميز بحواس مختلفة فالذي يتميز به هذا غير الذي يتميز به هذا فحقائقها لا تظهر إلا بإدراكها وإدراكها من أجناس في أحياز متباينة فامتياز الأحياز التي لإدراكاتها تقوم مقام امتياز أحيازها والقسم الثاني ما تشترط له الحياة كالعلم والقدرة والسمع والبصر فهذه أيضًا متباينة قد يحصل بين آثارها من تباين المحال ما يقوم مقام تباين محالها وقد يقال هذه الأعراض كلها مفروضة الإضافة إلى الغير وذلك الغيرالذي هي مضافة إليه متباين بجهته فهي متباينة بالإضافة إلى ما تتباين جهته وظهر أنه ليس في الموجودات ما يباين غيره بمجرد حقيقته المجردة عن الجهة

من كل وجه بل لابد من شيء يظهر تحصل به الوجه الثالث والثلاثون أن يقال لا نسلم أنه إذا قيل هذا مباين لهذا وممتاز عنه أو منفرد عنه فإنه لا يراد به إلا أن حقيقته ليست مثل حقيقته بل المراد بذلك أن هذا في ناحية عن هذا وأنه منفصل عنه بحيث يكون حيزه غير حيزه هذا هو المعروف من هذا وأما الاختلاف في الحقيقة فمعناه عدم المماثلة فإن الحقائق إما مختلفة وإما متماثلة ومن المعلوم أنه إذا قيل إن الله مباين للعالم أو ممتاز عنه ومنفرد عنه لم يرد به أن الله ليس مثل العالم وهذا كما قيل لابن مبارك بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذه المباينة لا يراد بها عدم المماثلة بل يراد بها أنه منفصل عنه وتصور ذلك بديهي ظاهر وما يعلم في المواضع التي يستعمل فيها لفظ مباينة الشيء لغيره وامتيازه عنه وانفراده عنه إلا ويكون ذلك مع انفصال أحدهما عن الآخر حتى إذا ضمن ذلك المفاضلة وعدم المماثلة مثل أن يقال هذا متميز عن هذا بكذا وكذا وهذا منفرد عن أقرانه بكذا وكذا ففي هذه المواضع كلها يوجد معنى

الانفصال والتمييز بالحيز والجهة ودليل ذلك أنه لا يعرف أن يقال اللون منفرد عن الطعم ومباين له مع أن أحدهما ليس مثل الآخر فعلم أن المخالفة التي مضمونها عدم المماثلة فهي متضمنة الانفصال الوجه الرابع والثلاثون أن يقال المختلفان في الحقيقة هما اللذان لا يتماثلان فالمماثلة ضد المخالفة والاختلاف ضد التماثل وعدم التماثل لابد أن يستلزم صفات حقيقية ثبوتية اختلفا بها وإلا فالعدم المحض لا يوجب امتياز أحدهما عن الآخر فإذن التباين بمعنى الاختلاف في الحقيقة يقتضي أمورًا ثبوتية خالف بهما أحدهما الآخر مخالفة تنفي تماثله وإذا كان المراد بالمباينة ذلك لم يجز العلم بها إلا بعد العلم بأن الشيئين ليسا متماثلين وذلك لا يكون إلا بعد العلم بأمور ثبوتية تنفي مماثلتهما كما يعلم الطعم واللون والريح فيعلم أنها ليست متماثلة والعلم بأن الخالق مباين للمخلوق وأنه ممتاز عنه وأنه منفرد عنه يحصل قيل العلم بان الله لا مثيل له وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم كما أنه قد

يحصل العلم بأنه ليس مماثلاً للخلق بل مخالف له قبل العلم بأنه مباين للعالم ممتاز عنه منفرد عنه فإن باب الكيف غير باب الكم وباب الصفة غير باب القدر وإذا كانت المباينة بالقدر والجهة تعلم دون هذه علم أنها أيضًا ثابتة وإن كانت تلك أيضًا ثابتة وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعًا بل المباينة بالجهة والقدر أكمل فإنها تكون لما يقوم بنفسه كما تكون له المباينة بالصفة والكيفية وأما المباينة بمجرد الصفة والكيفية فلا تكون إلا بما يقوم بغيره لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الاستقلال ومن ها هنا يتبين لنا الوجه الخامس والثلاثون وهو أن المعلوم أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضًا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض ومباينة الأجسام للأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحياز وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها وتتباين مع اختلافها أيضًا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها كالجسمين

المختلفين والعرضين المختلفين في محلين وأدنى ما يتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقَدْر لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس مباينة الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد بل إذا كان العالم قائمًا بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة العرض للجسم الذي قام به ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لاسيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر فإن الله غني عن العالمين كما تقدم ومن هاهنا جعله كثير من الجهمية حالاً في كل مكان وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات أو جعلوه الوجود المطلق أو نفس الموجودات وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل هو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته على

العالم ما يجب تنزيه الله عنه وهؤلاء قد زعمواأنهم نزهوه عن الحيز والجهة فلا يكون مفتقرًا إلى غيره فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً {91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً {92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً {95} [مريم 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته وأن ذلك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد وإذا كلن هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدومًا كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش إنهم جعلوه معدومًا ووصفوه بصفة المعدوم

يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولايجب أن يكون موجودًا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذه حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين الوجه السادس والثلاثون أن يقال هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات فالواجب أن تكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله ومباينة الجوهر للجوهر وذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة الني تسمى المباينة بالحقيقة والكيفية والمباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية وإن كانت مباينته

لهذين أعظم ممايعلم من مباينة المخلوق للمخلوق إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها فهذا يقتضي مماثلته للمخلوق وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض وذلك ممتنع يوضح ذلك الوجه السابع والثلاثون وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة وهي ضد المماثلة وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم ذلك فإن المباينة بالجهة والحيز تقتضي أن تكون عين أحدهما مغايرة لعين الآخر وهذا فيه رفع الاتحاد وإثبات مخالفة وكذلك اختلاف الصفة والقدر ترفع المماثلة وتثبت المباينة والمخالفة وهو إن كان قد قال إن المباينة يُعنى بها المباينة بالجهة والمخالفة في الحقيقة وقد ذكر أنها في المعنى الأول أظهر فإنها تستلزم الاختلاف في الحقيقة حيث كانت فإن الشيئين المتماثلين لايتصور أن يتماثلا حتى يرتفع التباين في العين بل لابد أن تكون عين أحدهما ليست عين الآخر وان يكون له ما يخصه من أحوال كالعرضين المتماثلين بل السوادين إذا حل أحدهما في محل بعد الآخر فإن زمان هذا غير زمان الآخر ولهذا يقال المباينة تكون

فصل في الرد على البرهان الثالث للرازي في أنه يمتنع أن يكون مختصا بالحيز والجهة

بالزمان وتكون بالمكان وتكون بالحقيقة والمقصود هنا أن المباينة مستلزمة لرفع المماثلة فإذا كان الله سبحانه ليس كمثله شيء في أمر من الأمور وجب أن تكون له المباينة التامة بكل وجه فيكون مباينًا للخلق بصفته وقدره بحقيقته وجهته وبقدمه الذي يفارق به الكائنات في زمانها فتكون الأشياء مباينة له بمكانها وزمانها وحقيقتها وهو سبحانه مباين لها بأزله وأبده وظهروه وبطونه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهومباين لها بصفاته سبحانه وتعالى يؤيد هذا أن المثبتة للصور أعظم تنزيهًا لله عن مماثلة الخلق من نفاتها لأن الأمور السلبية لا ترفع المماثلة بل الأعدام متماثلة وإنما يرتفع التماثل بالأمور الوجودية فكل من كان أعظم إثباتًا لما توجبه أسماء الله وصفاته كان رفعه المماثلة عن الله أعظم وظهر أن هؤلاء الجهمية الذين يزعمون أنهم يقصدون تنزيهه عن المشابهة هو الذين جعلوا له أمثالاً وأندادًا فيما أثبتوه وفيما نفوه كما تقدم بيان ذلك والله أعلم

أما قولنا إنه يمتنع أن يكون غير متناه من جميع الجوانب فيدل عليه وجوه الأول أن وجود بُعدٍ لا نهاية له محال والدليل عليه أن فَرْضَ بُعْدٍ غير متناه يُفضي إلى المحال فوجب أن يكون محالاً وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا إذا فرضنا بعدًا غير متناه وفرضنا بعدًا آخر متناهيًا موازيًا له ثم زال الخط المتناهي من الموازة إلى المسامتة فنقول هذا يقتضي أن يحصل من الخط الأول الذي هو غير متناه نقطة هي أول نقط المسامتة وذلك الخط المتناهي ما كان مسامتًا للخط الغير متناهي ثم صار مسامتًا له فكانت هذه المسامتة حادثة في

أول أوان حدوثها لابد وأن تكون مع نقطة معينة فتكون تلك النقطة هي أول نقطة المسامتة لكن كون الخط غير متناه يمنع من ذلك لأن المسامتة مع النقطة الفوقانية تحصل قبل المسامتة مع النقطة التحتانية فإذا كان الخط غير متناه فلا نقطة فيه إلا وفوقها نقطة أخرى وذلك يمنع من حصول المسامتة في المرة الأولى مع نقطة معينة فثبت أن هذا يقتضي أن يحصل في الخط الغير متناه نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل وهذا المحال إنما لزم من فَرْضِنَا أن ذلك الخط غير متناه فوجب أن يكون في ذلك محالاً فثبت أن القول بوجود بعد غير متناه محال الوجه الثاني وهو أنه إذا كان القول بوجود بعد غير

متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع الوجه الثالث أنه لو كان غير متناه من جميع الجوانب لوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزاء ذاته وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل وأما القسم الثاني وهو أن نقول إنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب فهو أيضًا باطل لوجهين أحدهما أن البرهان الذي ذكرناه على امتناع بعد غير

متناه قائم سواء قيل من كل الجوانب أو من بعض الجوانب الثاني أن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الذي فرض أنه متناه إما أن يكونا متساويين في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الجانب الآخر وذلك يقتضي أن ينقلب الجانب المتناهي غير متناهٍ والجانب الغير متناه متناهيًا وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى وهو محال وأما القسم الثاني وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الثاني في الحقيقة والماهية فنقول أن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بينا الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلاالشيء الممتد في

الجهات المختص بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كانت جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه متناه من كل الجوانب فهذا أيضًا باطل من وجهين أحدهما أن كل ما كلن متناهيًا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكلما كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه الثاني أنه لما كان متناهيًا من جميع الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحياز خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله وأيضًا فهو تعالى قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ فلو فرض حيز خال لكان قادرًا على أن يخلق فيه جسمًا وعلى

هذا التقدير يكون هذا الجسم فوق الله تعالى وذلك عند الخصم محال فثبت أنه لو كان في جهة لم يخل الأمر عن أحد هذه الأقسام الثلاثة وثبت أن كل واحد منها باطل محال فكان القول بأن الله تعالى في الحيز والجهة محال فإن قيل ألستم تقولون إنه غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه شيء غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول فإن كان مرادكم ذلك فقد ارتفع

النزاع بيننا وإن كان مرادكم هذا الوجه الثاني فحينئذ يتوجه عليكم ماذكرناه من الدليل ولا ينقلب ذلك علينا لأنا لا نقول إنه غير متناه بهذا التفسير حتى يلزمنا ذلك الإلزام فظهر الفرق وبالله التوفيق يقال هذه الحجة هي من جنس قولهم لو كان فوق العرش لكان إما أن يكون أصغر منه أو بِقَدْرِه أو أكبر منه ببعد متناه أو غير متناه وهذه الحجج من حجج الجهمية قديمًا كما ذكر ذلك الأئمة وذكروا أن جهمًا وأتباعه هم أول من أحدث في الإسلام هذه الصفات السلبية وإبطال نقيضها مثل قولهم ليس فوق العالم ولا هو داخل العالم ولا خارجه وليس في مكان دون مكان وليس بمتحيز ولا جوهر ولا جسم ولا له نهاية ولا حد ونحو هذه العبارات فإن هذه

ذكر أقوال أئمة الإسلام فيما أنكروه على الجهمية

العبارات جميعها وما يشبهها لا تؤثر عن أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة الدين المعروفين ولا يروى بها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا توجد في شيء من كتب الله المنزلة من عنده بل هذه هي من أقوال الجهمية ومن الكلام الذي اتفق السلف على ذمه لما أحدثه من أحدثه فحيث ورد في كلام السلف ذم الجهمية كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك وحيث ورد عنهم ذم الكلام والمتكلمين كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك فإن ذلك لما أحدثه المبتدعون كثر ذم أئمةالدين لهم وكلامهم في ذلك كثير قد صنف فيه مصنفات حتى إن أعيان هذه العبارات وأمثالها ذكرها السلف والأئمة فيما أنكروه على الجهمية وأهل الكلام المحدث وقد قدمنا ما وصفه الإمام أحمد من مذهب جهم حيث قال وتأول القرآن على غير تأويله وكَذَّبَ بأحاديث النبي

صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئاً وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بشرًا كثيرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ما تفسيره يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه ولا هو في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولايوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا له غاية ولا

منتهي ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو سمع كله هو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بصفتين مختلفتين فليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولاشمال ولاهو خفيف ولا ثقيل ولاله لون ولاله جسم وليس بمعقول وكلما خطر بقلبك أنه شيء تعرفه فالله بخلافه وقال أيضًا الإمام أبوسعيد عثمان بن سعيد في كتابه المعروف الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهم العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال باب الحد والعرش وادعى المعارض أنه ليس لله حد ولا غاية

ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك منها أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لا شيء ليس له حد وغاية ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولاغاية وقولك لا حد له يعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه غيره ولا يجوز لأحد

أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله ولمكانه أيضَا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك يم نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك

قال فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال اعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها مؤمنة

دليل على أنها لو لم تؤمن أن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله ثم قال وثنا أحمد بن منيع البغدادي حدثنا

أبو معاوية عن شيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن

حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تُعِدُّه لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء

فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض فقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في

السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم قد عرفوه بذلك إذاحَزَبَ الصبي شيء رفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية وقدمنا أيضًا قوله في ضمن رده على الجهمي المنكر لاستواء الله على العرش قال وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغر أو كبر وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن كان الله أصغر فقد صيرتم العرش

أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر من خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يضل بها لو كان من يعمل عليه لله لقطع ثمرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البقاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحتمله العرش عظمًا ولا قوة ولا حملة العرش احتملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه بشدة أسرهم ولكنهم حملوه بقدرته ومشيئته وإرادته وتأييده لولا ذلك ما أطاقوا حمله

وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقل على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة وإذا عرفت أصل هذا الكلام فجميع السلف والأئمة الذين بلغهم ذلك أنكروا ما فيه من هذه المعاني السلبية التي تنافي ما جاء به الكتاب والسنة ثم من كان من السلف أخبر بحال الجهمية مثل الذين كانوا يباشرونهم من السلف والأئمة الذين بالعراق وخراسان إذ

ذاك فإنهم كانوا أخبر بحقيقة أمرهم لمجاورتهم لهم فإنهم قد يتكلمون بنقيض ما نفوه وقد يتوقف بعضهم عن إطلاق اللفظ مثل لفظ الحد فإن المشاهير بالإمامة في السنة أثبتوه كما ذكره عثمان بن سعيد عنهم وسمَّى ابن المبارك وذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب ذم الكلام بإسناد ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق في مسائله عنهما وعن غيرهما قال قلت لإسحاق بن إبراهيم ما تقول في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وذكر أيضًا ما ذكره ابن أبي

حاتم بإسناده أن هشام بن عبيد الله الرازي القاضي صاحب محمد بن الحسن حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب وقال شيخ الإسلام شرح مسألة حد البينونة في كتاب الفاروق يعني تصنيفه باب أغنى عن تكريره هنا وقال شيخ الإسلام في كتاب ذم الكلام وأهله في أثناء

الطبقة الثامنة وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه من سجستان هذا مع أن هؤلاء الذين يذكر شيخ الإسلام أقوالهم من أئمة الحديث والفقه والتصوف وغيرهم وقد ذكر عنهم ذم الكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم على ما أحدثوه مما يخالف طريقة أهل السنة والحديث وذكر الخلال في كتاب

السنة ما تقدم من رواية حرب عن إسحاق بن إبراهيم أن الله عزوجل وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه من ذلك قوله يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] في آيات كلها تصف العرش وقد ثبتت الروايات في العرش وأعلى شيء فيه وأثبته قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال وأنا أبوبكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال قال إسحاق بن

راهوية قال الله تبارك وتعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي السموات السبع وما فوق العرش أحاط بكل شيء علمًا وما تسقط من ورقة إلا يعلمهاولاحبة في ظلمات البر والبحر إلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه ولايعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره ثم قال أبو بكر الخلال في كتاب السنة أنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له روى علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] ثم قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22]

قال الخلال وأنا محمد بن علي الوراق ثنا أبوبكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد ابن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا

وقال ثنا الحسن بن صالح العطار ثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال

كنا عند أبي عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك 16] تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وهو على العرش وعلمه مع كل شيء وقولهم ما معنى قول ابن المبارك وقوله لا أعرفه قد يكون لا أعرف حقيقة مراده لكن للمعنى الظاهر من اللفظ شواهد وهو النصوص التي تدل على أن الله تنتهي إليه الأمور وأنه في السماء ونحو ذلك وقد يكون لا أدري من أين قال ذلك لكن له شواهد وقال الخلال أنا يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد

ابن حنبل قيل له والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان قال نعم على عرشه لا يخلو شيء من علمه وقال أخبرني عبد الملك الميموني أنه سأل أبا عبد الله

ما تقول فيمن يقول إن الله ليس على العرش قال كلامهم كله يدور على الكفر وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كمايظنه بعض الناس فإنهم نفوا أن يحد أحد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة وقد رواه الخلال في كتاب السنة أخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي

نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله عز وجل منه وله وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو لايدرَك وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله شيء محدود ولا يبلغ علمه وقدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وكان الله قبل أن يكون شيء والله الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته فالتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير

وذلك أن لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان يراد به حقيقة الشيء نفسه ويراد به القول الدال عليه المميز له وبذلك يتفق الحد الوصفي والحد القدري كلاهما يراد به الوجود العيني والوجود الذهني فأخبر أبو عبد الله أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف وأتبع ذلك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] بحد ولا غاية وهذا التفسير الصحيح للإدراك به أي لا تحيط الأبصار بحده ولا غايته ثم قال وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] وهو عالم الغيب والشهادة ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء وقال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى

أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث قال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولاكيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولانرد على الله قوله ولايوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء

قال وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن

بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كَنَفَهُ عليه هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولاحد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطالة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بضير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك

الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولايحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال لي أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] فقلت له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال ما أردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له المشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي

وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه قال أبو عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تبارك وتعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عمانهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا

الكلام وقال تبارك وتعالى اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى وزاد علي بن عيسى عن حنبل قال وسمعت أبا عبد الله يقول ماأحد أشد حدثًا على أهل البدع والخلاف من حماد بن سلمة ولا أروى لأحاديث الرؤية والرد على القدرية والمعتزلة منه قال وسمعت أبا عبد الله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم كله ينكرون الآثار وما ظننتهم هكذا حتى سمعت مقالتهم وكذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أحد أئمة المدينة المشاهير على عهد مالك بن

أنس وهم مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون هذا قال في كلامه المشهور عنه الذي رواه ابن بطة وغيره بأسانيد صحيحة قال وقد سئل فيما

جحدته الجهمية أما بعد فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلَّت الألسُن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره وردت عظمته العقول فلم تجد مساغًا فرجعت خاسئة وهي حسيرة فإنما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير فإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو وكيف يُعرف قدر من لم يبدأ ولايموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قَدْرَه واصف على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين

منه الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرًا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولابصر ولما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] اعرف رحمك الله غنَاك عن تكلف صفة مالم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم يُعْرف قدرما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزجر به عن شيء من معصيته فأما الذي جحد ما وصف الرب تعمقًا وتكلفًا قد

استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فَعَمِي عن البيِّن بالخفي بجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظر الله إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينَضرون إلى أن قال وإنما جحد رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة

الضالة المضلة لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدًا وقال المسلمون يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون من رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك وقال رسول الله لا تمتلئ النار حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض وقال لثابت بن قيس بن

شماس لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة وقال فيما بلغنا إن الله ليضحك من أزلكم وقُنُوطِكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك قال

نعم قال لا نَعْدِم من ربٍّ يَضْحكُ خيرًا في أشباه لهذا مما لم نحصه وقال الله تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11]

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] وقال مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر 67] فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي أُلقي في روعهم وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك ولاتتجاوز ما قد حُدّ لك فإن من

قوام الدين معرفة المعروف وإنكارالمنكر فما بَسَطَتْ عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذُكِرَ أصله في الكتاب والسنة وتوارث علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصِفَته من ربك ما وصف من نفسه عيبًا ولاتَكلَّفن لما وُصِفَ لك من ذلك قدرًا وما أَنْكَرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربيك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك ولاتصفه بلسانك اصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فإن تَكَلُّفك معرفة مالم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها فكما أعظمت ماجحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ماوصف الواصفون مما لم يصف منها فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مَرِضَ من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم ولا يكلف صفة قدره

ولاتسمية غيره من الرب مؤمن وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدًا ولا يتكلفون صفة ما لم يسم تعمقًا لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] وهب الله لنا ولكم حكمًا وألحقنا بالصالحين

فصل في الرد على البرهان الثالث للرازي من مقامين

فصل والكلام على هذه الحجة من مقامين أحدهما منع المقدمة الأولى والثاني منع الثانية أما الأول فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم كما يقول ذلك كثير من الصفاتية من الكلابية وأئمة الأشعرية وقدمائهم ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الأربعة وغيرهم وأهل الحديث والصوفية وغير هؤلاء وهم أمم لا يحصيهم إلا الله ومن هؤلاء أبو حاتم ابن حبان وأبوسليمان الخطابي البُسْتِيّان قال أبو سليمان الخطابي في الرسالة الناصحة لما تكلم على الصفات ومما يجب أن يعلم من هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة التي

قد ثبتت بصحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قومًا من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلاً في الصفات وأدخلوها في حكمها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى أن لله مكانًا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه اللفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له في الرواية كخلاف البينة للبينة إذا تعارضت البينتان سقطتا معَا وقد تحتمل هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أنه يجد ربه بمكانه الأول من الإجابة في

الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويًّا في الخبر أنه يعود مرارًا فيسأل ربه في المذنبين من أمته كل ذلك يُشَفّعه ويُشَفِّعه بمسألتهم فيهم قلت هذا في حديث المعراج من رواية شريك ولكن غلط الخطابي في ذلك فاشتبه عليه حديث المعراج بحديث الشفاعة ولكن في حديث الشفاعة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدًا ذكر ذلك ثلاث مرات وهذا في الصحيح من رواية قتادة عن أنس وأما تلك اللفظة فهي في حديث المعراج من رواية شريك وليس هذا موضع الكلام في ذلك قال الخطابي ومن هذا الباب أن قومًا منهم زعموا أن

لله حدًّا وكان أعلى مااحتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك أنعرف الله بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلاً في هذا الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله لاتؤخذ إلا من كتاب الله تعالى أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائنًا من كان علت درجته أو سفلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تُدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية عن ابن المبارك قد رويت لنا أنه قيل له أنعرف الله بجد فقال نعم بجد بالجيم دون الحاء قال وزعم بعضهم أن يقال إن له حدًّا لا كالحدود كما تقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أَحْوجنا أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فيلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب أو في السنة حتى نقول حدًّا لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي

أرأيت إن قال قائل رأس لا كالرؤوس قياسًا على قولنا يد لا كالأيدي هل تكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجئ ذكر الر أس لم يجز القول به قلت وممن أنكر الحد أبو الحارث وكان القاضي أبو يعلى ينكر الحد ثم رجع إلى الإقرار به وكذلك لفظ الجهة وقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات في كلامه على حديث العباس بن عبد المطلب

والاستواء على العرش فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على العرش قد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث قال والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقال قائل هذا بمثلبة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن

العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان قال وإذا ثبت استواؤه ثبت أنه على العرش وأنه في جهة فهل الاستواء من صفات الذات قياس قول أصحابنا أنه من صفات الذات وأنه موصوف بها في القدم وإن لم يكن هناك عرش موجود لتحقق وجود ذلك منه في

الثاني لأنهم قد قالوا خالق ورازق موصوف به فيما لم يزل ولا مخلوق ولا مرزوق لتحقق الفعل من جهته وقد تقول العرب سيف قطوع وخبز مشبع وماء مروٍ وإن لم يوجد منه القطع لتحقق الفعل منه واستدل بعض أصحابنا بأنه موصوف في الأزل بالربوبية ولا مربوب وبالألوهية ولا مألوه وعلى قياس هذا النزول إلى السماء والمجيء في ظلل من الغمام ووضع القدم في النار فإن قيل فقد قال أحمد في رواية حنبل هو على العرش كيف شاء وكما شاء وصفات الذات لا تدخل تحت المشيئة قيل راجعة إلى خلق العرش لا إلى الاستواء عليه قلت وفي هذا نزاع بين الأصحاب وغيرهم ليس هذا موضعه

قال القاضي وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي فقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال القاضي ورأيت بخط أبي إسحاق أنا أبوبكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر عن أبي داود سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له لله تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين

قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو تعالى ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد له حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يَبِينُ بها عن غيره ويتميز ولهذا سمي البواب حدادًا لأنه يمنع غيره عن الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص

صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا فهو رجوع منه إلى القول بإثبات الحد لكن اختلف في ذلك كلامه فقال هنا ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أن ما حاذى العرش من ذاته فهو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام والميمنة والميسرة وكان الفرق

بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ماحاذاه من الذات وأنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في الميمنة والميسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي ذكره في تفسير كلام أحمد ليس بصواب بل كلام أحمد كما قال أولاً حيث نفاه نفي تحديد الْحَادِّ له وعلمه بحده وحيث أثبته أثبته في نفسه ولفظ الحد يقال على حقيقة المحدود صفة أو قدرًا أو مجموعهما ويقال على العلم والقول الدال على المحدود

وأما ما ذكره القاضي من إثبات الحد من نهاية العرش فقط فهذا قد اختلف فيه كلامه وهو قول طائفة من أهل السنة والجمهور على خلافه وهو الصواب والمقصود أن نفاة الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يقولون إنه على العرش يقولون لا نسلم أنه إذا كان هو بنفسه فوق العرش أنه يلزم أن يوصف بتناهي المقدار كما لا يستلزم أن يوصف بالانقسام وكذلك لا يستلزم أن يوصف عندهم بعدم التناهي الذي هو بعد لا يتناهى كما لا يوصف عندهم بعدم الانقسام الذي هو جزء لا ينقسم وكذلك لا يستلزم ذلك عندهم أن يوصف بأنه أكبر من العرش في المقدار والمساحة أو أصغر أو بقدره فإنهم يقولون هذه اللوازم كلها إنما تلزم إذا فرض أن فوق

العرش ما هو جسم أما إذا كان الذي فوق العرش ليس بجسم فإنه يمتنع أن يستلزم لوازم الجسم لأن الانقسام أو التناهي والتحديد ونحو ذلك هي لازمة للجسم وملزومة له فلا يكون متناهيًا محدودًا مقسومًا إلا مايكون جسمًا ولا يكون جسمًا إلا ما جاز أن يوصف بالانقسام أو بقبول التناهي والتحديد وعدم ذلك قالوا لمنازعيهم من النفاة فإذا اتفقنا على أنه ليس بجسم أو إذا قام الدليل على أنه ليس بجسم وقد علمنا بالفطرة والضرورة العقلية والأدلة المتواترة السمعية واتفاق سلف الأمة وخيرالبرية أنه فوق العرش كان التقدير أن الذي فوق العرش ليس بجسم وحينئذ فقول القائل إما أن يكون متناهيًا أو ذاهبًا في الجهات إلى غير غاية وإما أن يكون منقسمًا أو جوهرًا فردًا كل ذلك باطل لأن هذه اللوازم إنما تكون إذا كان الذي على العرش جسمًا أما إذا كان غير جسم ولا متحيز فلا يلزم شيء من هذه اللوازم

وقالوا هذه اللوازم والتقسيم كله من حكم الوهم والخيال وباب الربوبية لايجوز أن يحكم فيه بحكم الوهم والخيال كما قد قرره هذا المؤسس في مقدمة الكتاب ولا ريب أن قولهم هذا أصح من قول منازعيهم من النفاة لما قيل لهم إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحاثين وإماأن يكون أحدهما بحيث الآخر وإماأن يكون مباينًا عنه بالجهة فقالوا ليس بكذا ولا كذا فنفوا الطريقين جميعًا وقالوا إنه لا يمكن أن يحس به ولا أن يشار إليه بالحس فقيل لهم هذا أحقر من الجوهر الفرد فقالوا في جواب ذلك إنما يلزم لو كان جسمًا أو لو كان موصوفًا بالحيز والمقدار

وقالوا هذا من حكم الوهم والخيال أو من حكم الحس والوهم فقد بينا فيما تقدم غير مرة أن كلام منازعيهم هؤلاء أبعد عن الخطأ في العقل والدين وأنهم هم أعظم مخالفة لما يعلم بضرورة العقل وبديهته وفطرته من منازعيهم هؤلاء المثبتين لأن الله على العرش الموافقين لهم على نفي الجسم وقد تقدم التنبيه على أصل كلام هؤلاء وأنه إن كان كثيرًا ممن يوافقهم على أن الله على العرش أو على نفي الجسم يقول إن هذا القول متناقض ويصفهم بالتناقض في ذلك فالنفاة أعظم تناقضًا منهم وأعظم مخالفة لمايعلم بالاضطرار في العقل والدين وأن هؤلاء أعظم مخالفة للعلوم الشرعية والعقلية ولا ريب أن كلام هؤلاء فيه ما يحتج به مثبتو الحد والمقدار والتحيز والجهة وفيه ما يحتج به نفاة الجسم والتحيز والجهة أيضًا فلهذا قيل إنهم متناقضون أو أن لهم قولين

وقد ذكرنا بعض كلام أبي الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصحابه الذين احتجوا به على أن الله تعالى على العرش وما احتجوا به في ذلك من الآيات التي يحتج بها على إثبات الحد فقال باب ذكرالاستواء فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقد قال عز وجل إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وهذه الآيات هي التي استشهد بها

الإمام أحمد لقول ابن المبارك وكذلك هي التي احتج بها عثمان بن سعيد الدارمي وغيره على ذلك فهذا الرازي

وموافقوه على النفي من المعتزلة ومتأخري الأشعرية يسلمون أن الاستدلال بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يستلزم القول بدلالتهاعلى أن الله متحيز في جهة وأن له حدًا وقد تقدم تمام قول الأشعري قال أيضًا وقد قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال سبحانه ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] وكل هذا يدل على

أنه في السماء مستو على عرشه قال والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه عز وجل منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه قال وقال سبحانه وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وقال عز وجل هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وهاتان الآيتان هما اللتان احتج بهما أحمد على قول ابن المبارك في الرواية الأخرى قال وقال سبحانه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ

[آل عمران 55] وقال سبحانه وتعالى وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً {157} بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال واجتمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء وقال ومن دعا المسلمين جميعًا إذا هو رَغِبوا إلى الله في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش أو يا من احتجب بالعرش أو بسبع سموات وهذا تصريح منه باحتجابه بالأجسام المخلوقة وهذا عند منازعيه من نفاة أصحابه وغيرهم تستلزم أن يكون جسمًا متحيزًا

قال وقال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد عن الشبهة وإدخال الشك على من سمع الآية أن يقول لأحد أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً وترك أجناسًا لم يعمهم بالآية قال فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون

غيرهم وهذا كله منه يقتضي أن الله سبحانه وتعالى قد يحتجب عن شيء دون شيء وقد احتج بذلك على أن الله فوق العرش لأن النفاة يقولون الاحتجاب لا يكون إلا من صفات الأجسام ولا يكون على العرش إلا إذا كان جسمًا وهوقد احتج بهذه الآيات على احتجابه عن بعض خلقه المستلزم أن يكون على العرش قال وقال الله عز وجل ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48]

قال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا جل عمايقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل

مناقشة المؤلف للرازي في المقام الأول

فاحتجاجه بقوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ [الأنعام 62] وقوله وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقوله وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ [الكهف 48] وقوله نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] على أن الله فوق العرش كل ذلك لأن هذه الآيات تدل على النهايات والغايات والحدود والتباين الذي بينه وبين خلقه فإذًا نتكلم على حجته في هذا المقام فإنه يقال له قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان لا يخلو إما يكون متناهيًا من جميع الجوانب أو بعضها أو غير متناه من جميعها يعارضونه بأن يقولوا هذه الحجة ترد عليك أيضًا بأن يقال ولو كان موجودًا أو قائمًا بنفسه كان متناهيًا أو غير متناهٍ فإن قلت نحن نقول هو موجود في غيرجهة ولا حيز أصلاً وهوغير متناه في ذاته بمعنى أن ذاته بمعنى أن ذاته يمتنع أن يكون لها طرف ونهاية وحد

يقال لك إذا عقل موجود لا نهاية له بهذا التفسير فلأن يعقل موجود فوق العرش لا يوصف بالتناهي وعدمه أولى وأحرى بمعنى أنه يمتنع أن يكون له نهاية أو يكون ذا مساحة لانهاية لها فإنه إذا عقل هذا في موجود مطلق لم يمتنع وصف هذا الموجود بأنه فوق العرش ويكون كذلك بل يكون هذا أقرب إلى العقل لأن الفِطرَ تقر بأن الله فوق العالم وتنكر وجود موجود لاداخل العالم ولا خارجه فإذا أقررت بوجوده خارج العالم كان أقرب إلى الفطرة والعقل وإذا جاز أن يقال في هذا إنه لا يتناهى بمعنى أن ذاته لاتقبل الوصف بتناهي المقدار وعدمه كذلك يقال فيه مع وجوده فوق العرش وإذا قال قائل هذه الفوقية أوهذا العلو فوق العرش لا يعقل أو قال لا يعقل علو ولا فوقية إلا بمعنى الذهاب في الجهات قيل له معرفة الصفة وعقلها فرع على معرفة الموصوف وعقله فطلبك العلم بكيفية علوه مع أنه لا تعقل حقيقته جمع بين الضدين وإذا كنت تقر بأنه موجود بل إقرارك بأن ذاته فوق العرش فوقية تناسب ذاته أسهل على العقل من الإقرار بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بل الإقرار بأنه ليس ذا مساحة مقدار لاينافي الإقرار بأنه خارج العالم وفوقه كما

مناقشة المؤلف للرازي في المقام الثاني من وجوه

يناسب ذاته ومنافاة الإقرار بوجوده مع كونه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تنافيًا وأما المقام الثاني فكلام من لاينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظًا أو معنى أو لايتعرض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين وحيث ائتموا بما في الكتاب والسنة وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده فلم يغيروا وجعل كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام وأما الكلام المجمل المتشابه الذي يتكلم به النفاة ففصلوا مجمله ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق ولا وافقوهم أيضًا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل وإن شنع النفاة على من يثبت ذلك أو عزموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال قوله وأما القسم الثالث وهوأن يقال كل متناه من كل الجوانب فهذا باطل من وجهين الأول أن كل ما كان متناهيًا من جميع الجوانب كانت

حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكل مل كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه فيقال له قد تقدم الكلام على هذه الحجة وبينا أن جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين يخالفونك في هذه المقدمة وبينا فساد ما ذكرته من الحجة عليها بوجوه كثيرة بيانًا واضحًا ونحن نحيل على ماذكرناه هناك كما أحال هو عليه وأما الوجه الثاني فقوله إنه لما كان متناهيًا من جميع

الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحيازٌ خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله تعالى ويكون قادرًا على أن يخلق فيها جسمًا فوقه فيقولون لك هذا بناء على أن الأحياز والجهات لابد أن تكون أمرًا وجوديًّا وأنه يمكن أن تكون فوقه وهم ينازعونك في هاتين المقدمتين وأنت معترف بفسادهما في غير موضع من كتبك وقد تقدم البيان بأن الحيز لا يجب أن يكون أمرًا وجوديًّا وإبطال ما يستدل به على خلاف ذلك وظهر صحة قوله سبحانه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذا النص أيضًا يدل على أنه ليس فوق

الله شيء وهذا نفي عام لكل ما يسمى شيئًا وكل موجود فإنه يسمى شيئًا فقد اتفق الناس على أن كل موجود غير الله فإنه شيء لكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نفى أن يكون فوقه شيء موجود حيزًا وغيره وهذا يبطل أن يكون فوقه أحياز موجودة والذي يوضح ذلك أنه قد قرر في هذه الحجة امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وذلك يبطل وجود أحياز لا تتناهى حتى إنه يقول ليس وراء العالم أحياز وأبعاد لا تتناهى فإذا كانوا يوجبون في العالم الذي هو متحيز محدود متناهٍ أن لا يكون وراءه أحياز موجودة فكيف يوجبون أن يكون فوق خالق العالم أحياز موجودة بل هذا الرازي وأمثاله إذا ناظره الفلاسفة في أنه يمكن أن يكون العالم أكثر مما هو ويمكن أن يخلق مثلَهُ عالماً آخر لم يقرر ذلك عليهم إلا بما هو من جنس مجادلاته المعروفة

التي لا يزال يضطرب فيها غاية الاضطراب من السلب والإيجاب فكيف يوجب أن يكون فوق رب العالمين أحيازٌ خالية وجهات فارغة ويضرب لهم هنا مثلاً من أنفسهم كما يناظر به من يقول إن لله شريكًا من خلقه أو أن له ولدًا لا يرضى مثله لنفسه فيقال له المخلوق الذي هو عندك متحيز لا يجب أن يكون فوقه عندك أحياز خالية وجهات فارغة فكيف توجب في خالق العالم إذا وصف بأنه فوق العرش وأنه متحيز أن يكون فوقه أحياز خالية وجهات فارغة وأما قوله هو قادرعلى خلق الجسم في الحيز الفارغ فيكون ذلك الجسم فوقه فيقال لك هذا مبني على أنه يمكن أن يكون فوقه شيء فإن لم يبين إمكان ذلك لم يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم فوقه كما لا يصح أنة يقال هو قادر على خلق جسم قبله أو بعده فقد يقول لك المنازع إذا وجب أن يكون هو العلي الأعلى المتعالي الذي لا يعلوه شيء لم يجز أن يعلوه شيء كما أنه إذا وجب أن يكون الأول و

الآخر لم يجز أن يسبقه شيء أو يتأخر عنه شيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء لكن الأول والآخر لا ابتداء له ولا انتهاء وإذا لم يكن له نهاية ولا حد من الوجهين جميعًا ظهر فيه امتناع أن يكون قبله أو بعده شيء بخلاف المتناهي المحدود من الأحياز ولكن هذا الفرض جاء من خصوص المكان والزمان بدليل أن أهل الجنة لا آخر لوجودهم بل هم باقون أبدًا وإن كانوا متحيزين فلا حد ولا نهاية لآخرهم وإن كانت ذواتهم محدودة متناهية في أحيازها وأماكنها ولهذا لما أراد جهم أن يَطْرُد دليله في وجوب النهاية لكل مخلوق أوجب فناء الجنة والنار

ولما أراد أبو الهذيل أن يطرد دليله في تناهي الحوادث أوجب انقطاع حركات أهل الجنة والنار والمقصود هنا أن وجوب تناهي البقاء والأمد وإن كانت الأحياز متناهية أو كان المتحيز متناهيًا لم يجب أن يكون فوقه شيء إذ ليس وراء الموجود شيء موجود إلى غير نهاية وقد تقدم إبطاله لذلك وأيضًا فيقال له أنت لم تذكر حجة على امتناع ذلك لم يكن هذا الوجه دليلاً وأما قولك لا يكون هو فوق جميع الأشياء بل تكون الحياز أشد فوقية فهذا تمسك بإطلاق لفظ مع أنك لا تقول بمعناه فهو عندك أيضًا ليس فوقه شيء من الأشياء فضلاً عن أن تكون فوقه جميعها إلا بمعنى القدرة والتدبير وهذا المعنى يثبته المنازع مع إثباته لهذه الفوقية الأخرى فيكون قد

أثبت ما تثبته من صفات الكمال ويثبت كمالاً آخر لم تثبته أنت وأيضًا فتلك الأحياز ليست شيئًا أصلاً لأن الأشياء هي الموجودة ولا موجود إلا الله وخلقه وهو فوق خلقه وإذا لم تكن أشياء لم يصح أن يكون شيء فوقه وكان هو فوق كل شيء وأما خلق جسم هناك فلم يذكر على امتناعه حجة إلا أن الخصم لا يقول به والخصم يقول ذلك ممتنع لامتناع أن يكون شيء موجود فوق الله فإن سلمت له هذه العلة كان ذلك جوابًا لك وإن لم تسلمها لم يكن مذهبه صحيحًا فلا تحتج به وقد تقدم كلامك على إبطال مثل هذه الحجة وهي الإلزامات المختلفة المآخذ وأيضًا فلو قال قائل بل ذلك جائز فلم تذكر على إبطاله حجة لاسيما وعندك أن النقص على الله تعالى لم يعلم امتناعه بالعقل وإنما علمته بالإجماع لاسيما إن احتج

بظاهر قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وبقوله كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء لاسيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر

والتدبير وعندك لا يستحق الله الفوقية إلا بهذا وهذاالمعنى ثابت سواء خلق فوقه شيئًا آخر أو لم يخلقه فإذا لم يكن هذا مستحيلاً على أصلك لم يصح احتجاجك باستحالته عند المنازع الذي ينازعك في المسألة بل قد يقول لك إذا لم يكن ما يمنع جواز ذلك إلا هذا فعليك أن تقول به لأن هذا ليس بمانع عندك الوجه الثاني أن يقال قد ذكرت أن الكرامية الذين قالوا إنه فوق العرش منهم من قال إنه ملاق للعرش ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد غير متناه وهذا القول يتضمن أن بين الله وبين العرش بعدًا غير متناهٍ وقد ذكر الأشعري في المقالات قول طوائف ممن يقول إنه لا نهاية لذاته مع قولهم إنه ممتد في الجهات فقال بعد ذكر مقالات المعتزلة هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قال قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن

الباري ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفوا فيما بينهم في التجسيم وهل للباري قدر من الأقدار وفي مقداره على ستة عشر مقالة فذكرقول هشام إنه جسم أن له مقدارًا وأنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسَّة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون قال ولم يثبت لونًا غيره وأنه يتحرك يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد وهذا قد يقال إنه يناسب قول من قال من الصفاتية

إنه يدرك بالحواس قال وحُكِي عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونُا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلاً أو عريضًا أو عميقًا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت ما خلق الخلق وهذا قد يناسب قول من يقول إنه يدرك بالرؤية فقط فإن هذا يزعم أنه لايرى إلا اللون قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفًا بلون وطعم ورائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مماس له دون

ما سواه قال واختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه مجسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهن مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك القدر وقال بعضهم هو في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكي عن هشام أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه

وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا قطب وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تَحُل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به فقد ذكر عن هاتين الفرقتين أنه لا نهاية لمساحته مع قول بعضهم إنه جسم وقول بعضهم إنه ليس بجسم كما ذكر عن آخرين من المجسمة أنه جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناهٍ وعن آخرين أنه بقدر العالم وأما القائلون بأنه على العرش فلم يذكر عنهم قولاً أنه لا نهاية لمساحته وذكر أيضًا عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني

أنه فوق العرش وبكل مكان وقال فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرًا كان يقول إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك على عرشه أنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] بلا كيف فيقال له إذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك على أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لانهاية لذاته ومساحته مع قولهم إنه جسم ومع قولهم إنه ليس بجسم فما حجتك عليهم وهذا هو القسم الأول وهذا ليس من أقوال من يقول إنه فوق العرش وكذلك ذكر أبو الحسن الأشعري لما ذكر اختلاف الناس هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان فقال قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لانهاية له أن هاتين الفرقتين أنكرتا القول إنه في مكان دون مكان

فأخبر أن القائلين بأنه لا نهاية له ينكرون أن يكون في مكان دون مكان فلا يقولون إنه فوق العرش لكن هذا المؤسس إن لم يبطل قول هؤلاء بالحجة وإلا خصموه فإنه ينكر أن يكون الله فوق العرش ويوافقهم على إطلاق القول بأنه لا نهاية له ولا حد ولا غاية وإن كان يفسر ذلك بتفسير آخر لكن نفي قولهم لابد له من حجة فأما الوجه الأول الذي ذكره فيقولون له لا نسلم أن الخط المتناهي يمكنه أن يسامت غير المتناهي فقولك زال عن الموازاة إلى المسامتة فرع إمكان ذلك والمحال المذكور إنما لزم من فرض مسامتة خط متناه لخط غير متناهٍ فلزم من ذلك أن يحصل في المتناهي نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل لكن قولك إن هذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير متناه ممنوع بل يقال هذا المحال إنما لزم من فرض مسامتة المتناهي لغير المتناهي فالإحالة كانت بفرض مسامتته له لا بفرض وجود غير المتناهي لِمَ قلت أن الأمر ليس كذلك وقد يقول لك أحد الفريقين من هؤلاء نحن نقول إنه غير

متناه وإنه غير جسم وحينئذ لا يمكن أن يفرض فيه خطوط ونقط فلابد من إقامة دليل على امتناع شيء ليس بجسم غير متناهٍ فإن أقمت دليلاً على ذلك بطل ما ذكرته في القسم الثالث من وجود أحياز خالية فوق الباري لأنه إذا وجب عندك تناهي الأبعاد وإن لم تكن أجسامًا وجب تناهي الأحياز فلم يجب أن يكون فوق الباري حيز ولا بعد كما ألزمتهم إياه في القسم الثالث وأما الوجه الثاني الذي احتججت به عليهم فقولك إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع يقولون لك أكثر ما يمكنك دعوى الإجماع على أن دليله امتناع بعد لا يتناهى ولايلزم من الإجماع على الحكم أن يكونوا مجمعين على دليل معين وأيضًا فلا يلزم من بطلان هذا الدليل بطلان سائر الأدلة كيف وقد ذكرت أنه مجمع عليه والإجماع من أعظم الأدلة إذ صحة الإجماع ليست موقوفة على إحالة أبعاد لا تتناهى

بدليل أن سلف الأمة وأئمتها يعترفون أن الإجماع حجة من غير أن يبنوا ذلك على أداة فيها هذه المقدمة التي قد لاتخطر ببال أكثرهم وقد يقول هؤلاء هَبْ إنْ قام دليل تناهي العالم وتناهي المخلوقات وتناهي الأبعاد التي فيها المحدثات فلم قلت إن ذلك محال في حق الباري وهذا يقوله مثبتة الجسم ونفاته كما تقدم ذكر القولين لهم وأما الوجه الثالث قولك لو كان غير متناه من جميع الجوانب أوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزائه وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل فإن أردت أن ليس في المكلفين من العقلاء من يقوله فقد قاله منهم طوائف كما ذكرناه عن الأشعري أنه نقل ذلك عن

طائفتين ممن يقول إنه ليس مساحة طائفة تقول إنه جسم وطائفة تنفي الجسم وأيضًا فطوائف من الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان وقد ذكر الأئمة والعلماء ذلك عن الجهمية وردوا ذلك عليهم وطوائف أخر يقولون إنه موجود الذات في كل مكان وأنه على العرش كما نقل الأشعري عن زهير وأبي معاذ وأيضًا هؤلاء الاتحادية يصرحون بذلك تصريحًا لا مزيد عليه حتى يجعلوه عين الكلب والخنزير والنجاسات لا يقولون إنه مخالط لها بل وجوده عين وجوده وهذا وإن كان من أعظم الكفر فالغرض أن إخوانه من الذين يقولون إن الله ليس فوق العرش قد قالوا هذا كله وما هو أكثر منه فلابد أن يرد قولهم بطرقه التي يسلكها وإلا لم يكن قوله أصح من قولهم بل

قولهم أقرب إلى العقل من قوله إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولهم في الجواب عن المخالطة من الكلام ما هو مع كونه باطلاً أقرب إلى العقل من كلامه مثل قولهم إنه بمنزلة الشعاع للشمس الذي لا يتنجس بما يلاقيه وبمنزلة الفضاء والهواء الذي لا يتأثر بما يكون فيه ونحو هذا من المثال التي يضربونها لله فهم مع كونهم جعلوا لله ندًّا وعدلاً ومثلاً وسميًّا في كثير من أقوالهم إن لم يكونوا أمثل منه فليسوا دونه بكثير وأما إن أردت أن العقل يبطل هذا القول فلم تذكر على بطلانه حجة عقلية أكثر ما ذكرت قولٌ تنفر عنه النفوس أو ما يتضمن نوع نقص وأنت تقول ليس في العقل ما ينفي عن الله النقص وإنما نفيته بإجماع فهذا الوجه في جانب من يقول بالقسم الثالث وأما القسم الثاني وهو التناهي من جهة دون جهة فما علمت به قائلاً فإن قال هذا أحد فإنه يقول إنه فوق العرش ذاهبَا إلى غير نهاية فهو متناه من جهة العالم غير متناه من الجهة الأخرى وهذا لم يبلغني أن أحدًا قاله ونقل الأشعري

يقتضي أن هذا لم يقله أحد بل كل من قال بعدم نهايته أنكر أن يكون فوق العرش الوجه الثالث أن يقال فَرْضُ بعد غير متناه لا يخلو إما أن يكون محالاً فإن كان محالاً بطل ما ذكر مما ذكرته في القسم الثالث من تجويز أحياز خالية فوقه إذاكان متناهيًا من جميع الجهات فإنه إذا وجب تناهي الأبعاد لم يجب أن يكون فوق العالم بعد فضلاً عن أن يكون فوق الباري بعد وإذا فرض ما ذكرته في القسم الثالث وهو أحد الوجهين نفي الوجه الأول وهو كون كل ماله قدر مخصوص يجب أن يكون محدثًا وقد تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية وإذا بطل الوجهان بطل ما ذكرته على فساد القسم الثالث وإن كان فرض بعد غير متناه ممكناً ثبت إمكان القسم الأول وبطل ما ذكرته من الحجة على إحالة ذلك فقد ظهر على التقديرين أن ما ذكرته ليس بدليل صحيح الوجه الرابع أن القسم الثاني وهو أنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب وإن كنا لم نعلم به قائلاً فلم تذكر دليلاً على إبطاله ولا استدللت على

إبطاله بنص أو إجماع فأما الدليل الذي ذكرته على امتناع بعد غير متناه فقد تقدم القول عليه مع أن تلك الوجوه لا تصلح هنا كما صلحت هناك أما الوجه الأول وهو امتناع وجود المسامتة وعدمها إذا قدر مسامتة غير المتناهي للمتناهي فإنه مع ما تقدم فيه إذا كان متناهيًا من بعض الجهات أمكن فرض المسامتة في تلك الجهة وحينئذ فتسامت النقطة الفوقانية من تحت الجهة قبل التحتانية لكن هذا لا يحصل إلا عند فرض مسامتٍ من الجهة التي لا تتناهى وأما الوجه الثالث وهو لزوم مخالطة ذاته للقاذورات فهذا لا يلزم إذا قيل إنه متناه من جانب الخلق دون الجانب الآخر فإنه حينئذ لا يكون مخالطًا لهم فبطل هذا الوجه هنا بطلاناً ظاهرًا وأما بطلان إقامة الدليل على تناهي العالم فقد تقدم الكلام عليه مع أن العالم في بقائه فيه متناه من أوله غير متناه من آخره ففيه تناه من وجه دون وجه لكن هذا ليس هو المتناهي في الجهة والمقدار والبعد

والفرض أن الوجوه الثلاثة هي في هذا القسم فيها نوع نقص عن ذلك القسم وأما الوجه الثاني وهو قولك إن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الآخر إماأن يتساويا في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الآخر وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان فيقال لك مشاركة الشيء لغيره في حقيقته لا يقتضي مساواته له في المقدار كالمقادير المختلفة من الفضة والذهب وسائر الأجسام المتماثلة في الحقيقة فإنها تتماثل في الحقيقة مع اختلاف المقادير وحينئذٍ فهذه الأمور إنما يجوز على بعضها ما يجوز على بعض فيما تماثلت فيه وهو الصفة والكيفية وأماما يتعلق بالمقدار فليس الكبير في ذلك كالصغير ولايجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر بل للصغير أحكام لا تصح في الكبير وللكبير أحكام لا تصح على الصغير مثل شغل الحيز

الذي بقدره وغير ذلك وإذا كان كذلك فالبعد الذي يتناهى من أحد جانبيه دون الآخر وإنما تماثلت حقيقة الجانبين في الصفة والكيفية فلم تتماثل في المقدار لأن أحدهما أكبر من الآخر قطبًا فلا يلزم أن يجوز على غير المتناهي من النقص والفصل وأيضًا فإن لزم أن يحوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فقولك ذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى هذا هو بعينه الدليل على امتناع كونه متناهيًا وهوأن المتناهي يقبل الزيادة والنقصان وقد قيل لك أن هذا ممنوع فيما وجوبه بنفسه فإن صفاته تكون لازمة لذاته فلا يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه كما نقول إن معلوماته أكثر من مقدوراته ومقدوراته أكثر من مخلوقاته ومراداته وهذا وإن لم يكن نظير ذلك والغرض التنبيه على تقدم الكلام في مثل هذا وأيضًا فلم تذكر دليلاً على امتناع الفصل والوصل والزيادة والنقصان فإن اعتصمت في ذلك بإجماع كانت الحجة سمعية وإن قنعت بنفور النفوس عن ذلك فنفور النفوس على

قولك أعظم مع أن هذا ليس حجة عندك وقولك وأما القسم الثاني وهوالقول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية فنقول إن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بيناه يقال لك قد تقدم الكلام على إبطال حجة التركيب بما يظهر به فسادها لكل عاقل لبيب فقولك الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلا الشيء الممتد في الجهات المختصة بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء يخالف الجانب

الآخرة في الحقيقة والماهية فيقال لك هذه حجة تماثل الأجسام وقد تقدم أنها من أبطل ما في العالم من الكلام وهي منشؤها من كلام المعتزلة والجهمية كما ذكره الأشعري وغيره كما أن الأولى من كلام الفلاسفة والصابئة وهي أيضًا من حجج المعتزلة والجهمية وقد تبين أن المقدار صفة للشيء المقدر المحدود وليس هو عين الشيء المقدر المحدود وتبين أيضًا أنه لو كان المقدار هو الذات لم يجب أن تكون المقدورات متساويات فإن بينها اختلافًا في صفات ذاتيات لها وهي مختلفة في تلك الصفات الذاتيات وإن كانت مشتركة في أصل

المقدار الذي جعلته الذات وغايتها أن تكون بمنزلة الأنواع المشتركة في الجني المتمايزة بالفصول وأيضًا فأنت وسائر الصفاتية بل وجميع العباد يثبتون لله معاني ليست متماثلة بل هذا واجب في كل موجود مثل إثبات أنه موجود بنفسه ومبدع بنفسه ومبدع لغيره وأنه عالم وأنه قادر وأنه حي وهذه حقائق مختلفة فالقول في اقتضائها للتركيب كالقول في اختلاف الجانبين كذلك كما تقدم ذلك وأما حجة تساوي الأبعاد وتماثلها فهذه الحجة إن صحت فهي كافية في نفي كونه كذلك سواء قيل إنه متناه أو غير متناه والحجة المستقلة بنفسها في المطلوب لا تصلح أن تجعل دليل بعض مقدمات دليل المطلوب لأن هذا تطويل وعدول عن سواء السبيل الوجه الخامس أنه أورد اعتراضًا من جهة المنازع بقوله فإن قيل ألستم تقولون إنه تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتموه علينا وقال في الجواب قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على

وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته منقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله عنينا به التفسير الأول فيقال المعقول المعروف إذا قيل هذا لا يتناهى أو لا حد له ولاغاية ولا نهاية أن يكون موجودًا أو مقدر الوجود ويكون ذلك الموجود أو المقدر ليس له حد ولا نهاية ولا منقطع بل لا يفرض له حد ومنقطع إلا وهو موجود بعده كما يقال في وجود الباري وبقائه فيما لم يزل ووجوده وبقائه فيما لا يزال بل في وجود أهل الجنة في الجنة فيما لم يزل فإنه لا ينتهي ذلك إلى حد إلا ويكون بعده شيء كما أن وجود الباري لا يقدر له حد ووقت إلا وهو موجود قبله وكذلك إذا

قدر أجسام وأبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى قبله وكذلك إذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى منها شيء أو يقدر فيها مقطع إلا وهي تكون موجودة بعده وكذلك ما يقدر في الذهن إلى حد ومقطع إلا ويقدر بعده شيء آخر وكذلك ما يقدر في الذهن منعدم التناهي من العلل وغيرها لتبين فساده هو من هذا الباب فالغرض أن الشيء الذي يوصف بعدم التناهي إما حقيقة وإما مقدارًا ممتنعٌ وإما تقديرًا غير ممتنع أو غير معلوم الامتناع كلها مشتركة في ذلك فأما وصف الشيء بأنه غير متناه بمعنى أن ليس له حقيقة تقبل التناهي وتقبل عدم التناهي فوصف هذا بأنه غير متناه مثل صفة المعدوم بأنه غير متناهٍ لأنه لا يمكن له نهاية وحد وطرف ولا يمكن أن يقال وذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه كما لا يقبل أن يوصف بالحياة وعدمها ولا بالعلم وعدمه ولا بالقدرة وعدمها

ولهذا يفرق من يفرق بين العدم المحض وعدم الصفة عما من شأنه أن يقبلها فإن الأعمى والأصم ونحو ذلك لا يوصف به المعدوم المحض ولايقال أيضًا للعدم المحض إنه جاهل أو عاجز أويثبت له أنه لا عالم ولا قادر بل كل صفة تستلزم الثبوت يمتنع أن يوصف بها المعدوم فإذا قيل الأعمى والأصم كان ذلك نفيًا للسمع والبصر عما يقبله لا عن المعدوم الذي يمتنع أن يوصف بثبوت فَفَرْقٌ بين نفي الصفة التي يمكن ثبوتها للموصوف في الذهن أوفي الخارج ونفي الصفة التي لا يكون لا في الذهن ولا في الخارج ثبوتها للموصوف فإذا قيل المعدوم لا يتناهى أو المعدوم غير متناهٍ كان المعنى أن المعدوم ليس له حقيقة تكون متناهية أو غير متناهية كما ليس له حقيقة تقبل أن تكون حية أوغير حية أو عالمة أو غير عالمة أو قادرة أو غير قادرة فإذا قيل قول القائل في الله إنه غير متناهٍ بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بالنهاية وعدمها كان ذلك بمنزلة قول القائل إن الله ليس بأصم ولا ميت ولا جاهل بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بهذه الصفات وعدمها فيكون المعنى حينئذ أنه لا يقال أصم ولايقال غير أصم ولا يقال ميت ولا يقال غير ميت وهذا شر من أقوال الملاحدة الذين يمتنعون من إثبات الأسماء

الحسنى له ونفيها فإن أولئك يقولون لا نقول حي ولا غير حي بل يسلبون أضدادها فيقولون هو ليس بميت ولا جاهل وإن كان هذا الذي قالوه يستلزم عدمه كما تقدم لكن ليس ظهور عدمه في ذلك كظهوره في قول القائل لا يوصف بالموت ولا بعدمه ولا بالعجز ولابعدمه كما لا يوصف بالقدرة ولا بعدمها ولا بالحياة ولا عدمها بمعنى أن ذلك لا يجوز أن يوصف لشيء من ذلك لا نفيًا ولا إثباتًا فإن هذا حال المعدوم المحض وإذا كان كذلك فقول القائل أنا أقول إن الله غير متناهٍ في ذاته بمعنى أن ذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه لأن ذلك من عوارض ذات المقدار كما لا يوصف بالطول وعدمه ولا بالقصر وعدمه ولا بالاستدارة والتثليث والتربيع وعدم ذلك لأن ذلك من عوارض المقدار وهو التجسيم والتحيز جمع بين النقيضين لأن قوله غير متناه في ذاته يفهم المقدار الذي لا يتناهى وهو البعد الذي لا يتناهى كما إذا قيل إنه لا نهاية له في أزله أفهم ذلك البقاء الذي لا يتناهى

والأزل الذي لا يتناهى وهو عَمْرُ الله الذي لا يتناهى كما يحلف به فيقال لعَمْرُ الله كما حلف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بذلك وقولهم بعد ذلك لا يقبل الوصف بالتناهي وعدمه نفي لما أثبتوه من كون غير متناهٍ وكذلك قوله امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد وهذا يفهم منه أن ذاته غير متناهية فلا نهاية لها وهو إنما أراد أن ذاته لا يجوز إثبات النهاية لها ولا سلبها عنها وهذا الثاني صفة المعدوم فالحاصل أنهم في هذا المقام إماأن يفسروا سلب النهاية بما هو صفة المعدوم أو بما يستلزم وجودًا غير متناه في نفسه فإن قالوا إن وجود ذلك الموجود غير متناه في نفسه فهذا قول من

يقول إن ذات الله لا نهاية لها وإن قالوا إن ذاته لايجوز أن يعتقد أو يقال فيها إنها متناهية أو أنها غير متناهية لأنها لا تقبل الاتصاف بذلك فهذا صفة المعدوم سواء فأحد الأمرين لازم إما تمثيل ربهم بالمعدوم وإما القول بأبعاد لا نهاية لها وهكذا كان السلف يقولون عن قول الجهمية إنهم لما قالوا إن الله ليس على العرش وأنه لا يكون في مكان دون مكان صاروا تارة يقولون إنه في كل مكان ويقول من يقول منهم إنه موجود لا نهاية لذاته فيجعلونه من الموجودات المخلوقة أو نفس وجودها وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا داخل العالم ولا خارجه فيجعلونه كالمعدومات فهم دائمًا مترددون بين الإشراك وبين التعطيل إما يجعلونه كالمخلوقات وإما أن يجعلوه كالمعدومات فالأول يكثر في عبادهم ومتصوفتهم والثاني يكثر في علمائهم ومتكلمتهم ولهذا لما كان صاحب الفصوص ونحوه من القسم الأول جعلوه نفس الموجودات وجوزوا كل شرك في العالم وجعلوه نفس العابد والمعبود والناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وقالوا ما عبد أحد إلا الله ولا يمكن أحد أن يعبد إلا الله بل لا يتصور أن يكون العابد والمعبود عندهم

إلا الله ولما كان صاحب التأسيس ونحوه من القسم الثاني جعلوه كالمعدومات المحضة ولهذا يقال فيهم متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا وهذا هو نهاية التعطيل ومتصوفتهم يعبدون كل شيء وهذا نهاية الإشراك ولهذا ذكر علماء الإسلام والسنة أن هذا السلب أول من ابتدعه في الإسلام هم الجهمية وليس له أصل في دين المسلمين ولا غيرهم بل الموجود في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها هو نفي إدراك نهايته ونفي الإحاطة به كما قال تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقال من قال من السلف لمن سأله عن هذه الأشياء ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال فالله

أكبر وكذلك قوله وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً {110} [طه 110] سواء كان الضمير عائدًا على الله أو على ما بين أيديهم فإن ذلك يدل على عدم إحاطة العلم بالله من طريق الأولى وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وغير ذلك وكذلك من قال من سلف الأمة إن حده لا يعلمه أحد غيره

وقد قال سبحانه وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} [الزمر 67] فأخبر سبحانه أنهم ما قدروا الله حق قدره وهو يقبض الأرض بيده ويطوي السماء بيمينه كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي هريرة وابن عمر وابن

مسعود كلها في الصحيحين ومثل حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الحسان وقال أيضًا في الآية الأخرى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [الأنعام 91] فالآية الأولى في الأصل الأول من الإسلام وهو التوحيد والثانية في الأصل الثاني وهو الرسالة وهؤلاء الجهمية لهم قدح في كلا الأصلين فإنهم لايقدرون الله حق

قدره فلا يقبض عندهم أرضًا ولا يطوي السماء بيمينه بل ليس له قدر في الحقيقة الخارجية عندهم وإنما قدره عندهم ما يقوم بالأنفس والأذهان فيثبتون لقدره الوجود الذهني دون العيني وكذلك عندهم في الحقيقة ما تكلم بشيء حتى ينزله على بشر لا سيما الصابئة المتفلسفة منهم فإن الكلام إنما يفيض عندهم على قلب النبي من العقل الفعال لا من رب العالمين وقد قال في الآية الأخرى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} [النجم 42] وقال إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ {6} [الانشقاق 6] وقال ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقال أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ {53} [الشورى 53] وإذا كان منتهى المخلوقات غليه وهو الغاية والنهاية التي ينتهي إليها امتنع أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ولا يكون غاية ومالا يوصف بالنهاية لا ينتهي إليه أصلاً فإنه لا اختصاص له حتى يكون الشيء غير منته إليه ثم ينتهي

إليه بل وصف الشيء بالانتهاء إليه وعدم الانتهاء إليه سواء كما يقوله الجهمية فإنه لا يتصور عندهم أن ينتهي إلى الله شيء أو يرجع إليه أمر أو يصير إليه أمر أو يرد إليه أحد لاسيما الاتحادية منهم من يقول إنه في كل مكان كما لا يتصور عندهم أن ينزل من عنده شيء أو يعرج إليه شيء أو يصعد إليه شيء وليس هذا موضع تقرير ذلك وإنما الغرض هنا أن قوله الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز قول لا يعرف ما يعرف إطلاق القول على شيء بأنه غير متناه بهذا المعنى أصلاً إلا إذا كان معدومًا أو كان ذاهبًا في الجهات كلها غير متناه كما يقدر من الأبعاد الوجه السادس أن هذا الوجه معارض بما اختص الله به سبحانه من الحقيقة والصفات فإن الاختصاص بالوصف كالاختصاص بالقدر فهو مختص بالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك بحيث له صفات مخصوصة يمتنع لتصافه بأضدادها ونقائضها ويقال فيها نظير ما قاله في المقدار بأن يقال إما أن تكون الصفات متناهية أو غير متناهية من وجه دون وجه

فإن كانت متناهية فكل متناه يستدعي مخصصًا ويقبل الزيادة والنقص كما قدره في المقدار وإن لم تكن متناهية لزم وجود صفات لا نهاية لها وفرض وصف لا نهاية له كفرض قدر لا نهاية له فإن الصفة لابد لها من محل ويلزم من عدم تناهيها عدم تناهي محلها وأيضًا فإن كل صفة متميزة عن الأخرى فيكون للصفات عدد فإما أن يكون عدد الصفات يتناهى أو لا يتناهى فإن تناهى لزم الأول وإن لم يتناه لزم الثاني وإذا كان له أعداد لا تتناهى فهو كمقدار لا يتناهى فكلما يحتج له على امتناع مقدار لا يتناهى يحتج به على امتناع عدد صفات لا تتناهى إذ ما يفرض من المسامتة وعدمها في المقدار يفرض من المطابقة وعدمها في الأعداد وهذا الوجه يمكن أن يلزم به كل أحد فإنه لابد من الاعتراف بموجود له خاصية يتميز بها عما سواه إذ وجُودٌ ليست له خاصة تميزه ممتنع والكليات مع كونها موجودة في الأذهان فتميز ما في نفس زيد عما في نفس عمرو فإنها من الصفات القائمة بالأذهان وإذا كان لكل موجود خاصة يتميز بها سواء كان واجبًا بذاته أو كان ممكنًا فالقول في اختصاصه بتلك الخاصة كالقول في اختصاصه بقدر

فصل في الرد على البرهان الرابع للرازي في أنه يمتنع أن يكون مختصا بالحيز والجهة

فصل قال الرازي البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز هو أنه لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أولا مع وجوب أن يحصل فيه والقسمان باطلان فكما القول بأنه تعالى حاصل في الجهة محالاً وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب لوجوه الأول أن ذاته مساوية لذوات سائر الأجسام من كونه حاصلاً في الحيز ممتدًا في الجهة وإذا أثبت التساوي من هذا الوجه ثبت التساوي في تمام الذات على ما بيناه في البرهان الأول في نفي كونه حسمًا وإذا ثبت التساوي مطلقًا فكل ما صح على أحد المتساويين وجب أن يصح على الآخر ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز وجب أن

لا يجب في تلك الذات حصولها في ذلك الحيز وهو المطلوب الثاني أنه لو وجب حصوله في تلك الجهة وامتنع حصوله في سائر الجهات لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات فحينئذ تكون الجهات شيئًا موجوداً فإذا كان الله واجب الحصول في الجهة أزلاً وأبدًا التزموا قديمًا آخر مع الله تعالى في الأزل وذلك محال الثالث أنه لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام في حيز معين على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجه عنه وعلى هذا التقدير لا يتمشى دليل حدوث الأجسام في ذلك فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الجسام ل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا الرابع هو أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها

متساوية يكون حكمها واحدًا وذلك يمنع القول بأن الله تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين فإن قالوا لما لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أزلي قلنا هذا باطل لوجوه أحدها أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك لا فوق ولا تحت فبطل قولكم الثاني لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أموراً موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك الثالث هو أنه لو جاز أن تختص ذات الإله تعالى ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية في

العقل لجاز اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الأوقات دون بعض على سبيل الوجوب مع كونها متساوية في العقل وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن الصانع ولجاز أيضًا اختصاص عدم القديم ببعض الأوقات على سبيل الوجوب وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات الصانع وباب إثبات وجوبه وقدمه الرابع أنه لو حصل في حيز معين مع كونه لا يمكنه الخروج منه لكان كالمفلوج الذي لا يمكنه أن يتحرك أو كالمربوط الممنوع من الحركة وذلك نقص والنقص على الله محال

وأما القسم الثاني وهو أن يقال إنه تعالى حصل في الحيز مع جواز كونه حاصلاً فيه فنقول إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فالفاعل يتقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لايكون أزليًّا وإذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم وقوع الانقلاب في ذاته تعالى وهو محال والكلام على هذه الحجة على قول من يطلق الحيز والجهة ومن لا يطلق ذلك على مذهب مثبتة الجسم ونفاته مع قولهم إنه على العرش سواء فإنه يمكن أن يقال لو كان فوق العرش أو كان عالياً على العرش لكانت فوقيته وعلوه إما واجباً وإما جائزاً وساق الحجة والجواب عنها أن يعرف أن لفظ الحيز والجهة ونحو ذلك فيه اشتراك كما تقدم فقد يراد به شيء

منفصل عن الله كالعرش والغمام وقد يراد به ما ليس منفصلاً عنه كما ذكرنا أن لفظ الحيز والحد في المخلوقات يراد به ما ينفصل عن المحدود ويحيط به ويراد به نهاية الشيء وجوانبه فإن كلاهما يجوزه وقد يراد بالحيز أمر عدمي وهو ما يقدر فيه الأجسام وهو المعروف من لفظ الحيز عند المتكلمين الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان وكذلك الجهة قد يعني بها أمر وجودي منفصل عنه فقد يعني بها ما لا يقتضي موجوداً غيره بل يكون إما أمراً عدميًّا وإما نسبيًّا وإضافيًّا وإذا كان في الألفاظ اشتراك فمن مسمى ذلك ما يكون واجباً ومنه ما يكون جائزاً والاستفصال يكشف حقيقة الحال وحينئذ فالكلام عليها من وجوه الأول أن يقال ما تعني بقولك لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع الوجوب أو مع عدم الوجوب أتعني بالحيز ما هو من لوازم المتحيز وهي نهايته وحده الداخل في مسماه أم تريد بالحيز شيئاً موجوداً

منفصلاً عنه كالعرش وكذلك الجهة أتريد بالجهة أمراً موجوداً منفصلاً عنه أم تريد بالجهة كونه بحيث يشار إليه ويمكن الإحساس به وإن لم يكن هناك موجود غيره فإن أراد بالحيز المعنى الأول وهو ما هو من لوازم كل متحيز وإن أراد بالجهة كونه يشار إليه من غير وجود شيء منفصل عنه لم نسلم أن ذلك غير واجب وبهذا التفصيل يظهر الجواب عما ذكره من الوجوه أما قوله لايجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز فكذلك هذا فيقال له بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به ويلزمه الحيز الذي هو تقدير المكان وهوعدمي لكن لا يجب أن يكون عين تحيز هذا وعين حيزه الذي هو نهايته كما لا يجب أن يكون عين هذا هو عين الآخر فإن حيزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته ونفسه وعينه والشيئان المتماثلان لا يجب أن يكون أحدهما عين الآخر فإن هذا لا يقوله عاقل وهذا معلوم بالاضطرار لا نزاع فيه هذا لو سلم أن الأجسام متماثلة فكيف وقد تقدم أن هذا قول باطل

وكذلك قوله في الثاني لو وجب حصوله في تلك الجهة لكانت مخالفة لغيرها فتكون موجودًا فيكون مع الله قديم آخر يقال له ثبوت صفة قديمة ليس ممتنعًا على الله كما اتفق عليه الصفاتية أو لا نسلم أنه ممتنع والقدر الحيز الداخل في مسمى المتحيز الذي هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية فإن كل موجود متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمنع أن يكون هو إياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله ما يكون شيئًا منفصلاً عنه بل القديم شيء يكون داخلاً في مسماه ليس خارجًا عنه وقوله في الوجه الثالث لو جاز دعوى وجوب اختصاص شيء بجهة معينة جاز أن يدعى في بعض الأجسام حصوله في حيز بعينه على سبيل الوجوب وحينئذ لا يتمشى

دليل حدوث الأجسام بل يلزمه تجويز قدم بعضها يقال له كل جسم فإنه مختص بحيز وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخلة في مسماه وأما اختصاصه بحيز وجودي منفصل عنه فذاك شيء آخر لا يلزم كما قد بيناه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكروه من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك الدليل لا نرتضيه لا لهذا لكن لمعانٍ أُخَر ومع أن المنازعين له الذين يقولون هو جسم أو له حد وقدر ينازعونه في حدوث كل ما كان جسمًا أوله حد فقد يقولون دعوى حدوث جميع هذا مثل دعوى حدوث كل ذات أو كل موصوف أو كل صفة وموصوف أو حدوث كل قائم بنفسه أو كل موجود ونحو ذلك وقوله في الوجه الرابع الأحياز متساوية وذلك يمنع الاختصاص ببعضها على التعيين يقال له الأحياز

المتساوية التي تدعي فيها التساوي هي ماكانت منفصلة عن المتحيز كما ذكر من الخلاء والفراغ وأما الحيز الذي هو داخل في مسمى المتحيز وهو جانبه وحده ونهايته فهذا تابع للمتحيز وهذه الأحياز مختلفة باختلاف المتحيزات فحيز كل متحيز وهو حده ونهايته وجانبه يتبع حقيقته وهذا ظاهر فحيز الذهب ذهب وحيز الفضة فضة بهذا الاعتبار وقوله في الوجه الخامس المختص بحيز معين يكون كالمربوط المفلوج يقال له هذا إنما يقال إذا كان في حيز وجودي منفصل عنه أما ما هو داخل في مسمى نفسه وهو حده ونهايته فلا يلزم ذلك فيه كما لا يلزم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم العدم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم بعض الشيء الوجه الثاني أن يقال إذا أراد القائل بأنه متحيز وأراد بالحيز

أمرًا موجودًا منفصلاً عنه كالغمام والعرش فإنه قد يقول حصوله فيه على سبيل الجواز وبذلك يظهر الجواب عن قوله ذلك الاختصاص لا يكون إلا بجعل جاعل هو الفاعل المتقدم على التخصيص فيلزم أن لا يكون ذات الله في الحيز أزليًّا فإن هذا يسلم على هذا التقدير بأن حصول ذاته فوق العرش ليس أزليًّا بل كان الله قبل أن يكون مستويًا على العرش سواء قيل أن الاستواء أمر نسبي إضافي أو قيل إنه من صفات الأفعال وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه فعلى التقديرين إنما حصل الاستواء بخلقه للعرش وخلقه للعرش بمشيئته واختياره وأما قوله إذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم الانقلاب في ذاته يقال له هذا ممنوع فإنه إذا كان في الأزل مبرءًا عن حيز وجودي كالعرش والغمام ثم صار بعد أن

خلق العرش والعالم فوقه لم يكن ممتنعاً فإن تجدد النسب والإضافات عليه جائز باتفاق العقلاء وأما إن قيل إن الاستواء فعل وأنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا كما هو المعروف من مذاهب السلف وأهل الحديث فهذا مبني على مسألة الحركة وحلول الحوادث وقد تقدم كلامه بأن هذا لم يقم دليل عقلي على نفيه وأن جميع الطوائف يلزمهم القول به وليس ذلك انقلاب في ذات الله بحال كما تقدم وهو إنما ادعى لزوم الانقلاب لأنه أخذ لفظ الحيز بالاشتراك فقدر أنه يصير متحيزًا بعد أن لم يكن متحيزًا ومعلوم أن هذا يوجب انقلاب ذاته فإن ضرورة صير المتحيز متحيزًا توجب الانقلابات لكن هذا التحيز هو القسم الأول وهو التحيز اللازم للمتحيز الذي يمتنع انفصاله عنه والمراد بالحيز في هذا المتحيز إماأمر عدمي أو إضافي أو المراد به جوانب المتحيز ونهايته فلو كان في الأزل مبرءاً عن هذا ثم صار موصوفًا به لزم الانقلاب ونظيره في المخلوقات أن يصير ما ليس بجسم جسمًا وهذا عند قوم ممتنع وعند قوم قد

يقلب الله الأعراض أجسامًا وذلك انقلاب بلا نزاع أما إذا أريد بالحيز أمرًا موجودًا منفصلاً عنه فلا يلزم بكونه فوقه وعليه أن تنقلب ذاته بوجه من الوجوه فإن الناس في كونه فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والفقهاء والصوفية من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق أو بين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حدوث الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني هو المشهور عن السلف وأئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئُهُ وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر هو أن ليس في الأدلة

العقلية ما يحيل ذلك الوجه الثالث أن يقال تحيزه واجب ويجزم بذلك بناءً على أن نقس العرش ليس بحيز بل الحيز تقدير المكان ومن قال بذلك فهم في جواز الحركة عليه على قولين فمن قال بالامتناع يقول إنه لما خلق العرش تجددت بينه وبين العرش نسبة ولم يتغير عما كان موصوفًا به إن وصفه بأنه متحيز فإنا قد ذكرنا للقائلين بأنه على العرش في ذلك قولان وقد يقول إن حصوله في الحيز المعين واجب ومن قال ذلك يجيب عن أوجهه الخمسة أما الوجه الأول فمبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم أن هذا باطل وأما قوله في الوجه الثاني أنه لو وجب حصوله في الجهة وامتنع حصوله في غيرها لكانت تلك الجهة مخالفة لغيرها في الحقيقة فتكون موجودة فيكون مع الله قديم غيره تعالى يقال له هؤلاء لا يقولون إن الحيز الذي يجب لله أمرًا

موجودًا منفصلاً عنه بل هو عندهم أمر عدمي بينه وبين الله نسبة وإضافة إذ هو تقدير المكان وذلك لا يقتضي وجود موجود غيره كما أنه لما كان في الأزل لا في زمان لا في تقدير الزمان لم يقتضِ ذلك وجود قديم آخر مع الله ومن قال إن تقدير الزمان وتقدير المكان وجوديان قال بقدمهما جميعًا كما يقول ذلك طائفة من الصابئة ومن اتبعهم ثم قد يقولون إن ذلك لازم لواجب الوجود نفسه وقد يقولون عن القدماء خمسة الزمان والمكان والنفس والهيولى وواجب الوجود

بنفسه كما يقول ذلك بعض الصابئين ومن اتبعهم كديمقراطيس والغرض أن المسلمين الذين يقولون ليس مع الله قديم منفصل عنه موجود لا يقولون إن الحيز موجود وقد تقدم

الدليل على ذلك وقد قال هو بعد هذا إنه قل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وذلك ينافي قوله إن الأحياز وجودية وأما قوله ما سبب الاختصاص بهذا الأمر العدم فسيأتي الكلام عليه وهؤلاء يقولون قوله في الوجه الثالث لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب وعلى هذا لا يتمشى دليل حدوث العالم فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا فهم يجيبون بجوابين أحدهما أن الأجسام مختلفة بالحقيقة فلا يلزم من اختصاص بعضها بصفة معينة أن يكون غيره مختصًّا بمثل تلك الصفة كما أنه عندهم إذا اختص بسائر صفاته الذاتية لم يلزم أن يكون غيره مختصًّا بغيره

الثاني أنهم إذا قالوا بأن بعض الأجسام الباقية مختص بحيز معين إنما يبطل الدليل الذي ذكره منازعوهم ولا ريب في بطلان هذا الدليل عندهم كما اتفق السلف والأئمة على أنه من الكلام المنهي عنه ومن قال من هؤلاء إنه جسم لم ينكر أن الأجسام كلها ليست محدثة كما لا ينكر أن القائمات بأنفسها كلها ليست محدثة وأن الموصوفات كلها ليست محدثة بل يضلل من يطلق العموم بحدوث الأجسام كما يضلل من أطلق القول بحدوث الموصوفات والقائمات بأنفسها أو الموجودات ويقولون قوله في الوجه الرابع إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وذلك يمنع وجوب الاختصاص ببعضها فهم يقولون ليس الاختصاص لمعنى فيها بل هو لمعنى في نفسه وهو امتناع الحركة عليه الانتقال عنه كما يوافقهم هو على ذلك وأيضًا فالعالم مختص بحيزه لمعنى فيه لا في حيزه وأما السؤال الذي أوردهم من جهتهم لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى وجوابه بأنه قبل خلق العالم

ما كان إلا الخلاء الصرف وبأنه لو كان الفوقاني متميزًا عن التحتاني لكانت وجودية فإنهم يقولون كونه فوق العالم إنما يظهر إذا خلق العالم فإنه لما خلقه وهو على علو يستحقه بنفسه وخلق العالم بصفة التحت وجب أن يكون فوق العالم لمعنى في نفسه وفي العالم لا لمعنى وجودي في الحيز وإن لم يكن قبل خلق العالم ولا فوق العالم إلا العدم المحض والخلاء الصرف فالاختصاص بالحيز لامتناع الحركة عليه عندهم ووجوب علوه لمعنى في نفسه وفي العالم وكذلك قوله في الثالث لو جاز اختصاص ذات الإله ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية يلزم استغناؤها عن الصانع فيقولون هذا بناء على أن الأحياز أمور وجودية وليس الأمر كذلك بل هي أمور عدمية

وقوله في الخامس أنه يكون كالمفلوج الذي لا يمكنه الحركة وهو نقص وهو على الله محال فيقال أنت تقول إن نفي النقص عن الله لا يعلم بالعقل وأنت أيضًا تقول لا يجوز عليه الحركة وقد تقدم الكلام على هذا في آخر حجة من نفي الجسم وهو برهان الحركة وبينا أن ما وصف به قول منازعيه يلزمه مثله أو أكثر الوجه الرابع قول من لا يوجب حصوله في حيز معين خارج عنه وجوديًّا كان أو عدميًّا بل ذلك عنده على سبيل الجواز مطلقاً وهو قول كل من يقول إنه استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض بعد أن لم يكن مستويًا عليه ويقول إنه استوى إلى السماء وأنه يجيء يوم القيامة ويأتي إلى سائر ما جاءت به النصوص من ذلك وعلى قول هؤلاء لا يجب حصوله في حيز معين وتكون ذاته مستلزمة للحيز المطلق لا لحيز معين وإذا حصل في حيز معين جاز أن يكون حاصلاً

فيه ولم يجب وأما قوله إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلابجعل جاعل وتخصيص مخصص وما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له أما اختصاصه بحيز دون حيز فهو الذي يفتقر إلى جعل جاعل وأما أصل التحيز فمن لوازم ذاته كالقدرة والفعل فإن القدرة على كل شيء من لوازم ذاته وأما تخصيص بعض المقدورات فتتبع مشيئته واختياره وعلى هذا فنقول حصوله في حيز معين دون غيره بمشيئته واختياره وذلك لأن هذا هو الفعل والتصرف والحركة كما يقولون إنه ما زال متكلمًا إذا شاء كذلك يقولون ما زال فاعلاً بنفسه إذا شاء وعلى هذا فحصول ذاته في الأزل يكون أزليًّا لأنه من لوازم ذاته لكن تعيين حيز دون حيز هو تابع لمشيئته واختياره وذلك أن الأحياز ليست أمورًا

وجودية بل هي أمور عدمية فليس الأمر إلا مجرد كونه يفعل بنفسه ويتصرف وتقدم الفاعل على هذا الفعل بقدم الذات كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم لا يوجب ذلك تقدمًا بالزمان وعلى هذا فيقال الوجه الخامس قولك لو حصل في شيء من الأحياز والجهات لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أو لا مع الوجوب فيقال أتريد بالوجوب وجوب الحيز المطلق أو وجوب حيز معين فإن أردت الأول فالوجوه الخمسة المذكورة لا تنفي ذلك وإن أردت الثاني فقوله إن هذا يلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا يقال هذا ممنوع قوله ما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وكل ما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه وما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له التقدم في مثل هذا

لا يوجب أن يكون بزمان يفصل بين الفعل والفاعل كما تقول حركت يدي فتحرك ثوبي أو تحرك خاتمي ونحو ذلك فحركة اليد متقدمة على حركة الخاتم والكم ومع هذا فزمانهما واحد فكذلك إذا كان هذا التخصيص جائزًا وهو بمشيئته واختياره لم يمنع ذلك أن يكون متقدمًا على فعله تقدمًا بغير الزمان وهذا القدر وإن كان الفلاسفة يقولونه في تقدمه على العالم فهؤلاء لم يقولوه في ذلك بل قالوه في تقدمه على هذا الفعل القائم بنفسه والتحيز المعين وهم يقولون ذلك في سائر ما يضاف إليه من أعيان الأقوال وأعيان الأفعال القائمة بنفسه التي يمكن أن يقول ويفعل غيرها مما يكون بمشيئته واختياره وهذا قول طوائف كثيرة من منازعيه معروف عنهم من أهل الكلام وأهل الحديث والصوفية وغيرهم

الجزء الرابع

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء الرابع الاستواء - العلو - النزول - الحيز - الجهة الجسم - الرؤية حققه د. محمد العبد العزيز اللاحم

فصل: البرهان الخامس للرازي فى إلزامه من قال بالجهة

فصل قال الرازي البرهان الخامس هو أن الأرض كرة فإذا

كان كذلك امتنع كونه تعالى في الحيز والجهة بيان الأول أنه إذا حصل خسوف قمري فإذا سألنا سكان أقصى المشرق عن ابتدائه قالوا إنه حصل في أول الليل وإذا سألنا سكان أقصى المغرب قالوا إنه حصل في آخر الليل فعلمنا أن أول الليل في أقصى المشرق هو بعينه آخر الليل في أقصى المغرب وذلك يوجب كون الأرض كرة وإنما قلنا إن الأرض لما كانت كرة امتنع كون الخالق في شيء من الأحياز وذلك أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان أهل المغرب وعلى العكس فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان تعالى في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين الخصم فثبت أنه يمتنع كونه مختصًّا بالجهة والكلام على هذا أن يقال هذا الذي ذكره مبني على أن الأرض مستديرة والأفلاك مستديرة وهذا القدر قد ينازعه فيه

بعض الناس فإن من أهل الكلام من نازعه فيه ودفع كون الأفلاك مستديرة كما فعل بعض من رد عليهم في كتاب الدقائق وغيرهم وكذلك قد يدفع ذلك بعض من ينتسب إلى العلم ولربما حصل هذا من أقوال المنجمين التي تخالف الشرع وكذلك المتكلم قد ينازع في هذا بطرق جدلية وكذا المتفقه قد ينازع في هذا زعماً منه أن هذا مخالف للشريعة وليس مع واحد منها دليل شرعي ولا عقلي يخالف ذلك ولا يمنع كون الأفلاك مستديرة ولا ينقل عن أحد من أئمة الإسلام وعلمائه النزاع في ذلك بل قد ذكر غير واحد من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي الحسيين ابن

المنادي أحد العلماء المشاهير ذوي التصانيف الكثيرة من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد ومثل أبي محمد بن حزم ومثل أبي الفرج ابن الجوزي إجماع المسلمين على أن الأفلاك مستديرة وأبو

الحسين من أعظم الناس إطلاعاً وكذلك هؤلاء وإذا ذكر هو أو غيره إجماع علماء المسلمين على أن الأفلاك مستديرة كان من نازع بعد هذا الإجماع من متكلم ومتفقه وغيرهما مسبوقاً بالإجماع وما علمت منازعاً في ذلك إلا نقل الإجماع الذي ذكره أبو الحسين بن المنادي وإن كان قد نقل عن بعض السلف نزاع في حركة الأفلاك لكن ما علمت عنهم نزاعاً في استدارتها

دلالة الكتاب والسنة على استدارة الأفلاك

وقد ذكر العلماء دلالة الكتاب والسنة على أن الأفلاك مستديرة من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها وقد كتبنا في ذلك ما تيسر في غير هذا الموضع مثل قوله تعالى في موضعين من كتابه وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {33} [الأنبياء 33] قال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل والفلك في اللغة هو الشيء المستدير ومنه يقال تفلك ثدي الجارية إذا استدار ومنه فلكة المغزل وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنها أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن والأعلى لا يكون الأوسط إلا إذا كان

الشكل مستديراً بخلاف المربع والمثلث ونحوهما من الأشكال فإنه لا يكون أعلاه أوسطه وفي حديث الأطيط الذي رواه أبو داود وغيره عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال

أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال وهلكت الأنعام فاستسقِ الله لنا فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك أتدري ما تقول لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب قال أبو داود وقال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته وساق الحديث ولفظ عثمان بن سعيد عن ابن بشار إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة وأنه ليئط به

أطيط الرحل بالراكب

وقد قال سبحانه وتعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة 255] وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة والكرسي في العرش مثل تلك الحلقة في الفلاة والعرش

لا يقدر أحد قدره إلا الله وقد روى أبو بكر الخلال في كتاب السنة أخبرني حرب حدثنا محمد بن مهدي بن مالك ثنا إسماعيل بن

عبد الكريم ثنا عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهباً فذكر من عظمة الله تعالى قال إن السموات السبع والأرضين السبع والبحار لفي الهيكل وإن الهيكل لفي الكرسي وإن قدميه على الكرسي

وقال الخلال سألت إبراهيم الحربي عن حديث وهب ابن منبه إن السموات والأرض لفي الهيكل فقال الهيكل هو الشيء العظيم وأنت إذا دخلت البيعة ورأيت الشيء العظيم يعني عندهم يسمونه الهيكل وإن الهيكل لفي الكرسي وإن الكرسي لفي العرش قال والعرش أعظم من ذلك وروى عثمان بن سعيد حدثنا الحمّاني حدثنا الحكم ابن ظهير عن عاصم عن زر عن عبد الله هو ابن

مسعود قال ما السموات والأرض في الكرسي إلا مثل حلقة بأرض فلاة وقال ثنا يحيى الحمّاني ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد قال ما السموات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة في أرض فلاة

وقال ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد وهو ابن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ومن الكرسي إلى الماء خمسمائة عام والعرش على الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه

وقال ثنا يحيى الحماني وأبو بكر قالا حدثنا وكيع

عن سفيان عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله

وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً والأبنية هي الخيام والفساطيط وفيها استدارة وذكر أنه جعل الأرض مهاداً وأنه بسطها وأخبر أنه جعل الجبال فيها أوتاداً وروى الخلال في كتاب السنة قال

أعطاني محمد بن عوف هذا الحديث وقال اروه عني فإنه بسماعي حدثنا أبو المغيرة قال ثنا أبو مهدي قال ثنا أبو الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأرض على ما هي قال

الأرضون على الماء وروى الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بني آدم فينهاه ربه ولولا ذلك لأغرقهم وهذا كله مما يبين أن الماء

محيط بالأرض وأن من شأنه العلو عليها ولكن الله مهَّد الأرض وفرشها وبسطها في الماء وأوتدها بالجبال الراسيات التي ترسيها أن تميد وتضطرب فإن السفينة إذا كانت في البحر لابد لها من شيء يثقلها ويسكنها وإلا مادت واضطربت وليس هذا موضع بسط ذلك وشرحه وما يرد عليه وإنما الغرض أن ما ذكره هذا الرازي من استدارة الفلك لا ننازعه فيه كما قد ينازعه فيه بعض الجهال وكما ينقل هو فإنه تارة يدخل مع المنجمين في الشرك وعبادة الكواكب وتارة ينازعهم في الأمور المعلومة من الحساب وكلاهما خروج عن الحق

احتجاج الرازي بحجة أهل الحساب

وقد احتج هنا بالحجة المشهورة عند أهل الحساب الناظرين في هيئة الأفلاك والأرض وهي صورتها وشكلها فإنهم يستدلون على أن الشمس والقمر والكواكب تطلع في مشرق الأرض قبل طلوعها في المغرب وتغرب في مشرق الأرض قبل غروبها في المغرب ولهذا يكون أوائل الليل والنهار في المشرق قبل المغرب وأما أول الشهر فيكون في المغرب فبل المشرق لأن الشهر هو بظهور الهلال والهلال يعظم ظهوره بقدر مباعدته الشمس واحتجاب الشمس ليرى نوره والشمس يتأخر غروبها في المغرب عن غروبها في المشرق فيبعد بقدر ذلك ما بينها وبين الهلال فيعظم نوره وإذا غربت ضعف بسبب البعد الشعاع الذي تحت الهلال فقوي المقتضي للرؤية وضعف المانع يستدلون على ذلك بالخسوف فإنه يمكن الناس أن يرصدوه بالليل في وقت واحد فيعلمون حدوثه عند أهل المشرق قبل حدوثه عند أهل المغرب ويعلمون قدره في أقطار الأرض وليس الاستدلال على ذلك مختصاً بخسوف القمر بل هو ممكن بكسوف الشمس أيضاًَ بل واقتران الكواكب

وبكسوف الكواكب أيضاً بل وكل أمر يكون في الفلك في درجة واحدة فإن كل درجة من درج الفلك تطلع على الجانب الشرقي قبل الغربي فإذا كان فيها أمر غريب مثل الكسوف والخسوف والقران ونحو ذلك كان وقته من ليل أو نهار في المشرق قبل وقته بالمغرب مثل أن يكون عند هؤلاء في أوائل النهار وعند هؤلاء في أواخره أو عند هؤلاء في أوائل الليل وعند هؤلاء في أواخره كان بمنزلة خسوف القمر ويمكن الاستدلال أيضاً بغير ذلك من الأدلة المعروفة لكنه لم يستوف الحجة ويظهرها بل كلامه في ذلك كلام الشادي فإن القدر المرئي من الخسوف عند أهل المشرق لا يجب أن يكون هو القدر المرئي من الخسوف عند أهل المغرب حتى يقال إن أهل المشرق والمغرب يرون الخسوف في ساعة واحدة ويكون أول ليل هؤلاء آخر ليل هؤلاء بل قد يخسف القمر عند قوم دون قوم وقد يكون الخسوف عند قوم كلياً لجميع القمر وعند بعضهم جزئياً يخسف بعضه ولكن يشترك أهل المشرق والمغرب إذا اشتركوا فيه في طرفيه فإن الخسوف في القمر يبدأ فيه من جانبه الشرقي وفي الشمس من جانبها الغربي وإذا بدأ الخسوف في القمر من جانبه الشرقي لا يخسف

رد المؤلف على الرازي فيما احتج به

حينئذ عند أهل المغرب وكذلك طلوع الشمس وكسوفها وقد يكون ضد ذلك إذا عرف ذلك فالكلام على هذه الحجة من مقامين كسائر الحجج المذكورة في مع كونه على العرش فإن من يقول إنه فوق العرش ويقول هو مع ذلك ليس بجسم ولا متحيز ولا مركب يمنع ما ذكره من الملازمة كما تقدم ذكره غير

الجهات نوعان: إضافية وثابتة

مرة سواء فرض أن العرش يكون تحت بعض الناس أو أن السموات تكون تحت بعض الناس أو لم يفرض من وجوه أحدها أن قوله إن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان المغرب فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس يقال له كان الواجب إذا احتججت بما ذكرته من أمر الهيئة أن تتم ما يقولونه هم وما يعلمه الناس كلهم فإنه لا نزاع بينهم ولا بين أحد من بني

آدم أن الأرض هي تحت السماء حيث كانت وأن السماء فوق الأرض حيث كانت وهذا وهم متفقون مع جملة الناس على أن الجهة الشرقية سماؤها وأرضها ليست تحت الغربية ولا الجهة الغربية سماؤها وأرضها تحت الشرقية ومتفقون على جهل من يجعل إحدى الجهتين في نفسها فوق الأخرى أو تحتها وذلك يتضح بما قدمناه قبل هذا من أن الجهات نوعان جهات ثابتة لازمة لا تتحول وجهات إضافية نسبية تتبدل وتتحول فأما الأول وهي الجهة الثابتة اللازمة الحقيقة فهي جهتا العلو والسفل فالسماء أبداً في الجهة العالية التي علوها ثابت لازم لا يتبدل فكلما علت الجهة اتسعت وكلما سفلت ضاقت فلهذا كان الأعلى هو الأوسع وكان الأسفل

هو الأضيق ولهذا قابل الله تعالى بين عليين وبين سجين في كتابه فقال كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ {18} [المطففين 18] وقال كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ {7} [المطففين 7] ولم يقل في سفلين كما لم يقل هناك في وسعين ليبين الضيق والحرج الذي في المكان كما بين سفوله بمقابلته بعليين وبين أيضاً سعة عليين بمقابلة سجين فيكون قد دل على العلو والسعة التي للأبرار وعلى السفول والضيق الذي للفجار وأما الجهات الست فقد ذكرنا أنها تقال بالنسبة والإضافة إلى الحيوان وحركته ولهذا تتبدل بتبدل حركته وأعضائه فإذا تحرك إلى المشرق كان المشرق أمامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شماله وعلى هذا بنيت الكعبة لأن وجهها مستقبل مهب الصبا بين المشرق والشمال وأركانها على الجهات الأربع فالحجر الأسود مستقبل المشرق واليماني مستقبل اليمين والغربي مستقبل الغرب والشامي مستقبل الشمالي وهو محاذٍ أرض الجزيرة

كالرقة وحران ونحوهما ولهذا قال من قال من المصنفين في دلائل القبلة كابي العباس بن القاص وغيره إن قبلة هذه البلاد أعدل القبل لأن سكانها يستدبرون القطب الشمالي لا يحتاجون أن ينحرفوا عنه إلى المشرق كما يفعل أهل الشام ولا إلى المغرب كما يفعل أهل العراق فالإنسان تتبدل جهاته بتبدل حركاته مع أن الجهات في نفسها لم تختلف أصلاً ولم يصر الشرقي منها غربياً ولا الغربي شرقياً وكذلك الجهة التي تحاذي رأسه هي علوه والتي تحاذي رجليه هي سفله فإذا كان رجلان في أقصى المشرق منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك وفي أقصى المغرب منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك فكل منهما تكون السماء فوقه لأنها تحاذي رأسه وتكون الأرض تحته لأنها تحاذي

رجليه كما أن السماء فوق الأرض في نفسها وليس أحد هذين تحت الآخر في نفس الأمر أصلاً بل سجين الذي هو أسفل السافلين تحتهما ولو هبط شيئان ثقيلان من عندهما لانتهى إلى أسفل سافلين وهو سجين لم يلتق ذلك الشيئان الثقيلان لكن لو قدر أن تخرق الأرض ويلتقيان هناك لكانت رجلا أحدهما إلى رجلي الآخر ولو فرض أن أحدهما أخرقت له الأرض حتى يمر في جوفها ويصل إلى الآخر لكانت رجلاه تلاقي رجلي الآخر فبهذا الاعتبار يتخيل كل واحد منهما أن الآخر تحته بمحاذاته ناحية رجليه لكن الحركة السفلية هي إلى أسفل الأرض وقعرها ومن هناك تبقى الحركة صاعدة إلى فوق كحركة الصاعد من الأرض إلى السماء فيكون المتحرك من أسفل الأرض وقعرها إلى ظهرها وعلوها على هذا الوجه كهيئة المعلق برجليه إلى ناحية السماء ورأسه إلى ناحية الأرض وكهيئة النملة المتحركة تحت السقف والسقف يحاذي رجليها فتصير بهذا الاعتبار السماء تحاذي رجليه والأرض تحاذي رأسه فمن هنا يقال إن السماء تحته والأرض فوقه إذا كان

مقلوباً منكوساً فيجتمع من هذا أمران أحدهما أن تكون حركته على خلاف الحركة التي جعلها الله في خلقه والثاني أن تتبدل الجهة تبدلاً إضافيًا لا حقيقياً كما تتبدل اليمين باليسار والأمام بالوراء ومن المعلوم أن المشرق والمغرب لا يتبدلان قط باستقبالهما تارة واستدبارهما أخرى فكيف يتبدل العلو والسفل بتنكيس الإنسان وقلبه على رأسه والمحاذاة حينئذ للسماء برجليه والأرض برأسه بل هذا المنكوس يعلم أن السماء فوقه والأرض تحته ونحن لا نمنع أن هذا قد يسمى علواً وسفلاً بهذا الاعتبار التقديري الإضافي لكن هذا لا يغير الجهة الحقيقة الثابتة وبهذا الاعتبار سمي في هذا الحديث المروي عن أبي هريرة وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله فإنه قدر الإدلاء وهو ممتنع فسماه

هبوطاً على هذا التقدير كما لو قُلبت رجلا الإنسان ورمي إلى ناحية السماء لكان قائماً على السماء وإذا ظهر هذا علم أن الله سبحانه لا يكون في الحقيقة قط إلا عالياً

وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن يقال هذا الذي ذكرته وارد في جميع الأمور العالية من العرش والكرسي والسموات السبع وما فيهن من الجنة والملائكة والكواكب والشمس والقمر ومن الرياح وغير ذلك فإن هذه الأجسام مستديرة كما ذكرت ومعلوم أنها فوق الأرض حقيقة وإن كان على مقتضى ما ذكرته تكون هذه الأمور دائماً تحت قوم كما تكون فوق آخرين وتكون موصوفة بالتحت بالنسبة إلى بعض الناس وهي التحتية التقديرية الإضافية وإن كانت موصوفة بالعلو الحقيقي الثابت كما أنها أيضاً عالية بالعلو الإضافي الوجودي دون الإضافي التقديري وإذا كان الأمر كذلك ولم يكن في ذلك من الإحالة إلى ما هو مثلما في هذا ودونه لم يكن في ذلك محذوراً فإن المقصود أن الله فوق السموات وهذا ثابت على كل تقدير وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو أن يقال هذا الذي ذكرته من هذا الوجه لا يدفع فإنه كما أنه معلوم بالحساب والعقل فإنه ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي

هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر فأخبر أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء فهذا خبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره وعلوه على الأشياء وأنه ليس دونه شيء فلا يكون أعظم بطوناً منه حيث بطن من الجهة الأخرى من العباد جمع فيها لفظ البطون ولفظ الدون وليس هو لفظ الدون بقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء فعلم أن بطونه أوجب أن لا يكون شيء دونه فلا شيء دونه باعتبار بطونه والبطون يكون باعتبار الجهة التي ليست ظاهرة ولهذا لم يقل وأنت السافل ولهذا لم يجيء هذا

الاسم الباطن في قوله وأنت الباطن فليس دونك شيء إلا مقروناً بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره وعلوه فلا يكون شيء فوقه لأن مجموع الاسمين يدلان على الإحاطة والسعة وأنه الظاهر فلا شيء فوقه والباطن فلا شيء دونه ولم يقل أنت السافل ولا وصف الله قط بالسفول لا حقيقة ولا مجازاً بل قال ليس دونك شيء فأخبر أنه لا يكون شيء دونه هناك كما جاء في الأثر الذي ذكره مالك في الموطأ أنه يقال حسبنا الله وكفى سمع الله لمن دعا وليس وراء الله مرمى فلا مرمى وراءه ولا شيء دونه في معنى اسمه الباطن ليبين أنه ليس يخرج عنه من الوجهين جميعاً وذلك لأن ما في هذا المعنى من نفي الجهة شيء دونه هو بالنسبة والإضافة التقديرية وإلا ففي الحقيقة هو عالٍ أيضاً من هناك

والأشياء كلها تحته وهذا كما أن الضار والمانع والخافض لا تذكر إلا مقرونة بالنافع المعطي الرافع لأن ما فعله من الضرر والمنع والخفض فيه حكمة بالغة أوجب أن تكون فيه رحمة واسعة ونعمة سابغة فليس في الحقيقة ضرراً عاماً وإن كان فيه ضرر فالضرر الإضافي بالنسبة إلى بعض المخلوقات يشبه ما في البطون من كونه ليس تحته شيء وأنه لو أدلى بحبل لهبط عليه فإن الهبوط والتحتية أمر إضافي بالنسبة إلى تقدير حال لبعض المخلوقات هذا في قدره وهذا في فعله وضلال هؤلاء الجهمية في قدره كضلال القدرية في

فعله وكلاهما من وصفه ولهذا كانت المعتزلة ضالة في الوجهين جميعاً وقد قابلهم بنوع من الضلال بعض أهل الإثبات حتى نفوا ما أثبتته النصوص والله يهدينا الصراط

المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وبيان ما في الحديث الصحيح من قوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أنه من المعلوم أن فوق ودون من الأسماء التي تسميها النحاة ظروف المكان لدلالة لفظها على المكان اللغوي فأما لفظ الفوق فظاهر وهو بحسب المضاف إليه فكون الشيء فوق لا ينافي أن يكون تحت غيره وانتفاء أن يكون فوقه شيء لا يمنع أن يكون تحته شيء فقوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء فنفى أن يكون فوق الله شيء وذلك يقتضي أنه سبحانه وتعالى أكمل شيء ظهوراً والظهور يتضمن العلو فلهذا قال فليس فوقك شيء ولم يقل فليس أظهر منك شيء لأنه لو أراد مجرد الانكشاف والتجلي للناس لنَافَى ذلك وصفه بالبطون لأن كون الشيء ظاهراً بمعنى كونه معلوماً أو مشهوداً ينافي كونه باطناً ولكن الظهور يتضمن معنى العلو ومن شأن العالي أبداً أن يكون ظاهرا متجلياً بخلاف السافل فإن من شأنه أن يكون حفياً لأنه إذا علا تراءى للأبصار فرأته فهو سبحانه مع ظهوره المتضمن علوه فلا شيء فوقه وهو أيضاًَ باطن فلا شيء دونه ولفظ الدون ليس المراد به الدون أي الناقص ولكن لما

كان يقال هذا دون هذا أي دونه بمعنى أنه يحصل دونه ويجعل الآخر فوقه صار يفهم من اللفظ هذا بل هذا اللفظ في كتاب الله تعالى في مواضع قال تعالى ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً {89} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً {90} [الكهف 89-90] إلى قوله ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً {92} حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً {93} [الكهف 92-93] فقوله لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً {90} بين أن الستر إذا كان عليهم كالسقوف كان ذلك من دون الشمس فيكون بينهم وبين الشمس وتكون الشمس محجوبة مستورة عنهم بذلك الستر فتكون هي أبطن عنهم من الستر والستر أدنى غليهم وتكون الشمس من ورائه وكذلك قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً {93} الآية فهؤلاء القوم كان السدان من ورائهم إذاً في قولك هذا فوق هذا وهذا دون هذا ثلاثة أسماء اسم مضاف إليه وظرف مضاف إلى هذا الاسم واسم أول متصل بالظرف ومتعلق به ويقال هذا هو مضاف إليه إضافة معنوية كما يقال حروف الجر تضيف معاني الأسماء إلى الأفعال فإذا قيل وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً فالقوم هم المتعلقون

بالمكان الذي هو دون السدين والسدان هما المضاف إليهما فكونهما دون السدين هو بالنسبة إلى ذي القرنين الذين وجدهما هناك فإنه وجدهم إليه أدنى وأقرب والسدان أبعد والقرب إليه أحق بالظهور والبيان والبعيد عنه أولى بالاحتجاب والاستتار هذه هي العادة فيما يقرب إلينا ويبعد عنا من الأجسام ولو جاء أحد من جهة السد لقال وجدت هؤلاء دون ذي القرنين فالشيء الذي بين اثنين يقول هذا هو دونك ويقول الآخر هذا دونك وكل منهما صادق كما لو كان بينهما حائط أو نهر أو بحر لقال هؤلاء لأهل تلك الناحية هذا دونكم وكذلك يقول الآخرون هذا دونكم كما أن كل أهل جانب يقولون عن الأخرى هم من وراء هذا الحائط ومن خلفه إذ الجهات أمور نسبية إضافية وكذلك قال تعالى وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ {62} [الرحمن 62] فهاتان دون تلك والوليان فوق هاتين وهاتان أدنى إلينا ولهذا صار في هذا اللفظ معنى القرب والبعد من وجه ومعنى الاحتجاب والاختفاء من وجه فقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء نفى أن يكون شيء دونه كما نفى أن يكون فوقه ولوقدر فوقه شيء لكان أكمل منه في العلو البيان إذ هذا شأن الظاهر ولو كان دونه شيء لكان أكمل منه في الدنو والاحتجاب إذ هذا شأن الباطن وهذا يوافق قوله إنكم

لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وقوله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد

ليس الرازي فى حجته أدلة عقلية ولا سمعية

وتمام هذا بالوجه الرابع وهو أن يقال إذا كان الباري فوق العالم وقلت إنه يلزم من ذلك أن يكون في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس فلِمَ قلت إن هذا ممتنع وأنت لم تذكر على امتناع ذلاك لا حجة عقلية ولا سمعية ولو قدر أن ذلك نقص فعندك ليس في الأدلة العقلية ما يحيل النقص على الله تعالى مع أنه قد علم بالعقل والشرع أن هذا ليس نقص بل هذا غاية الكمال والإحاطة كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله هذا باطل بالاتفاق بيننا وبين الخصم فيقال في الوجه الخامس مثل هذه الحجة غير مقبولة كما ذكرت ذلك في نهايتك في ترتيب الطرق الضعيفة في أصول الدين وذكرت منها الإلزام وهو الاستدلال بموافقة الخصم في صورة على وجوب موافقته على الأخرى لملازمة بينهما يذكرها

امتناع أن يكون الله تحت شيء

المستدل وقلت هذا النوع من الحجة لا يصلح لإفادة اليقين وهذا ظاهر ولا لإفحام الخصم أيضاً وبيانه هو أن للخصم أن يقول إني إنما اعترفت بالحكم في محل الوفاق لعلة غير موجودة في محل النزاع فإن صحت تلك العلة بطل القياس لظهور الفارق وإن بطلت تلك العلة منعت الحكم في محل الوفاق فهذه الحجة دائرة بين منع الحكم في الأصل وبين ظهور الفارق بينه وبين الفرع وهذا بعينه وارد فيما ذكرته هنا فإن الخصم الذي وافقك على أنه ليس في جهة التحت هو يقول إن الله فوق العرش فوق السموات والعرش فوق السموات والسموات فوق الأرض ولا يوصف بالتحت لأنه يلزم من ذلك أن لا يكون فوق العرش وهذا الخصم قد لا يعلم أو لا يسلم أنه ممكن أن يوصف بعض هذه الأجسام بأنها تكون تحت شيء بوجه من الوجوه فنفى أن يكون الله تحت شيء لمنافاته ذلك فهذا الذي أبديته يقولون إنه لا يوجب أن لا يكون تحت شيء من الأشياء بوجه ولا يخلو إما أن تسلم ذلك أو تمنعه فإن منعت ذلك وقلت بل هذا يستلزم أن يكون تحت بعض

الأشياء مع كونه فوق العرش منعك المقدمة الجدلية وقالوا لا نسلم أنه حينئذ لا يوصف بما لا ينافي علوه من التحتية الإضافية التقديرية وإن قلت إن هذا لا يوجب تحتية حقيقية ولا إضافية موجودة وإنما يوجب تحتية إضافية تقديرية فهذا لا يضر فإن الحكم المقدر معلق بشرط والحكم المعلق بشرط معدوم بعدمه كما في الحديث لو أدلى أحدكم دلوه لهبط على الله ومن المعلوم أن إدلاء شيء إلى تلك الناحية ممتنع فهبوط شيء على الله ممتنع فكون الله تحت شيء ممتنع وإنما الغرض بهذا التقدير الممتنع بيان إحاطته من جميع الجهات وهذا توكيد لكونه فوق السموات على العرش لا منافٍ لذلك وهذا الكلام مع أنه في غاية الإنصاف في المناظرة ففيه

كمال تحقيق الحقائق على ما هي عليه وتبيين تطابق ما علم بالفطرة العقلية الضرورية وبالحساب العقلي الهندسي وما جاءت به الرسل وكمال ما بعث الله به رسله من بيان أسمائه وصفاته وهذا هو شأن الحق أن يتيقن ويتشابه ولايختلف كما يختلف كلام هذا المؤسس وأمثاله الذي هو من عند غير الله فلذلك يكون فيه اختلاف كثير ومما يوضح ذلك أن المنازع له قد علم علمًا يقيناً بالشرع والعقل أن الله فوق العرش فكل قول نافى ذلك هو باطل فنحن نزهناه عن الوصف بالتحتية لأنه ينافي ذلك ولما فيه من النقص

الجواب على أن التحتية التي لبعض الناس لا تنافي علو الله

فهذا الذي ذكرته من التحتية لبعض الناس فيه جوابان أحدهما أن نمنع كون ذلك تحتية والثاني أن نقول مثل هذه التحتية ليس تمتنع والجواب المركب من الجوابين أن يقال لا يخلو إما أن تكون هذه تحتية حقيقة تنافي علوه وتوجب النقص أو لا تكون فإن لم يكن ذلك بطل ما ذكرته هنا وإن كان كذلك فنحن لا نسلم أنه يمتنع أن يوصف بمثل هذه التحتية وهذا منع على تقدير إما أن تأخذ منا مسلماً أنه لا يوصف بالتحتية بحال وتحتج بذلك على أنه لا يوصف بالعلو أيضاً فهذا باطل يظهر بالوجه السادس وهو أن يقال إنك استدللت بموافقة الخصم لك على أنه لا يوصف بالتحتية على أنه لا يوصف بالفوقية فذكرت أن وصفه بالفوقية أو بغيرها يستلزم أن يكون موصوفاً بالتحتية فإن جميع ما يوصف بالفوقية من الموجودات كالسموات والكواكب وغيرها يجب أن يوصف بهذه التحتية التي ذكرتها لما ذكرته من الحجة ثم قلت والتحتية متفق على انتفائها فيجب نفي ملزومها وهو الوصف بالفوقية فيقال لك إذا كان كل ما وصف بالفوقية فلابد من وصفه بهذا المعنى كان هذا لازماً لكل ما هو فوق وعالٍ ولم يكن ذلك

محذوراً فنحن نلتزم هذا المعنى الذي هو لازم لكل ما يوصف بالفوق وهذا خير من أنْ لا يوصف لا بفوقية ولا غيرها فإن ذلك يستلزم عدمه لأن ما لا يكون فوق شيء أصلاً ولا في شيء من جهاته الست ولا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه لا يكون إلا معدوماً فثبوت هذا المعنى الذي ذكرته عن سلم أن فيه تحتية تجامع الفوقية الحقيقية خير من سلب الفوقية وسائر المعاني السلبية المستلزمة لعدمه فإنك نزهته مما ادعيت أنه تحتية لتنفي بذلك ما يستحقه من الفوقية وذلك يستلزم عدمه بالكلية فما في قولك من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه أعظم مما ادعيته في قول مخالفك وإذا قلت له هذه حجة توجب أن مذهبه يستلزم وصفه بالتحتية وهو متفق على نفيها بيننا قال لك ولي أنا حجج أعظم من هذه توجب أن مذهبك يستلزم وصفه بالعدمية التي هي أعظم من التحتية وهي منتفية بالضرورة والاتفاق قال تعالى وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً {33} [الفرقان 33] فمخالفو الرسل ومنهم مخالفو ما جاء به الكتاب والسنة لا يأتون بقياس يردون به بعض ما جاءت به الرسل فيكون

قياساً أقاموا به باطلاً إلا جاء الله فيما بعث به الرسل بالحق وبقياس أحسن تفسيراً وكشفاً وإيضاحاً للحق كما أن الحجج الفطرية الضرورية التي تبين أن مذهب المؤسس يستلزم أن يكون الله معدوماً هي مع أنها حق فهي أحسن بياناً وإيضاحاً وتفسيراً للمطلوب من قياسه هذا الذي بين به أن وصفه بالعلو والفوقية يستلزم وصفه بالسفول والتحتية وكذلك قول من يقول هذا يوجب أن يكون فلكاً من الأفلاك فيقال لهم أنتم قد جعلتم لكل فلك عقلاً على حدة والأفلاك بعضها فوق بعض وقلتم إن لكل فلك عقلاً ونفساً حتى ينتهي الأمر إلى العقل الفعال الذي لهذا الفلك

القريب منا ومع هذا فلم تجعلوا هذه العقول والنفوس المختصة بفلك فلك من جنس الأفلاك بل زعمتم أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت مع جعلهم لها درجة بعد درجة فكيف ينكرون أن يكون خالق الجميع فوق الجميع ومحيطاً به من جهته المحيطة جميعها ليس هو من جنسها حتى يقال فيه ما يقال في فلك فلك وإن كان بعض متأخري أهل الحديث قد جعله بمنزلة ذلك فهذا خطأ

لأن الله ليس كمثله شيء والمخلوقات كلها كما قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدهم فهي في

أحاديث النزول إلى السماء الدنيا آخر الليل من أدلة العلو

قبضته أقل من أن تكون نسبتها إليه نسبة الفلك إلى ما فيه الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فلما غابت الشمس قال يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه الشمس قال قلت الله ورسوله أعلم قال إنها تذهب تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنها تسجد كل ليلة تحت العرش فقد علم اختلاف حالها بالليل والنهار مع كون سيرها في فلكها من جنس واحد وأن كونها تحت العرش لا يختلف في نفسه وإنما ذلك اختلاف بالنسبة والإضافة علم أن تنوع النسب والإضافات لا يقدح فيما هو ثابت في نفسه لا مختلف ومن هنا يظهر الجواب عما ذكره ابن حزم وغيره في حديث النزول حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا

حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر فقالوا قد ثبت أن الليل يختلف بالنسبة إلى الناس فيكون أوله ونصفه وثلثه بالمشرق قبل أوله ونصفه وثلثه بالمغرب قالوا فلو كان النزول هو النزول المعروف للزم أن ينزل في جميع أجزاء الليل إذ لا يزال في الأرض ليل قالوا أو لا يزال نازلا وصاعداً وهو جمع بين الضدين وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله ما يتخيلونه من نزول أحدهم وهذا عين التمثيل ثم إنهم بعد ذلك جعلوه كالواحد العاجز منهم الذي لا يمكنه أن يجمع من الأفعال ما يعجز غيره عن جمعه وقد جاءت الأحاديث بأنه يحاسب خلقه يوم القيامة

كل منهم يراه مخلياً به يتجلى ويناجيه لا يرى أنه متخلياً لغيره ولا مخاطباً لغيره وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدي فكل من الناس يناجيه والله تعالى يقول لكل منهم ذلك ولا يشغله شأن عن شأن وذلك كما قيل لابن عباس كيف يحاسب الله تعالى الخلق في ساعة واحدة فقال كما يرزقهم

من الأدلة العقلية على نزول الرب تعالى إلى السماء الدنيا

في ساعة واحدة ومن مثل مفعولاته التي خلقها بمفعولات غيره فقد وقع تمثّل المجوس القدرية فكيف بمن مثل أفعاله بنفسه أو صفاته بفعل غيره وصفته يقال لهؤلاء أنتم تعلمون أن الشمس جسم واحد وهي متحركة حركة واحدة متناسبة لا تختلف ثم إنها بهذه الحركة الواحدة تكون طالعة على قوم وغاربة عن آخرين وقريبة من قوم وبعيدة عن آخرين فيكون عند قوم عنها ليل وعند قوم نهار وعند قوم شتاء وعند قوم صيف وعند قوم حر وعمد قوم برد فإذا كانت حركة واحدة يكون عنها ليل ونهار في وقت واحد لطائفتين وشتاء وصيف في وقت واحد لطائفتين فكيف

يمتنع على خالق كل شيء الواحد القهار أن يكون نزوله إلى عباده ونداؤه إياهم في ثلث ليلهم وإن كان مختلفاً بالنسبة إليهم وهو سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ولا يحتاج أن ينزل على هؤلاء ثم ينزل على هؤلاء بل في الوقت الواحد الذي يكون ثلثاً عند هؤلاء وفجراً عند هؤلاء يكون نزوله إلى سماء هؤلاء الدنيا وصعوده عن سماء هؤلاء الدنيا فسبحان الله الواحد القهار سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] ويقال لهؤلاء كما قيل للرازي وأمثاله هل حكم الحس والخيال والعقل الذي به تعلم الجسمانيات مقبول في الربوبية

أو مردود فإن كان مقبولاً بطل قوله كله حيث أثبت حياً عالماً قادراً لا يتحرك ولا يسكن ولا يقرب ولا يبعد ولا يفعل بنفسه فعلاً وزعمت مع ذلك أنه غير عاجز ولا مقيد ولا ممنوع وإن كان مردوداً بطل ما ضربته من الأمثال في رد حقيقة ما أخبر به عنه الصادق المصدوق الذي هو أعلم به منك ومن أمثالك

فصل: البرهان السادس للرازي في نفي الجهة والحيز

فصل قال الرازي البرهان السادس لو كان تعالى مختصاً بشيء من الأحياز والجهات لكان مساوياً للمتحيزات وهذا محال فذلك محال بيان الملازمة أنه تعالى لو كان مختصاً بحيز لكان معنى كونه شاغلاً لذلك الحيز كونه بحيث يمنع غيره أن يكون بحيث هو ولو كان كذلك لكان متحيزاً وقد بينا في الفصل المتقدم أن المتحيزات بأسرها متماثلة في تمام الماهية

فثبت أنه تعالى لو كان متحيزاً لكان مثلا لسائر المتحيزات وإنما قلنا إن ذلك محال لأن المثلين يجب تساويهما في جميع اللوازم فلزم إما حدوث الكل وإما قدم الكل وذلك محال فإن قيل حصول الشيء في الحيز وكونه مانعاً لغيره أن يحصل بحيث هو حكم من أحكام الذات ولا يلزم من الاستواء في الأحكام واللوازم الاستواء في الماهية والجواب عنه من وجهين الأول أن المتحيز حصل له أحكام ثلاثة أحدها أنه حاصل في الحيز شاغل له

الرد على الرازي في برهانه السادس من مقامين

والثاني كونه مانعاً لغيره بأن يحصل بحيث هو والثالث كونه بحال لو ضم إليه أمثاله حصل حجم كبير ومقدار عظيم ولاشك أن كلما يحصل في الحيز فقد حصل له هذه الأمور الثلاثة إلا أن الذات الموصوفة بهذه الأحكام الثلاثة لابد وأن يكون لها في نفسها الحجمية والمقدار وهذا المعنى معقول مشترك بين كل الأحجام ثم إنا قد دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمتنع أن يكون صفة لشيء آخر بل لابد وأن يكون ذاتياً وإذا كان كذلك فالمتحيزات في ذواتها متماثلة والاختلاف إنما وقع في الصفات وحينئذ يحصل التقريب المذكور والوجه الثاني أن السؤال الذي ذكرتم إن صح فحينئذ لا يمكنكم القطع بتماثل الجواهر لاحتمال أن يقال الجواهر

وإن اشتركتم في الحصول في الحيز إلا أن هذا اشتراك في حكم من الأحكام والاشتراك في الحكم لا يقتضي الاشتراك في الماهية وإذا لم يثبت كون الجواهر متماثلة فحينئذ لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وحينئذ لا يطرد دليل حدوث الأجسام في تلك الأشياء وعلى هذا التقدير لا يمكنكم القطع بحدوث كل الأجسام فيقال هذه الحجة قد تقدم الكلام على موادها غير مرة والكلام عليها من المقامين المتقدمين أحدهما قول من يقول إنه فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسم ولا هو متحيز كما ذكرنا أن هذا قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفقهاء ومن تبعهم من أهل الحديث والصوفية وغيرهم وهذا قول

ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وغيرهم فعلى هذا

لا يلزم من نفي كونه متحيزاً نفي كونه على العرش وقد تقدم ما في ذلك من دعوى الضرورة من الجانبين المقام الثاني من لا ينفي ذلك بل يسلم إثباته أو لا يتكلم فيه بنفي ولا إثبات والكلام في هذا المقام من وجوه أحدها لا نسلم أنه لوكان مختصّاً بشيء من الأحياز والجهات لكان مساوياً للمتحيزات وما ذكره من الحجة مبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم إبطال ذلك بما لا حاجة إلى إعادته وأن القول بتماثلهما من أضعف الأقوال بل من أعظمها مخالفة للحس والعقل ولما عليه جماهير العقلاء الوجه الثاني قوله لو كان مختصّاً بحيز لكان معنى كونه شاغلاً للحيز كونه بحيث يمنع غيره عن أن يكون بحيث هو

يقال قد تقدم أن الحيز قد يراد به ما يحوز الشيء وهي نهاياته وحدوده الداخلة فيه وقد يراد به الشيء الذي يكون منفصلاً عنه وهو محيط به وكلاهما أمر وجودي وليس كونه مختصّاً بالحيز بهذا المعنى أن يكون شاغلاً لحيز بل الحيز هنا إما بعضه وإما ما يلاقيه من خارج وليس في شيء من هذين كونه شاغلاً للحيز وقد يراد بالحيز ما هو تقدير المكان وهذا هو الحيز عند كثير من أهل الكلام الذين يفرقون بين الحيز والمكان والحيز على هذا أمر عدمي كما تقدم تقرير ذلك وقوله إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء وصرف وقوله قبل خلق

العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وبينا ذلك ويكفي أن يقال هنا لا نسلم أن الحيز أمر موجود وإذا لم يكن هناك موجود فقوله شاغل لذلك الحيز ليس فيه معنى زائد على كونه موجوداً بنفسه بحيث يشار إليه وقوله لو كان مختصّاً بحيز لكان معنى كونه شاغلاً لذلك الحيز كونه بحيث يمنع غيره لا يستقيم حتى يبين أن الاختصاص بالحيز كونه هو الشغل لذلك الحيز وهو لم يفعل ذلك فإذا قيل الاختصاص بالحيز هو الاختصاص بما يحوزه من الجوانب لم يكن معناه ذلك وإذا قيل هو الاختصاص بتقدير المكان بالمتحيز فالاختصاص بالحيز بهذا المعنى يوجب كونه متحيزاً فلا حاجة إلى ما ذكره من الدليل على كونه متحيزاً وأما كونه منع غيره أن يكون بحيث هو فهذا مبني على تداخل الأجسام وليس هذا داخلاً في حقيقة المتحيز فإن المتحيز يعلم أنه متحيز قبل العلم بكونه بحيث يمنع غيره أن يكون بحيث هو الوجه الثالث قوله الذات الموصوفة بهذه الأحكام الثلاثة لا بد وأن يكون لها في نفسها الحجمية والمقدار

وهذا المعنى معقول مشترك بين كل الأحكام ثم إنا دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمنع أن يكون صفة لشيء آخر بل لابد وأن يكون هو الذات يقال هذا هو الذي أحلت عليه الاحتجاج على تماثل المتحيزات فإيرادك لذلك السؤال ثم كونك تذكر في الجواب من ما قد أحلت عليه تكرير محض بلا فائدة فالواجب إما ذكر الحجة الدالة على التماثل إما ابتداء وإما جواباً وأما ترك هذا السؤال للجواب فإنه لم يحصل به التقريب ثم يقال في الوجه الرابع قد قدمنا أن هذا المشترك وهو

المقدار صفة المقدر قائم به لا أنه نفس المقدار وحقيقته قال تعالى وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ {8} [الرعد 8] وقال قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً {3} [الطلاق 3] فجعل المقدار القدر للأشياء ولم يجعل ذلك أعيان الأشياء وذواتها كما قال تعالى وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21} [الحجر 21] وبينا أن كل واحد من المشترك والمميز يجوز أن يكونا سواء بالنسبة إلى الذات الموصوفة بهما فليس جعل أحدهما ذاتاً والآخر صفة بأولى من العكس وبينا أنه وإن قيل إنه الذات فليس هو تمام الحقيقة بل الحقيقة مؤلفة مما به الاشتراك وما به الامتياز فالمتحيز وإن كان جنساً كما قيل في الجوهر بالجنس لا يجب أن يكون متماثل الأنواع فإن التماثل يحتاج إلى الاشتراك في جميع الصفات الذاتية وهو قد سلم أن المتحيزات مختلفة في الصفات فيجوز أن يكون كل جسم وإن كان التقدير ذاته

فله صفات ذاتية مختصة به كما يقول من يقول من المتكلمين المنطقيين وغيرهم إن الجوهر جنس وتحته أنواع إضافية وتحت كل نوع أنواع إلى النوع الشامل الخاص الذي تتفق أفراده في تمام الماهية الحقيقية وقد تقدم بسط هذا فلا نعيده إذا

لم يذكر هو الحجة على ذلك بل أحال على ما تقدم الوجه الخامس قوله إن صح هذا السؤال لم يمكن القطع بتماثل الجواهر لاحتمال أن يقال الجواهر وإن اشتركت في الحصول في الحيز إلا أن هذا اشتراك في حكم من الأحكام والاشتراك في الحكم لا يقتضي الاشتراك في الماهية يقال لك هذا أولاً مبني على ثبوت الجوهر الفرد وهذا فيه من النزاع المشهور ما قد عرف وأنت قد اعترفت بأنك مع الأذكياء

الدليل الظني لا يقرر به قاعدة وأصل من أصول الدين

المتوقفين عن نفيه وإثباته وإذا لم يعلم وجود جوهر منفرد لم يصح هذا الكلام ثم وإن كان الجوهر الفرد موجوداً فلا ريب أنه ليس مما يحس به حتى يعلم بالحس أن الجوهر مماثل له أو غير مماثل وحينئذ فلا يمكن العلم بكون الجواهر متماثلة بل يقال هي غير متماثلة كما قيل في الأجسام وقد قدمنا تنازع الناس هل الجواهر جنس أو جنسان أو ثلاثة أو خمسة أو أكثر من ذلك مع أن الذين يقولون إنها جنس واحد لا يقولون هي متماثلة كما أن الحيوان عندهم جنس وليس متماثلاً قوله فحينئذ لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب فلا يطرد دليل حدوث الأجسام في تلك الأشياء يقال لا ريب أن المسلك الذي سلكته في حدوث العالم بنيته على هذا الأصل ولكن تأمل ما يذكره من الأدلة في هذه المسألة ونحوها تبين له أن الذي يذكره من

جانب المنازعين أقوى من الذي يذكره من جانب المسلمين وعلم بالاضطرار أن اعتقاد حدوث العالم على هذا الدليل ونحوه في غاية الفساد وهذا من أخبث الكلام الذي كان السلف يذمونه ويذمون أصحابه بل مثل هذه الحجج لا تصلح للمسائل الظنية فكيف تصلح لأصول الدين وقواعد الإيمان وأنت تعترف بهذا في مواضع لكن إنما تحتج هنا بذلك تهويلاً على من لا يعرف القضية وتوهم الناس أن هذا يقدح في قاعدة من قواعد الدين وليس الأمر كذلك وإنما تظهر له فساد ما سمعته أنت وأصحابك أدلة الدين وأصولاً له وأنت دائماً تقدح فيها فإن كانت هذه الأدلة هي أصول دين المسلمين فأنت من أعظم الناس هدماً لها في مواضع وإلا فلا يضر القدح فيها

ثم يقال كون الجواهر متماثلة أمر غير معلوم قطعاً فإن كان دليل الحدوث مبنيّاً على تماثلها فهو مبني على مقدمة فاسدة أو غير معلومة الوجه السادس قوله لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب يقال له الأحياز التي هي تقدير المكان ليست أموراً وجودية وإذا لم تكن أموراً وجودية لم يجز أن يختص بعضها بمعنى يقتضي اختصاص جوهر به وحينئذ فالعلم بكون الجواهر لا يجب اختصاصها بأحياز معينة لا يحتاج أن يبني على تماثلها بل يعلم ذلك بدون العلم بتماثلها كما أن كثيرًا من أهل الكلام الذين أثبتوا جواز الحركة والسكون والاجتماع والافتراق على الجواهر من غير بناء على تماثلها مع أن هذه الجواهر المشهودة في السموات والأرض يشهد انتقالها على أحيازها وهذه كافية في إثبات العلم بالصانع لمن سلك هذه الطريق وقد تسلك هنا طرق أخرى ليس هذا موضعها الوجه السابع قوله وحينئذ لا يطرد دليل حدوث

الأجسام في تلك الأشياء يقال له هب أن دليلك لم يطرد لكن من أين قلت إن سائر أدلة الناس تحتاج إلى ذلك ثم غاية ما في هذا أن يكون بعض الأجسام غير معلوم الحدوث بهذا الدليل فإن كان هؤلاء ممن لا يقول بأن الله جسم فيمكنه العلم بحدوث سائر الأجسام بأدلة أخرى ولو بالسمع وإن كانوا ممن يقولون بأنه جسم فلا ريب أن الأجسام عندهم ليست كلها محدثة كما أن الذوات ليست كلها محدثة والموصوفات ليست كلها محدثة لاسيما وأنت تقول عن كل من قال إنه متحيز وأنه في جهة لزمه القول بأنه جسم منقسم بل تقول لكل من قال إنه فوق العرش لزمه أن يقول بأنه جسم فإذا كان المنازعون لك القائلون بأنه على العرش يلزمهم كلهم القول بأنه جسم فكيف تحتج عليهم بأن هذا يستلزم أن لا يقطع بحدوث كل الأجسام وهذا عندك حقيقة المذهب فهل تحتج على إبطال المذهب بنفس حكاية المذهب مع ظهور القول بالنزاع فيه

فصل: البرهان السابع للرازي في نفي الجهة والحيز

فصل قال الرازي البرهان السابع أنه تعالى لو كان مختصّاً بالجهة والحيز لكان عظيماً لأنه ليس في العقلاء من يقول إنه مختص بجهة ومع ذلك فإنه في الحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ بل كل من قال إنه مختص بالجهة والحيز قال إنه عظيم في الذات وإذا كان كذلك فنقول الجانب الذي منه يحاذي يمين العرش إما أن يكون هو الجانب الذي منه يحاذي يسار العرش أو غيره والأول باطل لأنه إذا عقل ذلك فلِمَ لا يعقل أن يقال إن يمين العرش عين يسار العرش حتى يقال العرش على عظمته مثل الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ وذلك لا يقوله عاقل والثاني باطل لأن على هذا التقدير تكون ذات الله مركبة من الأجزاء ثم تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية والأول محال لأن على هذا التقدير تكون بعض تلك الأجزاء

المتماثلة متباعدة وبعضها متلاقية والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر فعلى هذا يلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا متباعدين وعلى المتباعدين أن يصيرا متلاقيين وذلك يقتضي جواز الاجتماع والافتراق على الله وهو محال والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرأ عن التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات ولولا حصول الوحدات لما عقل اجتماعهما إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئاً ويساره شيئاً آخر لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً وقد فرضناه

الرد على الرازي في حجته أن نفي كونه جسما لا يقتضي نفي كونه على العرش

غير مركب وهذا خلف وإذا ثبت أن يمينه مثل يساره وثبت أن المثلين لابد وأن يشتركا في جميع اللوازم لزم القطع بأن ممسوس يمينه يصح أن يصير ممسوس يساره وبالعكس ومتى صح ذلك التفرق والانحلال عن تلك الأجزاء فحينئذ يعود الأمر إلى جواز الاجتماع والافتراق على ذات الله وهو محال فثبت أن القول بكونه في جهة من الجهات يفضي إلى هذه المحالات فيكون القول به محالاً فيقال هذه الحجة هي حجة على نفي كونه جسماً فكان ذكره في الفصل الأول على نفي كونه جسماً أجود من ذكرها هنا ولكن ذكرها هنا لتكون حجة على من قال إنه على العرش وذكر فيها قول من يقول إنه عظيم وليس بجسم فإن النزاع في هذا مشهور لو صرح به لاحتاج إلى كلام آخر وإذا ثبت أنه ليس على العرش أمكن أن ينفي عنه الجسم فيقول لو كان جسمًا لجاز أن يكون على العرش مع أن هذا فيه نزاع بين مثبتة الجسم

كما تقدم ذكره فإن النزاع في كونه على العرش بين مثبتة الجسم وبين نفاته أيضاً فالقائلون بأنه جسم منهم من يقول هو فوق العرش ومنهم من يقول هو في كل مكان بذاته أو أنه ذاهب في الجهات إلى غير غاية وكذلك القائلون بأنه ليس بجسم منهم من يقول إنه على العرش ومنهم من يقول في كل مكان متناهٍ أو غير متناهٍ ومنهم من يقول غير داخل في العالم ولا خارجه فالأقوال أربعة في اختصاصه بما فوق العرش أنه فوق العرش وهو جسم وفوق العرش وليس بجسم وإن كان الخواص من أهل السنة لا يثبتون الجسم ولا ينفونه وأنه ليس فوق العرش وليس

بجسم وأنه ليس فوق العرش وهو جسم وإذا ظهر ما في هذه الحجة فالكلام فيها في المقامين المتقدمين أحدهما قول من يقول إنه فوق العرش وهو عظيم وليس بجسم أو يقول هوجسم وليس بمنقسم ولا مركب وقد تقدم ذكر ذلك وأما المقام الثاني فالكلام فيه من وجوه أحدها قولك والجانب الذي يحاذي يمين العرش إما أن يكون هو الجانب الذي يحاذي يساره أو غيره يقال لا نسلم الحصر بلا لا هو هو ولا هو غيره أو يقال لا نقول إنه هو ولا نقول إنه غيره فإن كثيرًا من متكلمي الصفاتية أو أكثرهم

من الكلابية والأشعرية وطوائف من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية منهم من يقول أقول هي هو ولا أقول هي غيره ولا أقول لا هي هو ولا هي غيره وتوجيه الكلام أنه إما أن يريد بالغيرين ما جاز وجود أحدهما دون الآخر أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بمكان أو زمان أو وجود أو يريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فإن أراد بالغيرين الأول لم يسلم أن هذا الجانب هو

ذاك الجانب ولا هو غيره إلا إذا بيَّن جواز أحدهما دون الآخر وهو يحتج بهذا الامتياز على جواز التفرق فيكون هذا دورًا باطلاً لأنه لا يثبت أنهما غيران بهذا التفسير حتى يثبت جواز انفصالهما ولا يثبت جواز انفصالهما حتى يثبت أنهما غيران وذلك دور وإن قيل في جوانب الأجسام المخلوقة إن هذا غير هذا فذلك لجواز وجود أحدهما دون الآخر والله سبحانه وتعالى صمد لا يجوز عليه التفرق والانفصال كما تقدم بيانه وأن هذا الاسم يقتضي الاجتماع والقوة ويمنع التفرق والانفصال وإذا كانت الصمدية واجبة له كان الاجتماع واجباً له والافتراق ممتنعاً على ذاته وقد تقدم في ذلك كلام موجز ومن قال الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود فإنه قد يقول إن الصفات مثل العلم والقدرة والحياة ليست كل صفة هي الأخرى ولا هي غيرها لأن محل الصفات واحد وأما الحدود فقد يقولون إن هذا الجانب فارق ذلك

الجانب في المكان وإن كان لا يفارقه في الزمان والوجود فقد يقال إن هذا ليس بافتراق في المكان وهذه منازعات لفظية اصطلاحية وأيضاً فإن المغايرة بين الصفة والموصوف وبين البعض والكل أبعد من المغايرة بين صفة وصفة وبعض وبعض ولهذا يقولون إن الواحد من العشرة ليس هو العشرة ولا غيرها وأن يد الإنسان ليست هي الإنسان ولا غيره وما يقولون إن الواحد من العشرة ليس هو الواحد الآخر ولا غيره وأن يد الإنسان ليست هي رجله لا غيرها بل هي غيرها لجواز وجود أحدهما دون الآخر بخلاف وجود الجملة دون أجزائها فإنه ممتنع وهذا فيما يجوز عليه التفرق من الأجسام المخلوقة وأما الخالق سبحانه فلا يجوز عليه التفرق فلا يقولون إن هذا الجانب منه غير هذا الجانب فيمنعون المقدمة الأولى وإن قال أريد بالغير ما هو أعم من هذا وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر أو ما أمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر كما قال من قال من السلف لمن سأله عن قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] ألست ترى السماء قال بلى قال

فكلها ترى قال لا قال فالله أعظم فيقال له وإذا كان يمين الرب غير يساره بهذا التفسير فقولك تكون ذات الله مركبة من الأجزاء أتعني به ورود المتركب عليها بمعنى أن مركباً ركبها كما قال فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {8} [الانفطار 8] أو أنها كانت متفرقة فتركبت أم تعني أن اليمين متميزة عن اليسار وهو التركيب في الاصطلاح الخاص كما تقدم بيانه

فإن أراد الأول لم يلزم ذلك وهو ظاهر فإن الأجسام المخلوقة أكثرها ليس بمركب بهذا الاعتبار فكيف يجب أن يقال إن الخالق مركب بهذا الاعتبار وهذا مما لا نزاع فيه وهو يسلم أنه لا يلزم من التصريح بأنه جسم هذا التركيب إذ عدم لزومه ظاهر وأما إن أراد بالتركيب الامتياز مثل امتياز اليمين عن شماله قيل له هذا التركيب لا نسلم أنه يستلزم الأجزاء فإن هذا مبني على إثبات الجزء الذي لا ينقسم والنزاع فيه مشهور وقد قررت أن الأذكياء توقفوا في ذلك وإذا لم يثبت أن الأجسام المخلوقة فيها أجزاء بالفعل امتنع أن يجب ذلك في الخالق

وأيضًا فالقائلون بثبوت الأجزاء يعلمون أن الجسم البسيط لم يكن مركباً من الأجزاء بمعنى أنها كونت ثم ركب منها فيكون قوله مركباً من الأجزاء امتياز شيء من شيء وغايته أن يقال امتياز بعض عن بعض كما ورد عن طائفة من السلف التكلم بلفظ البعض فقوله بعد ذلك إما أن تكون متماثلة في الماهية أو مختلفة والأول محال لأنه على هذا التقدير يكون بعض تلك الأجزاء المتماثلة متباعدة وبعضها متلاقية والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر فيلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا متباعدين وعلى المتباعدين أن يصيرا متلاقيين يقال التماثل في الماهية لا يوجب أن يكون أحدهما عين الآخر ولا أن يساويه في الأحكام اللازمة للتعيين وما يتبع ذلك وبيان ذلك أنه إن قيل المتماثلان يجوز على عين كل منهما

ما يجوز على عين الآخر فليس في العالم شيئان متماثلان بهذا الاعتبار فإن عامة ما يقدر من المتماثلين مثل الحبتين من الحنطة والهبائين ونحو ذلك قد علم أن عين هذا ليست عين هذا وأن الحيز الذي لهذه العين ليس عين الحيز الذي للعين الأخرى ولا الأعراض التي قامت بها هي عين تلك الأعراض وأن ما امتازت به أحدهما عن الأخرى من عينها وصفتها وحيزها لا يجوز أن يكون للأخرى حيز يكون لتلك فإن هذا يستلزم أن يصير عين هذه عين تلك وحيزها حيزها وصفتها صفتها بعينها وذلك يرفع تعددهما ويوجب اتحادهما

ومن المعلوم أن التماثل يوجب التعدد فإن المتماثلين ليسا شيئاً واحداً بل هما عدد فإذا كان التماثل يوجب التعدد فلو اقتضى اتحاد عينهما لكان التماثل يوجب الاتحاد ويوجب التعدد وذلك يقتضي الجمع بين النقيضين فإن العدد إثبات ما زاد على الواحد والاتحاد نفي ما زاد على الواحد والجمع بين النفي والإثبات جمع بين النقيضين فعلم أن إثبات كون عين هذا المثل هو عين ذلك المثل أو كونه في حيزه وصفته ينافي التماثل وهذا ظاهر وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجسم الواحد الذي يقال له إن له أبعاضاً وأجزاءً كالجوانب والوسط إذا فرض في غاية البساطة التي توجب تماثل أبعاضه وأجزائه كالنار البسيطة والهواء البسيط والفلك البسيط وما هو أعظم بساطة من ذلك لابد أن يتميز

جوانبه عن وسطه لابد أن يتميز جانب عن جانب ولو بالحيز والصفة وأنه مع مماثلته للجانب الآخر لا يستلزم أن يكون هذا في حيز ذاك وذاك في حيز هذا وعين صفة هذا عين صفة الآخر كما لا يستلزم أن يكون عينه عين الآخر إذ لابد من امتياز أحدهما عن الآخر بعينه وصفته وحيزه وهذا يخصه دون الآخر والامتياز الذي يوجبه التعدد لا يرفعه التماثل فلو جوزنا أن يصير لكل منهما للآخر من أعيان الصفات والأحياز لزم زوال التعدد

وإذا كان لا بد من هذا الامتياز مع التماثل فما هو لازم للشيئين المتغايرين مع تماثلهما ومع اختلافهما من امتياز أحدهما على الآخر بعين ذاته وعين صفاته التي منها التحيز لا يجب أن يشاركه الآخر فيها لأن ذاك يرفع المغايرة وإذا كان كذلك لم يجب في كل جسم مخلوق وإن كان بسيطاً أن يكون طرفه في موضع وسطه ووسطه في موضع طرفه وما لهذا من الصفة المعينة والحيز المعين لهذا وما لهذا لهذا لاسيما إذا لم تكن تلك الأبعاض المتماثلة منفصلة ولا يتميز بعضها عن بعض بالمباينة وإنما هوشيء واحد متصل وأيضا فإذا كانت أبعاضه متماثلة فجواز تفرق المتباعدين وتباعد المتفرقين مشروط بجواز التفرق عليه وإلا فإذا قدر جسم بسيط لا يجوز تفريقه وأبعاضه متماثلة لم يجز أن يقال في هذا إنه يجوز على المتباعدين أن يصيرا متلاقيين وعلى المتلاقيين أن يصيرا متباعدين فإن جواز ذلك مشروط بجواز الافتراق وأيضاً فإذا كانا متماثلين ومن حقيقة أحدهما امتناع المفارقة

عليه لزم أن يكون من حقيقة الآخر امتناع المفارقة عليه فيكون تماثلهما مانعاً من جواز تباعد المتلاقيين وتلاقي المتباعدين فإن أحدهما إذا فارق ملاقيه ثبت جواز المفارقة عليه وذلك يمنع أن يكون مثلاً لما لا يجوز المفارقة عليه وأيضا فالمتماثلان في الحقيقة والصفة إذا كانت مقاديرها متفاوتة لم يجب أن يساوي أحدهما الآخر فيما هو من حكم المقدار كالدينار الصغير مع الدينار الكبير ومما يوضح ذلك أن هذا الافتراق يغير حقيقة الشيء كما يغير ويبدل صفته فإن النار والهواء إذا تبدلت صفة النارية والهوائية فيه خرج عن أن يكون ناراً وهواءً أو أن تكون الأجزاء النارية ناراً وهواءً وكذلك متى تفرق المجتمع الذي حقيقته باجتماعه متى تفرق وتمزق خرج عن حقيقته لجميع المركبات مثل بدن الإنسان إذا قطع قطعاً صغاراً جداً بل كثير من الأجسام تتبدل حقيقته بالتفريق كما تتبدل بالتحويل وإن كان في نفسه بسيطاً وفي الجملة فأصل هذا الكلام أنه فرض تماثلاً وقال فيه يلزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فيقال له التماثل الذي سلمناه لم يدخل فيه ما يستلزم جواز التفريق أو جواز حلول كل بعض محل الآخر ولا يدخل هذا في مسمى

التماثل المفروض وإن قلت بل هو داخل في مسمى التماثل الذي فرضته كان النزاع لفظياً وعاد الكلام إلى القسم الثاني فيقال لك لا يكون مماثله بهذا الاعتبار الذي ذكرته كما قد يقال ابتداءً لا يجب أن تكون الأبعاض متماثلة بل يجوز أن تكون غير متماثلة فيقول هؤلاء في القدر ما قاله الباقون في الوصف ويقولون أبعاض المقدار كآحاد الصفات وإذا كان حاملاً لصفات ليست متماثلة كان أيضاً جامعاً لأبعاض ليست متماثلة فما الدليل على بطلان ذلك ونفي ذلك مما ذكره الأئمة من قول الجهمية حيث قالوا عنهم إنهم قالوا لا يكون شيئين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم مع ما في الكتاب والسنة وفي اتفاق سلف الأمة وأئمتها من وصفه باليدين والوجه بل وغير ذلك من الصفات التي تقتضي أن لها حقائق لا تسد هذه مسد هذه ولا يسد العلم مسد القدرة فكذلك الوجه واليد لا يسد أحدهما مسد الآخر

قوله والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات يقال هب أنه تحلل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد مبرءاً عن هذا التركيب لكن لا يجب أن تكون تلك الأجزاء متماثلة في الصفة والحقيقة وإن كانت جواهر منفردة بل قد يقال إنها متساوية في المقدار بمعنى أنها غير قابلة الانقسام وليست مستوية في الصفة والحقيقة بل حقيقة كل جزء من تلك الأجزاء مخالف لحقيقة الآخر وهذا فيه أن الجواهر المنفردة تكون مستوية في القدر غير مستوية في الحقيقة وهذا قول كثير من الناس أو أكثرهم بل أكثر العالمين على أن الجواهر ليست متماثلة في الحقيقة بل مع تنازعهم في الجوهر هل هو جنس أو جنسان أو ثلاثة أو أكثر من ذلك فإن عامتهم متفقون على أن الجنس الواحد ليس متماثلاً بل هو متنوع إلى أنواع مختلفة فإذا كان القائلون بأنها جنس واحد

لا يقولون بتماثلها فالقائلون بأنها أجناس كثيرة مختلفة أبعد عن القول بتماثلها وقد تقدم حكاية النزاع في ذلك كما حكاه الأشعري وغيره إذا ظهر هذا فقوله بعد ذلك إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً وقد فرضناه غير مركب وهذا خلف وإذا ثبت أن يمينه مثل يساره وثبت أن المثلين لابد وأن يشتركا في جميع اللوازم لزم القطع بأن ممسوس يمينه يصح أن يصير ممسوس يساره وبالعكس ومتى صح هذا فقد صح التفرق والانحلال عن تلك الأجزاء فحينئذ يعود الأمر إلى جواز الاجتماع والافتراق على ذات الله تعالى وهو محال يقال له عن هذا جوابان هب أنك قد فرضته جزءاً بسيطاً لا تركيب فيه بحال ومثل هذا يقال له فيه إنه لابد أن يماس بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر فإن هذا يقتضي أن فيه شيئين يميناً ويساراً وهذا يوجب تركيبه وقد فرضته غير مركب فهذا جمع بين النقيضين يوضح ذلك أن مماسته بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً هي من

حجج نفاة الجوهر الفرد فإنهم احتجوا بذلك على جواز انقسام ذلك فقد تقدم ذكر ذلك في كلامك وذكرت أن هذا الكلام حجتهم وإذا كان هذا حجة على نفي الجوهر الفرد لم يصح الاستدلال به مع القول بثبوت الجوهر الفرد وهو الجزء البسيط الذي لا تركيب فيه بحال بل يقال لك من رأس قولك كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب لا يخلو إما أن تقول بثبوت الجوهر الفرد الذي لا تركيب فيه أو تقول بأنه ما من شيء من المتحيزات إلا وفيه تركيب يقبل لأجله الانقسام فإن قلت بالأول لم يصح أن تقول لابد وأن يماس بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر فإن هذا قول بانقسامه وتركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منهما مبرءاً عن التركيب بل يقال هذا أبداً فيه من التركيب ما يقبل لأجله الانقسام في الكم والكيف لكن هذا الجواب يصح إذا أراد بالأجزاء البسيطة الجوهر الفرد وأما إن أراد البسيطة عن ذلك التركيب وإن كانت مركبة من

أجزاء متشابهة فنذكر الجواب الثاني فيقال هب أن كل جزء من تلك الأجزاء يصح أن يكون ممسوس يمينه وممسوس يساره وبالعكس لكن لمَ قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء يصح أن يماس بيمينه ويساره ما يصح أن يماسه الجزء الآخر بيمينه ويساره وذلك لأن تلك الأجزاء إذا كانت مختلفة في الحقيقة مع تساويها في المقدار لم تكن مستوية في الحقيقة والصفة فلا يجب أن يكون حكم كل واحد منها حكم الآخر وإن كان حكم جانب كل واحد حكم الجانب الآخر لاسيما والذي يجب أن ينتهي إليه تحليل المركب من أجزاء مختلفة الحقائق إنما هي المبرأة عن ذلك التركيب إلى أجزاء بسيطة وإن كانت أجساماً بسيطة لا يجب أن تنتهي إلى الجوهر الفرد والأجزاء البسيطة تكون مختلفة الحقائق كما هو التقدير أنه مركب من أجزاء مختلفة الحقائق وقد تقدم أنه إذا سلم لك وجود الجوهر الفرد الذي ينتهي إليه تحليل التركيب لم يسلم لك أن الجواهر مستوية في الحقيقة وهذا أمر يشهد له الحس فإن أجزاء الماء وإن تفرقت وتصاغرت ليست في الحقيقة مثل أجزاء التراب ولا أجزاء الذهب وإن تصاغرت مثل أجزاء الفضة وإن كانت هذه الأجزاء

الصغار ليست هي الجواهر المنفردة بل تلك أصغر منها فإما أن يستدل بما شهد في المحسوسات على ما لم يعلم منها وبقياس غائبها عن الإدراك على شاهدها فهذا من أوضح القياس وأثبته وهو قياس الأجزاء المتساوية في الحقيقة بعضها على بعض في حكم تلك الحقيقة فإن تفاوتها بالصغر والكبر لا يوجب اختلاف حقيقتها وصفتها وإما أن لا يقال إن ذلك الجزء الذي لا ينقسم لا يعلم حكمه أما أن يقال إن الأمور المختلفة في الحقيقة يجب أن تكون أجزاؤها المساوية لها في الحقيقة متماثلة في الحقيقة فهذا مما يعلم ببديهة العقل بطلانه وهذا المستدل قد فرض أجزاء مختلفة في الحقيقة وقال لابد أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء صغار لا تنقسم فيقال هب أن الأمر كذلك إلا أن أجزاء الأجسام المختلفة في الحقيقة لا يقال يجب أن تكون متماثلة بل إذا قيل يجب أن تكون مختلفة لأن بعض الجسم مساوٍ لكله في الحقيقة كان هذا الكلام أصح وأولى بالقبول من أن يقال يجب أن تكون أجزاء الأجسام المختلفة متماثلة في الحقيقة ولهذا كان من قال إن الأجسام متماثلة قال إن الجواهر متماثلة ومن قال إنها مختلفة قال إن الجواهر مختلفة إما أن يقال إن الجواهر متماثلة في الحقيقة ولكن

مجرد ضم بعضها إلى بعض حتى زادت بعد الجمع منها اختلفت في الحقيقة أو يقال إنها كانت متماثلة في الحقيقة فبتفريقها اختلفت في الحقيقة الوجه الثاني أن يقال لا ريب أن مضمون هذه الحجة أنه لو كان على العرش لكان جسماً عظيماً وإذا كان جسماً وجب جواز التفرق عليه وقد تقدم أن القائلين بأنه على العرش منهم من يمنع المقدمة الأولى ومنهم من يمنع الثانية ثم يقال قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه الصمد وقد قال عامة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم إن الصمد هو الذي لا جوف له وقالوا أمثال هذه العبارات التي تدل على أن معناه أنه لا يتفرق واللغة تدل على ذلك فإن هذا اللفظ وهو لفظ الصمد يقتضي الجمع والضم كما يقال صمدت المال إذا جمعته وقد قال من قال من حذاق أهل الكلام وغيرهم إن

هذا تفسير المجسمة لأن الأجسام نوعان أجوف ومصمت كالعظام منها أجوف ومنها مصمت فالحجر ونحوه مصمت قالوا وهذا يقتضي أنه جسم مصمت لا جوف له وهذا يدل على أن صمديته تنافي جواز التفرق والانحلال عليه فلا يخلو إما أن تكون هذه الآية قد دلت على ذلك أو لم تدل عليه فإن كانت دلت على ذلك وعلى أنه مصمت لا جوف له يمتنع عليه التفرق بطل قولك إن كل جسم يصح عليه التفرق والانحلال وإن لم تكن دلت على ذلك فأنت لم تذكر دليلاً عقلياً على امتناع التفرق عليه ولا نصًّا ولا إجماعاً وإذا كان كذلك لم تكن حجتك تامة فإن هذه إحدى مقدمات الدليل فإذا لم يكن مدلولاً عليها لم يكن المذكور دليلاً وإذا لم يكن دليلاً لم يصح نفي كونه جسماً بهذا الدليل فإن قال أنا أثبت امتناع التفريق عليه بالإجماع أو موافقة الخصم قيل له الذي يوافقك على دليل وافقك على أنه مجتمع يمتنع عليه الافتراق ولم يوافقك على أنه لا يوصف باجتماع ولا افتراق وحينئذ فهو يقول أنا ما علمت امتناع الافتراق عليه إلا بوجوب اجتماعه كما أني لم أعلم امتناع

الموت عليه إلا لوجوب حياته ولم أعلم امتناع الجهل والعجز عليه إلا لوجوب علمه وقدرته ولم أعلم امتناع العدم عليه إلا لوجوب وجوده فإن نازعني منازع فيما أثبته وقال ليس بمجتمع أو ليس بعالم أو ليس بحي ولا قادر أو ليس بموجود وطلب مني أن أوافقه على أنه لا يجوز عليه الافتراق والعدم والموت والجهل والعجز ونحو ذلك كان قد طلب مني موافقته على امتناع أحد الضدين دون ثبوت الآخر الذي هو من صفات الكمال أو الذي ليس هو من صفات النقص أو الذي ليس هو عندي من صفات النقص وكان حينئذ من جنس الملاحدة الذين يطلبون أن أوافقهم على أنه ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل مع منازعتهم لنا في أنه حي عالم قادر ومن طلب الموافقة على ثبوت الشيء بدون لازمه ليحتج بذلك على نفي اللازم لم يكن علينا أن نوافقه بل لم يكن لنا أن نوافقه فإن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم فإذا وافقناه على ثبوت الملزوم كنا في الحقيقة موافقين له على نفي الملزوم الذي قد وافقناه في الظاهر على ثبوته وإذا كانت الموافقة على ثبوت الشيء تقتضي نفيه لم تجز الموافقة عليه فإذا قال الملحد أنتم توافقون على أنه ليس بميت ولا جاهل ولا عاجز وأنا لا أوافقك على أنه حي عالم قادر وغرضه أن يستدل بنفي هذه الصفات على انتفائها وانتفاء أضدادها بأن يقول كونه حيًّا عالماً قادراً وميتاً جاهلاً عاجزاً يقتضي أنه

مناظرة أبي الهذيل لليهودي

موصوف بالحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز وهذه أعراض والموصوف بالأعراض يجب أن يكون ممكناً أو يكون جسماً متحيزاً وذلك يقتضي حدوثه وهو محال لم يكن علينا أن نوافقه على ثبوت هذا السلب المستلزم لثبوت كونه حياً عالماً قادراً مع منعه لذلك فإن تحقق هذا السلب بدون هذا الإثبات محال وليس علينا أن نوافقه على شيء يتوسل به إلى القول الباطل بل ليس لنا ذلك إذا كان يتوسل به إلى إبطال حق علمناه فإن هذه الموافقة مثل مصالحة الكفار على ما فيه فساد الإسلام وهذا لا يجوز وهذا كما يذكر عن أبي الهذيل العلاف أنه قال دخلت دار النظر وفيها يهودي قد ناظر قوماً من المتكلمين في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم ألستم توافقوني على أن موسى رسول الله فقالوا بلى قال وأنا أخالفكم على أن محمداً رسول الله والمتفق على نبوته خير من المختلف في نبوته أو نحو هذا

الكلام قال فقلت تعالَ ناظرني قال قد انقطع شيوخك معي فقلت ناظرني فأعاد حجته فقلت له من موسى الذي وافقتك على نبوته أموسى بن عمران الذي أنزل الله عليه التوراة التي فيها خبر محمد صلى الله عليه وسلم وموسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخذ الله عليه الميثاق ليؤمن نبه ولينصرنه وأخذ الميثاق على قومه ليؤمن نبه ولينصرنه قال أبو الهذيل أو نحو هذا الكلام أم موسى الذي قال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وذكر أن شريعته لا تنسخ أبداً أما الأول فإني أوافقك على نبوته ونبوته مستلزمة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثاني فلا أؤمن به ولا أوافقك على نبوته ومثل هذا كثير في المناظرة وقد ذكر هذا المؤسس أبو عبد الله الرازي في نهايته أنه لا يجوز الاحتجاج بهذه الإلزامات كما تقدم بيانه وهو

الاحتجاج بموافقته على مقدمة لمأخذ إن سلّمت ذلك المأخذ بطل الاحتجاج بالمقدمة وإن لم تسلم المأخذ منعت المقدمة وهكذا الأمر هنا فإن المنازع الذي يسلم لك أنه لا يجوز الافتراق والانحلال عليه إنما سلم لك ذلك لأنه صمد يجب أن يكون سيداً مجتمعاً ويمتنع أن يكون متفرقاً فإن كان هذا المأخذ صحيحاً بطل احتجاجك بذلك على امتناع كونه مجتمعاً وإن كان هذا المأخذ فاسداً لم يكن قد سلم لك امتناع الافتراق عليه فلا ينفعك هذا التسليم لا في النظر ولا في المناظرة وكان له أن يقول أنا لا أسلم لك امتناع الافتراق عليه لوجوب كونه صمداً والصمد يوجب الاجتماع وإن فرض أنه لا يقتضي الاجتماع فهو لا ينفي الافتراق أو لا ينفي الاجتماع والافتراق جميعاً فإن أحداً من الناس لايمكنه أن يدعي أن هذا الاسم يدل على نفي الاجتماع والافتراق جميعاً أو على نفي الافتراق وحده إلا بناءً على أن المجتمع يفتقر إلى أجزائه أو نحو ذلك مما تقدم الكلام عليه وأما القياس فلم يذكر حجة على امتناع الافتراق عليه فظهر أن هذا الذي ذكره ليس بحجة أصلاً وهذا يتقرر بالوجه الثالث وهو أن يقال لاريب أن الله سبحانه مقدس منزه عن جواز الافتراق والتمزق عليه سبحانه لكن إقرار الفطر بذلك ليس بأعظم من إقرارها بتنزهه عن العدم والتلاشي بل

علم القلوب بوجوب وجوده وامتناع عدمه أعظم من إقرارها بامتناع تفرقه وانحلاله وهي لما يستلزم عدمه أعظم نفياً منها لما يقال إنه يستلزم تفرقه وانحلاله وإذا كان كذلك فقد استقر في الفطر أن القول بكونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا يشار إليه ولا يمكن الإحساس به أدل على عدمه من دلالة كونه مجتمعاً على جواز التفرق عليه فإن الأول عند عامة الناس بديهي فطري وأما الثاني فلا تمكن معرفته إلا بدقيق النظر إن كان صحيحاً فإن كان كذلك فالمتناظران في هذه المسألة يقول النافي فيها للمثبت كون ما نفيته من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا كذا ولا كذا يستلزم عدمه إنما هو من حكم الوهم والخيال وأما كون وجوده فوق العرش يستلزم جواز الانحلال عليه فمعلوم بالقياس العقلي البرهاني والمثبت

يقول أما لزوم ما ذكرته للعدم فمعلوم بالفطرة الضرورية العقلية وأما لزوم ما ذكرته أنا للانحلال فإنما هو شبهات مركبة من ألفاظ مشتركة وحينئذ فإن تحاكما إلى فطر العالم السليمة قضت للمثبت على النافي لأن إقرار الفطر بما يقول المثبت معلوم وإقرارها بما يقوله النافي غير معلوم وإن تحاكما إلى المقاييس العقلية فيقال قول هذا الرازي وأمثاله المتقدم في مقدمته إن الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها ذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجاً آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات إما أن يكون هذا الكلام حقًّا وإما أن يكون باطلاً فإن كان حقًّا بطلت هذه الحجة وأمثالها مما بناه على الجوهر الفرد نقياً وإثباتاً وعلى كون الأجسام توصف

بالاجتماع والافتراق وأن الجواهر والأجسام متماثلة أو مختلفة لأن هذه الأمور كلها جسمانيات فالعقل الذي به ينظر في هذه الأمور لا يجوز أن ينظر به في الإلهيات وهذا المؤسس وأمثاله من هؤلاء المتفلسفة والمتكلمة إنما يتكلمون في التجسيم نفياً وإثباتاً بالنظر الذي نظروا به في الجسمانيات المخلوقة فيكون كلامهم كله في ذلك باطلاً ولهذا اعترف أساطين الفلاسفة أن كلامهم لا يفيد في الإلهيات العلم واليقين وإنما ينظر فيها بالأولى والأحرى والأخلق وإن كان هذا الكلام باطلاً لم يصح أن يبطل به ما استقر في الفطر استقراراً ضروريًّا من أن رب العالمين فوق العالم وأنه يمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وهذا الكلام في غاية الإنصاف فإن هؤلاء القوم يريدون أن

ذكر حجج الرازي العقلية على سبيل الإجمال

يبطلوا ما استقر في الفطر بما لا يصح إلا بما استقر في الفطر وربما هو دونه فإن كان ما استقر حقًّا لم يكن لهم دفعه وإن كان باطلاً لم يكن لهم الاحتجاج به على إبطال ما استقر في الفطر فإن هذا يكون قدحاً في الأصل بإثبات الفرع والقدح في الأصل قدح في الفرع وهذه عادة القوم المخالفين للفطرة والشرعة ولهذا كلامهم كله كما قيل حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكلٌ كاسر مكسور ومما يوضح هذا أن عامة هذه الحجج التي احتج بها على نفي كونه جسماً ونفي كونه على العرش مثل تماثل الأجسام وتماثل الجواهر ومثل كون الجسم المتناهي يقبل الزيادة والنقصان ويكون ممكناً ومثل كون الجسم مركباً إما تركيب الصفات وإما تركيب المقادير مثل كون الصفة الواحدة لاتقوم بالجسم مثل كون الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون ومثل كون تحيز الجسم أمراً وجوديًّا أو أمرًا عدمياً ومثل كون الجسم أو البعد لابد وأن يكون متناهياً أو غير متناهٍ ومثل كون علو بعض الأجسام يستلزم أن يكون تحت قوم ومثل أن الجسم يجوز عليه الافتراق والانحلال ومثلما يأتي من كون الجهة

أعلى من الشيء بل جميع ما يتكلمون به في هذا الباب من لفظ المتحيز والتحيز والجهة والجسم والجوهر والاجتماع والافتراق والحركة والسكون سواء تكلموا به في صفات الباري نفياً وإثباتاً أو تكلموا به في المخلوقات وصفاتها نفياً وإثباتاً أو في أدلة حدوثها وإمكانها أو غير ذلك كل هذه الأمور إنما هو كلام في الجسم وأحكام الجسم وما يتبع ذلك فإن كان هذا الكلام والعقل الذي يعرف به مثل هذا الكلام غير مقبول في العلم الإلهي بطل جميع ما ذكره الفلاسفة والمتكلمون جميعاً مما يتعلق بهذا وإذا بطل لم يصح أن ينفوا بمثل هذا الكلام لما علم بالفطرة ولا ما دلت عليه الشرعة وهذا من أعظم المقاصد وحينئذ فلا يصح قولهم إنه ليس بجسم ولا متحيز ولا في جهة وأنه ليس فوق العالم يشار إليه

وإن كان مثل الكلام والعقل الذي به ينظر في الأجسام وصفاته مقبولاً في العلم الإلهي بطلت مقدمته كلها وكان من أعظم العلوم في العقل أن الباري فوق العالم وأنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه بل يمتنع أن يكون شيء من الموجودات كذلك كما تقدم وهذا بيِّن ولله الحمد والمنة وأما أن يخالفوا ما فطر الله عليه عباده وما أنزل به كتبه وأرسل به رسله بمقاييس لا تدل لهم إلا بمقدمات كثيرة مركبة لابد فيها من الاستدلال بما هو في الفطرة دون ما دفعوه أو مثله مع ما فيها من الألفاظ المشتركة وغيرها فهذا لا يفعله إلا جاهل أو ظالم أو من جمع الأمرين بل هو من أعظم العالمين جهلاً وظلماً لكونه تكلم في الله وأسمائه وآياته بمثل هذا العقل الفاسد وكان من أعظم المطففين في أصول الدين فإذا كان المطففون في الأموال قد قال الله تعالى فيهم وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ {3} أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {6} [المطففين 1-6] وقد جاء في الحديث الصلاة مكيال فمن وفَّى وُفِّي له ومن طفّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين فكيف في أصول الدين بل في أعظم

أبواب أصول الدين وهو الكلام في رب العالمين وأسمائه وصفاته يكون فيه هذا التطفيف والإخسار العظيم فيبطلون ما فطر الله عباده عليه وأنزل به كتبه بمقاييسهم ويمنعون غيرهم أن يحتج بها عليهم وهي عليهم أدل منها لهم وهذا من أعظم الجهل والظلم والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من عباده وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً يقرر هذا أن الكلام في الشيء نفياً وإثباتاً مسبوق بتصوره فليس للإنسان أن ينفي شيئاً عن شيء أو يثبته له إلا بعد تصوره تصوراً يمكن معه النفي والإثبات فإذا قال القائل عن موجود إنه جسم أو هو جوهر أو متحيز أو في جهة أو فوق العالم أو غير ذلك أو قال ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا فوق العالم أو قال إن له علماً وقدرة وحياة أو قال ليس له علم ولا قدرة ولا حياة فكل واحد

من هذين لابد أن يتصور ما نفاه وما أثبته فمن أثبت لله سبحانه وتعالى أمراً من الصفات فإنما أثبته بعد أن فهم نظير ذلك من الموجودات وأثبت به القدر المطلق مع وصفه له بخاصة تمتنع فيها الشركة ومن نفى عن الله شيئاً من هذه الأمور فإنما نفى ما علم نظيره في الموجودات ونفى عن الله أن يكون له مثل ما للمخلوق من ذلك لم ينفِ ما يختص به الرب مما لم يعلم نظيره فإن هذا لم يتصوره حتى يحكم عليه بالنفي فالنافي لا ينفي شيئاً قط إلا ما له نظير فيما أدركه لأن نفس المنفي ما علمه أصلاً لأن النفي المحض لا يعلم بنفسه فإن النفس لا تباشر المعدوم حتى تشعر به وإنما تباشر الموجود وتقيس له نظيراً فينفي ذلك النظير عما هو منتفٍ عنه مثل نفيها لجبل ياقوت وبحر زئبق ونحو ذلك بعد أن علمت البحر والزئبق والجبل والياقوت ثم قدرت معلوماً مؤلفاً من شيئين نظيرهما

موجود ثم نفته وكذلك النفي عن الله من الشركاء والأولاد والنوم وغير ذلك يعلم وجوده في العالم ثم يقدر نظير هذا الموجود في حق الله تعالى في الذهن وينفي عن الله تعالى فأما نفيه قبل العلم به من جهة القياس فممتنع فإنه لا يكون معلوماً ولا يعلم بالمعدوم إلا بنوع قياس فإذاً كل نافٍ فلابد له من القياس على ما في الموجودات الجسمانية وأما المثبت فإنه وإن احتاج إلى نوع قياس فإنه يثبت معه الفارق الذي يقطع المماثلة بالأمور المخلوقة فهو وإن كان جامعاً فمعه فارق أقوى من جامعه بخلاف الثاني فإن عمدته على الجامع وهو القدر المشترك الذي ينفيه وإذا ظهر ذلك فيقال لأرسطو الذي ذكر عنه هذا

المؤسس الذي قال من أراد النظر في العلم الإلهي فليحدث لنفسه فطرة أخرى وقد قرره المؤسس بأن الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل مكنها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجاً آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلى معرفة الجسمانيات أنت يا معلم هؤلاء الصابئة الفلاسفة المبتدعين لما تكلمت

في أقسام العلم بالمقولات العشر وهي الجوهر وأعراضه التسعة الكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع وأن يفعل وأن ينفعل والملك فهذا وإن كان

كلاماً في الوجود المطلق الذي قد يقولون إنه العلم الأعلى وهو الناظر في الوجود ولواحقه من حيث هو وجود ومنه العلم الإلهي ويجعلون العلم الإلهي يعم هذا كله فهذا نزاع بينكم فهذه المقولات العشر إذا أثبتها للعقول والنفوس ونفس الإنسان ونفيتها عنها أو نفيت شيئاً منها أو نفيتها عن واجب الوجود أو أثبتها أو شيئاً منها له أتحكم في هذا النفي والإثبات بالفطرة التي علمت بها هذه الأمور أم بفطرة أخرى فإن قال بفطرة أخرى كان هذا اعترافاً بأن الفطرة التي

يحكم فيها على الشيء بنفيه وإثباته غير الفطرة التي يتصور بها الشيء فتكون فطرة التصديق غير فطرة التصور ومن المعلوم أن الحاكم بالتصديق العالم به الناطق به إن لم يكن هو العالم بالتصور المدرك له الناطق به كان حكمه باطلاً فيلزم أن يكون جميع ما ذكروه في العلم الإلهي باطلاً لكون الحاكم بالتصديق فيه ليس هو المتصور وإن قلتم بل بالفطرة التي عرفت بها هذه الأمور يحكم بنفيها أو إثباتها بطلت تلك القعقعة التي تشبه قعقعة الشنان التي يقعقع بها للصبيان ليخوفوا بما لا حقيقة له عند الإنسان وعلم أن ما خالفتم به الفطرة والشرعة فكله هذيان بل من الإفك والبهتان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا {1} قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً {2} مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً {3} وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً {4} مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً {5} [الكهف 1-5] وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ

إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {102} لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {103} [الأنعام 100-103] وليس هذا موضع استقصاء الكلام في هذا وإنما الغرض التنبيه على تناقض هؤلاء وإبطال حججهم وحينئذ يقال في الوجه الرابع قوله إنه إذا كان على العرش وكان عظيماً فلابد أن يكون له جانبان جانب عن يمين العرش وجانب عن يساره ويكون أحدهما غير الآخر العلم بهذا إما أن يكون من العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال أو

لا يكون فإن كان من هذا القسم وهو مقبول قبل نظيره وما هو أولى منه فتبطل هذه الحجة لأن هذا العقل يحكم بأن الموجود لابد أن يكون داخل العالم أو خارجه وإن لم يكن مقبولاً بطلت هذه الحجة وإن قيل إن هذا ليس من حكم العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال وهو قد حكم بأن الموجود العظيم الذي فوق غيره لابد أن يكون جسماً يتميز منه جانب عن جانب بأن يقال إن الحكم بأن الموجود إما أن يكون داخل العالم أو خارجه وأنه يمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه أولى بأن لا يكون من حكم العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال لأن الحكم الأول فيه تصريح بأنه جسم فإن كان الحكم بأن الشيء جسم ليس من مقتضى العقل الجسماني ومقتضى الحس فالحكم بما لم يصرح فيه بالجسم بل حكم فيه على الوجود مطلقاً أولى بذلك ولهذا يكون مثل هذا الحكم من العلم الأعلى عندهم ومن العلم الإلهي وأما الأول ففيه

نوع من العلم الطبيعي الجسماني قطعاً الوجه الخامس أنه إذا كان جسماً فأنت قد ذكرت في نهايتك النزاع بين الناس في الجسم هل هو في نفسه واحد أو منقسم بعد اتفاقهم على قبولية الانقسام وهي مسألة الجوهر الفرد فقلت في مسائل المعاد المسألة الأولى في الجزء الذي لا يتجزأ لاشك في أن الأجسام التي شاهدناها قابلة للانقسامات والانقسامات التي يمكن حصولها فيها إما أن تكون متناهية أو لا تكون فيخرج من هذا التقسيم أربعة

أقسام أولها أن الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها أن لا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون متناهياً ورابعها أن لا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون غير متناهٍ قال والأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني هو مذهب النظام والثالث هو مذهب بعض المتأخرين وهذا

الذي أشار إليه هو الشهرستاني والرابع وهو مذهب الفلاسفة قال فتلخص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه

قابلاً للانقسام هل يعقل أن يكون واحداً وثانيها أنه بتقدير أن يكون هل يعقل أنه يكون قابلاً للانقسامات الغير المتناهية قال فنحن نتكلم في كل واحد من القسمين ثم نذكر بعده شبه النفاة ونتكلم عليها قال والمعتمد في أن ما يكون قابلاً للانقسام لابد أن يكون منقسماً هو أن وحدة الجسم إما أن يكون غير كونه جسماً أو جزءاً داخلاً فيه أو أمراً خارجاً عنه فإن كان الأول أو الثاني لزم أن يكون تفريق الجسم إعداماً له وذلك محال وإن كان الثالث كانت الوحدة صفة قائمة بالجسم والعرض لا يحدث في المحل ولا يحصل فيه إلا إذا كان المحل متعيناً متميزاً عن غيره ولا يعقل من وحدته إلا تعينه في نفسه وتميزه عن غيره فيلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفاً على كون الجسم واحداً ثم الكلام في تلك الوحدة كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وهو محال وبتقدير إمكانه فلابد أن

ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإلا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة أصلاً وذلك هو المطلوب فهذا الدليل الذي ذكره على امتناع أن يكون شيء من الأجسام واحداً أو على امتناع أن يكون شيء من الموجودات واحداً ومعلوم أن ذلك خلاف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين بل إجماع العقلاء قال الله تعالى وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] والقول بأن هذا واحد عن

الإنسان الواحد والحيوان الواحد والشجرة الواحدة والدرهم الواحد من أشهر الأمور عند العامة والخاصة ومن أعرف الأمور عند بني آدم وهو من أوائل العلوم البديهية الحسية عندهم وهو علم العدد وأن الواحد نصف الاثنين فلو لم يكن في الأجسام ما يوصف بأنه واحد والناس لم يشهدوا الأجسام مع أن العلم بأن الواحد المطلق نصف الاثنين موقوف على أن الواحد في الخارج نصف الاثنين إذ العلوم الكلية الذهنية مسبوقة بالعلوم المعينة الوجودية فلو لم يكن في الأجسام ما هو واحد امتنع حكم الذهن بان الواحد نصف الاثنين وهذا من أوائل العلوم البديهية التي يضرب بها المثل في النظر والمناظرة فيكون احتجاجه على أن الجسم لا يكون

مناقشة الرازي في نفيه وحدة الجسم وتناقضه في ذلك

واحداً في مقابلة ذلك فيكون من أفسد حجج السوفسطائية لقدحها في أظهر الأمور الحسية البديهية ثم يقال هذه الحجة تستلزم أن لا يكون الله واحداً ولا يكون الجوهر الفرد واحداً إلا به ثم يقال في وحدة ذلك مثل ما قلته في وحدة الجسم وذلك يستلزم أن تكون الوحدة بالذات وبالجوهر الفرد متوقفاً على كونه واحداً فالكلام في تلك الوحدة كالكلام في الأولى وذلك يستلزم التسلسل وهو محال وإذا كانت هذه الحجة تستلزم هذا الكفر فهي تستلزم أيضاً

نقيض المطلوب لأن المقصود بنفي وحدة الجسم إثبات تركيبه من الأجزاء المفردة التي كل منها واحداً فإذا نفيت وحدة الجوهر الفرد استلزمت إبطاله وإذا بطل الجوهر الفرد امتنع كون الجسم مركباً من الجواهر المنفردة فيلزم أن يكون واحداً فصارت هذه الحجة المذكورة لنفي وحدة الجسم مستلزمة لوحدته ونافية لوحدة الجوهر الفرد أيضاً وكل هذا تناقض واعجب من هذا ثم من العجب قولك بعد أن ثبت أن الوحدة تستلزم التسلسل وهو محال ثم قلت وبتقدير إمكانه فلابد وأن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإذا كانت الوحدة مستلزمة للتسلسل المحال فكيف يكون تقدير إمكانه مبيناً لك جواز اتصاف شيء بالوحدة من غير توسط وحدة أخرى وكذلك من العجب قولك فلابد وأن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإلا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة وهو المطلوب فليس هذا هو المطلوب لأن هذا الذي قدرته مع قولك إنه محال يفيد أن الذات توصف بالوحدة من غير أن تتوقف هذه الوحدة على وحدة أخرى للذات وهذا لم ينازعك فيه أحد ولا ينفي وحدة الجسم فإن

وحدة الجسم ليست موقوفة على وحدة أخرى تقوم بالجسم غاية ما في هذا الباب أن وحدة الجسم معها وحدات أخر تقوم بالجوهر إذا أفردت وهذه الوحدة ليست شرطاً في ثبوت الأولى ولا هي سابقة عليها ولا تلك متوقفة عليها ولا هي وحدة الجسم التي وصفت بها الأولى والتسلسل الذي ذكرته إنما يمنع أن تكون وحدة الشيء متوقفة على وحدة أخرى لذلك الشيء وليس الأمر كذلك هنا لكن مع وحدة الجسم وحدة كل موصوف بالوحدة من الأجسام والجواهر وغير ذلك والموصوف بأنه واحد إذا كان مستلزماً إمكان أن ينقسم إلى ما يوصف بأنه واحد لم يكن وحدة موقوفة على وحدة أخرى تقوم به فليتدبر اللبيب كيف ذكر الحجة التي مضمونها نفي كل وحدة في العالم وإحالتها ثم أخذ ثبوت الوحدة مسلماً وادعى أن ثبوت الوحدة بلا واسطة ينفي وحدة الجسم وكلاهما عجب نفي الوحدة مطلقاً ودعوى أن الوحدة بلا واسطة وحدة أخرى تنفي وحدة الجسم ثم يقال عن هذه الشبهة الفاسدة الباردة تعين الواحد جسماً كان أو غيره وتميزه عن غيره لا يخلو إما أن تكون هي وحدته أو لا تكون فإن لم يكن هو وحدة الجسم بطل قولك لا نعقل من وحدته إلا تعينه في نفسه وتميزه عن غيره فبطلت الحجة وإن كان هو وحدته بطل قولك لا تحصل فيه

الوحدة إلا إذا كان متعيناً متميزاً عن غيره تعني قبل ذلك وحينئذ فقد بطلت الحجة أيضاً فسواء كانت الوحدة هي التعين والتميز أو كانت غيره لم يلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفاً على وحدة أخرى وهذا ظاهر وسواء كانت الوحدة أمراً وجوديّاً أو عدمياً فليس المقصود هنا بسط الكلام على هذا وإنما الغرض من التنبيه على أن ما يستدل به على أن الجسم فيه انقسام وتركيب وكثرة وأنه ليس بواحد من أفسد الحجج فإنه قد بنى على هذا الأصل الفاسد كثيراً من تجهمه وتعطيله الذي جحد فيه حقيقة أسماء الله وصفاته وما هو عليه في ذاته أما كون الجسم قابلاً للانقسامات التي لا تناهى أو غير قابل فهذا ليس لنا فيه هنا غرض وهو احتج على نفي ذلك بالحركة وأنها موجودة في الحاضر وإلا لم تكن موجودة في

الماضي والمستقبل وأن وجودها الحاضر لا ينقسم وإلا لكان الحاضر ماضياً ومستقبلاً وإذا لم تنقسم الحركة إلى غير نهاية لم تنقسم المسافة التي تكون الحركة عليها فلا يكون في الجسم الذي هو مسافة انقسام لا يتناهى وعارض ذلك بعشرة أوجه مثل تميز اليمين عن الشمال وانقسام الجزء الموضوع على جزأين وغير ذلك من الوجوه ثم قال في الجواب وأما المعارضات التي ذكروها فاعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في

أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضاً نختار الوقف فإذن لا حاجة إلى الجواب فهذا قوله

في الانقسام الممكن هو متوقف فيه وقوله ونقول في نفي وحدة الجسم وثبوت الانقسام الحاصل قد ظهر فساده لكل أحد وإذا كان الأمر كذلك فقوله لو كان على العرش لكان منقسماً مركباً أو لكان جسماً لكان منقسماً مركباً أو لو كان العرش لكان عظيماً ولكان منقسماً مركباً إلى الأجزاء قد تبين فساده وظهر أن قوله إذا كان عظيماً فلابد أن يكون أحد جانبيه غير الآخر ويكون على هذا التقدير ذات الله مركبة من الجزاء كلام باطل لم يقرر تركيباً موجوداً في الأجسام المشاهدة ولا أن فيها أجزاءً موجودة بل ادعى فيها ما يضحك عليه الصبيان وأما قبولها للتجزئة إلى غير غاية فقد توقف فيه فأكثر ما يبقى معه أن الجسم وإن كان واحداً لكنه يقبل التجزئة إلى حد

محدود وهذا قول الشهرستاني مع أنه يستخف بهذا القول أحياناً وقد اضطر إلى موافقته لكن هذا أكثر ما فيه أنه يمكن في الجسم من حيث الجملة أن ينقسم بمعنى أن ذات الجسم من حيث هو جسم لا تكون مانعة من الانقسام وهذا حق فإن من الأجسام ما ينقسم حقيقة فلو كان حقيقة الجسم مانعة من الانقسام لم يصح الانقسام على شيء من الأجسام لكن هذا لا يثبت له قبول كل جسم للانقسام فضلاً أن يكون العلي العظيم الكبير المتعال الذي هو على عرشه العظيم مركباً من الأجزاء كما ادعاه فإنه إذا كان الجسم واحداً وقبول القسمة لم يثبت إلا لبعض الأجسام لم يلزم أن يكون رب العالمين منقسماً ولا قابلاً للقسمة فلا يكون مركباً من الأجزاء لا الأجزاء الموجودة ولا الأجزاء المقدرة الممكنة ثم إذا كانوا في الأجسام المشهودة قد اضطربوا أو تحيروا في تركيبها وانقسامها وعدوا ذلك من محارات العقول كيف يصح منهم الحكم على رب العالمين بمثل هذه الأمور نفياً وإثباتاً وهذا بيِّنٌ ولا حول ولا قوة إلا بالله

الوجه السادس أن يقال هب أنه يلزم أن يكون فيه أجزاء وأبعاض بمعنى أن فيه ما يميز منه شيء عن شيء كما أن الفلك يتميز منه شيء من شيء وجانب من جانب وهذا هو المعنى بالتركيب من الأجزاء فهذا يكون بمنزلة الصفات القائمة من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وسائر الصفات فقولك في تلك الأمور التي سميتها أجزاءً إما أن تكون متماثلة أو مختلفة فيقال لك مثله في الصفات التي سمتها نفاة الصفات كابن سينا وغيره أجزاءً ويقولون واجب الوجود ليس فيه أجزاء لا أجزاء حد ولا أجزاء كم وإن كانت

هذه تسمية باطلة كما قد قررناه في غير هذا الموضع فتسميته أيضاً تشبهها كما قد قررناه والنزاع هنا ليس في اللفظ بل في المعنى فيقال لك في تلك الصفات إن كانت متماثلة وجب أن تقوم كل صفة مقام الأخرى فيقوم العلم مقام القدرة والحياة مقام الكلام وهذا باطل وإن كانت مختلفة فكل صفة تشارك الأخرى في كونها صفة وتفارقها في خصوصيتها وما به الاشتراك غير ما به الافتراق فتكون كل صفة مركبة من جزأين جزء به الاشتراك وجزء به الامتياز ثم كل واحد من ذينك الجزأين يشارك غيره في جزء ويفارقه في جزء وهلم جرا فالقول في تركب كل مركب من جزأين وتركب كل جزء من جزأين يعم ما يقال إنه مركب تركيب المقدار والكم وما هو مركب تركيب الصفة والكيفية فإن أوجب أحد التركيبين

الانحلال إلى ما لا تركيب فيه أوجبه الآخر وإلا فلا وحينئذ فيعارض ما ذكرته في تركيب المقدار مثله سواء فيقال لك إن لم يوجب التركيب والانحلال إلى ما لا تركب فيه لم يجب ذلك في الموضعين فبطلت الحجة وإن أوجب ذلك بانحلال المقدار إلى جزء لا تركب فيه فانحلال الصفة إلى جزء هو صفة لا تركب فيها وإذا قيل في أجزاء المقدار إنها متماثلة وإلا كانت مركبة قيل في أجزاء الكيفية إنها متماثلة وإلا كانت مركبة وإذا قيل إن تماثلها يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر قيل إن تماثل تلك يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر وحينئذ فيجب أن يوصف العلم بما توصف به القدرة وتوصف الحياة بما يوصف به الكلام ويسد كل منهما مسد الآخر وهذا مع أنه محال فذلك يستلزم جواز الاكتفاء بصفة عن سائر الصفات وذلك يستلزم عدم وجوب هذه الصفات للذات وهذا أبلغ مما ألزمه في المقدار من جواز انحلال الذات وتفرقها فإن عدم كيفيات الموجود أو الجسم أبلغ في عدمه

وتلاشيه من تفرق أجزائه ولهذا كثير من الأجسام يفترق ثم يجتمع كما يتفرق الماء ثم يجتمع وأما إذا بطلت كيفيته مثل بطلان المائية والنارية فإنه يكون فاسداً مستحيلاً وهذا وإن كان إلزاماً لمن يثبت الصفات فهو لازم لكل أحد أيضاً فإنه لابد من إثبات وجود ووجوب ونحو ذلك أي معنى أثبت جعل فيه نظير هذا التركيب وهذا لازم لابن سينا ونحوه من الملاحدة أيضاً فإنه يقال في الوجود والوجوب إن الموجود يشارك غيره من الموجودات في مسمى الوجود ويفارقها في خصوصه والوجوب بالذات يشارك الوجوب بالغير في مسمى الوجوب ويفارقه في كونه بالذات وكذلك يقال في العاقل والمعقول والعقل والعناية وكونه فاعلاً أو مبدأ أو

ابن سينا وأبوه من الملاحدة

علة أو غير ذلك إذ لا بد لكل من أثبت موجوداً من أن يثبت وجوداً واجباً ويلزمه فيه هذه اللوازم وقد بينا هذا فيما تقدم وابن سينا كان من الملاحدة وكان أبوه من دعاتهم

وذكر هو أنه بسبب ذلك اشتغل فيما اشتغل به من علوم الفلاسفة الصابئة الأوائل فإن أصول الملاحدة مبنية على ما أخذوه من هؤلاء الصابئة وما أخذوه من المجوس وهؤلاء الصابئة المبتدعون يقولون إن العالم متولد عن الله والمجوس يجعلون له شريكاً في خلقه فالطائفتان كما قال تعالى وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام 100] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء 111] وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فإن المجوس تجعل إبليس وهو أصل الظلمة هو شريك النور في التخليق فيجعلون الجن شركاءه وليس هذا موضع بسط هذا ولكن ننبه على أن كتاب الله لما كان دعوة لجميع الخلق ففيه تفصيل كل شيء وهو

الحاكم بين جميع الناس فيما اختلفوا فيه ولهذا أراد النصير الطوسي ونحوه من ملاحدة المسلمين واليهود على أن يضعوا للدولة الكافرة المشركة الجاهلة دولة هولاكو عقيدة واتفقوا على أن تكون عقيدة ابن سينا ولهذا كانت الملاحدة تميل إلى هؤلاء المشركين كثيراً وكان ملكهم هولاكو يقرب الملاحدة ويستعين بهم على المسلمين لما عرف مباينتهم في الباطل للإسلام وأهله مع منافقتهم لهم

في الظاهر الوجه السابع قوله إن تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية يقال قد تبين أن ما ذكرته لا يستلزم أن تكون هنا أجزاء موجودة وغاية ما يلزم ما ذكرته تمييز شيء عن شيء وجانب عن جانب والذي يكون كذلك يقال في صفاته ما يقال فإذا قيل إنه مع أنه واحد فهو ذو أبعاض يتميز منه شيء من شيء فكذلك يقال في صفاته القائمة به وفي حيزه وفيما يلاقيه ففي الجملة متى فرض تميز شيء منه عن شيء وقيل إن ذلك أبعاض ولكل بعض خاصة تميز بها ثم يقال وساء كان هناك أجزاء وأبعاض موجودة يتميز بعضها عن بعض أو لم يكن فإذا قيل كل بعض إما أن يماثل الآخر أو لا يماثله قيل إن أردت بالمماثلة أن يقوم مقامه فيما يختص بعينه فلا يكون في العالم شيئان متماثلان وإن أردت بالتماثل أن يقوم مقامه فيما يكون لنوعه لا لعينه قال لك المنازع إنها متماثلة وإذا قال ذلك لم يجز أن تقول فيصح أن يكون الملاقي مباعداً والمباعد ملاقياً لأن ذلك الملاقي في صفات عينه مجاورته

لما جاوره وحيزه المعين وتلك الصفة لا يقوم فيها غيره مقامه وإن كان مثله كما تقدم فلا يلزم من كونهما متماثلين أن يصير الملاقي مباعداً والمباعد ملاقياً وقولنا المثلان يصح على كل منهما ما صح على الآخر إنما هو فيما ليس من خصائص العين والملاقاة والمباعدة من خصائص العين فإن الملاقي إذا صار مباعداً خرج عن حيزه المعين وعن أن يكون ملاقياً لما كان ملاقياً له ووجب أن يصير ملاقياً لغيره وكذلك المباعد وحينئذ فتختلف صفات عينه بالتفريق فلا يكون ذلك لازماً لكونهما مثلين فلا يلزم من التماثل ذلك الوجه الثامن أن يقال هذه التي سميتها أجزاءً سواء كانت أجزاءً مقدرة أو هي متميزة تميزاً حقيقيّاً لا يخلو إما أن تريد بكل واحد منها الجزء الذي لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد أو ما هو اكبر من ذلك فإن أردت بالأجزاء الجواهر المنفردة وقد قلت إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة فيقال لك هب أنها مختلفة في الماهية ما الذي يلزم قولك والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل

تركيبه إلى أجزاء ويكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب يقال لك هذا باطل على هذا التقدير لأن كل واحد من تلك الأجزاء المختلفة الماهية إذا كان جزءاً لا ينقسم وهو الجوهر الفرد امتنع حينئذ أن يكون مركباً وأن يتحلل إلى أجزاء أخر فإنه لا تركيب فيه بحال أكثر ما يمكنك أن تقول فيه ما قلته في الأجزاء التي يتحلل إليها من لزوم مماسته بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر لكن يقال لك هذا أولاً باطل في الجزء الذي لا ينقسم وقولك لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً وقد فرضناه غير مركب كلام متناقض ينقض بعضه بعضاً فإنه إذا كان له يمين ويسار كان مركباً وقولك يمينه مثل يساره والمثلان غيران يقتضي أن فيه غيرين وهذا تركيب أيضاً وتماثل جانبيه لا يخرجه عن أن يكون مركباً فقولك وقد فرضناه غير مركب تناقض وكذلك قولك ودعواك أنه تماثل يمينه يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً يقتضي أنه مع تماثل جانبيه يكون غير

مركب ومع عدم تماثلهما يكون مركباً وليس الأمر كذلك بلا نزاع وأيضاً فإنه على هذا التقدير الأجزاء المختلفة في الحقيقة وإذا كانت مختلفة في الحقيقة لم يلزم أن يجوز على كل واحد منها ما جاز على الآخر بل يمتنع تساويهما فيما يجب ويجوز ويمتنع فلو وجب أن يقوم كل منهما مقام الآخر لكانت متماثلة والتقدير أنها مختلفة هذا تناقض فعلم أنه يمتنع مع كون الأجزاء غير منقسمة وهي مختلفة في الحقيقة أن يقوم بعضها مقام البعض وحينئذ فيبطل لزوم تفرقها بل يقال إذا كان تفرقها يوجب قيام بعضها مقام بعض امتنع تفرقها مع كونها مختلفة لأن الحقائق المختلفة يمتنع أن يقوم بعضها مقام بعض هذا إن أراد بالأجزاء الجواهر المنفردة وهو المفهوم من إطلاق تفرقها وإن أراد بالأجزاء الأجزاء الكبار قيل الوجه التاسع وهو أن المعنى أنه مركب من أجزاء كبار بحيث يلزم إذا كانت مختلفة أن يكون الجزء منها ينحل إلى أجزاء لا تنقسم وقد قلت إما أن تكون متماثلة أو مختلفة فيقال لك نقدر أنها متماثلة وهي وإن كانت متماثلة في الصفة

الله لا يجوز عليه العدم

فلها قدر في نفسها ليست أجزاء منفردة إذ التقدير كذلك وإذا كانت كذلك لم يلزم أن يكون الطرف منها وسطاً لأن الطرف يكون غير منقسم وغير المنقسم لا يسد مسد الجزء الكبير الذي قد ينقسم وإذا لم يكن كذلك لم يلزم جواز تباعد المتلاقيين وتلاقي المتباعدين لتباين مقاديرهما وأشكالهما وأن الذي يقوم مقام غيره لابد أن يكون مساوياً له في الصفة والقدر جميعاً لاسيما وعلى هذا التقدير فيمكن أن يكون بعضها أكبر من بعض لأنه أكثر ما يلزم أن يكون كل جزء منها يمكن انقسامه ليصح الحكم عليها بالتحليل إلى الذي لا ينقسم حتى يتوجه كلامه في القسم الثاني وإذا لم يجب إلا ذلك لم يلزم تساويها في المقدار وإذا لم يلزم تساويها في المقدار لم يجب أن يقوم بعضها مقام بعض فلا يلزم جواز التفرق والانحلال فحاصله أن هذه الأجزاء إن قدرها منقسمة جاز اختلاف مقاديرها وأحكامها قلم يلزم قيام بعضها مقام بعض وعلى التقديرين يبطل ما ذكره من لزوم التفرق والانحلال الوجه العاشر أن يقال الذات التي هي واجبة الوجود بنفسها وصفاتها لازمة لها لا يجوز أن توصف بما توصف به الذات الممكنة الجائزة وذلك لأن الأجسام المخلوقة لها أبعاض وصفات فيجوز أن الله يفرق بين أبعاضها ويجوز أن يزيل صفاتها عنها كما يجوز أن يعدمها والله سبحانه وتعالى

لا يجوز عليه العدم ولا يجوز أن تفارقه صفاته الذاتية فبتقدير أن يكون على العرش وهو عظيم يتميز منه جانب عن جانب يكون ما هو داخل في مسمى اسمه من الأمور اللازمة التي لا يجوز أن تفارق ذاته ويكون ما هو موصوف به من الاجتماع والاتصال أمراً واجباً لذاته لأنه الصمد كما تقدم وهذا ظاهر وإن كان واجباً فبتقدير تماثل الأبعاض مع هذا لا يستلزم جواز التفرق لأن وجوب الاجتماع والاتصال يوجب أن يكون مكان كل واحد وحيزه داخلاً في عينه الحاصلة والمثلان لا يجب أن يوصف أحدهما بما يوصف به خصوص عينه ولأن الموجب للاجتماع والاتصال ما تستحقه الذات من وجوب وجودها بصفاته اللازمة وإذا كان كذلك فصار المتلاقيان متباعدين والمتباعدان متلاقيين بغير اجتماع الذات واتصالها عما كان عليه فلم يقم أحدهما مقام الآخر ولا يسد مسده فلا يكونان مثلين وهذا يتقرر بالوجه الحادي عشر وهو أن يقال هب أن الأجزاء متماثلة فقولك والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر فعلى هذا يلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا مباعدين وعلى المتباعدين أن يصيرا

متلاقيين وذلك يقتضي جواز الاجتماع والافتراق وإنما يكون كذلك لو كانا بعد تغيرهما بالتباعد والتلاقي يبقى تماثلهما وليس كذلك بل إذا تفرق أجزاء الذات المجتمعة تغيرت الأجزاء ولم تبق بعد الافتراق كما كانت حال الاجتماع وهذا مشهود في الأجرام المخلوقة فإن اجتماع بعضها ببعض يوجب لها من القوة وغيرها من الصفات ما لا يوجد عند الافتراق حتى إن من أحكامها وأحكام الذات التي هي أبعاضها ما لا يصح إلا عند الاجتماع والتفرق يبطل ذلك وإذا كانت بالتفرق تخرج عما كانت عليه حين الاجتماع لم يلزم من تماثلهما جواز تفرقها لأن التفرق يخرجها عن المماثلة فيكون التقدير إذا كانت متماثلة وجب أن تصير غير متماثلة يقرر هذا بالوجه الثاني عشر وهو أن كل جسم مؤلف هو يشتمل على جواهر منفردة كما ذكر وهي متماثلة كما ذكر والمثلان يصح على كل واحد منهما ما صح على الآخر فيقال لا يخلو إذا تفرقت هذه الأجزاء أن تكون حين افتراقها كما كانت حين اجتماعها أو لا تكون فإذا كانت كذلك لزم أن يكون كل جسم في العالم إذا افترقت أجزاؤه إلى الجوهر المنفرد أن يكون حال تلك الجواهر حينما كانت متصلة وهي تلك الذات كحالها حين تفرقها وفساد هذا معلوم بالحس والبديهة فإن

الجسم ليس هو إلا تلك الجواهر وتركيبها فإذا فرض أن حالها مع زوال التركيب كحالها مع التركيب وجب أن تكون موصوفة حال افتراقها بما كانت موصوفة به حال اجتماعها وهذا معلوم الفساد بالحس والبديهة لأن عامة الأجسام إذا تفرقت أجزاؤها بطل عامة صفاتها وأحكامها وإذا كانت حين افتراقها بخلاف ما كانت حين اجتماعها لم يلزم من تماثلها جواز افتراقها لأن ذلك يقتضي اختلاف حالها وليس الشيء إلى مثله بأقرب منه إلى نفسه فإذا كان الشيء إذا خالف غيره بشيء لم يجب أن يكون مثله فالشيء الواحد إذا وجب بانتقاله من حيز إلى حيز اختلاف حقيقته أن لا يجب ذلك فيه بطريق الأولى وحينئذ فيقال الوجه الثالث عشر وهو أن تماثلهما يوجب اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع عليها والواحد منها يمتنع عليه أن يفارق عينه لأن ذلك يقتضي استحالته وتغيير حقيقته والواجب الوجود لا يجوز عليه ما يفضي إلى استحالته وتغيير حقيقته فإذاً مع تماثلهما يجب اشتراكها في امتناع استحالتها وتغيير حقيقتها وذلك يقتضي تماثلها في امتناع الافتراق عليها لأن الافتراق يبطل حقيقتها وهذا يظهر بالوجه الرابع عشر وهو أن صفات الجسم

المخلوق وأعراضه يجوز أن يفرقها الله تعالى فإن اقتضى ذلك استحالته وتغير حقيقته لأن الله تعالى قادر على ذلك ف محذور فيه وأما صفات الرب كحياته وعلمه وقدرته فلا يجوز أن تفارق ذاته لأن ذلك يلزم استحال الرب وتغير حقيقته وذلك محال فزوال صفاته الذاتية محال ولا يلزم إذا كان غيره من الموجودات يجوز أن تفارقه صفاته أن يقال في حق الله تعالى يجوز أن تفارقه صفاته وكذلك إذا كان غيره من ذوات الأقدار يجوز أن تتفرق أبعاضه لأن ذلك يقتضي تغير حقيقته وهو محال وإذا قيل الأبعاض متماثلة كان هذا مما يوجب اشتراكها فيما يمتنع عليها من العدم وتغير الحقيقة كما أن الصفات مشتركة في ذلك وإن كانت غير متماثلة فالأبعاض المتماثلة أولى بالاشتراك في ذلك الوجه الخامس عشر أن يقال قولك إما تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية تقسيم غير حاصر لأن التماثل والاختلاف فرع التغاير ونحن لا نسلم أن الواحد منها يقال إنه عين الآخر حتى يقال إنه مثله أو خلافه ولا يقال هو هو كما يقوله كثير من الصفاتية أو أكثرهم في العلم والقدرة والحياة إن أحدها وإن

رد المؤلف على الرازي بالتفصيل في الأجزاء

لم يكن عين الآخر فلا يقال إنه غيره ولا أنه مثله ولا خلافه لأن التماثل والاختلاف فرع التغاير فإن الغيرين إما أن يكونا مثلين أو خلافين والخلافان إما أن يكونا ضدين أو خلافين غير ضدين وإذا كان كذلك فالمتغايران ما يجوز وجود أحدهما دون الآخر ولا ينقض هذا بالخالق والمخلوق فإن الله يجوز وجوده بدون المخلوق وصفات الحق لا يجوز وجود بعضها دون بعض فلا تكون متغايرة ولا توصف بتماثل ولا اختلاف الوجه السادس عشر هب أن يقال إنها غير متماثلة بل هي مختلفة أو بعضها مختلف وبعضها غير مختلف حيث وردت النصوص بأسماء تقتضي حقائق غير متماثلة كقوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وقوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] وقول النبي صلى الله عليه وسلم المقسطون

على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وقوله يقبض السموات بيمينه والأرض بيده الأخرى وفي رواية

في الصحيح والأرض بشماله إلى سائر ما ورد في هذا الباب مما يطول وصفه فإما أن يجب تحللها إلى أجزاء متماثلة أو لا يجب فإن وجب ذلك جاز على كل شيئين مختلفين أن يصيرا متماثلين بل وجب منهما أن يكونا متماثلين فإنه إذا وجب تحللهما إلى الأجزاء المتماثلة التي يجوز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر فقد وجب أن يجوز على أجزاء كل واحد ما جاز على الآخر ومن الجائز على أجزاء كل واحد التباعد والتلاقي كما ذكره فيجب فيه جواز تفرق أجزائه وجواز أن يسد كل واحد منهما مسد الآخر وذلك يستلزم أن يجوز على كل مختلفين أن يكونا متماثلين فقد اشتركا في أنه يجوز أن يجب ويمتنع ويجوز على أحدهما ما جاز على الآخر فإذا اشتركا في جواز ذلك لزم من ذلك محالات منها أن يشتركا في جواز الممتنع والجائز لا يكون ممتنعاً بل هو نقيضه فيكونا قد اشتركا في جواز النقيضين عليهما

وأيضاً فإنه إذا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر ووجب ما يجب له وامتنع عليه ما يمتنع عليه ولو بواسطة يتماثلان فيها لزم أن يكونا متماثلين وذلك يقتضي أن يكون كل مختلفين متماثلين وهذا قلب للحقائق وتبديلها وهو من أعظم السفسطة وهذا على أصله لازم من وجه آخر فإن عنده جميع الأجسام متماثلة فإذن ليس في الأشياء التي لها أجزاء أشياء مختلفة بحال فقوله تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة أو مختلفة إنما هو تقدير وإلا فعلى أصله لا تكون إلا متماثلة ليس في الأجسام عنده ما هو غير متماثل وإن كان في هذا من السفسطة ومكابرة الحس والعقل ما فيه مع مخالفة نصوص القرآن التي تثبت عدم تماثل الأجسام كقوله تعالى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ {38} [محمد 38] ونحو ذلك مما تقدم ذكره وإن لم يجب تحللها إلى أجزاء غير منقسمة بطل ما ذكرته الوجه السابع عشر أن يقال قولك كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فإنه لابد أن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء لا تركب فيها يصح أن يمس كل منهما بيمينه ما يمسه

بيساره لا يخلو إما أن يدخل رب العالمين في هذه القضية على تقدير كونه على العرش أو لا يدخله فإن لم يدخله لم يكن هذا حجة ولم يكن في هذا الكلام فائدة وإن أدخله في هذا القياس الشمولي فقد ضرب لله مثلاً بكل جسم حقير وغير حقير حين مثَّله بالبعوضة ونحوه مما فيه أجزاء مختلفة وهذا فيه إشراك بالله تعالى وعدل لله وجعل أنداد له وجعل سمي له وكل ذلك ممتنع على الله تعالى ولا يقال هذا إنما هو إشراك به وتمثيل على هذا التقدير لأنه يقال بطلان هذا التقدير يكون ممكناً إمكاناً ذهنيّاً فيجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر فلا يجوز أن يُجعل لله شريكٌ على تقدير يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر قبل أن يعلم انتفاؤه وإذا علم انتفاؤه لم يكن هذا موجباً للعلم بانتفائه لكن قد يقال هذا دليل ثانٍ فيقال هذا التقدير عند منازعيك حق لأن القرآن والعقل قد دل على أن الله فوق العرش فإذا كنت قد جعلت لله أنداداً وأمثالاً وسميّاً على هذا التقدير الذي ثبت بالكتاب والعقل فقد ثبت بالكتاب والعقل أنك جعلت لله عدلاً وسميّاً ومثلاً أيضاً فيقال لك في

الوجه الثامن عشر من أين لك إذا كان الله فوق العرش وقلت كونه يجب أن يكون جسماً فيه حقائق غير متماثلة أن يكون مساوياً لجميع الأجسام المؤلفة من أجزاء مختلفة ليس العلم بهذا إلا محض قياس الله تعالى على خلقه وتمثيله بهم وهو باطل وتقرير ذلك بالوجه التاسع عشر وهو أن يقال ما تنازع فيه الناس من الصفات نفياً وإثباتاً هل يسوغ لمن يثبته أن يمثل الله بما ثبت له من تلك الصفات من جميع المخلوقات أم لا يسوغ ذلك فإن ساغ ذلك ساغ أن يقال لو كان عالماً لكان بمنزلة جميع العلماء ولو كان حيّاً لكان بمنزلة جميع الأحياء بل يقال هذا فيما لا نزاع فيه مثل أن يقال لو كان موجوداً لكان بمنزلة سائر الموجودات بل يقال لو كان في الوجود موجود واجب لكان بمنزلة سائر الموجودات ومعلوم أن هذا باطل بالبديهة والحس فبطل إذا كان جسماًَ فيه حقائق أن يكون كسائر الأجسام المختلفة الأجزاء فإن قلت الفرق بينهما أن الأجسام متماثلة بخلاف العالمين والقادرين والموجودات قيل هذا باطل كما تقدم ثم إنه غير نافع لأن غاية هذا التقدير الذي نتكلم عليه أن

تكون فيه أجزاء مختلفة الماهية وإذا كانت أجزاء الجسم مختلفة الماهية فهي مخالفة لغيره من الأجسام بطريق الأولى والأحرى وإذا كان الكلام على تقدير أن لا تكون الأجسام أجزاؤها متماثلة لم يجز أن تحتج على هذا التقدير بما يستلزم تماثل الأجسام لأنه يكون جمعاً بين النقيضين فظهر أنه إذا قيل هذا التقدير فكل جسم مركب من أجزاء مختلفة لم تعلم هذه القضية الكلية إلا بمحض تمثيل الله بخلقه المستلزم أن يمثل إذا سمي باسم أو وصف بوصف بكل مسمى أو موصوف بذلك الاسم والصفة وأن يكون مثله في حقيقته وفساد هذا معلوم بالبديهة والحس وهو من أعظم وأغلظ الكفر ولهذا كانت الأمثال المستعملة في جانب الربوبية في الكتاب والسنة وكلام العلماء هي من باب الأولى وهو أن ينزه بعض خلقه عن بعض كالشريك والبنات والفقر فيقال الله أحق بهذا التنزيه عن ذلك أو يوصف بعض خلقه بصفة كمال كالعلم والقدرة والكلام فيقال الله أحق بذلك وهذه طريقة الأنبياء وأتباعهم أما إدخال الله وغيره من المخلوقات تحت قضية كلية تتضمن قياس

شمول وكل قياس شمول متضمن لقياس تمثيل فإن هذا

قاعدة هامة: ليس كل جزء مركب ينتهي تحليله إلى أجزاء مختلفة

لا يجوز لا لما يثبت من الصفات ولا لما ينفي الوجه العشرون يقال لك لا نسلم أن كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء مبرأة عن التركيب يصح أن يماس كل واحد ما يماسه الآخر فإن اعتصمت في هذا بقياس الغائب على الشاهد ذكرت لك الفوارق من وجوب وجود احدهما وقدمه وغناه وغير ذلك دون الآخر كما يفعل في سائر الأقيسة الفاسدة وليس معك حجة على هذا العموم سوى ما يحتاج فيه إلى القياس وهذا يظهر بالوجه الحادي والعشرين وهو أن يقال ما تعني بتحليل تركيبه إلى أجزاء أتعني به أنه لابد أن يتفرق أو يقبل التفرق إلى تلك الأجزاء فهذا ممنوع وهو محل النزاع فكيف تحتج بالشيء على نفسه فتصادر على المطلوب أم تعني بالتحليل اشتماله على الأجزاء كاشتمال الأصل على هذا الجزء وغيره فلا يخلو إما أن يريد بالجزء المبرأ عن التركيب أن يكون بسيطاً عن ذلك التركيب وإن كان أجزاءً متشابهة أو يريد به

أنه لا تركيب فيه بحال فإن أردت هذا فيكون مضمون الكلام أنه لابد وأن يكون فيه الجوهر الفرد وأنت قد وافقت أذكياء العالم على التوقف في إثبات الجوهر الفرد وإن كان ثبوته غير معلوم لك لم يجز أن تدعي في جسم من الأجسام المختلفة وجوب اشتماله على الأجزاء التي لا تركب فضلاً عن أن تدعي ذلك في رب العالمين وأيضاً فإنك قد ذكرت بعد هذا أن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد أن يماس كل واحد بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر لكن يمينه مثل يساره وهذا تصريح منك بأنه يقبل القسمة وأنه يشتمل على شيئين متماثلين وهذا ينفي الجوهر الفرد فقوله لابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات مع قوله إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئاً غير ما يماسه بيساره إثبات التركيب في البسيط المبرأ عن التركيب وهو الجوهر الفرد فيكون لازمه بين إثبات الجوهر

ونفيه وذلك تلازم بين النقيضين وإن أراد المبرأ من التركيب من الأجزاء المختلفة وبالبسيط بما ليس فيه ذلك التركيب وذلك لا يستلزم أن يكون كل جزء جوهراً فرداً بل يكون كل من تلك الأجزاء بسيطا بحيث يكون في البسيط أجزاء مختلفة وهذا هو اقرب إلى إرادته فيقال لك تلك الأجزاء البسيطة هي في أنفسها مختلفة الحقائق كما ذكرت وإذا كانت مختلفة الحقائق لم يمتنع أن تشترك فيما يجب ويجوز ويمتنع وإذا امتنع أن تشترك في ذلك لم يلزم أن يماس أحدهما ما يماس الآخر وإذا فرض أن جوانب أحدهما متساوية إما لاستدارتها وإما لتساوي يمينها ويسارها لكن إن ما يجب أن يمس بيمينه ما يمس بيساره إذا كان ذلك الممسوس يجوز أن ينتقل عن يمين هذا على يساره وينتقل عن مماسة ما كان يماسه إذا كان عن يمين هذا إلى مماسة ما يماسه إذا صار عن يساره فإنه مع مماسته لهذا لابد أن يماس غيره وذلك إنما يصح أن لو كان يمين الأول ويساره من الآخر متماثلة والتقدير أن الأجزاء مختلفة في الحقائق فلا يلزم وإن كان كل منها بسيطاً متشابه الأجزاء إنما يباين جوهراً منها ما باين غيره إذ هذا غير معلوم إلا إذا كانت متماثلة والتقدير أنها

مختلفة فوجب القطع بأن ما كان عن يمين أحدهما لا يلزم جواز كونه عن يساره نقيض ما ذكره فإنه إنما ذكر تساوي جانبي الممسوس لا الوسط وأغفل اختلاف جانبي المماسين وأن هذا المنتقل لابد أن يزيل واحداً عن حيزه وأن يماس حيزاً يخالف في الحقيقة الحيز الذي كان يماسه وهذا بيِّنٌ ولا حول ولا قوة إلا بالله

فصل: البرهان الثامن للرازي قوله لو كان علو الباري بالجهة والحيز لكان ناقصا مستكملا بغيره

فصل قال الرازي البرهان الثامن لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري وذلك لأنه بتقدير أن تحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم أما تلك الجهة التي في جهة العلو فلا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو فثبت أن تلك الجهة عالية على العالم لذاتها وثبت أن الحاصل في تلك الجهة يكون عالياً لا لذاته لكن تبعًا لكونه حاصلاً في تلك الجهة العالية على العالم وإذا كان كذلك فحينئذ يلزم أن يكون الباري ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وذلك محال فثبت أنه يمتنع أن يكون علوه على العالم بالجهة والحيز وذلك هو المطلوب والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال ومن الذي قال إن علو الباري على العالم شيء موجود منفصل عنه أو بشيء منفصل عنه مطلقاً هذا

لا يقوله المنازع ولا يحتاج أن يقوله بل عندهم أن ذات رب العالمين فوق العالم وأنه سبحانه وتعالى العلي الأعلى المتعال بذاته لا يحتاج علوه إلى شيء غيره أصلاً ولا يكون علوه بشيء منفصل عنه وما علمت أحداً من هؤلاء يقول إنه يحتاج في علوه إلى شيء منفصل عنه وقول القائل إنه على العالم بالجهة والحيز لا يقتضي وجود شيء غير نفسه وغير العالم فإن الجهة من الأمور الإضافية كما تقدم والحيز يراد به ما هو داخل في مسمى اسمه وليس شيئاً خارجاً عنه ويراد به تقدير المكان وليس ذلك شيئاً وجوديًّا بل لا حقيقة له بحال إلا أنه مقدر مفروض كما يقدر الزمان قبل العالم وإنما يقصدون بهذه العبارة أنه بذاته فوق العالم ليست فوقيته مجرد القدرة كما تقوله الجهمية وإذا كان كذلك فليس هناك شيء هو أعلى من الله تعالى أو شيء يحتاج الله إليه في علوه بل الأمر عندهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنت الظاهر فليس فوقك شيء وقد تقدم

الوجه الثاني: الرد على الرازي بما قرره من أن العالم كروي الشكل

الكلام على هذا غير مرة اعتراف هذا بأن الجهة والحيز ليس أمراً وجوديًّا وأنه ليس وراء العالم إلا العدم المحض فكيف يقال إن علو العدم المحض أكمل من علو الباري والعدم المحض لا حقيقة له بحال ولا وجود بل أحقر حقير في العالم وأسفل سافل هو خير منه ولا يوصف لا بعلو في الحيز ولا بسفول ولا شيء من ذلك الوجه الثاني قوله إنه بتقدير أن يحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم وتلك الجهة لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال له قد قررت فيما تقدم أن العالم كري الشكل وإذا كان كذلك لم يكن له يمين ولا يسار بل ليس له إلا جهة المحدب وهو المحيط والباري خارج العالم فيمتنع أن يكون الباري إلا فوق العالم

الوجه الثالث: أن سطوح العالم مستوية في العلو

فقولك بعد هذا إذا كان عن يمين العالم أو يساره أسقط من قولك إذا كان داخل العالم فإن العالم له داخل وأما يمين أو يسار فليس له وفرض وجود موجود داخل العالم ممكن وفرض وجود موجود عن يمينه ويساره غير ممكن كما قررته الوجه الثالث هب أن سطوح العالم سميته يميناً أو يساراً مع كونه مستديراً بالنسبة والإضافة لكن سطوح العالم مستوية في العلو فليس شيء أعلى مما تقدره يميناً أو يساراً وقد ذكرنا فيما مضى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن فجعل الأعلى هو الأوسط وذكرنا أن هذا لا يتأتى إلا في الجسم المستدير لأنه يمكن أن يجعل وسطه أعلاه وكذلك ما يفرض متيامناً فيه أو متياسراً هو أيضاً يكون أعلاه وإن لم يكن وسطه فقوله بتقدير أن تحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم كلام باطل قد قرره هو وكما اتفق عليه أهل الحساب بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عرشه على سمواته مثل القبة وقد قدمنا دلالة الكتاب والسنة والإجماع من الحساب العقلي على أن الأفلاك

الوجه الرابع: إذا فرض متيامنا متياسرا فلا يلزم أنه منخفض عن العالم

مستديرة فبطل ما ذكره الوجه الرابع هب أنه يمكن فرض متيامناً عن العالم أو متياسراً وأنه لا يكون حينئذ فوق العالم فقد لا يسلم المنازع أن هذا الفرض يمكن في حق الله تعالى لأنه العلي الأعلى الذي يستحق العلو لذاته ولا يلزم من جواز انخفاض غيره عن بعض الموجودات جواز انخفاضه هو وإذا كان هذا الفرض غير معلوم الجواز أو هو ممتنع في حق الله تعالى لم يكن ما يلزم عليه لازماً لأن التقدير الممتنع يلزمه حكم ممتنع كما لو فرض أنه معدوم أو أنه غير عالم أو أن العالم فوقه أو أنه محتاج إلى خلقه وغير ذلك الوجه الخامس أن هذا الفرض هب أنه ممكن أو يقدر تقديراً فلِمَ قيل إن ما يكون متيامناً عن العالم أو متياسراً ولو كان غير الله يكون فوقه شيء قوله لأن تلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال هذا تخليط فقولك الجهة التي في جهة العلو يقتضي شيئين أحدهما في الآخر وقولك لا يمكن فرض وجودها يقتضي أنها شيء موجود وقولك خالية عن العالم يقتضي أن فوق العالم شيء غير الله وهو موجود موصوف في العلو وهذا باطل بل كفر بإجماع المسلمين فإن الله خالق كل شيء

الوجه السادس: الإشارة إلى شيء موجود فوق العالم غير الله ممتنعة

والعالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فلو كان فوقه شيء موجود غير الله لكان ثَمّ موجود غير الله لم يخلقه الله بل هو مستغنٍ عن الله لا سيما وقد جعلت الله محتاجًا إليه وهذا لا يقوله عاقل فضلاً عن أن يقوله مسلم وقد تقدم الكلام على هذا بأبسط من هذا لما ذكر أن الله يحتاج إلى حيز في الأدلة العقلية ولما ذكر أن الحيز منها في الأدلة السمعية وفي غير ذلك الوجه السادس أنا قد قررنا غير مرة أنه ليس فوق العالمين إلا رب العالمين وليس هناك غيره ولا شيء يشاركه في العلو غيره بوجه من الوجوه فضلاً عن أن يكون هناك ما هو عالٍ عليه فقوله الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال له لا جهة هناك إلا الله فهو الذي يشار إليه موجوداً والإشارة إلى موجود غيره هناك ممتنعة فإن كنت تعتقد أن هناك موجوداً يشار إليه فأبطل ما تعتقده وإلا فالناس لا يعتقدون هذا ومنازعة الإنسان فيما لا يعتقده تضييع زمان ونوع من الكذب والبهتان الوجه السابع قولك إن الحاصل في الجهة يكون عالياً

الوجه الثامن: لو فرض أن الجهة في العلو او الدهر في القدم شيء موجود، فوجوده تبع لوجود الحق

لا لذاته لكن تبعاً لكونه حاصلاً في تلك الجهة العالية على العالم ممنوع بل باطل لأنه استحق العلو بذاته لا لأمر منفصل عنه كما استحق الأزلية بنفسه لا لأمر منفصل عنه فقول القائل إن علوه تبع لعلو الجهة كقوله إنه قديم لقدم الزمان وكلٌ من الخيالات الفاسدة بل هو الأول بنفسه الذي ليس قبله شيء وهو الآخر بنفسه الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر بنفسه الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن بنفسه الذي ليس دونه شيء الوجه الثامن هب أن الجهة في العلو أو الدهر في القدم شيء موجود تبع له فوجوده تبع لوجود الحق لا أن علو الحق وقدمه تبع له فإن ذلك يكون داخلاً في مسمى نفسه كما يقال إن الحيز هو جوانب المتحيز فإن كون الدهر هو عبارة عن قدمه فقدمه وحيزه داخل في مسماه وصفة من صفاته فلا يكون هو سبحانه تبعًا لصفاته ولو قدر شيئاً خارجاً عن صفاته لكان وجوده تابعاً لوجود الحق وكان الحق

هو الموجب له فكيف يكون عالياً لا لذاته لكن تبعاً لكونه حاصلاً في تلك الجهة وهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه مفتقر إليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والعادلون به علوًّا كبيراً فإن كلام هذا وأمثاله عدل بالله وإشراك به وجعل أنداد له وضرب أمثال له حيث جعل علوه وفوقيته على العالم بمنزلة علو الملك على سريره أو هو في هواء سطحه الذي قد سفل الرجل عنه فيكون دونه ويكون ذاك باقياً على علوه وجعل علوه محتاجاً إلى ما يعلوه به كما يحتاج الإنسان إلى السطح أو السرير فكلامه في علو الله تعالى يوجب أنه جعله مثل هذا العلو يجمع من التمثيل لله والعدل به ابتداءً ومن جحد علوه المستلزم لجحود ذاته انتهاءً ولهذا كان السلف والأئمة يصفون هؤلاء بالأمرين بأنهم ممثلون عادلون بالله

وبأنهم معطلون جاحدون لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الذي قاله السلف والأئمة يلزمهم لزوماً لا محيد عنه وقد يظهر هذا تارة وكثيراً ما يظهر الأمران ولا ريب أنهم إنما عدلوا به في هذه المعاني لينفوها عنه ظانين أن هذا تنزيه لله وتقديس لم يقصدوا أن يثبتوا له مثلاً ولكن قدر المثل لينفوه لكن لزمهم التمثيل من وجهين أحدهما أنهم سووا بين الله وبين غيره في هذه المقاييس الشمولية المنطقية وهي الأمثال التي ضربوا له فجعلوه فرداً من أقراد تلك الأمور العامة وحكموا عليه بمثل ما حكموا به على سائر الأفراد حيث قالوا كل ما كان فوق غيره فلابد أن يكون كذا أو كل ما كان كذا فلابد أن يكون كذا وأيضا فإنهم مثلوه بغيره على ذلك التقدير وهو لا يكون مثلاً لغيره لا تحقيقاً ولا تقديراً من التقادير التي يقع فيها شبهة ونزاع على ذلك التقدير فـ علم أن له من الخصوص ما يقطع مماثلته لغيره الوجه الثاني أن هذه المعاني التي ينفونها هي ثابتة في نفس الأمر معلومة بالكتاب والسنة وبالفطرة والعقل وبالقياس أيضاً فإذا مثلوه فيها بالمخلوقات فقد صرحوا بجعل الأنداد

الوجه التاسع: قولك لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة

له الأمثال والأسماء ثم إنهم عطلوا فجحدوا الحقائق التي هي ثابتة للرب وعطلوا ما في الكتاب والسنة والإجماع من بيان ذلك والدلالة عليه وعطلوا ما في القلوب من المعرفة الفطرية والقياسية فصاروا معطلين للحقيقة الخارجية والعلوم الثابتة بالنبوات المعروفة بالقلوب فعطلوا الشرع والعقل جميعاً مع دعواهم العقليات كما عطلوا التوحيد مع دعواهم أنهم هم الموحدون الوجه التاسع أن يقال قد قلت لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو الجهة أكمل من علو الباري ولم تذكر على ذلك حجة إلا قولك لأنه بتقدير أن تحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم أما تلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو فثبت أن تلك الجهة عالية عن العالم لذاتها وثبت أن الحاصل في تلك الجهة يكون عالياً لا لذاته لا تبعاً لكونه حاصلاً في الجهة

الوجه العاشر: الحيز والجهة إن كان عدميا فلا يوصف بعلو ولا سفول

فيقال لك أنت قد قدرت تقديراً أن الباري عن يمين العالم أو عن يساره ولم تذكر دليلاً على امتناع ذلك في الجهة وكل واحدة من هاتين الدعوتين ممنوعة فلا نسلم لك إمكان هذا التقدير في حق الباري ولا امتناعه في الجهة أو لا أسلم لك مجموع إمكان هذا وامتناع هذا بل قد يشتركان في الإمكان أو الامتناع فهذا المنع له ثلاث موجبات أحدها إمكانهما جميعاً والثاني امتناعهما جميعاً والثالث إمكان تيامن الجهة وتياسرها وامتناع تيامن الباري وتياسره فلم تذكر حجة تنفي واحداً من هذه الوجوه ونحن نذكر توجيه هذه الأجوبة فنقول الوجه العاشر أن الجهة والحيز إما أن تكون وجودية أو عدمية فإن كانت عدمية لم يجز أن توصف بعلو على العالم ولا سفول ولا يقال إن علو الباري تبع لها ولا أنه محتاج إليها ولا شيء من هذه الأمور فبطلت الحجة وإن كان الحيز والجهة أمراً وجوديًّا فمن المعلوم أنه إذا قدر تيامن الرب وتياسره فتقدير تيامن ذلك الشيء الموجود المسمى بالحيز والجهة أولى بالتيامن والتياسر فإن ذلك إن كان من صفات الرب الداخلة في مسمى اسمه فهي تبع له وإن كان

شيئاً منفصلاً كالعماء أو العرش أو ما يقدر فإن تقدير التحول على هذا أولى من تقديره على الله فإن انتقال هذا وتحوله أولى بالجواز من انتقال الله تعالى وتحوله ولهذا لم ينازع في هذا المسلمون الذين ينازعون في جواز الحركة والانتقال على الله بل يجوزون ذلك على العرش وغيره وينازعون في جوازه على الله فظهر أن تقدير تيامن الحيز والجهة وتياسره أولى من

الوجه الحادي عشر: أن ما قدره الرازي من حاجة الباري للجهة والحيز ممتنع

تقدير ذلك في الرب وإذا كان كذلك فقوله إنه بتقدير أن يحصل ذات الرب في يمين العالم أو يساره لا يكون موصوفاً بالعلو وتلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرضها خالية عن العلو باطل قطعاً بل إن كانت شيئاً يحتمل الصفات بوصف العلو ويكون في الجهة فإن خلوه عن صفة العلو أولى من خلو الله عن صفة العلو على كل تقدير وإن كان شيئاً لم يحتمل هذه الصفة ولا يكون في جهة فهذا عدم لا يقال فيه إنه عالٍ عن العالم فضلاً عن أن يقال إن علوه لذاته وعلو الباري تبع له الوجه الحادي عشر أن كثيراً من المسلمين من الصفاتية الذين يقولون إن الرب فوق العالم وفوق العرش يقولون إنه لا يجوز عليه الحركة والانتقال ولا يتصور أن يتيامن أو يتياسر فضلاً عن أن يكون خالياً عن صفة العلو فيكون ما قدرته في حق الباري ممتنعاً بل أصحابك الذين يقولون إنه فوق العرش يقولون بذلك وإذا كان هذا التقدير ممتنعاً عندهم

كان أدنى أحواله أن يكون كما ادعيته من علو الجهة أنها عالية لذاتها لا يمكن فرضها خالية عن هذا العلو فكيف وقد تقدم بيان أن الأمر ليس كذلك وإذا كان على أسوأ التقديرين يكون كل منهما مما يمنع زواله فيكون علو كل منهما لذاته فلا يكون علو الجهة أكمل من علو الله ولا يكون مستكملاً بها بل إن امتنع عليه الحركة والزوال امتنع تحوله عن العلو فإذا كنت في هذا المقام لو أشركت بالله فجعلت الجهة له عدلاً وشبهاً في مشاركتها له في العلو الذاتي لكان هذا الإشراك خيراً من أن يفضل علو الجهة على علوه ويجعل علوها بنفسها وعلوه بها يتبين أن الذي قلته أقبح من هذا الشرك ومن جعل الأنداد لله كما أن جحود فرعون الذي وافقتموه على أنه ليس فوق السموات رب العالمين إله موسى جحود لرب العالمين ولأنه في السماء كان أعظم من شرك المشركين الذين كانوا يقرون بذلك ويعبدون معه آلهة آخرى كحصين الخزاعي لما كان مشركاً وأمثاله الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم كم تعبد اليوم

إلهاً قال سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء فلا ريب أن شرك هذا أخف من جحود فرعون مع أن هذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فهو يعتقد أن الإله الذي في السماء أعظم من تلك

الوجه الثاني عشر: أن المسلمين الذين يجوزون على الله النزول والمجيء يوافقون الأولين

الآلهة فأنتم لم ترضوا أن تجعلوا علو الله أكمل من علو غيره ولا جعلتموه مثل علوه بل جعلتم علو الغير أكمل من علوه وهو يحتاج إلى ذلك الغير الذي هو مستغنٍ عنه وكل هذا إفك وبهتان على رب العالمين الوجه الثاني عشر أن المسلمين الذين يجوزون عليه النزول والمجيء والإتيان والحركة قد يوافقون الأولين في أنه لا يكون إلا عالياً حتى يقولوا إنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه العرش ويقولون وصفه بهذه الصفات لا ينافي علوه فهؤلاء أيضاً يوجبون له العلو ويقولون إنه عالٍ بذاته ويمتنع أن يكون غير عالٍ وإن جوزوا عليه الحركة والانتقال وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لا نسلم إمكان خروج الله عن صفة العلو

الوجه الثالث عشر: الجهة التي توصف بالعلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن العلو

بوجه من الوجوه حتى يقدر له تيامن أو تياسر يخرجه عن يكون موصوفاً بالعلو بل هذا ممتنع عندهم فإذا كان كذلك كان قولهم مثل قول إخوانهم المتقدمين في توجيه المنع فيقولون لا نسلم أن علو الجهة يكون أكمل من علوه وأنه محتاج إليها هذا لوكانت الجهة أمراً يمكن وصفه بالعلو بحيث يحتمل أن يكون في ذاته عالياً وإلا فإذا لم يكن كذلك بطل أصل الكلام الوجه الثالث عشر أن يقال هب أنه سلم لك أنه قد يتيامن أو يتياسر بحيث لا يكون موصوفاً بالعلو لكن لا يسلم أن الجهة التي توصف بالعلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن العلو فإن الذي يحتمل صفة العلو لا يكون إلا موجوداً إذا المعدوم لا يحتمل الصفات ولا يقال إنه في جهة العلو ولا في جهة السفل ولا في شيء من الجهات وإذا كان موجوداً كان تقدير خروجه عن صفة العلو أولى من تقدير كون الله ليس موصوفاً بالعلو على كل وجه من الوجوه فإن التحول والانتقال وجوازه على المخلوق أولى من جوازه على الخالق الوجه الرابع عشر أن كونه موصوفاً بعلو ذاته على العالم إما أن يكون واجباً له أو لا يكون فإن كان واجباً له فأنتم معاشر الجهمية من أعظم الناس سلباً لهذا الواجب عنه

وتقولون إن علوه إنما هو بالقدرة فقط فإن الذي يقول إنه تارة يكون عالياً بذاته على العالم وتارة يكون غير عالٍ بل إما متيامناً متياسراً أو غير ذلك مع كونه عالياً بالقدرة التي أثبتموها في الحالين هو أعظم وصفاً لله بصفة الكمال منكم حيث أثبت له العلو الذي أثبتموه وزاد عليكم بأن أثبت له من العلو الذي هو كمال ما لم تثبتوه أنتم ثم هو مع هذا إذا وصفه وزاد عليكم بأن أثبت له من الذي هو كمال ما لم تثبتوه أنتم ثم هو مع هذا إذا وصفه بما يقتضي أن يكون علو الجهة أكمل منه مثل تجويز عدم العلو عليه بعض الأوقات هو أحسن حالاً منكم فليس لكم أن تبطلوا قوله بتصحيح قولكم فإن كان علو ذاته على العالم ليس بصفة الكمال لم يصح أن يقال علو الجهة أكمل من علوه لأن التفضيل في الكمال يقتضي الاشتراك

الوجه الخامس عشر: القول بأنه متيامن أو متياسر أو حتى تحت العرش لم يخرج عن صفة العلو عندكم

فيه فإذا كان كل واحد من علو ذاته على العالم ومن علو الجهة على العالم ليس هو صفة كمال لم يكن أحدهما أكمل من الآخر فبطلت هذه الحجة وظهر أن هذه الحجة باطلة على التقديرين ولله الحمد الوجه الخامس عشر أن يقال أنتم تقولون ليس علوه إلا علو القدرة فإذا قدر أنه جعل نفسه متيامناً عن العالم أو متياسراً بل جعل نفسه في غمام بل جعل نفسه تحت العرش ونحو ذلك مما فيه علو شيء فوقه مع كونه مقتدراً على ذلك وعلى كل شيء ومقتدراً على تغيير كل شيء وتحويله وجعل العالي سافلاً وجعل السافل عالياً لم يخرج بذلك عما يستحقه من صفة العلو عندكم وخروجه عن العلو بالجهة لا ينافي الكمال عندكم فلا يكون في ذلك نقص بحال حتى يكون مستكملاً وغير مستكمل ولو قيل إنه في الجهة أو قيل إنه واجب أن يكون في الجهة أو واجب أن يكون متحيزاً فإن الذي قد يقول هذا قد لا يقول إن ذلك صفة كمال بل هو جائز عليه كما يجوز ما يجوز من أفعاله وكما تجوز رؤيته وذلك ليس بنقص فأنتم موافقون على أن كونه غير عالٍ بالجهة ليس بصفة نقص فالذي يقول إنه عال إذا قال لكم سواء في حقه علا على العالم أو لم يعل وسواء كان في الجهة أو لم يكن هو في

الوجه السادس عشر: إذا فرض أن علو الجهة أكمل فانتم تقولون إن العلو بالقدرة أكمل منه

الحالين غير موصوف بصفة نقص بل هو موصوف بالقدرة على هذا كله فإن هذا القائل أثبت له من صفة القدرة التي هي العلو عندكم أعظم مما أثبتموه ولم يثبت له نقصاً بحال وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون علوه بالجهة لا كمالاً ولا نقصاً إذا كانت قدرته كاملة على التقديرين وهو العلو عندكم وإذا كان كذلك لم يكن ما هو أعلى منه لو كان موجوداً أكمل منه ولم يكن هو مستكملاً بذلك الغير لأن ذلك فرع كون ذلك كمالاً وهذا قد وافقتموه على أنه ليس بكمال وهو قد وافقكم على ما هو كمال وأثبته أكمل مما أثبتموه فلا يلزم من قال إنه على العرش أن يكون غيره أكمل منه ولا أنه مستكمل بغيره الوجه السادس عشر أن يقال هب أن العلو بالجهة كمال فأنتم تقولون إن العلو بالقدرة أكمل منه فإذا وافقكم موافق على هذا وقال علو القدرة أكمل من علو بالجهة وكل شيء موجود سواء كان حيزاً أو جهة أو شيئاً غير ذلك فإن الله قادر عليه مدبر له قاهر له فإذا قدر أنه تيامن أو تياسر أو نزل حتى يجعل شيئاً أعلى منه بالجهة فهو أعلى من ذلك الشيء بالقدرة والربوبية والتدبير وهو الذي جعله في تلك الجهة بمشيئته واختياره وذلك الشيء مفتقر إلى الله عز وجل والله غني عنه وإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون أكمل من الله في العلو ولا أن يكون الرب مستكملاً به وأن الرب خرج عن صفة العلو

مع لزومها لذلك بل الرب موصوف بالعلو الحقيقي عندكم على ذلك والقهر له والتدبير وذلك موصوف بأنه تحت حكم الله وأمره فإذا شاء الرب أن يرفع جهته مع كونه مدبراً له لم يلزم أن يكون هذا نقصاً على الأصول التي سلمتموها كما يضربون به المثل فيقولون إن الملك هو أعلى من رعيته وإذا كان مكان بعض رعيته فوق مكانه ولهذا يقال لمجلسه المجلس العالي والسامي وإن كان مجالس بعض رعيته أعلى حيزاً منه فإذا كان الأمر كذلك فقولك لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري أتريد به أن علوه ليس إلا بالجهة فقط ليس هو قادراً على العالم مدبراً له أم تريد أن علوه بالجهة مع ما له من العلو بالقدرة فإن أردت الأولى فهو أعظم الكفر وأبطل الباطل ولا يقوله مسلم ولا عاقل يقر بالصانع بل المؤمنون متفقون على أن الله قادر على العالم وليس العالم قادراً عليه فإذا ضموا إلى ذلك أنه عال بالجهة والحيز وفرض أن من العالم ما علا عليه بعض الأعيان بالجهة فقط بل لو علا عليه دائماً بالجهة فقط مع علو الرب عليه بالقدرة لكان علو الرب أكمل من علو ذلك فكيف إذا كان الرب هو الذي دبره وهو الذي علاه

الوجه السابع عشر: قولك إن البارئ ناقص مستكمل بغيره يصح إذا كان الحيز والجهة غيرا له

وبمشيئته وأمره يكون جميع شئونه الوجه السابع عشر قولك يلزم أن يكون الباري ناقصاً بذاته مستكملا بغيره إنما يصح إذا كان الحيز والجهة غيراً له وذلك إنما يصح لو كان الحيز والجهة أمراً منفصلاً عنه فأما إذا كان الحيز هو حده ونهايته فالجهة كونه بحيث يشار إليه لم يكن هناك غيراً له عند الصفاتية الذين يقولون ليست صفاته غيره ومن سمى هذا غيراً كان قوله مستكملاً بغيره كقوله مستكملاً بعلمه وقدرته وحياته وذلك مثل قوله مستكملاً بنفسه وهذا ليس بممتنع بل هو واجب كالكلام في كماله كالكلام في وجوده وقد تقدم الكلام في قول القائل هو واجب بنفسه وما يدخل في ذلك من صفاته وأنه لا يكون موجوداً إلا بما تستحقه ذاته من صفاته بل لا يكون موجود قط إلا كذلك ففرض عدم ذلك جحد لجميع الموجودات وتكلمنا على لفظ الغير والحيز والافتقار ونحو ذلك وكذلك القول في

الوجه الثامن عشر: ليس في الوجود شيء غني عن الله

قول القائل هو مستكمل بغيره إذا فسر ذلك الغير بما هو من صفاته اللازمة لم يكن ذلك ضارًّا بل أمر واجب فإن الكمال لا يكون بأمور وجودية لا يكون بالأمور العدمية وهو سبحانه كامل بتلك الأمور الوجودية التي حقيقته وذاته عليها الوجه الثامن عشر أن ذلك الغير الذي جعلته مستكملاً به أو غير غني عن الله أم غير مفتقر إلى الله إن قلت إنه غني عن الله فليس في الوجود شيء غني عن الله بل جميع الكائنات مفتقرة إليه وإن قلت بل هو المفتقر إلى الله كان معنى قولك إنه يكون مستكملاً بما هو مفتقر إليه والأمر المفتقر إليه إما أن يكون من لوازم ذاته وإما أن يكون كائناً بمشيئته واختياره فيعود الأمر إلى أنه مستكمل بذاته ومشيئته التي هي من لوازم ذاته فيكون ذلك الاستكمال بذاته كما تقدم وحينئذ فلا يصح قولك ناقص لذاته ومستكمل بغيره لأن ذاته مستلزمة لذلك الكمال فلا يتصور نقصها الوجه التاسع عشر أنك زعمت في نهايتك أن امتناع النقص على الله لم يعلم بالعقل وإنما ثبت امتناع النقص عليه إذا أثبته بالإجماع وقد تقدم بعض حكاية ألفاظه في ذلك وقال في مسألة السمع والبصر لما احتج أصحابه بأن ضد ذلك

نقص وقال في الأسولة على الحجة ولئن سلمنا أن ضد السمع والبصر نقص فلما قلتم إن النقص على الله محال قال واعلم أن أجود ما قيل في بيان هذه المقدمة بالإجماع وعلى هذا تصير الدلالة السمعية لأن الذي يدل على كون الإجماع حجة إما الآيات وإما الأخبار وإذا كان الأمر كذلك كان المستمسك في الابتداء بالآيات الدالة على كونه سميعاً بصيراً أولى من ذكر هذه الطريقة الطويلة والإجماع لم ينعقد على أمور معينة بل كل مسلم ينزه الله عما يعتقده نقصاً وإذا كان هذا فالجهة فيها نزاع عظيم بين الناس وأكثر المسلمين بل أكثر العالمين بل سلف الأمة وأئمتها يقولون بأن الله تعالى فوق العالم وعلى العرش فإن كان هذا نقصاً لم يكن قد انعقد الإجماع على نفيه وأنت قد زعمت أن العقل ينفي عنه النقص فلا يكون معك حجة على نفي هذا الذي سميته نقصاً لا من عقل ولا من سمع ولا يصح قولك وذلك محال هذا لو كان هذا الذي سميته نقصاً مستمراً

فكيف إذا كان فيه استكمال بالغير فإنه من المعلوم أن الناقص المستكمل بغيره خير من الناقص الذي ليس مستكملاً لا بنفسه ولا بغيره وبهذا الوجه وأمثاله يتبين أن هؤلاء الجهمية مع ما هم عليه من التعطيل الذي زخرفوه بثوب التنزيه فإنهم لا ينزهون الله تعالى عما يجب تنزيهه عنه من النقايص والعيوب بل يصفونه بالفقر والحاجة وبغير ذلك من الصفات كما بيناه في غير هذا الموضع ويعترف أئمة كلامهم أن العقل لا يقتضي تنزيه الله عن النقص وإنما يأخذون مقدمات سلمها لهم المسلِّمون فيحتجون بها على المسلِّمين في إبطال دينهم وهذا شأن المنافقين الذين يجادلون بكتاب الله تعالى كما في الحديث موقوفا على عمر ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق بالقرآن والأئمة المضلين وكما في حديث عبد الملك بن عمير عن ابن أبي ليلى

عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنة زلة العالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تفتح عليكم ورواه أن أبي حاتم والنجاد وغيرهما من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث زلة عالم وجدال منافق

بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فاتهموها على أنفسكم وهذا مشهور من حديث كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قيل وما هي يا رسول الله قال زلة العالم وحكم جائر وهوى متبع وروي من حابر وحديث الأئمة والمضلين محفوظ وأصله في الصحيح فروى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أخوف ما أخاف على أمتي بعدي الأئمة المضلون

ويروى من حديث أبي الدرداء وشداد ابن أوس وأما اللفظ الذي ذكرناه فهو محفوظ عن عمر بن الخطاب من حديث ابن المبارك ووكيع وغيرهما عن مالك بن

مِغوَل سمعت أبا حصين يذكر عن زياد بن حدير قال قال عمر بن الخطاب يهدم الإسلام زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وفي مسند الإمام أحمد ثنا يزيد بن هارون ثنا ديلم بن غزوانا لعبدي ثنا ميمون

الكردي عن أبي عثمان النهدي قال إني لجالس تحت منبر عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال في خطبته سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان وفي رواية أخرى يتكلم

بالحكمة ويعمل بالفجور ورواه من حديث مالك بن دينار عن ميمون ولفظه حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافق عليم ورووا عن عمر بن الخطاب أنه قال أخوف ما أخاف على هذه الأمة الذين يتأولون القرآن على غير تأويله

ومن المشهور عن عمر أنه قال إذا جادلكم أهل البدع بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أهل السنن أعلم بكتاب الله تعالى منهم فإن المنافق لا يعتقد وجوب اتباع الكتاب والسنة واتباع الإجماع إذ ليس في باطن الأمر متدين باتباع النص والإجماع بل يأخذ من النص والإجماع ما يحتج به

على المؤمنين في تنفيق نفاقه وترويج غشه وتلبيسه وإذا كان كذلك فما يرفع الله به الدرجات كما رفع درجات إبراهيم ويوسف عليهما السلام أن يحتج عليهم بالحجج الدافعة لهم وأن يكيدوا كيداً حسناً لدفع كيدهم وعدوانهم على الإيمان وأهله فلا يمكنون من القدح في الإيمان بما يسلمه لهم المؤمنون بل إذا عارضوا ما يقوله المؤمنون من الحق بحجج يسلم لهم المؤمنون بعض مقدماتها بين لهم أن تلك الحجج عليهم لا لهم أو أنها على فساد قولهم وفعلهم أدل منها على ما عارضوه من الحق بل لو كان المتنازعان مبطلين كأهل الكتاب والمشركين إذا تجادلوا أو تقاتلوا كان المشروع نصر أهل الكتاب على المشركين بالقدر الذي يوافقهم عليه المؤمنون إذا لم يكن في ذلك مفسدة تقاوم هذه المصلحة فإن ذلك من الحق الذي يفرح به المؤمنون كما قال تعالى الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5} [الروم 1-5] فإنها نزلت كما استفاض في التفسير والمغازي والحديث في اقتتال الروم النصارى والفرس

المجوس كانت المجوس قد غلبت النصارى على أرض الشام وغيرها فغلبت الروم وفرح بذلك مشركو قريش لأن المجوس إليهم أقرب من النصارى لأن كليهما لا كتاب له واغتم لذلك المؤمنون لأن النصارى إليهم أقرب لأنهم أهل كتاب فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره لنبي صلى الله عليه وسلم أن الروم سوف تغلب فارس بعد ذلك في بضع سنين وخاطرهم أبو بكر على هذا قبل تحريم ذلك وظهرت الروم على فارس بعد ذلك فهؤلاء الجهمية قد سلم لهم المؤمنون أن الله غني عن كل ما سواه فإنه سبحانه مقدس عن كلا نقص وأنه أحد لا مثل له والجهمية في الحقيقة لا يعتقدون فيه هذا المعنى ولا هذا التنزيه ولا هذه الوحدانية بل يثبتون له أمثالاً ويصفونه بالحاجة وما تستلزم الحاجة ولا ينزهونه عن النقائص والعيوب وقد يصرحون بذلك تارة وتارة بأنه ليس على ذلك دليل عقلي فالاتحادية منهم كصاحب

الفصوص وغيره يصرحون بأنه موصوف بكل ما يوصف به كل موجود من عيب ونقص وغير ذلك وهؤلاء المتكلمون منهم كالرازي يصرحون بأن العقل لا ينفي عنه النقائص وبذلك يظهر أن تسميته لما عطله من الصفات تقديساً كتسمية

الملاحدة تعطيلهم تقديساً وقد علموا أن المسلمين يقولون إنه منزه عن النقص فأخذوا هذا اللفظ يجحدون به ما يستحق من صفات الحمد زاعمين أن ذلك نقص كما زعم أن علوه على العرش نقص أو مستلزم للنقص كما زعم أنه مستلزم للحاجة وأنه مستلزم لعدم الوحدانية فتبين لهم صورة الحال وهو أن هذه الأمور التي يوافق المسلمون على نفيها وإن كنتم لا تقيمون على نفيها حجة عقلية هي على فساد قولكم أدل منها على فساد قول من ينازعكم من أهل الإثبات وإن كان مخطئاً في بعض ما يقوله إذا كان خطؤه أقل من خطئكم وهو مع ضلاله عن بعض الهدى أقرب إليه منكم وإذا كان الأمر كذلك قيل لك أولاً فهؤلاءالذين يزعمون أنهم ينفون عن الله النقص بكونه على العرش قد بينا أنهم يصفونه بالنقص إما تصريحاً وإما لزوماً ويصرحون بأن العقل لا ينفي النقص عن الله كانوا لم ينفوا ذلك إلا بالإجماع فلم يجمع المسلمون على قولهم فلا يكون معهم حجة على نفي كونه على العرش لو كان فيه ما زعموه من النقص

والاستكمال بالغير فكيف والنقص إنما هو لازم على قولهم كما قد بين ذلك غير مرة وقيل لك ثانياً هب أن هذا متناقض لكن إذا كانوا قد جمعوا في قولهم من إثبات كونه على العرش وبين نفي كونه جسماً فإما أن يكون إثبات هذا ونفي هذا متناقضاً أو لا يكون فإن لم يكن متناقضاً صح قولهم وبطل قولك في نفي الجهة فإذا كان هذا متناقضاً لم يكن إلزامهم لوازم أحد النقيضين بأولى من إلزامهم النقيض الآخر فإن حقيقة هذا عند من يقول إنهم تناقضوا أنهم قد قالوا هو فوق العرش ليس فوق العرش وهو جسم وهو ليس بجسم ومثل هذا إما أن يجعل لهم قولين فيكون لهم قول بأنه فوق العرش ولوازمه وهو أنه جسم وقول بأنه ليس بجسم ولوازمه وهو أنه ليس فوق العرش أو يذكر قولهم المتناقض على جهته ولا يلزمون لوازم النفي دون لوازم الإثبات ولا لوازم الإثبات دون لوازم

النفي بل يثبت اللازم كما أثبت الملزوم وإن قيل إن فيها تناقضاً وإذا كان كذلك لم يجز أن يلزموا بلوازم نفي الجسم المستلزمة نفي لوازم كونه على العرش فلا يلزموا بأن يكون متحيزاً أو غير متحيز فإن ذلك لا يلزمهم ما داموا جامعين بين النفي والإثبات وهذا بين ولهذا لا يزال هؤلاء وأمثالهم يميلون إلى النفاة من وجه وإلى المثبتة من وجه وقيل لك ثالثاً هب أن هؤلاء متناقضون في إثبات موجود ليس بجسم فوق العالم فقولك بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تناقضاً فإن قولك موجود يقضي ثبوت أحد الأمرين فإذا نفيتهما فقد نفيت لازم الوجود المعلوم بالفطرة الضرورية لاسيما وقد علم بالضرورة الفطرية أن الله فوق العالم وأن ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه فإنه لا يكون إلا معدوماً وقالوا لك رابعاً لا نسلم أن هذا تناقض بل قد علمناه بالضرورة الفطرية والضرورة الدينية والأدلة السمعية والعقلية أنه فوق العرش وعلمنا بما وافقتنا عليه من الأدلة العقلية وما

تذكر في موافقتنا من الأدلة الشرعية أنه ليس بجسم وموجب الأدلة الصحيحة لا تتناقض وإذا لم تتناقض فإذا قدرنا فوق العالم ما ليس بجسم لم يمكن أن يكون في حيز كما تكون الأجسام وحينئذ ما تذكره من اللوازم في هذه الحجة وفي نظائرها من الحجج مثل لزوم كونه منقسماً أو جوهراً فرداً وكونه في حيز أو أكثر من حيز ممنوعة

فصل: حجة أخرى للرازي على نفي الجهة

فصل وقد ذكر في نهايته على نفي الجهة حجة أخرى فنذكرها وإن كانت موادها داخلة فيما ذكرناه ليكمل ما ذكره في ذلك فقال المسألة الثانية في أنه ليس في الجهة قال وقبل الخوض في الاستدلال لابد من البحث عما لا يكون جسماً هل يعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة ونفى الجسمية أنّا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله

ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات على سبيل التبعية فقد سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات ومتى ثبت ذلك ثبت أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسماً نفي اختصاصه بالجهة والحيز وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الجهة والحيز يقال هذا الذي ذكره يمكن الجواب عنه بأن يقال لا يحصل في الجهة إلا الحيز أو ما قام به أو يقال لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال إلا الجسم أو لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال أو التبعية إلا الجسم أو ما قام به وأي هذه

العبارات قيل لم يكن ما ذكره دليلاً على إمكان أن يكون في الجهة قائم بنفسه غير الجسم ونحن نذكر حجته قال فنقول الباري تعالى لو كان حصوله في جهة لكان إما أن يكون في أكثر من حيز واحد أو لا يكون إلا في حيز واحد والأول باطل لأن الحاصل في أحد الحيزين إما أن يكون هو الحاصل في الحيز الثاني أو غيره والأول باطل وإلا لكان الشيء الواحد حاصلاً دفعة واحدة في حيزين وهو محال ولو عقل ذلك فليعقل مثله في الجسم حتى يحصل الجسم الواحد دفعة واحدة في حيزين وأنه محال والثاني أيضاً محال أما أولاً فلأنه يلزم منه انقسام ذاته وهو محال على ما مر وأما ثانياً فلأن اختصاص كل جزء منه بحيزه إما أن يكون واجباً أو جائزاً والقسمان باطلان على ما سيأتي وأما إن قيل بأنه في حيز واحد فهو باطل لوجهين الأول بأنه يكون أقل القليل ويتعالى الله عنه والثاني فلأن حصوله في ذلك الحيز إما أن يكون واجباً أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز

لكانت حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز أموراً وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضاً ولو كانت الأحياز أموراً وجودية لكان إما يمكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسماً فيكون الباري الحال فيه منقسماً أو لا يكون منقسماً فيكون ذلك الشيء مختصاً بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية إلى الحيز الذي حصل الباري تعالى فيه وجب استحالة الإشارة الحسية إلى الباري تعالى لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه فإذاً لا يكون الباري في الجهة وهو المطلوب وأما إن لم يكن حصول الباري واجباً فاختصاصه بها لابد وأن يكون لفاعل مختار سواء إن كان بواسطة معنى أو لا بواسطة معنى وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فاختصاص الباري بالحيز محدث فهو إذاً في الأزل ما كان حاصلاً في الحيز والشيء الذي لا يكون كذلك استحال أن يصير محتاجاً إلى الحيز فثبت أن الباري يمتنع

رد المؤلف على حجة الرازي

أن يكون في الأحياز والجهات قال ويمكن أن يعتمد في هذه المسألة أيضاً على أنه لو كان في الجهة لكان منقسماً لأن الجانب الذي منه يلينا غير الجانب الذي لا يلينا وذلك يوجب انقسام ذاته لكنا بينا أن الانقسام عليه تعالى محال فحصوله في الجهة والحيز أيضاً محال قال وهذا الكلام إنما يدفع القول بنفي الجزء الذي لا يتجزأ ولم يذكر في نهايته على نفي الجهة إلا هذا الكلام وقد تقدم ما ذكره على نفي الجسم وهذه الحجة هي مثل الحجة الرابعة التي ذكرها في تأسيسه لكن فيها حشواً وزيادة مستغنى عنها لا حاجة إليها وهؤلاء القوم من أعظم الناس إتياناً بحشو القول الكثير الذي تقل فائدته أو تعلم مضرته كما يروى فيهم عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال أنا ضمين وذمتي

رهينة لا يهيج على التقوى زرع قوم ولا يظمأ على الهدى سنخ أصل وإن أبغض الناس إلى الله تعالى رجل قمش علماً حتى إذا ارتوى من ماء آجن وامتلأ من غير طائل سماه أشباهه من الناس عالماً فإن نزلت به إحدى الشبهات هيأ له حشو الرأي من قيله فلا هو سكت عما

لا يعلم فيسلم ولا تكلم بما يعلم فيغنم تصرخ منه الدماء وتبكي منه الفروج الحرام ومن أحق الناس بهذا هؤلاء المتكلمون في أصول الدين بغير كتاب الله وسنة رسوله ويوقعون بين الأمة العداوة والبغضاء بما لا أصل له حتى قد يكفرون من خالفهم ويبيحون قتلهم وقتالهم كما يفعل أهل الأهواء من الخوارج

والرافضة والجهمية والمعتزلة كما فعله هذا المؤسس في كتابه هذا وأمثاله حيث كفر الذين خالفوه وهم أحق بالإيمان بالله ورسوله منه بدرجات لا تحصى ولا حول ولا قوة إلا بالله ولهذا كان التكفير لمن يخالفهم من أهل السنة والجماعة من شعار المارقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما استفاض عنه من الأحاديث الصحيحة في صفة الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وفي رواية يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل

الأوثان وهؤلاء الذين يدعون الإيمان لأنفسهم دون أهل السنة والجماعة من المسلمين كالخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة لهم نصيب من قوله تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {112} [البقرة 111-112] وبعضهم مع بعض كما قال الله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {113} [البقرة 113] فهم كما قال الإمام أحمد مختلفون في الكتاب مخالفون

للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب قد جمعوا وصفي الاختلاف الذي ذمه الله في كتابه فإنه ذم الذين خالفوا الأنبياء والذين اختلفوا على الأنبياء فآمن كل منهم ببعض وكفر ببعض قال في الأولين جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {253} [البقرة 253] وقال في الثاني قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {176} [البقرة 176] وقال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} [آل عمران 105] وقال إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ [الأنعام 159] وقال وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {119} [هود 118-119] وهؤلاء الجهمية معروفون بمفارقة السنة والجماعة وتكفير من خالفهم واستحلال دمه كما نعت النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج لكن قولهم في الله أقبح من قول الخوارج وإن كان للخوارج من المباينة للجماعة والمقاتلة لهم ما ليس لهم مع أن أهل المقالات ذكروا أن قول الخوارج في الصفات هو قول الجهمية والمعتزلة هذا ذكره الأشعري وغيره من المعتزلة وهذا

الوجوه التي نقض بها المؤلف حجة الرازي

والله أعلم يكون قول من تأخر من الخوارج إلى أن حدث التجهم في أول المائة الثانية وأما الخوارج الذين كانوا في زمن الصحابة وكبار التابعين فأولئك لم يكن قد ظهر في زمنهم التجهم أصلاً ولا عرف في الأمة إذ ذاك من كان ينكر الصفات أو ينكر أن يكون على العرش أو يقول إن القرآن مخلوق أو ينكر رؤية الله تعالى ونحو ذلك مما ابتدعته الجهمية من هذه الأمة وقد تكلمنا على هذه الحجة في غير هذا الموضع بما فيه كفاية ونذكر ما يليق بهذا الموضع وذلك من وجوه أحدها أن قوله لو كان حصوله في جهة لكان إما أن يكون في أكثر من حيز واحد أو لا يكون إلا في حيز واحد

يقال له أما الذين يقولون إنه فوق العرش وليس بجسم وهو أئمة أصحابك والكلابية وطوائف كثيرة من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وقد ذكر الأشعري أنه قول أهل السنة وأصحاب الحديث فيمنعون التلازم ويقولون لا نسلم أنه إذا كان في جهة بمعنى أنه نفسه فوق العرش لكان إما أن يكون في حيز واحد أو في أكثر من حيز فإن هذا التلازم إنما فيما إذا كان الذي فوق العالم جسماً أما إذا وافقتمونا على أنه ليس بجسم فإن التقدير يكون إذا كان فوق العالم ما ليس بجسم أو إذا كان في الجهة ما ليس بجسم فإنه إما أن يكون في حيز واحد أو أكثر ومعلوم أن ما ليس بجسم لا يكون في الحيز الاصطلاحي لا في واحد ولا في أكثر وهذا ظاهر واضح فإن قلت هذا متناقض فإنه إذا كان فوق العالم أو في الجهة وجب أن يكون جسماً قيل لك أولاً قد صدرت الكلام في هذه المسألة بأنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسماً نفي اختصاصه بالحيز وإذا سلمت لهم لم يكن لك أن تنازعهم فيه فإن هذا رأس المسألة فيكون التقدير باتفاق منك ومنهم أن

ما ليس بجسم إذا كان في الجهة بمعنى أنه يكون فوق العالم هل يكون في حيز واحد أو في حيزين يعني الحيز الاصطلاحي وهم يقولون إنه لا يكون في الحيز الاصطلاحي مع كونه فوق العالم ومع كونه في الجهة وهي جهة العلو الوجه الثاني أن يقال قولك في حيز واحد أو في أكثر من حيز يقتضي تعدد الأحياز وذلك ممنوع فإن الأحياز إما أن تكون وجودية أو عدمية وهي ليست وجودية كما قررته في هذه الحجة وفي غيرها وإذا كانت عدمية فالعدم المحض لا يتعدد ولا يقال فيه إما أن يكون واحداً أو اثنين فامتنع أن يقال إما أن يكون في حيز واحد أو في حيزين ويتقوى هذا بالوجه الثالث وهو أن الحيز إما أن يكون وجودياً أو عدمياً فإن كان وجودياً جاز اختصاصه بأمر وجودي على سبيل الوجوب كاختصاصه بصفاته الواجبة له

الوجودية وحينئذ فيبطل ما ذكره في الحجة من امتناع كونه في الحيز واجباً أو جائزاً وإن كان الحيز عدمياً لم يصح أن يقال إما أن يكون في حيز واحد أو في حيزين وهذا يقتضي بطلان أحد طريقيه اللذين ذكرهما في هذه الحجة أحدهما إما أن يكون في حيز أو حيزين والثاني امتناع كونه واجباً أو جائزاً يوضح هذا الوجه الرابع وهو أن أحياز المتحيز الوجودية اللازمة له هي حدوده ونهايته والعدمية هي ما يقال إنه تقدير المكان فإن أراد بالحيز الأمر الوجودي منعت الحجة التي منع فيها أن يكون له حيز واجب وإن أراد به الأمر العدمي منع انقسامه إلى واحد وكثير فإن قيل الحيز العدمي الذي هو تقدير المكان يتحدد ويتعدد باتحاد الحال وتعدده فإذا كان الحال فيه جوهراً واحداً كان واحدا وإن كان جواهر متعددة كان متعدداً قيل الجواب عن هذا هو الوجه الخامس وهو أن هذه المسألة قد صدّرها بالكلام في الحيز مع من يقول إنه ليس بجسم ومع هذا فإنه يكون مختصاً بالجهة وقد قال هو لما ذكر الحجة إذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسماً نفي اختصاصه بالجهة والحيز

وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون الحيز مستلزماً لكون الحال فيه جسماً أو جوهراً فرداً أو لا يستلزم ذلك فإن كان الحيز مستلزماً لذلك لم يكن المختص بالحيز إلا جسماً أو جوهراً فرداً وحينئذ فيلزم من نفي كونه جسماً وكونه جوهراً فرداً أن لا يكون متحيزاً كما قد بفعله المؤسس وغيره أحياناً وهو خلاف الفرض فإن الفرض نفي الحيز والجهة بدون البناء على نفي الجسمية خلافاً لمن يقول ليس بجسم ولكنه في الحيز والجهة فإذا كان هذا الدليل لا يتم إلا بنفي الجسمية بطل هذا الدليل من أصله ومتى كان الحيز مستلزماً للجسم أو للجوهر الفرد لزم من نفي اللازم وهو الجسم والجوهر الفرد نفي الملزوم وهو الحيز وإن كان الحيز ليس مستلزماً للجسم والجوهر الفرد لم يلزم أن يكون الحال فيه جسماً ولا جوهراً فرداً وحينئذ فلا يلزم أن يقال ينقسم بانقسام الحال فيه إن كان جوهراً فرداً كان الحيز واحداً وإن كان جسماً كان أو أكثر من واحد فإن الحال فيه على هذا التقدير لا يكون جسماً ولا جوهراً فرداً وإن كان كذلك ظهر أن تقسيمه الحيز إلى واحد أكثر من واحد غير لازم على هذا التقدير ولا يصح الدليل على التقدير الأول وذلك يظهر بطلانه على التقديرين الوجه السادس أن يقال هب أنه لم يسلم أن الحيز مستلزم لكون الحال فيه جسماً ولم يسلم أن نفي الجسم لا يستلزم نفي

الحيز لكن يقال انقسام الحيز إلى واحد أو أكثر من واحد إما أن لا يعلم إلا بأن يعلم أن محله جسم أو جوهر أو يعلم قبل العلم بحاله محله فإن لم يعلم اتحاده وتعدده إلا بالحال فيه لم يلزم إذا قيل إن الله في حيز أن يكون الحيز منقسماً إلى واحد وعدد حتى يثبت أنه يجب أن يكون الله جسماً أو جوهراً فرداً فيكون العلم بانقسام الحيز إلى واحد وعدد متوقفاً على العلم بأن الباري تعالى يجب أن يكون على هذا التقدير جسما أو جوهراً فرداً وهو لم يبين ذلك وإذا تبين ذلك كان نفي الجسم كافياً له في نفي كونه متحيزاً فلم يحتج حينئذ إلى تقسيم الحيز إلى واحد أو أكثر من ذلك فظهر أن هذا الذي ذكره لم يذكر عليه حجة ولو ذكر عليه حجة لم يحتج إلى ذكره وعلى التقديرين فلا يصلح ذكره لا مع الحجة ولا بدون الحجة على هذا التقدير وإن كان العلم بانقسامه إلى واحد أو عدد يعلم بدون أن يعلم أن محله جوهر أو جسم فليذكر ذلك أو لم يذكره فيتوجه المنع ثم إنه لا يصلح أن تحتج على ذلك إلا بكون الحيز ينقسم بانقسام الحال فيه والحال فيه لا يكون إلا جوهراً أو جسماً لأن التقدير أن انقسامه لا يتوقف العلم به على هذه الحجة الوجه السابع أن يقال وصف الشيء بأنه واحد وبأنه أكثر من واحد إما أن يستلزم كونه موجوداً أو لا يستلزم كونه موجوداً فإن استلزم كونه موجوداً لزم من هذا التقسيم أن يكون وجودياً وأنت قد ذكرت في تمام الحجة أنه ليس بوجودي وإن كان الوصف بأن وجودي وإن كان الوصف بأنه واحد وبأكثر من

واحد لا يستلزم أنه موجود بطل ما ذكره فيما تقدم حكايته عنه من أن الجسم منقسم ليس بواحد فإنه بنى ذلك على أن الوحدة صفة قائمة بالجسم قال والعرض لا يحدث في المحل ولا يحصل فيه إلا إذا كان المحل متعيناً متميزاً عن غيره فإنه إذا ثبت أن كون الموصوف واحداً أو أكثر لا يستلزم ان يكون موجوداً لم يلزم أن تكون الوحدة والكثرة صفة وجودية فإن المعدوم لا يوصف بالصفة الوجودية فإذا لم يجب أن تكون الوحدة وجودية لم يجب أن تقوم بالجسم ولا أن يكون عرضاً فلا يمتنع أن يكون الجسم واحداً وإذا كان الجسم واحداً مع عظمته ولم يكن فيه كثرة وجودية لم يصح أن يستدل بحلوله في الحيز على انقسام الحيز وتعدده وحينئذ فإذا لم يلزم من حلول الجسم في الحيز أن يكون الحيز متعدداً منقسماً في نفسه لم يلزم من حلول الرب في الحيز أن يكون منقسماً وجاز حلوله في الحيز الذي لا يقال إنه أكثر من واحد ولا يكون أقل القليل ولا يكون جوهراً فردًا وبالجملة فإذا لم يكن الجسم مشتملاً على كثرة مع كونه في الحيز فالباري أولى أن يكون كذلك وحيزه أولى بذلك وهو يبطل ما ذكره الوجه الثامن أن يقال الحيز في نفسه ليس إلا واحداً

وليس هو في نفسه منقسماً ولا متكثراً وإذا كان كذلك لم يصح أن يكون الحال فيه إما أن يحل في حيز واحد أو في أحياز متعددة فإن هذا مقتضى أن الحيز فيه كثرة وهذا ممنوع وتوجيه ذلك أن الناس قد تنازعوا في الجسم هل هو واحد في نفسه أو هو متكثر فيه انقسامات حاصلة على قول كما تقدم حكايته وتقدم أن المؤسس لم يذكر على انقسامه وعدمه وحدته حجة وإذا كان الأمر كذلك مع أن الجسم يقبل الانقسام بلا نزاع فالحيز الذي لا يعقل فيه وجود الانقسام أولى أن لا يكون فيه كثرة ولا انقسام وهذا ظاهر بل يقال في الوجه التاسع إن انقسام الحيز في نفسه قبل حلول شيء فيه ممتنع قطعاً سواء قيل إن الجسم واحد أو منقسم في نفسه وذلك لأن الحيز هنا ليس المراد به شيئاً موجوداً كما قد قرره وإنما هو تقدير المكان وهذا هو مسمى الحيز في اصطلاح كثير من المتكلمين وإذا كان كذلك فمن الممتنع أن يتميز بعضه عن بعض قبل حلول ما يتقد ربه وهذا معلوم بالحس والضرورة العقلية ولا يقول قائل إن ذلك يتميز بالإشارة فإن الإشارة إلى العدم محال وإنما يشار إلى موجود وإذا كان الحيز لا يتعدد ولا ينقسم قبل حلول الحال

فيه كان تعدده تابعاً لتعدد الحال فيه فإن لم يثبت كون الحال فيه جسماً منقسماً لم يكن منقسماً وإذا كان المنازع له يقول إن الحال فيه ليس هو جسماً أو هو جسم وليس بمنقسم في نفسه بطل انقسام الحيز ومن المعلوم أن القائلين بأنه متحيز يقولون هذا تارة وهذا تارة كما تقدم ذكر ذلك عنهم ومن قال إنه منقسم بمعنى يتميز بعضه عن بعض فجوابهم ما يقال في الوجه العاشر أن يقال الحيز الواحد هو ما يحل فيه الجوهر الفرد كما فسرته فيما بعد فإن الحال فيه يكون أقل القليل ويتعالى الله عن ذلك وإذا كان كذلك كان ثبوته مبنياً على ثبوت الجوهر الفرد وأنت قد اعترفت أنك وأذكياء الطوائف متوقفون فيه لتعارض الأدلة فيه وإذا لم يعلم ثبوت الجوهرالفرد لم يعلم ثبوت حيز واحد بهذا الصغر وإذا لم يعلم ذلك بطل العلم بأن الحيز إما واحداً بهذا التفسير وإما أكثر من واحد

الوجه الحادي عشر أن يقال لك ما مرادك بالحيز الواحد وبأي شيء يتميز الحيز الواحد عما هو أكثر منه فإن أردت به ما يحله الجوهر الفرد لم يثبت توحد الحيز حتى يثبت الجوهر الفرد ويثبت حلوله فيه ومن المعلوم أن الجوهر الفرد لو كان ثابتاً في نفس الأمر فليس هو مما يحس به حتى يعلم حلوله في الحيز أو عدم حلوله بل أكثر ما يقال إنه داخل الجسم في حيز قد علمنا أن الجواهر التي خلقت فيه أيضاً لكن هذا لا يفيد تميز الحيز الواحد عن غيره ولا العلم به وإذا كان الحيز الواحد الذي أردته لا يتميز ولا يعلم به كان العلم بحلول الشيء فيه أو عدم حلوله باطلاً لأن العلم بحلول الشيء في محله فرع تصور المحل فإذا كان المحل لا يعلم توحده ولا يتميز كان الحكم بثبوت الحلول فيه أو عدمه حكماً باطلاً فيكون الدليل باطلاً الوجه الثاني عشر أن يقول لك المنازع إما أن تريد بالحيز الواحد ما يحل فيه الجوهر الفرد أو ما هو أكبر منه فإن أردت الأول فحلول الرب فيه محال كما ذكرته وكان المنازع يقول لك يحل في أكثر من واحد بهذا التفسير

وأما قولك الحاصل في أحد الحيزين إما أن يكون هو الحاصل في الآخر أو غيره يقال لك لا هو هو ولا هو غيره أو لا يقال هو هو ولا هو غيره كما تقدم تقرير ذلك على اصل كثير من متكلمي الصفاتية أو أكثرهم غير مرة بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما دون الآخر أو ما جاز مفارقته له في مكان أو زمان أو وجود فحينئذ لا يرد ما ذكرته على كونه هو هو وكونه غيره وإن أردت بالواحد ما هو أكبر من محل الجوهر الفرد لم يكن الحال مستلزماً لأن يكون أقل القليل وقد بطل حجة الصغير وسيأتي الكلام على الوجوب والجواز الوجه الثالث عشر أن يقال هذه الحجة مشتملة على حجتين إحداهما حجة الانقسام أو الصغر وهي تعم الأقسام والثانية ما يخص قسماً قسماً مع ذلك ونحن نتكلم على الحجتين جميعاً فإحداهما حجة الانقسام والتركيب والأخرى هي من جنس حجة تماثل الأجسام وهاتان الحجتان هي جماع ما يذكره النفاة في هذا الباب فإنه يعود إلى ما يذكره من التركيب وإلى ما يذكره من التمثيل وقد تقدم فيما يمتنع من ذلك وما لا يمتنع وبينا أن سورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ

أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَد ُ {2} [الإخلاص 1-2] تنزهه عن الممتنع من هذين فاسمه الأحد منع التشبيه الممتنع عليه واسمه الصمد منع الانقسام والتركيب الممتنع عليه ولكن هؤلاء النفاة غلوا في ذلك وتعدوا حدود الله فيه فزادوا على الحق من الباطل شيئاً كثيراً كما أن من المثبتة من غلا في الإثبات وتعدى حدود الله حتى زاد على إثبات الحق زيادات باطلة والله يهدينا الصراط المستقيم وليس هذا موضع الشرح والبسط لما تضمنته هذه السورة العظيمة من أصول التوحيد والإيمان فإنها كثيرة عظيمة إذ الأحدية والصمدية ينتظمان أصول التوحيد والإيمان والدين فأسماء الله وصفاته من دينه إذ دينه الحق يتبع ما هو عليه سبحانه في نفسه ولما كان الدين عند الله هو الإسلام والإسلام هو الاستسلام لله وحده وله ضدان الإشراك والاستكبار فالمستكبر استكبر عن الإسلام له والمشرك استسلم لغيره وإن كان قد استسلم له فمعنى الأحد يوجب الإخلاص لله المنافي للشرك ومعنى الصمد يوجب الاستسلام لله وحده المنافي للاستكبار فإن الصمد يتضمن صمود كل شيء إليه وفقره إليه وأيضاً فدين الله واحد لا تفرق فيه والصمد يناسب اجتماعه فالله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد ودينه واحد

وعباده المؤمنون مجتمعون يعتصمون بحبله غير مفترقين واسمه الأحد يقتضي التوحيد والصمد يقتضي الاجتماع وعدم التفرق فإن الصمد فيه معنى الاجتماع وعدم التفريق والتوحيد أبداً قرين الاجتماع لأن الاجتماع فيه الوحدة والتفرق لابد فيه من التثنية والتعدد كما أن الإشراك مقرون بالتفرق قال

تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} [الروم 30-32] ولهذا كان شعار الطائفة الناجية هو السنة والجماعة دون البدعة والفرقة فإن أصل السنة توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وأصل البدع الإشراك بالله شركاً أصغر أو أكبر وهؤلاء الملبسون يقولون لا ينقسم أو لا يتجزأ أو لا يتبعض ونحو ذلك ولو لم يريدوا إلا ما هو حق لكانوا محسنين لكن حقيقة قولهم إنه ليس هناك شيء يتصور أن يكون مجتمعاً فضلاً أن يكون متفرقاً ولا شيء موجود يتميز عن غيره فضلاً عن أن يكون منقسماً فأخذوا لفظ التفرق والانقسام فوضعوه على غير المعاني المعروفة ونفوا به ما يستلزم نفي الحقيقة بالكلية كما فعل غيرهم في نفي العلم والقدرة ونحوهما أو نفي الأسماء كالحي والعليم والقدير ونحو ذلك فنفي الصفات يستلزم نفي الأسماء كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع

والمقصود هنا الكلام على هاتين الحجتين الانقسام والحيز بحسب ما ذكره في نهايته وإن كان قد تقدم الكلام عليها فنقول قوله إذا كان في أكثر من حيز لزم انقسامه لا نسلم أنه يستلزم انقسامه ولا نسلم أيضاً أن الحيز ينقسم حتى يكون ما فيه منقسماً ولو كان هو منقسماً لم نسلم أن كل ما كان في المنقسم يجب أن يكون منقسماً الوجه الرابع عشر أنه قد تقدم غير مرة أن هذا الانقسام أكثر ما يراد به امتياز بعضه عن بعض وبينا أن هذا مثل امتياز الصفات وبينا أن هذا مما يجب أن يقر به كل أحد في كل موجود وأن نفي هذا يستلزم جحد الموجودات جميعها الواجب والممكن وبينا أن ما يذكر في ذلك من الافتقار

والغير والحيز فهي ألفاظ مجملة مشتركة مشتبهة يراد بها حق وباطل فيجب أن ينفي ما فيها من الباطل دون الحق الذي يريده بعض الناس بهذه الألفاظ وقد تقدم بسط ذلك بما يغني عن إعادته وهو أحال على ما تقدم فأحلنا أيضاً عليه الوجه الخامس عشر أن المنازع يقول له هب أنه في حيز واحد فلم قلت إن ذلك محال قولك إنه يكون أقل القليل ويتعالى الله عنه يقال لا نسلم أن ما هو حيز واحد لا يتسع إلا مقدار الجوهر الفرد بل يكون واحداً وهو عظيم وهذا في الحيز أولى منه في الجسم فإذا كان قد قال

طوائف إن الجسم يكون عظيماً ويكون واحداً فالحيز أولى وأيضاً فمن قال إنه فوق العرش وهو عظيم وليس بجسم أو هو جسم وليس بمركب فإنه يقول بثبوت حيز واحد عظيم الوجه السادس عشر أن المنازع يقول الجوهر الفرد لا يخلو إما أن يكون ثابتاً أو لا يكون فإن كان ثابتاً لم تكن قد ذكرت دليلاً عقلياً على نفي كونه بقدره كما اعترفت بذلك فيما تقدم في نهايتك في المسلك الثاني على نفي الجسم أن المنازع إذا أصر على المطالبة بالدليل على أنه حال كونه بقدر الجوهر فطريق دفعه أن يتمسك بالوجوه التي يستدل بها على نفي الجزء الذي لا يتجزأ حتى تنقطع المطالبة وإذا

لم يكن لك طريق إلا هذا فهذا الطريق باطلة إذا قدر ثبوت الجوهر الفرد فإنه بتقدير ثبوته تكون الوجوه التي احتج بها على نفيه باطلة وإذا لم يكن الجوهر الفرد ثابتاً لم يجز أن يقال إن الحال في الجزء الواحد هو أقل القليل بل لم يكن للحيز الواحد إذا فسر بذلك وجود أصلاً وإذا كان كذلك فعلى التقديرين لا تكون قد ذكرت حجة على أنه لا يكون في الحيز الواحد وإنما تعتصم في مثل ذلك بالإجماع إجماع العقلاء وإجماع المسلمين داخل في ذلك فيقال لك هؤلاء المنازعون يقولـ ون إنه عظيم في نفسه أعظم من كل عظيم وأكبر من كل كبير وأعلى من كل عال قد وسع كرسيه السموات السبع والأرضين السبع ويقولون لك وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم أو كما قال فهذا مستند ثان نفي كونه بقدر الجوهر الفرد فإن سلمت ذلك لم يكن لك

أن تقول ليس فوق العرش ولا هو في نفسه كبير وعظيم ولم يكن ما سلمتموه يستلزم أن لا يكون فوق العرش وإن قيل إنه في حيز واحد أو جهة واحدة وإن لم تسلم ذلك بل زعمت أنما فوق السموات رب ولا هناك إله أصلاً وأن محمداً لم يعرج به إلى الله تعالى بل صعد إلى علو العالم فقط وأن رب العالمين ليس داخل العالم ولا خارجه قالوا لك نحن نقول إن من وصفه بهذا فقد جعله معدوماً والمعدوم أحقر من الجوهر الفرد وإذا كان كذلك لم نسلم لك ما دمت مصراً على هذا النفي أنه أحقر من الجوهر الفرد فإن ذلك يستلزم تسليم النقيضين فنكون قد سلمنا أنه معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد وذلك باطل وإذا لم نسلم له على هذا التقدير أنه أحقر من الجوهر الفرد لم يكن له أن يحتج بالإجماع كما تقدم نظير هذا وتقدم ما قرره في أول نهايته أن الاحتجاج بمثل هذا الإجماع الذي يختلف فيه المأخذ لا يصح نظراً ولا مناظرة فإن المناظر ليس له أن يحتج بموافقة موافق بناء ً على مأخذ لا يعتقد صحته والمناظر يجيبه خصمه بأنك إن وافقتني على المأخذ وإلا منعتك الحكم على هذا التقدير لأنه عندي تقدير غير واقع فلا يكون له حجة بحال ولو احتج بها في الفطرة في

إعظام الله أن يكون كذلك قيل له هذه الفطرة التي فيها أن الله تعالى فوق العالم وهي تحيل أن يقال إنه ليس فوق العالم ولا داخله ولا خارجه كما تحيل أن يقال هو بقدر الجوهر الفرد فإن كان ما في الفطرة من هذا حقاً فكذلك الآخر وحينئذ فلا يبقى معه حجة على نفي كونه بقدر الجوهر الفرد لا عقلية ولا سمعية لأن السمع إما نص وإما إجماع والسمعيات التي وصف الله فيها نفسه بأنه علي وعظيم وكبير معناها عندهم القدرة والقهر لا يعنون بها عظم قدره في نفسه فلا ينافي ما زعموه صغر المقدار لاسيما مع ما يعتمدونه من القول بأن الملك العظيم والآدمي العظيم يكون بقدر الجوهر الفرد لأن الحياة ولازمها لا تحل إلا في قدر ذلك كما تقدم وإذا لم يكن لهم على ذلك حجة بطلت هذه الحجج التي ذكرها وظهر عجزهم عن تنزيه الله عن صغر القدر كما عجزوا عن تنزيه الله تعالى أن يكون فيه نقص فلا يقدرون أن ينزهوه على أصولهم العقلية عن نقص ولا عن صغر الوجه السابع عشر قوله في الحجة الثانية حصوله في ذلك الحيز إما واجب وإما جائز يقال إن أريد بالحيز ما

هو داخل في مسمى اسمه مثل ما يدخل في صفاته في مسمى اسمه ومثل ما يدخل حدود الشيء ونهايته في مسمى اسمه فيقال حصوله فيه واجب ويكون وجودياً والكلام في قوله يكون منقسماً قد تقدم غير مرة بأن الانقسام لفظ مجمل تختلف فيه الاصطلاحات فهو منفي بالمعنى الذي لا يلزم من هذا والمعنى الذي يلزم لا محذور فيه بل هو واجب لكل موجود الوجه الثامن عشر قول من يقول لا يجوز عليه الحركة والانتقال فإنه يقول حصوله في الحيز المعين يكون واجبًا وأما قوله لو كان كذلك لكانت حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة غيره فيكون وجودياً يقول لا نسلم وذلك لأن الاختصاص لا يجب أن يكون لمعنى في الحيز بل يجوز أن

يكون لمعنى في الرب وهو ما توافقهم عليه من امتناع الحركة والانتقال وعدم ذلك ليس بنقص عندك ولا عندهم كما تقدم وتقدم أن ما ألزمتهم من كونه يكون كالزمن هو لك ألزم أيضاً فأنت وهو مشتركون في ذلك وهو بك ألصق منه بهم الوجه التاسع عشر أن يقال هب أن وجودي وحقيقته مخالفة لحقيقة غيره وأنه يمكن الإشارة الحسية إليه فقولك إنه إن كان منقسماً كان الباري فيه الحال منقسماً يمنعون الملازمة كما تقدم ويقولون في الانقسام بما تقدم من الجواب المفصل الوجه العشرون قولك أو لا يكون منقسماً فيكون مختصاً بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل يقال هب أن هذا الحيز أمر وجودي فلم لا يجوز أن يكون حيز هو عدمي والتسلسل إنما يلزم أن لو كان لكل حيز وجودي حيز وجودي الوجه الحادي والعشرون قولك وإن لم تمكن الإشارة

الحسية إلى الحيز الذي حصل فيه الباري وجب استحالة الإشارة إلى الباري لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا تمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه فإذاً لا يكون الباري في الجهة يقال لك الضروري بأن ما لا يشار إلى جهته لا يشار إليه ليس بأعظم من أن ما لا يشار إليه لا يشار إلى جهته ثم كثير من الناس وأنت من هؤلاء في كثير من المواضع يقولون ذلك مثل العلم الضروري بأن ما يشار إليه وإلى جهته لا يكون إلا جسماً وكثير من الناس بل أكثرهم يقولون إن ذلك مثل العلم الضروري بأن ما لا يشار إليه ولا إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوماً بل المقرون بأن هذا علم ضروري أعظم من المقرين بذلك وإذا كان كذلك فإن نازعتهم في هذا العلم الضروري لم يكن عليهم أن يسلموا لك ذلك العلم الضروري الذي يلزمهم بتسليمه نفي هذا العلم الضروري لأن تسليم العلم الضروري الذي يستلزم نفي علم ضروري تسليم لتنافي العلمين الضروريين وذلك باطل فلا يجب تسليم الباطل وإن لم

تنازعهم في هذا العلم الضروري لم يكن ما ذكرته حجة عليهم فإنه إذا سلم أنه فوق العالم وأنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه حصل المطلوب الوجه الثاني والعشرون قولك وإن لم يكن حصوله في الجهة واجباً فاختصاصه بها لابد أن يكون لفاعل مختار فاختصاص الباري به محدث فهو في الأزل ما كان في الحيز والذي يكون كذلك يستحيل أن يصير حاصلاً في الحيز وفي نسخة محتاجا إلى الحيز فيقال لك إذا كان الحيز أمراً وجودياً كالعرش والغمام كان اختصاص الله بكونه فوق العرش تابعاً لخلقه العرش وذلك حاصل بمشيئته واختياره وهو محدث وهو إن لم يكن في الأزل على العرش لكن لم قلت إذا لم يكن في الأزل على العرش أنه يستحيل أن يصير بعد ذلك على العرش هذا لم تذكر عليه دليلاً وأما إن كان المدعي أنه يستحيل أن يصير محتاجاً إلى الحيز فهذا حق لكن كونه فوق العرش لا يوجب

احتياجه إلى شيء بل هو الحامل بقدرته للعرش ولكل شيء الوجه الثالث والعشرون أن يقال العلو على العرش للناس فيه قولان مشهوران أحدهما أنه نسبة وإضافة بينه وبين العرش من غير فعل محدث يقوم بذات الرب وهؤلاء قد يقولون الاستواء من صفات الذات وعلى هذا التقدير فتجديده بخلق العرش كتجديد سائر النسب والإضافات وذلك جائز باتفاق العقلاء كتجدد المعية والثاني أنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً عليه كما دل على ذلك القرآن والذي قال هذا يقول في استوائه إلى السماء ونزوله ومجيئه وإتيانه ونحو ذلك مثلما يقول في الاستواء وأن ذلك من أفعال ذات الله تعالى وهؤلاء هم جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية

وغيرهم وعامة كلام السلف يدل على هذا وهذا متصل بمسألة حلول الحوادث به وهو قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما ينفي حلول الحوادث به وذكر أن الطوائف جميعهم يلزمهم القول به وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يستوي عليه بعد أن لم يكن مستوياً وإذا كان على القولين لا يمتنع أن يصير فوق العرش وإن لم يكن في الأزل عرش يكون الله فوقه بطل ما ادعاه من أنه إذا كان اختصاص الباري بالحيز محدثاً فهو إذاً في الأزل ما كان حاصلاً في الحيز والشيء الذي يكون كذلك استحال أن يصير

حاصلاً في الحيز فإن ذلك لا يستحيل على الوجه الذي بيناه وأما إن كان قد قال استحال أن يصير محتاجاً إلى الحيز فهذا حق لكن تجدد الأمور الجائزة لا يقتضي أنه محتاج إليها الوجه الرابع والعشرون أنه يقال قولك في أصل هذه الحجة الثانية حصوله في الحيز إما أن يكون واجباً أو غير واجب يقال لك أتريد بالحيز نوع الحيز أم تريد الحيز المعين فإن اللام تكون للجنس وتكون للحيز المعين فإن أردت به النوع لم يصح ما ذكرته في القسم الأول وهو قولك لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز لكانت حقيقته مخالفة لحقيقة غيره لأن الحيز على هذا التقدير هو النوع ولا يختص بشيء دون شيء كما أن القائل إذا قال لو كان الجسم مختصاً بالحيز لم يرد به حيزاً بعينه بل يريد به أنه مختص بأنه لا يكون إلا متحيزاً فيمتنع أن يكون غير متحيز وإن أردت به الحيز المعين لم يصح ما ذكرته في القسم الثاني وهو إنما كان كذلك ما كان في الأزل حاصلاً في

الحيز المعين والذي يكون كذلك يستحيل أن يصير حاصلاً في الحيز وذلك أن الحيز تقدير المكان ليس أمراً موجوداً فلم قلت إنه إذا لم يكن في الأزل في حيز معين امتنع أن يكون بعد ذلك في حيز معين فإن هذا مبني على مسألة حلول الحوادث وقد تقدم القول فيه الوجه الخامس والعشرون أن قولك والشيء الذي يكون كذلك استحال أن يصير حاصلاً في الحيز يمنعه المنازع ويقول لا نسلم أن كل اختصاص بحيز معين وهو تقدير المكان يكون محدثاً وأنه يمتنع أن يصير في حيز لم يكن فيه بل الحي القادر سبحانه يختص بما يشاء من الأحياز ولا يلزم من ذلك اختصاصه بحيز معين ولا يلزم من ذلك أن أصل التحيز محدث بل هو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء من الأجسام ولا يكون الجسم مخلوقاً في حيز ولا يختص بحيز بل له أن ينقله من حيز إلى حيز وهؤلاء يقولون حياته وقدرته توجب ذلك ونفي إمكان

ذلك يقتضي نفي حياته وقدرته كما تقدم حكاية قولهم ويقولون اختصاصه بحيز دون حيز هو نسبة وإضافة إلى ذلك الحيز والأمور الإضافية لا يمنع تجددها ولا زوال المتقدم منها باتفاق العقلاء فإن الحيز العدمي الذي هو تقدير المكان يجري فيه القولان في العرش ونحوه فمن قال الاستواء عليه مجرد نسبة أمكن أن يقول ذلك هنا ومن قال إن فيه حركة قال بذلك هنا الوجه السادس والعشرون قولك حصوله في الحيز إما أن يكون واجباً وإما أن يكون غير واجب يقول لك المنازع قولاً مفصلاً الاختصاص بأصل الحيز واجب أما تعين حيز دون حيز فهو ممكن ليس بواجب وذلك لأن الحيز في الاصطلاح المشهور للمتكلمين هو تقدير المكان وهم يقولون إن كل متحيز يستلزم نوع التحيز وأما الحيز المعين فيجوز أن ينتقل عنه المتحيز كما لو شاء الله تحويل العالم من حيز إلى حيز ثم لهم هنا قولان

أحدهما أن اختصاصه بذلك الحيز المعين مجرد نسبة وإضافة وإذا كان تجدد النسب والإضافات له وزوالها من الأمور الموجودة جائز باتفاق العقلاء فحدوث هذه النسب وزوالها عما هو تقدير المكان بطريق الأولى والأحرى الثاني أن يقال أكثر ما في ذلك الحركة وهذا جائز كما تقدم في قولهم استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً عليه وأنه يجيء يوم القيامة ويأتي ونحو ذلك

فصل: ذكر الرازي حجج المثبتين للعلو وإجابته عليها

فصل قال الرازي الفصل الخامس في حكاية الشبه العقلية في كونه تعالى مختصاً بالحيز والجهة الشبهة الأولى لهم أنهم قالوا العالم موجود والباري موجود وكل موجودين فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بجهة من الجهات الست ولما لم يكن الباري محايثاً للعالم وجب كونه تعالى مبايناً عن العالم بجهة من الجهات الست وإذا ثبت ذلك وجب كونه تعالى مختصاً بجهة الفوق

أما قولهم إن كل موجودين فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بجهة فلهم فيه طريقان الطريق الأولى ادعاء البديهة إلا أنه سبق الكلام على هذه الطريقة في أول الكتاب الطريق الثاني أنهم يستدلون عليه وهو الطريق الذي اختاره ابن الهيصم في المناظرة التي حكاها عن نفسه مع ابن فورك قال الرازي أنا أذكر محصل تلك الكلمات على

الترتيب الصحيح من أحسن وجه يمكن تقرير تلك الشبهة به وهو أن يقال لا شك أن كل موجودين في الشاهد فإن أحدهما لابد وأن يكون محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة وكون كل موجودين في الشاهد كذلك إما أن يكون لخصوص كونه جوهراً أو لخصوص كونه عرضاً أو لأمر مشترك بين الجوهر والعرض وذلك المشترك إما الحدوث وإما الوجود والكل باطل سوى الوجود فوجب أن تكون العلة لذلك الحكم هو الوجود والباري تعالى موجود فوجب الجزم بأنه تعالى إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة قال واعلم أن هذا الكلام لا يتم إلا بتقرير مقدمات نحن نذكرها وتلك الوجوه التي يمكن ذكرها في تقرير تلك المقدمات أما المقدمة الأولى وهي قولنا إن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه

بالجهة لابد له من علة والدليل عليه هو أن المعدومات لا يصح فيها هذا الحكم وهذه الموجودات يصح فيها هذا الحكم فلولا امتياز ما صح فيه هذا الحكم عما لا يصح فيه هذا الحكم بأمر من الأمور وإلا لما كان هذا الامتياز واقعاً وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أن هذا الحكم لا يمكن تعليله بخصوص كونه جوهراً ولا بخصوص كونه عرضاً فالدليل عليه أن المقتضي لهذا الحكم لو كان هو كونه جوهراً لصدق على الجوهر أن ينقسم إلى ما يكون محايثاً لغيره وإلى ما يكون مبايناً عنه ومعلوم أن ذلك محال لأن الجوهر يمتنع أن يكون محايثاً لغيره وبهذا الطريق تبين أن المقتضي لهذا الحكم ليس كونه عرضاً لامتناع أن يكون العرض مبايناً لغيره بالجهة المقدمة الثالثة في بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث ويدل عليه وجوه الأول أن الحدوث عبارة عن وجود سبقه عدم والعدم غير داخل في العلة وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق

إلا الوجود والثاني وهو الذي عوّل عليه ابن الهيصم في المناظرة التي زعم أنها دارت بينه وبين ابن فورك فقال لو كلن هذا الحكم معللاً بالحدوث لكان الجاهل بكون السماء حادثة جاهلاً بأن السماء بالنسبة إلى سائر الموجودات التي في العالم إما أن تكون محايثة لها أو مباينة عنها بالجهة لأن المقتضي للحكم إذا كان أمراً معيناً فالجاهل بذلك المقتضي يجب أن يكون جاهلاً بذلك الحكم ألا ترى الوجود لما كان هو المستدعي للتقسيم إلى القديم والمحدث لا جرم كان اعتقاد أنه غير موجود مانعاً من التقسيم بالقدم والحدوث فلما كان التقسيم إلى الأسود والأبيض معلقاً بكونه كان ملوناً كان اعتقاد أن الشيء غير ملون مانعاً من اعتقاد التقسيم إلى الأسود والأبيض ولما رأينا الدهري الذي يعتقد قدم السموات

والأرض لا يمنعه ذلك من اعتقاد أن السموات والأرضين إما أن تكون محايثة وإما أن تكون مباينة بالجهة علمنا أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث الوجه الثالث في بيان أن المقتضي هذا الحكم ليس هو الحدوث وقد ذكره ابن الهيصم أيضاً في تلك المناظرة وتقريره أن كونه محدثاً وصف يعلم بالاستدلال وكونه بحيث يجب أن يكون إما محايثاً أو مبايناً بالجهة حكم معلوم بالضرورة والوصف المعلوم الثبوت بالاستدلال لا يجوز أن يكون أصلاً للحكم الذي يعلم ثبوته بالضرورة فثبت بهذه

الوجوه أن المقتضي لهذا الحكم ليس هو الحدوث المقدمة الرابعة وهي في بيان أنه لما كان المقتضي لهذا الحكم في الشاهد هو الوجود والباري موجود وكان المقتضي لكونه تعالى إما محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة حاصلاً في حقه فكان هذا الحكم حاصلاً هناك واعلم أنا نفتقر في هذه المقدمة إلى بيان أن الوجود حقيقة واحدة في الشاهد والغائب وذلك يقتضي كون وجوده تعالى زائداً على حقيقته فإنه ما لم يثبت هذا الأصل لم يحصل المقصود فهذا غاية ما يمكن ذكره في تقرير هذه الشبهة ومن نظر في تقريرنا لهذه الشبهة وتقريرهم لها علم أن التفاوت بينهما كبير قال والجواب أن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو

مبايناً عنه بالجهة وهذه المقدمة ممنوعة وبيانه من وجوه الأول أن جمهور الفلاسفة يثبتون موجودات غير محايثة لهذا العالم الجسماني ولا مبايناً عنه بالجهة وذلك لأنهم يثبتون العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة

ويثبتون الهيولي ويزعمون أن هذه الأشياء موجودات غير متحيزة

ولا حالة في المتحيز فلا يصدق عليها أنها محايثة لهذا العالم ولا مباينة عنه بالجهة وما لم يبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد إما أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه الثاني أن جمهور المعتزلة يثبتون إرادات وكراهات موجودة لا في محل ويثبتون فناءً لا في محل وتلك الأشياء لا يصدق عليها أنها محايثة للعالم أو مباينة عن العالم بالجهة فما لم يبطلوا ذلك لا تتم دعواهم الثالث أنا نقيم الدليل على أن الإضافات أعراض موجودات في الأعيان ثم نبين أنها تمتنع أن تكون محايثة للعالم أو مباينة عنه بالجهة وذلك يبطل كلامهم وإنما قلنا إن

الإضافات أعراض موجودات في الأعيان وذلك لأن المعقول من كون الإنسان أباً لغيره مغاير لذاته المخصوصة بدليل أنه يمكن أن يعقل ذاته مع الذهول عن كونه أباً وابناً والمعلوم غير ما هو غير معلوم وأيضاً فإنه يمكن ثبوت ذاته منفكة عن الأبوة والبنوة مثل عيسى عليه السلام فإنه ما كان أباً لأحد ولا ابناً لأحد من الذكور والثابت غير ما هو غير ثابت فكونه أباً وابناً مغايراً لذاته المخصوصة ثم هذا المغاير إما أن يكون وصفاً سلبياً أو ثبوتياً والأول باطل لأن عدم الأبوة هو الوصف السلبي والأبوة رافعة له ورافع العدم الوجود فثبت أن

الأبوة وصف وجودي مغاير لذات الأب إذا ثبت هذا فنقول إنه مستحيل أن يقال الأبوة محايثة لذات الأب وإلا لزم أن يقال إنه قائم بنصف الأب نصف الأبوة وبثلثه ثلث الأبوة ومعلوم أن ذلك باطل ومحال أن يقال إنها مباينة عن ذات الأب مباينة بالجهة والحيز وإلا لزم كون الأبوة جوهراً قائماً بذاته مبايناً عن ذات الأب بالجهة وذلك أيضاً محال فثبت بهذا الدليل وجود موجود لا يمكن أن يقال إنه محايث للعالم ولا أن يقال مباين عنه بالجهة وإذا ثبت هذا بطل قولهم السؤال الثاني سلمنا أن كل موجودين في الشاهد فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة لكن كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا إما أن يكون وإما أن لا يكون إشارة إلى كونه قابلاً للانقسام إليهما لكن قبول القسمة حكم عدمي والعدم لا يعلل وإنما قلنا إن قبول القسمة حكم عدمي لأن أصل القبول حكم عدمي فوجب أن يكون قبول القسمة حكماً عدمياً وإنما قلنا إن أصل القبول حكم عدمي لأنه لو كان أمراً ثابتاً لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه

بكونه قابلاً والذات قابلة للصفة القائمة بهاق يكون قبول ذلك القبول زائداً عليه ولزم التسلسل وإنما قلنا إنه لما كان أصل القبول عدمياً كان قبول القسمة أيضاً كذلك لأن القبول للقسمة قبول مخصوص فتلك الخصوصية إن كانت صفة موجودة لزم قيام الوجود بالعدم وهو محال وإن كانت عدمية لزم القطع بأن قبول القسمة عدمي وإذا ثبت أنه حكم عدمي امتنع تعليله لأن العدم نفي محض فكان التأثير فيه محالاً فثبت أن قبول القسمة لا يمكن تعليله السؤال الثالث هب أنه من الأحكام الوجودية فلم لا يجوز أن يكون معللاً بخصوص كونه جوهراً أو بخصوص كونه عرضاً قوله لأن كونه جوهرياً يمنع من المحايثة وكونه عرضاً بمنع من المباينة بالجهة وما كان علة لقبول الانقسام إلى قسمين يمنع كونه مانعاً من أحد القسمين قلنا ما الذي تريدون بقولكم الوجود في الشاهد ينقسم إلى المحايث وإلى المباين بالجهة إن أردتم أن الوجود في الشاهد قسمان

أحدهما أن يكون محايثاً لغيره بالجهة وهو العرض والثاني أن يكون مبايناً لغيره بالجهة وهو الجوهر وهذا مسلم لكنه في الحقيقة إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين فإن عندنا وجوب كونه محايثاً لغيره معلل بكونه عرضاً ووجوب كون القسم الثاني مبايناً عن غيره بالجهة معلل بكونه جوهراً فبطل قولكم إن خصوص كونه عرضاً وجوهراً لا يصلحان لعلة هذا الحكم وإن أردتم به أن إمكان الانقسام إلى هذين القسمين حكم واحد وأنه ثابت في جميع الموجودات التي في الشاهد فهو باطل لأن إمكان الانقسام إلى هذين القسمين لم يثبت في شيء من الموجودات التي في الشاهد فضلاً عن أن يثبت في جميعها لأن كل موجود في الشاهد فهم إما جوهر وإما عرض فإن كان جوهراً امتنع أن يكون محايثاً لغيره بالجهة فلم يكن قابلاً لهذا الانقسام فثبت بما ذكرنا أن الذي قالوه مغالطة والحاصل أن هذا المستدل أوهم أن

قوله الموجود في الشاهد إما أن يكون محايثاً لغيره أو يكون مبايناً عنه بالجهة إشارة إلى حكم واحد ثم بنى عليه أنه لا يمكن أن يعلل هذا الحكم بخصوص كونه جوهراً لا بخصوص كونه عرضاً ونحن بينا أنه إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين السؤال الرابع سلمنا أنه لا يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهراً ولا بخصوص كونه عرضاً فلم قلتم إنه لابد من تعليله إما بالحدوث وإما بالوجود وما الدليل على هذا الحصر أقصى ما في الباب أن يقال سبرنا وبحثنا فلم نجد قسماً آخر إلا أنا بينا في الكتب المطولة أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وشرحنا أن هذا السؤال هادم لكل دليل مبني على تقسيمات منتشرة غير محصورة بين النفي والإثبات

السؤال الخامس سلمنا أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود لكن لا نسلم قولكم أنا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث والوجود بيانه من وجهين أحدهما أن من المحتمل أن يقال المقتضي لقولنا إن الشيء إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه هو كونه بحيث تصح الإشارة الحسية إليه وذلك لأن كل شيئين تصح الإشارة الحسية إليهما فإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر وذلك كما في اللون والمتلون وهذا هو المحايثة وإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى الآخر وهذا هو المباينة بالجهة فثبت أن المقتضي لقبول هذه القسمة هو كون الشيء مشاراً إليه بحسب الحس وعلى هذا التقدير ما لم يقيموا الدلالة على أنه تعالى مشار إليه بحسب الحس لا يمكن أن يقال إنه يجب أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة لكن كونه تعالى مشاراً إليه بحسب الحس وهو مما وقع النزاع فيه وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة

المطلوب وذلك يفضي إلى الدور وهو باطل الثاني لاشك أن ما سوى الله تعالى إما أن يكون محايثاً لغيره أو مبايناً عن غيره بالجهة ولا شك أن الله تعالى مخالف لهذين القسمين بحقيقته المخصوصة إذ لو لم يكن مخالفاً لهما بحقيقته المخصوصة لكان مثلاً للجواهر والأعراض ويلزم منه كونه تعالى محدثاً كما أن الأعراض والجواهر محدثة وذلك محال وإذا ثبت هذا فنقول إن الجواهر والأعراض يشتركان في الأمر الذي وقعت به المخالفة

بينهما وبين ذات الباري فلم لا يجوز أن يكون المقتضي لقبول الانقسام إلى المحايث وإلى المباين هو ذلك الأمر وعلى هذا التقدير سقط هذا السؤال لأنه لا مشترك بين الجواهر والأعراض إلا الحدوث السؤال السادس سلمنا الحصر فلِمَ لا يجوز أن يكون المقتضي لهذا الحكم هو الحدوث قوله أولاً الحدوث ماهية مركبة من العدم والوجود قلنا كل محدث فإنه يصدق عليه كونه قابلاً للعدم والوجود وأيضاً كون الشيء منقسماً إلى المحايث والمباين معناه كونه قابلاً للانقسام إلى هذين القسمين فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت في الموضعين كذلك وإن كانت عدمية فكذلك ولا يبعد تعليل عدم بعدم أما قوله ثانياً لو كان المقتضي لهذا الحكم هو الحدوث لكان الجهل بحدوث الشيء يوجب الجهل بهذا الحكم قلنا الكلام عليه من وجهين الأول لِمَ قلتم إن الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالأثر ألا ترى أن جهل الإنسان بأسباب المرض والصحة وجهل نفاة الأعراض بالمعاني الموجبة لتغير أحوال الأجسام لا يوجب جهلهم بتلك التغيرات وجهل الدهري بكونه تعالى قادراً على الخلق والتكوين لا يوجب

جهله بوجود هذا العالم الثاني لوكان الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول لكان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول وعلى هذا التقدير لو كان المقتضي لكون الموجودين في الشاهد إما متحايثين أو متباينين بالجهة هو الوجود لزم أن من علم كون الشيء موجوداً أن يعلم وجوب كونه محايثاً للعالم أو مبايناً له لكن الجمهور الأعظم وهم أهل التوحيد يعتقدون أنه تعالى موجود ولا يعلمون أنه تعالى لابد وأن يكون إما محايثاً للعالم أو مبايناً له فوجب على هذا المساق أن لا يكون المقتضي لهذا الحكم هو كونه موجوداً وهذا السؤال قد أورده الأستاذ ابن فورك من أصحابنا على ابن الهيصم ولم يقدر أن يذكر عنه جواباً سوى أن قال يمتنع أن يحصل العلم بالأثر مع الجهل بالمؤثر وطال كلامه في تقرير هذا الفرق ولم يظهر منه شيء معلوم يمكن حكايته قوله ثالثاً كونه محدثاً وصف استدلالي وكونه إما

محايثاً أو مبايناً أمر معلوم بالبديهة والوصف الاستدلالي لا يجوز أن يكون علة للحكم المعلوم بالبديهة قلنا ممنوع فإنا بينا أن المؤثر في كثير من الأشياء استدلالي والأثر بديهي السؤال السابع سلمنا أن المؤثر في هذا الحكم ليس هو الحدوث وأنه هو الوجود لكن لِمَ قلتم إنه يلزم حصوله في حق الله تعالى وبيانه أن المطلوب إنما يلزم لوكان الوجود أمراً واحداً في الشاهد والغائب أما إذا لم يكن الأمر كذلك بل كان وقوع لفظ الوجود على الشاهد والغائب ليس إلا بالإشراك اللفظي كان هذا الدليل ساقطاً بالكلية ثم إن الكرامية لا يمكنهم أن يقولوا بأن الوجود في

الغائب الشاهد واحد إذ لو كان كذلك لزمهم إما القول بكون الباري تعالى مثلاً للمحدثات من جميع الوجوه أو القول بأن وجوده زائد على ماهيته والقوم لا يقولون بهذا الكلام السؤال الثامن سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن الوجود هو العلة لهذا الحكم لكن هاهنا دليل آخر يمنع منه وهو أن المقتضي لقبول الانقسام في الجوهر والعرض لو كان هو الوجود لزم في الجوهر وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض وأنه محال ولزم أيضاً في العرض وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض ومعلوم أن ذلك محال فإن قالوا إن كل جوهر وعرض فإنه يصح كونه منقسماً إلى هذين القسمين نظراً إلى كونه موجوداً وإنما يمتنع ذلك الانقسام نظراً إلى مانع منفك وهو خصوصية ماهيته قلنا هذا اعتراف بأنه لا يلزم من كونه الوجود علة لصحة أمر من الأمور أن يصح ذلك الحكم على كل ما كان موصوفاً بالوجود لاحتمال أن

تكون ماهيته المخصوصة مانعة من ذلك الحكم وإذا كان كذلك فلِمَ لا يجوز أن يقال الوجود وإن اقتضى كون الشيء إما محايثاً لغيره أو مبايناً عنه إلا أن خصوصية ذاته تعالى كانت مانعة من هذا الحكم فلِمَ يلزم من كونه تعالى موجوداً كونه بحيث يكون إما محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة السؤال التاسع أن ما ذكرتموه من الدليل قائم في صور كثيرة مع أن النتيجة اللازمة عنه باطلة قطعاً وذلك يدل على أن هذا الدليل منقوض وبيانه من وجوه الأول أن كل ما سوى الله فهو محدث فتكون صحة الحدوث حكماً مشتركاً بينهما فنقول هذه الصحة حكم مشترك فلابد لها من علة مشتركة والمشترك إما الحدوث أو الوجود ولا يمكن أن يكون المقتضي لصحة الحدوث هو الحدوث لأن صحة الحدوث سابقة على الحدوث بالرتبة والسابق بالرتبة على الشيء لا يمكن تعليله بالمتأخر عن الشيء فثبت أن صحة الحدوث غير معللة بالحدوث فوجب كونها معللة بالوجود والله تعالى موجود فوجب أن يثبت في حقه صحة الحدوث وهو محال الثاني أن كل موجود في الشاهد فهو إما حجم أو قائم

بالحجم ثم يذكر التقسيم إلى آخره حتى يكون الباري تعالى إما حجماً أو قائماً بالحجم والقوم لا يقولون به الثالث أن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه في أي جهة كان ثم يذكر التقسيم المتقدم حتى يظهر أن هذا الحكم معلل بالوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يصح على الباري كونه محايثاً للعالم أو مبايناً عنه في أي جهة كان من الجوانب التي للعالم وذلك يقتضي أن لا يكون اختصاص الله بجهة فوق بل يلزم صحة الحركة على ذات الله تعالى من الفوق إلى السفل وكل ذلك عند القوم محال الرابع أن كل موجودين في الشاهد فإنه يجب أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة والمباين بالجهة لابد وأن يكون جوهراً فرداً أو يكون مركباً من الجواهر وكون كل

موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعني كونه عرضاً أو جوهراً فرداً أو جسماً مؤتلفاً لابد وأن يكون معللاً بالوجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم ينكرون ذلك لأنه تعالى عندهم ليس بغرض ولا بجوهر ولا بجسم مؤتلف مركب من الأجزاء والأبعاض الخامس أن كل موجود يفرض مع العالم فهو إما أن يكون مساوياً للعالم أو زائداً عليه في المقدار أو أنقص منه في المقدار وانقسام الوجود في الشاهد إلى هذه الأقسام الثلاثة حكم لابد له من علة ولا علة إلا بالوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم لا يقولون به فثبت بما ذكرنا أن هذه الشبهة منقوضة قال واعلم أنا إنما طولنا في الكلام على هذه الشبهة لأن القوم يعولون عليها ويظنون أنها حجة قاهرة ونحن بعد أن بالغنا في تنقيحها وتقريرها أوردنا عليها هذه الأسولة

رد المؤلف على اعتراضات الرازي على مخالفيه

القاهرة والاعتراضات القادحة ونسأل الله تعالى أن يجعل هذه التحقيقات والتدقيقات سبباً لمزيد الأجر والثواب بمنه وفضله اهـ قلت والكلام على هذا مع العلم بأن المقصود ذكر القول الفصل والحكم العادل فيما يذكره النفاة من الحجج والجواب عما ذكره من جهة منازعيه ليس المقصود استيفاء حجج المثبتة بل إذا تبين أن هذا الذي هو الإمام المطلق في المتأخرين من هؤلاء النفاة المتكلمين والفلاسفة وعرف فرط معاداته لهؤلاء المثبتة الذين ذكرهم وذكر حججهم مع ما هم عليه من ضعف الحجج وقلة المعرفة بالسنن ومذاهب السلف ومع ما فيهم من الانحراف ثم تبين ظهور حججهم العقلية التي ذكرها مع السمعية على ما استوفاه من حجج النفاة العقلية والسمعية مع استعانته بكل من هو من النفاة حتى المشركين الصابئين مثل أرسطو وأبي معشر وشيعتهما من الفلاسفة

والمنجمين والمعتزلة وغيرهم ومع أنه لم يبق ممكناً فيما فيه شبهة حجة عرف من الحق ما يهدي به الله من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد ذكر أن لهم طريقين على أن كل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً له أحدهما ادعاء البديهة وقد ذكر أنه سبق الكلام في ذلك فأحال على ما تقدم وقد قدمنا القول على ما ذكره هناك في مقدمة كتابه مما يبين الحق لمن له أدنى نظر ولاحول ولا قوة إلا بالله وما ذكره هنا من حكاية كلام ابن الهيصم في مناظرته لابن فورك لم يبلغنا على الوجه المفصل لكن ذكر بعض المصنفين من النفاة أيضاً أنهما تناظرا بحضرة ولي السلطان محمود بن

سبكتكين وكان من أحسن ملوك أهل المشرق إسلاما ً وعقلاً وديناً وجهاداً وملكاً في آخر المائة الرابعة وكانت ملوك في خلافة القادر وكانت قد انتشرت إذ ذاك دعوة الملاحدة المنافقين الذين كانوا إذ ذاك بمصر وفد بنوا القاهرة وغيرها ولهم دعاة من أقاصي الأرض بالمشرق وغيره وكان والد ابن

سينا منهم وقال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في علوم الأوائل وكان بعض المشرق وكثير من جنده يميل إليهم وفي ذلك الوقت صنف الناس الكتب في كشف أسرارهم وهتك أستارهم مثل الكتاب الذي صنفه القاضي أبو بكر

الباقلاني وغيره وقد صنف مثل ذلك وبعضه كتب أخر وإنماالمقصود التنبيه على ما يتعلق بما نحن فيه وكان هذا مما دعا القادر إلى إظهار السنة وقمع أهل البدع فكتب الاعتقاد القادري المنسوب إليه وهو في الأصل من جمع الشيخ أبي أحمد القصاب وهو من أجل المشايخ

وأعلمهم وله لسان صدق عظيم وأمر القادر باستتابة من خالف ذلك من المعتزلة وغيرهم وقام الشيخ أبوحامد الأسفراييني إمام الشافعية والشيخ أبو عبد الله بن حامد إمام الحنابلة على

ابن الباقلاني بسبب ما ينسب إليه من بدعة الأشعري وجبت أمور بلغتنا مجملة غير مفصلة وصنف ابن الباقلاني كتابه المعروف في الرد على من ينسب إلى الأشعري خلاف قوله واعتمد السلطان محمود بن سبكتكين في مملكته نحو هذا وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر فلعنت الجهمية والرافضة والحرورية والمعتزلة والقدرية ولعنت أيضاً الأشعرية حتى جرى بسبب ذلك نزاع وفتنة بين الشافعية

والحنفية وغيرهم قوم يقولون هم من أهل البدع فيلعنون وقوم يقولون ليسوا من أهل البدع فلا يلعنون وجرت لابن فورك محنة بأصبهان وجرت له مناظرة مع ابن الهيصم بحضرة هذا السلطان محمود وكان يحب الإسلام والسنة مستنصراً بالإسلام عارفاً به غزا المشركين من أهل الهند وفتح الهند وروي أنه قتل عشرة آلاف زنديق فكان مما حكاه ميمون النسفي الحنفي في

كتابه وهو من نفاة العلو أن السلطان فهم كلام الطائفتين وفهم ما ذكرته المثبتة من أن أقوال النفاة توجب تعطيله وأنهم قالوا لو أردنا أن نصف المعدوم لم نصفه إلا بهذه الصفة بأنه لا داخل العالم ولا خارجه أو كلاماً هذا معناه وابن فورك عجز عن جواب هذا حتى كتب فيه على أبي إسحاق الأسفراييني وأن الأسفراييني لم يجب أيضاً بما يدفع به ذلك

الأشعري وأئمة أصحابه يثبتون أن الله فوق العرش

إلا أن قال يلزم من الإثبات أن يكون جسماً أو نحو هذا مع أن المعروف عن أبي بكر بن فورك هو ما عليه الأشعري وأئمة أصحابه من إثبات أن الله فوق العرش كما ذكر ذلك في غير موضع من كتبه وحكاه عن الأشعري وابن كلاب وارتضاه وذكر البيهقي عنه في كتاب الصفات أنه قال استوى بمعنى علا وقال في قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16]

أي من فوق السماء واحتج البيهقي لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة لقد حكمت فيهم

بحكم الله الذي حكم به فوق سبع سموات وبقول ابن عباس إن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك

نقل المؤلف إثبات علو الرب عن العلماء

وأبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له

الرسالة التي سماها برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء وذكر أقوالاً متعددة قول الطبري أبي جعفر محمد بن جرير صاحب التفسير وأبي محمد بن أبي زيد والقاضي

عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه قال وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه أعني القاضي أبي بكر والقاضي عبد الوهاب نصاً وهو أنه سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه بذاته قال وأطلقوا القول في بعض الأماكن فوق عرشه قال أبو بكر الحضرمي وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة

قال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير في كتاب شرح الأسماء الحسنى بعد أن حكى كلام الحضرمي هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد الأوائل له وقاله الأستاذ ابن فورك في شرح أوائل الأدلة وهو قول أبي عمربن عبد البر

والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن ذكر في الاستواء أربعة عشر

قولاً وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقاة ونقل أبو بكر بن فورك في كتاب مقالة أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وموافقته الأشعري وما بينهما من النزاع اليسير أو اللفظي فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبو الحسن رضي الله عنه في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وأبان ما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك ثم سرد ابن فورك المقالة التي تقدم ذكرنا لها من كلام الأشعري بعينها وما قيها من ذكر العرش واستواء الله عليه والصفات الخبرية وغير ذلك كما تقدم ثم قال في آخرها فهذا يحقق لك من ألفاظه أنه يعتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم ولا ريب أن هذا قول الأشعرية المتقدمين وأئمتهم كلهم

ما علمت بينهم في ذلك نزاعاً وإنما أنكر ذلك من أنكره من متأخريهم وجميع كتب الأشعري تنطق بذلك كما ذكرناه فيما تقدم من كتبه وفيما لم يصل إلينا مما يحيل هو عليه مثل ما ذكره أبو القاسم بن عساكر في تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري بعد أن قال فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة فاسمع ما ذكره في الإبانة فإنه قال الحمد لله الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد وليس له مثل ولا نديد وذكر تمام الخطبة إلى أن قال فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا

قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل نضّر الله وجهه قائلون ولمن خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدّم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وذكر تمام الاعتقاد كما ذكرناه عنه فيما تقدم لما ذكر ما ذكره الأشعري في الإبانة ثم قال ابن عساكر بعد أن فرغ من سياق ذلك فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه قال الحافظ ابن عساكر قال أبو الحسن في كتابه الذي سماه العمد في الرؤية ألفناً كتابأ كبيراً في الصفات تكلمنا

فيه على أصناف المعتزلة والجهمية في فنون كثيرة من الصفات في إثبات الوجه لله واليدين وفي استوائه على العرش ولشهرة هذا من مذهب الأشعري قال أبوالحسن علي بن مهدي الطبري المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري في كتابه الذي ألفه في مشكل الآيات في باب قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] اعلم أن الله سبحانه وتعالى في السماء فوق كل شيء على عرشه بمعنى أنه عالٍ عليه ومعنى الاستواء الاعتلاء كما تقول العرب استويت على ظهر الدابة واستويت على السطح بمعنى علوته واستوى الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي فالقديم جل جلاله عالٍ على عرشه قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] وقوله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ

[فاطر 10] وقوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] قال وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه مأخوذ من قول العرب استوى بشر على العراق استولى عليها وقال إن العرش يكون الملك

فيقال ما أنكرت أن يكون عرش الله جسماً خلقه وأمر ملائكته بحمله قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} [الحاقة 17] وأمية يقول مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريراً قال ومما يدل على أن الاستواء هاهنا ليس بالاستيلاء لأنه لو كان كذلك لم ينبغ أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه إذ هو مستول على العرش وعلى سائر خلقه وليس للعرش مزية على ما وصفته فبان بذلك فساد قوله ثم يقال له أيضاً إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي من قول العرب استوى فلان على كذا أي استولى إذا تمكن فيه بعد أن لم يكن متمكناً فلما كان الباري لا يوصف بالتمكن بعد

أن لم يكن متمكناً لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء ثم قال حدثنا أبو عبد الله نفطويه ثنا أبوسليمان قال كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال ما معنى

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال هو على عرشه كما اخبر فقال ليس هو كذلك إنما معناه استولى قال ابن الأعرابي اسكت ما يدريك ما هذا العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل استولى عليه والله لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر

قال أبو الحسن بن مهدي الطبري فإن قيل فما تقولون في قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش كما قال فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ [التوبة 2] بمعنى على الأرض وقال وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 71] أي على جذوع النخل فكذلك قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء قال فإن قيل فما تقولون في قوله تعالى وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ [الأنعام 3] قيل له إن بعض القراء يجعل الوقف في السَّمَاوَاتِ ثم يبتدي وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وكيفما كان فلو أن قائلاً قال فلان بالشام والعراق ملك لدل على الملك بالشام والعراق لا أن ذاته فيهما قال فإن قيل ما تقول في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] الآية قيل له كون

الشيء مع الشيء على وجوه منها بالنصر ومنها بالصحبة ومنها بالمماسة ومنها بالعلم فمعنى هذا عندنا أن الله تعالى مع كل الخلق بالعلم قال قال البلخي فإن قيل لنا ما معنى رفع أيدينا إلى السماء وقوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] قلنا تأويل ذلك أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء وجاز أن يقال أعمالنا ترفع إلى الله لما كان حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء قيل له إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق فيها

وأن الحفظة مساكنهم في السماء جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات المعاش وأنها قرارهم ومنها خلقوا أو لأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في السماء بما وصفه وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه لرفعها نحو العرش الذي هو مستوٍ عليه فإذا كان ابن فورك وسائر أئمة الأشعرية موافقين الكرامية وغيرهم على أن الله عز وجل نفسه فوق العرش وهم جميعاً متفقون على مخالفة المعتزلة الذين ينفون ذلك ويتأولون الاستواء بمعنى الاستيلاء ونحو ذلك وهم جميعاً متفقون على الاستدلال على أن الله فوق العالم بالآيات التي ذكرها هذا الرازي من ناحية مخالفيه مثل قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقوله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ [آل عمران 55] وقوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك 16] ومثل ذلك في الآيات كما ذكرنا بعض ذلك وقد تنازع ابن فورك وأصحابه مع ابن الهيصم وأصحابه فإما

أن يكون نزاعهم لفظياً أو معنوياً فإن كان لفظياً لم يكن ذلك منافياً لاتفاقهم من جهة المعنى وإن كانت المعاني متفقة لم يضر اختلاف الألفاظ إلا إذا كان منهياً عنها في الشريعة وإن كان النزاع معنوياً فهو أيضاً قسمان أحدهما اختلاف تنوع بأن يكون هؤلاء يثبتون شيئاً لا ينفيه هؤلاء وهؤلاء ينفون شيئاً لا يثبته هؤلاء فهذا أيضاً ليس باختلاف معلوم إلا إذا كان كل منهما يدفع ما يقوله الآخر من الحق فإذا كان أحدهما يثبت حقاً والآخر ينفي باطلاً كان على كل منهما أن يوافق الآخر وإذا اختلفا كانا جميعاً مذمومين وهذا من الاختلاف الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال سبحانه وتعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {176} [البقرة 176] وقال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران 105] وأمثال ذلك وإن كانا قد تنازعاً حقيقياً هما فيه متناقضان على حقيقة التناقض بحيث أن يكون أحدهما ينفي ما أثبته الآخر فهذا بعد اتفاقهم على إثبات أنه فوق العرش فوق العالم ومخالفتهم جميعاً للمعتزلة الذين سلك هذا الرازي وأمثاله مسلكهم في كتابه هذا التأسيس إنما يكون بأن يقول المثبت كونه فوق

العرش يستلزم أن يكون في جهة أو يكون متحيزاً أو أن يكون منقسماً ونحو ذلك ويقول الثاني كونه على العرش لا يستلزم ذلك بل يجوز أن يكون على العرش ولا يكون جسماً وهذا الثاني قول الأشعرية فالخلاف بينهم وبين الأشعرية أنه إذا كان على العرش هل يستلزم ذلك أن يكون جسماً أو لا يستلزم ذلك فإن كان هذا هو الخلاف المحقق بين ابن فورك وأصحابه وبين ابن الهيصم وأصحابه فإما أن يكون الصواب مع ابن فورك أو مع ابن الهيصم فإن كان الصواب مع ابن فورك ثبت حينئذ أنه إذا كان على العرش لم يستلزم ذلك أن يكون جسماً ولا يكون مركباً ولا منقسماً ولا غير ذلك وإذا صح هذا بطل ما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من أن كونه فوق العرش يستلزم التجسيم وحينئذ فيبطل جميع ما ذكره من الحجج في هذا الكتاب على إبطال كونه على العرش وإذا أقر بأنه فوق العرش فهو أعظم المقصود وحينئذ يكون كلامه من جنس الأشعرية الأكابر

المتقدمين وإن كان الصواب مع ابن الهيصم وهو أن كونه فوق العرش يستلزم أن يكون جسماً وهذا هو الذي يقوله هذا المؤسس وأمثاله من الأشعرية المتأخرين وهو الذي يقوله المعتزلة والفلاسفة والجهمية وأمثالهم فيكون هذا المؤسس وهؤلاء كلهم متفقون على أن الصواب في المناظرة كان لابن الهيصم دون ابن فورك ومعلوم أن أهل الإثبات الذين يقولون هو على العرش ولا يتكلمون في الجسم بنفي ولا إثبات لا ينفون هذا الكلام أيضاً وإن خالفهم بعضهم لفظاً فيها ولا ينازع في ذلك نزاعاً معنوياً فيكون جماهير الخلائق من مثبتة الصفات ونفاتها مع ابن الهيصم فقد ظهر بما ذكره أن تصويب ابن فورك ومتقدمي الأشعرية يقتضي تخطئة الرازي ومتأخري الأشعرية الذين خالفوا متقدميهم في قولهم إن الله ليس على العرش وأن تصويب ابن الهيصم وتخطئة ابن فورك هو أولى بتخطئة هؤلاء المتأخرين النفاة لكونه على العرش وإذا كان كذلك ثبت خطأ هذا الرازي وذويه سواء كان المصيب هو ابن فورك أو هو ابن الهيصم وثبت اتفاق الطائفتين المتقدمتين من الأشعرية

والكرامية على خطا هؤلاء المتأخرين من الأشعرية الموافقين للمعتزلة في نفي أن يكون الله فوق العرش وهذا هو المقصود الأكبر فيما ذكرناه وأيضاً فهذا الرازي وذووه يقولون هم وغيرهم إن العلم بأن كونه على العرش يستلزم أن يكون متحيزا أو أن يكون جسماً علم ضروري وإذا كان كذلك كانوا مقرين بأن الكرامية أصوب من شيوخهم المتقدمين وأن ذلك معلوم بالاضطرار وإذا كان كذلك ثبت أن قول الكرامية هو الصواب دون قولهم وقول شيوخهم المتقدمين وذلك أيضاً يستلزم أن يكون الله فوق العرش وهذا يبين أن ما تنازع فيه متقدمو الأشعرية ومتأخروهم ثبت به خطأ إحدى الطائفتين منهم ولم يثبت خطأ الكرامية في قولهم إن الله فوق العرش فإنه إن كان الصواب مع متقدميهم فهم والكرامية متفقون على أن الله فوق العرش وإن كانت الكرامية مخطئة على هذا التقدير في قولهم هو جسم فهذا لا يضر وإن كان الصواب مع متأخريهم أن كونه على العرش يستلزم التجسيم فهم والمتقدمون من الأشعرية متفقون على أن الله تعالى فوق العرش فيكون التجسيم حينئذ لازماً للطائفتين جميعاً فلا تكون إحداهما مصيبة والأخرى مخطئة وإذا ثبت خطأ إحدى طائفتي الأشعرية تيقنا بالاتفاق أن

الصواب مع إما مثبتو العلو وإما الملازمون بين العلو والجسم ولم يثبت خطا الكرامية المنازعين لهم في قولهم إنه على العرش لا على قول الأولين المثبتين العلو ولا على قول الآخرين الملازمين بين العلو والجسم ظهر أن الكرامية المنازعين الأشعرية في مسالة العلو والجسم أقرب إلى الصواب منهم فإن من ظهر خطؤه على كل تقدير أولى بالخطأ ممن لم يظهر خطؤه في المسألة الواحدة وهي المقصودة الكبرى على التقديرين جميعاً وخطؤه في المسألة الأخرى وهي مسألة الجسم إنما يظهر على إحدى التقديرين فقط وهذا بين ظاهر فإن الأشعرية قد ثبت لزوم الخطأ لهم بالضرورة إما لأوليهم وإما لآخريهم إذا كان النزاع معنوياً تضاداً كما تقدم وأما الكرامية فهم في مسألة كونه على العرش لم يظهر خطؤهم على التقديرين جميعاً وفي مسألة الجسم إنما يكونون مخطئين على قول الأولين فقط إذ الآخرون من الأشعرية يوافقونهم على أن العلو يستلزم التجسيم وظهر بذلك أن كل ما تنازع فيه هؤلاء لم يظهر فيه نفي أن يكون الله على العرش وذلك لأن هذا هو الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القائل سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف 9] الآية ودين الحق الذي بعث به رسوله ظاهر على كل تقدير

وأيضاً فإن هذا معلوم بالفطرة والبديهة وقد ظهر بذلك أن متقدمي الأشعرية وأئمتهم هم أولى بالحق والصواب من متأخريهم وإن كان فو قولهم ما يذكر أنه خطأ فالخطأ الذي مع المستأخرين أعظم وأكثر وهذا لأن الكلام الذي فيه بدعة كلما كان أقرب إلى الفطرة والشرعة كان أقرب إلى الهدى ودين الحق وكلما بعدت البدعة عن ذلك تغلظت وهذا مما يبين أن فطر الناس وبدائههم ممن ليس به هوى ولا تقليد سواء كان في الأمراء أو الملوك أو غيرهم فإنهم يعرفون بفطرتهم وبديهة عقولهم أن ما ذكره من أنه لا داخل العالم ولا خارجه إنما هو صفة المعدوم وأن الموجودين لابد أن يكون أحدهما قائماً بالآخر محايثاً له أي يكون حيث هو يكون أو يكون مبايناً له منفصلاً عنه في جهة غير جهته وما زال أئمة السنة يذكرون هذا مثل ما ذكره عبد العزيز الكناني صاحب الشافعى صاحب الحيدة المشهور بالرد

على الجهمية والقدرية وغيرهم قال في رده على الجهمية باب قول الجهمي في قول الله عز وجل الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] زعمت الجهمية أنما قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} إنما المعنى استولى كقول العرب استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليها باب البيان لذلك يقال له هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستولٍ عليه فإذا قال لا قيل له فمن زعم ذلك فهو كافر ويقال له يلزمك أن تقول إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه وذلك أن الله أخبر أنه خلق العرش بل خلق السموات والأرض قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود 7] فأخبر

أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ثم قال الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] وقوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر 7] وقوله عز وجل ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت 11] وقوله عز وجل ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [البقرة 29] فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه إذا كان استوى على معناه عندك استولى فإنما استولى بزعمه في ذلك الوقت لا قبل قال وقد روى عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقبلوا البشرى يا بنى تميم قالوا قد بشرتنا فأعطنا قال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء وروي عن أبي

رزين العقيلي وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من مسألته أنه قال يا رسول الله أين كان الله قبل أن يخلق السموات والأرض قال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء ثم خلق عرشه على الماء

قال فقال الجهمي أخبرني كيف استوى على العرش أهو كما تقول العرب استوى فلان على السرير فيكون السرير حوى فلاناً وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا باب من البيان لذلك يقال له أما قولك كيف استوى فإن الله لا يجري عليه كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنه لم يخبرهم كيف كذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أنت أيها الجهمي أن تقول إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد

حواه كما تقول العرب فلان في البيت والماء في الحب فالبيت قد حوى فلاناً والحب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا إن الله حل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم وأنتم تقولون إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضاً أن تقول إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً قال فلما شنعت مقالته قال أقول بأن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء مع

الشيء خارجاً عن الشيء ولا مبايناً للشيء باب البيان لذلك يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئاً لأنه لو كان شيئاً داخلاً فمن القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجاً عنه فلما لم يكن في ذلك شيئاً استحال أن يكون كالشيء أو خارجاً عن الشيء فوصفت لعمري ملتبساً لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل وأما الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم فلم يذكر ألفاظها لكن ذكر أنه نظمها أحسن من نظمه ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل إما عمداً وإما خطأ فإن الإنسان إن لم يتعمد أن يلوي لسانه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيره لكن المذهب الذي يقصد الإنسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن حتى ينظمها نظماً ينتصر به فكيف إذا كان مبغضاً

لذلك والله اعلم بحقيقة ما قاله ابن الهيصم ومانقله هذا عنه لكن نحن نتكلم على ما وجدناه مع العلم بأن الكرامية فيهم نوع بدعة في مسألة الإيمان وغيرها كما في الأشعرية أيضاً بدعة لكن المقصود في هذا المقام ذكر كلامهم وكلام النفاة ولا ريب أن أئمة الأشعرية وهم الذين كانوا أهل العراق كأبي الحسن الكبير وأبي الحسن الباهلي وأبي عبد الله بن

مجاهد وصاحبه القاضي أبي بكر وأبي علي بن شاذان ونحوهم لم يكونوا في النفي كأشعرية خراسان مثل أبي بكر ابن فورك ونحوه بل زاد أولئك في النفي أشياء على مذهب أبي الحسن ونقصوا من إثباته أشياء ولهذا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وكلام أبي سعيد بن كلاب الذي ذكره أبو بكر ابن فورك فيما جمعه من كلامهما وبيان مذهبهما أشياء تخالف

ما انتصر له ابن فورك في مواضع وهذه الحجة القياسية التي ذكرها عن ابن الهيصم هي

مأخوذة من حجة أهل الإثبات في مسألة رؤية الله وأنهم كانوا يحتجون على جواز رؤية الله بأن الله قادر على أن يرينا نفسه لأنه موجود وما لم تمكن رؤيته لا يكون إلا معدوماً وهذه الحجة كانوا يتكلمون فيها كنحو كلام أهل الإثبات في مسألة العلو تارة يحتجون فيها بالعلم الضروري بأن الله تعالى قادر على ذلك وتارة يثبتون ذلك بالقياس فإن الرؤية مما يشترك فيها الجواهر والأعراض فيكون عليها أمر مشترك بينهما ولا مشترك إلا الوجود والحدوث لا يكون علة فثبت أن المصحح للرؤية هو الوجود وهذه الطريقة القياسية مشهورة عن أبي الحسن الأشعري وللناس عليها اعتراضات معروفة كما ذكر ذلك الشهرستاني وغيره ولذلك عدل طائفة من اتباعه كالقاضي

أبي لكر إلى أن أثبتوا إمكان الرؤية بالسمع كما أن وقوعها معلوم بالسمع بلا نزاع وأبو عبد الله الرازي قد ذكر طريقة الأشعري هذه في الرؤية في نهايته وذِكْرُ ما فيها من القوادح التي تظهر معها وَهّاهَا وإذا علم ذلك فينبغي أن يعلم الأمران أحدهما أن الطريقة التي سلكها أهل الإثبات في مسألة العلو بدعوة الضرورة تارة وبالقياس الذي احتج به ابن الهيصم وغيره تارة أصح من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية بدعوى الضرورة تارة وبالقياس أخرى كما قد ذكرنا فيما قبل أن العلم بأن الله تعالى فوق خلقه أعرف في الفطرة وأشهر في الشريعة وأعظم استقراراً عند سلف الأمة وأئمتها من العلم بأنه يرى وأن الجهمية كانوا يكتمون إنكار ذلك ويتظاهرون بإنكار الرؤية ونحوها ليتوسلوا بما يظهرونه من إنكار الرؤية والقول بخلق القرآن على ما يكتمونه من إنكار وجود الله فوق العرش وكان أئمة السلف يعلمون ذلك منهم فيعرفونهم في لحن القول ويستدلون بما

دلالة الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل على العلو

أظهروه على ما أسروه لعلمهم بأصل كلامهم وأنهم إنما أنكروا رؤيته وأنكروا أنه يتكلم حقيقة لأن رؤيته وكلامه مستلزم لوجوده فوق العالم فإذا سلموا الكلام والرؤية وغيرهما لزمهم تسليم أنه فوق العرش إذا أنكروا ذلك ووافقهم عليه من وافقهم توسلوا بذلك لإنكار علوه على العرش وغير ذلك إذ يقال لو كان على العرش لجازت رؤيته ولكان متكلماً وما لا يجوز أن يرى يمتنع أن يكون فوق العرش فلما كانت مسألة العلو هي في نفسها أعظم وأدلتها أقوى وأكثر والمقرون بها أكثر وأكثر من السلف والأئمة والعامة كانت الطريقة التي يسلكها أهل الإثبات فيها أقوى من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية وبيان ذلك أن اعتراف الفطر بأن الله فوق العالم أعظم من اعترافها بأنه يرى ودلالة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ذلك أعظم من دلالة هذه الأصول على رؤية الله تعالى واعتراف القلوب بأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوماً أعظم من اعترافها بأن ما لا يمكن رؤيته لا يكون إلا معدوماً وما في القلوب من البديهة والضرروة إلى الأول أعظم مما فيها من الضرورة والبديهة إلى الثاني كذلك اعترافها بديهة وضرورة بأن كل موجودين لابد أن يكونا متباينين

أو متحايثين أعظم من اعترافها بأن كل موجود فلابد وأن تمكن رؤيته وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن الطريقة القياسية التي سلكها ابن الهيصم ونحوه في مسألة العلو أقوى من الطريقة التي سلكها الأشعري ونحوه وابن الهيصم أيضاً في عين مسألة الرؤية وكلاهما سلك طريقة ينصر بها الإثبات الذي جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وكل ما ذكره الرازي من القوادح في هذه الطريقة التي سلكها ابن الهيصم فإنما هي قدح في الأصول العقلية التي سلكها أئمة الأشعرية وغيرهم فهدمه وهدم ابن فورك ونحوه بما ذكروه لأصول أصحابهم وأئمتهم أعظم من هدمهم للأصول التي تذكرها الكرامية وغيرهم في مسألة العرش وهذا بيِّنٌ يعرفه من شدى شيئاً من النظر في هذه المواضع ومن عرف ما اعتمده

من الأصول في مسألة الرؤية وعلم ما اعتمده هؤلاء في مسألة العرش الأمر الثاني أنا نذكر أن الطريقة التي سلكها أهل الإثبات في الرؤية ليست من الضعف كما يظنه أتباع الأشعري مثل الشهرستاني والرازي وغيرهما بل لم يفهموا قعرها ولم يقدروا الأشعري قدره بل قدروا مقدار كلامه وحججه وكان هو أعظم منهم قدراً وأعلم بالمعقولات والمنقولات ومذاهب الناس من الأولين والآخرين كما تشهد به كتبه التي بلغتنا دع ما لم يبلغنا فمن رأى ما في كتبه من ذكر المقالات والحجج ورأى ما في كلام هؤلاء رأى بوناً عظيماً وإذا ظهر أن طريقهم في الرؤية أقوى مما يظنه هؤلاء كان ذلك تنبيهاً على أن طريقة ابن الهيصم في العلو أولى أن تكون أقوى منها وأن يكون القدح فيها دون القدح في تلك ثم نبين إن شاء الله تعالى بالكلام المفصل أن عامة ما ذكره الرازي من

القدح فيها قدح باطل ولا حول ولا قوة إلا بالله والله هو المسئول أن يوفقنا للكلم الطيب والعمل الصالح وهو الذي يقوله وإن كان فيه حكم بين هؤلاء الذين يخوضون أحياناً بكلام مذموم عند السلف لكن قد ذكرنا غير مرة أن من حكم الشريعة إعطاء كل ذي حق حقه كما في السنن عن عائشة قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأن من كان منهم أقرب إلى الحق والسنة عرفت مرتبته ووجب تقديمه في ذلك الأمر على ما كان أبعد عن الحق والسنة منه قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى 15] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ [النساء 135] وقال في حق أهل الكتاب وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة 42] وقال فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة 48] فكيف الحال بين طوائف أهل القبلة بل الحكم بين من فيه فجور ومن فيه بدعة بالعدل ووضعهم مراتبهم وترجيح هذا من الوجه

الذي هو فيه أعظم موافقة للشريعة والحق أمر واجب ومن عدل عن ذلك ظاناً أنه ينبغي الإعراض عن الجميع بالكلية فهو جاهل ظالم وقد يكون أعظم بدعة وفجوراً من بعضهم قال أبو الحسن الأشعري في الإبانة بعد أن احتج بحجج كثيرة جيدة على إثبات الرؤية من الكتاب والسنة والإجماع ومقصوده الأكبر في الإبانة ذكر الحجج السمعية دون القياسية المبنية على الكلام في الجواهر والأعراض فإنه يختصرها فقال بعد ذلك ومما يدل على جواز رؤية الله بالأبصار أنه ليس موجوداً إلا وجايز أن يريناه وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم فلما كان الله موجوداً مثبتاً كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل وإنما أراد من نفي الرؤية لله عز وجل بالأبصار التعطيل فلما لم يمكنهم ذلك صراحاً أظهروا ما يؤول إلى التعطيل وجحدوا الله تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً قال ومما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار أن الله تعالى يرى الأشياء وإذا كان للأشياء رائياً وليس يجوز أن يرى الأشياء من لا يرى نفسه وإذا كان لنفسه رائياً فجائز أن يرينا

نفسه وذلك أنه من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئاً فما كان الله تعالى عالماً بالأشياء كان عالماً بنفسه فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء فلما كان الله رائياً للأشياء كان رائياً لنفسه وإذا كان رائياً لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالماً بنفسه جاز أن يعلمناها وقد قال الله عز وجل إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] فأخبر أنه سمع كلامهما ويراهما ومن زعم أن الله لا يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل عالماً ولا قادراً ولا رائياً لأن العالم القادر الرائي جائز أن يرى قلت وهذا المعنى الذي ذكره الأشعري من أن الموجود يقدر الله على أن يريناه وأن المعدوم هو الذي لا يجوز رؤيته فنفي الرؤية يستلزم نفي الوجود هو مأخوذ من كلام السلف والأئمة كما ذكره حنبل عن الإمام أحمد ورواه الخلال عن

في كتاب السنة قال القوم يرجعون إلى التعطيل في كونهم ينكرون الرؤية وذلك أن الله على كل شيء قدير وهذا لفظ عام لا تخصيص فيه فأما الممتنع لذاته فليس بشيء باتفاق العقلاء وذلك أنه متناقض لا يعقل وجوده فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يكون داخلاً في العموم مثل أن يقول القائل هل يقدر أن يعدم نفسه أو يخلق مثله فإن القدرة تستلزم وجود القادر وعدمه ينافي وجوده فكأنه قيل هل يكون موجوداً معدوماً وهذا متناقض في نفسه لا حقيقة له وليس بشيء أصلاً وكذلك وجود مثله يستلزم أن يكون الشيء موجوداً معدوماً فإن مثل الشيء ما يسد مسده ويقوم مقامه فيجب أن يكون الشيء موجوداً معدوماً قبل وجوده مفتقراً مربوباً فإذا قدر أنه مثل الخالق تعالى لزم أن يكون واجباً قديماً لم يزل موجوداً غنياً رباً ويكون الخالق فقيراً ممكناً معدوماً مفتقراً مربوباً فيكون الشيء الواحد قديماً محدثاً فقيراً مستغنياً واجباً ممكناً موجوداً معدوماً رباً مربوباً وهذا متناقض لا حقيقة له وليس بشيء أصلاً فلا يدخل في العموم وأمثال ذلك أما خلق قوة في العباد يقدرون به على رؤيته فإن ذلك يقتضي كمال قدرته وما من موجود قائم بنفسه إلا والله قادر على أن يرينا إياه بل قد يقال ذلك في كل موجود سواء قام بنفسه أو قام بغيره

وهنا طريقة أخرى وهي أن نقول كل موجود فالله قادر على أن يجعلنا نحسه بأحد الحواس الخمس وما لا يكون مكناً إحساسه بإحدى الحواس الخمس فإنه معدوم وهذه الطريقة مما بين الأئمة أن جهماً يقول إن الله معدوم لما زعم أنه لا يحس بشيء من الحواس لأن الموجود لابد أن يمكن إحساسه بإحدى الحواس كما ذكر الإمام أحمد أصل قوم جهم قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا

عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك وكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت رائحة قال لا قالوا فوجدت له حساً قال لا قالوا له فوجدت له مجساً قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً ثم إنه استدرك حجة مثل زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هي روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحاً قال نعم فقال هل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حساً أو مجساً قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه من القرآن قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ

اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل إضلاله على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث به رسوله كان كافراً وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشراً كثيراً واتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان

ولا يكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا له منتهى ولا يدرك بعقل وذكر تمام كلامه وقد كتبناه قبل هذا إلى أن قال فعند ذلك تبين لناس أنهم لا يثبتون شيئاً ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية وذكر تمام الكلام والمقصود أنه بين أن وصفه بأنه لا يعرف بشيء من الحواس هو أصل كلامه الذي لزم به التعطيل وأنه لا يثبت شيئاً لأن ما يكون كذلك لا يكون شيئاً وهذا أمر مستقر في فطر المؤمنين لا يشكون في أن الله تعالى قادر على أن يريهم نفسه وإنما يشكون هل يكون ذلك أو لا يكون كما سأل المؤمنون النبي صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم هل تضارون في رؤية الشمس وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة فإنما كانوا شاكين هل يرون ربهم لم يكونوا شاكين هل يقدر على أن يريهم نفسه وكذلك في المعاد يعلمون أنهم عاجزون عن رؤيته كما أنهم عاجزون عن أن

يقدروا بسمعهم وببصرهم على أكثر مما هم قادرون عليه كما يعجزون عن رؤية الأشياء البعيدة والأشياء اللطيفة مع علمهم أن الله قادر أن يريهم ذلك وكذلك من قبلهم من الأمم ولهذا سأل موسى ربه الرؤية وسأل قومه أن يروا الله جهرة كما سألوا سائر الآيات فإنهم وإن كانوا مذمومين على مسألة الآيات فليسوا مذمومين على علمهم بأن الله قادر عليها كما قد يسأل الرجل ما لا يصلح وهو من الاعتداء في الدعاء مثل أن يسأل منازل الأنبياء ونحو ذلك فإن الله قادر على ذلك ولكن مسألة هذا عدوان ولهذا لا يوجد أحداً من الأمم السليمة الفطرة قال إن رؤية الله ممتنعة عليه يعني أنه لا يجوز أن يكون مرئياً بحال وليس في مقدوره أن يري أحداً نفسه بل هم إذا نفوا الرؤية كان لعظمته من جهة القدر أو الوصف مثل قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 33] أي لا تحيط به ومثل قوله صلى الله عليه وسلم نور أنّى أراه وقال رأيت

نوراً وهذا في المخلوقات فالخالق أعظم فإن السماء ينتفي عنها إدراك البصر لسعتها والشمس لبرهانها وشعاعها الذي يعشي البصر فيكون ذلك لعجز البصر عن وصف المرئي وقدره أما أن يقال إن موجوداً عظيماً يمتنع في نفسه أن يكون مرئياً كما يمتنع ذلك في المعدوم فهذا خلاف ما فطر الله عليه عباده بل حيث كان الوجود أكمل كان أحق بأن يجوز أن يرى ويشهد لكن بشرط قوى الرائي وكماله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وفي رواية كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب فقوله لا تضامون

ولا تضارون نفي أن يلحقهم ضيم أو ضير كما يلحقهم في الدنيا في رؤية الشيء إما لظهوره كالشمس أو لخفائه كالهلال وأما المعدوم فالإحساس به برؤية أو غيرها يقتضي أن يكون موجوداً معدوماً فإن كان معدوماً يقتضي أنه ليس في الخارج فرؤيته في الخارج يقتضي أنه في الخارج فيقتضي الجمع بين النقيضين الوجود والعدم وهذا باطل ممتنع لا حقيقة له أصلاً فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يقال إن الله عليه قدير فإنه سبحانه على كل شيء قدير وهذا ليس بشيء أصلاً نعم صورة المعدوم الثابتة في العلم قد تنازع الناس في

جواز رؤيتها وتنازعوا كذلك في جواز رؤية الله للمعدومات لثبوتها في علمه والنزاع فيها مشهور وأما الحجة القياسية المشهورة في هذا الباب التي احتج بها الأشعري وغيره فإن هذا الرازي قد ذكرها في نهايته وأورد عليها اعتراضات كثيرة تهدمها وكذلك من قبله كالشهرستاني وغيره ولم يقفوا على غورها ولا أعطوها حقها وليس هذا موضع بسطها لكن ننبه عليها فإنا قد قدمنا فيما تقدم أن الأمثال المضروبة إذا كانت من باب الأولى جاز استعمالها في حق الله تعالى كما ورد به القرآن والسنة

واستعملها السلف والأئمة كما يقال إذا كان العبد ينزه نفسه عن شريك أو أنثى فتنزيه ربه أولى وإذا كان العبد عالماً قادراً فالله أولى وكذلك هذه فإن حاصلها أنه إذا جاز رؤية الموجود المحدث الممكن فرؤية الموجود الواجب القديم أولى وإذا كان المخلوق الناقص في وجوده يجوز أن يرى ويحس به فالرب الكامل في وجوده أحق بأن يرى فإن كون الشيء بحيث يرى كمال في حقه لا نقص لأن كونه لا يرى ولا يحس به لا يثبت في الشاهد إلا للمعدوم فكل صفة لم نعلمها تثبت إلا لمعدوم لا تكون صفة كمال بخلاف الصفات التي تثبت للموجود دون المعدوم فإنها لا تكون صفة نقص إلا بالنسبة إلى وجود آخر هو أكمل منها وكل صفة لا تثبت للمعدوم ولا يختص بها الناقص فإنها لا تكون إلا صفة كمال وهذه الطريقة في المسألة يتبين بها أن جواز الرؤية من صفات الكمال التي هو الباري أحق بها من المخلوقات ونظيرها في مسألة العلو أن علة الشيء بنفسه على غيره صفة كمال كما أن قدرته عليه صفة كمال وإذا كامن كذلك فالله أحق بهذه الصفة من جميع ما يوصف بها غيره فيجب أن يكون عالياً بنفسه وكذلك تميزه بذاته عن غيره هي صفة

لا يوصف بها المعدوم ولا تختص بالناقصات فتكون صفة كمال فيجب اتصاف الله بها وذلك يوجب مباينته للعالم لكن قد علمنا أنا لم نكتب هنا ما يحتج به أهل الإثبات ولكن تكلمنا على ما ذكره الرازي ولوازمه فبينا أن هذه الحجة القياسية المذكورة في الرؤية مضمونها أنا إنما نرى الأشياء لكونها موجودة والله سبحانه وتعالى موجود بل هو أكمل في الوجود فيجب أن تكون رؤيته جائزة وتلخيصها أن يقال لا ريب أنا نرى الموجودات من الجواهر والأعراض كالألوان والمقادير مثل الطول والقصر ونحوهما دون المعدومات واختصاص الرؤية الموجود دون المعدوم يقتضي أن المقتضي لجواز الرؤية مختص الوجود ومعنى هذا أنه لا يجوز أن يكون الموجود والمعدوم في الرؤية سواء إذ لو كانا متماثلين في ذلك لم يجز اختلافهما في رؤية أحدهما دون الآخر فليس المراد بقولنا إن علة الرؤية أو المقتضي لها مختص بالوجود إثبات علة أو سبب زائد على حقيقة الموجود مقتضٍ لصحة رؤيته كما توهمه من قال في الأحكام ما يعلل منها وما لا يعلل فيجوز أن تكون الرؤية من الأحكام التي لا تعلل بل المراد أن كون أحد الجنسين تصح رؤيته دون الآخر يقتضي اختلافهما في ذلك وعدم تماثلهما

نقل المؤلف عن الإمام أحمد في رده على الجهمية

سواء كان سبب هذا الاختلاف نفس ذات الموجود أو صفة له أو غير ذلك وهذا لا ينازع فيه من فهمه وإذا كان المقتضي بجواز الرؤية مختصاً بالموجود فإما أن يكون قدراً مشتركاً بين المرئيات من الجواهر والأعراض أو أمراً مختصاً ببعضها لكن الثاني باطل فإن الحكم المشترك يجب أن يكون سببه مشتركاً لأنه لو كان سببه مختصاً كان الحكم موجوداً مع وجوده وموجوداً مع عدمه فلا يكون الحكم متوقفاً عليه بل يكون ذلك الوصف عديم التأثير فيه لا أثر له في وجوده إذ هو موجود مع عدمه كوجوده مع وجوده وهذا بين وقد نبهنا عليه فيما تقدم في تمال العلل والمعلولات وتكلمنا على النقض وعدم التأثير وبينا الفرق بين العلة التامة التي لا تتبعض وغير التامة وعلى هذا فرؤية كل

شيء خاص من نوع أو شخص يشارك رؤية غيره في مطلق الرؤية ويفارقها في خصوص رؤية ذلك النوع أو الشخص كما أن المرئي يشارك غيره في كونه موجوداً مرئياً ويفارقها بخصوص نوعه وشخصه فيكون الحكم المطلق المشترك وهومطلق الرؤية معلقاً بالقدر المشترك بين المرئيات والحكم الخاص وهو الرؤية الخاصة معلقاً بالقدر المختص في كل نوع وشخص على حدته وبهذا التحقيق يندفع ما يقال هناك إن الرؤية قد تكون معلقة بخصوص المرئي مثل أن تكون رؤية الجواهر والأعراض معلقة تخص الأعراض فإنه إذا فهم أن الرؤية جنس تحتها أنواع كالمرئيات وأن العام المطلق يضاف إلى العام المطلق والخاص المقيد يضاف إلى الخاص المقيد اندفع هذا وغيره ويزول ما ينقض العلة ويبين عدم تأثيرها وإذا كان كذلك وأن المقتضي لها مشترك فالمشترك بين

المرئيات من العيان القائمة بأنفسها والصفات القائمة بغيرها إما الوجود ولوازمه وإما غير ذلك والذي هو غير ذلك هو أخص من الوجود وما كان غير ذلك فلابد أن يستلزم العدم سواء قيل هو الحدوث أو غير ذلك مثل بعض لوازم الحدث لأن المشترك إذا لم يكن هو الوجود ولا شيئاً من لوازمه التي يلزم من عدمها عدم الوجود كان أخص من الوجود بحيث يكون وجود خاص لئلا يلزم من عدم هذا الوجود الخاص عدم الوجود بالكلية إذ كل ما هو مساوٍ للوجود في العموم أو هو أعم منه كالمعلوم والمذكور يلزم من نفيه نفي الوجود وهو من لوازم الوجود والكلام هنا في القسم الثاني الذي ليس الوجود ولا شيئاً من لوازمه ولم نقل ولا شيئاً من ملازمه وهذا الوجود الخاص الذي يقدر أنه سبب الرؤية لا يجوز أن يكون هو الوجوب الواجب فإنا تكلمنا في رؤية المشهودات المخلوقة مع أن علة الرؤية إذا كان هو الوجود الواجب كان ذلك أبلغ في جواز رؤية الله تعالى فإنه سبحانه هو الوجود الواجب لكن ليس الأمر كذلك

وإذا كان الأمر كذلك فهذا المقتضي للرؤية على هذا التقدير الذي هو أخص من الوجود إما أن يكون ما يدخل فيه الوجود الواجب أو لا يكون فإن كان المقتضي لجواز الرؤية مايتناول الوجود الواجب ثبت أن المقتضي لجواز الرؤية أمر مشترك بين الوجود الواجب وبين غيره من المرئيات وهذا هو المطلوب وإن كان المقتضي الأخص لا يدخل فيه الوجود الواجب وجب أن يكون مختصاً بما عدا الوجود وهذا سواء كان هو الإمكان أو الحدوث أو ما هو أخص من الإمكان والحدوث مثل التحيز أو المقابلة عند من يقول ذلك هو المقتضي للرؤية وهو منتفٍ في حق الله أو المشروط بالثمانية التي يذكرها المعتزلة أو غير ذلك وكل هذه الأمور إذا قيل بانتفائها عن

واجب الوجود واختصاصها بالمخلوق فإنها مستلزمة للعدم وأقل ما يكون لقبول العدم فإن كل ما لا يدخل في الوجود الواجب فهو قابل للعدم بل هو معدوم تارة وموجود أخرى وإذا كان كذلك ظهر أن المقتضي للرؤية إذا لم يكن هو الوجود أو لوازمه كان مستلزماً للعدم وإن شئت لقبول العدم وبهذا التقسيم الدائر بين النفي والإثبات انقطع ما يورد هنا من السؤالات وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المقتضي لرؤية المرئيات أمراً يشترط فيه العدم أو قبوله لأن كونه معدوماً أو قابلاً للعدم لا يكون مقتضياً لأمر وجودي فالرؤية أمر وجودي والأمر الوجودي لا تكون علته أمراً عدمياً والعلم بهذا بديهي لمن تصوره لكن قد يكون الأمر العدمي مستلزماً لوجود مثل عدم الموانع المستلزمة لكمال العلة بوجود شروطها التي هي أجزاء العلة التامة فيضاف الحكم إلى ذلك العدم ويكون ذلك إضافة إلى علة ناقصة والعلة الناقصة تكون جزءاً وشرطاً من العلة

التامة والعدم وإن كان في الظاهر جزءاً من العلة التامة فلابد أن يستلزم أمراً وجودياً وإلا فيمتنع أن يكون العدم علة للوجود أو جزءاً من علة الحقيقة بوجه من الوجوه وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المقتضي للرؤية التي هي أمر موجود أمراً يستلزم العدم أو قبول العدم لأنه يكون العدم أو قبول العدم جزءاً من علة الأمر الموجود وهذا باطل فإن قيل هذا أو قبوله إنما كان علة للأمر الموجود لأنه يستلزم أمراً وجودياً كان ذلك الوجود هو جزء العلة في الحقيقة فلا يكون علة الرؤية إلا الوجود أو لوازم الوجود لا يكون ما يستلزم العدم أو قبوله وإذا لم تكن العلة ما يستلزم العدم أو قبوله بطل أن يكون علة الرؤية الحدوث أو شيئاً يختص بالمحدثات أو ببعضها أو الإمكان أو وصفاً يختص بالممكنات أو ببعضها ووج أن يكون قدراً مشتركاً بين القديم والمحدث بين الواجب والممكن بل أن يكون القديم الواجب أحق به فإنه إن كان هو الوجود فظاهر وإن كان شيئاً من لوازم الوجود فذلك الوصف متى انتفى انتفى الوجود فلا يكون ثابتاً إلا بثبوت الوجود ومن المعلوم أن الوجود وجميع لوازم الوجود مشتركة بين الواجب والممكن والقديم والمحدث وإذا كان كذلك ثبت أن المقتضي للرؤية أمر ثابت في حق الله تعالى القديم الواجب

الوجود فتكون رؤية الله جائزة بل تكون أحق بجواز الرؤية لأن وجوده أكمل من وجود غيره ومن فهم هذه الحجة على هذا الوجه ظهر له أنها برهانية وأمكنه دفع تلك السؤالات الكثيرة التي تورد إذا ذكرت على هذا النظم ولولا أن هذا ليس موضع ذلك وإلا كنا نفعل ذلك مفصلاً لكن فالجواب عما أورده على هذه الحجة في احتجاج ابن الهيصم بها في مسألة العلو فظهر أصل الجواب في مسألة الرؤية وقد ظهر أن حجة ابن الهيصم لم يقررها هو تقريرا ًجيداً فإذا أردت تلخيص هذه الحجة فقل الرؤية مختصة بالموجود دون المعدوم وهذا الاختصاص إما أن يكون للموجود أو لما يساويه في العموم والخصوص أو لما هو أعم منه أو لما هو أخص منه فإن جازت لموجود أو لما

يساويه أو لما هو أعم منه جازت رؤية كل موجود لثبوت الوجود أو ما يساويه أو ما هو أعم منه لكل موجود وإن اكن لما هو أخص من الوجود فإذا كان لما يندرج في الواجب جاز رؤيته أيضاً لوجود نقيضها وهو الوصف الذي يوجد للواجب وغيره وإن كان لا يندرج فيه الواجب فما سوى الواجب فهو محدث عند أهل الملل قد كان معدوماً وهو قابل للعدم بلا نزاع فيكون المقتضي للرؤية لابد أن يشترط فيه العدم أو قبوله ولا يجوز ذلك لأن الأمور الوجودية لا يشترك في علتها العدم ولا قبول العدم وطرد هذه الحجة يوجب ثبوت كل أمر وجودي ويقال على هذا جميع لنقائص التي يجب تنزيهه تعالى عنها فإنما هو لاستلزامها العدم وأما الوجود من حيث هو وجود فهو كمال فلا يجوز نفيه عنه وهذه الطريق توافق قول من يقول الكمال وهو الوجود وتوابعه وهو الخير والشر عدم الوجود وعدم كماله وبها يمكن أن نثبت جميع الصفات كالسمع والبصر والكلام فإنها وجود ليس فيها عدم والنقائص التي هي ضد هذه فيها العدم وهو عدم هذه الأمور وكلام السلف والأئمة موافق لهذه الطريقة حيث كانوا ينزهونه عن النقائص التي يشبه فيها المعدوم أو الموات العادم

لصفات الكمال وهذا موافق ما قدمناه قبل هذا من أن ما كان صفة للعدم لم يجز أن يوصف الله به وإنما يوصف من السلوب بما كان مستلزماً للوجود إذ العدم المحض ليس فيه ثناء وحمد وصفات الله فيها الثناء والحمد وهذا يطابق أن الموجود من حيث هو فيه الثناء والحمد والحمد لله رب العالمين ونكتة هذه الحجة أن كل حكم ثبت لمحض الوجود فالوجود الواجب أولى به من الممكن وكذلك من الأمثال المضروبة وهي الأقيسة العقلية ولله المثل الأعلى أن كل كمال ثبت لموجود فالواجب أولى به من الممكن وكل كمال يوجد في المربوب فالرب أولى به من العبد وهذا مما سلكه الفلاسفة لكن يعبرون بمعنى التولد فيقولون كل كمال

ثبت للمعلول فإنه من أثر العلة والعلة أولى به من المعلول وهذه أقيسة عقلية وأمثال مضروبة ولله المثل الأعلى تستعمل في عامة الأمور الإلهية كما ورد الكتاب والسنة بنحو ذلك كما قد بيناه في غير هذا الموضع وقولنا في هذه الحجة كل حكم ثبت لمحض الوجود يخرج الأحكام التي تتضمن العدم مثل الأكل والشرب فإن ذلك يستلزم كون الآكل والشارب أجوف بحيث يحصل الغذاء الذي هو أجسام في محل خال لاسيما إذا كان قد خرج غيره بالتحلل ويكون بدل المتحلل فيكون متضمناً خروج شيء من الجسم وذلك نقص منه وهو صفة عدمية ووجود أجزاء فيه وذلك يستلزم خالياً وهو نقص فيه وهو صفة عدمية وهذا

ينافي الصمدية فإن الصمد هو الذي لا جوف له فلا يأكل ولا يشرب ولا يلد ولا يخرج منه شيء ولا غيره من جنس الفضلات التي تخرج من الإنسان فإن دخول جسم فيه أو خروج جسم منه يتضمن النقص المستلزم لأمر عدمي وهذا ينافي الصمدية وليس هو من الأحكام الثابتة لمحض الوجود بل من الأحكام المتضمنة وجوداً أو عدماً فلا جرم لم يكن سبب ذلك وصفاً يتناول الواجب والممكن بل وصف يختص بالممكن المحدث وهوالحاجة والافتقار في الطعام لإخلاف بدل ما يتحلل من البدن وفي الإنزال لدفع الضرر الحاصل بسبب المني بمنزلة إخراج الدم عند الحاجة فوجود جسم فيه يضاده ويضاره عجز وفقر من خصائص المخلوق وحاجته إلى جسم خارج منه يتم به وجوده فقر وحاجة من خصائص المخلوق ولهذا كان أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون ولا يبولون ولا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يمنون وإنما يتحلل الطعام عنهم برشح كرشح المسك

لأن تلك الفضلات مضادة للبدن مؤذية له وليس في الجنة أذى وأما الأكل والشرب فإنما هو استكمال بعد نقص وهذا من لوازم المخلوقات وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ولهذا قال سبحانه مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [المائدة 75] فأكل الطعام ينافي الصمدية ويوجب الفقر والحاجة المنافي للربوبية من وجوه متعددة وهكذا سائر الأحكام التي تعرض لبعض الموجودات والرب منزه عنها مثل السنة والنوم هما من الحكام المتضمنة أمراً عدمياً فليس هو من أحكام الوجود المحض ولهذا كان أهل الجنة مع كونهم موجودين لا ينامون فإن النوم أخو الموت وهو يتضمن أمراً عدمياً وكذلك العجز والجهل

والصمم والعمى وسائر ما ينافي صفات الكمال وإن وصف به بعض الموجودات فإنه متضمن أمراً عدمياً وهذا معنى النقص فإن النقص يتضمن أمرًا عدمياً وكل مل تضمن عدماً محضاً فإن الله لا يوصف به فإنه يقتضي العدم المحض إذ هو الوجود الواجب وإنما يوصف بالصفات السلبية المتضمنة أمراً وجودياً وأما طرد هذه الحجة في الإدراكات الأربعة هي السمع واللمس والشم والذوق فإنه وإن كان طردها طائفة من الصفاتية كالأشعري وأئمة أصحابه فلا يحتاج إلى ذلك عند التأمل بل يفصل الأمر فيه وإذا فصل تفصيلاً يقتضيه العقل الصريح كان ذلك موافقاً لما جاءت به الآثار وعليه أئمة الحديث وذلك أن السمع لم يتعلق بالجوهر والأعراض كالرؤية وإنما يتعلق بنوع من الأعراض وهو الأصوات مثلاً فإذا لم يكن متعلقاً بشيء قائم بنفسه كيف يمكن طرده في كل موجود قائم بنفسه حتى يقال إنه يمكن سمعه أما اللمس فإنه يتعلق بالجواهر والأعراض وهو الذي أورده من جهة الإلزام فلزم لزوماً واضحاً لكن قاسوا عليه بقية

الإدراكات فلا جرم جاءت الأحاديث بثبوت المماسة كما دل على ذلك القرآن وقاله أئمة السلف وهو نظير الرؤية وهو متعلق بمسألة العرش وخلق آدم يده وغير ذلك من مسائل الصفات وإن كان قد نفاه طوائف من أهل الكلام والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وليس هذا موضع الكلام فيه وإنما الغرض التنبيه على مجامع هذه الحجة وأما الذوق فهو مس خاص وكذلك الشم مس خاص فإن الهواء وهو جسم يدخل إلى المنخرين إلى الزائدة التي في الدماغ بخلاف السمع والبصر فإنه ليس فيهما مماسة المرئي والمسموع ولهذا كانت أصول الإحساس ثلاثة السمع والبصر والمس قال تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ [فصلت 22] ولما كان اللمس جنساً تحته أنواع مختلفة في الحيوان وليس طريقاً عاماً إلى حصول العلم الكلي المجرد في القلب

بل نفس الإحساس وما يتبعه من ملاءمة ومنافرة فيه خصوص في سببه ومقصوده بخلاف السمع والبصر فإنهما طريقان إلى حصول العلم فيهما العلم الكلي في القلب والبصر يحصل به العلم بنفس الحقائق الموجودة والسمع يحصل به العلم بما يقال من أسمائها وصفاتها كان السمع والبصر في كتاب الله مخصوصين بالذكر دون غيرهما من الإحساس فيقال أما قوله في الوجه الأول مدارها على أن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة قوله وهذه المقدمة ممنوعة فنقول منع هذه من أعظم السفسطة فإن الشاهد ما نشهده بحواسنا الظاهرة أو الظاهرة والباطنة وليس فيما نشهده شيء إلا محايث لغيره وهي الصفات التي هي الأعراض أو مجانب له بالجهة وهي الأعيان القائمة بنفسها وهي الجواهر فمن منع أن يكون المشهود لا يخلو عن أحد هذين الوصفين فقد منع أن تنقسم المشهودات إلى الجواهر والأعراض ومعلوم أن هذا خلاف اتفاق الخلائق من الأولين والآخرين وخلاف ما يعلم بالضرورة والحس فإن الشيء المشهود إما قائم بنفسه وهو مباين لغيره وإما قائم بغيره وهو محايث له

وأما الوجوه التي ذكرها فعنها أجوبة أحدها أن الاستدلال على ذلك غير مقبول أنه قدح في أظهر الحسيات الضروريات الثاني أن هذا المؤسس وسائر طوائف أهل الحق متفقون على بطلانها وهو من أعظم الناس إبطالاً لما ذكره الفلاسفة في وجود جواهر غير محايثة لغيرها ولما ذكره المعتزلة من وجود أعراض غير محايثة لغيرها بل ما زال الناس يذكرون أن هذا من أعظم المحالات المتناقضة التي أثبتتها المعتزلة حيث أثبتوا إرادات وكراهات لا في محل وأن قولهم هذا يوجب عليهم وجود بقية الأعراض لا في محل وينقض عامة أصولهم الوجه الثالث أن يقال ما ذكروه من الحجة على أن الموجودين لابد وأن يكونا متباينين أو متحايثين هو حجة على

هؤلاء وغيرهم فيكون التزام بطلان هذه الأقوال طرد الدليل والمستدل إذا استدل بدليل يبطل مذهب منازعيه في الصورة التي تنازعا فيها وفي غيره مما لم يذكره لم يكن للمنازع أن ينقض دليله بمجرد مذهبه في صورة النزاع ولا يجب على المستدل أن يخص كل صورة بدليل خاص إذا كان العام يتناول الجميع وبهذا يظهر خطؤه في قوله ما لم تبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد فإما أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه وكذلك قوله ما لم تبطلوا قول المعتزلة بثبوت إرادات وكراهات وفناء لا في محل فإن الدليل الذي ذكروه على أن كل موجودين لابد أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو يكون بحيث هو سواء كان هو الضرورة أو الحجة القياسية حجة على هؤلاء وعلى غيرهم فلا يكون مجرد دعوى هؤلاء أو دعوى غيرهم معارضة لما ذكر من الدليل لكن إن أقاموا حجة على جوهر غير مباين لغيره أو ثبوت عرض غير محايث لغيره كان ذلك الدليل معارضاً لكن هذا لم يذكر والجواب عنه إذا ذكر هو جواب المؤسس وسائر بني آدم وذلك يظهر بالوجه الرابع وهو أن قوله إن جمهور

الفلاسفة يثبتون هذه الأشياء ويصفونها بما ذكر بل هذا تثبته طائفة من الفلاسفة وهم المشاؤون أتباع أرسطو ومن وافقهم وهؤلاء هم الذين سلك سبيلهم الفارابي وابن سبنا وهذا المؤسس من كتب ابن سينا يأخذ مذاهب الفلاسفة

وكثيراً ما يقول اتفق الفلاسفة ولا يكون عنده إلا ما ذكر ابن سينا وليس ما يذكره ابن سينا قول جميع الفلاسفة بل الفلاسفة أعظم تفرقاً وأكثر طوائف من أن يحصر قولهم كلام ابن سينا أو غيره وقد حكى من صنف في المقالات من المسلمين مثل أبي الحسن الأشعري والنوبختي والباقلاني وغيرهم من مقالات الفلاسفة أضعاف أضعاف ما يذكره ابن سينا وهذا المؤسس وكذلك حكايته عن جمهور المعتزلة إثبات إرادات وكراهات وفناء لا في محل وهذا إنما هو قول بعض البصريين وهم أبو علي وأبو هاشم ونحوهما وليس هؤلاء جمهور المعتزلة بل لهم في الإرادة والكراهة وفي الفناء أقوال

كثيرة معروفة هذا واحد منها أما الوجه الثالث الذي ذكره على وجود موجودات في الأعيان وهي الإضافات وأنه يمتنع أن تكون محايثة للعالم أو مباينة عنه بالجهة فهذا يعلم فساده بالضرورة والحس واتفاق العقلاء فلا يستحق الجواب فإن بعض الناس قد تنازع في الأمور التي لم يشهدها كالعقول والإرادات أما هذه الأعيان المشهودة فإنه لم يقل عاقل أنه يوجد فيها أمور لا مباينة للغير ولا محايثة له فإذا كان على هذا الوجه لم يستحق الجواب لكنا نبين وجه جهله لتتم الفائدة فنقول الأبوة هي كون الإنسان تولد منه نظيره والبنوة كونه يولد من نظيره أو ما يشبه هذا فإن الولادة داخلة في مسمى الأبوة والبنوة وكون الشيء ولده غيره أو ولد غيره وصف محسوس قائم بالوالد والولد وفي الحقيقة هو صفة ثبوتية فيها إضافة وأما العمومة والخؤولة ففيها ولادتان ولادة الأب للشخص وولادة جده لعمه وبنوة العم فيها ولادة ثالثة وهي ولادة العم لابنه فتفرع النسب يكون متعدد الولادة وقد يكون إحدى الولادات

موجوداً لكن يتوقف الوصف على الأخرى كما يتوقف الأمر في العمومة والخؤولة على نحو ذلك ومن هنا يظن الظان أنها إضافة محضة والتحقيق أن أحد الوصفين وجد قل الآخر ومن المعلوم أن كونه ولد وانفصل عن أبيه وأمه ليس هو سبباً يتبعض حتى يقال ثلث ولادة وربع ولادة أعني إذا خرج جميعه وإذا لم تكن منقسمة لم تكن الأبوة والبنوة منقسمة حتى يقال ثلث الأبوة أو ثلث البنوة كما لا يقال نصف الحيوانية والإنسانية والناطقية ونحو ذلك فظهر أن الأبوة التي هي وجودية محايثة لذات الرب كغيرها وكيف لا يكون ذاك والأبوة من أعظم الصفات القائمة بالأب المغيرة له تغيراً مشهوداً بالحس لما يوجد فيه من محبة الولد والحنو عليه والعطف عليه وأمثال ذلك مما لا يوجبه سائر الصفات فهي بأن تكون قائمة به أولى من غيرها وأما السؤال الثاني وهو قوله كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا إما أن يكون وإما أن لا يكون إشارة إلى كونه قابلاً للإنقسام إليها وقبول القسمة حكم عدمي فلا يكون معللاً فعنه أجوبة

مناقشة المؤلف لحجج الرازي

أحدها أن المراد بذلك أن الموجود يلزمه أحد الوصفين أي أن كل موجودين فإنه يلزم أحدهما أن يكون محايثاً للآخر أو مبايناً عنه فلزوم أحد الوصفين للوجود وقيامه به وكونه لا يفارقه هو المعني بقولهم إما أن يكون محايثاً أو يكون مبايناً وهذه القضية التي يسمونها مانعة الخلو مع كونها مانعة الجمع أي أن الموجود لا يخلو عن أحد هذين الأمرين والخلو عن الصفات أمر عدمي فنقيضه يكون وجودياً فثبوت أحد هذين الوصفين للموجود أمر وجودي ليس المراد بهذا التقسيم أن الموجودين ينقسمان إلى ما يكون محايثاً وما يكون مبايناً فإن العرضين القائمين بمحل كل منهما محايثاً للآخر ليس مجانباً له والجوهران كل منهما مجانب للآخر ليس محايثاً له فهذا ليس من باب تقسيم الكلي إلى جزئياته وإنما هو

من باب التقسيم المانع من الجمع بين للقسمين والخلو منهما وبهذا يظهر غلطه في السؤال الثالث أيضاً وإذا كان هذا التقسيم ليس هو القسمة إلى أمرين كتقسيم الكلي والكل وإنما هو بيان لزوم لأحد القسمين ونفي خلو المحلين عنهما جميعاً بطل قوله هذا إشارة إلى كونه قابلاً للإنقسام إليهما بل هذا إشارة إلى لزوم أحدهما الوجه الثاني قوله قبول القسمة حكم عدمي يقال لا نسلم ولا نسلم أن أصل القبول حكم عدمي بل كون الوجود قابلاً لشيء نقيضه عدم كونه ليس بقابل له والقبول رافع لهذا العدم ورافع العدم وجود وهذه الحجة هي التي احتج بها على أن الأبوة وجودية فإن صحت صح أن القبول وجودي وإن بطل ذلك في القبول بطل في الأبوة أيضاً الوجه الثالث قوله لو كان أمراً ثابتاً لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه بكونه قابلاً والذات قابلة

للصفة القائمة بها فيكون قبول ذلك القبول زائداً عليه ويلزم التسلسل يقال قبول الانقسام ونحوه من الصفات كون ذلك ممكناً في نفس الذات وإمكان الشيء لا يحتاج إلى إمكان آخر وهذه الصفة لازمة للذات ليست الذات قابلتها بمعنى أنه يمكن وجودها ويمكن عدمها بل كونها قابلة أمر لازم لها واجب لها وهذا القبول يراد به عدم الامتناع بمعنى الإمكان العام الذي يدخل فيه الواجب والأولى بمعنى الإمكان الخاص فإذا كان أحد القبولين هو الإمكان الخاص والآخر هو العام وهو بمعنى الوجوب كان ذلك بمعنى الوجوب ووجوب الصفة للموصوف ليس فيه تسلسل وإنما جاء الغلط من لفظ الاشتراك والقبول الوجه الرابع هب أن القبول أمر عدمي فقوله يمتنع تعليله قيل المراد بالتعليل هنا التلازم ليس المراد به أن يكون أحد الأمرين غنياً عن الآخر موجباً له وبهذا الاعتبار يصح أن يكون كل من الأمرين لازماً ملزوماً

فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة أن التقسيم لزوم لا قبول ولو كان قبولاً لم يكن عدمياً ولو كان عدمياً فمعناه أن الموجود لابد له من أن يكون مع غيره من الموجودات إما محايثاً له وإما مبايناً له وهذا لازم لكون الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكل قائم بنفسه فهو مباين للقائم بنفسه وكل قائم بغيره فهو محايث لذلك الغير ولما شاركه في القيام بذلك الغير وأما السؤال الثالث فقوله ما الذي تريدون بقولكم الموجود في الشاهد منقسم إلى المحايث والمباين فعنه جوابان أحدهما أن يقال له لم يقولوا هكذا وإنما قالوا الموجودان لابد وأن يكون كل منهما مبايناً للآخر أو محايثاً له والموجود بنفسه مع الموجود الآخر إما مبايناً له أو محايثاً له لم يقولوا إن الموجودات تنقسم إلى قسمين أحدهما مباين والآخر محايث وفرق بين كون الموجود بالنسبة إلى غيره يلزمه أحد الأمرين وبين كون الموجود ينقسم إلى الأمرين وإذا كان كذلك فلزم أحد الأمرين حكم واحد ليس هو حكمين

مختلفين والفرق ظاهر بين أن يكون الموجود ينقسم إلى قائم لنفسه مباين لغيره وهو الجوهر وهو قائم بغيره محايث له وهو العرض وبين أن يقال كل موجود مع غيره فلابد أن يكون مبايناً له أو محايثاً له أو يقال الموجود من حيث هو موجود يلزمه أن يكون قائماً بنفسه أو بغيره فإن هذا حكم واحد لموجود وذاك حكمان مختلفان فهذا الواحد هو ما به الاشتراك وهو مورد التقسيم وذانك الاثنان هما ما به الامتياز وهو ما به يمتاز أحد القسمين عن الآخر بالحكم الواحد المشترك وهو لزوم أحدهما والانقسام إليهما يلزم الوجود المشترك والحكم المختص يلزم القسم الخاص فخصوص كونه قائماً بنفسه حكم النوع الخاص وهو الجوهر وخصوص كونه قائماً بغيره حكم النوع الآخر الخاص وهو العرض ولا ريب أن خصوص كونه جوهراً وعرضاً يصلحان لما يختص بالجوهر والعرض وأما لزوم أحد الحكمين لكل موجودين أو كل موجود وكون الموجود والموجودين لا يخلو عن أحد هذين الوصفين فهذا الحكم المشترك بينهما لا يصلح تعليله بخصوص الجوهر وخصوص العرض وهذا ليس هو أن الموجود في الشاهد منقسم إلى هذين القسمين فليس هو قسمة الكل إلى أجزائه فظهر أن الذي قالوه ليس بغلط ولكن هو

غلط غالًط وهذا مثل أن يقال الموجود لابد أن يكون إما قديماً أو محدثاً وإما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً فإن هذا يختص بالموجود فالمعدوم لا يكون قديماً ولا محدثاً ولا خالقاً ولا مخلوقاً فلزوم أحد القسمين حكم مشترك بينهما والموجود من حيث هو مشترك بينهما الجواب الثاني أن يقال هي أنهم قالوا الموجود في الشاهد ينقسم إلى المحايث والمباين فإن انقسام الشيء إلى قسمين حكم واحد ولكن ما يخص أحد القسمين حكم يخالف الآخر فهب أن وجوب المباينة معلل بكونه جوهراً ووجوب المحايثة معلل بكونه عرضاً لكن القدر المشترك وهو لزوم الانقسام وقبوله ووجوب الانقسام إلى جوهر وإلى عرض حكم مشترك بينهما وهذا الحكم المشترك يجب تعليله بالقدر دون الحكم المختص لأن وجوب الانقسام ولزومه وقبوله وكونه بحيث ينقسم إلى قسمين هو مورد التقسيم ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فيجب تعليله بالمشترك فالمقسوم هو الموجود من حيث هو لا وجود الجوهر خاصة ولا وجود

العرض خاصة والموجود وإن لم يكن في الخارج إلا متميزاً فهذه قسمة الكلي إلى جزئياته فهذا حاله بخلاف الكلي الموجود في الخارج كالإنسان مثلاً إذا قسم إلى أجزائه من الرأس واليد ونحو ذلك وأما قوله في السؤال الرابع لِمَ قلتم أنه لابد من تعليله إما بالوجود وإما بالحدوث وما الدليل على الحصر فإنه يمكن أن يقال هنا ثلاثة أشياء أحدها أن يقال البحث التام والسبر التام والاستقراء

التام قد يفيد اليقين تارة كما يفيد الظن القوي أخرى وهذا مما يقال في مواضع وقول القائل الشهادة على النفي غير معلومة ليس بصحيح بل النفي قد يعلم تارة كما يعلم الإثبات الثاني أن يقال هذا يفيد الاعتقاد القوي والظن الغالب وهذا فيه إنصاف وعدل وهو خير من دعوى البراهين القطعية التي تظهر عند التحقيق أنها شبهات وخيالات فاسدة ومن قال لا يجوز أن يحتج في هذا الباب إلا بالقطعي الذي لا يحتمل النقيض قيل له أولاً أنت أول من خالف هذا فأنت دائماً تحتج بما لا يفيد الظن الغالب فضلاً عن اليقين وقيل له ثانياً لا نسلم بل الواجب على كل إنسان أن يأتي بما هو الحق فإن كان عنده علم قاطع قال به والمسائل التي تنازع بنو آدم فيها لأن يحصل للإنسان فيها ظن غالب خير من أن يكون في الحيرة والجهالة أو يكون في التقليد أو الحجج الفاسدة كما هو الواقع كثيراً وسنتكلم إن شاء الله على هذا في الكلام على

الأحاديث وقيل له ثالثاً هذا إذا انضم إلى غيره حصل من مجموعهما اليقين وإن لم يكن اليقين حاصلاً بأحدهما كغير ذلك منم الأدلة السمعية والعقلية الثالث أن هذا يمكن تقريره بالتقسيم الدائر بين النفي والإثبات كما قررناه في مسألة الرؤية وهو أن يقال المشترك بينهما إما أن يكون هو الوجود أو ما هو من لوازمه أو لا الوجود ولا شيئاً من لوازمه وما ليس الوجود ولا شيئاً من لوازمه يكون أخص من الوجود لأن ما هو مساوٍ له في العموم والخصوص وما هو أعم منه لازم له وأما الأخص منه كالحدوث والإمكان فليس بلازم له لأن الوجود قد لا يكون مكناً ولا محدثاً بخلاف الأعم مثل جواز كونه مذكوراً ومعلوماً فإن ذلك يلزم من انتفائه انتفاء كونه موجوداً لأنه أعم منه وإن شئت قلت إما أن يكون هو الوجود أو ما يساويه في العموم والخصوص أو أعم منه أو أخص فإذا كان أخص منه فإما أن يتناول الوجود الواجب أو لا يتناوله فإن تناوله فهو في ذلك كالوجود وإن لم يتناوله فإنه مستلزم الحدوث فإن كل

ما لا يدخل في مسمى واجب الوجود فهو محدث فثبت أن العلة إما أن تكون هي الحدوث أو ما يشترط فيه الحدوث مثل ما هو أخص من الحدوث وإما أن يكون هو الوجود أو ما يتناول واجب الوجود وهذا التقسيم دائر بين النفي والإثبات وإليه يرجع حقيقة قولهم إما الوجود وإما الحدوث وهذا التحرير يظهر الجواب عن السؤال الخامس وهو قوله لا نسلم أنا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث أو الوجود بيانه من وجهين الأول أنه من المحتمل أن يقال المقتضي لقولنا إن الشيء إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة وهو كونه بحيث تصح الإشارة الحسية لأن كل شيئين صح الإشارة إليهما فإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر أو غيره فيقال له كونه بحيث تصح الإشارة الحسية إليه إما أن يكون مطابقاً للوجود في العموم والخصوص بحيث يقال

الموجود لابد أن تصح الإشارة الحسية أصلاً أو تبعاً وأن كل موجودين فلابد أن تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر أو غيره أو يكون أخص منه فإن كان مطابقاً له حصل المقصود وكذلك إذا كان أعلم منه بطريق الأولى لأنه حينئذ تكون الحجة دليلاً على شيئين على صحة الإشارة الحسية إليه وعلى كونه مبايناً للعالم وإن كانت صحة الإشارة إليه أخص من الوجود بحيث تصح الإشارة الحسية إلى بعض الموجودات دون بعض فإن كان واجب الوجود داخلاً في ذلك صحة الحجة أيضاً وإن لم يكن داخلاً في ذلك كانت صحة الإشارة مستلزماً للحدوث فيكون التعليل بصحة الإشارة الحسية تعليلاً بما يستلزم الحدوث كما سنبينه إن شاء الله وأما قوله في الوجه الثاني إن الجواهر والأعراض مشتركان في الأمر الذي به وقعت المخالفة بينهما وبين الباري فلم لا يجوز أن يكون هذا هو المقتضي لقبول الانقسام إلى المباين والمحايث وحينئذ يبطل قوله لا مشترك بينهما إلا الحدوث

يقال هذه المخالفة لذات الباري المشتركة بينهما هي مستلزمة للحدوث فإنها من خصائصها لا توجد في الباري وما يختص المحدث مستلزم للحدوث وإذا كان كذلك كان حكمه حكم الحدوث فإن قولهم هو الوجود أو الحدوث كل وصف يستلزم الحدوث فحكمه كحكمه في ذلك وكل وصف لازم للوجود بحيث يلزم من عدمه عدم الوجود هو كالوجود فإن رفع التعليل به يقتضي رفع التعليل بالوجود كما تقدم بيانه قوله في السؤال السادس لِمَ لا يجوز أن يكون المقتضي لهذا الحكم الحدوث قوله الحدوث ماهية مركبة من العدم والوجود قلنا كل محدث فإنه يصدق عليه كونه قابلاً للعدم والوجود وأيضاً كون الشيء منقسماً إلى المحايث والمباين معناه كونه قابلاً للانقسام إلى القسمين فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت في الموضعين كذلك وإن كانت عدمية فكذلك ولا يبعد تعليل عدم بعدم يقال أما الحدوث أو ما يستلزم الحدوث فلا يجوز أن يكون هو علة للأمر الوجودي لأن ذلك مستلزم للعدم وما يستلزم العدم لا يجوز أن يكون علة للأمر الوجودي فلا يعلل

الأمر الوجودي الذي يختص بالموجودات دون المعدومات إلا بأمر وجودي يختص بالموجودات وكذلك لو أريد بالتعليل الملازمة ف5إن الأمر الوجودي لا يكون مستلزماً للأمر المستلزم للعدم لأنه يوجب أن يكون العدم مستلزماً الوجود والعدم لا يكون مستلزماً للوجود فلا تكون الرؤية ولا صحة المحايثة والمبانية مستلزماً لما يتضمن العدم سواء كان هو الحدوث أو ما يستلزم الحدوث إذ كل منهما مستلزم للعدم والوجود لا مستلزم للعدم إلا بطريق استلزامه لوجود يمنع غيره فيكون العدم ضد الوجود أما أن يكون وجود جنس الأمر الوجودي معلقاً بوجود يشترط فيه أن يكون معدوماً فلا قوله كل محدث يصدق عليه كونه قابلاً للوجود والعدم وكذلك كون الشيء منقسماً إلى المحايث والمباين إلى آخره يقال له هذا غلط من وجوه أحدها أن المحدث الذي تجوز رؤيته هو الموجود دون المعدوم فإن المعدوم لا يجوز رؤيته ولا يجوز تعليل رؤية الوجود المنقسم إلى محايث ومباين بأنه محدث منقسم إلى موجود ومعدوم فإن المحدث الذي يدخل فيه المعدوم لا يرى

بحال فهو أعم مما يرى والعلة لا تكون أعم من المعلول وأيضاً فالمحدث الذي يصدق عليه أنه قابل للوجود والعدم إنما هو الحقيقة الذهنية التي لا وجود لها في الخارج فهي تقل أن تكون موجودة وأن تكون معدومة وأما الوجود فلا يقبل ذلك الثاني أنه ليس قبول الحقيقة لأن تكون موجودة ومعدومة مثل قبولها لأن تكون محايثة لغيرها أو مباينة له لأن ذلك القبول لا يقوم بشيء موجود بل هو حكم ذهني وأما هذا الثاني فهو صفة لأمر موجود فإن المحايثة والمباينة صفة لأمر موجود وليس كل واحد من الوجود والعدم صفة لموجود الثالث أن الشيء الذي يقبل الوجود والعدم هو شيء بعينه يقبل الوجود تارة والعدم تارة ليس المحدث ينقسم إلى موجود ومعدوم وأما المحايثة والمباينة فليستا صفتين متعاقبتين على حقيقة واحدة بل الحقيقة الموجودة المطلقة تنقسم إلى محايث موصوفاً بالمباينة وإلى مباين ليس موصوفاً بالمحايثة فليس هذا نظير ذلك الرابع أنا قد بينا أن الحكم الواحد هو لزوم أحدهما للوجود وهذا حكم واحد وجودي ولا يقال إن أحد الأمرين

من الوجود والعدم يلزم المحدث بل المحدث بعد حدوثه لا يكون إلا موجوداً وقبل وجوده لم يكن إلا معدوماً وإن أريد به الحقيقة أنه يلزمها أحد الأمرين فيقال هو يلزمها إما الوجود وإما العدم ولزوم أحد الأمرين واحد وجود والثاني عدم لا يكون وجودياً بخلاف لزوم أحد أمرين وجوديين المباينة والمحايثة فإن لزوم أحد هذين يكون وجودياً الخامس أن الصواب المتفق عليه بين أهل السنة وعقلاء الخلق أن العدم ليس بشيء في الخارج وإنما كان له وجود في العلم وإذا كان كذلك فالمحدث تارة يكون شيئاً وتارة لا يكون شيئاً فلا يكون كونه شيئاً وكونه ليس بشيء علة لكونه محايثاً أو مبايناً فإن هذين يختصان بما هو شيء وما هو شيء لا يكون علة ما يستلزم في أحد حاليه أن لا يكون شيئاً أو لا يكون علة انقسام حالية إلى أن يكون شيئاً تارة وغير شيء أخرى وأما ما أورده على قوله إن الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول من معارضة ذلك بأن يقال العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيقال عنه جوابان أحدهما القول بموجب ذلك فإن كل ذي فطرة سليمة لم يتقلد مذهباً يصده ويغير فطرته إذا علم أن الشيء موجود علم أنه إما أن يكون محايثاً لغيره وإما أن يكون مبايناً له كما يعلمون

أن القائم بنفسه لا يكون إلا داخل العالم أو خارجه وإذا قيل له موجود ولا داخل العالم ولا خارجه أو قيل له شيئان موجودان ليس أحدهما مبايناً للآخر ولا هو بحيث هو وفهم ذلك أنكرته فطرته وقوله الجمهور الأعظم وهم أهل التوحيد يعلمون أن الباري جل وعلا موجود ولا يعلمون أنه لابد وأن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً له قلنا ليس الأمر كذلك بل النفاة مغمورون في جانب أهل التوحيد أيضاً فيكون بالنسبة إلى جماهير بني آدم من المسلمين وغيرهم وجمهورهم تقلد هذا القول عن بعض حتى تغيرت فطرته ليس في هؤلاء أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا فيهم إلا من هو مجروح من المسلمين ببدعة وإن كان متأولاً فيها ومغفوراً له خطؤه أو فيه ما هو أكثر من البدعة وهو الغالب على أئمة هذا القول من نوع ردة عن الإسلام ونفاق فيه وغير ذلك وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنهم من أضل الخلق وأجهلهم فلا يضرهم خلافهم في ذلك الوجه الثاني أن يقال العلم أمر وجودي وأما عدم العلم

فوصف عدمي والأمر الوجودي يتوقف على السبب التام بخلاف العدمي فإنه يكفي فيه عدم السبب أو نقصه وإذا كان كذلك فليس مجرد علم الإنسان بالدليل علة كان أو غيرها يوجب علمه بالمدلول معلولاً كان أو غيره إن لم يستحضر في ذهنه دلالة الدليل على المدلول ويتفطن لما فيه من الدلالة وهذا كما أن خلقاً يسمعون كلام الله وهو الدليل الهادي ويشهدون آيات الله بالليل والنهار وهم عنها معرضون لعدم التفكير والتدبر أما إذا علم الرجل الحكم فلابد له من سبب يوجب العلم في قلبه وكون الشيء إما محايثاً وإما مبايناً وإما قديماً وإما محدثاً ونحو ذلك وإنما هو الوصف المعقول وهو لزوم أحد الوصفين للموجود وكون الموجود ينقسم إلى هذين فإن الموجود المطلق وجوده ذهني

وكذلك الانقسام إلى قسمين هو حكم عقلي وكذلك لزوم أحد الوصفين لا بعينه حكم عقلي ليس بحسي فإذا كان هذا الحكم يحكم به العقل بمجرد علمه وجود الشيء المحايث والمباين قبل علمه بكونه محدثاً علم أن العلم بهذا الانقسام العقلي لا يتوقف على الحكم بالحدوث بل يعلم بمجرد العلم بكونه موجوداً فلو كان المقتضي له ليس هو الوجود بل هو الحدوث أو ما يشترط فيه الحدوث كان الحكم بذلك يدون العلم بمقتضيه وملزومه حكماً بالذهن بلا حجة فإنه إنما يستدل على الشيء بعلته أو معلوله أو يستدل بأحد المعلولين على الآخر فإذا كانت جميع وجوه الأدلة منتفية انتفى العلم فإذا كان العلم بهذا الانقسام موجوداً بدون هذه الوجوه علم أنها ليس أدلة فلا تكون داخلة في التعليل وكذلك قوله الأمر المعلوم بالبديهة لا يجوز أن يكون علة وصف استدلالي إنما هو العلة التي توجب العلم بالحكم ولكن يجوز أن يكون المؤثر فيما أدركه الحس ما لم

يذكره الحس ولكن هذا الانقسام ليس من الأمور الحسية بل من الأحكام العقلية والعقل لا يحصر شيئاً قبل الإحاطة بأفراده ولا تلازم بين شيئين قبل العلم بوجه الملازمة فإن لم يكن الوجود هو المقتضي لهذا الحصر والتقسيم لهذه الملازمة لم يجز حكم الذهن بذلك حتى يعلم دليلاً يدله على هذا الحصر والتقسيم وهذه الملازمة ولا يجوز أن يكون الحكم بديهياً ودليله نظرياً استدلالياً ومن يدبر عقله علم أنه يحكم بهذا التقسيم وهذا اللزوم بمجرد العلم بالوجود قبل العلم بالحدوث وغيره فإن لم يكن الوجود مقتضياً له لم يكن له أن يحكم إلا بما أحسه وهذان هذا مباين لهذا وهذا محايث له أما أن يحكم حكماً عاماً على جميع الموجودات إما أن يكون محايثاً وإما أن يكون مبايناً قبل علمه بتساويهما في ذلك فهو حكم بلا أصل وهذا الكلام يحتاج إلى تقرير أن العلة الخارجة هي العلة الذهنية وإلا فيمكن النزاع في ذلك وإما قوله في السؤال السابع لو كان الوجود واحداً في الشاهد والغائب ليس إلا بالاشتراك اللفظي وهذا لا يمكن إلا بأن يكون الباري مثلاً للمحدثات أو يكون الوجود زائداً

على الماهية والمخالفون لا يقولون بواحد منهما فيقال مثل هذا الكلام تكرر في تصانيف هذا الرجل وهو غلط عظيم في أظهر الأمور وأول الأمور المعقولة من العلم الكلي وهو وجود الحق ووجود الخلق ولهذا يغلط به من نقل مذاهب الناس فإن مذهب عامة الناس بل عامة الخلائق من الصفاتية كالأشعرية والكرامية وغيرهم أن الوجود ليس مقولاً بالاشتراك اللفظي فقط وكذلك سائر أسماء الله التي سمي بها وقد يكون لخلقه اسم كذلك مثل الحي والعليم والقدير فإن

هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي فقط بل بالتواطؤ وهي أيضاً مشككة فإن معانيها في حق الله تعالى أولى وهي حقيقة فيهما ومع ذلك فلا يقولون إن كما يستحقه الله تعالى من هذه الأسماء إذا سمي بها مثل ما يستحقه غيره ولا أنه في وجوده وحياته وعلمه وقدرته مثلاً لخلقه ولا يقولون أيضاً إن له أو لغيره في الخارج وجوداً غير حقيقتهم الموجودة في الخارج بل اللفظ يدل على قدر مشترك إذ أطلق وجرد عن الخصائص التي تميز أحدهما وهو لا يستعمل كذلك في أسماء الله فقط ولا هو موضوعاً في اللغة كذلك وإنما يذكر كذلك في مواضع تجرد عن الخصائص كما تجرد في المناظرة لأمور يحتاج إليها فيقدر تجريده عن الخصائص تقديراً كما يقدر أشياء لم توجد وهو حينئذ دال على قدر مشترك بين المسلمين ولكن ذلك المشترك ليس مجموع حقيقة كل منهما الموجودة في الخارج فإن لفظ الموجود إذا جرد يدل على الموجود المطلق لم يكن الوجود المطلق حقيقة إلا في الذهن وأما

الوجود الخارجي فوجود كل موجود معين مميز عن الآخر مختص به وذلك كـ الجسم المطلق والحيوان المطلق والإنسان المطلق وقد تقدم غير مرة أن حقيقة ذلك أن هذه الحيوانية الخارجية المعينة تشبه هذه الحيوانية وهذه الإنسانية الخارجية تشيه هذه الإنسانية فبينهما مشابهة من هذا الوجه وإن كانت بينهما مخالفة من وجوه أخرى وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود ففيه إثبات أصل الوجود والثبوت والكون لكل منهما وأن ما لهذا يشبه ما لهذا من هذا الوجه وهذا المعنى الذي اشتركا فيه واشتبها في غاية البعد عن حقيقة كل منهما كما أن حقيقة كل منهما يكون في غاية البعد عن حقيقة الآخر فوجود أحدهما في الخارج هو عين حقيقته فإذا قيل إن سائر الحقائق والماهيات تشاركها في مسمى الحقيقة والماهية أو تشبهها في ذلك كان هذا

الشبه البعيد في غاية البعد عن الحقيقتين ولكن الأمور العظيمة الاختلاف بالحقيقة قد تشتبه في أمر ما وهو الذي اشتركت فيه وأعم هذه الأمور هذا الوجود الثابت والكون فمن كان نظره في هذا نظره في أبعد الأشياء عن حقيقة الرب وكثير من هؤلاء يعتقد أنه قد أدرك حقيقته أو أنه لا حقيقة له إلا ذلك وهؤلاء من أعظم الخلق تمثيلاً لربهم بكل شيء وقد جعلوا كل شيء نداً له وكفواً حيث جعلوا حقيقته هي الوجود المطلق وذلك يثبت لكل موجود فهم أعظم الخلق إشراكاً بالله ومن هنا قال الاتحادية منهم إنه وجود كل شيء وأنه وجود الموجودات كلها ونحو ذلك مما هو من أعظم الإشراك والتعطيل وأصل هذا أن الاشتراك أو الاشتباه في أمر ما لمسمى الوجود أو الحي أو غير ذلك لا يقتضي التماثل بوجه من الوجوه بل يقتضي نوع اشتباه وقد يكون بعيداً عن التماثل وهذا الرازي يظن كثيراً أن الاشتراك في شيء هو التماثل فيحكم على

المشتبهين في شيء بحكم المتماثلين ثم إنه في موضع آخر يناقض ذلك حتى يجعل الأمور المتماثلة في الحكم لا تتماثل في العلة والأمور المتماثلة في العلة لا تتماثل في الحكم إذ هو متناقض في عامة كلامه ثم إن هؤلاء المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة وسائر الملاحدة من القرامطة وغيرهم الذين يقولون حقيقته هي

الوجود المحض أو المطلق أو نحو ذلك يزعمون أنهم أبعد الخلق عن التشبيه وأنهم هم الموحدون المحققون للتوحيد حتى ينفوا الصفات والأسماء نفياً منهم زعموا الشبيه وهم أعظم الخلق تشبيهاً وتمثيلاً وإشراكاً وجعلوا أنداداً لله مع ما هم عليه من التعطيل وأبعد الخلق عن أن يوحدوا الله تعالى بوحدانيته التي انفرد بها عن سائر مخلوقاته فإنهم جعلوا حقيقته الوجود المطلق فهذا القدر ثابت لكل موجودة فقد جعلوا حقيقته ما هو ثابت لكل شيء فقد جعلوا حقيقة الله تشركه فيها البعوضة والنملة بل الكلب والخنزير وقد يصرحون بأن وجود الكلب والخنزير عين وجوده وهذا من أغلظ الإشراك والكفر برب العالمين وهو تعطيل الله إذ لا وجود للوجود المطلق إلا في المعين فإذا لم تثبت له حقيقة موجودة مختصة به منفصلة عن الموجودات لزم

تعطيله ثم إن حقيقته التي اختص بها وامتاز بها عن خلقه لا يثبتونها وبها وجبت له الوحدانية والوجود من حيث هو وجود كالثبوت والكون وكونه حقاً وهذا القدر ثابت لكل ما خلقه وسَوّاه وهو سبحانه رب كل موجود سِوَاه وخالقه وباريه ليس كمثله شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهذا الموضع قد أوسعنا القول فيه في مواضع غير هذا وهو منشأ الاشتراك والضلال في طوائف من الفلاسفة والاتحادية وسائر الملاحدة الذين يعمهم معنى الجهمية وإن كان لبعضهم عن بعض في ذلك مزية ومنشأ هذا من القياس الفاسد والتمثيل برب العالمين والتسوية بينه وبين غيره كما قال تعالى فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ {99} [الشعراء 94-99] وأصل الإشراك الذي هو من القياس الفاسد هو من إبليس أول من قاس قياساً

فاسداً وهو إمام المشركين وقائدهم ولا ينجو منه إلا المخلصون الذين أثبتوا لله ما يختص به من الصفات والعبادات كما قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {83} [ص 82-83] وقال تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ {100} [النحل 99-100] وهذا باب واسع ليس هذا موضعه وذلك أنهم يجردون أسماء هذا وصفاته وأسماء هذا وصفاته فيسوون بينهما ويجردون القدر المشترك بينهما فيثبتونه حقيقة خارجة وقد يجعلون هذا الذي جردوه هم بأذهانهم فقدروه في أنفسهم هو الحقيقة الموجودة في الخارج كقولهم هو في كل مكان بذاته وقولهم هو نفس ووجود

الموجودات وهو الوجود المطلق ونحو ذلك وأما السؤال الثامن فقوله في المعارضة إن المقتضي لقبول الانقسام في الجوهر والعرض لو كان هو الوجود لزم في الجوهر وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض وكذلك في العرض وهو فيقال هذا غلط ظاهر ومغالطة قبيحة وذلك أن هذا الموجود إما أن يراد به الموجود المعين الخارجي فيكون المعنى أن يلزمه أحد الحكمين إما المحايثة وإما المباينة لا يقال فيها إنه منقسم إليهما وعلى هذا فالجوهر الموجود يلزمه أحدهما والعرض الموجود يلزمه أحدهما وإما أن يراد به الوجود المطلق الكلي الذي هو مورد التقسيم إلى الأقسام فهذا إذا قيل إنه ينقسم إلى محايث ومباين فهو كقولنا ينقسم إلى جوهر وعرض ولا يلزم من قبول القسمة أن يكون أحد قسميه القسمة التي يقبلها هو بل هذا جمع بين النقيضين وأما قوله في السؤال التاسع إن هذا الدليل قائم في صور كثيرة مع أن النتيجة اللازمة عنه باطلة وهذا يدل على أنه منقوض وبيانه من وجوه

الأول أن كل ما سوى الله محدث فتكون صحة الحدوث حكماً مشتركاً فلابد لها من علة مشتركة والمشترك الحدوث أو الوجود والحدوث لا يكون علة صحة نفسه فوجب كونها معللة بالوجود فيلزم أن يكون الله محدثاً فيقال صحة الحدوث ليست من أحكام الأمور الوجودية بل من أحكام الأمور التي يمكن وجودها سواء كانت موجودة أو لم تكن بخلاف المحايثة والمباينة فإنها مختصة بالوجود دون العدم وأما صحة الحدوث فهي مشتركة بين الوجود الممكن وبين كل معدوم ممكن فبينها وبين لزوم المحايثة أو المباينة عموم وخصوص إذ صحة الحدوث يعم المعدوم الممكن بخلاف لزوم المحايثة والمباينة وبخلاف الرؤية وأما لزوم المحايثة أو المباينة والرؤية فلا يعلم انتفاؤه عن الله بخلاف صحة الحدوث فإنه يعلم بالضرورة انتفاؤه في حق الله تعالى وإذا كان كذلك فيجب أن تكون علة صحة الحدوث ما يطابقه في العموم وذلك ليس هو الحدوث فإنه أخص منه إذ ليس كل ما صح حدوثه كان محدثاً ولا الوجود فإنه ليس كل موجود يصح حدوثه والمطابق له هو الإمكان الخاص فصحة الحدوث معللة بعلة مشتركة وهو الإمكان الخاص وهذه علة

مطردة منعكسة كتعليل الموجود بالرؤية وبلزوم المحايثة والمباينة وقوله في الوجه الثاني إن كل موجود في الشاهد فهو إما حجم أو قائم بالحجم ثم نذكر التقسيم إلى آخره حتى يلزم أن يكون الباري إما حجماً أو قائماً بالحجم والقوم لا يقولون به فعنه جوابان أحدهما أن المعنى بالحجم في اللغة الظاهرة هو الشيء الكثيف المتحد كالحجر والتراب خلاف الهواء فإنه لا يسمى في اللغة المشهورة حجماً فإن كان مقصوده هذا فليس كل موجود في الشاهد إما حجماً أو قائماً بالحجم وإن أراد به أن كل موجود في الشاهد قائم بنفسه أو قائم بالقائم في نفسه فهذا مطرد في الغائب وأن حال كل موجود في الشاهد فهو إما جسم وإما عرض أو إما جوهر وإما عرض ويذكر التقسيم إلى آخره فيقال له لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح الخاص ليس نفيهما عن الله من الشريعة كما أنه ليس إثباتهما من

الشريعة بل سلف الأمة وأئمتها أنكروا على من تكلم بنفيها كما أنكروا التكلم بإثباتها أو أكثر وعدوا ذلك بدعة فليس لأحد أن ينفي بهذين اللفظين اللذين ليس لهما أصل لا في نص ولا في إجماع ولا أثر إلا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ إذ الحجج التي يستدل فيها باللفظ لابد أن يكون لفظها منقولاً عمن يجب اتباع قوله وهو الكتاب والسنة أو الإجماع فكيف باللفظ الذي لا ينقل عن إمام في الدين ولا أحد من سلف الأمة وأما المعاني المرادة بهذين اللفظين فلابد من تفسيرها فإن الناس متنازعون فيما يريدون بهذه الألفاظ من المعاني ومتنازعون في لزوم تلك المعاني لبعض وغير ذلك وإذ كان كذلك فإن فسر مفسر معنى الجوهر والعرض بما لم يعلم انتفاؤه في حق الله تعالى كان ذلك طرد الدليل فلا ينتقض به ولا ينتقض الدليل حتى يبين أن هذا التقسيم يمكن في بعض المعاني التي يجب نفيها عن الله تعالى ولم يفعل ذلك وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن قوله وهم لا يقولون به قياس إلزامي وقد تقدم أنه قد قال إن هذا الدليل ليس بحجة لا في النظر ولا في المناظرة وذلك أن هذا الدليل إن كان مستلزماً ثبوت مسمى الجسم والعرض كان حجة عليهم في هذا

الموضع كما هو حجة على أولئك في المواضع الأُخَر فإذا ذكروا فرقاً فإن كان ذلك الفرق صحيحاً لم يصح النقض بالجسم والعرض وإن لم يكن الفرق صحيحاً لم يكن نفيهم لمسمى الجسم والعرض صحيحاً على التقديرين فلا يلزم بطلان هذه الحجة الوجه الثالث وأما قوله في الوجه الثالث إن كل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه في أي جهة كان وساق التقسيم إلى آخره حتى يلزم كونه محايثاً للعالم أو مبايناً عنه في أي جهة كان وذلك يقتضي أن لا يختص بجهة فوق بل يلزم صحة الحركة على ذاته من الفوق إلى السفل وكل ذلك عند القوم محال فعنه أجوبة أحدها أنه ليس كل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه في أي جهة كان بل من الأجسام الموجودة ما يمتنع من بقاء حقيقته أن يكون من الآخر إلا في جهة معينة كما أن رأس الإنسان يمتنع أن يكون إلا فوق وبطن قدمه يمتنع أن يكون إلا في أسفله ولو غير ذلك خرج عن حقيقته وكذلك العرش يمتنع أن يكون في أسفل سافلين وأسفل سافلين يمتنع أن يكون فوق العرش

الثاني أن يقال ما تعني بقولك فلابد وأن يكون محايثاً له أو مبايناً عنه في أي جهة كان أتعني أن العقل يشهد أنه لابد من وجوب المباينة ولو بأي جهة كان أو تعني أنه لابد مع وجوب المباينة من جواز المباينة من جميع الجهات فهذان معنيان متغايران فإن وجوب مطلق المباينة من غير تعيين جهة غير وجوب المباينة ووجوب جوازها بكل جهة فإن عني أن كل موجودين فإنه ولابد أن يتحايثا أو يباين أحدهما الآخر وأنه لابد مع ذلك أن يجوز مباينته من جميع الجهات فهذا القدر ليس معلوماً بالبديهة ولا بالحس وكثير من الناس ينازع في كثير من ذلك وبالجملة ليس هذا هو العلم البديهي الذي يعلم في المشهودات فإنا لا نعلم أن كل ما هو قائم بنفسه يجوز أن يكون في جميع الجهات من كل قائم بنفسه هذا لا يعلم بالبديهة بحال وإذا لم يكن معلوماً بالبديهة لم يجب أن يعلل بعلة تعم الوجود حتى نعلم ثبوته وحينئذ فمن الناس من يقول ليس هذا ثابتاًً لجميع المخلوقات ومنهم من يثبته للمخلوق دون الخالق وإذا كان الأمر كذلك فإن المنازع يقول قد قام الدليل على أن هذا ليس ثابتاً لجميع الموجودات وليس هو مما علم بالبديهة أنه يشترك فيه جميع

المشهودات فلا يكون نظير حجتنا إذا علم اختصاصه ببعض الموجودات فإنه يعلل بما يختص به الوجه الرابع أن الاستدلال بما يجب لكل موجودين والواجب لكل موجودين أن يكونا متباينين أو متحايثين أما كون أحدهما يصح أن يكون مبايناً للآخر من جميع جهاته فهذا ليس هو الواجب لكل موجودين والحجة كانت فيما يلزم الموجود من المحايثة أو المباينة واللازم له أصل المباينة أما المباينة من جميع الجهات فليس ذلك بلازم وإن كان جائزاً بل يجوز أن يجعل الله بعض الأشياء لا تباين إلا بجهة معينة الخامس أن يقال ليس للعالم إلا جهتان وهي العلو والسفل فأما العلو فهو مختص بالله تعالى وأما أسفل سافلين فذلك سجين وهو المركز الذي لا يسع إلا الجوهرالفرد

وكل قائم بنفسه فإنه يصح أن يكون مبايناً عنه بجميع الجهات لأن كل ما سواه يصح أن يكون فوقه وإن كان كذلك فيقال بموجب المعارضة وهو أن الله تعالى يجوز أن يكون مبايناً للعالم من جميع جهاته لأن جميع جهاته لأن جميع جهاته هي العلو ليس له جهة أخرى فظهر القول بموجب الحجة ألا ترى أن سطح العرش مباين للعالم كذلك السادس أن قوله ذلك يستلزم صحة الحركة عليه من الفوق إلى السفل وهم لا يقولون بذلك فنقول هذا قياس إلزامي وفي صحة الحركة نزاع مشهور

وهم يدعون ثبوت الفارق فإن صح ما يدعونه من الفارق وإلا كانت هذه الحجة حجة عليهم في المسألتين جميعاً ولا يتعضل ذلك كما تقدم نظيره وأما قوله في الرابع إن كل موجودين في الشاهد فإنه يجب أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة والمباين بالجهة لابد وأن يكون جوهراً فرداً أو مركباً من الجواهر وكون كل موجود في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعني كونه عرضاً أو جوهراً فرداً أو جسماً مؤتلفاً لابد أن يكون معللاً بالوجود فوجب أن يكون الباري على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم ينكرون ذلك لأنه عندهم ليس بعرض ولا بجوهر ولا بجسم مؤتلف من الأجزاء والأبعاض فيقال له أما تسمية صفاته عرضاً فإن منهم من سمى صفاته أعراضاً مع أن النزاع في ذلك لفظي وذلك أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين ينفون الصفات لما رأوا أن الصفات تقوم بالأجسام وهي الأعراض أيضاً وبها أو ببعضها احتجوا

مسالك أهل الإثبات في الصفات مع الجهمية والمعتزلة

على حدوث الموصوف الذي قامت به وقالوا به وقالوا إنها لا تقوم إلا بمتحيز ولا تقوم إلا بمحدث نفوها عن الله تعالى وقالوا من أثبتها فقد قالوا إنه يقوم به الأعراض وهي لا تقوم إلا بمتحيز فيكون متحيزاً محدثاً فسلك معهم مثبتة الصفات ثلاثة مسالك أحدها قول من يقول له صفات لكن ليست أعراضاً أو لا تسمى أعراضاً لأن العرض ما يعرض لمحله ويزول عنه وصفاته لازمة لذاته ليست زائلة عنها وهذا مما قوى عند هؤلاء أن يقولوا الأعراض لا تبقى زمانين أصلاً ليكون هذا فرقاً بين صفات الله تعالى وصفات المخلوقين من تسمية صفات المخلوقات أعراضاً دون صفات الخالق وبهذا وأمثاله انتحلوا دعوى السنة في قولهم الأعراض لا تبقى زمانين لأن هذا

مما وكدوا به في اعتقادهم مذهب أهل السنة في ثبوت صفات الله تعالى وهذه طريقة الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم والمسلك الثاني طريقة من لا ينازعهم في تسمية صفات الله تعالى أعراضاً كما لا ينازعهم في تسمية من قامت به من الصفات جسماً ولا يقول أيضاً بأن الأعراض لا تبقى بل الأعراض التي في الحس باقية هي باقية كالألوان وغيرها بخلاف ما ليس باقياً كالحركة وهؤلاء يقولون هب أن الأعراض قامت به وهب أنه جسم فليس يلزم من ذلك محذور وهذا قول طوائف من الصفاتية من الكرامية والشيعة ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم والمسلك الثاني أن لا يقولوا صفاته أعراض ولا يقولوا ليست أعراضاً كما لا يقولون إنه جسم ولا أنه ليس بجسم لأن ذلك كله بدعة مذموم عند سلف الأمة وأئمتها ولأن النزاع في ذلك إن كان في معنى وجب إثبات المعنى الحق دون المعنى الباطل فيسأل النفاة المثبتة ما أرادوا بذلك فإن أثبتوا حقاً وباطلاً أقر الحق دون الباطل وكذلك النفاة إن نفوا حقاً

وباطلاً نفى الباطل دون الحق ومن أثبت حقاً أو نفى باطلاً أقر ومن أثبت باطلاً أو نفى حقاً منع وإن كان النزاع في اللفظ فما يوصف به الباري نفياً وإثباتاً من الأسماء والصفات فالمتبع فيه الشريعة فلا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا من الإثبات ولا من النفي والله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه أحد صمد ونزه نفسه عن الوالد والولد والشريك والكفو والسمي والحاجة والنوم وغير ذلك مما دل عليه القرآن ولم يذكر هو ولا رسوله ولا أهل العلم والإيمان به أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا أن صفاته ليست بعرض ولا قائمة بالغير ولا نحو ذلك وكذلك في الإثبات له الأسماء الحسنى التي يدعى بها وليس في تلك الأسماء أنه جسم ولا جوهر ونحو ذلك ولا أن صفاته تسمى أعراضاً ونحو ذلك فلم يكن واحد من هذين مشروعاً على الإطلاق ولا هو أيضاً منهياً عنه على الإطلاق بل إذا أثبت الرجل معنى حقاً ونفى معنى باطلاً واحتاج إلى التعبير عن ذلك بعبارة لأجل إفهام المخاطب لأنها من لغة المخاطب ونحو ذلك لم يكن ذلك منهياً عنه لأن ذلك يكون من باب ترجمة أسمائه وآياته بلغة أخرى ليفهم أهل تلك اللغة معاني كلامه وأسمائه وهذا جائز بل مستحب أحياناً بل واجب أحياناً وإن لم يكن ذلك مشروعاً على الإطلاق كمخاطبة أهل هذه الاصطلاحات الخاصة في أسماء الله وصفاته وأصول الدين

باصطلاحهم الخاص إذا كانت المعاني التي تبين لهم هي معاني القرآن والسنة تشبه قراءة القرآن بغير العربية وهذه الترجمة تجوز لإفهام المخاطب بلا نزاع بين العلماء وأما قراءة الرجل لنفسه فهذا لايجوز عند عامة أهل العلم لا في الصلاة ولا في خارج الصلاة وجوَّزه بعضهم مطلقاً لكن لمن لم يحسن العربية لكن المخاطبة ليست كإقراء القرآن لكن تشبه ذكره والثناء عليه والدعاء له بما لم يوِّقت الشارع فيه شيئاً بعينه ولهذا يكره أيضاً عند كثير من العلماء أو أكثرهم تغيير العربية إلا للحاجة ومنهم من لم يكرهه إذا تبيين ذلك فجوابه من وجوه أحدها أن هذا الوجه الذي ذكره هو من الوجوه

الإلزامية وهذه ليست بحجه لا للناظر ولا للمناظر كما تقدم غير مرة وذلك أن هذه الحجة إما أن توجب أن كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام أو لا توجبه فإن لم توجبه فلا يضر وإن أوجب ذلك ولم يذكر الفارق فرقاً بين الموضعين وإلا كانت حجة عليهم في الموضعين وكان له أن يقول أنا إنما أثبت الجسم والجوهر والعرض لكذا وكذا فإن كان هذا فرقاً صحيحا بطل الإلزام وإن لم يكن فرقاً صحيحاً تاماً امتنع الحكم إذ ليس في ذلك نص ولا إجماع عام الوجه الثاني أن يقال كون الموجود في الشاهد جوهراً فرداً أو ليس بجوهر فرد ليس ذلك بمشهود ولا معلوم بحس ولا ضرورة كالعلم بأن الموجود في الشاهد إما مباين وإما محايث بل في ذلك نزاع عظيم بين المتكلمين وهذا المؤسس هو من المتوقفين في إثبات الجوهر الفرد وقد حكى التوقف فيه عمن حكاه من أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وإذا لم يكن هذا معلوماً بالحس والاضطرار لم يكن نظير تلك الحجة

الوجه الثالث أن من ينكر الجوهر الفرد من أهل الكلام والفلسفة أو من توقف فيه يمنع الانقسام إلى هذه الثلاثة وهؤلاء طوائف كثيرون الوجه الرابع أن قوله إن المباين بالجهة لابد وأن يكون جوهراً فرداً أو يكون مركباً من الجواهر وكون كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعني كونه عرضاً أو جوهراً فرداً أو جسماً مؤتلفاً لابد وأن يكون معللاً بالوجود يقال له ليس كون الأشياء القائمة بأنفسها في الشاهد مركبة من الجواهر وإنها إما جوهر فرد وإما جسم مؤتلف مما يعلم لا بحس ولا بضرورة كما يعلم أن الموجود إما أن يقوم بنفسه وإما أن يقوم بغيره بل في ذلك نزاع عظيم بين الناس نفياً وإثباتاً ووقفاً وإذا كان كذلك لم يكن نظيراً له الوجه الخامس أن من يقول الجسم واحد في نفسه ليس مركباً من الجواهر من أهل الكلام والفلسفة سواء قالوا ينقسم إلى جزء لا يقبل القسمة أو قالوا يقبل القسمة إلى ما لا يتناهى ينازعون في هذا الانقسام ويقولون لا نسلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا مركباً من الأجزاء أو جوهراً فرداً وهؤلاء طوائف كثيرة

الوجه السادس أن يقال قد مر الكلام على معنى القسمة والتركيب وأن حاصله يعود إلى تميز شيء من شيء كامتياز صفة من صفة وأن ذلك مما يجب الاعتراف به في حق كل موجود فإنه يمتنع أن يكون شيء من الموجودات بدون ذلك وإن كان كذلك لم يكن ما يلزم الوجود مما سموه انقساماً وتركيباً محالاً فإذا أوجبت الحجة القول به قيل به الوجه السابع أن يقال إن عنيت بكونه عرضاً أنه صفة قائمة بالموصوف ويكون منقسماً أي فيه نوع تميز فهذا يلتزمه أهل الإثبات للعلو وإن عنيت بكونه عرضاً أنه يعرض ثم يزول وبكونه منقسماً مركباً أنه يقبل التفرق والاجتماع بعد التفرق فيقال هذا وصف له بعدم بعد الوجود وبوجود بعد عدم وإذا كان هذا كذلك لم يمتنع أن يكون الموجب لذلك متضمناً للعدم فإن الممتنع تعليل الأمر الوجودي كالرؤية ولزوم أحد الوصفين الموجودين بما فيه عدم أما الوصف المشتمل على عدم فلا يمتنع تعليله بالوصف المشتمل على عدم يوضح ذلك الوجه الثامن وهو أن العرض ... الذي يختص به المخلوق جوهر عند من يقول بذلك ويفرق بين صفة الخالق وصفة المخلوق مما يمتنع بقاؤه ويجب عدم بعد وجوده وأقل ما في ذلك أنه يجوز عدمه بعد وجوده والجسم المخلوق إما

أن يكون متفرقاً في نفسه منقسما قسمة حقيقة بحيث يكون بعضه منفصلاً عن بعض وإما أن يكون قابلاً لذلك وعلى التقديرين فلا يكون هذا الحكم صفة للموجود من حيث هو موجود فإن الموجود من حيث هو موجود لا يكون واجب العدم ولا واجب التفرق والانفصال وإذا كان كذلك كان نفس هذا الوصف المذكور يوجب أن يخص ما يجوز عليه العدم والتفرق الوجه التاسع أن وجوب العدم أو التفرق لا يجوز تعليله بالوجود فإن الوجود نفسه لا يوجب التفرق والعدم فإن العدم ينافى الوجود والشيء لا يكون موجباً لما ينافيه وكذلك التفرق هو نوع من عدم الكمال فإن الاجتماع صفة كمال وقوة والافتراق ينقص تلك القوة والكمال وكذلك يسمى الشيء جميلاً والجمال مشتق من الإجمال الذي هو الجمع والضم ولهذا يقال كل ألم في العالم فأصله من تفرق واجتماع فكون الشيء موجوداً أو مقصوداً بحيث يحصل به الفرح والسرور لا يناسب تفرقه واختلاله وإنما يناسب اجتماعه وإكماله ولهذا كان الاسم الصمد فيه معنى الاجتماع المنافي للتفرق وفيه اجتماع الخلق إليه بحيث يكون هو المقصود لهم في العبادة في الدعاء والعبد لابد له من قصد يقصده والشيء

إنما يقصد لنفسه أو لغيره والله هو المقصود المعبود لنفسه وهو المدعو المسئول الذي يسأل منه كل شيء وإذا كان كذلك تبين أن هذا الحكم لا يجوز تعليله بالوجود المطلق ولا بما يشتمل على الوجود الواجب وأما قوله في الوجه الخامس إن كل موجود يفرض مع العالم فهو إما أن يكون مساوياً للعالم أو زائداً عليه في المقدار أو أنقص منه في المقدار فانقسام الموجود في الشاهد إلى هذه الأقسام الثلاثة للأربعة كذا حكم لابد له من علة ولا علة إلا الوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم لا يقولون به فثبت بما ذكرنا أن هذه الشبهة منقوضة فيقال له عن هذه أيضاً وجوه أحدها أن هذه أيضاً حجة إلزامية لا حقيقية فالذي ينفي هذه الأقسام عن الباري إما أن يذكروا فرقاً صحيحاً أو لا يذكروه فإن ذكروه بطل إلزامهم بذلك في حجة المباينة والمحايثة وإن لم يذكروا فرقاً صحيحاً كان ذلك حجة عليهم

في الموضوعين كما تقدم نظيره وحينئذ فلا يكون هذا حجة لا في نظر ولا في مناظرة فإن هذا ليس متفقاً على نفيه بل أكثر أهل الإثبات يلتزم أحد الأقسام الوجه الثاني أن يقال هذا التقسيم باطل فإن كل ما نشهده فهو جزء من العالم سواء كان قائماً بنفسه أو بغيره فكيف يقال فيما هو بعض العالم إما أن يكون مساوياً للعالم أو أزيد منه أو أنقص منه ومن المعلوم أنه لا يكون إلا أنقص منه وإذا كان لا يصح أن يكون مساوياً له ولا أزيد وبهذا يظهر أن هذا ليس نظير الحجة فإن تلك مضمونها أن كل موجود يلزمه أحد الأمرين إما المحايثة لغيره وإما المباينة له والوجود ينقسم إلى قسمين محايث ومباين ولا يمكن أن يقال الموجود المشهود يلزمه أحد هذه الأقسام إنما يلزمه واحد منها معين وهو النقص الوجه الثالث أن هذا الذي ذكره إنما هو فيما يقدر وجوده ويفرض مع العالم ومعلوم أن ما يقدر وجوده ويفرض لا يعلم حكمه بالحس ولا بالبديهة كما يعلم حكم الموجود المشهود المحسوس مع الموجود المشهود المحسوس فإن تلك الحجة مبناها على ما علم بالحس والضرورة ثم النظر هل ذلك معلل بما يتناول الوجود الواجب أو بما يخص غيره وأما الموجودات المقدرة فحكمها لا يعلم بحس ولا ضرورة وإنما

يعلم بالقياس على ماعلم وجوده الوجه الرابع أن هذا إذا كان في الوجود المقدر مع العالم فذلك الموجود إما أن يكون هو الله أو غيره فإن كان غيره فقد علم أنه معدوم لأن كل مايقدر وجوده سوى الله فهو من العالم فلا يمكن تقدير موجود غير الله خارج عن مجموع خلقه وإن كان المراد بهذا الموجود هو الله كان المعنى أن الله لا يخلو إما أن يكون أكبر من العالم أو أصغر أو بقدره وإذا كان هذا هو المعنى المقدر فاحتجاجه بهذا على أن الباري موصوف بأحد هذه الأقسام هو استدلال بالشيء على نفسه فالدليل هو غير المدلول ويكون التقدير أن الرب الموجود مع العالم إما أن يكون مساوياً له أو أكبر أو أصغر وإذا كان كذلك فهو إما أن يكون مساوياً أو أكبر أو أصغر ومعلوم أن هذا باطل فضلاً أن يكون نظير الحجة وقد ظهر بما نبهنا عليه في الكلام على هذه الحجة أن قوله ونحن بعد أن بالغنا في تنقيحها وتقريرها أوردنا عليه هذه الأسئلة القاهرة والاعتراضات القادحة ليس الأمر كما قاله فإن الحجة لم يستوف تقريرها كما يجب وليس ما ذكره من الاعتراض كما زعم هذا مع أنا لم نستوف الكلام في تقريرها ولا في الأجوبة على أسولته لأن المقصود حكاية ما ذكره هو من الحجة وذكر ما ينبه على الحكم العادل بينه وبين خصومه

فصل: حكاية الرازي الشبهة الثالثة للكرامية

فصل قال الرازي الشبهة الثالثة للكرامية في إثبات كونه تعالى ف الجهة قالوا ثبت أن تعالى تجوز رؤيته ولرؤية تقتضي مواجهة المرئي أو مواجهة شيء هو في حكم مقابلته وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصاً بجهة قال والجواب اعلم أن المعتزلة والكرامية توافقوا على أن كل مرئي لابد وأن يكون في جهة إلا أن المعتزلة قالوا لكنه ليس في الجهة فوجب أن لا يكون مرئياً والكرامية قالوا لكنه مرئي فوجب أن يكون في الجهة وأصحابنا نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم أن كل مرئي فإن مختص بالجهة بل لا نزاع في أن الأمر في الشاهد كذلك فلِمَ قلتم إن كل ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك وتقريره أن هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدلالية فإن كانت بديهية لم يكن في إثبات كونه تعالى مختصاً بالجهة حاجة إلى هذا الدليل وذلك لأنه ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس مختص بالجهة وثبت أن الباري جل وتعالى قائم بالنفس فوجب القطع بأنه تعالى مختص بالجهة لأن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد

كلام المؤلف على ما ذكره الرازي من وجوه

وجب أن يكون في الغائب كذلك فإذا كان هذا الوجه حاصلاً في إثبات كونه تعالى في الجهة كان إثبات كونه في الجهة بكونه مرئياً ثم إثبات أن كل ما كان مرئياً فهو مختص بالجهة تطويل من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان وأما إن قلنا إن قولنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلاً تصير هذه المقدمة يقينية وأيضاً فكما أنا لا نعقل مرئياً في الشاهد إلا إذا كان مقابلاً أو في حكم المقابل للرائي فكذلك لا نعقل مرئياً إلا إذا كان صغيراً أو كبيراً أو ممتداً في الجهات أو مؤتلفاً من الأجزاء وهم يقولون إنه تعالى يرى لا صغيراً ولا كبيراً ولا ممتداً في الجهات والجوانب والأحياز فإذا جاز لكم أن تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إن المرئي في الشاهد وإن وجب كونه مقابلاً للرائي إلا أن المرئي في الغائب لا يجوز أن يكون كذلك والكلام على ما ذكره من وجوه

أحدها أن ما ذكره عن المعتزلة والكرامية ليس هو قولهم فقط بل قول عامة طوائف بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين وهو قول جماهير مثبتي الصفات ونفاتها ولا يعرف القول بإثبات الرؤية مع نفي كون الله تعالى فوق العالم إلا عن هذه الشرذمة وهم بعض أتباع الأشعري ومن وافقهم وليس ذلك قول أئمتهم كما يقول هؤلاء وإن كانوا هم وغيرهم يقولون إن في كلام أئمتهم تناقضاً أو اختلافاً فقد قدمنا أن تناقض من كان إلى الإثبات أقرب هو أقل من تناقض من كان إلى النفي أقرب وقد قدمنا أن العلم بأنه فوق العالم أعظم من العلم بأنه يرى فعلم ذلك بالعقل أعظم في الطريقة البديهية والقياسية وعلم ذلك بالسمع أعظم لما في الكتاب والسنة من الدلالات الكثيرة التي لا يحيها إلا الله تعالى على أن الله فوق ولهذا تجد هؤلاء الذين يثبتون الرؤية دون العلو عند تحقيق الأمر منفقين لأهل السنة والإثبات يفسرون الرؤية التي يثبتونها بنحو ما يفسرها به المعتزلة وغيرهم من الجهمية فهم ينصبون الخلاف فيها مع المعتزلة ونحوهم ويتظاهرون بالرد عليهم

وموافقة أهل السنة والجماعة في إثبات الرؤية وعند التحقيق فهم موافقون للمعتزلة إنما يثبتون من ذلك نحو ما أثبته المعتزلة من الزيادة في العلم ونحو ذلك مما يقوله المعتزلة في الرؤية أو يقول قريباً منه ولهذا يعترف هذا الرازي بأن النزاع بينهم وبين المعتزلة في الرؤية قريب من اللفظي فعلم أن هؤلاء حقيقة باطنهم باطن المعتزلة الجهمية المعطلة وإن كان ظاهرهم ظاهر أهل الإثبات كما أن المعتزلة عند التحقيق حقيقة أمرهم أمر الملاحدة نفاة الأسماء والصفات بالكلية وإن تظاهروا بالرد عليهم والملاحدة حقيقة أمرهم حقيقة من يجحد الصانع بالكلية هذا لعمري عند التحقيق وأما عوام الطوائف وإن كان فيهم فضيلة وتميز فقد يجمعون بين المتناقضات تقليداً وظناً ولذا لا يكونون جاحدين وكافرين مطلقاً لأنهم يثبتون من وجه وينفون من وجه فيجمعون بين النفي والإثبات قال الأشعري في الإبانة باب الرد على الجهمية

نفيهم علم الله وقدرته قال الله تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النسا 166] وقال سبحانه وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت 47 فاطر 11] وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه فقال سبحانه فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ [هود 14] وقال سبحانه وتعالى وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة 255] وذكر تعالى القوة فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وقال سبحانه ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} [الذاريات 58] وقال الله تعالى وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] قال وزعمت الجهمية والدرية أن الله عز وجل لا علم له ولا حياة ولا سمع ولا بصر وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم من ذلك خوف السيف من إظهارهم ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لا علم ولا قدرة لله فقد قالوا ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح

بذلك فأتوا معناه وقالت إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن نثبت له علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وهؤلاء الذين ذكر قولهم قالوا ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير وهؤلاء شر من الملاحدة الذين تقدم ذكرهم وحكاية الرازي قولهم الذين يقولون لا نقول موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل فإن أولئك امتنعوا من التسمية بالضدين لم ينفوا أن يكون هو تعالى في نفسه موصوفاً بأحدهما فهؤلاء الذين نفوا ذلك أعظم من أولئك وقد أخبر أن قول المعتزلة مأخوذ من هؤلاء وكذلك قال في كتاب المقالات لما قال وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات فقال الحمد لله لذي بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات الله رب العالمين وقالوا إنه جل ثناؤه وتقدست

أسماؤه لا صفات له وأنه علم له ولا قدرة له ولا حياة له وسمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله التي يوصف لنفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا نقول عين لم يزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك قال وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير

حكيم جليل في حقيقة القياس قال وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافاً تَشَتَّتَت فيه أهواؤهم واضطربت فيه أقاويلهم اهـ ثم ذكر بينهم نزاعاً كثيراً يس هذا موضعه وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد باباً في ذكر

هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال باب في ذكر كلام الأشعري ولما نظر المبرزون من علماء الأمة إلا على التعطيل البحت وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقيدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء وما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فراراً من الإثبات وذهاباً عن التحقيق وأن ولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص

ولا صورة ثم قالوا لا حياة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئاً لأشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة له ولا لا صفة خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن وإن كان اعتصاماً به من بالسيف واجتناباً به منه وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعائبهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء الإسلام

فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة ثقلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغاً يكون ألواح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم تحدوا بذلك المساع وليتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخازيق تراءى للعين بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يكسي لحاء السنة وعقد الجهمية وينحل ألقاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونون أسوأ حالاً من اليهود لأن الله سبحانه أثبت الصفة ونفى العيب واليهود

أثبتت الصفة وأثبتت العيب وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب ويردون على النصارى في مقالتهم في عيسى وأمه فيقولون لا يكون في المخلوق غير المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك أولئك قالوا قبح الله مقالهم إن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل لجارية معاوية بن الحكم رضي الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا ندري أين هو ولا يوصف بمكان فليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا

الجهة والحد وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاماً وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ويوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حروف وقالوا هذا زاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النفس وأريد به التفسير وهذا صوت القاري أما ترى أن منه حسناً غير حسن وهذا لفظه أو ما تراه مجازاً به حتى قال رأس من رؤوسهم أو يكون قرآن من

لبد وقال الآخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الإناث بعشر مرات

وأولئك قالوا لا صفة وهؤلاء يقولون وجه كما يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين كعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداران هما يتراءيان ويد كيد المنة والعطية والأصابع كقولهم خراسان بين أصبعي الأمير والقدمان كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أي أنا أملك أمره وقال الكرسي العلم والعرش الملك والضحك والرضى والاستواء والاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله شبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر فردوا الأصل ولم يثبتوا شيئاً ولم يبقوا موجوداً ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لا نفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة وأرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد غياباً عنها وأعيا ذهاباً منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند

سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة 64] وإنما قالوها هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتابه بالعبرانية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعى بكل لسان باسمه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف ثم قالوا ليس ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة وقالوا ما هو بعدما مات بمبلغ فلا يلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم

على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب وفي الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار يحكم به عليهم وإن كانوا يموهونها وورّوا عنها واستوحشوا من تصريحها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفَّروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفَّروا السلف وقالت طائفة منهم الفرض لا يتكرر فأبطلت الشرائع

وسموا الإثبات تشبيهاً فعابوا القرآن وضللوا الرسول فلا تكاد ترى منهم رجلاً ورعاً ولا للشريعة معظماً ولا للقرآن محترماً ولا للحديث موقراً وسلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول فانظر فلا هو طالب آثاره ولا تتبع أخباره ولا يناضل عن سننه ولا هو راغب في أسوته يتقلب بمرتبة العلم وما عرف حديثاً واحداً تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلاً من العلم تنفر لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك وألبسوا ظلمة الهوى وسلبوا هبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب قال وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي وقد سمعت محمداً العمري النسابة أبا المعالي

يقول سمعت أبا الفضل الحارثي القاضي بسرخس يقول سمعت زاهراً بن أحمد يقول أشهد لما مات أبو الحسن الأشعري متحيراً بسبب مسألة تكافؤ الأدلة فلا جزى الله امرءاً أناط مخاريقه بمذهب الإمام المطلبي رحمه الله تعالى وكان من أبر خلق الله قلباً وأصونهم سمتاً وأهداهم هدياً وأعمقهم علماً وأقلهم تعمقاً وأوقرهم للدين وأبعدهم من التنطع وأنصحهم لخلق الله جزاه خيراً قال فرأيت قوماً منهم يجتهدون في قراءة القرآن وحفظ حروفه والإكثار من ختمه ثم اعتقاده فيه ما قد بيناه اجتهاد روغان كالخوارج وذكر بإسناده من حديث سفيان الثوري

عن الصلت بن بهرام عن المنذر بن هوذة عن خرشة ابن الحر أن حذيفة بن اليمان قال إنا آمنا ولم نقرأ وسيجيء قوم يقرؤون القرآن ولا يؤمنون وبإسناده من حديث زيد بن أبي أنيسة عن القاسم بن

عوف قال سمعت ابن عمر يقول لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وبإسناده من حديث إسماعيل ب مهاجر عن أبيه عن ابن عمر قال إنا كنا صدور هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحيهم وما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك وكان القرآن قد ثقل عليهم رزقوا علماً به وعملاً

وأن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون شيئاً منه قلت ومثل ذلك معروف عن جندب بن عبد الله البجلي أنه قال أوتينا الإيمان قبل أن نقرأ القرآن ثم أوتينا القرآن فازددنا إيماناً وإنكم تأتون القرآن قبل الإيمان فتوسل أحدكم

اعتراف الرازي وموافقيه أن الرؤية التي دلت عليها النصوص تدل على إثبات الجهة

وهذا الرازي لما ذكر مسألة الرؤية في نهايته وذكر فيها حجج النفاة والمثبتة كان ما ذكره من حجج النفاة العقلية والسمعية أظهر مما ذكره من حجج المثبتة وهذه عادته في كثير من مناظرته يحتج بالباطل من السفسطة وفروعها بما لا يحتج بمثله للحق وقال في مسألة الرؤية بعد أن ذكر مسالكها العقلية فظهر من مجموع ما ذكرناه أن الأدلة العقلية ليست قوية في هذه المسألة قال واعلم أيضاً أالتحقيق في هذه المسألة أن الخلاف فيها يقرب أن يكون لفظياً وسنبينه إن شاء الله تعالى الوجه الثاني أن هذا الرجل قد اعترف هو ومن يوافقه أن الرؤية التي دل عليها الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة بل الإدراك المنفي عن الله في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] يدل على أن الله تعالى في الجهة وذلك يقتضي دلالة الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على شيئين على رؤية الله تعالى وعلى أنه في الجهة وذكر اعتراف فضلاء المعتزلة بأن النبيين كانوا يعتقدون ذلك

أما الأول فإنه لما ذكر الحجج السمعية التي للمعتزلة على نفي الرؤية قال وهذه الشبه أربع الأولى وهي الأقوى التمسك بقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ قال واعلم أن هذه الآية تارة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يُرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة وتارة على استحالة كوننا رائين له أما الوجه الأول فإنما يتم بإثبات أمور أربعة أحدها أن إدراك البصر هو الرؤية قال ويدل عليه أمران أحدهما أنه لا فرق في اللغة بين أن رأيت فلاناً ببصري وبين أن يقال أدركته ببصري كما لا فرق بين أن يقال أدركته بأذني وسمعته بأذني وثانيهما أن أهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية وذلك يدل على أن العرب يستعملوا إدراك البصر بمعنى الرؤية

وروي عن عائشة لما بلغها أن كعباً قال إن محمداً رأى ربه أنكرت ذلك وقالت ثلاث من حدثك بهن فقد كذب من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله قال تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال وروي عن ابن عباس مثل ذلك ثم قال في الجواب عن هذا لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن نفس الرؤية بيانه هو أن الإدراك غير موضوع بالحقيقة للرؤية أصلاً لكنه مستعمل في رؤية الشيء المحدود بطريق المجاز ومتى كان كذلك لم يلزم من الآية هاهنا نفي الرؤية وإنما قلنا إن

الإدراك غير موضوع للرؤية حقيقة لأن لفظ الإدراك حقيقة في غير الرؤية فوجب أن يكون حقيقة في الرؤية وإنما قلنا إن الإدراك غير حقيقة في الرؤية لأنها حقيقة في اللحوق والبلوغ سواء كان في المكان كما في قوله تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} [الشعراء 61] أو في الزمان كما يقال أدرك قتادة الحسن أو في صفة وحالة كما يقال أدرك الكلام وأدركت الثمرة إذا نضجت وأيضاً فإنه يقال أدركت ببصري حرارة الليل وإن كانت الحرارة لا ترى فعلمنا أن الإدراك حقيقة في غير الرؤية فوجب أن لا يكون حقيقة في الرؤية لئلا يؤدي إلى الاشتراك الذي هو خلاف الأصل وإنما قلنا إن الإدراك لا يستعمل مجازاً إلا في رؤية الشيء المتناهي لوجهين أحدهما أنا لما أبصرنا الشيء المتناهي فكان البصر على بعده من ذلك المرئي يتناوله ولم يتناوله غيره فجرى ذلك مجرى من قطع المسافة إلى شيء حتى بلغه ووصل إليه فلما توهم في هذا النوع من الإبصار معنى اللحوق سمي إدراكاً فأما إدراكنا لشيء الذي لا يكون في جهة أصلاً فإنه لا يتحقق فيه معنى البلوغ فلا جرم

لا يسمى إدراكاً الثاني أن الاسم إنما يوضع لما يكون معلوماً للواضع والعرب ما كانوا يتصورون إلا رؤية الشيء المحدود أما عند الخصم فلأن الرؤية لا على هذا الوجه مستحيلة وأما عندنا فإنه وإن أمكن ألا يكون كذلك لكنه ما كان معلوماً للعرب ولا متصوراً لهم وإذا ثبت ذلك ثبت أنهم لم يستعملوا الإدراك إلا لرؤية الشيء الذي في جهة فثبت بما ذكرناه أن الإدراك لو أفاد الرؤية لأفاد رؤية الشيء المتناهي وهذا هو المراد من قول قدماء الأصحاب الإدراك هو الإحاطة بالمرئي وإذا ثبت أن الإدراك لا يفيد إ رؤية مخصوصة لم يلزم من نفي الإدراك نفي مطلق الرؤية لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم وأما قوله العرب لا تفرق بين الرؤية وبين الإدراك

قلنا إن ادعيتم ذلك في مطلق الرؤية فهو ممنوع ودليله ما مضى وإن ادعيتم ذلك في رؤية مخصوصة فهو مسلم ولا يضرنا قوله أهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية فدل على أن إدراك البصر هو الرؤية قلنا وقد نقل أيضاً أن كثيراً من السلف فهموا الرؤية من قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] مع أن النظر عندكم ليس هو الرؤية وكذلك هاهنا قلت فقد أخبر أن العرب ما كانوا يتصورون إلا رؤية الشيء المحدود وأن رؤية ما ليس في الجهة لم يكن معلوماً لهم ولا متصور لهم وإذا كان كذلك وقد ثبت في النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته وقال أيضاً إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب وكما ترون القمر صحواً ليس دونه سحاب وثبت اتفاق سلف الأمة على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة وقد أخبر أن العرب المخاطبين بهذا

الكلام لم يكونوا يتصورون من ذلك إلا رؤية ما كان في الجهة وأن ما سوى ذلك لم يكن معلوماً ولا متصوراً لهم من لفظ الرؤية ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل الإجماع من الصحابة والتابعين أخبروا الخلق بأنهم يرون ربهم ولم يقولوا برؤية في غير جهة ولا ما يؤدي هذا المعنى بل قال كما ترون الشمس والقمر فمثل رؤيته بالرؤية لما هو في جهة علم بالاضطرار أن الرؤية التي تدل عليها نصوص الرسول وإجماع السابقين هي الرؤية التي كان الناس يعرفونها وهي لما يكون في الجهة وهذا بين وأيضاً فقد أخبر أن ما لا يكون في جهة تسمى رؤيته إدراكاً وأن لفظ الإدراك إذا أريد به الرؤية فهي رؤية مخصوصة وهي رؤية المتناهي الذي يكون في جهة فأما الشيء الذي لا يكون في جهة فلا تسمى رؤيته إدراكاً وإذا كان كذلك فيكون قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ أي متناهياً لا تحيط به ولا تدركه متناهياً محدوداً وهذا الذي ذكره جيد وإن كان لم يستوف حجته فإن أئمة السلف بهذا فسروا الآية وما ذكرته المعتزلة عن ابن عباس أنه تأول الآية على نفي الرؤية كذب على ابن عباس بل قد ثبت عنه بالتواتر أنه كان يثبت رؤية

الله وفسر قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ بأنها لا تحيط وضرب المثل بالسماء فقال ألست ترى السماء فقال بلى فقال أكلها ترى فقال لا قال فالله أعظم وإذا كان كذلك فمعلوم أن الله نفى إدراك الأبصار له ولم ينف إدراكه هو لنفسه ولم ينف مطلق الرؤية فلو كان هو في نفسه بحيث تمتنع رؤيته مطلقاً ليس الممتنع الإحاطة دون الرؤية التي ليست بإحاطة لم ينف هذا الخاص وهو الإدراك من الأبصار دون إدراكه هو ودون رؤية الأبصار لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام بل يقتضي جواز الخاص أو إبهامه لأن المدح بنفي الخاص مع كونه منتفياً لا يحسن كما لا يحسن أن يقال لا يقدر بنو آدم على إفناء جميعه أو لا يقدرون على إفناء ذاته وصفاته فإن هذا غير مقدور لا لبني آدم ولا لغيرهم بل هو ممتنع في نفسه وكذلك لا يقال الآدميون لا يقدرون على إعدامه أو إماتته أو على سلب قدرته وعلمه ونحو هذا لأن هذه الأمور ممتنعة في

نفسها لا يختص بنو آدم بنفي الاقتدار عليها بل تخصيصهم بذلك يوهم أنه هو يقدر على ذلك وهذا كلام باطل فإن هذا ليس بشيء أصلاً حتى تكون رؤية الله عند النفاة هي من باب الممتنعات مثل عدمه وموته وإحداثه ونحو ذلك ولو كان كذلك لم يحسن نفي هذا عن أبصار العباد كما لا يحسن مدحه بأن العباد لا يعدمونه ولا يميتونه بل تخصيصهم بنفي إدراك أبصارهم له يقتضي أنه هو يدرك نفسه وإذا كان كذلك فإن لفظ الإدراك يقتضي الرؤية الخاصة لمن يكون في جهة علم أن الآية دلت على أنه كذلك وأما ما ذكره عن فضلاء المعتزلة فإنه أورد سؤال أبي الحسين البصري وأتباعه وهو أن موسى عليه السلام يجوز أن يكون عالماً باستحالة الرؤية وقال في الجواب قوله لِمَ لا يجوز أن يقال إن موسى عليه السلام كان جاهلاً باستحالة الرؤية عليه قلنا لوجوه ثلاثة الأول الإجماع على أن علم الأنبياء بالله وصفاته أتم من علم غيرهم بذلك ف يشك أحد أن دعوى الإجماع في ذلك أظهر من دعوى إجماع الصحابة على العمل بالقياس وأخبار

الآحاد فإذا خصنا هذه الأصول بالإجماع فلأن يتمسك بالإجماع هاهنا أولى الثاني أن قبل ظهور أبي الحسين لم ينسب أحد من الأئمة موسى عليه السلام إلى الجهل بل الناس كانوا بين المعترف بصحة الرؤية وبين المنكر لها متأولين لهذه الرؤية إما على سؤال رؤية الآية أو على أنه عليه السلام سأل الرؤية لقومه وإذا كان كذلك كان أبو الحسين مسبوقاً بهذا الإجماع فيكون سؤاله مردوداً الثالث وهو أن أبا الحسين يدعي العلم الضروري بأن المرئي يجب أن يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية والعلم الضروري حاصل بأن ما كان مقابلاً للجسم فهو مختص بجهة وتحيز فهذان العلمان الضروريان إن كانا حاصلين لموسى عليه السلام فيلزم من اعتقاد صحة رؤية الله اعتقاده لكونه جسماً متحيزاً قال وذلك ما لا يجوز بالاتفاق على الأنبياء عليهم السلام لأن تجويزه يمنع من العلم بحكمته عند أبي الحسين وإذا لم يحصل عنده العلمان الضروريان كان ذلك قادحاً في كونه عليه الصلاة والسلام عاقلاً وذلك لا يقوله عاقل فضلا عن

كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله في جهة أمر ثابت بالنصوص

المسلم اهـ قلت فهذا الذي ذكره عن أبي الحسين وأتباعه وهم فضلاء المعتزلة قد تضمن أن موسى عليه السلام سأل الله أن يراه بالبصر وهم يقولون يعلم العاقل بالضرورة أن المرئي لا يكون إ في جهة ويعلم العاقل بالضرورة أنه لا يكون في الجهة إلا الجسم المتحيز وذلك يقتضي أن موسى عندهم كان يعتقد أن الله في جهة وأنه جسم وأما قول هذا بالاتفاق لا يجوز أي بالاتفاق بينه وبين الشيخ أبي الحسين لكن هذا الاتفاق ليس بحجة بالإجماع الوجه الثالث أن كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله بجهة من الرائي أمر ثبت بالنصوص المتواترة ففي الصحيحين وغيرهما الحديث المشهور عن الزهري قال أنا سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد

الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أنا الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تمارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك وذكر الحديث بطوله قال أبو سعيد أشهد لحفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا هو في الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن

يسار عن أبي سعيد قال قلنا يا رسول اله هل نرى ربنا قال هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحواً قلنا لا يا رسول الله قال فهل تضارون من رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحواً قلنا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما وساق الحديث بطوله وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال ناس يا رسول الله أنرى ربنا يوم القيامة قال فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ليست في سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب قالوا لا قال والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤية أحدهما وذكر الحديث بطوله فهذا فيه مع إخباره أنهم يرونه إخبارهم أنه يرونه في جهة منهم من وجوه

أحدها أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون بجهة منهم فأما رؤية ما ليس في الجهة فهذا لم يكونوا يتصورونه ولا يعرفونه فضلاً عن أن يكون اللفظ يدل عليه كما قد اعترف هو بذلك فيما تقدم وهو أيضاً فإنك لست تجد أحداً من الناس يتصور وجود موجود في غير جهة فضلاً عن أن يتصور أنه يرى فضلاً عن أن يكون اسم الرؤية المشهورة في اللغات كلها يدل على هذه الرؤية الخاصة الوجه الثاني أنه قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحواً وكما ترون القمر صحواً فشبه هم رؤيته برؤية الشمس والقمر وليس ذلك تشبيهاً للمرئي بالمرئي ومن المعلوم أنه إذا كانت رؤيته مثل رؤية الشمس والقمر وجب أن يرى في جهة من الرائي كما أن رؤية الشمس والقمر كذلك فإنه لو لم يكن كذلك لأخبرهم برؤية مطلقة نتأولها على ما يتأول من يقول بالرؤية في غير جهة أما بعد أن يستفسرهم عن رؤية الشمس صحواً ورؤية البدر صحواً ويقو إنكم ترون ربكم كذلك فهذا لا يمكن أن يتأول على الرؤية التي يزعمونها فإن هذا اللفظ لا يحتملها لا حقيقة ولا مجازاً

الوجه الثالث أنه قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب وهل تضارون في القمر ليس دونه سحاب فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات إذا لم يكن ثَمَّ حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي ومن يقول إنه يرى في غير جهة يمتنع عنده أن يكون بينه وبين العباد حجاب منفصل عنهم إذ الحجاب لا يكون إلا لجسم ولما يكون في جهة وهم يقولون الحجاب عدم خلق الإدراك في العين والنبي صلى الله عليه وسلم مثَّل رؤيته برؤية هذين النورين العظيمين إذا لم يكن دونها حجاب الوجه الرابع أنه أخبر أنهم لا يضارون في رؤيته وفي حديث آخر لا يضامون ونفي الضير والضيم أن ما يكون لإمكان لحوقه للرائي ومعلوم أن ما يسمونه رؤية وهو رؤية ما ليس بجهة من الرائي لا فوقه ولا في شيء من جهاته لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك بخلاف رؤية ما يواجه الرائي ويكون فوقه فإنه قد يلحقه فيه ضيم وضير إما بالازدحام عليه أو كلال البصر لخفائه كالهلال وإما لجلائه كالشمس والقمر ومثل هذا الحديث المشهور حديث قيس بن أبي حازم

عن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر قال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وهذا لفظ البخاري في بعض طرقه وفيه زيادة لفظ عياناً وإلا فبقية ألفاظ الحديث مستفيضة في الصحيحين وغيرهما وفي الصحيحين من حديث يحيى بن سعيد وثنا سعيد بن أبي عروبة ثنا

قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فذكر الحديث إلى أن قالوا ائتوا محمداً عبداً قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجداً لربي فيدعني ما يشاء الله أن يدعني ثم يقال لي ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه الله ثم أشفع فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي عز وجل وقعت أو خررت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال لي ارفع رأسك قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني فذكر الحديث

فكون الرائي وهو النبي صلى الله عليه وسلم يراه والرائي في مكان ولا يراه والرائي في مكان آخر ويعود إلى ذلك المكان دليل على أن المرئي يرى والرائي في مكان ولا يرى إذا كان الرائي في مكان آخر وهذا الاختصاص لا يكون إلا بما يكون بجهة من الرائي بخلاف ما يسمونه رؤية فإنها من جنس العلم اختصاص لها بكون الرائي في مكان دون مكان وأيضاً ففي الصحيحين عن أبي عمران الجوني عن أبي

بكر بن عبد الله بن قيس وهو ابن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فأخبر أنهم لا يمنعهم من النظر إلا ما على وجهه رداء الكبرياء ومن يقول إنه يرى لا في جهة عنده ليس المانع إلا كون الرؤية لم تخلق في عينه لا يتصور عنده أن يحجب الرائي شيء منفصل عنه أصلاً سواء فسر رداء الكبرياء بصفة من صفات الرب أو بحجاب منفصل عن الرب فعلى التقديرين لا يتصور عند هؤلاء أن يكون ذلك مانعاً من الرؤية ولا يمنع من رؤية الله عندهم إ ما يكون في نفس الرائي وكذلك قوله في جنة عدن سواء كانت ظرفاً له أو للرداء فعلى التقديرين

يخالف مذهب هؤلاء وأيضاً ففي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه قال فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم ما هو فيه ثم قرأ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] فأخبر أنه

يكشف الحجاب فينظرون إليه ومن يقول يرى لا في جهة لا يقول إن بينه وبين الخلق حجاباً ولا يتصور أن يحتجب عن الخلق وأن يكشف الحجاب وقد صرحوا بذلك كله قالوا لأن ذلك كله من صفة الجسم المتحيز فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك علم أنه يرى في الجهة وليست الرؤية التي أخبر بها ما يزعمونه من الأمر الذي لا يعقل ينافقون فيه أهل الإيمان وعن شعبة بن يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس

عن أبي رزين قال قلت يا رسول الله أنرى ربنا يوم القيامة قال نعم قال وما آية ذلك في خلقه قال أليس كلكم ينظر إلى القمر ليلة البدر وإنما هو خلق من خلق الله الله أعظم وأجل وفي رواية حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع ابن حدس عن عمه أبي رزين قال قلت يا رسول الله كلنا نرى الله يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر مخلياً قلت بلى قال والله أعظم وذلك آيته في خلقه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ولفظ أبي داود قلت يا رسول الله كلنا يرى ربه وفي رواية له مخلياً به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر وفي رواية له ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال والله أعظم قال الخلال سمعت أبا

سعيد المصيصي الفقيه قال قال أبو صفوان رأيت

المتوكل في النوم وبين يديه نار مؤججة عظيمة فقلت يا أمير المؤمنين لمن هذه النار فقال هذه لابني المنتصر لأنه قتلني وتدري لِمَ قتلني لأني حدثته أن الله يرى في الآخرة قال أبو سعيد فقال إبراهيم الحربي هذه رؤيا حق وذلك أن المتوكل كتب حديث حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع ابن حدس بيده عن عبد الأعلى وقال لا أكتبه إلا بيدي فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يرى يوم القيامة لما سأله وسأله عن آية ذلك في خلقه والآية العلامة والدلالة وهو ما يعلم به ويدل على جواز ذلك فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل بطريق القياس

التنبيه والأولى وقد قدمنا غير مرة أن مثل هذا القياس في قياس الغائب على الشاهد هو مما ورد في الكتاب والسنة فقال أليس كلكم يرى القمر مخلياً به ليلة البدر قال فالله أعظم وأجل وقال إنما هو خلق من خلق الله وذلك آيته في خلقه وإثباته صلى الله عليه وسلم جواز الرؤية لجميع الخلق في وقت واحد وكل منهم يكون مخلياً به بالقياس على رؤية القمر مع قوله والله أعظم وأجل دليل واضح على أن الناس يرونه مواجهة عياناً يكون بجهة منهم وأنه إذا أمكن في بعض مخلوقاته أنه يراه الناس في وقت واحد كلهم يكون مخلياً به فالله أولى أن يمكن ذلك فيه فإنه أعظم وأجل الوجه الرابع أن كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت بإجماع السلف والأئمة مثل ما روى اللالكائي عن علي بن

أبي طالب أنه قال إن من تمام دخول الجنة والنظر إلى الله في جنته وعن عبد الله بن مسعود أنه قال في مسجد الكوفة وبدأ باليمين قبل الحديث فقال والله ما منكم من إنسان إلا أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر قال فيقول ما غرك بي يا ابن آدم ثلاث مرات ماذا أجبت المرسلين ثلاثاً كيف علمت فيما علمت وعن أبي موسى الأشعري أنه كان يعلم الناس سنتهم ودينهم قال فشخصت أبصارهم أو قال حرفوها عنه قال فما حرف أبصاركم عني قالوا الهلال أيها الأمير قال فذاك أشخاص أبصاركم عني قالوا نعم قال فكيف إذا رأيتم الله جهرة

وعن معاذ بن جبل قال يحبس الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادي أين المتقون فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة

وروى اللالكائي عن ابن وهب قال سمعت مالك بن أنس يقول الناظرون ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة بأعينهم وعن أشهب قال وسئل مالك عن قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] أينظر الله عز وجل قال نعم فقلت إن أقواماً يقولون ينظر ما عنده قال بل ينظر إليه نظراً وقد قال موسى قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن

تَرَانِي [الأعراف 143] وقال الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وعن مالك أنه قيل له إنهم يزعمون أن الله لا يرى فقال السيف السيف وقد تقدم كلام ابن الماجشون واحتجاجه أيضاً على الرؤية بحجابه للكفار وعن الأوزاعي أنه قال إني لأرجو أن يحجب الله جهماً

وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه وعن الوليد بن مسلم قال سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد عن هذه الأحاديث

التي فيها الرؤية فقالوا أمِرّوها بلا كيف وعن الربيع قال حضرت الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها ما تقول في قول الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} قال الشافعي فلما أن حجب هؤلاء في السخط كان هذا دليلاً عن أنهم يرونه في الرضا قال لربيع قلت يا أبا عبد الله وبه تقول قال نعم وبه أدين الله لو لم يؤمن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله وعن عبد الله بن المبارك قال ما حجب الله عنه أحداً إلا عذبه ثم قرأ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ {16} ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ {17} [المطففين 15-17] قال بالرؤية

وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له وأئمتنا رحمهم الله كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد

وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق عرشه وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئاً من ذلك فهو منهم بريء وهم منه برآء

وروى الخلال في كتاب السنة قال حدثنا أبو بكر المروذي قال سألت أبا عبد الله عن أحاديث الرؤية فصححها وقال قد تلقتها العلماء بالقبول لنسلم الخبر كما جاء وعن حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبد الله يقول أدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير

منكرين لذلك ولا مرتابين وقال حنبل قال أبو عبد الله قال الله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] فكلم الله موسى من وراء حجاب وقال رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قال الله تعالى لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف 143] فأخبر الله تعالى أن موسى عليه السلام يراه في الآخرة وقال عز وجل كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] ولا يكون حجاب إلا لرؤية فأخبر الله أن من شاء الله ومن أراد يراه والكفار لا يرونه فقال حنبل في موضع آخر القوم يرجعون إلى التعطيل في

قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبد الله يقول قال الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] قال أحاديث تروى في النظر حديث جرير عن عبد الله وغيره تنظرون إلى ربكم أحاديث صحاح وقال لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] وهي النظر إلى الله عز وجل ثم قال أبو عبد الله نؤمن بها ونعلم أنها حق يعني أحاديث الرؤية ونؤمن أن الله يرى نرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب وسمعت أبا عبد الله يقول قالت الجهمية إن الله لا يرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يرى لقوله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} وقال الله تبارك وتعالى لموسى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف 143] فأخبر الله أنه يرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقال كلكم

يخلو به ربه وإن الله يضع كنفه على عبده فيسأله ما عملت هذه الأحاديث تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروى صحيحة وعن الله تبارك وتعالى أنه يرى في الآخرة وهذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يرى في القيامة وقول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً {42} [مريم 42] فثبت أن الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} [طه 7] وقال إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال أبو عبد الله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أئمة الرازي كالأشعري وغيره يثبتون العلو والاحتجاب والرؤية

واخترع مقالة من نفسه وتأول برأيه فقد خسر خسراناً مبيناً وسمعت أبا عبد الله يقول من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله وكذب بالقرآن ورد على الله أمره فيستتاب فإن تاب وإلا قتل الوجه الخامس أن أئمة هذا الرازي كالأشعري وغيره هو أيضاً ممن يثبت الرؤية والاحتجاب وأن الله فوق العرش قال الأشعري في مسألة العرش فقال سبحانه وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وقال عز وجل هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقال سبحانه ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى {11} أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى {12} إلى قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى {18} [النجم 8-18] وقال تعالى يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً {157} بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إليه إلى السماء ومن دعاء المسلمين جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش ومن خلفهم لا والذي احتجب بسبع

سموات قال الحافظ أبو العباس وهذا مأخوذ من قوله إن الله خلق سبع سموات ثم اختار العليا فسكنها وقال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع آية أن يقول ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرفع الشك والحيرة من أن يقول ما كلن جنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل

رسولاً ويترك أجناساً لم يعمهم بالآية فيدل ما ذكرناه على أنه خص البشر دون غيرهم وقال عز وجل ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48] قال كل ذلك يدل على أن الله ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه سبحانه مستوٍ على عرشه جل وعز عما يقول الظالمون علواً كبيراً جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل يريدون بذلك التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور 35] فسمى نفسه نوراً والنور عند الأمة لا يخلو من أحد معنيين إما أن يكون نوراً يسمع أو نوراً يرى فمن

زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئاً في نفيه رؤية ربه وتكذيبه لكتابه وقول نبيه صلى الله عليه وسلم قال وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال فكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فإن الله ما بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك قال وروت العلماء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله حتى يسأله عن ثلاث

وروت العلماء أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سواء فقال يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله فقالت في السماء وأومأت بيده إلى فوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أعتقها فإنها مؤمنة قال وهذا يدل على أن الله على عرشه فوق السماء

فهذا كله من كلام الأشعري مثل احتجاجه بما ذكره عن المسلمين جميعاً من قولهم إن الله احتجب بسمع سموات على أنه فوق العرش وهو إنما احتجب عن أن يراه خلقه لم يحتجب عن أن يراهم هو فعلم أن هذا يحجب العباد عن رؤيته وهذا يقتضي أنهم يرونه برفع هذه الحجب وذلك يقتضي أنهم يرونه في الجهة فإن من يثبت رؤيته في غير جهة من الرائي لا يقول بجواز الحجب المنفصلة أيضاً كما تقدم وكذلك احتجابه بقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الشورى 51] وأن الآية دلت على أن الله يحجب بعض المخلوقات دون بعض فعلم أنه لا يحتجب عن بعضهم واحتجاجه بذلك على أن الله فوق العرش يقتضي أن يحتجب عمن يراه ببعض مخلوقاته وهذا يستلزم أنه لا يرى إلا في جهة من الرائي وكذلك احتجاجه في مسألة العلو بأن الله نور وأن ذلك يقتضي أنه يرى ويقتضي أن رؤيته توجب علوه وكلام الأشعري في مسألة الرؤية والعلو يقتضي تلازمهما وهذا هو الذي ذكره هذا المؤسس عن الكرامية الوجه السادس أن هذا المؤسس ذكر في نهايته في مسألة الرؤية ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية وذكر أن أعظم حججهم العقلية حجتان

أحدهما حجة الموانع قالوا لو صح منا رؤية الله في حال من الحالات لصح أن نراه الآن ولو صح أن نراه الآن لوجب أن نراه الآن لكنه لم يجب أن نراه الآن فلا يصح أن نراه في حال من الأحوال وإنما قلنا إنه لو صح أن نراه في حال من الأحوال لصح أن نراه الآن لأن كونه بحال يصح أن يرى حكم يثبت له إما لذاته وإما لبعض مل يلزم ذاته وعلى التقديرين فإنه يلزم من استمرار ذاته استمرار هذه الصحة وإنما قلنا إنه لو صح أن نراه الآن لوجب أن نراه الآن لأن الحاسة إن كانت صحيحة والمرئي يكون حاضراً ولا يكون على القرب القريب وعلى البعد البعيد ولا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية أو لا تكون الحجب حائلة فإنه يجب حصول الرؤية إذ لو لم يجب

حصولها عند حصول هذه الأمور لجاز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة ونحن لا ندركها وذلك محال على ما سبق بيانه في مسألة الإدراك فإذا ثبت ذلك فهذه الشرائط لا يمكن اعتبارها في حق الله تعالى لأنها لا تعقل إلا في حق الأجسام أو ما يقوم بها وإذا لم يمكن اعتبار هذه الشرائط في حق الله لرؤيته وجب أن يكون مجرد سلامة الحس وكونه تعالى بحيث يصح رؤيته كافياً في حصول رؤيته فلزم أن تدوم رؤية أصحاب الحواس لله تعالى وذلك باطل بالضرورة فثبت أن القول بأن الله تعالى يصح أن يرى يفضي إلى الباطل وما يفضي إلى الباطل يكون باطلاً ثم قال في الجواب عما تمسكوا به أولاً أن نقول إن مدار هذه الشبهة على أن هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضراً والشرائط تكون حاصلة فإنه يجب حصوله هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى أن ذلك غير واجب بأدلة

عقلية قاطعة لا يرتاب العاقل فيها وأجبنا عن شكوكهم بأجوبة يقينية لا حاجة بنا إلى إعادتها وإذا كان كذلك سقطت هذه الشبهة وهذا الذي أحال عليه قد ذكره في مسألة السمع والبصر وهي مسألة الإدراك فذكر الفصل الأول في حقيقته ثم قال الفصل الثاني في كيفية حصول هذه المدركية زعمت المعتزلية أنه مهما كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضراً ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيراً جداً ولا لطيفاً ولا يكون بين الرائي ولمرئي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلاً للرائي أو في حكم المقابلة فعند اجتماع هذه الشرائط يجب حصول الإدراك وعندنا أن ذلك غير واجب وهو مذهب أبي الهذيل من المعتزلة ثم ذكر لهم حجتين ثم قال وأما المخالفون فلهم في هذه المسألة مقامان

تارة بدعوى الضرورة وتارة بدعوى الاستدلال أما الأول فتارة يدعون أن ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد الاختبار ولا حاجة فيه إلى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال أن ذلك معلوم بالضرورة وبسط كلامهم في ذلك ثم قال والجواب أن نقول إما أن تدعي الضروري بحصول الإدراك عند حضور هذه الأمور أو بعدمه عند عدمها والأول لا نزاع فيه والثاني فيه كل النزاع فإن زعمت أنا مكابرون في هذا الإنكار حلفنا بالأيمان المغلظة أنا لما رجعنا إلى أنفسنا لم نجد العلم بذلك أكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تغييرها عن مجاريها فهذا الجواب الذي ذكره يقتضي أنه وافق على أن العلم الضروري حاصل بوجود الرؤية عند وجود هذه الشرائط وهذا هو أول المسألة فإنه حكى عن المعتزلة أنه متى تجتمع هذه الشرائط يجب حصول الإدراك قال وعندنا أن ذلك غير واجب فإذا سلم أن العلم الضروري بحصول الإدراك عند حصول هذه الأمور لا نزاع فيه كان قد وافق على ما ذكر فيه

النزاع وإذا كان كذلك ظهر أن ما ذكره من الجواب في مسألة الرؤية وهو قوله إن مدار هذه الشبهة على أن هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضراً فإنه يجب حصول هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى أن ذلك غير واجب فيما مضى قد وافق فيه على وجوب الرؤية عند وجود الشروط لكن لم يوافق على وجوب عدمها عند عدم الشروط وإذا لم يذكر جواباً عن حجتهم إلا هذا وهذا ليس بجواب صحيح بقيت حجتهم على حالها وإذا كان كذلك لم يصح نفيه لما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية الوجه السابع أنه ذكر الحجة الثانية لنفاة الرؤية وهي حجة المقابلة فقال وهي أن الواحد منا لا يرى إلا ما يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي والله تعالى أن يستحيل أن يكون كذلك فيستحيل أن يكون مرئياً لنا واحترزنا بقولنا أو لآلة الرائي عن رؤية الإنسان وجهه في المرآة أما المقدمة الأولى فهي من المعلوم الضرورية الحاصلة بالتجربة وأما المقدمة الثانية فمتفق عليها

ثم قال والجواب عما تمسكوا به ثانياً عن وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى أن لمقابلة ليست شرطاً لرؤيتنا هذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام والثاني سلمنا أن المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فَلِمَ قلتم إنها تكون شرطاً في صحة رؤية الله تعالى فإن رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه الأشياء فلا يلزم من اشتراط نوع من جنس اشتراط نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا أنه يستحيل كوننا رائين لله تعالى ولكنه لا يدل على أنه لا يرى نفسه وأنه في ذاته ليس بمرئي فأحال على ما تقدم وهو لم يذكر هناك إلا مسلكين الأول أنا نرى الجسم الكبير من البعد صغيراً وذلك

يقتضي أنا نرى بعضه دون بعض ومن المعلوم بالضرورة أن الشرائط المذكورة كما أنها حاصلة بالنسبة إلى الأجزاء التي هي مرئية فكذلك هي حاصلة بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية ولما كان المرئي من الأشياء المجتمعة لهذه الشروط بعض الأجزاء دون بعض علمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط غير واجب والمسلك الثاني لو وجب حصول الإدراك عند حصول هذه الشروط لوجب رؤية الجوهر الفرد وذوات الهباء لكن الثاني ظاهر الفساد فالمقدم مثله بيان الأول أنا إذا رأينا جسماً كبيراً فلابد وأن نرى جزءاً صغيراً إذ لو لم نرَ جزءاً صغيراً لم نرَ المجموع الذي هو مجموع تلك الأجزاء ثم رؤية الجزء لا تتوقف على رؤية غيره لئلا يلزم الدور فيجب أن تصح رؤيتنا للجوهر الفرد فهاتان الحجتان إن كانتا باطلتين ف كلام وإن كانتا صحيحتين فهما يدلان على أن الرؤية لا تجب عند وجود

ما نقله الرازي عن المعتزلة في شروط الرؤية بعضه حق وبعضه باطل

الشروط الثمانية وهو قد سلم في الجواب وجوب الرؤية عند وجود الشروط ف تدل هاتان الحجتان على أن الرؤية لا تمتنع عند عدم بعض الشروط الثمانية وإذا لم يذكر دليلاً على عدم هذا الاشتراط أصلاً بقي ما ذكره منازعوه من العلم الضروري والاستدلال بأن المرئي لابد أن يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي سليماً عن المعارض فيجب القول بموجبه وهذا بين واضح ولهذا لما كانت مناظرته لنفاة الرؤية هذه المناظرة الضعيفة كان كلامهم فيها أرجح من كلامه وهذه عادته يعجز عن مناظرة أهل الباطل ويأخذ ما يحتجون به فيحتج به على أهل الحق فلا ينصف أهل الحق ويتبعهم ولا يرد أهل الباطل ويدفعهم وإنما فيه جدال وحجاج لبَّس فيه الحق بالباطل مع هؤلاء وهؤلاء وإذا كان الأمر كذلك لم يكن له الجواب عما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية كما تقدم الوجه الثامن أن يقال ما ذكره المعتزلة من شروط الرؤية

وموانعها بعضها حق وبعضه باطل وهؤلاء الذين وافقوهم على نفي العلو وإثبات الرؤية يكابرونهم في الحق كما يدفعون باطلهم ولهذا كان كلا الطائفتين تقول الحق والباطل وإذا كان مثبتة الرؤية مع نفي العلو أقرب إلى الحق من نفاة الرؤية ونفاة العلو وذلك أن كونهم لم يشترطوا في الحاسة إلا مجرد سلامتها ليس بسديد فإن الحواس تختلف بالقوة والضعف فقد يكون بصر أحدَّ من بصر وسمع أقوى من سمع وشم أقوى من شم وذوق أقوى من ذوق وهذا موجود في البهائم وفي الآدميين ولهذا يرى أحدهم من الأشياء الدقيقة اللطيفة ما لا يراه الآخر ويرى من الأمور البعيدة ما يراه الآخر ويرى من النور والشعاع والبياض ما لا يراه الآخر وذلك قد يسمع من الأصوات البعيدة والأصوات القريبة ما لا يمكن الآخر أن يسمعه وإذا كان الأمر كذلك فقوة إدراك العباد وحركاتهم في الآخرة يجعلها الله أعظم من قوى إدراكهم وحركاتهم في الدنيا وهذا ظاهر بين

وقولهم لا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيراً لطيفاً هذا إنما اشترط لعجز البصر عن إدراك ما يكون كذلك لأن ذلك ممتنع في نفسه وإلا فيمكن أن يقوى البصر العبد حتى يرى القريب والبعيد واللطيف وليس هذا ممتنعاً في ذاته يبين ذلك أن القرب والبعد والصغر والكبر من الأمور الإضافية قد يكون صغيراً بالنسبة إلى بصر هذا الرائي ما ليس بصغير بالنسبة إلى بصر غيره وكذلك في القرب والبعد وكذلك قولهم أن لا يكون بين الرائي والمرئي حجب كثيفة فإن رؤية ما وراء الحجاب ليس بممتنع في نفسه بل لعجز البصر عنه فإن الله يرى كل شيء ولا تحجبه السموات والأرض وسائر الحجب وكذلك قولهم أن يكون مقابلاً للرائي فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فإني أراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي

لكن هذا يدل على أنه لا يشترط في الرؤية أن يكون المرئي أمامه لكن لا يدل على أنه لا يشترط أن يكون بجهة منه فإنما خلفه بجهة منه الوجه التاسع أنه قال هنا إن أصحابه نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم أن كل مرئي فإنه يختص بالجهة بل لا نزاع أن الأمر في الشاهد كذلك فَلِمَ قلتم إن كل ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون الغائب كذلك وهذا تسليم لكون الواحد منا لا يرى إلا ما يكون في الجهة فمنازعته لذلك من هذا الباب ودعواه أن ذلك ليس بشرط في رؤية الأشياء المرئية مخالف لما ذكره من تسليم أصحابه وذلك خلاف ما ذكره من أنه لا يشترط شيء من هذه الشروط في رؤية الأشياء المرئية

الوجه العاشر أن قوله لِمَ قلتم إن كل ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك وتقريره أن هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدلالية يقال له المنازع يقول إنها بديهية قوله فإن كانت بديهية لم يكن في إثبات كونه تعالى مختصاً بالجهة حاجة إلى هذا الدليل وذلك لأنه قد ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وثبت أن الباري قائم بالنفس فوجب القطع بأنه مختص بالجهة لأن العلم الضروري بأن كل ما يثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك وهذا لا يقوله عاقل والفرق ظاهر بين دعوى الضرورة والبديهة في الشيء المعين الخاص والشيء العام الكلي فإذا قال القائل العلم الضروري بأن كل مرئي في الشاهد والغائب لابد أن يكون بجهة من الرائي أو العلم الضروري حصل بأن الغائب كالشاهد في هذا الأمر الخاص لم يستلزم هذا أن يقول إن العلم الضروري حاصل بأن كل ما يثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك والمقدمة المذكورة هي قوله كل

مرئي فلابد وأن يكون في الجهة وهذا قالوه قولاً عاماً مطلقاً لم يثبتوه بقياس الغائب على الشاهد حتى يصوغوه الصوغ الذي ذكره ويدخل فيه تلك القضية العامة الكاذبة الوجه الحادي عشر أن ما ذكره إن كان حجة كان حجة ثانية على المطلوب فإنه من الممكن أن يستدل بكونه قائماً بالنفس على كونه مختصاً بالجهة ويحتج بكونه مرئياً على كونه مختصاً بالجهة ويحتج بكونه موجوداً على أنه إما أن يكون مبايناً لغيره أو محايثاً له وتعدد الأدلة على المطلوب الواحد ليس بممتنع الوجه الثاني عشر أن ما ذكره من الحجة قد يقال فيه نحن نعلم بالاضطرار أنه كل ما يقوم بنفسه فإنه لابد أن يكون مختصاً بجهة بحيث يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يختص الكلام بالشاهد ثم يقاس عليه الغائب بل العلم الضروري حاصل بذلك مطلقاً كما تقدم ذكره الوجه الثالث عشر أن ذلك إذا قررنا بالدليل قرر تقريراً يفيد بأن يقال ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وهذا مما فارق به الموجود المعدوم فالموجب لذلك إما كونه موجوداً قائماً بنفسه أو ما يندرج فيه الموجود الواجب لنفسه أو ما يختص بالممكن أو المحدث ويساق الكلام إلى

آخره كما ذكر في حجة المباينة والمحايثة لا يقول عاقل إن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك ولكن ذكر الحجة على هذا الوجه القبيح الذي يظهر بطلانه لما في ذلك من التنفير والتقبيح لقول منازعيه وهذه ليست حال أهل العلم والعدل بل حال الجاهل أو الظالم الوجه الرابع عشر قوله فإذا كان هذا الوجه حاصلاً في إثبات كونه تعالى في الجهة كان إثبات كونه في الجهة بكونه مرئياً ثم إثبات أن كل ما كان مرئياً فهو مختص بالجهة تطويلاً من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان يقال لو أن ما ذكرته من جهة القيام بالنفس صحيح لم يكن إثبات الجهة بطريق الرؤية تطويلاً من غير فائدة بل هو إثبات لها بطريق آخر غير الأولى فإن الاستدلال على كون الشيء في الجهة بكونه قائماً بنفسه غير الاستدلال على ذلك بكونه مرئياً مشهوداً وإذا كان هذا دليلين متغايرين لم يجز أن يكون ذكر أحدهما متضمناً للآخر ولا أن يكون ذكر الآخر تطويلاً أقصى ما يقال إن العلم بالمقدمتين التي في الدليلين يستفاد من وجه واحد وهو الضرورة أو قياس الغائب على

الشاهد إما مطلقاً كما ذكره أو قياساً صحيحاً ملخصاً بالتقسيم الحاصر الجامع بين النفي والإثبات أو بغيره كما يسلكه أهل الإثبات وإذا كان الدليل على مقدمة في دليل كالدليل على مقدمة في دليل آخر لم يوجب أن يكون أحد الدليلين متضمناً للآخر ويكون ذكر الآخر تطويلاً بلا فائدة الوجه الخامس عشر قوله وأما إن قلنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلاً لا تصير هذه المقدمة يقينية فهذا كم صحيح لكن كان ينبغي له إذا كان ذاكراً لحجج منازعيه أن يذكر ما يستدل به الناس على ذلك فتركه لذلك تقصير وخيانة في المناظرة ونحن لم نلتزم الكلام في تقرير هذه المسائل ابتداءً وإنما تكلمنا على ما ذكروه من حججه وحجج منازعيه الوجه السادس عشر قوله وأيضاً فكما أنا لا نعقل مرئياً في الشاهد إلا إذا كان مقابلاً أو في حكم المقابل لرائي فكذلك لا نعقل مرئياً إلا إذا كان صغيراً أو كبيراً أو ممتداً في الجهات مؤتلفاً من الأجزاء وهم يقولون إنه تعالى يرى لا صغيراً

ولا كبيراً ولا ممتداً في الجهات والجوانب والأحياز فإذا جاز لكم أن تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز أن يقال إن المرئي في الشاهد وإن وجب كونه مقابلاً إلا أن المرئي في الغائب لا يجوز أن يكون كذلك فيقال له هذا إلزام جدلي وليس بحجة في المناظرة ولا النظر كما تقدم فإنه يقال لابد وأن يكون في الجهة ما ذكرته في صورة الإلزام إن كانت مساواته لصورة النزاع فما ذكروه في صورة النزاع حجة في الموضعين وغايته أن يكونوا أخطأوا في صورة الإلزام وهي صورة النقض والمعارضة والإلزام صحيحاً ويقول لك المناظر الفرق بين صورة النقض وصورة النزاع كيت وكيت فإن صح الفرق بطل النقض وإن بطل الفرق منعت

الحكم في صورة النقض إذ ليس ذلك مجمعاً عليه بين الأمة الوجه السابع عشر أنهم يقولون نقول إنه لا يرى إلا كبيراً عظيماً لا نقول إنه يرى لا صغيراً ولا كبيراً بل نقول إنه يرى عظيماً كبيراً جليلاً كما سمى ووصف نفسه بذلك في الكتاب والسنة ومن لم يقل ذلك من المنازعين كان ما ذكره حجة عليه وأما قوله ممتداً في الجهات مؤتلفاً من الأجزاء فلا نسلم أنا لا نعقل مرئياً في الشاهد إلا مؤتلفاً من الأجزاء فإن المرئيات مثل الشمس والقمر ونحو ذلك هو شيء واحد لا نعلم لا بحس ولا ضرورة أنها مركبة من الأجزاء المفردة وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس أن هذا التركيب ليس معلوماً بالحس ولا بالضرورة بل هي من أدق مسائل النزاع بين الخلق الوجه الثامن عشر أن يقال ما تريد بقولك ممتد مؤتلف أتريد أنه مركب من الأجزاء وأنه يجوز تفريقه فليس كلما نشاهده كذلك أم تريد به أن منه شيئاً ليس هو الشيء الآخر فنحن نقول كل ما يرى في الشاهد والغائب لابد وأن يكون كذلك الوجه التاسع عشر أن يقال لا يعقل مرئي إلا موصوفاً بما هو المرئي المشهود موصوف به من صفات الوجود التي

استحق بها جواز رؤيته أو ما أبلغ في الوجود واستحقاق الرؤية منه فإذا كنا نرى الموجود الذي يجوز عدمه فما لا يجوز عدمه أولى فإذا كنا نرى ما هو في جهة وهو مجتمع يجوز تفريقه وتقسيمه فالمجتمع الذي لا يجوز تفريقه وتقسيمه أولى بالرؤية لكن لا يمكن أن نقول إذا رأينا ما هو بجهة مرئياً أن يكون ما ليس في الجهة أولى بالرؤية وإذا رأينا ما هو مجتمع فيما ليس بمجتمع ولا متفرق أولى بالرؤية وإذا رأينا ما هو مجتمع فيما ليس بمجتمع ولا متفرق أولى بالرؤية وإذا رأينا ما هو مجتمع فيما ليس بمجتمع ولا متفرق أولى بالرؤية وقد ذكرنا غير مرة أن الأقيسة والأمثال المضروبة في باب الإلهيات إذا كانت من باب التنبيه والأولى في النفي والإثبات فهي من جنس ما ورد به الكتاب والسنة

فصل: حكاية الرازي الشبهة الرابعة لمثبتي العلو

فصل ثم قال الرازي الشبهة الرابعة تمسكوا برفع الأيدي إلى السماء قالوا وهذا شيء يفعله جميع أرباب النحل فدل على أنه تقرر في عقول جميع الخلق أن إلههم فوق ثم قال الجواب إن هذا معارض بما تقرر في عقول جميع الخلق أنهم عند تعظيم خالق العالم يضعون جباههم على الأرض ولمَّا لم يدل هذا على كون خالق العالم في الأرض لم يدل على ما ذكروه على أنه في السماء وأيضاً فالخلق إنما يقدمون على رفع الأيدي إلى السماء لوجوه أخر وراء اعتقادهم أن خالق العالم في السماء فالأول أن أعظم الأشياء نفعاً للخلق ظهور الأنوار وأنها إنما تظهر من جانب السموات والثاني أن مبنى حياة الخلق على استنشاق النفس وليس ذلك الاستنشاق إلا من الهواء والهواء ليس موجوداً إلا فوق الأرض فلهذا السبب كان ما فوق الأرض أشرف ما تحت الأرض

الثالث أن نزول الغيث من جهة الفوق ولما كانت هذه الأشياء التي هي منافع الخلق إنما تنزل من جانب السموات لا جرم كان ذلك الجانب عندهم أشرف وتعلق الخاطر بالأشرف أقوى من تعلقه بالأخس فهذا هو السبب في رفع الأيدي إلى السماء وأيضاً فإنه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل القبلة قبلة لصلاتنا وأيضاً أنه تعالى جعل الملائكة وسائط في مصالح هذا العالم قال الله تعالى فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5} [النازعات 5] وقال فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً {4} [الذاريات 4] وأجمعوا على أن جبريل عليه السلام ملك الوحي والتنزيل والنبوة وميكائيل ملك الأرزاق وملك الموت ملك الوفاة وكذلك القول في سائر الأمور وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد أن يكون الغرض من رفع الأيدي إلى السماء رفع الأيدي إلى الملائكة وهذه الحجة ذكرها في نهايته فقال وثالثها التمسك

بالاتفاق من الأمم المختلفة الآراء على الإشارة إلى فوق عند الدعاء وطلب الإجابة من الله وأن ذلك يدل على علمهم بالضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أين ربك قال فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة وقال والجواب عما تمسكوا به ثالثاً من الإشارة إلى فوق سببه الإلف والعادة وجريان الناس على ذلك فإنهم ما شاهدوا عالماً قادراً حياً إلا جسماً فكما أن من لم يشاهد إلا إنساناً أسود فحين يمثل في نفسه إنساناً يخاطبه إنما يسبق إلى نفسه أنه أسود لا غير ومن لم يسمع من اللغات إلا العربية فحين يمثل في نفسه معنى إنما سبق إلى نفسه التعبير عن ذلك المعنى بلفظ العرب وكذلك سبق إلى الوهم أن من يدعو حياً عالماً قادراً على ما يشاهد عليه الأحياء القادرين ويتبع ذلك أنه في مكان ولأن العلو أشرف لأن الأنوار فيه ولأن الرأس لما كان أشرف الأعضاء كان ما يليه أشرف الجهات فيسبق إلى فهم الداعي أن من يعتقد عظمته إذا كان في جهة وجب أن يكون في جهة العلو فلسبب هذه الأمور وأمثالها وقعت الإشارة

مناقشة المؤلف للرازي في جوابه الشبهة الرابعة

إلى السماء ثم إن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل فظهر أن سبب ذلك هو الإلف فلا يكون صواباً وأما حديث الأمة فهو من الآحاد ثم لو صح لكان سببه ما ذكرناه من الإلف اهـ والكلام على ما ذكره من وجوه الأول أن الاستدلال برفع الأيدي والأبصار إلى السماء عند الدعاء على أن الله فوق هو حجة أهل الإثبات المثبتين للصفات من السلف والخلف ليس ذلك مختصاً بالكرامية بل من أشهر المحتجين به أئمة أصحابه الأشعري وذووه وقال أبو الحسن الأشعري فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5] وقال سبحانه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال سبحانه بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وقال سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْه [السجدة 5]

وقال فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] فأكذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال سبحانه وتعالى أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] والسموات فوقها العرش وإنما أراد العرش الذي هو على السموات ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 16] ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعاً وأنه فيهن جميعاً قال ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض وهذا الاحتجاج منه بإجماع المسلمين على رفع أيديهم في الدعاء على أن الله فوق السموات لأنهم إنما يرفعونها إليه نفسه لا إلى غيره من المخلوقات وقال صاحبه أبو الحسن علي بن مهدي الطبري قال البلخي فإن قيل لنا ما معنى رفع أيدينا إلى السماء وقوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] قلنا تأويل ذلك أن أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء وجاز أن يقال أعمالنا ترفع إلى الله لما

كانت حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء قال الطبري قيل له إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق منها وأن لحفظة مساكنهم فيها جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وأنها قرارهم ومنها خلقوا ولأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في رفعها إلى السماء ما وصفه وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قصدين إليه برفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه التمهيد وفي الإبانة فإن قال قائل فهل تقولون إنه في كل مكان

قيل له معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك 16] وقال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان واحتيج أن يرغب إليه نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله وهذا تصريح بأن الأيدي إنما ترفع إلى الله نفسه وأنه يجب أن يصح رفعها إليه حيث كان وأنه إنما اختص رفعها بجهة العلو لأن الله هناك إذ لو لم تجب صحة رفعها إلى جهته

لم يجب إذا كان في كل مكان أن يصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وأيماننا وشمائلنا فإن ذلك إنما يلزم إذا لزم أن يشار إليه حيث كان وذا الذي قاله أبلغ من جواز الإشارة إيه فإنه أوجب أن يصح الإشارة والرغبة إلى غير جهة الفوق لو كان فيها وهذه الحجة إنما تصح إذا كانت الإشارة بالأيدي إلى فوق إشارة إليه نفسه إذ لو لم يكن كذلك لقال له منازعه فعندك الإشارة بالدعاء ليست إليه وإذا كان كذلك لم تكن الإشارة إليه واجبة بحال وإنما هو لمعنى يختص بجهة فوق غير كون الله تعالى هناك وإن كنت موفقي على هذا يلزم إذا كان في كل مكان أن يشار في الدعاء إلى سائر الجهة كالسفل واليمين واليسار لأن عندك الإشارة بالأيدي ليست إليه وإنما هي لأمر يختص بالجهة العالية غير الله وهذا من احتجاج الأولين والآخرين قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب

مختلف الحديث له نحن نقول في قوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] أنه معهم يعلم ما هم عليه كما تقول لرجل وجهته إلى بلد شاسع احذر التقصير فإني معك تريد أنه لا يخفى عليَّ تقصيرك وكيف يسوغ لأحد أن يقول إنه سبحانه وتعالى بكل مكان على الحلول فيه مع قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} ومع قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وكيف يصعد إليه شيء وهو معه وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق لعلموا أن الله هو العلي وهو الأعلى وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه والأمم كلها عربها وعجمها يقولون إن الله في السماء ما تركت على فطرها وفي الإنجيل أن المسيح قال للحواريين إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم انظروا

إلى طير السماء فإنهن لا يزرعن ولا يحصدن وأبوكم الذي في السماء هو يرزقهن ومثل هذا في الشواهد كثير وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب لتوحيد باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه وكما هو مفهوم في فطر المسلمين علمائهم وجهالهم وأحرارهم

ومماليكهم وذكرانهم وإناثهم بالغيهم وأطفالهم كل من دعا الله عز وجل فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله تعالى إلى الأعلى لا إلى الأسفل وقال أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين وهو في أصول الدين القول في أنه مستو على العرش هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض ولا يصل إليه دليل من غير هذا الوجه وقد نطق الكتاب به في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة فقبوله من جهة التوقيف واجب والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز ود قال أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله وسئل عن قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} فقال الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وذكر المواضع التي في القرآن من ذكر

العرش وقوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ وقال أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً [الملك 17] وقال تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ {4} [المعارج 4] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وقال حكاية عن فرعون أنه قال يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر 36-37] فوقع قصد الكافر إلى الجهة التي أخبره موسى عنها لذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها ولم ينزل إلى طبقات الأرض سفلاً فدل ما تلوناه من هذه الآيات على أن الله في السماء ومستو على العرش ولو كان بكل مكان لم يكن لهذا الاختصاص معنى ولا فيه فائدة قال وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم أن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء

وذلك لاستضافة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى قال واعترض من خالف هذا بقوله وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ [الأنعام 3] وبقوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ {84} [الزخرف 84] وبقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة 7] ونحو هذا من آي القرآن وهذا لا يقدح في الآي التي تلوناها قبل ولا يخالفها والخبر عن حال الشيء وصفته من جهة غير الخبر عن نفس الشيء وذاته وإنما هذا كقول القائل فلان في السوق معروف وفي البلاد وجائز أن يكون فلان في بيته وقت هذا الكلام غائباً عن السوق وعن البلاد وإنما المعنى في هذه الآي إثبات علمه وقدرته في السماء والأرض وهو في الآي المتقدم إخبار عن الذات والاستواء على العرش حسب من غير قران لذلك بصلة أو تعليق له بشيء آخر فأحد الكلامين قائم بنفسه والكلام الآخر إنما سيق لغيره وتعدى إلى ما سواه وهو يجمع قضيتين اثنتين والكلام الأول قضية واحدة قال وزعم بعضهم أن معنى الاستواء هاهنا الاستيلاء ونزع فيه

ببيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ولو كان معنى الاستواء هاهنا الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة لأن الله قد أحاط ملكه وقدرته بكل شيء من الأشياء وبكل قطر وبقعة من السموات والأرض وما تحت الثرى فما معنى تخصيصه العرش بالذكر ثم إن الاستيلاء يتحقق معناه عند المنع عن الشيء فإذا وقع الظفر قيل استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده وكذلك لو كان بكل مكان كما زعموا لم يكن بتخصيصه العرش بالذكر فائدة فثبت أنه ليس المعنى إلا ما أشار إليه التوقيف فإن قيل إن إضافة العرش إليه كإضافة البيت إليه وهو ل يجعله ليسكنه فكذلك لم يجع العرش للكينونة والاستواء عليه قيل إن العرش لا يشبه البيت فيما ذكرتموه وذلك لأن البيوت تتخذ غرفاً وعادة لتكون وقاية من الحر أو البرد وما أشبههما من وجوه الأذى والله متعالٍ عن هذه الصفات والعرش والسرير إنما يتخذ ليتمجد ويستكبر بهما فقياسكم لجمع بين الاثنين قياس فساد

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطا التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث العباس قال فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه قال وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن

منده الأصبهاني المحدث والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف فقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجاً منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن لجنة مسكنه وبأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في

نفسها فدل على أنه في مكان الوجه الثاني أن الإشارة إلى فوق إلى الله في الدعاء وغير الدعاء باليد والأصبع أو العين أو الرأس أو غير ذلك من الإشارات الحسية قد تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق عليه المسلمون وغير المسلمين قال تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة 144] وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من حاكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يوقفه على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال ألقه ألقاه في مهوى فيهوي أربعين خريفاً رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه بمعناه وعن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء عجمية فقال يا رسول الله علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله

فأشارت إلى السماء بأصبعها بالسبابة فقال لها من أنا فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال أعتقها رواه أحمد في مسنده والبرقي في مسنده أيضاً ورواه ابن خزيمة في التوحيد وقد اشترط فيه ألا يحتج فيه إلا بحديث صحيح وإسناده عن يزيد بن هارون أخبرنا المسعودي عن عون بن عبد الله عن

أخيه عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة مثله وقال بجارية سوداء لا تفصح فقال إن علي رقبة مؤمنة وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربك فأشارت بيدها إلى السماء ثم قال من أنا فقالت بيدها ما بين السماء والأرض تعني رسول الله والباقي مثله ورواه أيضاً من حديث أبي داود الطيالسي عن المسعودي بهذا الإسناد كمثله وقال أيضاً بجارية عجماء لا تفصح وقال أعتقها وقال فقال المسعودي مرة أعتقها فإنها مؤمنة وقد روي نحو هذا المعنى عن عبيد الله بن عبد الله الزهري مسنداً عن أبي هريرة

ومرسلاً ورواه الإمام أحمد وابن خزيمة أيضاً من حديث معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال يا رسول الله إن علي ربة مؤمنة فإن كنت ترى أن هذه مؤمنة فأعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدين أن لا إله إلا الله فقالت نعم قال أتشهدين أني رسول الله قالت نعم قال أتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت نعم قال أعتقها ورواه مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً قال خزيمة لست أنكر أن يكون خبر معمر ثابتاً صحيحاً لست بمنكر لمثل عبيد الله بن عبد الله أن يروي خبراً عن أبي هريرة عن رجل من الأنصار لو كان متن الخبر متناً

تعقيب المؤلف على حديث الجارية

واحداً فكيف وهو متنان وهما في علمي حديثان لا حديث واحد حديث عون بن عبد الله في الامتحان إنما أجابت السوداء بالإشارة لا بالنطق وفي خبر الزهري أجابت السوداء بنطق نعم بعد الاستفهام لما قال لها أتشهدين أن لا إله إلا الله في الخبر أنها قالت نعم وكذلك عند الاستفهام قال لها أتشهدين أني رسول الله قالت نعم نطقاً بالكلام ولإشارة باليد ليست النطق بالكلام وفي خبر الزهري زيادة الامتحان بالبعث بعد الموت لما استفهمها أتؤمنين بالبعث بعد الموت وهذا الذي قاله ابن خزيمة يحققه أن هذا الحديث رواه القاضي أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة له من

حديث محمد بن عمرو وعن أبي سلمة عن أبي هريرة ولهذا يقال إنه حديث حسن صحيح ومثله ما روى أبو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب قال ورواه بعضهم ولم يرفعه وهذا لا يضر

لأنه إذا كان موقوفاً على سلمان فمثل هذا الكلام لا يقال إلا توقيفًا وقد أخبر في هذا الحديث أن العبد يشير بيديه ويرفعهما إلى الله سبحانه وكذلك الحديث الذي في المسند والترمذي عن الفضل بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ثم تقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك وتقول يا رب يا رب ومن لم يفعل ذلك فهو خداج فأخبر فيه أنه يقنع يديه أي يرفعهما وأنه

يرفعهما إلى ربه وفي الحديث المشهور الذي في صحيح مسلم عن جعفر ابن محمد عن أبيه عن جابر في صفة حجة الوداع وهو الحديث الطويل المشهور أكثر حديث روي في حجة الوداع قال فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في

بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصتم به كتاب الله وأنتم وتُسألون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد بأنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاَ ثم ركب حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث فأشار بأصبعه السبابة وحدها إلى فوق بإبلاغ الإشارة اللهم اشهد ثلاث مرات يجمع بين الإشارة

الحسية المرئية والعبارة الحسية المسموعة وفي صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر وقال يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا هذا يوم حرام قال فأي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فأي شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مراراً ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال ابن عباس والذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقد أخبرنا هنا أنه رفع رأسه وقال اللهم اشهد وعن سعد بن أبي وقاص قال مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصبعي فقال أحِّد أحِّد وأشار بالسبابة رواه الإمام أحمد

وأبو داود والنسائي وأخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة نحوه وقال حديث حسن غريب قالوا ومعناه أشِّر بواحدة فإن الذي تدعوه

واحد وهذا نص بَيِّن في أن الإشارة إلى الله حيث قال له أحد أحد أي أحد الإشارة فاجعلها بأصبع واحدة فلو كانت الإشارة إلى غير الله لم يختلف الأمر بين أن يكون بواحدة أو أكثر فعلم أن الإشارة لما كانت إلى الله وهو إله واحد أمره أن يشير إ بأصبع واحدة لا باثنين وكذلك استفاضت السنن بأنه يشار بالأصبع الواحدة في الدعاء في الصلاة وعلى المنابر يوم الجمعة وفي غير ذلك فعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفه أصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها وفي رواية كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى

رواهما أحمد ومسلم والنسائي وروى الثاني أبو داود أيضاً وعن عبد الله بن الزبير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبة فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه وأشار بعض الرواة بالسبابة رواه أحمد ومسلم وأبو داود

وعن ابن الزبير أيضاً قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته رواه أحمد وأبوداود والنسائي وعن وائل بن حجر أنه قال في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وفي رواية يقول هكذا وحلق الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة رواه أحمد وأبو داود والنسائي

وابن ماجة وعن مالك بن نمير الخزاعي عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى رافعاً أصبعه السبابة قد حناها شيئاً رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة

وعن حصين بن عبد الرحمن قال رأى عمارة بن رويبة بشر بن مروان وهو يدعو في يوم الجمعة فقال عمارة قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما يزيد على هذه يعني السبابة وفي رواية رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب إذا دعا يقول هكذا فرفع السبابة وحدها وهذا الحديث رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وفي سنن [ي داود عن ابن عباس

قال المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة والابتهال أن تمد يديك جميعاً وفي رواية والابتهال هكذا ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه رواه أيضاً مرفوعاً عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر نحوه وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء فهو في الحديث أكثر من أن يبلغه الإحصاء وأما حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى

بياض إبطيه رواه الجماعة أهل الصحاح والسنن والمسانيد مثل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده وغيرهم وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء رواه أبو داود ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

لو لم يكن الله فوق لما نهى المصلي عن رفع بصره لمنافاته الخشوع

يستسقي هكذا يعني ومد يديه وجعل بطونها مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه فهذا هو رفعهما إلى فوق رأسه وهو الابتهال المذكور في حديث ابن عباس ومن صوره هذا الرفع إلى فوق الرأس أن تصير كفاه من جهة السماء إذ لا يمكن مع استيفاء الرفع أن تكون بطونهما من نحو السماء الوجه الثالث أنه قد نهى عن رفع البصر في الصلاة إلى فوق أمراً بالخشوع الذي أثنى الله على أهله حيث قال قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} [المؤمنون 1-2] وقال وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ {45} [البقرة 45] والخشوع يكون مع تخفيض البصر كما قال تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ {43} [القلم 42-43] وقال تعالى يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُون َ {43} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {44} [المعارج 43-44] وقال فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ {6} خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ {7} مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ {8} [القمر 6-8] كما

وصف الأصوات بالخشوع في قوله يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه 108] وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهُنَّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم رواه البخاري وأكثر أهل السنن وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم رواه مسلم وغيره

إن الله فطر الخلق على أنه فوقهم

ولو كان الله ليس فوق بل هو في السفل كما هو في الفوق لا لاختصاص أحد الجهتين به لم يكن رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع بل كان يكون بمنزلة خفضها الوجه الرابع إن الذين يرفعون أيديهم وأبصارهم وغير ذلك إلى السماء وقت الدعاء تقصد قلوبهم الرب الذي هو فوق وتكون حركة جوارحهم بالإشارة إلى فوق تبعاً لحركة قلوبهم إلى فوق وهذا أمر يجدونه كلهم في قلوبهم وجداً ضرورياً إلا من غيرت فطرته باعتقاد يصرفه عن ذلك وقد حكى محمد بن طاهر المقدسي عن الشيخ أبي جعفر الهمذاني أنه حضر مجلس

إن الناس على اختلاف عقائدهم ودياناتهم يشيرون إلى السماء عند الدعاء

أبي المعالي فذكر العرش وقال كان الله ولا عرش ونحو ذلك وقام إليه الشيخ أبو جعفر فقال يا شيخ دعنا من ذكر العرش وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة لطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة قال فضرب أبو المعالي على رأسه وقال حيرني الهمذاني فأخبر هذا الشيخ عن كل من عرف الله أنه يجد في قلبه حركة ضرورية إلى العلو إذا قال يا الله وهذا يقتضي أنه في فطرتهم وخلقتهم العلم بأن الله فوق وقصده والتوجه إليه إلى فوق الوجه الخامس أن الناس مع اختلاف عقائدهم وأديانهم

يشيرون إلى السماء عند الدعاء لله تعالى والرغبة إليه وكلما عظمت رغبتهم واشتد إلحاحهم قوي رفعهم إشارتهم وهذا لما كان دعاء الاستسقاء فيه الرغبة والإلحاح ما ليس في غيره كان رفع النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته فيه أعظم منه في غيره وهذا يفعلونه إذا دعوا الله مخلصين له الدين عندما يكونون مضطرين إلى الله عند الرغبة والرهبة مثل ركوب البحر وغيره وفي تلك الحال يكونون قاصدين الله قصداً قوياً بل لا يقصدون غيره ويقرنون بقصد قلوبهم وتوجهها إشارتهم بعيونهم ووجوههم وأيديهم إلى فوق ومعلوم أن الإشارة تتبع قصد المشير وإرادته فإذا لم يكونوا قاصدين إلا الله ولا مريدين إلا إياه لم تكن الإشارة إلا إلى ما قصدوه وسألوه فإنه في تلك الحال لا يكون في قلوبهم إلا شيئان لمسئول والمسئول منه ومعلوم أن الإشارة باليد وغيرها ليست إلى الشيء المسئول المطلوب من الله ولا يخطر بقلوبهم أن هذه الإشارة إلى ذلك ولا ادعاه المنازع في ذلك في أكثر الأوقات ولا يكون فوق فلم يبق ما تكون الإشارة إليه إلا المدعو المقصود وإلا كانت الإشارة إلى ما لم يقصده الداعي ولم يشعر به وهذا ممتنع وهذا واضح لمن تدبره الوجه السادس أنهم يقولون بألسنتهم ارفعوا أيديكم إلى الله ونحو ذلك من العبارات وهذا إخبار عن أنفسهم أنهم

رفع الأيدي يدل على أن الله فوق من وجوه

يقصدون الإشارة إل الله ورفع الأيدي إليه وإذا كان هذا الخبر لم يتواطؤوا عليه ولم يجمعهم عليه أحد كان اتفاقهم في الخبر عما في نفوسهم كاتفاقهم في سائر الأخبار التي تجري مجرى هذا من الأمور الحسية الضرورية وغير ذلك الوجه السابع أن هذا الرفع يستدل به من وجوه أحدها أن العبد الباقي على فطرته يجد في قلبه أمراً ضرورياً إذا دعا الله دعاء المضطر أنه يقصد بقلبه الله الذي هو عالٍ وهو فوق الثاني أنه يجد حركة عينيه ويديه بالإشارة إلى فوق تتبع إشارة قلبه إلى فوق وهو يجد ذلك أيضاً ضرورة الثالث أن الأمم المختلفة متفقة على ذلك من غير مواطأة الرابع أنهم يقولون بألسنتهم إنا نرفع أيدينا إلى الله ويخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون في قلوبهم اضطرارً إلى قصد العلو فالحجة تارة بما يجده الإنسان من العلم الضروري في نفسه وتارة بما يخبر به الناس عن أنفسهم من العلم الضروري وتارة بما يدل على العلم الضروري في حق الناس وتارة بأن الناس لا يتفقون على ضلالة فإنه إذا كان إجماع المسلمين وحدهم لا يكون إلا حقاً فإجماع جميع الخلق الذين منهم المسلمون أولى أن لا يكون إلا حقاً وبهذه المجامع يظهر

الجواب عما تذكر الجهمية وجماعه شيئان أحدهما أن يكون الناس مخطئين في هذا الرفع لاعتقادهم أن الله فوق وليس هو فوق وهذا جوابه في نهايته الثاني أن يكون الرفع إلى بعض المخلوقات إما الملائكة أو الجهة الشريفة أو العرش الذي هو القبلة ومن تدبر ما بيناه علم امتناع هذين الوجهين ونحن نفصل ذلك الوجه الثامن قوله إن الرفع إلى فوق لأن الجهة العالية أشرف من السافلة بظهور الأنوار منها وأن الهواءالذي هو مادة النفس منها وأن النظر إليها مضمونه أن ما يحتاج إليه الآدميون من الرزق الذي هو الماء والهواء ومن النور يأتي من الجهة العالية فكانت أشرف فيقال له أولاً لا ريب أن حاجتهم إلى الأرض وما فيها أكثر فإن عليها قرارهم ومنها تخرج أرزاقهم التي هي النبات وفيها الحيوان وهي كما قال الله تعالى فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ {25} [الأعراف 25] ولهذا كان نظر أبصارهم إلى الأرض وما فيها أكثر من نظرهم إلى السماء وما

فيها فعلم أن النظر الذي يكون لأجل الحاجة إلى المنظور إليه لتعلق القلب به هو إلى الأرض أكثر منه إلى السماء ويقال له ثانياً الاحتجاج إنما هو برفع أيديهم وأبصارهم حين الدعاء لله وحده شريك له فأما دعوى غير الله فإنما يرفعون أيديهم إن رفعوها إلى جهة ذلك المدعو وأما في غير قصد الله ودعائه وذكره فإنهم يلتزمون الإشارة إلى السماء بل إنما يشير أحدهم إن أشار إلى شيء معين مثل الشمس والقمر وغير ذلك وإذا كان الأمر كذلك كان ما ذكره من الإشارة إلى الجهة لشرفها من أبطل الباطل فإن ذلك إنما يتوجه لو كان المذكور هو إشارتهم إلى فوق مطلقاً وهذا خلاف الواقع بل إنما يشيرون الإشارة المذكورة إذا دعوا الله مخلصين له الدين وأين هذا من هذا ويقال له ثالثاً قد تقدم أنهم يعلمون ويخبرون أنهم إنما يشيرون إلى الله إلى محض الجهة الوجه التاسع قوله إن الإشارة قد تكون إلى الملائكة التي هي مدبرة أمر العباد يقال له أولاً إشارة الإنسان إلى الشيء مشروطة بشعوره به وقصد الإشارة إليه فإن لم يشعر به ولم يقصد الإشارة إليه محال أن يشير إليه والداعون لله مخلصين له الدين لا تخطر لهم

الملائكة في تلك الحال فضلاً عن أن يقصدوا الإشارة إليها وكل منهم يعلم من نفسه ويسمع من غيره بل ويعلم منه بغير سمع أنه لم يقصد الإشارة إلى الملائكة وإذا كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم لم يشيروا إلى الملائكة ولا إلى محض الجهة كان حمل إشارتهم على هذا مع علمهم أنهم لم يقصدوا ذلك مثل من يحمل سجود المسلمين في أوقات صلواتهم على أنهم يسجدون للكواكب والملائكة بل الإشارة في الدعاء إلى الله أبلغ وذلك أن السجود في الظاهر مشترك بين من يسجد لله ويسجد لغيره وأما الذي يقول بلسانه إنه يدعو الله وهو مع ذلك يشير مع دعائه فالظن به أنه أشار إلى غير الله أقبح من الظن بالمسلمين أنهم يسجدون لغير الله وقال له ثانياً الإشارة إلى الملائكة حين دعاء الله وحده لا شريك له إشراك بالله بل دعاء الملائكة ومسألتهم إشراك بالله فكيف بالإشارة إليهم حين دعاء الله وحده لا شريك له وقيل له ثالثاً الاحتجاج ليس بمطلق الإشارة إلى فوق بل الإشارة عند دعاء الله وحده لا شريك له ومن المعلوم أنه لا يجوز في تلك الحال رفع الأيدي إلى الملائكة فكيف يحمل حال الأنبياء والمرسلين وسائر عباد الله المخلصين على أنهم رفعوا أيديهم إلى غير الله حين مسألتهم لله وحده وقيل له رابعاً لا يجوز لأحد أن يرفع يديه داعياً لا إلى الملائكة ولا إلى غير الملائكة بل هذا من خصائص الربوبية

ومن جوز رفع الأيدي عند الدعاء إلى غير الله فهو من المشركين الذين يدعون غير الله قال تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً {18} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} [الجن 18-20] وقال تعالى قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ [الأنعام 71] الآية وقال تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام 108] وقال وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان 68] الآية وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {11} يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ {12} [الحج 11-12] وقال تعالى فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وقال تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ [المؤمنون 117] وقال تعالى وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً [آل عمران 80] ولهذا كانت الإشارة إليه من تمام دعائه وذلك من تحقيق كونه الصمد الذي يصمد العباد إليه فإنه قصده بالباطن والظاهر والقلب وسائر الجسد أكمل من قصده بالقلب فقط فيكون الإشارة إليه من تمام كونه صمداً ويكون اسم الصمد مستلزماً لذلك فكونه موجوداً يوجب المباينة التي تقتضي

الإشارة إليه وكونه صمداً مقصوداً يقتضي الدعاء المتضمن الإشارة إليه والإشارة إلى غيره بالدعاء إشراك به وإخراج له عن أن يكون أحداً فظهر أن هؤلاء الجهمية منكرون لحقيقة كونه أحداً صمداً وأنهم جاحدون لحقيقة دعائه مسوغين للإشراك به فإن أهل السنة هم الموحدون له والمكملون لحقيقة الإقرار بأنه الأحد الصمد وهذا ظاهر ولله الحمد وبين هذا أن هؤلاء الجهمية ومن دخل فيهم من الملاحدة والفلاسفة والصابئين وغيرهم لا يعتقدون حقيقة الدعاء لله ولا يؤمنون أن الله على كل شيء قدير لاسيما من يقول منهم إنه موجب بالذات لا يمكنه أن يغير شيئاً ولا يحدثه فالدعاء عندهم إنما يؤثر تأثير النفوس البشرية وتصرفها في هيولي العالم وإذا كان كذلك فهم في الحقيقة لا يقصدون الله أن يفعل شيئاً ولا يحدث شيئاً ولا يطلبون منه شيئاً ولكن يقوون نفوسهم قوة يفعلون بها والعلم الضروري حاصل

بالفرق بين ما يفعله الحيوان بنفسه وبين ما يطلبه من غيره فإذا كان دعاء العباد عندهم لا معنى له إلا أنهم يفعلون بأنفسهم لم يكونوا دعين لله قط ومن لم يكن داعياً لله فإنه لا يشير إليه عند الدعاء بل ذلك عبث بل قوله يا الله افعل كذا عبث وهذا حقيقة مذهب القوم إبطال ما بعثت به الرسل من أنواع الأدعية وإبطال ما فطر الله عليه عباده من ذلك وهؤلاء هم أصل التجهم والتعطيل فمن وافقهم في شيء من ذلك كان من الجاحدين لأن يكون الله هو الموجود المقصود المدعو المعبود ولهذا تجد غالب هؤلاء النفاة لأن يكون الله فوق العرش فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ذلك إلا من يكون منهم جاهلاً بحقيقة مذهبهم يوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته وفطرته على الصحة والسلامة فإنه يكون فيه إيمان ونفاق فأما إذا استحوذ على قلبه تغيرت فطرته وهؤلاء يعرضون عن دعاء الله وعبادته مخلصين له الدين عند الاختيار ويجادلون في ذلك لكن عند الاضطرار هم كما قال الله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ {32} إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {33} أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ {35} [الشورى 32-35] لاسيما على أشهر القراءتين وهي قراءة

النصب في قوله وَيَعْلَمَ فإن ذلك من باب قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن ومثل هذا في الإعراب قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا

احتجاج الرازي أن العرش قبلة للدعاء باطل عقلا ودينا

يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} [آل عمران 142] ومعنى آية الشورى أنه سبحانه إن شاء أسكن فيظللن رواكد على ظهره وإن شاء أوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا وهذا كله في جواب إِن يَشَأْ أي وإن يشأ يهلكهن بذنوبهم ويعفُ أيضاً عن كثير منها ويجتمع مع ذلك علم المجادلين في آياتنا بأنهم ما لهم من محيص فهو إن شاء جمع بين أن يهلك بعضاً ويعفو عن بعض وبين علم المجادلين في آياته حينئذ أنه ما لهم من محيص الوجه العاشر قوله وأيضاً أنه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل الكعبة قبلة لصلاتنا يقال له هذا باطل معلوم بالاضطرار بطلانه عقلاً وديناً وذلك يظهر بوجوه أحدها أن المسلمين مجمعون على أن القبلة التي يشرع للداعي استقبالها حين الدعاء هي القبلة التي شرع استقبالها حين ذكر الله كما تستقبل بعرفة والمزدلفة وعلى الصفا والمروة وكما يستحب لكل ذاكر لله وداع أن يستقبل القبلة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقصد أن يستقبل القبلة حين الدعاء وكذلك هي التي يشرع استقبالها بتوجيه الميت إليها وتوجيه النسائك والذبائح إليها وهي التي ينهى عن استقبالها بالبول والغائط فليس للمسلمين بل ولا لغيرهم قبلتان أصلاً في العبادات التي هي من جنسين

كالصلاة والنسك فضلاً عن العبادات التي هي من جنس واحد وبعضها متصل ببعض فإن الصلاة فيها الدعاء في الفاتحة وغيرها والدعاء نفسه هو الصلاة قد سماه الله في كتابه صلاة حيث قال وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة 103] وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم وإن أبي أتاه بصدقة فقال اللهم صلِّ على آل أبي أوفى وقد قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً {56} وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة عليه في غير حديث في الصحاح وغيرها في جميعها إنما يعلمهم الدعاء الله بصلاة الله وبركاته كما قال قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على

إبراهيم وعلى أل إبراهيم إنك حميد مجيد وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع بحيث تكلمنا على مسمى الصلاة في اللغة الذي هو الدعاء وأن الصلاة المشروعة هي دعاء كلها فإن الدعاء هو قصد المدعو تارة لذاته وتارة لمسألته أمراً منه وهذا كالشخص يدعو غيره ويطلبه ويقصده تارة لذاته وتارة لأمر يطلبه منه والصلاة تتضمن هذين النوعين عبادة الله والثناء عليه والسؤال له وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النوعين في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله سبحانه وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {3} قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال العبد مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} قال الله مجدني عبدي أو قال فوض إليَّ عبدي فإذا قال اعبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} قال الله هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد اهدِنَا الصِّرَاطَ

المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ {7} قال الله فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ومسمى الصلاة في اللغة قد قالوا إنه مسمى الدعاء والدعاء نوعان كما تقدم والنصف الذي للرب جل وعلا هو الثناء عليه والمقصود بذلك نفسه سبحانه وتعالى فهو بذلك معبود مقصود مدعو لنفسه والنصف الآخر الذي للعبد هو السؤال والطلب منه وهو بذلك يقصد لذلك الأمر ويسأل ويطلب منه وهو الصمد في الأمرين لا يصح لغيره لا هذا الصمد ولا هذا الصمد وهو أيضاً أحد في هذين لا يصلح لغيره أن يكون هو المعبود ولا أن يكون هو المتوكل عليه المستعان به المسئول منه فهو الأحد الصمد في النصف الذي له كقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وهو الأحد الصمد في النصف الذي للعبد كقوله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} ولهذا قال من قال من السلف إن الله سبحانه أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في الأربعة وجميع معاني الأربعة في القرآن وجميع معاني القرآن في المفصل وجميع معاني المفصل في أم القرآن وجمع معاني أم القرآن في قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ {5} وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع في غير هذا الكتاب وبينا تعلق العبادة بالإلهية فإن الإله هو المعبود وتعلق الاستعانة بربوبيته فإن رب العباد الذي يربيهم وذلك يتضمن أنه الخالق لكل م فيهم ومنهم والإلهية هي العلة الغائية ولربوبية هي العلة الفاعلية والغائية هي المقصودة وهي علة فاعلية للعلة الفاعلية ولهذا قدم قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ على قوله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} وتوحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية فإنه من لم يعبد إلا الله يندرج في ذلك أنه لم يقر بربوبية غيره بخلاف توحيد الربوبية فإنه قد أقر به عامة المشركين في توحيد الإلهية كما قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] ذكر البخاري

في صحيحه عن عكرمة وغيره تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وقد أخبر عنهم بذلك في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وفي قوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {90} مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {91} عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {92} [المؤمنون 84-92] فأخبر عن هؤلاء الذين نزه نفسه عن إشراكهم وأخبر أنهم كاذبون في عدولهم عن الحق الذي جاء به ورد عليهم أنه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ أنه إذا سألهم لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وإذا سألتهم مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وإذا سألتهم مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فالأول إقرارهم بأن الأرض وما فيها لله والثاني إقرارهم بأن السموات السبع والعرش العظيم لله

والثالث إقرارهم بأن ملكوت جميع الأشياء بيده وأنه الذي يمنع المخلوق وينصره فيجيره من الضرر والأذى فيجير على من يشاء ولا يجير عليه أحد فإذا أراد بأحد ضرراً لم يمنعه مانع وإذا رفع الضرر عن أحد لم يستطع أحد أن يضره وفي كون ملكوت كل شيء بيده بيان أنه هو المدبر النافع له فهو الذي يأتي بالمنفعة وهو الذي يدفع المضرة كما قال في الآية الأخرى قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر 38] وكما قال في الآية الأخرى وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس 107] وإذا كانوا مقرين بهذا فهذا إقرار منهم بعموم ربوبيته وتدبيره لكل شيء وهو أعظم من إقرار القدرية والصابئة والمتفلسفة الطبيعية ونحوهم ممن يجعل الرب لبعض الكائنات شيئاً غير

الله وهو مع هذا قد أخبر أنهم مشركون ونزه نفسه عن شركهم لكونهم عبدوا معه غيره لا لكونهم اعتقدوا أن للعالمين رباً معه وكذلك قوله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59} أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ [النمل 59-60] إلى آخر الآيات يستفهم فيها كلها استفهام إنكار هل يفعل هذه الأمور أحد من الآلهة التي يعبدون من دون الله فإن قوله أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل 60] اسم واحد وقع صفة لإله يس هو جملة واحدة كما ظنه طائفة من المفسرين واعتقدوا أن المعنى مع الله إله فإن القوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى وقد ذكر ذلك في السورة بقولهءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59} فلا يفيد استفهامهم عما هم معترفون به وأيضاً فإن جوابهم المستفهم عنه لا يكون إلا مفرداً لا يكون جملة فإذا قيل من فعل هذا فإنه يقال فلان أم فلان لا يذكر جملة بل لو كان ذلك لم ينتظم الكلام ولكن المقصود

أن هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل هي التي فعلت هذه الأمور أم الله وحده فعلها فإن القوم كانوا مقرين بأن الله وحده هو الفاعل لهذه الأمور وهذا شأن استفهام الإنكار فإنه يتضمن نفي المستفهم عنه والإنكار على من أثبته والقوم كانوا معترفين بذلك لكن كانوا مع ذلك مشركين به الآلهة التي يعلمون أنها لم تفعل ذلك فأنكروا عليهم ذلك وزجروا عنه ومثل هذا في القرآن كثير ومن عرف هذا عرف الشرك الذي ذمه الله في كتبه وأرسل رسله جميعاً بالنهي عنه كما قال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] والعبادة تتضمن كمال المحبة وكمال الخضوع قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ [البقرة 165] فهذه السورة يعني الفاتحة التي قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعظم سورة في القرآن وأنه لم ينز في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها وقد ذكر فيها جماع الكتب الإلهية بقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} ومما يشبهها قوله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {10}

وقوله فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 123] وقوله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} [الرعد 30] وهذان هما نوعا الدعاء كما تقدم وهما جميعاً مختصان بالله حقان له لا يصلحان لغيره بل دعاء غير أحد بالنوعين شرك كما قال تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً {18} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} [الجن 18-20] وقال تعالى فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وقال تعالى قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان 77] وقال وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ {101} [هود 101] فغير الله لا يجوز أن يكون مستعاناً به متوكلاً عليه لأنه لا يستقل بفعل شيء أصلاً فليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب لكن له شريك فيه وما ثم علة تامة إلا مشيئة الله فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكذلك لا يجوز أن يكون غيره معبوداً مقصوداً لذاته أصلاً فإن ذلك لا يصلح له ولهذا كان الشرك غالباً على بني آدم كما قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] فيكون أحدهم عبداً لغيرالله متألهاً له مما يحبه ويجله ويكرمه ويخافه ويرجوه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة إن أعطي رضي وإن

منع سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه وقد قدمنا أن كلا النوعين يوجب اختصاص الرب سبحانه وتعالى بأنه الأحد وبأنه الصمد فإن كونه أحداً يوجب أن لا يشرك به في العبادة والاستعانة فلا يدعى غيره والاسم الصمد جاء معرفاً ليبين أنه هو الصمد الذي يستحق أن يصمد إليه بكلا نوعي الصمد وهذان الاسمان لم يذكرا في القرآن إلا في هذه السورة التي قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنها تعدل ثلث القرآن ثم ما روي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله

قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} ثلث القرآن رواه البخاري وروي عنه أيضاً عن قتادة بن النعمان أن رجلا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} يرددها لا يزيد عليها فلما أصبح أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن فلاناً بات الليلة يقرأ في السحر قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} يرددها ر يزيد عليها كأن الرجل يتقالّها فقال النبي صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن وروى مسلم عن أبي هريرة قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1}

حتى ختمها وروى مسلم أيضاً عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} تعد ثلث القرآن وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فكن يختم ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سلوه لأيٍّ يصنع ذلك فسألوه فقال إنها صفة الرحمن وجل فأنا أحب أن أقرأ بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه رواه البخاري ومسلم وقد قال من قال من العلماء هي ثلث القرآن لأن القرآن ثلاثة أقسام قسم توحيد وقسم قصص وقسم أمر ونهي وهذه فيها التوحيد وهذا الذي قاله إنما يتم إذا كانت

جامعة للتوحيد والأمر كذلك فإن هذين الاسمين يستلزمان سائر أسماء الله الحسنى وما فيها من التوحيد كله قولاً وعملاً والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذين الاسمين فقال الله الواحد الصمد تعدل ثلث القرآن وذلك أن كونه أحداً وكونه الصمد يتضمن أنه الذي يقصده كل شيء لذاته ولما يطلب منه وأنه مستغنٍ بنفسه عن كل شيء وأنه بحيث لا يجوز عليه التفرق والفناء وأنه لا نظير له في شيء من صفاته ونحو ذلك مما ينافي الصمدية وهذا يوجب أن يكون حياً عالماً قديراً ملكاً قدوساً سلاماً مهيمناً عزيزاً جباراً متكبراً إذا تبين ذلك فالدعاء الذي ذكره الرازي هنا هو أحد نوعي الدعاء وهو دعاء المسألة والطلب منه قال تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة 186] وهذا في الكلام نظير الذكر الذي هو ثناء وتحميد لله تعالى ولهذا يقال في الفاتحة نصفها ثناء ونصفها دعاء ومن المعلوم أن استقبال القبلة في هذا كاستقبالها في الذكر

أو أوكد والقبلة التي تستقبل بهذا الدعاء هي قبلة الصلاة بعينها ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء يستقبلها كما فعله في أثناء الاستسقاء الذي رفع فيه يديه رفعاً تاماً فعن عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه فدعا وستسقى واستقبل القبلة رواه الجماعة أهل الصحاح والسنن والمسانيد كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه

وغيرهم فأخبر أنه استقبل القبلة التي هي قبلة الصلاة في أثناء دعاء الاستسقاء وإذا كانت قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة بعينها كان قول الجهمي إن العرش والسماء قبلة للدعاء قول مخالف لإجماع المسلمين ولما علم بالاضطرار من دين الإسلام فيكون من أبطل الباطل الوجه الثاني في ذلك وهو الحادي عشر أن توجه الخلائق بقلوبهم وأيديهم وأبصارهم إلى السماء حين الدعاء أمر فطري ضروري عقلي لا يختص به أهل الملل والشرائع بل يفعله المشركون وغيرهم ممن لا يعرف العرش ويسمع به

ولا يعلم أن فوق السماء لله عرشاً فلو كان الرفع إنما هو إلى العرش فقط الذي هو قبلة لم يقصد ذلك الرفع إلا من علم أن هناك عرشاً كما لا يقصد التوجه إلى القبلة إلا من علم أن الكعبة التي يستقبلها المسلمون هناك لأن القصد والإرادة لا يكون إلا بعد الشعور بالمقصود فمن لم يشعر أن هناك عرشاً امتنع أن يقصد الرفع إلى العرش وهذا تحقيق ما تقدم من أن العلو لله علم بالفطرة والعقل وأما استواؤه على العرش فإنما علم بالسمع الوجه الثالث في ذلك وهو الثاني عشر أن يقال كون العرش أو السماء قبلة للدعاء لا يثبت بغير الشرع فإن اختصاص بعض الجهات والأمكنة بأنه يستقبل دون غيرها هو أمر شرعي

ولهذا افترقت أهل الملل كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] فلو كان الله قد جعل العرش أو السماء قبلة للدعاء كان في الشريعة ما يبين ذلك ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة ولا شيء من الآثار عن سلف الأمة ولا أئمتها ولا في الآثار عن الأنبياء المتقدمين كموسى وعيسى وغيرهما من المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين أن العرش أو السماء قبلة للدعاء فعلم أن دعوى ذلك من أعظم الفرية على الله وأن هذا من جملة افتراء الجهمية ونحوهم على الله وعلى رسله ودينه الوجه الرابع وهو الثالث عشر أن القبلة أمر تتميز به الملل ويقبل النسخ والتبديل كما قال تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {144} وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ {145} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ إلى قوله وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً [البقرة 144-148] فأخبر سبحانه أن لكل أمة وجهة يستقبلونها

وولى محمداً قبلة يرضاها فأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد أن كان قد أمره أن يصلي إلى بيت المقدس هو وأمته فصلى إلى بيت المقدس بعد مقدمه المدينة بضعة عشر شهراً وصلى إليها قبل مقدمه المدينة وقد روي أنه كان بمكة يجعل الكعبة بينه وبين المسجد الأقصى وإذا كانت القبلة أمراً يقبل النسخ والتبديل وهو مختلف في أمر الملل فيجب على هذا التقدير إذا كان العرش أو السماء قد جعل قبلة للدعاء أن يجوز تغيير ذلك وتبديله حتى يجوز أن يدعى اله إلى نحو الأرض ويجوز أن يدعوه الإنسان من الجهات الست ويمد يده وعينيه إلى سائر جهاته وأن يكون ذلك قبلة لبعض الداعين دون بعض وهذا مع أنه قد ذكر غير

واحد إجماع المسلمين على تخطئة قائله وفاعله فالعلم بذلك اضطراري فإن بني آدم مفطورون على أن لا يتوجهوا بقلوبهم وأيديهم إلى غير الجهة العالية ولا يقصدوا الله من تحت أقدامهم ويمدوا أيديهم إلى تلك الجهة السافلة ولا إلى غير الجهة العالية الوجه الخامس وهو الرابع عشر أن الله تعالى قد قال وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة 115] فأخبر أن العبد حيث استقبل فقد استقبل قبلة الله ليبين أنه حيث أمر العبد بالاستقبال والتولية فقد استقبل وولي قبلة الله ووجهته ولهذا ذكروا أن هذه الآية فيما لا يتعين فيه استقبال الكعبة كالمتطوع الراكب في السفر فإنه يصلي حيث توجهت به راحلته والعاجز الذي لا يعلم جهة الكعبة أو لا يقدر على استقبال

الكعبة فإنه يصلي بحسب إمكانه إلى أي جهة أمكن وذكروا أيضاً أنه نسخ ما تضمنته من تسويغ الاستقبال بيت المقدس كما كان ذلك قبل النسخ وإذا كان هذا في القبلة المعروفة للصلوات التي يجب فيها استقبال قبلة معينة في الفريضة وفي التطوع في المقام فينبغي أن يكون في قبلة الدعاء أولى وأحرى فإن الدعاء لا يجب فيه استقبال قبلة معينة بإجماع المسلمين ولا يجب أن يستقبل القبلة المعروفة ولا أن يرفع يديه لا عند من يقول إن السماء والعرش قبلة الدعاء ولا عند من لا يقول بذلك وإذا كان هذا لازماً اقتضى جواز الإشارة في الدعاء إلى غير فوق فيجب أن تجوز الإشارة بالأيدي حين الدعاء إلى الأرض والتيامن والتياسر وقد تقدم قول من حكى إجماع المسلمين على خلاف ذلك وعلى تخطئة من يجوز

ذلك كالقاضي أبي بكر وأيضاً فمن المعلوم بالفطرة الضرورية أن أحداً لا يقصد ذلك ولا يريده فعلم بطلان ما زعموه من كون العرش أو السماء قبلة الدعاء الوجه السادس وهو الوجه الخامس عشر أن القبلة ما يستقبله الإنسان بوجهه وكذلك يسمى وجهة ووجهاً وجهة لاستقبال الإنسان له بوجهه وتوجهه إليه كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا والاستقبال ضد الاستدبار فالقبلة ما يستقبله الإنسان ولا يستدبره فأما ما يرفع الإنسان إليه يده أو رأسه أو بصره فهذا باتفاق لا يسمى قبلة لأن الإنسان لم يستقبله كما لا يستدبر الجهة التي تقابله ومن استقبل شيئاً فقد استدبر ما يقابلها ومعلوم أن الداعي لا يكون مستقبلاً للسماء ومستدبراً للأرض بل يكون مستقبلاً لبعض الجهات إما القبلة أو غيرها مستدبراً لما يقابلها كالمصلي فظهر أن جعل ذلك قبلة باطل في العقل واللغة والشرع بطلاناً ظاهراً لكل أحد الوجه السابع وهو السادس عشر أن القبلة أمر يحتاج إلى توقيف وسماع وليس في الفطرة والعقل ما يخص مكاناً دون مكان باستقباله في الصلاة والدعاء أو غير ذلك فلو كان

الداعون إنما يقصدون برفع أيديهم وأبصارهم وغير ذلك استقبال بعض المخلوقات مثل العرش أو السماء وغير ذلك من غير أن يكون الرفع إلى الخالق تعالى لم يفعلوا ذلك إلا عن توقيف وسماع ومن المعلوم أنهم يفعلون ذلك بفطرتهم وعقولهم من غير أن يوقفهم عليه أحد ولا تلقوه عن أحد الوجه الثامن وهو السابع عشر أن القبلة لا يجد الناس في أنفسهم معنى يطلب تعيينها ولا فرقاً بين قبلة وقبلة ولهذا لما أمر المسلمون باستقبال المسجد الأقصى ثم أمروا باستقبال المسجد الحرام كان هذا جميعه عندهم سائغاً لا يجد المؤمنون في أنفسهم حرجاً من ذلك ولا تفريقاً بينه فلو كان الرفع والتوجه إلى جهة السماء لكونه قبلة لكان ذلك عند الناس مؤمنهم وغير مؤمنهم منزلة التيامن والتياسر والسفل والقفا ومن المعلوم أنهم يجدون في أنفسهم طلباً ضرورياً لما فوق فهذه المعرفة والطلب الضروري الذي يجدونه بطلب العلو دون السفل يمنع أن يكون لونه قبلة وضعية بل ذلك يقتضي أن المطلوب المدعو هناك كما يجدونه أيضاً في أنفسهم ويقرون به بألسنتهم الوجه التاسع وهو الوجه الثامن عشر أنه قد اعترف في

نهايته بأن الناس إنما يرفعون إلى الله وأعرض عن هذه الأجوبة الثلاثة التي ذكرها هنا وهو أن الرفع للجهة التي تتعلق بها منافعهم من الأنوار والأرزاق أو لمن فيها من الملائكة أو لكون العرش قبلة الدعاء وذلك أنه قد علم علماً يقينياً أن الخلائق إنما يقصدون بالرفع الرفع إلى الله لكن تكلم في المقدمة الثانية وهو أن ذلك يدل على علمهم الضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة بما تقدم ذكره ونحن نتكلم عليه الوجه التاسع عشر أن الإشارة مع العبارة هي لمن ذكر في العبارة سواء كان ذلك في الجمل الخبرية أو الجمل الطلبية وسواء في ذلك إشارة بلفظ هذا أو نحوه من ألفاظ الإشارة وألفاظ الدعاء والنداء وذلك أن المتكلم إذا قال فعل هذا الرجل أو هذا الرجل ينطلق أو أكرم هذا الرجل ونحو ذلك فإن العبارة وهي لفظ هذا يطابق ما يشير إليه المتكلم ولهذا سمى النحاة هذه أسماء الإشارة وهذه الألفاظ بنفسها لا تعيِّن المراد إلا بإشارة المتكلم إلى المراد بها ولهذا من سمع هذا وذاك وهؤلاء وأولئك لم يعرف إلى أي شيء أشار المتكلم لم يفهم المراد بذلك فالدلالة على العين هي بمجموع

اللفظ وبالإشارة إذ هذه الألفاظ ليست موضوعة لشيء بعينه وإنما هي موضوعة لجنس ما يشار إليه وأما تعيين المشار إليه فيكون بالإشارة مع اللفظ كم أن أداة أل التعريف موضوعة لما هو معروف من الأسماء أما كون الشيء معروفاً فذاك يجب أن يكون معروفاً بغير اللام إما بعلم متقدم أو ذكر متقدم وكذلك المعرف بالنداء فإن النداء والدعاء من أسباب التعريف فالمنادي المعرفة يكون مضموماً وإن كان نكرة كان منصوباً فإذا نادى المنادي رجلاً مطلقاً قال يا رجلاً كقول الأعمى يا رجلاً خذ بيدي ومن نادى رجلاً بعينه قال يا رجل كقول موسى عليه السلام ثوبي حجر ثوبي حجر وهذا المنادى المعين يشير إليه الداعي المنادي فيقصده بعينه بخلاف المطلق الذي يدل عليه لفظ النكرة وكقوله رجلاً خذ بيدي فإنه هنا لم يشر إلى شيء بعينه فهذا التعريف بالنداء إنما هو يتعين في الباطن بقصد الداعي وفي الظاهر بإشارته

والمنادى الداعي ونحوه من ذوي الطلب والاستدعاء أو المخبر المحدث قد يشير إشارة ظاهرة إلى المنادى وغيره من المقصودين إما لتعريف المخاطبين إذا لم يعرفوا المعين إلا بذلك مثل من ينادي رجلاً بعينه في رجال فيقول يا رجل أو يا هذا أو يا زيد ويكون هناك جماعة اسمهم زيد ولا بد أن يشير إليه إما بتوجيه وجهه نحوه أو بعينه أو برأسه أو يده أو غير ذلك وتارة يشير توكيداً وتحقيقاً لخطابه إذا كان متميزاً بالاسم ولا يجوز أن يدعو أحداً وتكون الإشارة إلى غير من دعا فلا يجوز أن يقول يا زيد ويشير إلى غير من قصده أو يا هذا ويشير إلى غير من قصده فإذا قال الداعي اللهم وأشار برأسه أو عينه أو وجهه أو يده أو أصبعه لم تكن إشارته إلا إلى الله الذي دعاه وناداه وناجاه لا إلى غيره إذ المدعو المنادى من شأن الداعي أن يشير إليه وليس هنا من يشير إليه الداعي بقوله اللهم أو يا الله ونحو ذلك إلا الله فهو الذي يشير إليه بباطنه وظاهره وإشارته إليه بباطنه وظاهره هي قصده وصمده ذلك من معنى كونه صمداً أي يصمد العباد له وإليه ببواطنهم وظواهرهم وهو من معنى كونه مقصوداً مدعواً معبوداً وهو من كمعنى إلهيته فيدعونه ويقصدونه ببواطنهم وظواهرهم فكما لا يجوز أن يكون القصد بالقلب إذا قالوا يا الله لغيره بل المقصود

بالباطن فكذلك هو أيضاً المقصود بالظاهر إذا قالوا يا الله وأشاروا بظواهرهم بحركة ظاهرة بالإشارة إليه والتوجه نحوه وقصده كحركة بواطنهم بالإشارة إليه والتوجه نحوه وقصده لكن الظاهر تبع للباطن ومكمل له فمن دفع هذه الإشارة فهو كدفع الإشارة إليه بالقلب وذلك دفع لقصده الدافع لدعائه المتضمن لدفع عبادته ولكونه صمداً فهؤلاء المعطلة حقيقة قولهم منع أن يكون صمداً مدعواً معبوداً مقصوداً كما أن حقيقة قولهم منع أن يكون في نفسه حقاً صمداً موجوداً فقولهم مستلزم لعدم نفسه وتعطيله ولعدم معرفته وعبادته وقصده وإن كانوا من وجه آخر يقرون بوجوده وعبادته ودعائه وقصده إذ ليسوا معطلين مطلقاً بل جامعون بين الإقرار والإنكار والإثبات والنفي ولهذا كان أهل المعرفة بالله متفقين على أنه لا يتم معرفة عبد بربه ويتم قصده له وتوجهه إليه ودعاه له إلا بإقراره بأنه فوق العالم وأنه بإقراره بذلك تثبت الإلهية في قلبه ويصير له رب يعبده ويقصده وبدون ذلك يبقى قلبه مستقراً مطمئناً إلى إله يعبده ويقصده بل يبقى عنده من الريب والاضطراب ما يجده من جرب قلبه في هذه الأسباب كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه

ضرورة تطلب العلو ولا تلتفت يمنة ولا يسرة وكذلك المخاطب له بمثل قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} هو مثل الداعي بقوله اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم َ {6} فإن الخطاب كله سواء سواء كان بالأسماء المضمرة منفصلها ومتصلها مرفوعها ومنصوبها ومخفوضها كقوله أنت ربي وأنا أعبدك وقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقوه أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وقوله خلقتني ورزقتني وقوله نستعينك ونستهديك ونستغفرك

الوجه العشرون أن كون الرب إلهاً معبوداً يستلزم أن يكون بجهة من عابده بالضرورة وذلك أن العبادة تتضمن قصد المعبود وإرادته وتوجه القلب إليه وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه في جميع مراداته ومقصوداته ومطلوباته ومحبوباته التي قصدها وأحبها وطلبها دون قصده وحبه وطلبه للآلهة كما قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ [البقرة 165] والإنسان يحس من نفسه أنه إذا قصد شيئاً أو أحبه غير نفسه فلابد وأن يكون بجهة منه وأنه إذا قيل له اقصد أو اطلب أو اعبد أو أحب من لا يكون بجهة منك ولا هو فيك ولا فوقك ولا تحتك ولا أمامك ولا وراءك ولا عن يمينك ولا عن شمالك كان هذا أمراً بالممتنع لذاته ليس هو أمراً بممكن لا يطيقه والممتنع لذاته يمتنع الأمر الشرعي به باتفاق المسلمين ويكون حقيقة الأمر اعبد من يمتنع أن يعبد واقصد من يمتنع أن يقصد وادع من يمتنع أن يُدعى ووجه وجهك إلى من يمتنع التوجه إليه وهذا أمر بالجمع بين النقيضين

وقد ذكرنا نظير هذا غير مرة وبينا أن قول الجهمية يستلزم الجمع بين النقيضين وأن يكون موجوداً معدوماً معبوداً غير معبود مأموراً بعبادته منهياً عنها فحقيقته أمر بعبادة العدم المحض والنفي الصرف وترك عبادة الله سبحانه وهذا رأس الكفر وأصله وهو لازم لهم لزوماً لا محيد عنه وإذا كان فيه إيمان لا يقصد ذلك لكن الذي ابتدع هذا النفي ابتداءً وهو عالم بلوازمه كان من أعظم المنافقين الزنادقة المعطلين للصانع ولعبادته ودعائه ولهذا تجد هذا السلب إنما يقع كثيراً من متكلمي الجهمية الذين ليس فيهم عبادة لله ولا إنابة إليه وتوجه إليه وإن صلوا صلوا بقلوب غافلة وإن دعوه دعوه بقلوب لاهية لا تحقق قصد المعبود المدعو فإنها متى صدقت في العبادة والدعاء اضطرت إلى قصد موجود يكون بجهة منها فتنتقل حينئذ إلى حال عباد الجهمية فتجعله في كل مكان أو الوجود المطلق ويتوجه بقلبه إلى الجهات الست فبينما هو كان في نفيه عن الجهات الست صار مثبتاً له في الجهات الست وهذا حال

الجهمية دائماً يترددون بين هذا النفي العام المطلق وهذا الإثبات العام المطلق وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته وكل من جرب نفسه وامتحنها من المؤمنين علم من نفسه علماً يقينياً ضرورياً يجده من نفسه كما يجد حبه وبغضه ورضاه وغضبه وفرحه وحزنه أنه متى صدق في عبادة الله ودعائه والتوجه إليه بقلبه لزم أن يقصده بجهة منه فإن كان على فطرته التي فطر عليها أو ممن هو مع ذلك مؤمن بما جاءت به الرسل قصد الجهة العالية وإن كان ممن غيرت فطرته قصد الجهات كلها وقصد ك موجود فلهذا قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لأبي المعالي ما قال عارف قط يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب الجهة العالية لا تلتفت يمنة ولا يسرة فتبين أن قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} بل وقوله اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} لا يصدق في قول ذلك إلا من يقر أن الله فوقه ومن لم يقر بذلك يكون فيه نفاق عنده قصد بلا مقصود وعبادة بلا معبود حقيقي وإن كان مثبتاً له من بعض الوجوه لكن قلبه لا يكون مطمئناً إلى إله يعبده ويوضح ذلك أن عبادة القلب وقصده وتوجهه حركة منه

قول الرازي: إن الرفع سببه الإلف والعادة، باطل

وحركة الإنسان بل كل جسم لا يكون إلا في جهة وإلى جهة إذ الحركة مستلزمة للجهة وتقدير كمتحرك بلا جهة كتقدير حركة بلا متحرك وهذا مما لا نزاع فيه بين العقلاء لكن غلاة المتفلسفة قد يزعمون أن القلب والروح ليسا جسماً وأنه لا داخل البدن ولا خارجه ولا داخل العالم ولا خارجه وهذا معلوم فساده بالحس والعقل والسمع كما قد بيناه في غير هذا الموضع وغلاة المتكلمين يزعمون أن الروح إنما هو عرض من أعراض البدن ليست شيئاً يفارق البدن ويقوم بنفسه وهذا أيضاً فاسد في الشرع والعقل كما بيناه في غير هذا الموضع وإذا عرف فساد القولين علم أن الروح التي فينا جسم يتحرك ثم نقول القلب الذي هو مضغة يحس الإنسان من نفسه بصعوده وارتفاعه إلى فوق عند اضطراره إلى الله تعالى الوجه الحادي والعشرون قوله في نهايته الإشارة إلى فوق سببها الإلف والعادة وجريان الناس على ذلك وقد ذكر مستند هذه العادة أنه مستند فاسد

يقال هذه المقدمة تقرر بوجوه أحدها أن ذلك يستلزم علماً ضرورياً بأن مدعوهم فوق كما تقدم من أنهم يجدون هذا العلم الفطري الضروري وأنهم يخبرون بألسنتهم أنهم يجدونه وأن أفعالهم وأقوالهم تدل على أنهم يجدونه وهذا العلم يلزم نفوسهم لزوماً لا يمكنهم الانفكاك عنه أعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية والطبيعية مثل كون الواحد ثلث الثلاثة وأن الجسم لا يجتمع في مكانين وذلك أن ذلك علم مجرد ليسول مضطرين إليه بل قد لا يخطر ذلك ببال أحدهم وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين إليه هم مضطرون إلى موجبه ومقتضاه وهو الدعاء والسؤال والذل والخضوع للمدعو المعبود الذي هو فوق فهم مضطرون إلى العلم وإلى العمل الذي يتبع هذا العلم وهو السؤال والطلب وإن كان فيهم من يكون عند ظنه الاستغناء يحمله الاستكبار على الإعراض عن هذا العلم والاعتراف والطلب والإرادة والدعاء أو يحمله عليه اعتقاد فاسد أو عادة فاسدة فهذا لا يخرجه عن أن يكون ضرورياً فإن هذا من أعظم السفسطة التي يدعو إليها أهل التقليد للآباء وطلب العلو والفساد

في الأرض ومن المعلوم أنه مع قوة الصارف المعارض للداعي لا يكون حاله كحال الداعي الذي لم يعارضه صارف وما ذكر من مبادئ العلم الحسابي والطبيعي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وأن الجسم لا يكون في مكانين ونحو ذلك ليس الداعي إلى هذا العلم قوياً في النفوس ولا الصارف عنه قوياً في النفس ولهذا تجد عامة من يصير هذا العلم قائماً بنفسه من عنده نوع نظر وبحث فيما يتعلق بذلك وتجد الحاجة لمثل هذا النوع فساد خاص في عقله أو غرض حاء منه وأما العلم الإلهي فهو أجل وأشرف فإنه ضروري لبني آدم علماً وإرادة فُطروا على ذلك فوجود هذا العلم والإرادة الضروريتين في أنفسهم أكثر وأكثر من وجود ذلك والمعارض لهذا لابد وأن يكون قوياً إما اعتقاد فاسد كاعتقاد الجهمية المتأولين الذين لم يكابروا العقل وليس لهم غرض في خلاف الدين وإما إرادة فاسدة قوية كإرادة فرعون وقومه الذين قال الله

فيهم وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {14} [النمل 14] وقال له موسى قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [الإسراء 102] وهذه الإرادة الفاسدة هي الهوى الذي يصد عن معرفة الحق وهو مرض في القلب يمنع ما فطر عليه من صحة الإدراك والحركة كما يمنع مرض العين ما فطرت عليه من صحة الإدراك والحركة وكذلك المرض في سائر الأعضاء فهؤلاء الذين يجدون في أنفسهم علماً ضرورياً وقصداً ضرورياً لمن هو فوق العالم قد مرضت قلوبهم وفسدت فطرتهم ففسد إحساسهم بالباطن كما يفسد الإحساس الظاهر مثل المرة التي تفسد الذوق والحول والعشى الذي يفسد البصر وغير ذلك ولهذا إنما يكون الاعتبار في هذا بذوي الفطر السليمة من

الفساد والإحالة فإن قيل قد تكرر ما ذكرتموه من كون الناس مضطرين إلى الإقرار بأن صانع العالم فوق ولا ريب أن هذا قد قاله طوائف كثيرة من أهل الكلام والحديث والفقه والتصوف وهو من أشهر حججهم وأدلتهم عند خاصتهم وعامتهم لكن هذا مستلزم أن يكون الإقرار بالصانع فطرياً ضرورياً فإنه إذا كان الإقرار بعلوه فطرياً ضرورياً فالإقرار به نفسه أولى أن يكون فطرياً ضرورياَ لأن العلم بالموصوف لا يجوز أن يتأخر عن العلم بالصفة ولعلم بالقضية المرادية لا يجوز أن يتأخر عن العلم بمفردها فإذا كان العلم بمضمون قولنا هو فرق علماً ضرورياً فالعلم به وبمعنى فوق أولى أن يكون ضرورياً وليس الأمر كذلك فإن الإقرار بالصانع إنما هو معلوم بالنظر والاستدلال كما هو مشهور عند العلماء النظار ولهذا تنازعوا في أول الواجبات هل العلم نفسه أو النظر المفضي إليه على قولين

وإن كان النزاع قد يقال إنه لفظي لكون العلم واجباً لنفسه والنظر واجباً وجوب الوسائل التي تجب لغيرها وهذا نزاع مشهور في عامة الطوائف وهو قولان لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم

يل له من الناس من قد يقول في مثل هذا إن العلم بالتصديق والقضية المؤلفة إذا كان بديهياً ضرورياً فقد يكون كذلك لكون تصور المفردين بديهياً وهذا هو البديهي تصوراً وتصديقاً وقد يكون تصور المفردين كسبياً نظرياً ولكن بعد حصول تصورهما يكون العلم بنسبة أحدهما إلى الآخر بديهياً ضرورياً لا يفتقر إلى وسط بينهما يكون دليلاً على المطلوب وإذا كان كذلك لم يجب إذا كان العلم بأنه فوق بديهي ضروري أن يكون العلم بمعناه وبمعنى فوق بديهياً ضرورياً لكن هذا القول لم يجب به لأن القائلين بأن العلم بهذا بديهي ضروري قالوا إنه فطري لبني آدم بدون نظر قياسي يكون سابقاً على هذا العلم فهم جعلوه من باب الفطري الضروري البديهي المطلق

ولأن البديهي للتصديق دون التصور إنما يقف على ما يحصل له تصور المفردين لا يقف على ما يحص به وجود المفردين في الخارج فهب أن العلم بمسمى اسم الله فطري لكن العلم بوجوده هو أيضاً علم بتصديق كالعلم بعلوه ولأن دعوى كون التصور مطلوباً يعلم بالحدود باطل كما بيناه في غير هذا الموضع وبينا أن الحدود لا تفيد إلا لتمييز بين المحدود وغيره لا تفيد المستمع تصور ما لم يتصوره بدونها وأن التصورات لو لم تعلم إلا بالحدود لأفضى إلى الدور ولأن الحاد يجب أن يتصور المحدود قبل أن يحده وأن الحد من باب الأقوال والعبارة والقول لا يفيد المستمع إن لم يكن متصوراً لمفردات الكم قبل ذلك بنفسها أو بنظيرها إذ العلم بالمعنى الذي قصده

المخاطب يفتقر إلى العلم بأن اللفظ دال على المعنى موضوع له والعلم بكون اللفظ موضوعاً للمعنى يقف على العلم بالمعنى وباللفظ فلا يجوز أن يكون تصور ذلك المعنى مستفاداً من اللفظ الذي لا يدل إلا بعد أن يعلم المعنى وأن اللفظ موضوع له ودال عليه ولأن المعرف للمفرد بالقول إما أن يعرفه بلفظ مفرد مطابق له وهو الاسم أو يعرفه بذكر صفة مخصوصة به ولفظ تلك الصفة بمنزلة الاسم في العموم والخصوص كالناطق والإنسان وإما أن يعرفه بذكر الخاص بعد العام فتصور العام وشموله لتلك الأفراد مسبوق بتصور تلك الأفراد فلو كان تصور تلك الأفراد مستفاداً من العام لزم الدور إذ علم المتكلم والمستمع بأن الإنسان حيوان مسبوق بتصور الإنسان والحيوان إذ لا يعلم أن الإنسان حيوان إلا من يعلم الإنسان ولا يعلم أن الحيوان جسم إلا من يعلم الحيوان والجسم فلو كانت معرفة الإنسان لا تستفاد إلا بعد معرفة الحيوان ومعرفة الحيوان لا تعلم إلا بعد معرفة مفرداته التي يوصف بها لزم الدور وذلك أن الأجناس الكلية ولا وجود لهل كلية إلا في

الأذهان والذهن إنما يجردها إذا أحس بها معينة موجودة مشخصة في الخارج لكن يقال إنه قد ينتزعها من بعض الأعيان مثل أن يتصور الحيوان من جهة معرفته بالفرس ولا يتصور كون الإنسان هو أيضاً كذلك فيقال له ذلك المعنى الذي يوصف به الفرس بكون نظيره للأمر الذي يحد لك وهو الإنسان لكن هذا أيضاً يلزم الدور فإنه ليس علم الإنسان بانطباق بعض الأنواع بأنه حيوان أولى من العلم باتصاف النوع الآخر به وأهل هذه الحدود لا يقولون المحدود هو نوع الإنسان دون الفرس ولا بالعكس بل الحدود لهذه الأنواع كلها سواء بل علم الإنسان عندهم بنفسه وبنوعه وبصفاته هي عنده أسبق وأظهر من علمه بصفات غيره من الأنواع وبالجملة فليس هذا موضع هذا وإنما المقصود هنا أنا لا نجيب بذلك الجواب بل نقول هب أن العلم بأنه فوق إذا كان فطرياً ضرورياً كان العلم بوجود نفسه أن يكون فطرياً ضرورياً أولى فأي محذور في ذلك قوله المشهور عند النظار أن العلم بالصانع إنما يحصل

بالنظر والاستدلال وهو ترتيب الأقيسة العقلية يقال له ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم بل هذا قول محدث في الإسلام ابتدعه متكلمو المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم وقالوا بل الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال بل قد يقولون يمتنع أن يحصل بالقياس والنظر وهذا قول جماهير الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والعامة وغيرهم

بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا تقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلاً عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بالطريقة المشهورة له من إثبات حدوث العالم بحدوث صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف إلا بهذه الطريقة وهذه مسألة عظيمة ليس هذا موضع بسطها وقد بسطناها في غير هذا الموضع وبينا أن أصل المعرفة والإقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال بل يحصل بديهة وضرورة ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم مع عظيم شركهم وكفرهم وأنهم يسلكون من هذه الطرق المشهورة عند النظار مثل الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالإمكان على الواجب ولهذا يوجد

له عند كل أمة اسم يسمونه والتسمية مسبوقة بالتصور فلا يسمي أحد إلا ما عرفه ثم المستمع لذلك الاسم يقبل بفطرته ثبوت المسمى به من غير طلب حجة على وجوده ويكون قبوله لذلك كقبوله لأسماء سائر ما أدركه بحسه وعقله مثل الشمس والقمر والواحد والاثنين بل هذا أكمل وأشرف ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعها ومع هذا فالطرق النظرية تفيد العلم والمعرفة ولا منافاة بين كون الشيء يعلم بالبديهة والضرورة ويكون عليه أدلة وهي نوعان أحدهما الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن والآية هي دليل عليه بعينه لا تدل على قدر مشترك بينه وبين غيره فنفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب وهو آية له ودليل عليه وشاهد بوجوده بعينه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره الثاني ضرب الأمثال والقياس وهو نوعان أحدهما

قياس الأولى والأحرى فهذا أيضاً مما يذكره الله في القرآن لكن عامة ما يستعمل هذا في صفاته كإثبات وحدانيته في إلهيته وقدرته ونحو ذلك والثاني الأقيسة المطلقة أقيسة الشمول المنطقية وأقيسة التمثيل وهذه التي يسلكها هؤلاء النظار المتكلمون من

المتفلسفة ومتكلمي أهل الملل وهي أضعف الطرق وأقلها فائدة وطريقة المتكلمين أجود فإنهم يثبتون بها أن للعالم محدثاً وأما المتفلسفة فما يثبتون إلا وجوداً واجباً ليس فيه أنه صانع للعالم ولا باريه ثم إن كلاً من الصنفين لا بد أن يستعمل طريقته قضية كلية مثل قول أولئك العالم محدث أو العالم فيه حوادث من جواهر وصفات وغير ذلك

وكل محدث فلابد له من محدث فإن هذه قضية كلية وهي مع كونها معلومة بالبديهة والضرورة فقد يثبتها كثير من المعتزلة بقياس التمثيل وهو القياس على محدثات الآدمي من الدور والبنيان ومن المعلوم أن علم الإنسان بأن كل محدَث لابد له من محدِث هو علم يندرج فيه أن هذا المحدث لابد له من محدث وهذا المحدث لابد له من محدث ومن المعلوم أن علمه بهذه الأفراد المعينة أسبق إلى حسه وعقله من علمه بهذه القضية الكلية العامة كما في نظائر ذلك كما أن علمه هذا الإنسان يحس ويلتذ ويتألم قبل علمه بأن كل إنسان يحس ويلتذ ويتألم إذ الأمور الموجودة الحسية يكون العلم بها قبل أن يعقل قضية عامة كلية وإذا كان كذلك فعلم الإنسان بأن هذا المحدث الذي علم حدوثه كما يشهده من الحوادث أو يعلم حدوثه بدليل أو قياس علمه بأن هذا المحدث لابد له من محدث لا يحتاج إلى أن يعلم قبل ذلك أن كل محدث فلابد له من محدث فلا يحتاج من العلم بالمحدث إلى هذه القضية الكلية

والقياس المشتمل عليها وإن كان ذلك أيضاً من جملة الأقيسة والأمثال المضروبة التي يثبت بها ذلك لكن ينبغي أن يكون على وجه الأولى بأن يقال إذا كان هذا المحدث الصغير لابد له من محدث فهذا المحدث الكبير أولى وأيضاً فنحن لم نشهد محدثاً تاماً مطلقاً إذ لا محدث تام على الحقيقة إلا الله سبحانه فظنوا من ظن من المعتزلة أنه إنما يعرف أن المحدث لا يفتقر إلى محدث إلا بالقياس على إحداث الآدميين غلط وذلك أن حكم الأصل أضعف من حكم الفرع فإن الإنسان وإن زعموا أنه يحدث تصرفاته فلا ريب أنه يفتقر فيما يبنيه وينسجه على آلة خارجة عن قدرته فليس هو نظير حكم الفرع أقوى وأحق وكذلك قول القائل إن الممكن لا يترجح أحدج طرفيه على الآخر إلا بمرجح قضية كلية مضمونها أن جميع الممكنات

وهي التي لا تستحق بنفسها الوجود ولا يمتنع عليها العدم فلا تكون موجودة إلا بمرجح لكن العلم بها ليس بأسبق ولا بأظهر من العلم بأفرادها فإن الإنسان متى تصور أن الشيء الفلاني لا يستحق الوجود في نفسه ولا يمتنع عدمه علم أن ذلك الشيء الفلاني لا يوجد بنفسه بل نفس تصور الممكن يوجب هذا العلم فإنه إذا قيل الشيء يجوز وجوده ولا يكون وجوده بنفسه أو لا يجب وجوده بنفسه كان نفس هذا التصور يقتضي أن وجوده من غيره والشأن إنما هو في تعيين الأمور التي هي ممكنة وهذا قد يعلم بالحدوث المشهود أو المستدل عليه فتكون طريقتهم تابعة لطريقة الأولين وأما علم ذلك بغير هذه الطريق ففيها من الخفاء والنزاع ما ليس هذا موضعه

ولهذا كثر في هؤلاء من يجحد الصانع مع إقراره بوجود واجب ثم مع ذلك فأولئك إنما يستفيدون بطريقهم العلم بالقدر المشترك بينه وبين سائر المحدثين إذ القضية الكلية لا تدل إلا على القدر المشترك فيكونون قد علموا من إحداثه ما علموه من إحداث سائر الحيوانات حتى البعوضة ومعلوم أن هذا علم قليل نزر بما يستحقه الرب ولم يعلموا من إحداث ربهم إلا ما أشركوا به فيه جميع الحيوانات فيكونون أبعد عن معرفة الله تعالى من المشركين الذين قال الله فيهم وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] ونحن نعلم أن المحدث تعظم قدرته وفعله بـ الأمر المحدث كما يعلم أن باني الدار وناسج الثوب العظيم أعظم من باني الدار الصغيرة وناسج الثوب الصغير لكن القضية الكلية التي ذكروها تفيد أنه أعظم من سائر المحدثين بقدر عظمة العالم على جميع مصنوعات أولئك وهذا بعض ما يستحقه الرب من التعظيم وعدم المماثلة لكن نفس الإحداث أيضاً فيه من التفاوت أعظم من هذا التفاوت فما أحدثه الرب وإن كان أعظم فنفس إحداثه أيضاً وهو ليس من

جنس إحداث المخلوقين وما ذكروه من القياس لا يفيد هذا إلا بدليل آخر إذ القضية الكلية لا تدل إلا على القدر المشترك ثم قياسهم يدل على ذاتٍ ما موصوفة بهذا الإحداث ففي الجملة ليس في هذا القياس علم بخصوص الربوبية ولهذا كان ما ورد به القرآن من كونه رب العالمين وخالق كل شيء ونحو ذلك له من الربوبية على هذا ما لم يتسع هذا الموضع لذكره إذ غيره ليس رباً مطلقاً ولا خالقاً أيضاً فكان ما أثبته له من فعل العالم أثبته على الوجه المختص به لم يثبته باسم لا يفيد إلا القدر المشترك كما فعله هؤلاء الذين قاسوا إحداثه على إحداثهم وأما الآخرون فإنما يستفيدون الإقرار بوجود واجب الوجود بـ قدر مشترك بينه وبين سائر الموجودات فكان معلوم هؤلاء أبعد عن معرفة الله وما يخصه من معلوم أولئك إذ كونه محدثاً فيه تعرض لربوبيته وفعله وإن كانوا قدأشركوا بينه وبين الحيوانات وأما هؤلاء فإنهم أشركوا بينه وبين سائر الموجودات بإثبات وجوده ثم تمييزه بكون وجوده واجباً كتمييز أولئك بأنه محدث العالم

ولا ريب أن تمييز هؤلاء أجود فإن كونه محدث العالم مستلزم غناه ووجوده بنفسه وأما العلم بمجرد كونه موجوداً بنفسه فلا يفيد العلم بأنه صانع العالم ولا بأنه رب السموات والأرض ولا يفيد أيضاً العلم بمغايرته لشيء من الموجودات التي لم يعلم حدوثها إذ كون وجوده واجباً لا ينفي بنفسه أن تكون بعض الذوات ليست محدثة ثم إذا قرروا أن الأجسام كلها ممكنة أو أن السموات والأرض كلها ممكنة وواجب الوجود غيرها أو قرروا أن واجب الوجود لا يكون اثنين لم يستفيدوا بذلك إلا مجرد أن الوجود المشترك بينه وبين غيره وجد بنفسه ولم يحتج إلى فاعل فيكونون قد مثلوه بسائر الموجودات ولكن فرقوا بينه وبينها بالغنى عن الغير فقط وهذا الوصف قد يزعمون أنه عدمي وقد يزعمون أنه إضافي وعلى هذين التقديرين فلا يكونون أثبتوا لرب العالمين إلا ما أثبتوه لسائر الموجودات وهذا يجمع كل شرك في العالمين وإن زعموا أنه ثبوتي نقضوا ما أثبتوه لوحدة واجب الوجود

بحيث أثبتوا لواجب الوجود أمرين ثبوتيين وهذا باب واسع يطول الكلام فيه فظهر أن أقيستهم قد يستغني عنها كما قد يتفطن بها بعض الناس لما كان ذاهلاً عنه لكن مع إمكان أن يتفطن بدونها ومع ذلك فلا تفيد المعرفة الضرورية التي تحصل بالفطرة أو بالآيات أو بقياس الأولى فضلاً عن أن تفيد المعرفة التي تحصل بعد ذلك بالشرعة لكن تفيد نوعاً من المعرفة القاصرة وتبطل ما يقابل ذلك من النكرة والجهل والكفر فتثبت شيئاً من الإقرار بالصانع وتمنع شيئاً من الإنكار له وأما أن ما تفيده الآيات المشهودة والمسموعة وما في ضمن ذلك من الأمثال المضروبة التي مبناها على الأولوية فلا وقد نقلوا عن أساطين الفلاسفة القدماء أنهم قالوا العلم الإلهي لا سبيل فيه إلى اليقين وإنما نتكلم بالأولى والأخلق والأحرى وحملوا ذلك على أنهم أرادوا أنه ليس فيه إلا الظن

الغالب فإن كانوا أرادوا هذا فناهيك بهذا الإفلاس من معرفة الله تعالى ولكن يحتمل أنهم أرادوا أن اليقين الذي يستفاد بالمقاييس الشمولية والتمثيلية المستعملة في الموجودات لا توجد في حق الله تعالى ولكن هؤلاء أحق وأولى وأحرى بما يثبت من صفات الكمال وبما ينفي من صفات النقص ومعلوم أن ذلك الرجحان والفضل غير معلوم قدره ووصفه بالقياس فحيئنذ لا لنا سبيل إلى اليقين بالحقيقة التي دل عليها القياس العقلي فهذا إن أرادوه فهو جيد لهم ومن قال ذلك فقد قال الحق وأعطى النظر القياسي حقه إذ لا يمكن به معرفة الربوبية غير هذا وهو معرفة مجملة وغير مفصلة وبكل حال فقد لا يحتاج إلى هذه المقاييس وهذه الطرق النظرية بل استغنى عنها بالفطرة البديهية الضرورية عاماً وخاصاً وبالآيات المشهودة والمسموعة وعلم جماهير الخلق من هذا الباب وهو أثبت وأرسخ من علم أولئك فإن أولئك عندهم من الشك والارتياب وأنواع التلون والاضطراب ما لا يوجد عند عامة هؤلاء فضلاً عمن كان من ذوي الألباب

والآيات لا يحتاج فيها إلى القياس كما أن الشعاع آية على الشمس وليس ذلك بقياس الشمس عل غيرها من المؤثرات وبقياس الشعاع على غيره من الآثار بل عند الناس علم فطري بالحس والعقل أن نفس الشعاع مستلزم للشمس على وجه لا يشرك الشمس في ذلك غيرها وما من مخلوق إلا وهو نفسه آية على خالقه على وجه لا يشركه فيه غيره كما قيل وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد لكن الكلام في هذا يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه على أن ما ذكره أهل الإثبات من إقرار العباد بفطرهم أن ربهم فوقهم إذا كان مستلزماً لإقرارهم بربهم بفطرهم وأن الإقرار به فطري فليس في لزوم ذلك شيء من الاستبعاد إذ على القول بذلك جماهير أصناف العباد وإنما يستبعد ذلك من غيَّر مبتدعةُ المتكلمين فطرته وسلكوا به في مسالكهم الحرجة الضيقة وأوهموا أنهم هم العارفون بالحجة والدليل دون الأولين والآخرين من كل صنف وجيل وهذا كما تزعمه القرامطة الباطنية أنهم خلاصة أهل المعرفة

والتحقيق دون من لم يسلك هذا الطريق ويزعم الاتحادية أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله دون سائر عباد الله ويزعم الرافضة أنهم هم أولياء الله المتقون فدعاوى هؤلاء المتكلمين والجهمية ودعاوى الرافضة والاتحادية والقرامطة والباطنية هي من دعاوى شر البرية فالحمد لله الذي هدانا بالإسلام ومَنّ علينا

بالقرآن وأرسل إلينا رسولاً من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين والله سبحانه فطر عباده على شيئين إقرار قلوبهم به علماً وعلى محبته والخضوع له عملاً وعبادة واستعانة فهم مفطورون على العلم به والعمل له وهو الإسلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وفي رواية على هذه الفطرة وفي الصحيحين عن الزهري وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم 30] وأخرجاه من حديث

همام عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يولد يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتجون الإبل هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت صغيراً قال الله أعلم بما كانوا عاملين وروى البخاري من حديث شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال نصلي على كل مولود يتوفى وإن كان لغية من

أجل أنه ولد على فطرة الإسلام يدعي أبواه الإسلام أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير الإسلام إذا استهل صارخاً ولا نصلي على من لم يستهل من أجل أنه سقط فإن أبا هريرة كان يحدث النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها أخرجه البخاري من هذا الوجه وإن

كان منقطعاً لما فيه من كلام الزهري الذي فيه تفسير الحديث بأنه على فطرة الإسلام والبخاري قد أخرجه متصلاً من حديث يونس عن الزهري عن ابي هريرة كما تقدم وأخرجه مسلم من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وفي آخره ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وأخرجه مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه فقال رجل يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك قال الله أعلم بما كانوا عاملين وفي رواية ابن نمير عن

الأعمش ما من مولود بولد إلا وهو على الملة وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه لفظ ابن أبي شيبة عنه ولفظ أبي كريب عن أبي معاوية ليس من مولود ولد إلا على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ورواه مسلم من حديث الدراوردي عن العلاء بن

عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال كل إنسان تلده أمه على الفطرة وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها واعلم أن المتكلمين يحكون هذا القول عمن يذكرونه من أهل الحديث وأهل الكلام لكن يزعمون أن الأكثرين على

قولهم بأن الإقرار بالصانع نظري ونقلهم ذلك بحسب ما يحكونه كما نقل هذا الرازي عن أكثر أهل التوحيد إنكار أن يكون الله فوق العرش ونقل عن أكثر المسلمين إنكار النفس وأنه لا يعاد إلا البدن بل ذكر من نقل إجماع الصحابة على

أن الله ينفي جميع الأجسام ولم يجزم بنفي ذلك وأمثال هذه النقول التي ينقلونها بحسب ما عندهم وأعجب من ذلك أن كثيراً منهم يظن أن هذا مما لا اختلاف فيه بل القول بأن معرفة الله التي هي الإقرار بالصانع لا تحصل إلا بالنظر أمر متفق عليه بين النظار فإذا ذكر له أن في ذلك خلافاً بين أهل الكلام بعضهم مع بعض تعجب من ذلك وذلك لأن من سلك طريقة من هذه الطرائق لا يكاد يعرق غيرها فلهذا تجد في كتب أهل الكلام مما يدل على غاية الجهل بما قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال كأن هؤلاء نشأوا في غير ديار الإسلام ولا ريب أنهم نشأوا بين من لم يعرف العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروف ولبستهم فتن رُبِّيَ فيها الصغير وهرم فيها الكبير وبدلت السنة بالبدعة والحق بالباطل ولهذا أنا أنقل من مقالات كبارهم حكاية الخلاف في ذلك ليستأنس بذلك من يعتمد على نقلهم وإن كان في ذلك النقل من

التحريف ما فيه كما ذكره الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في بيان ما يدرك عقلاً وما لا يدرك عقلاً قال قال أهل الحق العلم والعقل واحد واختلاف الناس في العقول لكثرة العلوم وقلتها إذا كمل عقل الإنسان وسلم من الآفة أمكنه الاستدلال بما وجد من الأفعال على حدوث العالم إذ في مجرد العقول أدلة عليه وعلى افتقاره إلى محدث أحدثه وفيها أدلة على قدم محدثه وأوصافه التي تدل عليها أفعاله وما يجوز منه

ويستحيل عليه ونفي ما يدل على حدوثه عنه وجواز وصفه بالقدرة عليه وغير ذلك من المسائل التي لا تتعلق بحقيقة يسوغ الرد فيه فإن لصانع العالم أن يبعث الرسل ويأمر الخلق بالشرائع تعبداً وله أن لا يبعثهم ولا يكلفهم استغناءً وليس في العقول بمجردها أدلة على تغيير الشرائع وإيجاد العبادات وكيفية العقود قال وعلى ذلك أهل القبلة إلا في قولهم إن له سبحانه أن لا يبعث الرسل فإنه تحيله القدرية أو بعضهم على تفصيل له رمزنا إليه كما تقدم قال فزعمت طائفة من مقلدي أصحاب الحديث وفرقة من نظارهم وجماعة من المعتزلة أن المعرفة بالمحدث وحاجته إلى المحدث من طريق الضرورة وورود الرسول بإيجاب الإقرار وبيان الشرائع وقال جمهور أهل الحق إن المعرفة من طريق الدلالة قالوا وفي العقل دليل على أنه لا يجب على العاقل الاستدلال عليه ولا يجب شكر الخالق قبل

الشرع ولا يجب ترك الظلم من جهة الصانع على معنى أنه يستحق منه العقوبة أو اللوم قال وزعمت القدرية أن الاستدلال على حدوث العالم وقدم صانعه وأوصافه والشكر لهم بعد معرفته وترك الظلم من جهته واجب عليه بمجرد عقله ووردت الرسل بتأكيد ما فيه أي ما في عقله إيجابه وربما يكون ورود الشرع لطفاً لبعضهم لكون الإيمان عنده اهـ وذكر تمام كلامه قلت وقد ظهر بذلك أن مراده بأهل الحق هم أصحابه

وكذلك عادة أبي المعالي إذا قال قال أهل الحث فهم أصحابه وهذا مما يقوله كثير من الناس في خطابه وهو من باب إخبار الرجل عن اعتقاده إذ كل أحد يمكنه أن يقول عن طائفته ذلك يعرفهم بهذا التعريف والغرض أن ما ذكره من أن المعرفة من طريق الدلالة ذكره عن جمهورهم لا عن جمهور المسلمين وأما قوله ابتداءً على هذا أكثر أهل القبلة فإنه يعني به عن المتكلمين الذين هم عنده علماء أهل القبلة كأصحابه والمعتزلة ونحوهم وإن لم يحمل على ذلك وإلا كان كذباً صريحاً فإن هذا الكلام الذي ذكره لا يقدر هو ولا غيره أن ينقله لا بلفظه ولا بمعناه عن إمام من أئمة المسلمين لا أئمة العلم ولا أئمة العبادة ولا عن أحد من سلف الأمة ولا عن أحد له في الأمة لسان صدق عام بل كلام هؤلاء كله صريح في

إنكار ما أوجبه هؤلاء وجعلوه طريقة المعرفة حتى الأشعري نفسه قد ذكر إجماع السلف على ذلك كما في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب كما قد حكينا لفظه عند احتجاج

إجماع المسلمين وغيرهم على أن مدعوهم فوق

المنازع بالحركة ونحوها كما تقدم نقول الوجه الثاني في تقرير المقدمة المذكورة أن يقال إجماع المسلمين حجة فكيف بإجماع جميع الأمم من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وغيرهم فمن اعتقد أن الأمم المختلفة الملل والأجناس إذا اجتمعت على مثل هذا الأمر من غير أن يجمعها عليه جامع خاص تكون مخطئة فلا ريب أنه مع أنه قد قدح في إجماع المسلمين مصاب في عقله كما هو مصاب في دينه حيث جوز أن يكون الأولون والآخرون مخطئين وهو المصيب وصار هذا بمنزلة أن يخبر جميع الناس بأنهم رأوا الهلال ويقول بعض الناس إن حسهم غلط ولا هلال هناك أو يخبر جميع الناس برؤية شيء من الكواكب أو سماع شيء من الأصوات أو ذوق شيء من المطعومات ويطعن طاعن فيما يخبر به أصناف الأمم من ذلك فإن هذا من

أعظم السفسطة وفساد العقل الوجه الثالث أن من المجمعين على ذلك الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فإنه قد تواتر عنهم رفع الأيدي في الدعاء فإن كان مستند ذلك عادة فاسدة أصلها اعتقاد فاسد كان الأنبياء قد وافقوا الناس على الدين الفاسد والاعتقاد الفاسد في الله تعالى وهذا من أعظم الكفر الوجه الرابع أن القدح في هذا يستلزم القدح في جميع العلوم والمعارف فإنه إذا جوز أن يكون الناس كلهم مخطئين فيما يجدونه في قلوبهم من هذه المعرفة والقصد الضروريين كان القدح في سائر العلوم الضرورية أولى وحينئذ فيبطل جميع ما يقوله المتكلمون من القدح في هذا والانتصار لضده إذ غايتهم أن يبنوا ذلك على مقدمات ضرورية الوجه الثاني والعشرون أن يقال لا نسلم أن سبب إشارة الناس إلى فوق هو ما ذكره ولم يذكر على ذلك حجة بل ادعاه دعوى مجردة فقال سبب ذلك الإلف والعادة فإنهم ما شاهدوا عالماً قادراً حياً إلا جسماً فيسبق إلى الوهم أن من يدعو عالماً قادراً حياً على ما يشاهد عليه الأحياء

القادرين ويتبع ذلك أنه في مكان ولأن العلو أشرف فيسبق إلى وهم الداعي أن من يعتقد عظمته إذا كان في جهة وجب أن يكون في جهة العلو فبسبب هذه الأمور وأمثالها وقعت الإشارة إلى السماء ثم إن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل فظهر أن سبب ذلك الإلف ولا يكون صواباً اهـ فيقال له هذا الذي قلته مجرد دعوى لم تذكر عليه حجة وما ذكرته من التمثيل بالأسود والعربية إنما غايته تجويز أن يكون للإنسان اعتقاد غير مطابق سببه ذلك فِلمَ قلت إن هذا من ذاك وهذا بمنزلة أن يقال هؤلاء غلطوا في وجدهم طعم هذه الفاكهة مراً لأن الممرور يجد طعم الحلو مراً أو غلطوا في رؤيتهم لهذين الشخصين لأن الأحول يرى الواحد اثنين فيقال له هب أن الحس يغلط لفساد يعرض له فلِمَ قلت إن حس هؤلاء مع كثرتهم قد غلط لفساد عرض له وأعجب من ذلك قوله فظهر أن سبب ذلك الإلف ولم يظهر شيئاً من ذلك إلا أنه ظهر أنه ادعى ذلك وظهور كونه ادعاه غير ظهور صحة دعواه

الوجه الثالث والعشرون أن يقال هب أن سبب ذلك الإلف والعادة التي تلقاها الأخلاف عن الأسلاف لكن العادة التي تعم بني آدم مع تباين حالهم وأديانهم واختلاف علومهم وإراداتهم لا تكون إلا عادة صحيحة كما اعتادوه من الأمور الطبيعية والخلقية فإنهم جميعهم يعتادون الأكل والشرب والنكاح واللباس وكل هذه العادات صحيحة مبنية على علوم صحيحة ولها منافع صحيحة كذلك اعتيادهم مدح الصدق والعدل والعلم ومحبته وتحسينه وذم الكذب والظلم والجهل وبغضه وتقبيحه هذه عادة صحيحة حسنة باتفاق الخلائق لا ينازع في ذلك من يقول بتحسين العقل وتقبيحه ولا من ينفيه إذ هم جميعاً متفقون على أن اعتقاد محبة هذا وحمده وبغض هذا وذمه عادة صحيحة ليست فاسدة ولا مبنية على اعتقاد فاسد سواء كان ذلك لانتفاعهم بذلك في الدنيا أو لغير ذلك

فظهر أن ما أضعف به الحجة أفادها به قوة إذ العادات العامة لجميع الأمم من أعظم العادات وأصحها وبنو آدم لا يأتون من جهة ما اتفقوا عليه فإنهم لا يتفقون إلا على حق وإنما يأتون من جهة تفرقهم واختلافهم كما قال تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ [هود 118-119] ولهذا كانوا مفطورين على الإقرار بالصانع والدين له فهذا الذي اجتمعوا عليه حق ولكن تفرقوا في الشرك فكل قوم لهم رأي وهوى يخالفون به الآخرين قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} [الروم 30-32] ولهذا وصف الله نبيه وأمته بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والمعروف الذي تطلبه القلوب وتريده بقطرتها إذا علمته والمنكر الذي تبغضه وتكرهه إذا علمته فإذا كان بنو آدم متفقين على هذه العادة التي مضمونها الرفع إلى الله حين الدعاء وكان ذلك يتضمن قصدهم للإله الذي هناك كان هذا من أعرف المعروف عند جميع بني آدم

الوجه الرابع والعشرون أن يقال هذا العمل يتضمن ثلاثة أشياء الرفع الذي في الإشارة الحسية الظاهرة والقصد والإرادة التي في القلب التي يقصد بها الصمد العلى والاعتقاد الذي هو أصل القصد الذي هو أصل العمل فإن كل عمل اختياري لابد فيه من إرادة وشعور وأنت تزعم أن الثلاثة فاسدة وأن هذا العمل التابع للإرادة سبب الإرادة فيه هو تخييل غير مطابق فيقال لك لو كان الأمر كذلك لكان النهي عن ذلك من أعظم الواجبات في الدين إذ ذاك من أعظم المنكرات لتضمنه اعتقاداً فاسداً في حق الله تعالى ودعاءً فاسداً متعلقاً به وعبادة غير صالحة له ومن المعلوم أن الله قد بعث الأولين والآخرين من النبيين مبشرين ومنذرين ولم ينه أحد من الأنبياء والمرسلين لبني آدم عن شيء من ذلك لا عن هذا الرفع ولا عن هذا القصد ولا عن هذا الاعتقاد بل كان الأنبياء موافقين لهم على هذا العمل وذلك يوجب العلم الضروري من دين النبيين أن ذلك عندهم ليس من المنكر بل من المعروف وذلك يبطل كونه مبنياً على اعتقاد فاسد في حق الله تعالى مستلزماً له ودالاً عليه فإن

كل ما كان متفرعاً من الاعتقاد الفاسد أو كان مستلزماً له مثل أن يكون دليلاً عليه فإنه يجب النهي عنه فإن العقائد الفاسدة والمقاصد الفاسدة في حق الله تعالى تجب إزالتها وإزالة فروعها وأصولها التي توجبها وإذا كان كذلك فالجهمية تنهي عن هذا الاعتقاد وهذه الإرادة فهم ناهون عن معرفة الله تعالى وعبادته وليس هذا مختصاً بهذا الموضع بل هم كذلك إذ أصل قولهم هو قول المشركين المنكرين لملة إبراهيم ولهذا كان أولهم الجعد بن درهم الذي ضحى به أمير المشرق يوم النحر وقال ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً ثم

نزل فذبحه وشكره العلماء على ذلك وكان هذا في زمن التابعين وذلك أن الله بعث الرسل تدعو الخلق إلى عبادته الجامعة لمعرفته بأسمائه وصفاته وآياته ولمحبته والإنابة إليه وإخلاص الدين له حتى يكون الدين كله لله والجهمية تصد القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته بحسب تجهمهم إذ هم بين المستقل والمستكثر ولا تجد أحداً فيه شعبة من التجهم إلا وفيه من نقص التوحيد والإيمان بحسب ذلك ولهذا كانت المعتزلة من أبعد الناس عن طريقة أولياء الله المتقين العارفين بطريق الله علماً السالكين فيه عملاً وحالاً وقصداً الوجه الخامس والعشرون أن يقال هب أن سببه هذه

العادة هل سببها علم صحيح واعتقاد مطابق أو سببها تخيل فاسد أما الأول فهو حجة في المسألة وأما الثاني فممنوع وهو لم يذكر على ذلك حجة إلا قوله إنهم ما شاهدوا عالماً قادراً حياً إلا جسما إلا أنهم قاسوا العالم القادر الحي الغائب على ما شاهدوه من العلماء والأحياء القادرين فصاروا بمنزلة من لم ير من الناس إلا الأسود ولم يسمع إلا العربية فإذا مثل في نفسه إنساناً أو لغة لم يسبق إلى نفسه إلا الأسود والعربية ومعلوم أن هذا قياس فاسد وذلك أن من لم ير إنساناً إلا أسود ولم يسمع لغة إلا العربية إنما يسبق إلى نفسه الأسود إذا مثل إنساناً يخاطبه وإنما يسبق إلى نفسه العربية إذا مثل في نفسه التعبير لأن الذي مثله في نفسه من جنس الذي شاهده والتخيل يتبع الإحساس وكان الذي تخيله من جنس الذي أحسه لمل علم أن جنسهما واحد والباري سبحانه وتعالى ليس هو عندهم ولا عند غيرهم من جنس الآدميين حتى تكون نسبته إلى ما شاهدوه من الحياء العالمين القادرين نسبة ما لم ير من الآدميين إلى من رئي بل هؤلاء الذين يدعون الله برفع الأيدي إلى فوق عامتهم لم يخطر بقلبهم أن الله من جنس الآدميين مشارك لهم في الحقيقة حتى يكون لحماً ودماً ونحو ذلك بل هؤلاء كلهم ينزهون الله تعالى عن ذلك ولا يعرف في عامة المقرين بالصانع من قال بشيء من ذلك إلا ما ذكره الأرباب

المقالات عن شرذمة من المشبهة ومع هذا فلابد أن يجعل هؤلاء له من المقدار والصفات ما يفرقون بينه وبين الآدميين فعلم أن هذا الذي احتج به باطل الوجه السادس والعشرون أن يقال هذا قد أخبر عن بني آدم الأولين والآخرين الذين يدعون الله برفع أيديهم إليه وتوجه قلوبهم إلى جهته العالية أنهم مثلوه بما شاهدوه من الحياء العالمين القادرين كما يمثل أحدهم ما لم يره من هذا الجنس بما رآه ومن المعلوم أن هذا الضلال الذي ذكره عن بني آدم هو الضال فيه في الأصل المشبه به والفرع الذي قاسه عليه وذلك أن قوله كما أن من لم يشاهد إنساناً إلا أسود فحين يمثل في نفسه إنساناً يخاطبه إنما يسبق إلى نفسه أنه أسود لا غير يقال له هذا على القسمين أحدهما أن لا يعلم وجود إنسان إلا أسود والثاني أن يكون وإن لم يشاهد الأسود قد علم الخبر

أو غيره أن في الأناسي من هو ابيض وكذلك إذ مثل إنساناً يخاطبه قد مثل إنساناً مطلقاً لا يقدره من أحد الصنفين وقد يمثل مخاطبة إنسان من الصنف الأبيض أو يخاطبه إنسان من الصنف السود فيقال له هذا المثل الذي ضربته إنما يسلم لك فيمن لا يعلم وجود إنسان غير أبيض فإنه إذا مثل مخاطبه إنسان إنما يكون مثله بمبلغ علمه فإذا لم يكن عالماً بوجود أبيض لم يتمثل مخاطبه أبيض بل قد يتمثل مخاطبه إنسان مطلق ولا يخطر بقلبه لونه وقد يخطر بقلبه لونه فلا يكون إلا ما علمه من ألوان الناس وهو السواد إما إذا علم وجود البيض من الناس ومثل في نفسه أنه يخاطبهم وإن كان لم يرهم بعد كما لو قيل لملك السودان قد قدم عليك رسل البيض وهم بيض فهنا إذا زور في نفسه ما يخاطبه به لم يمثل أنه يخاطب أسود وكذلك لو علم وجود الصنفين وقدر مخاطبة إنسان مطلق لم يتمثل لونه بل قد يصنف الكتب ويقف الوقوف وقد يكتب ذلك بالعربية وقد لا يكون رأى غير البيض ومع هذه فلا يتمثل حين المخاطبة المطلقة لون المخاطبين ولهذا يندرج في خطابه البيض والسود واللفظ يطابق المعنى وهو ما عناه وقصده فكلامه ولو لم يقصد إلا البيض مثلاً لم يتناول لفظه

لغيرهم وليس الأمر كذلك بإجماع الناس وأما التمثيل باللغة فليس هو من أمثلة هذه المسالة وذلك أن من لم يسمع غير العربية لا يقدر أن يتكلم بغيرها ولا يتمثل في عبارات نفسه لغة غيرها فلا يكون التعبير بغير العربية متمثلاً في نفسه لا سابقاً ولا لاحقاً ولو علم أن للناس لغة غير العربية أو سمعها ولم يحفظها لم يقدر بذلك على التعبير بها ولا على تمثيلها فاللغات بمنزلة ما يعلمه الإنسان من الصناعات والأعمال كالخياطة والنجارة والحراثة إذا لم يكن يحسنها الإنسان إلا على صفة لم يتمثل في نفسه إذا رآها أن يعلمها إلا الصفة التي يحسنها فأين ما يقدره الإنسان ويصوره في نفسه من مراده ومقصوده الذي يفعله بقدرته من الألفاظ والحركات من الأمور الخارجة عن قدرته وإرادته فعلم أن هذا ليس من هذا الباب وأما الأول فإنه يشبهه لكن الحكم المذكور فيه ليس على إطلاقه وإنما هو في حق من لا يعلم وجود إنسان إلا أسود ويقصد خطاب اسود وإذا كان الأمر كذلك ظهر فساد ما ذكره من المثالين الوجه السابع والعشرون أن يقال لو كان ما ذكرته في

المشبه به لم يكن ما ذكرته من المشبه نظيراً له فإن الخلق الذين يدعون الله ويقرون بأنه حي قادر عالم إنما يدعون من يعتقدون أنه رب العالمين الذي يقدر على ما لا يقدر عليه بنو آدم مثل إنزال المطر وإنبات النبات وتسكين الريح إذا هاجت في البحر وغير ذلك مما يطلب من الله فقد علموا أن الحي العالم القادر الذي هو رب العالمين الذي هو يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً ساقه لبلد ميت وأنزل به الماء فخرج به من كل الثمرات ليس من جنس ما يعهدونه من بني آدم بل المطلوب منه ما لا يقدر عليه هؤلاء وأيضاً فكثير منهم قد لا يتصور أن كلا منهما حي قادر عالم ولا يتمثل في نفسه قدراً مشتركاً بينهما فكيف يجوز أن يحكي عن بني آدم من الأولين والآخرين أنهم قاسوا الله على ما شاهدوه من الآدميين الوجه الثامن والعشرون أنك لو سألت من سألته من الداعين لربهم هل اعتقدت بقلبك أن الله من جنس ما شاهدته في الآدميين الذين هم أحياء قادرون عالمون لقال لك من سألته هذا شيء لم يخطر بقلبي ولكان نفرته عن هذا وإنكاره على من يقول هذا أو يعتقده أعظم من نفرته عمن يجعل الملائكة من جنس الذباب والعصافير وبالجملة فبنو آدم يعلمون من

أنفسهم أنهم لم يكن دفعهم لهذا الاعتقاد المتضمن تمثيل الله بالبشر وأنه من جنسهم فدعمو ذلك عليهم وافترائه عليهم الوجه التاسع والعشرون أن يقال هؤلاء دائماً يسمعون ذكر الملائكة والجن وهم أحياء عالمون قادرون ومع هذا فقد علموا أنهم يتصورون بصور الآدميين كما تمثل جبريل لمريم بشراً سوياً وكما تمثل إبليس في صورة سراقة بن جعشم ومع هذا لما أخبروا بأن جبريل عليه السلام له ستمائة

جناح وسمعوا قول الله في الملائكة أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [فاطر 1] لم يكن فيهم من يعتقد أن الملائكة والجن من جنس الآدميين مطلقاً لما استشعروه من نوع فرق وقد علم ما بين الله وبين البشر من عدم المماثلة أعظم مما بين البشر والملائكة فكيف يقال إن رفع أيديهم إنما كان لاعتقادهم أن الله من جنس ما يشاهدونه من الأحياء القادرين وهب أن ذلك قد يخطر بقلب الواحد والاثنين منهم فكيف يجعل هذا الاعتقاد شاملاً لبني آدم الذين يرفعون أيديهم إلى الله عز وجل من الأولين والآخرين وأن الآخرين أخذوه عن الأولين وشاركوهم في التخيل الوجه الثلاثون أن يقال سبق إلى الوهم أن من يدعو حياً عالماً قادراً على ما يشاهد عليه الأحياء القادرين أتريد بذلك أنه يسبق إلى وهمه أنه مثله مطلقاً بحيث يجوز عليه ما يجوز عليه ويمتنع عليه ويجب له ما يجب له أو أنه يشابهه من بعض الوجوه أما الأول فأنت وسائر العلماء يعلمون أن هذا

لم يقله أحد قط وقد ذكرت ذلك في كتبك واعترفت بأن أحداً من العقلاء لم يقل بالمماثلة هكذا وإذا كان هذا لم يقله أحد لم يجز أن يجعل هذا اعتقاد الداعين الذين يرفعون أيديهم إلى الله مع العلم بأنه لم يقله أحد من المشبهة ولا من غيرهم وأما إن كان مقصوده أنهم يثبتون المشابهة من بعض الوجوه فهذا حق وقد ذكر هو في نهايته إجماع المسلمين على ثبوت المشابهة من بعض الوجوه فإن ذلك مما لا يمكن النزاع فيه كما حكيناه عنه فيما تقدم وحينئذ فيكون ما عليه بنو آدم من الاعتقاد الذي هو مستند رفع أيديهم إلى الله حين الدعاء اعتقاداً صحيحاً في الأصل ليس بفاسد لكن قد علم أن الناس هنا في طرفي نقيض منهم من يغلو في الإثبات حتى يثبت مماثلة الله لخلقه في بعض الأمور ومنهم من يغلو في التعطيل حتى لا يمثله إلا بالمعوم والموات لكن الاعتقاد الذي يدعوهم إلى رفع أيديهم لا يجب أن يكون من التمثيل الباطل إذ لا يختص أهله بالرفع إلى الله وإذا كان كذلك لم يكن مستند الناس كلهم في الرفع إلى الله باطلاً وإذا لم يكن مستندهم كلهم باطلاً بل كان مستند بعضهم حقاً ثبت أن الله ترفع إليه الأيدي وأن فاعل ذلك يكون اعتقاده صحيحاً

وذلك يقتضي صحة الإشارة الحسية إليه إلى فوق وهو المطلوب الوجه الحادي والثلاثون أن يقال مضمون ما ذكرته أن الناس لما لم يشاهدوا حياً عالماً قادراً إلا جسماً سبق إلى اعتقادهم أنهم إذا دعوا حياً قادراً عالماً كان جسماً ويتبع ذلك أنه في مكان والعلو اشرف من غيره فيسبق إلى فهم الداعي أن من اعتقد عظمته إذا كان في جهة أن يكون في جهة العلو وحاصل هذا أن المم المختلفة من الأولين والآخرين المجمعين على رفع أيديهم إلى الله في الدعاء إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم أن الله جسم ووجه هذا الاعتقاد أنهم لم يشهدوا حياً عالماً قادراً إلا جسماً فاعتقدوا فيمن يدعونه ذلك وأثبتوا له المكان إذ الجسم لابد له من حيز وخصوه بالعلو لأنه أشرف فمضمون هذا ذكر مستند العباد في رفع الأيدي فيقال له لا يخلو إما أن يكون هذا مستندهم أو لا يكون فإن لم يكن هذا مستندهم بطل هذا الجواب وصحة الحجة وثبت أنهم إنما رفعوا أيديهم إلى الله لعلمهم الضروري بان الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة وإن كان هذا مستنداً لهم كان قد حكى اتفاق الأمم الذين يرفعون أيديهم في الدعاء على أن الله جسم إذ لم يشهدوا موجوداً إلا جسماً وحينئذ فهذا أبلغ في الحجة عليه فإن الأمم المتفقين

على رفع الأيدي إذا كانوا يعتقدون أن الله جسم كان هذا من أبلغ حجج القائلين بالجسم لأن هؤلاء الذين يرفعون أيديهم فيهم الأنبياء وفيهم هذه الأمة التي لا تجتمع على ضلالة فصار ما جعله جواباً حجة عليه الوجه الثاني والثلاثون أن يقال هب أن ما ذكرته هو مستندهم فلم تذكر حجة على بطلان هذا أكثر مما قلت فظهر أن سبب هذا الإلف فلا يكون صواباً ومعلوم أن مجرد اعتياد الأمم كلهم للشيء إن لم يدل على أنه حق فلا يدل على أنه باطل فليس في كونهم ألفوا ذلك واعتادوه ما يدل على أنه ليس بصواب حتى تقول فظهر أن سبب ذلك الإلف فلا يكون صواباً الوجه الثالث والثلاثون أنك قد ذكرت أن مستند هذا الإلف هو اعتقاد الدعاة أن الحي العليم القادر لا يكون إلا جسماً ومعلوم أن هذا بلفظه قول طوائف كثيرة من أهل الكلام من الشيعة والكرامية وغيرهم وأما بمعناه فالمؤسس وغيره يقول إن هذا قول من قال إن الله فوق العرش أو أنه يشار إليه

في الدعاء ومعلوم أن القول بكون الله فوق العرش أو أنه يشار إليه بالأيدي في الدعاء قول سلف الأمة وأئمتها وعامتها وإذا كان هؤلاء كلهم يقولون بالمعنى الذي سميته تجسيماً لم يضر القول بذلك ولم يجز رده إلا بحجة وأنت لم تذكر في جواب هذه الحجة ما يصلح أن يكون جواباً وقد قدمنا في الوجه الذي قبل هذا أن الإشارة إلى الله فيه الدعاء إن استلزم اعتقاد الداعي أن الله جسم فقد ثبت أن هذا قول من قوله حجة إلا بطلت حكايته وأما هنا فإن كون الحي القادر لا يكون إلا بائناً عن غيره وهو معنى كونه جسماً عنده وهذا المعنى ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وإن تنوعت ألفاظهم فيه فكلها متوافقة متطابقة وبالجملة فلا يمكنه أن ينازع أن هذا قول خلق كثير من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام فلا بد من دليل إبطاله فإن قال دليل إبطاله ما ذكره من نفي كون الله جسماً قيل قدمنا ما يتبين معه فساد تلك الأدلة ثم يقال هذا لا يصلح أن يكون جواباً لما تذكره وهو الوجه الرابع والثلاثون يقال له هذا الذي ذكرته مضمونه الدعاة الرافعي أيديهم لاعتقادهم أن الله جسم حيث لم يشهدوا مدعواً حياً عالما قادراً إلا جسماً ومعلوم أن الدعاة الرافعي أيديهم لو لم يكن فيهم من قوله حجة وخلاف قوله كفر

فلا نزاع في أنهم جماهير بني آدم من الأولين والآخرين وفيهم من العلماء والعباد من لايحصيه إلا رب العباد فلو لم يكن هذا دليلاً من أعظم الأدلة على أن الله جسم بمقتضى ما قررته لكان هذا مما يجب الجواب عن حجة قائله فإن مخالفة جماهير بني آدم ليست هينة ولا يصلح أن يكون ما ذكرته من الحجة على نفي الجسم جواباً لأن هذا الدليل الذي ذكرته عنهم يقتضي أنهم احتجوا على كونه جسماً بما ذكرته عنهم وهذه معارضة لما ذكرته فإن لم تبين فساد هذه المعارضة لم يكن بطلان حجتك لحجتهم بأولى من العكس وأنت لم تذكر حجة على فساد حجتهم بحال فإن قيل هذه الحجة مبناها على قياس الغائب على الشاهد وهو باطل قيل قياس الغائب على الشاهد باتفاق الأمم ينقسم إلى حق وباطل فإن لم تبين أن هذا من الباطل لم يصلح رده بمجرد ذلك الوجه الخامس والثلاثون أن تقرير ما ذكرته من مستندهم مثل تقرير المسلك القياسي في العلو وهو أن يقال لم نشهد موجوداً قائماً ينفسه إلا جسماً أو لم نشهد حياً عالماً قادراً إلا جسماً فاختصاص القائم بنفسه أو الحي بكونه جسماً

دون أن يكون عرضاً أو يكون لا جسماً ولا عرضاً إما أن يكون لكونه موجوداً قائماً بنفسه أو لما يندرج فيه واجب الوجود أما لما يختص الممكن المحدث فإن كان الأول والثاني وجب في كل موجود قائم بنفسه أن يكون جسماً وحينئذ فتصح حجتهم والثاني باطل لأنه يوجب تعليل الأمر الوجودي وهو القائم بالنفس أو كون القائم بنفسه حياً عالماً قادراً بما فيه أمر عدمي والعدم لا يصلح أن يكون علة للوجود وقد تقدم الكلام على هذه الحجة وأنه لم يقدح فيها بقادح وإذا كان كذلك كان قد ذكر لهم حجة توجب أنه فوق وأنه جسم غير ما ذكروه من العلم الضروري وإن لم يقدح في ذلك بشيء وذكر أن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف واتفقوا عليه وتسمية ذلك تخيلاً لا يوجب فساده إن لم يبين أنه خيال فاسد فظهر أن ما ذكره تقرير لقولهم بالقياس العقلي والأثر النبوي والإجماع الشرعي مع ما ذكروه من الضرورة العقلية وأنه زاد في التقرير على كونه فوق أنه مع ذلك جسم ولا ريب أن هذا قوله وقول أكثر الناس من النفاة والمثبتة فإنهم يقولون إن كونه فوق العرش يستلزم المعنى الذي يسميه المتكلمون جسماً ويسميه أهل الحديث حداً

الوجه السادس والثلاثون أن العلوم الكلية والعقلية لبني آدم جميعها من هذا الباب فإن الإنسان يشهد بحسه الباطن والظاهر أموراً معينة جزئية على صفات ثم يعقل بما يجعله الله في عقله من العبرة والقياس أن الأعيان التي لم يشهدها هي

كالأعيان المشهودة في تلك الصفات وعلم عقله بالتماثل والاختلاف كإحساسه بالأعيان فقد يكون علماً قطعياً وقد يكون ظناً غالباً وقد يكون صواباً وقد يكون خطأً وكل من الحس والعقل يعرض له الغلط لأسباب والناس متنازعون أي الإدراكين أكمل إدراك الحس أو العقل وأيهما الذي يرجح

على الآخر وبكل حال فلا يقوم بنفسه قضية كلية عقلية ضرورية أو غير ضرورية إلا بتوسط قياس واعتبار حتى مثل علمه بأن الواحد نصف الاثنين وأن الجسم لا يكون في مكانين وأن الضدين لا يجتمعان هو في ذلك كله قد أدرك بحسه ذلك في بعض الأجسام والأجساد والألوان المتضادة وعقل أن من ما لم يحسه مثل ما أحسه في ذلك وأن الحكم لا يفترق واحد وواحد وجسم وجسم ولون ولون وضد وضد يحكم بذلك حكماً عاماً كلياً وإذا كان كذلك لم يكن له حجة عقلية في العلم الإلهي أصلاً إلا ولابد فيها من قضية كلية والقضية الكلية لابد فيها من قياس الغائب على الشاهد فإن كان هذا باطلاً بطل جميع كلامهم بالأدلة العقلية في العلم الإلهي وحينئذ فيبطل ما ذكروه في نفس الجسم وغيره فلا يكون لهم جواب عما احتج به المنازع وإن لم يكن باطلاً لم يكن له إبطال هذه الحجة بما ذكره من أن مضمونها قياس الغائب على الشاهد فحاصله أنه إن

كان ما يسلكونه من الطرق الكلامية العقلية في الإلهيات طرقاً صحيحة فهذه الطريق منها فتكون حجة عليهم وإن لم تكن صحيحة لم تكن حجة لهم كما لا تكون عليهم فلا يكون كلامهم حقاً دون كلام خصومهم ولا يكون ما دفع به الضرورة التي ذكرها منازعوهم حقاً الوجه السابع والثلاثون أن المنازعين لهم يحتجون بالدلائل السمعية الكثيرة وبما يذكرونه من الضرورة العقلية وبما ذكروه من الأقيسة العقلية فإن كانت الأقيسة العقلية فإن كانت الأقيسة العقلية صحيحة كما تقدم ذكرها مقبولة في هذا الباب لم يجز رد ما يذكرونه من الأقيسة العقلية إلا بما يبين فساد القياس الخاص الذي أورده لا بمجرد كونه قياساً للغائب على الشاهد وإن كانت مردودة كان ما يذكره النفاة كله مردوداً وحينئذ فتبقى الأدلة السمعية سليمة عن معارض عقلي فيبطل ما يذكرونه من كونها عارضت القواطع العقلية وحينئذ يمتنع تأويلها ويجب اعتقاد مضمونها ويكون ما ذكروه من الضرورة العقلية لا دليل على فسادها وهذا بينٌ لمن تدبره ومبناه على العدل والإنصاف وقد قدمناه فيما مضى التنبيه على هذا وأن مبنى كلامهم في

الإلهيات غنما هو القياس على ما وجدوه في المشهودات لا طريق لهم غير ذلك أصلاً الوجه الثامن والثلاثون أن القول بأن الله ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك ليس هو قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له أصل في شيء من كتب الله المنزلة ولا آثار أنبيائه بل متواتر عن السلف والأئمة إنكار هذا الكلام وتبديع أهله كما قال أبوالعباس بن سريج توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك وذلك أن التوحيد الذي بعث الله به رسله هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وذلك يتضمن التوحيد بالقول والاعتقاد وبالإرادة والقصد وأما الخوض في

الأعراض والأجسام كما خاض فيه المتكلمون كقولهم ليس بجسم ولا عرض ونحو ذلك فأول من ابتدعه في الإسلام الجهمية وأتباعهم من المعتزلة لا يعرف في هذه الأمة حدوث القول في الله بأنه ليس بجسم ولا جوهر ونحو ذلك من جهة هؤلاء وكذلك الاستدلال على حدوث العالم بطريق الجسم والعرض إنما ابتدعها في الإسلام هؤلاء وهذا أصل علم الكلام الذي أطبق على ذمه أئمة الإسلام من الأولين والآخرين ولما ابتدع هؤلاء القول بأنه ليس بجسم ولا جوهر عارضهم الطائفة الأخرى من الشيعة وغيرهم فقالوا بل هو جسم والسلف والأئمة لم يثبتوا هذه الأسماء لله ولا نفوها عنه لما في كلٍّ من الإثبات والنفي من الابتداع في الدين من إجمال واشتراك ويثبت به باطل وينفي به حق مع أن السلف والأئمة لم يختلفوا أن نفاة الجسم أعظم ضلالاً وابتداعاً من مثبتيه بل الأئمة والسلف تواتر عنهم من ذم الجهمية ما لا يحصيه إلا الله ولهم أيضًا كلام في ذم المشبهة لكن أقل من ذم الجهمية بكثير وأما لفظ الجسم فلا يحفظ عن أحد منهم ذمه وإنكاره كما لا يحفظ عنه مدحه وإقراره ولكن المحفوظ عنهم من الألفاظ الإثبات فقول نفاة الجسم إنها هي التجسيم ويعدون أعلام الدين وأئمة الدين من المجسمين

والمشبهين كما هو موجود في كتب مقالاتهم كما يعدون منهم مالكاً وأصحابه وحماد بن سلمة وأضرابه والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأمثال هؤلاء الأئمة ولما تكلم بنفي الجسم أبو الهذيل إمام المعتزلة وأتباعه وتكلم بإثباته هشام بن الحكم وأشياعه قال هؤلاء الجسم هو الموجود وهو القائم بنفسه ولا يعني بالجسم إلا القائم بنفسه ولا يعقل قائم بنفسه إلا الجسم وقالوا دعوى

وجود قائم بنفسه ليس بجسم كدعوى قائم بنفسه لا تقوم به صفة فإن المعتزلة يقولون إن الباري تعالى قائم بنفسه وأنه يكون يمتنع أن يكون محلاً للصفات والحوادث قالوا وهذان مثل دعوى قائم بنفسه لا يباين غيره ولا يتميز عنه قالوا وإثبات موجود قائم بنفسه ليس هو جسماً ولا يقوم به صفة مثل إثبات قائم بنفسه ليس حياً ولا ميتاً ولا عالماً ولا جاهلاً ولا قادراً ولا عاجزاً كما يقوله من يقوله من الملاحدة والفلاسفة وهذا كله جحد لما يعلم بضرورة العقل ومخالفة للبديهة والحس وما زال والأئمة يصفون الجهمية بأنها مخالفة للعقول وأن العقل يعلم أنهم يصفون العدم لا الوجود ولهذا عندهم نفاة التجسيم من المجسمة لموافقتهم لهم في أصل الإثبات وإن خالفوهم في بعض التفاصيل وإذا كان كذلك فهذا الذي جعله مستنداً للداعين من الأولين والآخرين أنه هو الرجوع إلى القياس العقلي وهو

قياس ما غاب عنهم من الموجود على ما شاهدوه لا ينافي ما ذكروه من أن ذلك يقتضي علمهم الضروري بأن الذي يدعى ويسأل هو في جهة فوق لأن العلوم الضرورية الكلية لا بد فيها من قياس كما تقدم وهم كما قد يقولون يعلم بالضرورة أن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه فإنه معدوم ويقول من يفهم معنى الجسم على اصطلاح المتكلمين يعلم بالضرورة أنه لا يكون موجود قائم بنفسه إلا ما سميتموه الجسم ويقولون كل من رجع إلى فطرته وفهم معنى ذلك ولم يصده عن موجب الفطرة ظن التقليد أو أقيسة فاسدة وهوى من تعصب للمذهب المألوف فإنه يعلم ذلك ويثبتون ذلك أيضاً بالمقاييس العقلية التي هي أقوى من مقاييس النفاة وإذا كان كذلك فنفي التجسيم لا يمكن أن يكون بنص ولا إجماع بل ولا بأثر عن أحد من سلف الأمة وأئمتها وليس مع نفاته إلا مجرد ما يذكرونه من الأقيسة العقلية فإذا كان رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء مستلزماً لاعتقاد الدعاة التجسيم وهم يثبتون ذلك بالأقيسة العقلية أيضاً كان جانبهم أرجح لو لم يجيبوا عن حجج النفاة فكيف إذا أجابوا عنها وإذا بينوا أن نقيض قولهم مستلزم للتعطيل لتعطيل وجود الباري ذاته وصفاته وتعطيل معرفته وعبادته ودعائه

الوجه التاسع والثلاثون أن يقال ليس قول القائل رفع الأيدي إلى السماء مستلزم التجسيم بأعظم مما يقال لكل من أثبت شيئاً من الأسماء والصفات فإن الملاحدة من المتفلسفة واتباعهم الذين يجمعون بين النقيضين فيقولون لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت أو يقولون لا يقال موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت يزعمون أن هذه الأسماء لا تقال إلا لما هو جسم ونفاة الصفات من العلم والقدرة وغيرها يقولون إن هذه الصفات لا تقوم إلا بجسم ومنكرو الرؤية والقائلون بخلق القرآن يقولون لا يمكن أن يرى إلا جسم ولا يقوم الكلام إلا بجسم وهم يبينون ذلك أعظم من بيان هذا المؤسس أن الرافعين لأيديهم في الدعاء مستندهم اعتقاد أن المدعو جسم وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون ما ذكره النفاة لزوم التجسيم لهؤلاء المثبتة حقاً أو باطلاً فإن كان ذلك حقاً كان التجسيم حقاً إذ الإثبات للأسماء والصفات حق معلوم بالضرورة العقلية وبالنصوص السمعية وقول النفاة مستلزم للجمع بين النقيضين ولغير ذلك من السفسطة وإن كان ما يذكره هؤلاء النفاة من لزوم التجسيم باطلاً فانتفاء هذا اللازم في حق الداعين أولى وأوكد الوجه الأربعون أن يقول ومن المعلوم أن هذا الباب كثيراً ما يقال فيه إن الناس يتناقضون فيه فيثبت أحدهما شيئاً من وجود واجب أو اسم أو صفة وينفي لوازمه أو ينفي الجسم

ونحوه ويثبت ملازمه ولا ريب أن باب الإثبات حجته العقلية الضرورية والنظرية أعظم من حجج النفي فإن النفاة ليس معهم حجج ضرورية وليس نعهم قياس عقلي إلا ومع أولئك ما هو أقوى وأكثر هذا إذا لم يعرف الإنسان القدح في مقاييسهم وإلا فمن عرف القدح فيها تبين له أن حاصلها تهويل لا تحصيل وأما الحجج السمعية فهي مع المثبتة أضعافاً مضاعفة وليس مع النفاة ما يفيد ظناً وإذا كان كذلك فالذي تسميه النفاة تجسيماً إذا كان لازماً أمكن المثبتة أن تلتزمه ويكون مقرره الأدلة العقلية والسمعية وأما النفاة فلا يمكنهم النفي إلا إذا تركوا العقل والسمع وهذه حال أهل النار الذين قالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} [الملك 10] وإذا لم يكن لازماً لم يحتج إلى إثباته وإن دفع الشك في لزومه وكان في تناقض المثبت مع نفي الجسم قولان فلا ريب أن تناقض المثبت أقل بكثير من تناقض النافي ومتابعته الأدلة السمعية والعقلية أكثر وتقريره للفطرة والشرعة أظهر وإذا كان ما في جانبه من الخطأ أقل لم يجز أن يرجع إلى من خطؤه أكثر بل على ذلك أن يوافقه على ما معه من الصواب ثم إن رجعا جميعا إلى تمام الصواب وإلا كان استكثارهما من الصواب أولى وأوجب من استكثار الخطأ

الجزء الخامس

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء الخامس الجهة - المكان والمحل - المعية - الفوقية - المباينة الجسم - الجنب - اليدين - النور حققه د. سليمان الغفيص

فصل: في نقل المؤلف عن الرازي حججا أخرى لمثبتي الجهة

فصل وقد ذكر أبو عبد الله الرازي في نهاية العقول له لمثبتي الجهة حججاً أخرى فنذكر هنا أيضاً ما ذكره من الجانبين في الكتابين فقال واحتج مُثبِتو الجهة بأمور أربعة أولها أنا نعلم بالضرورة أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد أن يكونا متباينين ونعلم بالضرورة أن التباين بين الشيئين لا يخلو عن

أحد الوجوه الثلاثة التباين بالحقيقة أو بالزمان أو بالمكان وإذا ثبت ذلك فنقول التباين بين الباري تعالى وبين العالم لا يمكن أن يكون بالحقيقة أو بالزمان أو بهما فقط لأن الجوهر يباين العرض الحالّ فيه بالحقيقة والزمان

وكذلك العرضان الحالان في محل واحد قد تباينا تباينًا بالحقيقة والزمان مع أنا نعلم بالضرورة أن بين الباري وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر وما حلّ فيه وبين العرضين الحالين في المحل الواحد إذْ لا بد من زيادة تباينٍ على هذين القسمين ولا ثالث يُعقَل إلا التباين بالمكان فوجب أن يكون التباين بين الباري تعالى وبين العالم بالمكان وذلك يقتضي كون الباري تعالى في الجهة ثم قال والجواب عما تمسكوا به أولاًُ أن الحل مباين للحالِّ في الحقيقة والزمان ولكنَّ أحدهما حالٌّ في الآخر والآخر محل له ويشتركان أيضاً في الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر وأما الباري تعالى كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له وبينهما مشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة فلما كان

مناقشة المؤلف للرازي والرد عليه من وجوه

كذلك كان الاختلاف بين الباري وبين العالم أتَمَّ من الاختلاف بين الحال وبين المحل فإذا ادَّعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع قلت وهذه الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم من بعض الوجوه والكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا الذي ذكره من الجواب تقرير لحجة المنازع وتوكيدٌ لها ليس بجواب عنها ومثل هذا يفعله هذا وأمثاله في مواضع قال تعالى أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ {18} [الزخرف 18] قالوا هي المرأة لا تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها وهؤلاء فيهم التخنُّث بمشابهتهم

المشركين الذين قال الله إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً {117} [النساء 117] ما شابهوا به النساء وكذلك أن حجة المنازع مبنيةٌ على مقدمات إحداهن أن الله مباينٌ العالم والثانية أن المباينة ليست إلا بالحقيقة أو الزمان أو المكان والثالثة أن مباينته للعالم أعظم من أن يكون بمجرد الحقيقة أو الزمان وإذا ثبت هذه المقدمات لزم أن يكون مباينًا له بالمكان ويظهر ذلك بنظم ذلك في قياسين أحدهما أن يقال الباري مباين للعالم وكل مباين لغيره فلا بدّ وان يكون مباينًا بالحقيقة أو الزمان أو المكان فينتج أن الباري سبحانه لابد أن يكون مباينًا للعالم بالحقيقة أو الزمان أو المكان ثم يقال ومباينته للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان وكل مباينة ليست بمجرد الحقيقة والزمان فلا بد أن تكون بالمكان فينتج أنه لا بد من المباينة بالمكان

إذا تبين نظم الدليل فقولهم الباري مباين للعالم لا منازعة فيه وقد ذكروا أن ذلك معلوم بالضرورة في كل موجودين قائمين بأنفسهما ولم ينازعهم في ذلك وقولهم كل مباين لغيره فلابد وأن تكون مباينته بأحد الوجوه الثلاثة قد ذكروا أن ذلك معلوم بالضرورة قالوا ويعلم بالضرورة أن التباين بين الشيئين لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاثة التباين بالحقيقة أو بالزمان أو بالمكان وقد سلَّم لهم ذلك ولم ينازعهم فيه فأثبتوا بذلك أن الباري لابد أن يكون مباينًا للعالم بالحقيقة أو الزمان أو المكان وأما القياس الثاني قولهم مباينته ليست بمجرد الحقيقة والزمان وأثبتوا ذلك بأن قالوا المباينة بالحقيقة وبالزمان تكون بين الحال والمحل وبين الحالين في المحل مع أَنَّا نعلم بالضرورة أن بين الباري وبين العالم من التباين ما ليس بين المحل والحالٍِّ فيه وبين الحالِّين في المحل والمحل هو الجوهر والحال فيه هو العرض وإذا كان التباين الذي بينه وبين العالم زائدًا على تباين هذين وهذان متباينان بالحقيقة

وبالزمان لم يكن التباين بينه وبين العالم بمجرد الحقيقة والزمان فإنه إذا كانت مباينته للعالم أعظم من مباينة المباين لغيره بالحقيقة والزمان لم تكن من جنسها وهذا بيِّنٌ فإنه إذا كانت حقيقته المباينة بمجرد الحقيقة والزمان لم يمتنع أن يكون أحدهما حالاًّ في الآخر أو يكونا جميعًا حالين في محل واحد وهذا قد تقوله الحلولية من الجهمية فإن القائل إذا قال الباري مباين للعالم وهو مع هذا حالٌّ فيه أو مَحَلٌّ له ومباينته له أنه قبله وبأن حقيقته تخالف حقيقته كما يباين الجوهر ُ العرضَ والعرضُ الجوهرَ ولم تكن المباينة بالحقيقة والزمان مانعة من هذه المحايثة فإذا كانت المحايثة منتفية لم يكن بدٌّ

من إثبات مباينة تنفي هذه المحايثة والمباينة بالحقيقة والزمان لا تنفي المحايثة ولهذا لما زعم الجهمية أنه ليس مباينًا بالمكان اضطربوا بعد ذلك فقال جمهور علمائهم لا هو محايث للعالم ولا هو خارج عنه

خلاصة رد المؤلف على حجج الرازي

وقال كثير من عامتهم وعبادهم وعلمائهم بل هو محايث فإنه إذا ارتفعت المباينة بالمكان لم تَبقَ إلا المحايثة ولا ريب أن قول هؤلاء أقرب إلى المعقول لكنه أقرب إلى العقل ابتداءً حيث جعلوه موجودًا محايثًا للعالم لكنه أعظم تناقضًا وجهلاً من وجه آخر فإن مانفَوا أن يكون على العرش هو أعظم نفيًا لكونه محايثًا للعالم ولأن في كونه في نفس المخلوقات من الكفر والضلال ما فيه شناعة تزيد على النفي المطلق الذي لا يفهم بحال وأيضًا فالأدلة الدالة على أنه فوق العالم وأنه مباين للعالم تمنع المحايثة أيضًا والمقصود هنا أنهم إذا لم يثبتوا إلا المباينة بالحقيقة أو بالزمان لم يكن العلم بهذه المباينة مانعًا من جواز المحايثة عليه لأن العرض والجوهر بينهما تباينٌ بالحقيقة وبالزمان مع

تحايثهما وهذا قد اتفقوا على نفيه وقد ذكروا أنهم يعلمون بالاضطرار أن بين الباري تعالى وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر والعرض الحالِّ فيه وهذا بيِّنٌ إذْ لولا زيادة التباين لجاز أن يكون العالم كالعرض في الخالق والخالق جواهر قائمة بنفسها أو يكون الخالق كالعرض القائم بالجوهر ومعلوم أن هذا أشدُّ استحالة باتفاق العقلاء فإن الباري قائم بنفسه وهو المقيم لكل قائم فضلاً عن أن يكون كالعرض في الجوهر والعالم جواهر قائمة بأنفسها فثبت بذلك أن مباينتهُ للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان وإذا ثبت ذلك فالمقدِّمَة الثانية وهو أن المتباينين اللذين ليس تباينهما بمجرد الحقيقة والزمان فلابد أن يكونا متباينين بالمكان وقد تقدمت وتقدم ما ذكر وسُلِّم فيها من العلم الضروري إذا تبين ما ذكره من حجتهم فقلُه في الجواب إن المحل مباين للحالّ في الحقيقة والزمان ولكن أحدهما حال في الآخر والآخر محل له ويشتركان أيضًا في الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر كلامٌ صحيح لكن مضمونهما أنهما مع التباين بالحقيقة والزمان متحايثان مشتركان في الحَيِّز وفي أمورٍ

أخرى وهي الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر وهذا الكلام أنهما مع هذا التباين متحايثان مشتركان ومجتمعان في أمور أخرى فتكون المباينة بينهما دون المباينة بين العالم والباري وهكذا قال القوم إنا نعلم بالضرورة أن بين الباري سبحانه وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر الذي هو المحل وبين ما حلّ فيه فما ذكره تقرير لذلك وقوله وأما الباري كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة قلما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري تعالى وبين العالم أَتَمَّ من الاختلاف بين الحالّ والمحل فيقال له هذا توكيد لما قالوه لأنهم ذكروا أن مباينة الباري تعالى أتَمُّ فإنه غير محايث إذْ ليس هو حالاًّ في العالم ولا محلاًّ له بخلاف الجوهر والعرض وأما عدم المشاركة في الحدوث فيعود إلى المباينة بالزمان فإن القديم قبل المحدث وإلى المباينة بالحقيقة فإن حقيقة القديم مخالفة لحقيقة المحدث وأما عدم المشاركة

في الإمكان والحاجة إلى المؤثر فيعود إلى المباينة بالحقيقة فإن الواجبَ بنفسه الغني عن غيره حقيقتهُ مخالفةٌ لحقيقة الممكن في نفسه المفتقر إلى غيره فهذا الذي ذكرهُ مضمونُه أن مباينة الباري أتَمُّ من مباينة الجوهر للعرض لأنه مع المخالفة بالحقيقة وبالزمان غير محايث وهكذا قال القوم إن مباينة العالم أزيد من مباينة الجوهر للعرض فهذا الكلام تقرير لمقدمة من مقدمات دليلهم وقوله بعد ذلك فإذا ادَّعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع يقال أولاً ليس هذا جوابًا للقوم فإنك لم تمنعهم شيئًا من مقدمات دليلهم ولا عارضتهم ولكن ذكرت كلامًا أجنبيًّا وذكرت أنهم ينازعونك في المباينة بالمكان ولا ريب أنهم ينازعونك في ذلك لكن قد أقاموا حجة ولم تمنع شيئًا من مقدماتها ولكن حكيت مذهبك وحكاية المذهب ليست جوابًا لمن احتج على بطلانه ثم يقال لم يدَّعُوا ثبوت التباين من غير هذه الوجوه لكن قالوا هذا التباين الذي ثبت بعدم المحايثة وهو أحد الوجوه يستلزم أن يكون بالمكان أو قالوا إن التباين الثابت بهذه

الوجوه لا يجوز أن يكون بمجرد الحقيقة أو الزمان فتعيَّن أن يكون بالمكان إذْ لم يبق فسمٌ ثالث وأيضًا فلا ريب أن التباين حاصل بغير هذه الوجوه فإنه قد قرر في هذا الموضع ما هو القول الحق وهو أن حقيقة الله غير معلومة للبشر وأنه مخالف لخلقه بحقيقته الخاصة وليست هي ما علمه الناس قِدَمَهُ ووجُوبَهُ وغناهُ فهو أيضًا مباين للعالم بحقيقته الخاصة الخارجة عما ذكره والتحقيق أنه مباين للعالم بأمور كثيرةٍ لا يحصيها العباد غير ما ذكره ولا ينظر إلى من ينازع من أهل العلم في أخص

وصف الله الذي به يُمَيَّز هل هو القدرة على الخلق أو هو الاستغناء أو القدم أو أنه ذاته المخصوصة بل كل ما ثبت للرب تعالى من الأسماء والصفات يختص به مثل إنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه أرحم الراحمين وأنه خير الناصرين وأنه إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون وكل هذه الأمور وغيرها من أخص وصفه ليست له صفة يماثله غيره فيها بوجهٍ من الوجوه بل كل صفة لهُ فإنها تختص به وتوجب امتيازه بها عن خلقه ولكن ليس هذا موضعَ ذكر ذلك فإن مباينة الله لخلقه بالحقيقة مما

لا نزاع فيه وكذلك تقدمه على خلقه وإنما المقصود أنه مباينٌ مباينة زائدة على المباينة بالحقيقة وعلى المباينة بالزمان والمخالفة بينه وبين الخلق أتَمُّ من الاختلاف بين الحالِّ وبين المحل وهو قرّر ذلك مع أن هذين يتباينان بالحقيقة كما تقدم وإذا كانوا القوم بينوا إنما ذكره من التباين يستلزم التباين بالمكان والزمان لأن هذه يشاركه فيها المحلٍ والحالّ فيه وهذه المباينة لا تمنع أن يكون أحدهما حالاًّ في الآخر فلابد من المباينة بشيء غير ذلك وليس غير ذلك إلا المباينة بالمكان وبالزمان فإذا كانت المباينة بينه وبين خلقه ليست مجرد الحقيقة والزمان وكان قد قرر هذا التباين كان ما ذكره توكيدًا لحجتهم والوجه الثاني أن قوله وأن الباري كما خالف العالم

في الحقيقة وفي الزمان وليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له ولا بينهما مشاركة في الإمكان والحدوث والحاجة فيقال له قولك ليس بحالّ ولا محل سلبٌ محضٌ والأمور السلبية لا تتباين بها الحقائق ولا تختلف ولا تتماثل إلاَّ أن تكون مستلزمة لأمور وجودية لأن المتماثلين ما قام بأحدهما من الأمور الوجودية مثل ما قام بالآخر والخلافين اختص أحدهما بأمور وجودية خالف بها الآخر إذْ عُدِمَ ما به التماثل والاختلافُ مستلزمٌ لعدم التماثل والاختلاف فعدم كونه حالاًّ أو محلاًّ لمْ يستلزم أمرًا وجوديًّا تحصل به مخالفة وقد علم أنه لا يستلزم الاختلاف في الحقيقة وفي الزمان لأن المتماثلين في الحقيقة والزمان قد لا يكون أحدهما حالاًّ في الآخر ولا محلاًّ له كالجسمين المتماثلين

وأيضًا فهو قد ذكر أن هذا من المباينة الزائدة على المباينة بالحقيقة والزمان والأمر كذلك وإذا كان كذلك وعدم كونه حالًّ أو محلاًّ هو عدم المحايثة والمباينة فعدم المحايثة مع المباينة بالحقيقة والزمان إذا كان مستلزمًا لأمر وجودي لم يكن إلا المباينة بالجهة وهذا يتقرر بوجهين أحدهما أنه لم تبق مباينة وجودية بعد المباينة بالحقيقة والزمان إلا المباينة بالمكان كما تقدم والثاني أن عدم المحايثة يستلزم المباينة إذْ لا يعقل إلا متحايثان أو متباينان كما تقدم قبل هذا الوجه الثالث قوله فإذا ادّعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع يقال له هم قالوا التباين بالوجوه الزائدة على الحقيقة والزمان لا تكون إلا بالمكان وقد قرَّروا ذلك لم يقولوا بالتباين من غير هذه الوجوه حتى يقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان بل قولهم إنّ هذا التباين الذي سلّمهُ هو زائد على الحقيقة والزمان وهو مستلزم التباين بالمكان وإذا لم يكن

التباين بين الله وبين العالم أكثر مما ذكره الرازي من التباين

لهم حاجة إلى ثبوت التباين من غير هذه الوجوه التي سلمها تبيَّن أن هذا الجواب فاسد الوجه الرابع أن يقال التباين بين الله سبحانه وتعالى وبين العالم هو بأكثر مما ذكرتَه فإنه مباين للعالم بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وبأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك من الصفات ومباين للعالم بقرته وعظمته وعلوه وكبريائه وهذه الأمور ليست مباينة بالزمان فإما أنْ يقول هي من التباين بالحقيقة أو لا يقول فإن قال هي من التباين بالحقيقة فيبطل ما ذكره من كون تلك المباينات زائدة على التباين بالحقيقة وإن لم يقل هي من التباين بالحقيقة فقد ثبت تباين زائد على ما ذكره فأحد الأمرين لازم إما زيادة التباين على ما ذكره أو انحصار ما ذكره غير المحايثة في الحقيقة والزمان وقد علم أن التباين يبن الباري والعالم أزيد من التباين بالحقيقة والمحل وزعم أنها بهذه الأمور دون غيرها وقد تبين أن هذه الأمور هي كغيرها فلا يكون ما ذكره من الجواب عن الجواب عن تلك الحجة صحيحًا

والوجه الخامس أن قوله وأما الباري تعالى كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالاًّ فيه لا محلاًّ له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة فلما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري وبين العالم أتم من الاختلاف بين الحالّ وبين المحل يقال له أما عدم المشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة فمرجعُها إلى ثبوت الوجوب وإلى القدم وذلك لا يخرج عن المخالفة بالحقيقة أو الزمان كما تقدم وأما كونه ليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له فيقال له إن أردت بهذا أنه مباين عنه بالجهة والمكان فهو المطلوب وإن أردت بذلك أنه ليس حالاًّ ولا محلاًّ ولا مباينًا بالجهة فهذا غير معقول ولا متصوَّر فإما أن يقول إنه معقول والمنازع مكابر فهم يحلفون بالأيمان المغلظة أن هذا غير معقول لهم وهم أمم عظيمة وفيهم من الصدق والديانة ما يمنع إقدامهم على الكذب ولقد خاطبتُ بهذا طوائف مع ذكائِهم وصحة فطرتهم فلم يكن فيهم من يتصور ذلك أو يعقله وإن ادّعيت أنه معقول لطائفة دون طائفة فهذا لا يستقيم عندك لاشتراك الناس في المعقولات وإن قيل إن ذلك لاختصاص بعضهم زيادة ذكاء أو فطنة

فمعلوم أَنَّ هذا لا يختص به أهل هذا القول دون ذاك بل الاستقراء يدل على أن المنازعين له أكملُ عقولاً وأَحَدُّ أذهانًا وأوضحُ إدراكًا وأقَلُّ تناقضًا وأقل ما يمكن أن تقابل دعواه بمثلها الوجه السادس أن يقال هَبْ أن هذا معقول وأنه ممكن إمكانًا ذهنيًّا فما الدليل على أنه ليس بحالّ في محل ولا محايثًا للعالم إذا قلت إنه ليس بخارج العالم فإن المنازع لك يقول نفيُ كونهِ محايثًا للعالم إنما علم بأنه مباين للعالم بالجهة فإذا قُدِّر أنه غير مباين للعالم إلا بالحقيقة والزمان دون الجهة فهذا القدر لا يمنع أن يكون حالاًّ في العالم أو محلاًّ له كالجوهر مع عرضه فإن تباينهما بالحقيقة والزمان لا يمنع ذلك من تحايثهما فلابد لك من دليل يبين عدم محايثة العالم إذا ثبت مباينته بالجهة وأنت لم تذكر على ذلك حجة حتى يتم ما ذكرته

من المباينة فإن قلت المنازع يُسَلِّم لي ذلك فهو إنما يُسَلِّم عدم المحايثة التي هي المباينة بالجهة فأَمَّا نفي المحايثة من غير مباينة بالجهة فهذا عند المنازع غير معقول ولا هو حقًّا عنده فهو لا يُسَلِّمُ لك عدم المحايثة على هذا التقدير ولم تذكر عليها حجة فلا يكون ما ذكرتَه من المباينة ثابتًا بحجة ولا تسليم فلا يصح في النظر ولا المناظرة الوجه السابع أن يقال هذا الموضع من أصعب المواضع على الجهمية فإنهم لما نَفَوا مباينته للعالم بالجهة ذهبَ بعضهم إلى عدم محايثته أيضًا كما ذكره هذا وهو المشهور من قول

متكلميهم وذهب بعضهم إلى محايثته للعالم وأنه بكل مكان وهو قول كثير من عبادهم وبعض متكلميهم فتعارض كل طائفة بقول الأخرى فإن قال مثبتو المحايثة للعالم لا أَعقلُ موجودًا لا داخل العالم أو خارجه وليس بخارجه فيكون داخله وهذا معنى حجة طائفة من الجهمية الاتحادية ونحوهم يقال له إذا لم تعقل موجودًا إلا كذلك دلَّ على أنه إمّا خارج العالم وإمّا داخله لا يتعين أن يكون داخله وكونه ليس بخارج العالم إنما ثبت بهذه الحجة ونحوها فإذا كنت طاعنًا فيها كطعن أهل الإثبات بطل أصل قولك ولم يكن لك بعد هذا أن تنفي كونه خارج العالم وأمّا نافي المحايثة للعالم مثل الرازي ونحوه فقد احتجوا على كونه ليس بحالٍّ في محل بما ذكره الرازي في نهايته فقال المسألة الثالثة في أنه لا يمكن أن يكون حالا في محل ولنا فيه مسالك ثلاثة الأول لو حل في محل لكان إما أن يحلّ في أكثر من حيز واحد أو يحل في حيز

واحد وساق الحجة مختصرة ومضمونها أن الأول يستلزم أن يكون منقسمًا أو يكون الواحد في حيزين والثاني يستلزم أن يكون بقدر الجوهر الفرد وقد تقدم الكلام على هذه الحجة بعينها في نفي التحيز المسلك الثاني لوحَلَّ في جسم فإمّا أن يقال إنّهُ أبدًا كان حالاًّ فيه فيلزم إمَّا قِدَمَ المحل أو حدوثه تعالى وهما باطلان أو يقال حلَّ بعد أن لم يكن حالاًّ فيه وحينئذٍ إما أن يكون واجبًا فذاك الوجوب وإما أن

يكون للمحل أو للحال أو الثالث والأول باطل لأن الأجسام متساوية في الماهية وجميع اللوازم على ما مرَّ فلو اقتضى شيء منها حلولِ الله فيه لاقتضى الآخر مثل ذلك فيلزم أن يحل الباري في كلها فيلزم إمّا انقسام ذاته أو حلول الواحد في أكثر من محل وأنهما محلان والثاني باطل أيضًا لأن اقتضاءِهُ للحلول إنْ لم يكن بشرط حدوث المحل كان حالاًّ في المحل قبل حدوث المحل وهذا محال وإن كان بشرط حدوثه فعند حدوث الجواهر الكثيرة لم يكن بأن يحل في واحدٍ منها أولى بأن يحل في غيره فيعاد المحال المذكور والثالث أيضًا باطل لأن ذلك الثالث إن كان

لازمًا للحالّ أو المحل عادت المحالات وإن لم يكن لازمًا لها فهو إمّا موجب وإمّا مختار والموجب لابد وأن يكون لا جسمًا ولا جسمانيًّا وإلاَّ فليس اختصاصه بهذا الاقتضاء أولى من الاختصاص بسائر الأجسام بل يكون الجسم الذي

هو محل أولى بذلك ويعود المحال وإن لم يكن ذلك الموجب جسمًا ولا جسمانيًّا فليس بأن يقتضي حلول الله في بعض الجواهر أولى من أن يقتضي حلوله في غيره فيلزم أن يحل في كل الجواهر فيعود المحال وأما إن كان مختارًا فذلك المختار لابد وأن يفعل فعلاً وإلاّ لما افترق الحالُّ بين ما قبل الحلول وبين ما بعده وذلك الفعل لابد وأن يكون هو الحلول أو ما يقتضي الحلول لكن حلول الشيء في غيره ليس أمرًا وجوديًّا حتى يصح أن يجعل أثرًا للفاعل أو موجبًا لأن حلول الشيء في الشيء لو كان صفة موجودة لكانت تلك الصفة أيضًا حالة في الشيء الذي صار حالاًّ فيه فيكون حلول الحلول زائدًا عليه ولزم التسلسل

فثبت أن القول بحلول الله في غيره يفضي إلى أقسام عدة فيكون القول به فاسدًا فليس في النسخة ذكر القسم الآخر وهو أن يكون جائزًا فلا أدري هل سقط من النسخة أم من التصنيف ولكنما ذكره يدل على نظيره وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام وقد تقدم بيان فساده من وجوه كثيرة ومبنية على امتناع ما سماه انقسامًا وقد تقدم أيضًا بيان فساده وقوله عند حدوث الجواهر الكبيرة لم يكن بأن يحلَّ في واحدٍ منها أولى من أن يحل في غيره فهذا مبني على تماثل الأجسام وقد تقدم وبتقدير تماثلها فهو مبني على أن الرَّبَّ لا يخصّ أحد المثلين بشيء لمجرد مشيئته وهذا خلاف أصله وأيضًا فإن تخصيص بعض الأجسام ببعض الصفات أمر موجود فإن كان هذا قبل عدم تماثلها وإن كان

التخصيص بعد التماثل فقد ثبت جواز تخصيص أحد المثلين بما يحل فيه وعلى التقديرين يبطل ما ذكره من القسم الثاني وكذلك ما ذكره في القسم الثالث من أنه ليس اقتضاء المقتضي الثالث للحلول في بعض بأولى من الحلول في بعض يَرِدُ عليه هذه الوجوه الثلاثة وما ذكره من التخصيص باختيار المختار من أن المختار لابد وأنْ يفعل فعلاً والحلول ليس بأمر وجودي فهو أبطل من غيره فإن هذا لو صح لم يمتنع عليه في الحلول في غيره فإنه لا يمتنع عليه أن يكون بينه وبين المخلوقات تعلقات غير وجودية وأيضًا لو صح ذلك لكان التحيُّز والعلو على العرش

ونحو ذلك أمورًا عدمية وبطل نفي ذلك عنه لأن وصفه بالسلوب متفق عليه بين العالمين وأيضًا فلو كان كذلك أمرًا عدميًّا لكان نقيضه وجوديًّا لم يصح أن يكون صفة للمعدوم ومن المعلوم أن المعدوم يوصف بأنه ليس حالاًّ في غيره وليس غيره حالاًّ فيه وذلك يمنع أن يكون سبب الحلول وجوديًّا ويقتضي أن الحلول وجودي وأما قوله لو كان وجوديًّا لكانت الصفة حالة في الشيء ولكان للحلول حلول وهو يقتضي التسلسل فيقال الأول هو حلول الشيء القائم بنفسه بغيره والثاني حلول الصفة بالموصوف فهذا من باب حلول الأجسام في محالها وهذا من باب حلول الأعراض في الأجسام وأحد النوعين مخالف للآخر وذلك لا يقتضي أن يكون لحلول الصفة بالموصوف حلول فيها لأن العرض لا يقوم بالعرض

ثم قال المسلك الثالث وهو أنه تعالى إن كان محتاجًا إلى ذلك المحل كان ممكنًا لذاته ولكان ذلك المحل غنيًّا عنه فكان واجبًا لذاته أو لشيء آخر غيره فيلزم وجود موجودين واجبي الوجود وهو محال وإن لم يكن محتاجًا إلى ذلك المحل كان غنيّاً عنه والغنى بذاته عن المحل يستحيل أن يعرض له

ما يحوجهُ إلى المحل لأن العَرَضيات لا تزيل الصفات الذاتية قال وفي هذا المسلك مباحث وهو أعم من المسلكين السالفين لأنهما ينفيان حلول الله في الجسم وهذا المسلك ينفي حلوله في المحل سواء كان ذلك المحل جسمًا أو غير جسم قلت وهذا المسلك إن دلَّ فإنما يدل على أنه لا يحل في محل على طريق الحاجة إليه وأما الحلول على غير طريق الحاجة فلا ينفيه هذا المسلك فكيف وليس بمستقيم فإنَّ قوله ولكان ذلك المحل غنيًّا عنه ليس بلازم إذ الممكن لن يكون وجودهُ مستلزمًا لمحل يكون ذلك المحل محتاجًا إليه وواجبًا به لا بنفسه فلا يكون فيما يسميه حاجة إلى ذلك المحل ما ينافي وجوبه بنفسه لأن الحاجة هنا معناها الملازمة كما يقوله في صفاته اللازمة وأيضًا فهو قد قدح في الحجة المانعة من وجود واجبين وقد تقدم الكلام على هذا مبسوطًا وأن لهذا الكلام

ثلاثة أوجه أحدها أن يكون ذلك المحل داخلاً في صفات الرب كما تقدم بيان ذلك في لفظ الحيّز إذ أريد به نهاية المتحيز لكن قد يقال لفظ المحل أخص من الحيز والنزاع في كونه في المحل لا يعني به هذا الثاني أنه يراد بالمحل ما أراده هو بالحيّز المنفصل عنه وقد زعم هو في موضع أنه وجودي والتحقيق أنه عدمي الوجه الثالث أنه لو قدّر أنه وجودي فالمقصود هنا أنَّ استلزام ذاته لذلك المحل لا ينافي وجوبه لذاته ولا يقتضي أنه ممكن مفتقِر إليه فإن المتفلسفة القائلين بان ذاته تستلزمُ لوجودِ العالم يعلمون أن ذلك لا ينافي وجوب وجوده بنفسه فهذا أولى وإن كان انتفاءُ هذا المحل معلومًا بأدلة أخرى عقلية أو سمعية لكن المقصود بيان أنما ذكره ليس بدليل وإذا تبين أنهم ليس لهم حجة صحيحة تنفي حلوله في المحل إذا قالوا ليس مباينًا للعالم بالجهة كان قولهم حينئذٍ ليس هو حالًّ في العالم ولا العالم محلاًّ له إذا لم يقولوا بكونه مباينًا للعالم قولاً بلا علم ولا حجة فلا يكون مقبولاً

وكذلك يقتضي أنهم لا يثبتون له من المباينة قدرًا زائدًا على المباينة بالحقيقة والزمان وأن كل من قال أنه ليس بخارج العالم لم يثبت مباينة زائدة على المباينة التي يشاركها فيها المحل والحالّ فيه وهذا معلوم الفساد بالضرورة كما تقدم الوجه الثامن أن إخوانهم الجهمية الموافقين لهم على نفي كونه خارج العالم إذا قالوا لهم هو في كل مكان وحالٌّ فيه كل مكان لم يمكنهم نفي ذلك عنه بهذه الحجج كما تقدم وأولئك إذا قالوا هو في كل مكان لم يمكنهم الاحتجاج على ذلك بما نَفَى كونه خارج العالم وكان قول طائفة من الطائفتين مانعًا من صحة قول الآخرين وذلك يقتضي بطلان قول الطائفتين وبطلانهما جميعًا يوجب أن يكون خَارجَ العالم وإيضاح ذلك أن من يقول هو في كل مكان يجعله مقدرًا محدودًا قدر العالم فجميع ما يحتج به على نفي كونه فوق العرش ينفي أن يكون بكل مكان بطريق الأولى والأحرى لأن في هذا القول من وصفه بالصفات الممتنعة عليه وتجويز النقائص عليه وقبوله للزيادة والنقصان وغير ذلك ما ليس في كونه خارج العالم ومن قال إنه ليس داخل العالم ولا خارجه إما أن يثبت مباينتهُ للعالم بقدرٍ زائدٍ على المباينة بالحقيقة

والزمان أو لا يثبته فإن أثبت المباينة الزائدة وَجَبَ أن يكون مباينًا للمكان وإن لم يثبتها لم يمكنه نفي حلوله في العالم مع مباينته بالحقيقة والزمان إذ لا يكون له حجة على نفي حلوله في العالم كما تقدم وهذا باطل ومَا استلزمَ الباطل فهو باطل وإن قال هو داخل العالم وهو خارجه أيضًا كما يقوله بعض الناس فإنه يَرِدُ عليه كل ما يُورَدُ على من قال هو خارج العالم سواء قال هو جسمٌ مع ذلك أو ليس بجسمٍ فقد تبين أن من قال إن الله ليس خارج العالم يلزمه أن لا يكون الله مباينًا للعالم منفصلاً عنه وهذا اطل عند المنازع ونحوه ومن التزمهُ وقال بالحلول كان ما يلزمه من الفساد والتناقص أكثر ممَّا يلزمه خصمه فيكون قول من أبطل الباطل وإبطال قول هؤلاء زيادة زدناها إذ هو لم يتعرض لذلك هنا وإنما أفرد له مسألة ولهذا كان الأئمة كابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق

ابن إبراهيم وغيرهم يقولون إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ويقولون بحدٍّ لأن نفي المباينة لخلقه يستلزم حلولَهُ فيهم واتحادَهُ بهم

وأما نفي المباينة ونفي المحايثة فإنه جمع بين النقيضين من جنس كلام الملاحدة الذين يقولون ليس بعالم ولا جاهل ولا فادر ولا عاجز إذ كلام هؤلاء النفاة كله من وادٍ واحدٍ هو الإلحاد في أسماء الله وآياته بالقرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه وبالسفسطة في العقليات بدعوى عدم النقيضين أو

دعوى اجتماعهما لكن فيهم من يلحد في أمور يقر الآخر بإثباتها وإلا فَيَنْفي علوه على العرش فقول القائل ليس داخل العالم ولا خارجه هو مثل نفي علمه وقدرته بقول القائل لا عالم ولا جاهل ولا عاجز كل هذا من بابٍ واحدٍ ومن لم يثبت أنه عالم قادر لزمه أن يكون جاهلاً عاجزًا كما أن من لم يثبت أنه فوق العالم لزمه أن يكون حالاًّ في العالم وكونه حالاًّ في العالم هو من صفات النقص كوصفه بعدم العلم والقدرة الوجه التاسع أن الجهمية بعد اشتراكهم في أن الله ليس فوق العرش وأنه ليس خارج العالم اختلفوا فقالوا مايمكن أن يخطر بالبال من الأقوال والممكن أن يقال إمّا أن يكون في كل مكان أو هو جسمٌ بقدر العالم أو هو جسم فاضل عن العالم متناهٍ أو هو في كل مكان وليس بجسم أو يقال إنه في كل مكان بذاته وهو مع ذلك فوق العرش وليس بجسم أو يقال ليس لمساحته نهاية ولا غاية وهو ذاهب في الجهات الست وليس بجسم أو يقال هو مع ذلك جسمٌ أو يقال ليس داخل العالم ولا خارجه وهذه الأقوال قد ذكرها أرباب المقالات كما تقدم ذلك

وإذا كان كذلك فهؤلاء الذين يقولون هو في كل مكان بذاته وليس مع ذلك خارج العالم أو هو مع ذلك خارج العالم ببعدٍ متناهٍ أو أنه لا نهاية له سواء قالوا هو جسم أو قالوا ليس بجسم أو قالوا ليس داخل العالم ولا خارجه فهذه الأقوال السبعة يقابل بعضها بعضًا كما تراه وهم كما قال الإمام أحمد مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب وهم مع ذلك لابد أن يقولوا هو مخالف للعالم في حقيقته ليست حقيقته مثل حقيقة العالم كما تقدم وأنه متقدم عليه أيضًا فهم يثبتون المباينة بالحقيقة والزمان وأما المباينة بالجهة فلا يثبتها أحدٌ منهم لكن منهم

من ينفي المحايثة ومنهم من لا ينفيها بل يثبت المحايثة للعالم فمَن نفى المحايثة للعالم لزمه أن يثبت المباينة بالجهة وإلاّ جَمَعَ بين النقيضين ولم يمكن أن ينفي المحايثة مع نفي المباينة بالجهة كما تقدم ومن أثبت المحايثة لم يجعله مباينًا للعالم بالجهة بل غايته أن يجعل مباينته للعالم بالحقيقة والزمان وهذه المباينة تَثْبُتُ للجوهر مع عرضه ونحن نعلم بالاضطرار أن مباينة الله للمخلوق أعظم من مباينة المخلوق بعضه لبعض ومن مباينة الجوهر للعرض فكل من هؤلاء لابد أن يجحد الضرورة العقلية الوجه العاشر أن هؤلاء جميعًا فَرُّوا بزعمهم من التشبيه ومن المعلوم أن هذا فيه من تشبيههم إيّاه بكل شيء من الجواهر والأجسام بل ومن المعدومات ما ليس في قول أهل الفطرة والشرعة فإن نفي المباينة والمحايثة صفة للمعدوم والقول بالمحايثة تمثيل له بكل جوهر فإن أحدهما محايث للآخر مع مباينته له الحقيقة والزمان على أن فيهم من يجعل الأشياء حالّة فيه ومنهم من يجعله حالاًّ فيها فيكون هؤلاء مثَّلوه بالجواهر وهؤلاء مثلوه بالأعراض

ثبت في الشرع أن الله {ليس كمثله شيء}

الوجه الحادي عشر أنه قد ثبت بالشرع والعقل أن الله سبحانه ليس كمثله شيء وأن حقيقته لا تماثلها حقيقة وذلك أنه لو كان له مثْلٌ والمِثْلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر لوَجَبَ للمخلوق ما يجب له من الوجوب والقدم والخلق وسائر خصائص الربوبية ولجاز عليه ما يجوز على المخلوق من العدم والحاجة والحدوث وسائر صفات النقص ولامتنع على المخلوق ما يمتنع عليه من العدم ونحو ذلك وذلك يستلزم أن يكون الشيء موجودًا معدومًا قديمًا محدثًا خالقًا مخلوقًا واجبًا ممكنًا إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن عَدَمَ مماثلته لشيء من المخلوقات أعظم من عدم مماثلة المخلوق للمخلوق إذْ المخلوقات تشترك في كثير مما يجوز ويجب ويمتنع عليها

وإذا كان عدمه مماثلته للعالم أعظم فالمباينة والمخالفة ونحوها تتبع عدم المماثلة فكلما كان الشيء عن مماثلة الشيء أبعد كانت مباينته له ومخالفته له أعظم وذلك يوجب أن تكون مباينته له أعظم من مباينته كل جوهر وكل عرض لكل جوهرٍ ولكل عرض فإذا لم يكن مباينًا إلا بالحقيقة والزمان لم يكن كذلك فعلم أن ذلك باطل الوجه الثاني عشر أن يقال لو كان لا يباين العالم إلا بالحقيقة والزمان وهذه المباينة يشاركه فيها الجواهر وما يقوم بها من الأعراض لم يكن لمباينته للعالم قدر زائد على مباينة الجوهر للعرض وإذا انتفت المباينة الزائدة ثبتت المماثلة والمشابهة في المباينة فإن الشيئين إذا كان كل منهما لا يباين ما يباينه إلا بالحقيقة والزمان كان نسبة كل منهما إلى ما يباينه كنسبة الآخر إلى ما يباينه فتكون نسبته إلى العالم كنسبة كل من الجواهر والأعراض المخلوقة إلى الآخر أكثر ما يقال إن حقيقته أكثر مباينة لحقيقة غيره من الجوهر للعرض والعرض للعرض كما أن تقدمه للعالم أعظم من تقدم بعض العالم لبعض لكن بكل حال إذا كانت مباينته من جنس المباينة بالحقيقة والزمان لم يخرج عما يجوز على هذا

الجنس كما أنه موجودًا وقائمًا بنفسه لم يخرج عما يجوز على جنس الموجود والقائم بنفسه فإذا كان المَوْجود والقائم بنفسه لا يكون إلا واجبًا أو ممكنًا ولا يكون إلا قديمًا أو محدثًا لم يُخرج عن أحد القسمين وإذا كان التباين بالحقيقة أو الزمان لا يخرج عن أن يكون محلاًّ لحالٍّ يقوم به أو حالاًّ في محل والحالُّ مفتقر إلى محله والمحل لا يوجد بدون وجود الحالِّ فيه إذ العرض مفتقر إلى الجوهر والجوهر مستلزم للعرض وقد يقال هو محتاج إليه أيضًا لزِمَ إذا جُعل حالاًّ في العالم أن يكون مفتقرًا إلى العالم محتاجًا إليه لا يقوم وجوده إلا بالعالم مع أن العالم قائم بنفسه بدونه وهذا يقتضي أن يكون العالم غنيًّا عن الله تعالى والله مفتقر إليه وأن يكون هو إلى العالم أحوج من العالم إليه أو أن يكون كل منهما محتاجًا إلى الآخر وهذا قد صرح به الاتحادية كصاحب الفصوص وقال

بأن العالم والحق كل منهما محتاج إلى الآخر ونحو ذلك مما قد ذكرناه في غير هذا الموضع ويقول إن أعيان العالم هي ثابتة في العدم مستغنية عن الحق وأن وجود الحق ظهر فيها وهذا من جنس حلوله في تلك الأعيان لكن هما متحدان لا يتميز الحالّ عن المحل ولهذا يقول بنوعِ الحلول وبنوعٍ من الاتحاد وهو في ذلك متناقض كتناقض النصارى في

المقارنة بين مذهب الاتحادية والنصارى

الحلول والاتحاد الخاص بالمسيح وذلك لأنه يجعل الثبوت غير الوجود كما يقوله من يقول المعدوم شيء وهذا باطل وإن كان محققو هؤلاء لا يرضون بالحلول الذي يقتضي اثنين حالاًّ ومحلاًّ بل عندهم ما ثم إلا وجود واحد ومنهم من يقول هو الوجود المطلق وإن كان المطلق لا وجود له في الخارج إلا معينًا مخصَّصًا فيكون هو وجود المخلوقات بعينه ومنهم من يصرح بذلك فيقول هو عين الموجودات لا يفرق بين ثبوت ووجود ولا بين مطلق ومعين فهؤلاء يجعلونه نفس المخلوقات فالحلول والاتحاد المطلق يشبه الحلول والاتحاد المعين وكما أن النصارى في المسيح منهم من يقول الّلاهوت والنّاسوت جوهر واحد وصفة واحدة كاليعقوبية القائلين

قول الجهمية القائلين بالحلول والاتحاد المطلق شر من قول النصارى

بأن الّلاهوت والنّاسوت اتحدا كاتحاد الماء واللبن وبأن نفس المصلوب المُسَمَّر هو خالق العالم ومنهم من يقول بالحلول كحلول الماء في الظرف كالنسطورية القائلين بأنهما جوهران وطبيعتان وأقنومان ومنهم من يقول بالحلول من وجهٍ وبالاتحاد من وجه كالملكانية الذين يقولون كالنار في الحديدة فهؤلاء الذين يقولون بالحلول والاتحاد المطلق في المخلوقات جميعها من الجهمية قولهم ذلك شر من مقالة النصارى في الاتحاد فإن قولهم من جنس قول المشركين والمعطلين وهم شر حالٍ من النصارى وذلك من وجهين

تعليل ذلك من وجهين

أحدهما أن النصارى قالوا بالاتحاد والحلول في شخصٍ واحدٍ وهؤلاء قالوا إنه في العالم كُلِّه حتى ذكروا عن صاحب الفصوص أنه قال النصارى ما كفروا إلا لأنهم خصصوا وقال ذلك التلمساني وغيره من شيوخهم وقد صرح في غير موضع بأن المشركين عباد الأوثان إنما أخطأوا من حيث عبادة بعض الأشياء دون البعض والمحقق عندهم من يعبد كل شيء ويرى كل شيء عابدًا للحق ومعبودًا له وكل من عبد شيئًا غير الله عنده فما عبد إلا الله وهذا يجمع كل شرك في العالم مع قوله إن الشريك هو الله كما زعمت النصارى أن الله هو المسيح ابن مريم ولهذا كثيرًا ما يصرح شيوخ الجهمية بأن الله في العالم كالزبد في اللبن وهذا قول اليعقوبية في المسيح وقد قالوا في مجموع الوجود ما يقوله النصارى في المسيح الوجه الثاني أنَّ النصارى يقولون بأنَّ الاتحاد والحلول فعل من أفعال الرب وأن اللاهوت اتحد بالناسوت مرة وانفصل عنه أخرى وهؤلاء عندهم ما يتصور أن يتميز وجود الحق عن المخلوقات ولا يباينها ولا ينفصل عنها وهؤلاء الاتحادية

هم أكفر وأضل ممن يقول إن الله تعالى بذاته في كل مكان ونحو ذلك من المقالات الشنيعة المتقدمة ولكنْ هم مشاركون لهم في أصل المقالة وزائدون عليهم في الضلالة والمقصود هنا التنبيه على أن أولئك الجهمية الذين لا يثبتون المباينة يضطرون إلى أن يجعلوا الرب مفتقرًا إلى العالم إذا جعلوه حالاًّ فيه مع استغناء العالم عنه وإن جعلوه محلاًّ لهُ مع أن ذاته لا تباين ذات العالم بل تحايثه كما هو قولهم فإنهم يقولون بأنه لا وجود للرب إلا بوجود العالم ولا يمكن وجود الرب بدون وجود العالم كما لا يمكن وجود المحل الذي هو الجوهر أو الهَيولى بدون ما يحل فيه من الأعراض أو الصورة فيكون العالم مقومًا لوجود الرب والرب محتاج إليه أيضًا وهو أعظم من قدم جميع العالم الوجه الثالث عشر أن هؤلاء الجهمية يقولون إنه لا تَحُلُّهّ الصفات ولا تقوم به فإنه إذا قامت به الصفات والأعراض كان

محتاجًا إليها وكانت مقاومة له ومنافية لوحدته ووجوب وجوده وقدمه فإذا قال منهم طائفة بأن المخلوقات كلها تحلّهُ وتقوم به كان هذا مع ما فيه من الكفر والضلال في الاختلاف والتناقض أعظم من أن يوصف وكذلك قالوا إنه لا يكون فوق العرش لئلا يكون حالاًّ بغيره وقائمًا بغيره وكائنًا في كل مكان ونحو ذلك مع أنه متميز عن العرش منفصل عنه فإذا قالوا إنه حالٌّ في المخلوقات مختلط بالقاذورات كان هذا مع ما فيه من الكفر والضلالات من أعظم المتناقضات والمقصود أنَّ هؤلاء الجهمية لا يفرون من شيء من الحق لما يظنونه شبهة إلا وقعوا في أضعاف مضاعفة من الباطل التي يلزمها ذلك المحذور عندهم فهم دائمًا متناقضون فإن كل من نفى عن الله أن يكون فوق العرش لابد أن يحتج بحجة تقتضي السلب والنفي فهو مع قوله بالمحايثة أو قوله بالمباينة بلا محايثة يكون مثبتًا لكل ما سَلَبَهُ ولأَضعافهِ أو يلزمه ذلك فلم يستفيدوا إلا التناقض في المقال وجَحَدوا الخالق وهذا من أعظم الضلال ونفس تناقض القولين يقتضي فساده فكيف بما زاد على ذلك فإنهم إذا قالوا الوجود الواجب لا يكون إلا واحدًا ليس هو

صفة ولا قدرة ونحو ذلك مما أصل قولهم يقتضيه فكل ما يقولونه بعد ذلك من كونه بكل مكان أو كونه داخل العالم وخارجه أو كونه هو الوجود القائم بالكائنات ونحو ذلك مما يناقض هذا فإن المحايث لجواهر العالم وأعراضه يجب أن يوصف بما توصف به الجواهر والأعراض من التركيب والانقسام وغير ذلك وإنْ لم يوصف بذلك مع قولهم بالمحايثة له كان هذا مع فساده في ضرورة العقل ناقضًا لجميع أصولهم فإنهم إذا جعلوا ذاتين متحايثتين وجعلوا إحداهما منقسمة ومركبة وغير ذلك دون الأخرى وجعلوا الواحد الذي لا تركيب فيه محايثًا لكل تركيب كان هذا مفسدًا لكل حجة لهم وقولهم إنه غير محايث له مع قولهم إنّهُ لا يُباينه إلا بالحقيقة والزمان جمع بين النقيضين حيث جعلوا مباينته غير زائدة على مباينة المحل للحالِّ فيه وقالوا مع ذلك إنه غير مباين بغير هذه المباينة كما تقدم ولولا أن هذا الموضع ليس هو موضع الرد على من يقول هو بذاته في كل مكان إذ المؤسسُ وذووهُ لا يقولون هذا لَكُنَّا نُوَسِّعُ المقال فيه وإنما المقصود هنا قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه وإن كان القولان جميعًا خارجين

من مشكاةٍ واحدة وهي التعطيل لكونه فوق العرش فإنهم لما جَحدوا هذا الحق الذي فطر عليه عباده وبعث به رسله وأنزل به كتبه واجتمع عليه المؤمنون به تفرقوا بعد ذلك وفساد أحد القولين مستلزم لفساد أصل القول الآخر وكل من القولين يناقض الآخر وكل منهما لا يمكنه إفساد قول خصمه مع مقامه على قوله فيلزم إما القول بباطل خصمه وإما الرجوع إلى الحق ومتى أبطل قول خصمه إبطالاً محققًا لزم إبطال قوله وأدلة إبطال قول الحلولية والاتحادية الذين يقولون

نقل المؤلف عن الأئمة إثبات العلو

إنه في كل مكان ونحو ذلك كثيرة ليس هذا موضعها وكل آية في القرآن تبين أن لله ما في السموات والأرض وما بينهما ونحو ذلك فإنها تبطل هذا القول فإنَّ السموات والأرض وما بينهما وما فيهما إذا كان الجميع له وملكه ومخلوقه امتنع أن يكون شيء من ذلك ذاته فإن المملوك ليس هو المالك والمربوب ليس هو الرب والمخلوق ليس هو الخالق ولهذا كان حقيقة قول الاتحادية أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع لا يفرقون بينهما حتى إنه يمتنع عندهم أنه يكون الله رب العالمين كما يمتنع أن يكون ربَ نفسه إذْ ليس العالمون شيئًا خارجًا عن نفسه عندهم وقد قدمنا فيما مضى طرفًا من كلام السلف والأئمة في الرد على هؤلاء مثل الأثر المشهور عن ابن المبارك أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه لا نقول كما تقول الجهمية إنه ها هنا في الأرض وقول

الإمام أحمد هكذا هو عندنا وروي عن ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية حدثنا الحسن بن علي بن مهران حدثنا بشار بن موسى الخفّاف قال جاء بشر بن الوليد

إلى أبي يوسف فقال له تنهاني عن الكلام وبشر المَرِيْسِي وعلي الأحول وفلان يتكلمون فقال وما يقولون قال يقولون الله في كل مكان فبعث أبو يوسف وقال عليَّ بهم فأتوا إليه وقد قام بشر فجيء بعلي الأحول والشيخ يعني الآخر فنظر أبو يوسف إلى الشيخ وقال لو أنّ فيك موضع أدب لأوجعتك فأمر به إلى الحبس وضرب غليًّا الأحول وطوَّف به وقال أيضًا حدثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي

سمعت أبي يقول حُبس رجل في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام بن عبيد الله الرازي ليمتحنه فقال له أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال لا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوهُ فإنه لم يتب بعد وقال عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق لما روى حديث ابن عباس ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور فهو فوق ذلك قال من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث إن الله سبحانه فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك فقال أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم أن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه بلا كيف أحاط بكل شيء علمًا

وقال عثمان بن سعيد الدارمي قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سمواته وقال أيضًا قال أهل السنة إن الله بكماله فوق عرشه يعلم ويسمع من فوق العرش لا يخفي عليه خافية من خلقه لا يحجبهم عنه شيء وقال عثمان ين محمد بن أبي شيبة في كتاب العرش له ذكروا أن الجهمية يقولون ليس بين الله وبين خلقه حجاب

أي يحجبهم عن أن يَرَوه وأنكروا العرش وأن يكون الله فوقه وقالوا إنه في كل مكان إلى أن قال فسرت العلماء وهو معكم يعني بعلمه ثم تواترت الأخبار أن الله خلق العرش فاستوى عليه بذاته فهو فوق العرش بذاته مُتَخَلِّصًا من خلقه بائنًا منهم وقال عمرو بن عثمان المكي رفيق الجنيد في كتاب

آداب المريدين والتعرف لأحوال العباد في باب ما يجيء به الشيطان للتائبين من الوسوسة وأما الوجه الثالث الذي يأتي به للتائبين إذا هم امتنعوا عليه واعتصموا بالله فإنه يوسوس لهم في أمر الخالق ليفسد عليهم أصول التوحيد وذكر كلامًا طويلا إلى أن قال هذا من أعظم ما يوسوس به في التوحيد بالتشكيك أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه أو بالجحد لها والتعطيل وأن يدخل عليه مقاييس عظمة الرب بقدر عقولهم فهلكوا إن قبلوا وتتضعضع أركانهم إن لم يلجؤوا بذلك إلى العلم وتحقيق المعرفة لله عز وجل من حيث أخبر عن نفسه ووصف به نفسه وما وصفه به رسوله إلى أن قال فهو تعالى القائل أنا لله لا الشجرة الجائي بعد أن لم يكن جائيًا لا أمره المستوي على عرشه بعظمته وجلاله دون كل مكان الذي كلم موسى تكليمًا وأراهُ من آياته عظيمًا فسمع موسى كلام الله الوارث لخلقه السميع لأصواتهم الناظر بعينه إلى أجسامهم يداه مبسوطتان وهما غير نعمته وقدرته خلق آدم بيديه وذكر أشياءً أخر

وقال زكريا بن يحيى الساجي إمام البصرة في زمانه وعنه أخذ الأشعري كثيرًا مما أخذه من مذاهب أهل السنة والحديث والفقه قال القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناههم أن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وقال نظيره أبو بكر بن محمد بن إسحاق بن

خزيمة رحمه الله مَنء لم يقر بأن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فإنه يُستَتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وأُلقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة وقال أبو عبد الله ابن بطة في الإبانة الكبرى أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في الاعتقاد الذي جمعه طريقتنا طريقة السلف المتَّبِعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومما اعتقدوه أن الله سبحانه لم يزل عالمًا بعلم بصيرًا ببصر سميعًا بسمع متكلمًا بكلامٍ ثم أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامُه غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوًّا ومحفوظًا ومسموعًا ومكتوبًا وملفوظًا وكلامُ الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق وأن الواقفة واللفظية من الجهمية وأن مضن قَصَدَ القرآن بوجهٍ من الوجوه

يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية وأن الجهمي عندهم كافر إلى أن قال وأن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وان الله بائنٌ من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستوٍ على عرشه في سمائه من دون أرضه وذكر سائر اعتقاد السلف وإجماعهم على ذلك وقال يحيى بن عمار السجستاني في رسالته وفيه

لا نقول كما قالت الجهمية أنه مداخل الأمكنة وممازج لكل شيء ور يُعلم أين هو بل نقول هو بذاته على العرش وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد 4] هذا الذي قلناه إن الأمكنة غير خالية من علمه وقدرته وأنه مدرك لها بسمعه وبصره وهو بذاته على العرش سبحانه وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال معمر بن زياد شيخ الصوفية في عصر أبي نعيم

ويحيى بن عمار أحببتُ أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر أشياء في الوصية إلى أن قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وأنه مستوٍ على عرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة وأنه عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأوَّل فهو مبتدع ضال وقال أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتاب الرسالة في السنة له ويعتقد أصحاب

الحديث ويشهدون أن الله فوق سمواته على عرشه كما نطق به كتابه وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سمواته وقال أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد له في باب القول في الاستواء قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان 59] وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الفرقان 61] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] أراد فوق السماء كما قال وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 71] يعني على جذوع النخل وقال فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ [التوبة 2] يعني على الأرض وكل ما علا فهو سماء والعرش على السموات فمعنى الآية أأمنتم من

على العرش كما صرح به سائر الآيات وقال فيما كتبنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية بأن الله بذاته في كل مكان وقوله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ إنما أراد بعلمه لا بذاته وقال أبو عمر بن عبد البر لما تكلم على حديث النزول قال هذا حديث ثابت من النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله تعالى وذكر

بعض الآيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكرهُ عليهم مسلم وقال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقَّب شيخ الإسلام في كتاب الصفات له باب إثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة بائنًا من خلقه من الكتاب والسنة فذكر رحمه الله دلالات ذلك من الكتاب والسنة إلى أن قال ففي أخبار شتى أن الله تعالى فوق السماء السابعة على العرش بنفسه وهو ينظر كيف يعملون وعلمه وقدرته واستماعه ونظره ورحمته في كل مكان وهذا باب واسع لا يحصيه إلا الله تعالى فإن الذين نقلوا إجماع السلف أو إجماع أهل السنة أو إجماع الصحابة والتابعين على أن الله فوق العرش بائن من خلقه لا يحصيهم

إلا الله وما من أحد من هؤلاء المذكورين إلا وشهرته في الإسلام بالعلم والدين أعظم من أن يتسع لها هذا الموضع وإن كان بعضهم أفضل من بعض وفي شيء دون شيء وما زالَ علماء السلف يثبتون المباينة ويردُّون قول الجهمية بنفيها مع أن نفيها بالحقيقة أو الزمان لا ينكرهُ أحد وإنما ينكرون المباينة بالجهة ثم هم مضطربون في ثبوت المحايثة وعدمها كما تقدم وإثبات المحايثة أقرب إلى الفطر ابتداءً من نفي المباينة والمحايثة ولهذا كان هذا هو الذي تتظاهر به الجهمية وإنْ كان منهم من يتأَوَّلُ قوله إنه في كل مكان بمعنى علمه وقدرته لكن منهم من يقول إن ذاته في كل مكان وهو قول طوائف من علمائهم وعُبَّادهم حتى قالوا إنه نفس وجود الأمكنة ومعلوم أن في هذا من الفساد أمورًا كثيرة من وصف الله تعالى بالنقائص والعيوب وما هو منزَّه عنه وقد التزم ذلك جميعه من التزمه من هؤلاء كالاتحادية وقالوا إن من كماله أن يكون هو الموصوف بكل مدح وذم ولعن وشتم وهو الناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وأمثال ذلك مما هو من أعظم الكفرِ والسَبِّ والشتم والإلحاد والمحادةِ لرب العالمين فكان السلف

يحتجون على الجهمية بما يلزم قولهم من كونه مخالطًا للأجسام المذمومة من النجاسات والشياطين وقد أخذ هذه الحجة عنهم من اتبعهم في ذلك من متكلمة الصفاتية ونحوهم كما ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في غير موضع من كتبه قال فإنْ قال قائل فهل تقولون إن الله في كل مكان قيل له معاذ الله بل مستوٍ على العرش كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10]

وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] وذكر آيات أخر إلى أن قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولَوَجَبَ أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان ولَصَحَّ أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وشمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله فذكر بعد ما ذكر من النصوص ثلاث حججٍ قياسيةٍ عقليةٍ

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الباقلاني

أحدها أن ذلك يستلزم أن يكون في الأمكنة والأجسام القبيحة المذمومة كالحشوش وأن يكون في جوف الإنسان وفمه وهذا مما يعلم الإنسان بفطرته وبديهة عقله أن الله سبحانه منزه عنه يعلم بضرورة حسه وعقله أن الله ليس في جوفه وان ذاته لا تصلح أن تلاصق النجاسات والأجواف بل ملائكته عليهم السلام مثل جبريل ونحوه قد نزَّههم أن يدخلوا بيتًا فيه كلب أو جنب وإنَّما يحضر الحشوش الشياطين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه الحُشُوشَ محْتَضَرَةٌ

والحجة الثانية أنه كان يجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا زِيد فيها بالخلق وينقص بنقصانها إذا نقص منها وهذا على قول من يقول منهم إنه في كل مكان لا يفضل عن العالم فإن الأمكنة إذا زادت زاد وإذا نقصت نقص بالضرورة والحجة الثالثة أن ذلك يوجب دعاءَهُ والرغبةَ إليه إلى جهة السفل واليمين والشمال وذلك مخالف لإجماع المسلمين لأن الرغبة هي إليه نفسه حيث كان فإذا كان في الأرض كما هو فوق العرش كانت الرغبة إليه هنا كالرغبة إليه هناك والأشعري قبله قد احتج في كتاب الإبانة المشهور بهذا التنزيه فاحتج بانزيهه عن أن يكون مستويًا على الأقذار على

منع أن يكون الاستواء هو الاستيلاء واحتج على نفي كونه في كل مكان بتنزيهه عن أن يكون في النجاسات وقال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء على العرش إلى معنى القدرة ولو كان هذا كما قالوه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى لأن الله عز وجل قادر على كل شيء والأرض والسموات وكل شيء في العالم فالله قادر عليه فلو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء لكان الله مستويًا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأنتان والأقذار لأن الله سبحانه وتعالى قادر على الأشياء كلها

ولما لم نجد أحدًا من المسلمين يقول إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون معنى الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها وَوَجَبَ أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء قال وزعمت المعتزلة والجهمية والحرورية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أن يكون في بطن مريم وفي الحشوش تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًّا ويقال لهم إذا لم يكن الله مستويًا على العرش بمعنى يختص به العرش دون غيره كما قال ذلك نقلة الآثار وكان الله في كل مكان فهو سبحانه تحت الأرض والأرض فوقه والسماء فوق الأرض وفي هذا ما يلزمهم أن الله تحت التحت والأشياء فوقه وهو عز وجل فوق الفوق والأشياء كلها تحته وهذا يوجب أنه فوق ما تحته وتحت ما فوقه وهو المحال الفاسد المتناقض تعالى الله ربنا جَلَّ جلالَهُ عن ذلك

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الأشعري

علوًّا كبيرًا فاحتج أبو الحسن بما يعلم بالاضطرار أنه ليس في الأجواف والحشوش وخص بطن مريم بالذكر لأن ذلك مشاركة للنصارى الذين يقولون إنَّ الله حَلَّ في بطن مريم لما تَدرَّعَ اللاّهوت بالنَّاسوت مع أن هذا حين يَقولُهُ علماءُ النصارى لعامتهم تنكره فطرتهم وتدفعه عقولهم لما يجدون في أنفسهم من العلم الضروري بنفي ذلك فإنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على القطرة فأبواهُ يهوِّدانه وينصِّرانه ويُمَجِّسانه فالنصارى مولودون على الفطرة التي تنكر ذلك ولكن الدين الذي وجدوا عليه آباءهم هو الذي أوجَبَ تغيير فطرتهم وهذه حال هؤلاء الجهمية أجمعين فما منهم من أحد إلا حين يذكر

نقل المؤلف عن الإمام أحمد من كتاب "الرد على الجهمية"

قول الجهمية تنكره فطرته وترده ضرورة عقله لكنْ يَتَّبع سادته وكبراءَه في خلاف طاعة الرسول حتى يغيروا فطرته لأجل المذهب الذي وَجَدَ عليه أباهُ وأمَّهُ أو من يجري مجرى ذلك من سيدٍ مالكٍ أو معلمٍ أو نحو ذلك وهم أعني متكلمة الصفاتية أخذوا ما أخذوه من هذه الحجج عن السلف والأئمة وإن كان في كلام السلف والأئمة مالم يَهْتَدِ إليه هؤلاء من التحقيق قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية ومما أنكرت الجهمية الضُّلاَّل أن الله سبحانه على العرش قلنا لِمَ أنكرتم أن الله سبحانه على العرش وقد قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] قالوا هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش

تعقيب المؤلف وتأييده الإمام أحمد فيما نقله

فهو على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان وتَلَوْا من القرآن وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] فقلنا عَرَفَ المسلمون أماكنَ ليس فيها من عِظَمِ الرَّبَِ شيء فقلنا أحشاءكم وأجوافَكم وأجوافَ الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عِظَمِ الرب سبحانه وتعالى شيء فهذا الذي ذكره الإمام أحمد مُتضمِّن إجماع المسلمين ويتضمن أن ذلك من المعروف في فِطرتهم التي فُطروا عليها وقوله من عِظَمِ الرَّبِّ كلمةٌ سَديدَة فإنَّ اسمَهُ العظيم يدل على العِظَمِ الذي هو قدره كما بيناه في غير هذا الموضع وذَكَرَ الأحشاش والأجواف لأنَّ علم المسلمين بذلك ببديهة حسهم وعقلهم ولأن في ذلك ما يجب تنزيه الرب عنه إذ كان من أعظم كفر النصارى دعواهم ذلك في واحد من البشر فكيف من يدعيه في البشر كلهم وكذلك ما ذَكَرَهُ من أجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة فإنَّ هذا كما تقدم مما يعلم بالضرورة العقلية الفطرية أنه يجب تنزيه الرب وتقديسه أن يكون فيها أو ملاصقًا لها أو مماسًّا

وتخصيص هذه الأجسام القذرة والأجواف بالذكر فيه اتباع لطريقة القرآن في الأمثال والأقيسة المستعملة في باب صفات الله سبحانه فإن الإمام أحمد ونحوه من الأئمة هم في ذلك جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة وهو المنهج العقلي المستقيم فيستعملون في هذا الباب قياسَ الأولى والأحرى والتنبيه في باب النفي والإثبات فما وجب إثباته للعباد من صفات المدح والحمد والكمال فالرَّبُّ أولى بذلك وما وَجَبَ تنزيه العباد عنه من النقص والعيب والذم فالرب سبحانه أحق بتنزيهه وتقديسه عن العيوب والنقائص من الخلق وبهذا جاء القرآن في مثل قوله ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ [الروم 28] وفي مثل قوله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً [الزخرف 17] وغير ذلك فإنه احتج على نفي ما يثبتونه له من الشريك والولد بأنهم ينزهون أنفسهم عن ذلك لأنه نقص وعيب عندهم فإذا كانوا لا يرضَون بهذا الوصف ومثل السوء فكيف يصفون ربهم به ويجعلون لله مثل السوء بل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوءِ ولله المثلُ الأعلى ومما يشبه هذا في حقنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس لنا مثل السوء ولهذا شبَّه الله من ذمه

بالحمار تارةً وبالكلب أخرى والأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة كالتي تُسمى أقيسة منطقية وبراهينَ عقلية ونحو ذلك استعمل سلف الأمة وأئمتها منها في حق الله سبحانه وتعالى ما هو الواجب وهو ما يتضمن نفيًا وإثباتًا بطريق الأولى لأن الله تعالى وغيره لا يكونان متماثلين في شيء من الأشياء لا في نفي ولا في إثبات بل ما

كان من الإثبات الذي ثبت لله تعالى ولغيره فإنه لا يكون إلا حقًّا متضمنًا مدحًا وثناءً وكمالاً والله أحق به ليس هو فيه مماثلاً لغيره وما كان من النفي الذي يُنْفَى عن الله وعن غيره فإنه لا يكون إلا نفي عيب ونقص والله سبحانه أحق بنفي العيوب والنقائص عنه من المخلوق فهذهِ الأقيسة العادلة والطريقة العقلية السلفية الشرعية الكاملة فأما ما يفعله طوائف من أهل الكلام من إدخال الخالق والمخلوق تحت قياس شمولي أو تمثيلٍ يتساويان فيه فهذا من الشرك والعدل بالله وهو من الظلم وهو ضرب الأمثال لله وهو من القياس والكلام الذي ذمَّه السلف وعابوه ولهذا ظن طوائف من عامة أهل الحديث والفقه والتصوف أنه لا يتكلم في أصول الدين أو لا يتكلم في باب الصفات بالقياس

العقلي قط وان ذلك بدعة وهو من الكلام الذي ذمه السلف وكان هذا مما اطمع الأولين فيهم لما رأوهم ممسكين عن هذا كله إما عجزًا أو جهلاً وإما لاعتقاد أن ذلك بدعة وليس من الدين وقال لهم الأولون رَدُّكُم أيضًا علينا بدعة فإن السلف والأئمة لم يردوا مثل ما رددتم وصار أولئك يقولون عن هؤلاء إنهم ينكرون العقليات وأنهم لا يقولون بالمعقول واتفق أولئك المتكلمون مع طوائف من المشركين والصابئين والمجوس وغيرهم من الفلاسفة الروم والهند والفرس وغيرهم على ما جعلوه معقولاً يقيسون فيه الحق تارة والباطل أخرى وحصل من هؤلاء تفريط وعدوان أوجبَ تفرقًا واختلافًا بين الأمة ليس هذا موضعه ودين الإسلام هو الوَسَطُ وهو الحق والعدل وهو متضمن لما يستحق أن يكون معقولاً ولما ينبغي عقله وعلمه ومُنزَّه عن الجهل والضلال والعجز وغير ذلك مما دخل فيه أهل الانحراف فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلكَ الاستدلال بالفطرة والأقيسةِ العقلية الصحيحة المتضمنة للأَوْلَى

وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها وتوعد على ذلك بالعقاب كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه وهذا مما علم بالاضطرار من دين

الإسلام وهي فُطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيهُ الرب عنه لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له ويتنزه عن النجاسة كان تنزيهُ الرب وتقديسهُ عن النجاسة أعظم وأكثر للعلم بأن الرب أحقُّ بالتنزيه عن كل ما يُنزّه عنه غيره وأيضًا فالمعبود أعظم من العابد وهذا معلوم في بدائِهِ العقول لا سيما وهو سبحانه القدوسُ السلامُ والقدوسُ مأخوذ من التقديس وهو التطهير ومنه سُمِّيَ القدوس قدوسًا والجهمية تدعي أنها تقدسهُ بنفي الصفات ويسمون كلامهم

تأسيس التقديس ومنهم من يقول بمخالطته للنجاسات والباقون يلتزمون ذلك فهم منجِّسون لا مقدسون ومِن أنكرِ الأمور في بدائِهِ العقول أن يكون العابد واجبًا عليه التنزيه عن النجاسات التي تخرج منه مع أن المعبود مختلط بها ملاصق لها وإذا كان العلم بأن الرب سبحانه أحق بالتنزيه والتعظيم من العبد والمعبود أحق بذلك من العابد كان هذا القياس وأمثاله من أظهر الأقيسة في بديهة العقول بل قد قال تعالى لخليله وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {26} [الحج 26] فإذا أمر عبده بتطهير بيته الذي يُطافُ به ويصلِّي فيه وإليه ويعكف عنده من النجاسة أَلَمْ يكن هو أحق بالطيب والطهارة والنزاهة من بيته وبدن عبده وثيابه ولهذا كان هؤلاء الاتحادية والحلولية يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة ويصرحون بذلك وهؤلاء من أعظم الناس

كفرًا وشتمًا لله وسبًّا لله وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وحصل بما ذكره الأئمة أن هؤلاء الجهمية هم أصل قولهم الذي به يُمَوِّهون على الناس إنما هو التنزيه ويسمون أنفسهم المُنَزِّهون وهم أبعد الخلق عن تنزيه الله وأقرب الناس إلى تنجيس تقديسه وهذا يظهر بوجوهٍ كثيرةٍ لكن المذكور هنا كونهم يقولون إنه في كل مكان من الأمكنة النجسة القذرة فَأَيُّ تنزيهٍ وتقديسٍ يكون مع جعلهم له في النجاسات والقاذورات والكِلاَبِ والخنازير بل وتصريحهم بذلك حتى حدثني من شَهِدَ أحذقَ محقِّقيهم التلمساني وآخر من

طواغيتهم وقد اجتاز بكلب جربٍ ميتٍ فقال ذلك للتلمساني وهذا الكلب أيضًا ذلك فقال أوَ ثَمَّ شيء خارج عن الذات وهذا التلمساني هو وسائر الاتحادية كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وغيره وابن سبعين وابن الفارض والقونوي صاحب ابن عربي شيخ التلمساني وسعيد

الفرغاني إنما يَدَّعون الكشف والشهود لما يخبرون عنه وأن تحقيقهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث وإنما هو شهود الحقائق وكشفها ويقولون ثبت عندنا في الكشف ما يناقض

صريح العقل ويقولون لمن يُسْلِكُونهُ لابد أن يجمع بين النقيضين وأن يخالف العقل والنقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ويقولون لا فرق عندنا بين الأخوات والبنات والزوجات فإنَّ الوجود واحد لكنْ هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم ومن شعر هذا التلمساني قبحه الله يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني والوجدُ أصدقُ نهَّاءٍ وأمَّارٍ فإن أُطِعْك وأعصى الوجد عدمت عمي عن العيان إلى أوهام أخبار وعينُ ما أنت تدعوني إليه إذا حقَّقته تره المنهيَّ يا جاري يقول أنت تدعوني إلى أن أعبد الله ولا أعبد غيره وما ثم غيره بل هو الذي تظنه غيرًا وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

أصل ذلك أن علم الإنسان كله إنما يحصل بطريق الإحساس والمشاهدة الباطنة والظاهرة أو بطريق القياس والاعتبار أو بطريق السمع والخبر والكلام كما قال تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً {36} [الإسراء 36] والعبد الصادق يحصل له من المشاهدة الباطنة ما ينكشف به أمور كانت مغطاةً عنه ويفهم من كلام الله ورسوله والسلف معانيَ يشهدها لم يكن قبل ذلك يشهدها بل يظهر له قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ثم قال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} [فصلت 53] أي أو لم يكفِ بشهادته وعلمه التي أخبرهم عنها في كتابه وهؤلاء المنافقون المرتدون الزنادقة ومن وقع في بعض ضلالاتهم من الغالطين الضالين هم في الشهود الذي يحصل لهم ويجعلونَهُ من جنس شهود المؤمنين مثل ما هم في المخاطبة التي تقع لهم ويجعلونها من جنس مخاطبة المؤمنين التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد كان في الأمم محدثون فإنْ يكن في أمتي أحدٌ فعمر وقد رواه البخاري في صحيحه من

حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري ورواه زكريا ابن أبي زائدة عن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون قال

أبو مسعود الدمشقي الصواب من حديث إبراهيم بن سعد عن أبي هريرة كما ذكره البخاري وأما حديث ابن عجلان عن يعد فإنه يقول فيه عن عائشة كذلك رواه عن الناس ولا أعلم أحدًا تابع ابن وهب عن إبراهيم بن سعد في قوله عن عائشة

والمخاطبة التي تقع لهؤلاء المنافقين والغالطين والمتشبهين بالمؤمنين هي من الشياطين التي تنزل على أمثالهم من كل أفَّاكٍ أثيم ومن حديث النفس ولهذا يكثرون من الشعر والكهانة التي يقترن بأهلها الشياطين كثيرًا قالوا لابن عمر ولابن عباس إن المختار يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} [الشعراء 221] وقالوا للآخر إنه يزعم أنه يوحى إليه فقال صدق وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام 121] فلهم وحي وتنزيل ولكن من الشياطين كما تنزل على أشباههم من السحرة والكهان وبينهم قدرٌ مشترك في كثيرٍ من الأمور

وأما المشاهدة فإن أحدهم يشهد بباطنه الوجود المطلق الساري في الكون كله الذي لا يختص بشيء دون شيء وهذا شهود صحيح لكن ضلوا في ظنهم أن ذلك هو رب العالمين وأن ما وراءَ السموات والأرض شيءٌ آخر حيث يقولون ما فوق العرش رب ولا فوق العالم إله ويقول أحدهم لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله فكانوا في هذا الشهود والذوق والوجود كما ذكرته لمن خاطبته من أهل المعرفة والتحقيق في بيان الشبهة التي ضل بها هؤلاء ما كثرة ما فيهم من العبادة والصدق في ذلك العلم والفضيلة فقلت هم بمنزلة من شاهد شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس وليس وراء الشعاع شيء آخر أصلاً وجحد أن

يكون في الوجود شمس غير ما شهده من الشعاع وهذا مثل بعيد وإلا فالله سبحانه وتعالى أجلُّ وأعلى وأعظم وأكبر من جميع المخلوقات أن يكون نسبته إليها كنسبة الشمس إلى شعاعها ولكن هذا كما تقدم من باب قياس الأولى فإنه إذا كان من شهد شعاع الشمس ووجدَهُ فظن أنها عينُ الشمس وحقيقتها من أعظم الجاهلين الضالين فالذي شهد وجود المخلوقات فاعتقد أن عين وجود رب العالمين هو الأرض والسموات أعظم جهلاً وضلالاً وهؤلاء لم يكن ضلالهم فيما علموه وشهدوه من وجود المخلوقات ولكن في نفي ما لم يشهدوه وأنكروه من وجود رب السموات ثم ضلوا فظنوا وجود المخلوق هو وجود خالق الكائنات فوافقوا فرعون في ذلك النفي وامتازوا عنه بهذا الإثبات وهذا حال عامة الكفار وأهل البدع إنما ضلالهم في التكذيب بما لم يعرفوه من الحق لا بما علموه من الحق لكن يضمُّون إلى ذلك التكذيب ظنونًا كاذبة تنشأ عن الهوى يصدقون لأجلها بالباطل وذِكْرُ الأئمة في الرد على الجهمية ما عَلِمَهُ المسلمون بضرورة حسهم وعقلهم ودينهم وتنزيهه عن أن يكون في أجوافهم وأحشائهم أيضًا مع ما ذكروه من تنُّزهه عن الأنجاس

لأن ذلك أقرب إلى حس الإنسان وبديهة عقله فكلما كان المعلوم مما يحسه الإنسان ويعقله بديهة كان أعلم به لا سيما مع تكرر إحساسه به وعقله له وأيضًا فنبهوا بذلك على ما ذكره الله تعالى من كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وأنّ الله تعالى حل في بطن مريم فإن هذا تكفير لكل من قال في بشرٍ إنه الله بطريق الأولى فمن قال في الوجود كله ذلك أكفر وأكفر ولهذا اجتمع جماعة عظيمة بدمشق في سماع فأنشد فيه القوّال شعرًا لابن إسرائيل وكان شاعرًا من شعراء الفقراء في شعره إيمان وكفر وهدى وضلال وفي شعره كثير من كلام الاتحادية لكن التلمساني وابن الفارض أحذق في الاتحاد منه فأنشد القوّال له وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذايق وكامن هناك شيخ يعرف بالشيخ نجم الدين بن الحكيم صحب الشيخ إسماعيل الكوراني فأنكر ذلك وتلا قوله تعالى

احتجاج الإمام أحمد على الجهمية من النقل والعقل

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة 72] والتفت إلى القوّال وقال له قل وما أنت عينُ الكون بل أنت غيرهُ ويشهد هذا الأمر من هو صادق وهي واقعة مشهورة حدثني بها غير واحد ممن شهدها ولقد أحسن هذا الشيخ التالي لهذه الآية في الرد على هذا الشعر الذي هو من أقوال الملاحدة والاتحادية وأيضًا نبهوا بذلك على ضلال من يقول إنه الله أو أن الله فيه من أهل الاتحاد والحلول الخاص فإن المسلمين يعلمون بضرورة حسهم وعقلهم أن الله ليس في أجوافهم ولا أحشائهم ثم احتج الإمام أحمد بالنصوص فقال وقد أخبرنا الله أنه في السماء فقال سبحانه أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً [الملك 16-17] الآية وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ [الأنبياء 19] وقال يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {50} [النحل 50] وقال ذِي الْمَعَارِجِ {3} تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 3-4] وقال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام

61] وقال وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ {255} [البقرة 255] وقال فهذا خبرُ الله أخبرنا أنه في السماء ثم احتج بحجة أخرى من الأقيسة العقلية قال ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا قال الله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 145] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ {29} [فصلت 29] وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهو أن السفل مذموم في المخلوق حيث جعل الله أعداءَهُ في أسفل سافلين وذلك مستقرٌ في فطر العباد حتى أن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين وإذا كان هذا مما ينزه عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق فالربُّ تعالى أحق أن ينزهَ ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفًا بالسفل هو أو شيء منه أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه بل هو العلي الأعلى بكل وجه ولهذا يروى عن بشر المريسي أنه كان يقول في سجوده سبحان ربي

الأسفل وكذلك بلغني عن طائفة من أهل زماننا أن منهم من يقول إن يونس عرج به إلى بطن الحوت كما عرج بمحمد إلى السماء وأنه قال لا تفضلوني على يونس وأراد هذا المعنى وقد بينا كذب هذا الحديث وبطلان التفسير في غير هذا الموضع

وهذه الحجة التي احتج بها الأئمة أجود من حجة التناقض التي احتج بها أبو الحسن فإنه يرد على تلك الأسولة ما لم يرد على هذه حيث يمكن أن يقال هو يجمع بين ما يتناقض

في حق غيره كما قيل لأبي سعيد الخراز بماذا عرفت ربك قال بالجمع بين النقيضين ثم تلا قوله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {3} وأما هذا القياس قياس الأول ووجوب تنزيه الرب عن كل نقص ينزه عنه غيره ويذم به سواه فهذا فطري ضروري متفق عليه ثم ذكر أحمد حجة أخرى عقلية قياسية قال وقلنا لهم أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان ومكان الشياطين مكانهم مكان فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد

وهذا التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الأحياء نظيرُ التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الجمادات ولهذا نهي عن الصلاة في المواطن التي تسكنها الشياطين كالحمام والحش وأعطان الإبل ونحو ذلك وإن كان المكان ليس فيه من النجاسات الجامدة شيء بل أرواث الإبل طاهرة بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه ذكر أن الكلب

يقطع الصلاة وخصَّه في الحديث الصحيح بالأسود وقال إنه شيطان لما سئل عن الفرق بين الأحمر والأبيض والأسود فقال الأسود شيطان وفي الصحيح عنه أنه قال إن الشيطان تفلت علي البارحة فأراد أن يقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فذعته ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاتلة المار بين يدي المصلي وقال إن معه القرين فأما مرور

الإنسي فقد قال ابن مسعود إنه يذهب بنصف اجر الصلاة وأما شيطان الجن فقد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم إنه يقطع الصلاة إذا علم ذلك كما بقطعها الكلب الأسود البهيم الذي هو شيطان الدواب

وأيضًا فالشيطان ملعون رجيم كما قال تعالى وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً {117} لَّعَنَهُ اللهُ [النساء 117-118] وقد أخبر سبحانه وتعالى أن الشياطين ترجم بالشهب لئلا تسترق السمع من الملائكة فقال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {6} وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ {7} لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ {8} دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ {9} إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ {10} [الصافات 6-10] وقد أمر الله عباده بالاستعاذة من الشيطان فقد قال لكبيرهم في السماء اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ {18} [الأعراف 18] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض عباد الله وهو عمر بن الخطاب ما رآك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك وقد أخبر الله في كتابه عن هرب الشيطان من

الملائكة حيث قال وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {48} [الأنفال 48] فإذا كان ملعونًا مبعدًا مطرودًا عن أن يجتمع بملائكة الله أو يسمع منهم ما يتكلمون به من الوحي فمن المعلوم أن بعده عن الله أعظم وتنزه الله وتقديسه عن قرب الشياطين أولى فإذا كان كثير من الأمكنة مملوءًا وكان تعالى في كل مكان كان الشياطين قريبين منه غير مبعدين عنه ولا مطرودين بل كانوا متمكنين من سمع كلامه منه دع الملائكة وهذا مما يعلم بالاضطرار وجوب تنزه الله وتقديسه عنه أعظم من تنزيه الملائكة والأنبياء والصالحين وكلامه الذي يبلغه هؤلاء ومواضع عباداته فإن نفسه أحق بالتنزيه والتقديس من جميع هذه الأعيان

المخلوقة ومن كلامه الذي يتلوه هؤلاء ثم أجاب الإمام أحمد عن حجتهم فقال وأما معنى قوله تبارك وتعالى وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] يقول هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش وقد أحاط بعلمه ما دون العرش ولا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان وكذلك قوله تعالى لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] ثم ذكر الإمام أحمد حجة اعتبارية عقلية قياسية لإمكان ذلك هي من باب الأولى قال ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلاً كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شيء كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله سبحانه له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه

من غير أن يكون في شيء من خلقه قلت وقد تقدم أن كل ما يثبت من صفات الكمال للخلق فالخالق أحق به وأولى فضرب أحمد رحمه الله مثلاً وذكر قياسًا وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محايثًا له فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعًا في حقه وذكر أحمد في ضمن هذا القياس لقول الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى بالمثل الأعلى إذ القياس الأولى والأحرى هو من المثل الأعلى وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال ففي هذا الكلام الذي ذكره واستدلاله بهذه الآية تحقيق لما قدمناه من أن الأقيسة في باب صفات الله وهي أقيسة الأولى كما ذكره من هذا القياس فإن العبد إذا كان هذا الكمال ثابتًا له فالله الذي له المثل الأعلى أحق بذلك ثم ذكر قياسًا آخر فقال وخصلة أخرى لو أن رجلاً بنى دارًا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها كان لا يخفى عليه كم بيت في داره وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار فالله سبحانه له المثل الأعلى قد

أحاط بجميع ما خلق وقد علم كيف هو وما هو من غير أن يكون في جوف شيء مما خلق وهذا أيضًا قياس عقلي من قياس الأولى قرر به إمكان العلم بدون المخالطة فذكر أن العبد إذا صنع مصنوعًا كدار بناها فإنه يعلم مقدارها وعدد بيوتها مع كونه ليس هو فيها لكونه هو بناها فالله الذي خلق كل شيء أليس هو أحق بأن يعلم مخلوقاته ومقاديرها وصفاتها وإن لم يكن فيها محايثًا لها وهذا من بين الأدلة العقلية وهذان القياسان أحدهما لإحاطته بخلقه إذ الخلق جميعًا في قبضته وهو محيط بهم وببصره والثاني لعلمه بهم لأنه هو الخالق كما قال سبحانه أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {14} [الملك 14] وهؤلاء الجهمية نفاة الصفات كثيرًا ما يجمعون بين نفي علوه وكونه فوق العالم وبين الريب في علمه فكثيرًا منهم مستريب في علمه لا سيما من تفلسف منهم فتارة يقولون لا علم له وتارة يقولون لا يعلم إلا نفسه وتارة

يقولون إنما يعلم غيره على وجه كلي ولهم من الاضطراب في مسألة العلم ماهو نظير اضطرابه في علوه وفوقيته وكان ما ذكره الله في كتابه وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها من الجمع بين هذين ردًّا لضلال هؤلاء في الأمرين كما قال تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {4} [الحديد 4] وهؤلاء جاحدون أو مستريبون بأنه فوق العرش وبأنه معنا أينما كنا ومن هؤلاء طوائف موجودون وإن كان لهم من الفضيلة والذكاء ما تميزوا به على من لم يشركهم في ذلك ولهم من السمعة والرياسة مالهم ففيهم من الجهل والنفاق هذا وغيره ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الإمام أحمد ومما تأول الجهمية من قول الله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ الآية قالوا إن الله عز وجل معنا وفينا فقلنا لِمَ قطعتم الخبر من أوله إن الله يقول أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ يعني أن الله

بعلمه رابعهم وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعني بعلمه فيهم أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {7} [المجادلة 7] يفتح الخبر بعلمه ويختم الخبر بعلمه ثم ذكر حجتين عقليتين على مباينته فقال ويقال للجهمي إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه فقل له هل يغفر الله لكم فيما بينكم وبين خلقه فإن قال نعم فقد زعم أن الله بائن من خلقه وأن خلقه دونه وإن قال لا كفر وذلك أن من أثبت أن شيئًا بين الله وبين خلقه فقد جعله مباينًا فإن المباينة والبين من اشتقاق واحد وإذا كان شيء بين شيئين فالثلاثة مباينة بعضها عن بعض وهذا الوسط من هذا وهو ما بينه وبين هذا وهو مباينه ومباين المباينين أولى أن يكون مباينًا وقد ذكر في كتابه أنه يحجب بعض خلقه عنه فقال تعالى

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الشورى 51] وقال كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] واختصاص بعض خلقه بالحجاب يمنع أن يكون الجميع محجوبين وإذا كان البعض محجوبًا والبعض ليس محجوبًا امتنع أن يكون فيهم كلهم لأن نسبتهم إليه حينئذٍ تكون نسبة واحدة ووجب أن يكون بينه وبين بعضهم حجابًا وذلك يقتضي المباينة كما تقدم ومثل هذا قوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقوله وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقوله وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48] وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] فلفظ إليه وعنده وعليه بحيث يكون بعض الخلق مردودًا إليه وبعضهم موقوفًا عليه ومعروضًا عليه وبعضهم ناكسو رؤوسهم عنده يقتضي أن الخلق ليسوا كلهم كذلك وأنهم قبل ذلك لم يكونوا كذلك وأنهم مباينون له منفصلون عنه وأنه بحيث يكون شيء عنده ويرد شيء إليه ويعرض ولو كانت ذاته مختلطة بذواتهم لامتنع ذلك وهذا يقتضي مباينته وامتيازه واختصاصه بجهة وحدٍّ وبطلان قول من يقول إن ذاته مختلطة بذواتهم أو يجعل الموجودات

لا تختلف نسبتها إليه بل ما فوق السماء كما تحتها وعلى قول هذا يمتنع لقاؤه والعروج إليه والرد إليه والوقوف عليه والعرض عليه وأمثال ذلك مما دلَّ عليه القرآن وعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا يجعلون ما جعل له في هذه الآيات إنما هو لبعض المخلوقات إما ثوابه وإما عقابه وإما غير ذلك أو يجعلون ذلك عبارة عن حصول العلم به وأمثال ذلك من التأويلات التي هي من جنس تأويل القرامطة قال الإمام أحمد وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس كان الله ولا شيء فسيقول نعم فقل له حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه أو خارجًا عن نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل لابد له من واحد منها

إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أنه خلق الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفسه وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه في كل مكان وحُشٍّ قذر رديء وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة وهذه الحجة التي ذكرها الإمام أحمد مبناها على أنه لا لا يخلو عن المباينة للخلق والمحايثة لهم وهذا كما أنه معلوم بالفطرة العقلية الضرورية كما تقدم فإن الجهمية كثيرًا ما يضطرون إلى تسليم ذلك ولأن الخروج عن هذين القسمين مما تنكره قلوبهم بفطرتهم ومما ينكره الناس عليهم

وإذا كان كذلك فالإمام أحمد بنى الحجة على أن الله تعالى وحده كان متميزًا عن الخلق وهذه مخاطبة للمسلمين وسائر أهل الملل الذين يقرون بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأنها محدثة بعد أن لم تكن فإن الأمر إذا كان كذلك فمن أثبت محايثته للخلق أثبت محايثةً بعد أن لم تكن محايثة بخلاف ما لو لم يُقّر بذلك فإنه لا يثبت انفراده ومباينته أصلاً وهذا لا ريب أنه أعظم كفرًا وجحودًا للخالق كما تفعله الاتحادية من هؤلاء فإن هؤلاء كثيرًا إما أن يكون متفلسفة لكن المتفلسفة الضالون يقولون بقدم العالم إما معلولاً عن علة واجبة كما يقوله أرسطو وذووه وإما غير معلول كما يقوله غيرهم وهؤلاء ضموا إلى ذلك أنه هو العالم أو في العالم وأولئك الجهمية الذين ناظرهم الإمام أحمد وأمثاله كانوا أقرب إلى العقل والدين فإنهم لم يكونوا يقولون هو عين الموجودات ولا يقولون إنه لم يزل محايثًا لها ولا كانوا يظهرون أنه ليس بمباين للعالم ولا محايث له بل يقولون بنفي الاختصاص بالعرش بقولهم إنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان وإذا كان وحده ثم خلق الخلق فإما أن يقولوا إنه محلّ للخلق أو يقولوا إنه حلّ في الخلق أو

يقولوا إنه ليس بحالٍّ ولا محلّ فهذه القسمة حاصرة كما ذكره أحمد أنه لابد من قولٍ من هذه الأقوال الثلاثة فإن جعلوه محلاًّ للمخلوقات فقد جعلوا إبليس والشيطان والنجاسات مما يبعد عن الله ملعون مطرود جعلوه في جوف الله وذلك كفر وإن جعلوه حالاًّ فيها فقد جعلوه حالاًّ في كل مكان يتنزه عن مقاربته وملاصقته والقرب منه وذلك أيضًا كفر كما تقدم وفرَّق الإمام أحمد في كونه محلاًّ وكونه حالاًّ بين الخبيث والحي وبين الخبيث الموات الجامد فذكر في القسم الأول الخبيثَ الحي وهم الشياطين وفي الثاني الخبيث الجامد وهو النجس الرديء لأنه في هذا القسم يكون التقدير أن المخلوق أمكنة له ومحل والمكان المحل من شأنه أن لا يكون من الحيوانات فألزمهم المكان من الأجسام النجسة الخبيثة القذرة وفي القسم الأول ذكر أنه هو المحل والمكان فذكر المتمكن في المكان الحال فيه والعادة أن الحيوانات تكون في الأمكنة فالحيوان يتحرك في المكان وإليه ليس المكان هو يتحرك إلى الحيوان ويجيء إليه وإذا انتفى هذان القسمان

نقل المؤلف عن الإمام أحمد تفسيره للمعية

بقي القسم الثالث وهو أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم وهو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة وعموم الخلائق من كل ذي فطرة سليمة ثم قال الإمام أحمد بيان ما ذكر الله في القرآن وَهُوَ مَعَكُمْ وهذا على وجوه قول الله تعالى لموسى إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه 46] يقول في الدفع عنكما وقال تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة 40] يعني في الدفع عنا وقال وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {249} [البقرة 49] يعني في النصرة لهم على عدوهم وقوله وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد 35] وفي النصرة لكم على عدوكم وقال سبحانه وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء 108] يقول بعلمه فيهم وقوله كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {62} [الشعراء 62] يقول في

العون على فرعون قال فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادَّعى على الله عز وجل أنه مع خلقه قال هو في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماس فلم يحسن الجواب فقال بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة موَّه عليهم فقلنا له إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء قال بلى قلنا فأين يكون ربنا قال يكون في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا فقلنا فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو في العرش وما كان من الله في الجنة فهم في الجنة وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء فعند ذلك تبيَّن للناس كذبهم على الله عز وجل

فذكر الإمام أحمد بعد تفسير المعية التي احتجوا بها من جهة السمع حجتين عقليتين فذكر قول الجهمية أنه في كل شيء غير مماس للأشياء ولا مباين لها وهذا قول الجهمية الذين ينفون مباينته ثم يبقون مع ذلك مماسته فيقولون هو في كل مكان والصنف الآخر كالمؤسس ينفون مباينته الحقيقة وإن قالوا إنهم يثبتون مباينته بالحقيقة والزمان فإن أولئك أيضًا وإن نفوا المباينة فإنهم يثبتونها بالحقيقة والزمان فكلا الطائفتين يقولون إنهم يثبتون مباينته لكن ينفون أن يكون خارج العالم وكل من الصنفين خصم للآخر فيما يوافقه عليه الجماعة فالأولون يقولون كما تقول الجماعة إنه إذا لم يكن مباينًا للعالم بغير الحقيقة والزمان كان محايثًا له خلافًا للطائفة الأخرى ثم تقول بما تقول به الأخرى وما ليس بمباين للعالم بغير الحقيقة والزمان فيلزم أن يكون محايثًا له والآخرون يقولون إذا كان محايثًا للعالم كان مماسًّا له كما تقول الجماعة خلافًا لتلك الطائفة ثم يقولون مع الجماعة وما ليس بمماس

للعالم فيلزم أن لا يكون فيه وما لا يكون مباينًا له بغير الحقيقة والزمان فلا يكون خارجًا عنه واحمد رحمه الله ذكر ما يعلم بضرورة العقل من أنه إذا كان فيه وليس مباين فإنه لابد أن يكون مماسًّا له فإنه لا يعقل كون الشيء في الشيء إلا مماسًّا له لا مباينًا عنه فإنه لما كان خطابه مع الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان ذكر أنه لابد من المماسة أو المباينة على هذا التقدير وهو تقدير المحايثة فإن أولئك لم يكونوا ينكرون دخوله العالم وإنما ينكرون خروجه وذكر دعوى الجهمية بنفي هذين النقيضين قال فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماس قال لا قال فكيف يكون في كل شيء غير مماس يقول أحمد إن هذا لا يُعقل فكيف يكون ذلك وذكر أن الخصم لم يحسن الجواب عن ذلك فإنه لا يمكنه أن يذكر ما يعقل كونه في كل شيء وهو مع ذلك غير مماس فلما كان هذا غير معقول لجأ الخصم إلى أن قال بلا كيف قال أحمد رحمه الله فخدع الجهال بهذه الكلمة مَوَّه عليهم

فبيَّن أحمد أن هذه الكلمة إنما يقبلها الجهال فينخدعون بها لأنهم يعتقدون أن ما ذكره هذا ممكن وإن لم نعلم نحن كيفيته وإنما كانوا جهالاً لأنهم خالفوا العقل والشرع وقبلوا ما لا يقبله العقل واعتقدوا هذا من جنس ما أخبر به الشارع من الصفات التي لا نعلم نحن كيفيتها والفرق بينهما من وجهين أحدهما أن الله ورسوله عالم صادق فيما أخبر به عن نفسه وهو أعلم من عباده فإذا أخبرنا بأمر فقد علمنا صدقه في ذلك وعلمنا مما أخبرنا به ما أفهمناه وما لم نعلم كيفيته من ذلك لا يضرنا عدم علمنا به بعد أن نعلم صدق المخبر وأما هؤلاء فإنما يدعون ما يقولونه بالعقل لا يثبتونه بالشرع فإذا كان العقل الذي به يعتصمون لا يقبل ما يقولونه ولا يثبته بل ينفيه كان ما يقولون باطلاً ولم يكن لهم به علم وكانوا أسوأ حالاً ممن استشهد بشاهد فكذَّبه أو نزع بآية ليحتج بها وكانت حجة عليه إذ كان مفزعهم العقل والعقل عليهم لا لهم وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو كما ذكرناه على كلام هذا المؤسس ونحوه من أنهم يدعمون العقل ما لا يقبله العقل بل يرده كدعواهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه كما قال إخوانهم بوجود موجود في العالم لا مباين العالم ول مماس

له ثم إن صنف المؤسس وهذا الصنف الآخر كل منهما يقول بأن الإلهيات تثبت على خلاف ما يعلمه الناس وتثبت بلا كيفية ويدعون ذلك فيما يثبتونه بالعقل والعقل نفسه لا يقبل ما يقولونه بل يرده بضرورته وفطرته فضلاً عن قياسه ونظره الوجه الثاني أن الشارع لم يخبر بما يعلم بالعقل بطلانه ولا بما يحيله العقل حتى يكون نظيرًا لهذا وهؤلاء ادَّعَوا ما يرده العقل ويحيله فلهذا كان ما لأخبر به الشارع يقال له والكيف مجهول ويقال فيه بلا كيف لعدم امتناعه في العقل وهؤلاء الجهمية ادعوا محالاً في العقل فلم يقبل منهم بلا كيف ولهذا قال الإمام أحمد إنه خدع الجهال بهذه الكلمة موَّه عليهم حيث لم يثبتوا الفرق بين خبر الشارع وبين كلام هؤلاء الضُّلاَّل ولم يثبتوا الفرق بين ما يقبله العقل ويرده وهذا الذي ذكره أحمد عنهم من قولهم هو فيه غير مباين ولا مماس وقول الآخرين الذين منهم المؤسس لا داخله ولا خارجه قد علم بالفطرة الضرورية أنه خروج عن النقيضين

كما علم مثل ذلك في قول سائر الجهمية من الملاحدة والباطنية ونحوهم حيث قالوا هو لا حيٌّ ولا ميت ولا عاجز ولا قادر ولا عالم ولا جاهل وكلام هؤلاء كلهم من جنس واحد يتضمن الخروج عن النقيضين ويتضمن تعطيل ما يستحقه الباري وحقيقته وتعطيل ذاته بالكلية وتعطيل معرفته وذكره وعبادته بحسب ما نعوه من ذلك فإن قيل ما ذكره الإمام أحمد وقدَّرتموه من امتناع كونه في العالم غير مباين ولا مماس معارضٌ بما يذكره طوائف من أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم القائلون بأنه فوق العرش فإنهم يقولون هو فوق العرش غير مباين ولا مماس فما الفرق بين الموضعين قيل هؤلاء الذين يقولون هذا إنما يقولونه لأنهم يقولون إنه فوق العرش وليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف ممن اتبعهم من أهل الفقه وغيرهم وطوائف كثيرة من أهل الكلام والفقه يقولون بل

أقوال العلماء في مماسة الرب للعرش

هو مماس للعرش ومنهم من يقول هو مباين له ولأصحاب أحمد ونحوهم من أهل الحديث والفقه والتصوف في هذه المسألة ثلاثة أقوال منهم من يثبت المماسة كما جاءت بها الآثار ثم من هؤلاء من يقول إنما أثبت إدراك اللمس من غير مماسة للمخلوق بل أثبت الإدراكات الخمسة له وهذا قول أكثر الأشعرية والقاضي أبي يعلى وغيره فلهم

في المسألة قولان كما تقدم بيانه وعلى هذا فلا يرد السؤال ومنهم من أصحاب أحمد وغيره من ينفي المماسة ومنهم من يقول لا أثبتها ولا أنفيها فلا أقول هو مماس مباين ولا غير مماس ولا مباين وهذه المباينة التي تقابل المماسة أخصُّ من المباينة التي تقابل المحايثة فإن هذه العامة متفق عليها عند أهل الإثبات وهي تكون للجسم مع الجسم وللجسم مع العرض وأما التي تقابل المماسة فإنها لا تكون له مع العرض والعرض يحايث الجسم فلا يباينه المباينة العامة وأما الخاصة فلا يقال فيها مباينة ولا مماسة وإذا كان أحمد قد ذكر امتناع خلوه عن المباينة الخاصة والمماسة فامتناعُ خُلوِّه عن المباينة العامة والمحايثة أولى فإن المباينة الخاصة والمماسة نوعان للمباينة

(الرب فوق العرش) ثابت بالشرع المتواتر

العامة فإذا امتنع رفع النوع فامتناع رفع الجنس أولى وليس هذا موضع الكلام في هذه الأقوال ولكن نذكر جوابًا عامًّا فنقول كونه فوق العرش ثبت بالشرع المتواتر وإجماع سلف الأمة مع دلالة العقل ضرورة ونظرًا أنه خارج العالم فلا يخلو مع ذلك إما أن يلزم أن يكون مماسًّا أو مباينًا أو لا يلزم فإن لزم أحدهما كان ذلك لازمًا للحق ولازمُ الحق حق وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك فإن تنزيهه عن ذلك إنما أثبتناه لوجوب بُعدِ الأشياء عنه ولكونها ملعونة مطرودة لم نثبته لاستحالة المماسة عليه وتلك الأدلة منتفية في مماسته للعرش ونحوه كما روي في مس آدم وغيره وهذا جواب جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام وإن لم يلزم من كونه فوق العرش أن يكون مماسًّا أو مباينًا فقد اندفع السؤال فهذا الجواب هنا قاطع من غير حاجة إلى تغيير القول الصحيح في هذا المقام وبين من قاله إنه فوق العرش ليس

نقل المؤلف عن الإمام أحمد وعبد العزيز الكناني

بمباين له ولا مماس كما يقوله من الكلابية والأشعرية من يقوله من اتبعهم من أهل الفقه والحديث والتصوف والحنبلية وغيرهم إن كان قولهم حقًّا فلا كلام وإن كان باطلاً فليس ظهور بطلانه موجود قائم بنفسه مع وجود قائم بنفسه أنه فيه ليس بمماس ولا مباين له وأنه ليس هو فيه ولا هو خارجًا عنه ثم ذكر أحمد الحجة الثانية فقال فقلنا لهم إذا كان يوم القيامة أليس إنما الجنة أو النار والعرش والهواء إلى آخره فبيَّن أن موجب قولهم أن يكون بعضه على العرش وبعضه في الجنة وبعضه في النار وبعضه في الهواء لأن هذه هي الأمكنة التي ادَّعَوا أن الله فيها فيتبعَّض ويتجزأ بتيعُّض الأمكنة وتجزُّئها وذكر أنه عند ذلك تبين للناس كذبهم على الله لأن

الناس في الدنيا قد آمنوا بالغيب وبأمور أخرى لم يروها في الدنيا وسوف يرونها في الآخرة فإذا ظهر لهم أن هؤلاء يقولون إنه يكون في الآخرة كما كان في الدنيا متفرقًا متجزئًا لم يمكن أن يراه أحد ولا أن يحايث أحدًا ولا أن يختص أولياؤه بالقرب منه دون أعدائه بل يكون في النار مع أعدائه كما هو في الجنة مع أوليائه فظهر بذلك من كذبهم على الله ما لم يظهر بما ذكروه في أمر الدنيا وقال عبد العزيز الكناني في رده على الجهمية بعد أن بيَّن أنه على العرش وأجاب عما احتجوا به ثم قال ولكن يلزمك أنت أيها الجهمي أن تقول إن الله عز وجل محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب فلان في

البيت والماء في الحِبِّ والبيت قد حوى فلانًا والحِبُّ قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا إن الله حلّ في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد وكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم وأنتم تقولون إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضًا أن تقول إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًّا فبما شنعت مقالته قال أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء مع الشيء خارجًا عن الشيء ولا مباينًا للشيء يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئًا لأنه إذا كان شيئًا ماخلا من القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجًا فلما لم يكن في قولك شيء استحال أن يكون كالشيء في الشيء

أو خارجًا عن الشيء فوصفته لعمري ملتبسًا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل

فصل: نقل المؤلف عن الرازي الحجة الثانية لمثبتي الجهة

فصل ثم ذكر الرازي الحجة الثانية لمثبتي الجهة فقال وثانيها أنه كما لا يُعقَل موجود خاليًا عن القدم أو الحدوث فكذلك لا يُعقَل موجود ليس في العالم ولا خارج العالم ولا فوق العالم ولا أسفل العالم ولا قُدَّام العالم ولا خلف العالم ولا يمين العالم ولا شمال العالم ولو جاز إثبات موجود غير موصوف بهذه الأوصاف جاز إثبات موجود غير موصوف لا بالقدم ولا بالحدوث وذلك سفسطة وهذه الحجة تشبه ما ذكره في التأسيس من كون المنازعين له يقولون إن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه معلوم بالضرورة العقلية امتناعه

ثم قال والجواب عما تمسكوا به ثانيًا من أن ذلك غير معقول فهو ممنوع لأن صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون ولكن يأبى خلو الشيء عن ثبوت الأزلية ولا ثبوتها فقياسُ أحدهما على الآخر بعيد قال وأيضًا فالعقل يأبى إثبات موجود في جهة لا يمكن أن ينسب إلى موجود في جهة أخرى بأنه يساويه أو أنه أصغر منه أو أعظم منه وأنتم تمنعون من أن يقال الباري تعالى

تعقيب المؤلف على كلام الرازي من وجوه

مساوٍ للعرش أو أعظم أو أصغر منه فإن التزموا ذلك لزمهم انقسام ذاته قلت والكلام على هذا من وجوه أحدها أن كون الموجود إما داخل العالم وإما خارجه مثل كونه إما قديمًا وإما حديثًا إما خالقًا وإما مخلوقًا وإما قائمًا بنفسه وإما قائمًا بغيره وإما واجبًا وإما ممكنًا وهذا معلوم بالفطرة الضرورية ولهذا لم يكن ينازع في ذلك الجهمية الذين خاطبهم الأئمة كما ذكر الإمام أحمد في احتجاجه عليهم أنه إذا كان وحده ثم خلق العالم فإما أن يكون خلقه في نفسه أو خارجًا عن نفسه ولم يكن القسم الثالث وهو أن يقال خلقه لا في نفسه ولا خارجًا عن نفسه لأن هذا معلوم انتفاؤه بضرورة

العقل ولا نازعه في ذلك الجهمية الذين قالوا في العالم غير مماس ولا مباين وإن دعوى أولئك قد يسلِّم الرازي وأمثاله أنها معلومة بالفساد وبضرورة العقل فدعواهُ أظهرُ فسادًا في ضرورة العقل كما تقدم التنبيه عليه إذ العرض في الجوهر ليس بمماس له ولا مباين له ولا يوجد جوهر ولا عرض إلا هو مباين للآخر أو محايث له فكلٌّ من طائفتي الجهمية يوافق الجماعة على أن قول الأخرى مخالف لضرورة العقل وحقيقة الأمر أن قول الطائفتين جميعًا مخالف لضرورة العقل وقو هؤلاء الموجود المباين للعالم ليس بداخل العالم ولا خارجه أو قولهم الموجود ليس بداخل العالم ولا خارجه مثل قول إخوانهم أنه في العالم ليس بمباين للعالم ولا مماس له فإذا كان قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة فكذلك قولهم وإلا فلا فرق بل قولهم أظهر فسادًا كما تقدم إذ قد عرف وجود ليس بمماس لموجود ولا مباين له ولم يعرف موجود ليس بمباين لوجود آخر ولا محايث له وكذلك قول الملاحدة أنه موجود ليس بحي ولا ميت ولا هو عالم ولا جاهل ولا هو قادر ولا عاجز ونحو ذلك فهذه الأمور معلوم فسادها بضرورة

العقل ودعوى وجود موجود خارج عن هذين القسمين مخالف لفطرة العقل الضرورية وهو من أعظم السفسطة فلا تقبل من أحد دعوى ذلك ومتى سمع ذلك وجب أن تسمع نظائره من السفسطة الوجه الثاني أنه يجب الفرق بين الأقسام الممكنة في الوجود الخارجي وبين التقديرات الذهنية التي لا يُشتَرط فيها مطابقة للأمور الخارجية فإن الذهن يقدر الأمور الممتنعة مع امتناع وجودها في الخارج ويقدر الموجود معدومًا والمعدوم موجودًا وليس هو كذلك في الخارج فباب التقديرات الذهنية أوسع من باب الأقسام الممكنة الخارجية وذلك أن الذهن تقديره بحسب ما يفرضه من الأقسام فيمكنه أن يقول الشيء إما أن يكون موجودًا وإما أن يكون معدومًا وإما أن يكون لا موجودًا ولا معدومًا والشيء إما أن يكون مجهولاً أو معلومًا أو لا معلومًا ولا مجهولاً وإما أن يكون واجبًا أو ممتنعًا أو جائزًا أو لا واجبًا ولا ممتنعًا ولا جائزًا ويمكنه أن يقول الموجود إما أن يكون قديمًا أو محدثًا أو لا قديمًا

ولا محدثًا وإما أن يكون خالقًا أو مخلوقًا أو لا خالقًا ولا مخلوقًا والموجودان وإما أن يكون أحدهما مقارن للآخر ولا سابقًا ولا متأخرًا أو يقول إما أن يكون مقارنًا أو منفكًا أو لا مقارنًا ولا منفكًا وإما أن يكون مباينًا للآخر أو محايثًا له أو لا مباينًا له ولا محايثًا له والموجودان والقائمان بأنفسهما إما أن يكون أحدهما داخلاً في الآخر أو خارجه أو لا داخل الآخر ولا خارجه وإما أن يكون متحيزًا أو حالاّ في المتحيز أو لا متحيزًا ولا حالاّ في المتحيز وإما أن يكون حيًّا أو ميتًا أو لا حيًّا ولا ميتًا وإما أن يكون عالمًا أو جاهلاً أو لا عالمًا ولا جاهلاً وإما أن يكون قادرًا أو عاجزًا أو لا قادرًا ولا عاجزًا وذلك كما تقول الموجود إما أن يكون واجبًا أو جائزًا أو ممتنعًا أو الموجود إما أن يكون ثابتًا أو منتفيًا أو لا ثابتًا ولا منتفيًا فيكون الذهن يقدر هذه التقديرات لا يقتضي جواز وجودها في الخارج بل مع ذلك يعلم أن بعض هذه الأقسام ممتنع في الخارج كما يعلم امتناع أن يكون الموجود ممتنعًا أو أن يكون الموجود منتفيًا أو نحو ذلك وكما يعلم عدم خروج الموجود عن القسمين الحاصرين مثل علم العقل بامتناع أن يكون الموجود لا خالقًا ولا مخلوقًا أو

لا قديمًا ولا محدثًا أو لا واجبًا ولا ممكنًا والعلم بامتناع أن يكون الموجودان لا متقاربين ولا منفكين ولا متباينين ولا متحايثين فقول القائل هذا الموجود لا داخل هذا ولا خارجه كقوله ليس مقارنًا له ولا منفكًا عنه بتقدم أو تأخر أو يقال هذان الموجودان ليس واحد منهما مقارنًا للآخر ولا قبله أو ولا بعده إذا ظهر ذلك فقولُه صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون ولكن يأبى خلو الشيء عن ثبوت الأزلية ولا ثبوتها فقياس أحدهما بالآخر بعيد يقال له ليس هذا بموازنة عادلة لأن قوله الموجود إما أن يكون حاصلاً في الحيز أو لا يكون إما أن يريد بالحيز أمرًا وجوديًّا منفصلاً عن المتحيز أو لا يريد بالحيز شيئًا وجوديًّا منفصلاً عن المتحيز فإن أراد الأول كان ذلك نظير قول القائل الموجود إما أن يكون في الزمان أو لا يكون إذا أراد بالزمان

تقدير حركات الفلك ومايجري مجرى ذلك في الأمور الوجودية فإن كلا هذين القسمين مضمونُه أنّ الموجود إما أن يكون في مكان وجودي أو زمان وجودي منفصل عنه أو لا يكون وهذا تقسيم صحيح فإن كل موجود لو احتاج إلى مكان وجودي وزمان وجودي منفصل عنه لكان ذلك المكان الموجود والزمان الموجود يحتاج إلى مكان آخر موجود منفصل عنه وزمان آخر موجود منفصل عنه وذلك يقتضي التسلسل إذا أُرِيدَ به غير الأول وإن أريد به الأول فإن أريد به العلة أفضى إلى الدور وإلا فليس ذلك محالاً إذا جُعِل كل منهما زمانًا للآخر أو سُمِّي حيزًا له وأما إن أراد بالحيز ما ليس بشيء وجودي منفصل عن المتحيز إما أمر عدمي أو شيء قام بالمتحيز أو نوع إضافة ونحو ذلك مما لابد للقائم بنفسه منه أو لابد للجسم منه فهذا

نظير ما يعني بالدهر إذا أريد بالدهر نحو ذلك من أمر عدمي أو بعض صفات الحي أو أمر إضافي أو نحو ذلك فإنه كما يقال إن الحيز تقدير المكان فإنه يقال الدهر تقدير الزمان وكما يقدر الذهن فيهما العالم أحيازًا عدمية هي تقدير الأمكنة فإنه يقدر قبل العالم دهورًا عدمية هي تقدير الأزمنة وهذا هو الذي يجعله بعض الفلاسفة أمرًا وجوديًّا كما يُذكَر ذلك عن أفلاطون ويحكون أنه يُثبِت المادة والمدة والخلا والمثل الأفلاطونية

وأرسطو صاحبه وجمهور العقلاء يعلمون أن هذه إنما هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان بل العقلاء يعلمون أن ما بيَّنه أرسطو وأتباعه من الهيولى المطلقة إنما هي أيضًا في الأذهان لا في الأعيان بل وكذلك ما يثبتونه من العقول المحرفات وإذا كان كذلك فتقسيم الوجود إلى ما يكون حاصلاً في

الحيز وما لا يكون نظيره تقسيم الوجود إلى ما يكون حاصلاً في الذهن وما لا يكون ومعلوم أن هذا تقسيم ذهني لا خارجي وإلا فكل موجود في الخارج فهو في الذهن ومعلوم بهذا التفسير فكذلك كل موجود في الخارج فهو في الحيز بهذا التفسير وليس من الموجودات شيء يمتنع عليه أن يقال هو في أمر عدمي وإن سمي ذلك العدمي حيزًا أو دهرًا ولا في الموجودات ما يمتنع أن يضاف إليه أو ينتسب إليه شيء بل إذا كان لا موجود إلا ويمكن أن يقارنه ما يقدر فيه الزمان فلا موجود إلا ويقارنه ما يقدر فيه المكان وأما خلو الشيء عن ثبوت الأزلية ولا ثبوتها فنظيرُه خلو الشيء عن ثبوت الفوقية ولا ثبوتها فقول القائل إما أن يكون للشيء أول أو يكون مسبوقًا بغيره أو لا يكون فإن كان له أول فهو العالم والمحدث وإن لم يكن له أول فهو الرب القديم نظيره قول القائل إما أن يكون للشيء فوق بمعنى أنه علاه غيره أو لا يكون فإن علاه غيره فهو العالم وإن لم يَعْلُهُ غيره فهو الرب الأعلى سبحانه وتعالى ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء

وأنت الباطن فليس دونك شيء وكذلك إذا فسر المُحْدَثُ بالذي كان بعد أن لم يكن أو بالمسبوق بعدم نفسه وقيل يكون مسبوقًا بتقدير زمان فإنه يفسر الأسفل بالذي يمكن لأن يعلوه غيره ويقال هو مخصوص بعلم ما يمكن بتقدير موجود فيه وإذا قيل الأول القديم هو الذي لم يزل موجودًا وهو الذي لم يسبقه شيء فتفسير الظاهر بأنه العلي الأعلى وهو الذي لا يعلوه شيء وإذا قيل إن الباري لم يسبقه عدم يصلح لتقدير الزمان قيل إنه لا يعلوه عدم يصلح لتقدير المكان فكما لا يمكن أن يكون شيء قبله لا يمكن أن يكون شيء فوقه بل هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء

وقد تكلمنا بنحوٍ من ذلك في أول هذا الحكم العادل بينه وبين منازعه الذي خلَّصنا فيه ما التبس من الحق بالباطل في تأسيسه ولكنا تكلمنا هنا على ما ذكره في نهايته وقد ظهر بما ذكرناه أنه عمد إلى تقدير المكان والزمان فذكر في أحدهما المقارنة له وذكر تقسيم الموجود إلى المقارن له وغير المقارن وذكر في الآخر الذي في القسمين جميعًا المقارنة له لكن فتتميمها إلى المقارن المطلق والمقيد وليست هذه موازنة عادلة ومقايسة صحيحة وتمثيلاً مطابقًا في الموضعين بل هذا من الأقيسة الفاسدة الجائرة الظالمة بل يجب أن يوزن ونسبة كل واحد بنظيره وحينئذ فيكون في كل من الصنفين نوعان فيجيء المجموع أربعة كما ذكرناه الوجه الثالث أنه ينبغي أن يعرف أن الأمثال والمقاييس تُضرب للشيء تارة لخفاء حكمه وظهوره بالتمثيل سواء كان التمثيل لتصوُّره أو للتصديق به وتارة يكون هو في نفسه مع سلامة الفطرة جليًّا بديهيًّا ظاهرًا ولكن في القلب ظن أو هوى يصرفه عن معرفة نفسه فضرب المثل الذي لا يعارض

الحق فيه لا ظن ولا هوى فيدركه القلب ويعلم أن هذا مثل ذلك بالضرورة فينقاد إلى الحق لزوال المانع فالغرض أن الأمثال تضرب تارة لتحقيق المقتضى وتارة لدفع المانع ويكون المقصود بها العلم تصورًا أو تصديقًا ويكون المقصود بها أيضًا اتباع العلم والعمل بموجبه أيضًا وهذا كما أن الملكين لما نزلا على داود فقالا فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ {22} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ {23} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ الآية [ص 22 - 24] فلما حكم داود تبيَّن أن هذا مثل مضروب له وعلم حال نفسه ومعلوم أن الأدلة العلمية على قضية كلية يحصل بها التصورات العلمية على هذه القضية لكن هذه لم يكن فيها مانع يخاف أن يعوقه عن معرفة الحق واتباعه فكان التمثيل بما يؤمن فيه المانع محصلاً للمقصود وما نحن فيه من تمثيل المكان وتقديره بالزمان وتقديره هو من هذا الباب فإن مورد النزاع قد حصل فيه للمنازع من الاعتقاد ما قد يصرف عن تصور المطلوب وإلا فالأمران بديهيان فطريان ضروريان في الحقيقة وإذا كان كذلك فنحن نتكلم على ما ضرب من المثل

فيقول له المنازع لا أعقل موجودًا مع غيره خاليًا عن التقدم عليه والحدوث وهذا هو المثل الذي ضربه والأصل الذي مثل به وهو خلو الموجود عن هذين النعتين جميعًا اللذين لابد للموجود من أحدهما فإن الذي سبقه غير محدث والذي سبق غيره أو سبق كل شيء قديم يـ قال وكذلك مسألتنا لا أعقل موجودًا مع غيره خاليًا عن العلو والسفول خاليًا عن الدخول في غيره والخروج عنه فهو أيضًا ذكر خلو الموجود مع غيره عن هذين النعتين وكل من هذين النعتين ينقسم إليهما الموجود له والموصوف به نسبة وإضافة إلى النعت الآخر وموصوفه فللقدم والقديم نسبة وإضافة إلى المحدث والحدث وبالعكس وكذلك العلو والعلي نسبة وإضافة إلى السفل والسافل فالقديم متقدم على المحدث فلا شيء أقدم منه والمحدث ما تقدمه القديم أو ما تقدم عدمه أي كان بعد أن لم يكن كائنًا فكان قبله تقدير زمان يقدر وجوده فيه ولم يكن فيه موجودًا بل الموجود في غيره والعلي عالٍ على السافل وهو العلى فلا شيء أعلى منه والسافل ما علاه العلي وما علاه عدم أي كان يجب أن يكون ما لم يكن

فيه أو كان فوقه حيز وهو تقدير مكان يقدر وجوده فيه ولم يكن فيه موجودًا بل الموجود فيه غيره وهذه موازنة صحيحة وأنت ذكرت في الجواب أن صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون ولكن يأبى خلو الشيء عن ثبوت الأزلية وعدمها وكونه حاصلاً في الحيز أو ليس فيه وفي غيره والخروج منه قسمان للمتحيز على ما يقوله فهو كما لو قيل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلاً في الدهر وإلى ما لا يكون فكان الواجب أن تذكر نفس الصورة التي ادعى منازعك العلم الضروري بها إما بلفظها أو بلفظ آخر ثم تعرضها على العقل هل يقبلها أو يردها وهو قد قال العقل لا يحكم حكمًا بديهيًّا عن الموجود مع غيره إما أن يكون داخلاً فيه أو خارجًا عنه غير داخل فيه ويحكم بأن الموجود مع غيره إما أن يكون محدثًا معه أو متقدمًا عليه غير محدث وهو لا يذكر هذه الصورة للاحتجاج بها أو أن الحكم فيها أقوى بل نفس ما ذكره معلوم بفطرة العقل وضرورته كما أن الثاني كذلك وليس العلم بالأول مستفادًا من العلم بالثاني ولا بالعكس بل كل منهما معلوم

بنفسه والعقل بفطرته وبديهته يعلم أن الموجودين إما أن يكون أحدهما داخل الآخر أو خارجه وإما أن يكون فوقه أو لا يكون فوقه وإما أن يكون محايثًا له مجامعًا له في حيزه بل مباينًا لحيزه وكل هذه العلوم مستقرة في الفطرة وقول القائل العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون متحيزًا أو إلى ما لا يكون ليس نظيرًا لذلك لا في اللفظ ولا في المعنى فلا يدفع ما علم من ذلك بالبديهة وحينئذ فلا حاجة إلى القياس والتمثيل ويعرف ذلك بالوجه الرابع وهو أن يقال قول القائل لا أعقل موجودًا خاليًا عن القدم والحدوث أو لا أعقل موجودًا لا داخل الموجود الآخر ولا خارجه ولا مباينًا له ولا محايثًا له ليس معناه أني لا أعلم ذلك ولا أعرفه أو أني أعجز عن عقله ومعرفته فإن كون الإنسان لا يعلم الشيء ويعقله أو لا يقدر على عقله وعلمه لا يدلُّ على عدمه ولا على امتناعه إذ في الموجودات التي لا يعلمها كثير من بني آدم ولا يقدرون على علمها ما لا يحصيه إلا الله وإنما مراد القائل بقوله هذا غير معقول أي لا يتصور أن يكون معقولاً ومعلومًا وجوده أي يمتنع أن يعقل وجوده أو يعلم وجوده وما امتنع العقل أو العلم بوجوده كان ممتنعًا في نفسه وهذا كقوله تعالى قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ [يونس 18] أي بما لا يكون فإنه لو

كان لعلمه وهكذا ما عقل الإنسان وعلم امتناعه في نفسه وأنه لا يمكن وجوده يقال فيه أنه غير معقول وأن هذا لا يُعقل وإن كان هذا اللفظ يقال على المعنى الأول فاللفظ إذا كان فيه اشتراك قد يغلط الناس في فهمهم فـ لا يعرف المعنى وإذا علم أن هؤلاء المنازعين قالوا إنا نعقل عقلاً ضروريًّا فطريًّا أو نعلم علمًا ضروريًّا فطريًّا امتناعَ وجود موجودين ليس أحدهما داخل الآخر ولا خارجه ونعلم أن من أثبت موجودًا لا داخل العالم ولا خارجه فإنه أثبت ما لا يتصور أن يعلم وجوده وما لا يكون وجوده بل هذا بمنزلة جعلِه لا موجودًا ولا معدومًا ولا قديمًا ولا محدثًا ولا عالمًا ولا غير عالم ولا قادرًا ولا غير قادر والموجود يمتنع أن يخلو عن هذين النقيضين فمن أثبتهما أو نفاهما يكون قد وصف الموجود بصفة الممتنع وجوده فضلاً عن أن يكون معدومًا فيكون قد أثبت واجب الوجود وجعله ممتنع الوجود فيكون قد جمع في كلامه بين إثبات واجب الوجود بين وجوده وبين عدمه وهذه صفة هؤلاء الملاحدة من الجهمية وأشياعهم هم منافقون مذبذبون بين الإقرار بالصانع واجب الوجود وبين إنكاره وإحالة وجوده لا جحدوه بالكلية ولا أقروه بالكلية

وصفوه بما يقتضي أنه واجب الوجود ووصفوه بما يقتضي أنه ممتنع الوجود ثم قد يكون هذا في كلامهم اغلب وقد يكون هذا أغلب وحينئذ فيكون الكفر الصريح على بعضهم أغلب وهو حال الملاحدة النفاة للنقيضين جميعًا فإن جحود هؤلاء وجعلهم له ممتنعًا أضعاف إقرارهم بوجوب وجوده وقد يكون الإثبات أغلب وهو حال من أقر بعامة أسمائه وصفاته وإنما جحد منها شيئًا يسيرًا كما يوجد في بعض الصفاتية كثيرًا وهؤلاء يؤمنون ببعض أسناء الله تعالى ويكفرون ببعض ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ولهذا تنازع الناس في إيمانهم وكفرهم بما ليس هذا موضعه ولا ريب أن فيهم الجاهل المتأول الذي لا يجوز أن يُحكم عليه بحكم الكفار وأن قوله من قول الكفار كما أن فيهم المنافق الزنديق الذي لا ريب في نفاقه وكفره وإذا كان منازعك قد قال إنا نعلم ونعقل بالفطرة امتناع وجود ما ذكرته من وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فقولُك صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى متحيز وغير متحيز ليس فيه جواب عن هذا القول أصلاً فإنك

لم تقل إن صريح العقل يقبل وجود موجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه فإنك لو قلت هذا كان رجوعًا إلى قولك الأول وكان ذلك مقابلة لدعوى العلم الضروري بالامتناع بدعوى العلم الضروري بالإمكان وإذا وصل الأمر إلى أن يقول أحد المناظرين أنا أعلم بالضرورة امتناع هذا ويقول الآخر أنا أعلم بالضرورة إمكانه لم يكن الفصل بينهما إلا من وجوهً أخرى كما بيَّناه في غير هذا الموضع ومع هذا فلا يكون أحدهما قد قطع الآخر فإذا كنت لو ادعيت العلم الضروري بإمكان لم يكن له وحينئذٍ يكون كلٌّ منهما متكافئًا فكيف إذا لم تذكر ذلك بل ادّعيت العلم بشيء آخر غير محل النزاع الذي ادعى المنازع العلم الضروري به ومن المعلوم أن أحدًا من الخلق لا يمكنه أن يدعي الضرورة بإمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل غايته أن يذكر علمًا نظريًّا وأن

يزعم أن ما عند المنازع ليس علمًا ضروريًّا وأن لا يقول أنا أعلم بالضرورة امتناع هذا فغايته أن ينفي العلم الضروري الذي إنْ اضطر إليه بعض الناس لم يضطر إليه آخرون لم يكن هذا دافعًا لما عند أولئك لأنه إنْ جوّز اختصاص بعض الناس بالعلوم الضرورية كما يختصون العلوم النظرية كما يختصون بالعلم بالأخبار المتواترة والمخبريات وعلم الأشياء الدقيقة وهذا أصح القولين فلا يضرهم عدم علم غيرهم وإن قيل بل يجب اشتراك الناس في كل العلوم الضرورية كما تقوله طائفة من أهل الكلام فإذا قال هؤلاء نحن مضطرون إلى العلم وقال هؤلاء لم نضطر إليه لم يكن قبول قول أحدهما أولى من الآخر إلا بموجب منفصل وعلى هذا التقدير فلا يندفع ما ذكره المنازع من العلم الضروري بنفي ذلك عن محل النزاع لو فعله المنازع فكيف إذا لم يذكر ذلك إلا في ضرورة أخرى يقرّر هذا الوجه الخامس وهو أن هذه الصورة التي ادعى أن العقل الصريح لا يأباها إمّا أن تكون مستلزمة لإمكان ما أحاله المنازع أو لا تكون مستلزمة لإمكانه فإن لم تكن مستلزمة لم يكن جوابًا أصلاً وإن كانت مستلزمة كانت غايته أنه قدح فيما

ذكره المنازع من العلم الضروري بحجة نظرية لأنه يقول العقل يجوِّز هذا وتجويز هذا يستلزم تجويز ذاك والقدح في الضروريات بالنظريات غير مقبول لأن الضروريات أصل النظريات فلو جاز القدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحًا في أصل النظريات والقدح في أصل الشيء قدح فيه نفسه فيكون القدح في الضروريات بالنظريات يتضمن القدح في الضروريات والنظريات وإذا كان على هذا التقدير لا تصح الضروريات ولا النظريات لم يكن هذا علمًا ولا كلامًا صحيحًا فلا يقدح به في شيء وهذا من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وهو كما قيل حُجَجٌ تهافت كالزُّجاج تَخَالُهَا حقًّا وكُلٌ كاسرٌ مكسورٌ وإذا كان القدح في الضروريات بالنظريات مستلزمًا ألاَّ يكون واحدٌ منهما علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق كان كلام القادح

ليس علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق فلا يكون مقبولاً فثبت أنه على التقديرين لا يقبل ما ذكره وليس هو علمًا ولا ثبت أنه حق وصدق فبقي ما قاله المنازع على حاله غير مقدوح فيه الوجه السادس أن هذه الصورة التي قد ذكر أن العقل الصريح لا يأباها وهو أنه لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما لا يكون فيقال له تعني بقولك إن العقل الصريح لا يأبى هذا التقسيم أتريد أن العقل الصريح لا يعلم امتناع هذا في الحيز أو أن العقل الصريح يعلم إمكان هذا في الخارج فإن قال العقل الصريح يعلم إمكان هذا في الخارج كان معنى ذلك أن العقل الصريح يعلم أنه يمكن في الخارج وجود موجود متحيز ووجود موجود غير متحيز كما يعلم وجود موجود متحيز وقائم بالمتحيز ووجود الجسم وصفاته والعقل الصريح هنا إنما يُراد به العلم الضروري وإلا لم يحصل المقصود ومعلوم أنه لم يَدَّع ولا ذكر عن أحد من ذويه أنهم ادعوا أنهم يعلمون علمًا ضروريًّا وأن عقلهم الصريح يحكم بإمكان وجود موجود في الخارج ليس بمتحيز ولا قام بالمتحيز إذا فُسِّر المتحيز بالمباين لغيره بالجهة بل هؤلاء إنما يثبتون إمكان ذلك كما يثبتون وجوده بالأدلة النظرية ولو أمكنهم دعوى العلم الضروري بذلك كانوا يدعون العلم

الضروري بإمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ثم لو قُدِّر أنه ادعى ذلك مدعٍ لم يكن دعواه دافعة لما ادعاه أولئك بل يكون الحكم لغيرهما وحينئذ فعليهم جميعًا أن يسلِّموا الحمم لكتب الله المنزلة وأنبيائه المرسلة ولا نزاع بين الخلائق أن دلالة الكتب الإلهية والآثار النبوية على أنه سبحانه فوق العالم أعظم من دلالتها على نفي كيفيته وكَمِّيتهِ وذلك يقتضي رجحان ذلك لو فرض أن لهؤلاء في السمع دليلاً فكيف وجميع علمائهم وعلماء الأولين والآخرين يعلمون أن السمع ليس فيه دلالة تدل لا نصًّا ولا ظاهرًا على أن الله سبحانه وتعالى ليس فوق العالم وفيه من الأدلة التي هي نصوص وظواهر على أن الله سبحانه وتعالى فوق العالم ما لا يحصيه إلا رب العباد ولما علم الله أن بني آدم يصل الأمر بينهم في المناظرات إلى هذا الحد وكانوا يدعون وجدا وعلمًا ضروريًّا إما صادقين في ذلك وهم غالطون لا يعرفون وجه غلطهم وإما كاذبين في ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وأمرهم أن يحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه ولهذا لا يقطع النزاع عن بني آدم إلا بالنبي والرسول وحاجتهم إلى ذلك ضرورية قال الله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] وقال تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ

الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وهذا كله إذا ادعى مدعٍ العلمَ الضروري العقلي بنقيض ما ادَّعاه أولئك فكيف ولم يذكر أن أحدًا ادعاه ولا يدعيه إلا من خالف أصحابه ودخل في السفسطة الصريحة والجحود والبهتان ولا ريب أن باب الكذب والافتراء ليس مسدودًا فيمكن أن يحمل بعض الناس اعتقاده وظنه أو هواه وغرضه أو كليهما على ادعاء ذلك وإن قال معنى قولي إن العقل الصريح لا يأباها أي لا يعلم امتناعها فهذا إذا علم لم يضر المنازع فإن المنازع إذا قال أنا أعلم بالضرورة امتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأنت لم تعلم امتناع صورة تستلزم إمكان ذلك لم يكن عدم العلم بامتناع ما يوجب إمكان ذلك قادحًا في العلم بامتناعه فإنا إذا علمنا أن الشيء ممتنع وكان إمكان غيره مستلزمًا لإمكانه وذلك اللزوم لا يعلم امتناعه لم يكن عدم علمنا بامتناع مستلزم الإمكان مثبتًا للإمكان هذا ولا مانعًا من العلم بالامتناع وقد تقدم أنه لو قال لا أعلم امتناع ذلك لم يكن هذا جوابًا فكيف إذا قال بما يثبت به الإمكان أني أعلم امتناع هذا التقسيم لم يكن عدم العلم بامتناعه موجبًا عدم العلم بامتناع ذلك الخلو عن القسمين إذ أحدهما ليس هو الآخر وإن كان

بينهما تلازمًا الوجه السابع أن يقال لا نسلّم أن العقل الصريح لا يأبى هذا التقسيم إذا بين معناه وزال عنه الاشتباه وذلك أن الحيز يراد به الأمر الوجودي المنفصل عن المتحيز ويراد به ما لا ينفصل عن المتحيز ولا يستلزم وجود غيره فإن تحيز العالم وغيره من الأجسام لا يستلزم وجود شيء غيره وبالجملة فالمتحيز إن أريد ما يستلزم وجود شيء غيره لم ننازع فيما ذكره من التقسيم فإن العقل يعلم أن الموجود قد يكون في حيز منفصل عنه وقد لا يكون ولكن هذا لا يضر فإن المنازع إنما ادعى العلم الضروري أن الموجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه لم يذكر المتحيز وكذلك إن أريد بالمتحيز الجسم فقط دون العرض فقد علم أن الموجود فيه أجسام وصفات يقوم بها وإن كان هذا فيه نزاع ومن الناس من يقول لا موجود إلا الجسم وهذا تنازع في هذا التقسيم ويقول لا أسلّم أن العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون متحيزًا أو غير متحيز لكن ليس الغرض الكلام من جهة هؤلاء فقط بل يقالُ كلامًا عامًّا إذ لا حاجة إلى هذه الأقوال فإذا أراد بالحاصل في الحيز المتحيز أصالة أو تبعًا ولم يعين بالحيز أمرًا وجوديًّا منفصلاً عنه لم يسلم له منازعه أن العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلاً في الحيز وما لا يكون حاصلاً فيه لا بمعنى أن العقل يعلم جواز ذلك في الخارج كما تقدم

ولا يعني أن العقل الصريح لا يعلم امتناع ذلك بل نقول العقل الصريح يعلم امتناع ذلك مما صرح ذوو العقول الصريحة من أئمة الإسلام وعلمائهم بأن العقل يمنع ذلك ولم يعرض على ذوي عقل صريح هذا إلا أنكره ونفاه إذا فهم حقيقة المعنى وأما من لم ينكر عقله ذلك فلأنه لم يعرضه على العقل الصريح فإن الصريح هو المحض الخالص الذي لا يشوبه هوى ولا جهل فكثير من الناس يسمع هذه الألفاظ المتداولة مثل الحيز والمتحيز والجسم والجوهر والعرض والصفات ونحو ذلك وهي فيها من الاحتمال والاشتراك ما يوجب تنازع العقلاء فيها فيكون كثير من النظر في مسماها ليس بعقل صريح خالص من الاشتباه والاشتراك ومن الناس من أَلِفَ قولاً واعتاده وتقلده عن بعض المعظَّمين في قلبه مثل تقلده أن الباري ليس في جهة أو أنه ليس بمتحيز أو ليس بجسم ولا جوهر أو هو جسم أو جوهر فيكون هذا التقليد مانعًا له من أن يكون عقله صريحًا كما قال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ ن

َتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ {170} [البقرة 170] وقد قال تعالى وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ {116} [الأنعام 116] وقال تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً {44} [الفرقان 44] فالعقل الصريح قليل في بني آدم ولكن علامته متابعة ما جاء به الرسل عن الله تعالى فإن العقل الصريح لا يخالف ذلك قط بل لو وَحَّدَه لوجد الإيمان ولهذا قال أهل النار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} [الملك 10] فأخبروا أنه أي الأمرين وجد منهم العذاب وقد قال تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {46} [الحج 46]

وأعظم الناس عقلاً وأعظمهم إيمانًا ويقينًا بما جاءت به الرسل وهم أعظم الناس علمًا كما قال تعالى وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {6} [سبأ 6] وأن العقل الصريح يوجب الاجتماع فإن الحق لا يختلف ولا يتناقض ولهذا كان ما جاء من عند الله كذلك كما في قوله كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ [الزمر 23] وقال في خلافه وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {82} [النساء 82] وقال إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ {8} يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ {9} [الذاريات 8- 9] وقد قال تعالى تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ {14} [الحشر 14] فَبَيَّنَ سُبْحَانَه وتعالى أن تشتُّتهم بسبب عدم العقل ومعلوم أن هؤلاء المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم من أعظم الناس تفرقًا واختلافًا ولهؤلاء في معنى الجسم والجوهر والمتحيز والعرض وأحكامه نفيًا وإثباتًا من الاضطراب ما لا يعلمه إلا الله فأين العقل الصريح معهم ولكن معهم دعوى العقل ولكن بين دعوى صفات الكمال وبين وجودها بون عظيم فما أكثر من ادعى بنوة الله وولايته وهم من أكذب الناس وكل من خرج عن شريعة الله فلابد أن يفتري ويكذب في دعواه منهم من ادعى

النبوة والرسالة كمسيلمة والعنسي والثقفي وغيرهم ممن قال الله تعالى فيهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام 93] ومنهم من ادعى ولاية الله تعالى وأنه من أهله وخاصته كما يدعي ذلك الملاحدة من القرامطة والباطنية والرافضة والاتحادية وأمثال هؤلاء ممن

هو إما منافق وإما فاسق وإما داعٍ إلى بدعة عظيمة ونحو ذلك وكذلك فيمن يدعي العقل الصريح والمعرفة بالمعقولات ويدعي صحة النظر ومعرفة الأدلة القطعية والبراهين الموزونة بالميزان العدل وغير ذلك من هم في كثير من أمورهم أو أكثرها من أبعد الناس عن العقل والمعقول وهذا كله تسمية الشيء من العيان والصفات بغير أسمائها كما قال تعالى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ [النجم 23] وإذا كان كذلك فالمنازعون يقولون إن العقل الصريح يمنع أن يكون العقل الصريح موجودًا مع غيره ليس بداخلٍ في غيره ولا خارج أو ليس بمباين له ولا محايث أو يكون قائمًا بنفسه لا يباين القائم بنفسه بالجهة ونحو ذلك من المعاني التي يمكن التعبير عنها بعبارات متنوعة وما زال أئمة الإسلام يذكرون أن العقل يمنع وجود هذا فقول القائل هذا

قول بأن الموجود لا يكون إلا جسمًا أو قائمًا به ونحو ذلك لا يدفع ما ذكر بعد ذكرنا بعض ما تقدم من قولهم فإن أول من ابتدع في هذه الأمة وصف الموجود بعدم النهاية هو الجهم ولفظ المتحيز والجسم والحد والنهاية وتنزيه الرب سبحانه بهذه الأسماء كلها من بدع الجهمية قال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي وادعى المعارض أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من

العالمين أي من هذه الأمة وإلا فهذا النفي كان موجودًا قبل هذه الأمة في كثير من مبتدعه اليهود والنصارى وفي طائفة من المشركين والصابئين والفلاسفة لهم في ذلك قولان مشهوران قبل الإسلام قال عثمان فقال للجهم قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك منها أيها الأعجمي وتعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأنه لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له يعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره

ولا يُجَوِّزُ أحدٌ أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونَكِل علم ذلك إلى الله تعالى والمكانة أيضًا حد وهو على عرشه فوق سماواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك بِمَ نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد وتقدم ذكر هذا بتمامه وقال عبد العزيز المكي في رده على الجهمية بعد أن ذكر بيان فساد قولهم في مسألة العرش وأبطل قولهم إنه في كل مكان قال فلما شنعت مقالته قال أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء مع الشيء ولا كالشيء خارجًا عن الشيء ولا مباينًا للشيء قال يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئًا لأنه لو كان شيئًا ما خلا في القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجًا منه فلما لم يكن في قولك شيء استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجًا من الشيء فوصفت لعمري ملتبسًا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل وقال الإمام أحمد إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون

مكان فقل أليس الله كان ولا شيء معه فيقول نعم فقل له حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل وقد تقدم تمام هذا الكلام وقوله أيضًا فلما ظهرت الحجة على الجهم بما ادعى على الله أنه مع خلقه قال هو في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين منه فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماس قال لا فقلنا فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين فلم يحسن الجواب فقال بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة مَوَّهَ عليهم وقال في خطاب الجهمية وقلنا هو شيء فقال هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل من تعبدون قال نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يُعرَف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم

لا تؤمنون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلَّم موسى قالوا لم يكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم نظر أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله ولا يشعر أنهم إنما يعود قولهم إلى فرية في الله تعالى أو قال إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر إذا تبين ذلك أن يقال في الوجه الثامن كونه خارج العالم لا يخلو إما أن يستلزم كونه حاصلاً في الحيز أو لا يستلزم ذلك فإن كان ذلك لا يستلزم كونه متحيزًا أمكن أن يقال هو خارج العالم ولا يكون متحيزًا وحينئذ فالعلم بأن الموجود لا يكون إلا داخل العالم أو خارجه لا ينافيه العلم بأنه إما أن يكون حاصلاً في الحيز أو لا يكون فإن لم ينافِهِ لم يكن هذا جوابًا عن الأول بل يكون قول الأولين أن الموجود إما داخل الآخر أو خارجه صحيحًا وذلك يوجب أن يكون الباري إما داخل العالم وإما خارجه وهو مقصودهم وإن كان مع ذلك ليس بحاصلٍ في الحيز وهذا يقوله من يقول إنه فوق العرش مباين للعالم وليس بجسم

فقوله الموجود إما حاصل في الحيز وإما غير حاصل في الحيز حينئذٍ يجتمع مع قول الأولين على هذا التقدير فلا يضرهم التزامه وإن كان هذا منافيًا للأول بحيث أنه إذا قيل الموجود قد يكون حاصلاً في الحيز وقد لا يكون وما ليس في الحيز ليس بداخل في غيره ولا خارج منه كان قول من قال إن الموجود لا يكون إلا داخلاً في غيره أو خارجًا قولاً منهم بأنه لا موجود إلا حاصل في الحيز وهذا هو الذي يقوله من يقول ليس فوق العرش وليس بجسم كما يقوله المؤسس وذووه ويقوله من يقول هو فوق العرش وهو جسم وهو أيضًا يقتضي قول من قال إن الله فوق العرش بحدٍّ وعلى هذا التقدير فيكون الأئمة الذين قالوا إنه لا موجود مع غيره إلا داخل الآخر أو خارجه أو أنه على العرش يقولون بهذا وأنـ ـه كان كذلك وقد علم أن هؤلاء يقولون إن العقل الصريح يمنع وجود موجود لا داخل الآخر ولا خارجه فيكونون هؤلاء على هذا التقدير يقولون إن العقل الصريح يأبى

وجود موجود غير حاصل في الحيز على هذا التقدير والتفسير وقد صرح طوائف من أهل الكلام باللغة التي يتخاطبون بها بذلك وقالوا لا موجود إلا الجسم أو الجسم وما يقوم به وقالوا لا يعقل موجود إلا كذلك ومن ادعى وجود موجود غير ذلك فقد خالف العقل الصريح وهذا كله إذا ادعى المنازع ذلك بغير قياس على القديم والمحدث وأما تقديره بالقياس فيقال في الوجه التاسع المكان المشهور المعروف هو الأعيان المشهورة وما يقوم بها سواء قيل إن المكان هو نفس الأجسام التي يكون الشيء عليها أو فيها أو قيل إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاصق للسطح الظاهر للجسم المحوي وأما الزمان المعروف فإنه تابع للجسم سواء قيل إنه تقدير الحركة أو مقارنة حادث لحادث أو مرور الليل والنهار قال تعالى في كتابه الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] وقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة 164] ولا نزاع بين أهل الملل أن الله سبحانه كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة وأن وجوده لا يجب أن يقارن وجود هذه الأمكنة والأزمنة كما تقدم بيان ذلك لكن مع هذه الأمكنة المخلوقة الموجودة يقدر الذهن لها أحيازًا حاوية لها ويقدر ذلك مع عدم هذه الأمكنة

وهذا معنى قولهم الحيز وتقدير المكان وكذلك الذهن يقدر أن هذه الأزمنة لها دهر يحيط بها ويقدر فيه تعاقبًا كتعاقب الأزمنة وتقدير هذا الدهر مع عدم هذه الأزمنة وليس الغرض هنا الكلام بأن هذا الدهر والحيز هل هو وجودي كما يقوله بعض الناس أو هو عدمي لا وجود له في غير الذهن كما يقوله الجمهور وإنما الغرض ذكر مقايسة أحدهما بالآخر وقد علم أنه لابد من وجود واجب وأن هذا لا يمكن النزاع فيه وذلك هو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ولا ريب أنه لم يزل موجودًا وأنه يمتنع عدمه فإن وجوب الوجود ينافي جواز العدم فضلاً عن وقوعه ولا نزاع بين من يقول بحدوث العالم أو تقدمه ووجوبه عنه في أنَّ العالم مفتقر إليه محتاج إليه وأنه متقدم عليه بالمرتبة والغلبة والذات وهؤلاء أيضًا قد يقولون العالم محدث ويعنون حدوثه وجوده بالرب ووجوبه به وافتقاره إليه لا يشترطون في المحدث أن يكون معدومًا ثم يوجد والمعروف في اللغة ما هو عُرْفُ أهل الكلام وغيرهم أن المحدث ما كان بعد أن لم يكن بل المحدث في اللغة أخص من المحدث عند أهل الكلام فإن المحدث والحدث يقابل القديم والمتقدم

والقديم في اللغة ما كان متقدماً على غيره ولو كان مخلوقاً كما قال تعالى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} [يس 39] وقال وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11} [الأحقاف 11] وقال قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ {95} [يوسف 95] وقال الخليل عليه السلام أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ {76} [الشعراء 75-76] والأقدم أبلغ من القديم والقديم فعيل من قدم يقدم ومنه قولهم أَحْدَثيّ فيما قدم وما حدث وقد زعم بعض أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم أن القديم حقيقة فيما لم يسبقه عدمٌ وهو الله وهو مجاز فيما تقدم على غيره مع كونه مخلوقاً وقال قوم لئن حرم أن الله لا يجوز أن يسمى قديماً لأن ذلك لم يرد به الشرع فأسماء الله شرعية والصواب أن القديم ما تقدم على غيره في اللغة التي جاء بها القرآن وأما كونه كان معدوماً أو لم يكن معدوماً فهذا لا يشترط في تسميته قديماً والله أحق أن يكون قديماً لأنه متقدم على كل شيء لكن لما كان لفظ القديم فيه نواحٍ

لا تدل مطلقة إلا على المتقدم على غيره كان اسم الأوَّل أحسن منه فجاء في أسمائه الحسنى التي في الكتاب والسنة أنه الأول وفرق بين الأسماء التي يُدعَى بها وبينما يُخبر به من الألفاظ لأجل الحاجة إلى بيان معانيها كما هو مذكور في غير هذا الموضع فصار المتكلمون الذي يقولون إن القديم هو الله فقط وأن تسمية غيره به مجاز يجعلون القديم الذي لم يكن معدوماً ولم يزل موجوداً وجعلوا المحدث ماكان معدوماً ثم وجد وقالـ وا إن الله هو القديم وما سواه محدث وسبق العدم داخل في معنى المحدث عندهم ولا ريب أن من قال إن العالم لم يزل موجوداً يقول إنه قديم ولا ريب أن الله سبحانه قديم سواء فسر القديم بما لم يسبقه عدمه أو فسر القديم بأنه

متقدم على غيره بل هو متقدم على كل شيء إذ هو الأول الذي ليس كمثله شيء وأما الحديث ففي اللغة لا يكون إلا ما حدث بعد أن لم يكن وهو عند أهل اللغة مقابل للقديم ولهذا يراد به المتجدد القريب الزمان كما يقال تمر قديم وتمر حديث لكن هؤلاء سموا العالم محدثاً باعتبار تقدم الباري عليه وإن لم يكن ذلك على محض اللغة ولهذا لم يوجد في كلام سلف الأمة وأئمتها لفظ حدوث العالم لأن هذا اللفظ يقتضي التجدد المنافي للتقدم الإضافي بل يقولون كما قال الله إنه مخلوق ونحو ذلك مـ ما أخبرت به الرسل وإن كان يوصف بالقدم الإضافي كما في العرجون القديم إذا عرف ذلك فقولُ القائل الموجود إما أن يكون قديماً أو محدثاً إذ لا يخلو عن القدم والحدوث ينبغي أن يعرف على هذه الاصطلاحات فمن جعل القديم ما لم يسبقه عدم وما سوى ذلك فهو محدث يقول الموجود إما أن يكون بعد

عدمه أو يكون موجوداً لم يزل وهذا تقسيم حاصر وعلى هذا فالقِدم له وجهان أحدهما ذاتي للموصوف وهو يعود إلى كونه أزليًّا وهو كونه موجوداً لم يزل سواء قدر وجود غيره أو لم يقدر والثاني أن يكون قدمه باعتبار تقدمه على غيره وذلك معنى كونه الأول فإن اسم الأول فيه معنى للإضافة إلى غيره كما في المتقدم على غيره بحيث لو لم يفرض وجود غيره لم يعقل كونه أولاً أو آخراً كما لم يفهم كونه متقدماً أو سابقاً فإذا قيل الموجود إما أن يكون قديماً أو محدثاً فهو بالمعنى الذاتي إما أن يكون أزليًّا أو لا يكون وبالمعنى الثاني إما أن يكون قبل غيره أو لا يكون وكونه قبل غيره له وجوه قد تقدم ذكرها ومن قال بقدم العالم يقول هو قبل العالم بوجه مع أنهما أزليان وكنوه أزليًّا معناه أنه لم يزل موجوداً وهذا الأزلي الدايم الباقي يقدر العقل معه دهوراّ متعاقبة شيئاً بعد شيء لا ابتداءَ لها كما لا ابتداءَ له هذا مع تقدير أنه لا وجود للزمان المعروف لكن قد تقدم أن هذا الدهر المقدر لا وجود له إلا في الذهن عند أكثر الناس ومنهم من يجعل وجوده خارجيًّا وكذلك القديم بالمعنى الثاني فإن المتقدم على غيره يعقل تقدمه عليه مع عدم الليل والنهار والزمان المعروف والذهن يقدِّر بينهما دهوراً متعاقبة كنحو ما يقدره مقارناً لوجود الأزل وهكذا يوجد في اسمه الكبير والعظيم والعلي والظاهر

ونحوه من أسماء الله المتعلقة بالمكان فإنه هو سبحانه في نفسه قائم بنفسه متميز بحقيقته وهو في نفسه كبير عظيم سواء كان غيره موجوداً أو لم يكن لكن العقل يقدر معه أحيازاً خالية لا نهاية لها وهذه تقديرات ذهنية لا وجود لها في الخارج عند عامة العقلاء ومنهم من يزعم أنها وجودية وهي تقدير المكان وهذه المباينة والامتياز وكونه بحيث يشار إليه أمر ثابت له سواء كان غيره موجوداً أو لم يكن ثم إذا وجد غيره فهو أيضاً مباين له منفصل عنه فمباينته تابعة لوجوده لا يكون موجوداً إلا بحقيقته التي يباين بها غيره وهو العظيم الكبير ولا يكون واجب الوجود إلا بوجوب هذه المباينة له لاختصاصه بحقيقته التي تستلزم مباينته لغيره وهو الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق وهو الكبير العظيم وكما أن وجوده بنفسه يقتضي أزليته فوجوده بنفسه يقتضي عظمته وبينونته التي هي أعظم من كل عظمة وبينونة وأن يكون أحداً صمداً لا يخرج منه شيء فيكون والداً ولا يخرج من شيء فيكون ولداً إذا حقيقته مباينة لكل شيء فإنه كما أن وجوبه بنفسه ينافي عدمه فلا يكون محدثاً موجوداً بعد عدمه لأنه حينئذ يكون مفتقراً إلى غيره فلا يكون وجوده بنفسه ينافي تعلقه بغيره وملابسته له بحيث يكون محتاجاً إلى مماسته ومخالطته ونحو

ذلك فإن ذلك ينافي وجوبه بنفسه بل هو الغني مطلقاً الصمد مطلقاً فيكون مبايناً لغيره لا يحتاج إليه ولا يتعلق به بوجه من الوجوه كما لا يجوز عليه العدم والحدوث بوجه من الوجوه وهذه المباينة لها وجهان أحدهما ذاتي للموصوف وهو يعود إلى كونه موجوداً ووجوبها يعود إلى كونه واجب الوجود صمداً والثاني أن تكون مباينته باعتبار انفصاله عن غيره إذا وجد وذلك معنى كونه الظاهر والأعلى والظاهر في المباينة كالأول في المتقدم قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء فقول القائل لا يكون الموجود إلا مبايناً أو محايثاُ كقوله لا يُعقل موجود إلا قديماً أو محدثاً بالاعتبارين الذاتي والإضافي فإنه إن أراد بالقديم ما لم يسبقه عدم والمحدث ما سبقه عدم فالمباين هو القائم بنفسه والمحايث ما لا يقوم بنفسه وذلك في الموضعين تابع لوجوده ووجوب وجوده وغن أراد بالقديم ما تقدم على غيره وبالمحدث ما تقدمه غيره فالمباين ما باين غيره وقام بنفسه والمحايث ماكان قيامه

بغيره لا يباينه وقول القائل إما أن يكون داخل العالم أو خارجه كقول القائل إما أن يكون مع العالم أو قبله فإن محايثته للعالم في المكان ومجامعته للعالم في الحيز كمقارنته للعالم في الزمان ومجامعته له فيه وهو إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً له وإما أن يكون مقارناً للعالم أو متقدماً عليه وكذلك كل موجود مع وجود غيره إما أن يكون قبله أو لا يكون وإذا لم يكن قبله فإما أن يكون معه أو بعده وإما أن يكون مبايناً له فإما أن يكون محلاًّ له أو حالاًّ فيه والحجة التي حكاها المنازع لم يحرِّرها تحريراً يظهر فيه التماثل فإنه قال لا نعقل موجوداً خالياً عن القدم أو الحدوث فكذلك لا نعقل موجوداً ليس في العالم ولا خارج العالم ولا في شيء من جهاته الست وكان تحرير التماثل أن يقال لا يُعقل موجودان إلا أن يكون أحدهما متقدماً على الآخر أو هما متقارنان فكذلك لا يعقل موجودان إلا أن يكون أحدهما خارجاً عن الآخر بائناً منه أو يكونا متحايثين فيكون أحدهما داخلاً في الآخر أو

يقال لا يُعقل موجود خالٍ عن القدم أو الحدوث فكذلك لا يعقل موجود خال عن المباينة والمحايثة ونحو ذلك ما يظهر به تماثل التباين ومما يوضح ذلك أن من قال العالم قديم والباري متقدم عليه بالذات والغلبة وغير ذلك وهو محدث باعتبار تقدمه عليه يمكنه أن يقول أيضاً إن الباري فوق العالم بالذات والغلبة والرتبة وغير ذلك وهو تحته باعتبار عُلوَِه عليه ومن قال إنه متقدم عليه تقدماً حقيقيًّا بحيث يقدر الذهن بين وجوده ووجود العالم أزمنة لا نهاية لها كما يقدر ذلك في وجوده مفرداً وإن لم يكن لذلك وجود يقول إنه ظاهر عالٍ على العالم ظهوراً وعلوًّا حقيقيًّا بحيث يقدر الذهن بينه وبين العالم أحيازًا خالية كما يقدر ذلك في وجوده ووجود العالم وإذا كان ذلك تقديراً لما لا وجود له في الخارج فمن جعل علوه على العالم ليس إلا بالرتبة والقدرة ونحوهما فهو شبيه بمن جعل تقدمه على العالم ليس إلا بالرتبة والتوليد

ونحوهما وهذا في الحقيقة إنكار لكونه الأول وإثبات لمقارنة العالم له في الزمان وذلك إنكار لكونه هو الظاهر وإثبات لمقارنة العالم له في المكان وكلا القولين يعود إلى تعطيل الصانع في الحقيقة وأنه ما ثَمَّ غير هذا العالم ولهذا كان الاتحادية وغيرهم من هؤلاء يصرحون بذلك ويقولون إن العالم هو حقيقته وهويته وهذا في الحقيقة قول المعطلة للصانع كما أظهره فرعون ولهذا يعترف أئمتهم بأنهم على قول فرعون وكنت قد ذكرت أنه يلزمهم قول فرعون لبعض من له خبرة وصدق حتى حدثني عن إمام من أئمتهم أنه قال له ونحن على قول فرعون والله سبحانه قبل الأزمنة وفوق الأمكنة ولكن الذهن يقدر تقدمه بدهر وتقدم فوقيته بحيز كما تقدم ذكره وهما أمران ذهنيان مقدران لا وجود لهما في الخارج عند جمهور الناس لكن بين النوعين فرق لابد منه وهو أن الدهر المقدر والزمان الموجود هو يقتضي شيئًا بعد شيء لا يجتمع أوله وآخره في زمان واحد

ولهذا يمكن ألا يكون له نهاية في وجوده كالزمان فإن أهل الجنة ونحوهم لا نهاية لوجودهم وأما الحيز المقدر والمكان الموجود فإنه موجود في وقت واحد لا يوجد شيئًا بعد شيء فلابد له من حد وحقيقة ولا يمكن وجود مكان لا نهاية له ولا جسم لا نهاية له فلهذا كان الفرق بين تقدمه على العالم ومباينته له أنه في تقدمه على ما يتقدم عليه من خلقه يمكن فرض أزمنة لا نهاية لها وأما مباينته لما يباينه من خلقه فلا يمكن أن يفرض بينهما أمكنة لا نهاية لها ولهذا لم يكن لابتداء وجوده ولا لدوام بقائه حد ولا نهاية ولا غاية ولا يقال مثل ذلك في عظمة ذاته وقدره بل يقال لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً {110} [طه 110] وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر 67] ونحو ذلك ولهذا كان الجهم وأبو الهذيل وهما إماما الجهمية وغيرهما لما قاسوا النهاية في الذات والمكان على النهاية في الوجود والزمان عدُّوا حكم هذا إلى حكم هذا وحكم هذا إلى

حكم هذا فقال بأن المخلوق تثبت له النهايتان جميعًا وأثبتوها فـ الانتهاء فقال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء الحركات كلها وقالوا بأن الخالق تعالى لا تثبت له النهايتان جميعاً فكما لا نهاية لابتداء وجوده وانتهائه فلا يكون لذاته نهاية ثم تفرَّعت بهم وبأصحابهم المقالات كما تقدم نقل المقالات السبع لهم هل يقال إنه لا يتناهى وليس بجسم أو هو جسم أو غير ذلك من الأقوال التي تقدمت وقد تقدم ذكر عثمان بن سعيد أن أول من قال بعدم الحد

والنهاية وهو الجهم ولا خلاف أنه أول من قال بفناء الجنة والنار وأعظم من هؤلاء ضلالاً المتفلسفة الصابئة الذين يقولون بعدم النهاية للعالم ابتداءً وانتهاءً كالصانع ثم يثبتون النهاية لذات العالم دون الصانع فسوَّوه بالخالق في عدم النهاية ابتداءً وفرقوا بينهما في الذات ثم هؤلاء الجهمية الذين أثبتوا النهاية للعالم ابتداءً وانتهاءً وتكلموا في الفناء كما تكلموا في الحدوث ونفوا عن الباري النهايتين يوضح ذلك الوجه العاشر وهو أن يقال قد تبين تماثل المكان والزمان وما يقدر بهما في لزومهما للموجود أو عدم اللزوم وفي انقسام الموجود إلى ما ذكر من القسمين في النوعين جميعًا سواء قسّم الموجود باعتبار ذاته أو باعتبار إضافته إلى القسم الآخر فإذا قيل الموجود إما أن يكون قائمًا بنفسه أو قائمًا بغيره

أو قيل إما أن يكون مباينًا أو محايثًا وإذا قيل إما أن يكون مباينًا أو لا مباينًا ولا محايثًا فهو كما لو قيل إما أن يكون قديمًا أو محدثًا أو لا قديمًا ولا محدثًا وهذه القسمة ذهنية والقسم الثالث فيها ممتنع في الخارج بخلاف القسم الأول ولو قيل إما أن يكون حاصلاً في المكان أو لا يكون فهو كما لو قيل إما أن يكون في الزمان أو لا يكون وهي تسمية صحيحة في الخارج إذا لم يرد بالمكان الأجسام أو صفاتها وبالزمان مقدار حركاتها وما يشبه ذلك فإن نفس أجسام العالم ليست في مكان بهذا الاعتبار ولا هي أيضًا في زمان وكذلك الزمان ليس في زمان آخر وإذا قيل إما أن يكون حاصلاً في الحيز أو لا يكون فهو كما لو قيل إما أن يكون حاصلاً في الدهر أو لا يكون والمراد بالدهر ما يقدر الذهن وجود أزمنة فيه ومعلوم أنه ما من موجود إلا والذهن يقدر تعاقب أزمنة مقارنة فإذا كان وجوده إلى غير غاية وإن لم يكن ذلك موجودًا وكذلك ما من موجود إلا والذهن يقدر معه أحيازًا خالية يفرض فيها أمكنة لا نهاية لها وهذا أيضًا لا وجود له في الخارج وإنما الموجود في الخارج دوام الحق وبقاؤه وللناس نزاع في الباقي هل هو باقٍ ببقاء أو لا وكذلك

حده وحقيقته التي بها بان وامتاز فلا موجود قبل العالم إلا الله بما هو عليه من صفاته وقد ذهب طوائف من أهل السنة والمعرفة إلى أن الدهر من أسماء الله على ظاهر الحديث المروي في ذلك وقالوا معناه الباقي الدائم الأزلي وذكر أنه روي يا دهر يا ديهور يا ديهار وتسميته قديمّا

وأوّلاً مثل تسميته عليًّا وظاهرًا وكونه دهرًا بمعنى تقدُّمه مثل كونه محلاًّ للصفات بمعنى موصوف بها فهو سبحانه الغني بقدمه وقيامه بنفسه عن غيره من زمان ومكان وغيرهما وإذا قيل الموجود إما أن يكون متقدمًا على غيره أو محدثًا بعده فهو كما لو قيل الموجود إما أن يكون عاليًا على غيره بائنًا عنه أو يكون داخلاً فيه محايثًا له قائمًا به فالمتقدم على غيره مستغنٍ كاستغناء القائم بنفسه عن القائم بغيره والمحدث بعد العدم مستلزم لزمانٍ أو تقدير مكانٍ يكون هو بعده والقائم بغيره مستلزم لمكانِ محل هو فيه والقديم المطلق مستغنٍ عن الزمان والقائم بنفسه مستغنٍ عن المكان والمحدث بعد غيره مقارن للزمان المفتقر بمقارنة حادث لحادث والقائم بغيره مفتقر إلى المكان والمحل وهو سبحانه الأول فليس قبله شيء بل هو قبل الأزمنة وما فيها وهو الظاهر فليس فوقه شيء بل هو فوق الأمكنة وما فيها ومن قال هو في الأمكنة المخلوقة فهو بمنزلة من قال ليس ذاته قبل الأزمنة وذلك لا تنفصل ذاته عنها ولا تكون ذاته فوقها فهو بمنزلة من قال هو مع الأزمنة المخلوقة مقارن لها لا تكون ذاته قبلها ولا يتقدم عليه والأول جحود لكونه الظاهر فوقها وهذا جحود لكونه الأول قبلها

ومن قال ليس في الأمكنة ولا خارجًا عنها فهو كمن قال ليس مقارنًا للأزمنة ولا متقدمًا عليها وكل من هذين المقالين من مقالات الجهمية لكن الأولى أقرب إلى العقل وهي قولهم في الابتداء يقولون إنه في كل مكان فيجعلونه بمنزلة الحال فيها المحتاج إليها هو نظير قول من قال مقارن للأزمنة المحدثة فيكون هؤلاء قد جعلوه داخلاً في المخلوقات والمحدثات بل زادوا حتى جعل الاتحادية منهم نفسَ وجود المخلوقات فهؤلاء أقروا به ثم جعلوه هو المخلوق أو بعض المخلوق وإذا قال هو في العالم لا مباين له ولا مماس له كان كقولهم هو مع العالم لا متقدم عليه ولا مقارن له وأما الجهمية في الانتهاء فإنهم عطَّلوه بالكلية ولم يثبتوا له وجود المخلوقات ولا غيرها حيث قالوا لا هو داخل العالم ولا خارجه كما لو قالوا لا هو مع العالم ولا قبله ليس بين هذا وبين هذا فرق في بديهة العقل ومن أجاب عن هذا بأن العقل الصريح يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون فهو بمنزلة من قال العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون

حاصلاً في الذهن وإلى ما يكون وإذا كان هذا لا يمنع ما يعلمه العقل بفطرته من أنه إما أن يكون وجوده مقارنًا للعالم أو متقدمًا عليه فكذلك ما ذكره في الحيز لا يمنع ما يعلمه العقل من فطرته من أنه إما أن يكون وجوده داخل العالم محايثّا له أو خارجًا عنه مباينًا له وكما لا يُعقل موجود إلا قديم أو محدث فلا يعقل إلا قائمًا بنفسه أو بغيره وكما أن القديم ينقسم إلى القديم المطلق الذي لا يجوز عدمه وإلى القديم المقيد وهو المسبوق بالعدم أو الممكن عدمه فالقائم بنفسه ينقسم إلى المحتوم المطلق وهو الذي لا يجوز عدمه ولا يحتاج إلى غيره بحال وإلى القائم المقيد وهو المحتاج إلى غيره والذي يقوم في وقت ويعدم في وقت وكما أن المخلوق القديم قديمٌ مقيدٌ إذا كان متقدمًا على غيره فالخالق القديم أولى بأن يكون متقدمًا على غيره ويكون هو الأول الذي ليس قبله شيء الكائن قبل كل شيء فالمخلوق القائم بنفسه قائمًا مقيدًا لحاجته إلى غيره إذا كان مباينًا لغيره فالخالق للعالم قائم بنفسه قيامًا مطلقًا أولى أن يكون مباينًا لغيره وأن يكون هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء والجهمية من المتكلمين يقولون هو القديم والعالم

محدث مع قولهم إنه في كل مكان أو أنه مع ذلك لا مباين للعالم ولا مماس له أو قولهـ م إنه لا داخل العالم ولا خارجه وأما الجهمية من المتفلسفة والصابئة فيقولون مع ذلك إن العالم أيضًا قديم معه مقارن له في الوجود مقارنة المعلول لعلته التامة والمتولّد لمولِّده كتولُّد الصوت عن الحركة والشعاع عن الشمس ومع هذا يقولون إن الباري تعالى متقدم عليه بالغلبة وبالذات أو بالطبع وبالشرف وقد يقولون العالم محدث بمعنى افتقار إلى الصانع وعند التحقيق فلا يثبتون له تقدمًا حقيقيًّا كما أنهم وجهمية المتكلمين لا يُثبتون له عليه علوًّا حقيقيًّا ومباينة معقولة وذلك أن هؤلاء قالوا التقدم والتأخر خمسة أنواع الأول التقدم بالعلية كتقدُّم السراج على ضوء السراج وتقدم الشمس على شعاعها فإن العقل يدرك تقدم وجود السراج على ضوء السراج وإن امتنع تأخُّر أحدهما عن الآخر في الزمان

الثاني التقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط مثل تقدم الواحد على الاثنين والفرق بينه وبين ما قبله بعد اشتراكهما فالمتأخر لا يوجد إلا بعد وجود المتقدم إذ العلة تستلزم وجود المعلول والشرط لا يستلزم وجود المشروط الثالث التقدم بالشرف والرتبة كتقديم العالم والقادر على الجاهل والعاجز الرابع التقدم بالمكان كتقدم الإمام على المأموم وخامسها التقدم بالزمان كتقدم الشيخ على الشاب ثم إنهم لما زعموا حصر التقدم في هذه الوجوه قالوا نحن نقول بتقدم الباري على العالم بالوجوه الثلاثة الأُوَل والتقدم بالمكان ليس مما يتعلق بما نحن فيه وأما التقدم بالزمان فممتنع ولو كان ممكنًا لكان مبطلاً لقول منازعنا وأما كونه

ممتنعًا فلأن تقدم الباري على العالم لو كان بالزمان لزم أن يكون الباري زمانًا والزمان زمانيًّا أما الأول فلأن الزمان من لواحق التغيُّر وذلك ممتنع على الباري وأما الثاني فلامتناع التسلسل وأما كونه مبطلاً لقول منازعنا فلأنه إذا كان تقدم الباري على العالم زمانيًّا مع أن الله سبحانه لا بداية لتقدمه على العالم لزم أن لا يكون للزمان بداية فيكون الزمان قديمًا والزمان من العالم فلا يكون العالم محدثًا كما يقوله منازعنا وقد يستدلون بهذه الحجة على امتناع كون العالم مسبوقًا بالعدم بأن تقدم العدم عليه لا يصحّ أن يكون بالوجوه الأربعة ولو كان بالزمان لزم قدم الزمان فهذا الكلام الذي قالوه قد موَّهوا به على الناس حتى اضطرب هنا كثير من أذكياء العالم وقد أجاب عنه مَن أجاب مِن متكلمي الإسلام بإثبات تقدم آخر خارج هذه الأقسام الخمسة وهو كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض وتقدم الباري على الحوادث اليومية وقد يسمي بعضهم كالشهرستاني وغيره هذا التقدمَ

بالذات ولاريب أن تقدم بعض أجزاء الزمان على بعض ليس بالعلّية ولا بالشرط ولا بالشرف لامتناع تقارب أجزاء الزمان مع تقارب المتقدم والمتأخر بهذه الوجوه ولأن أجزاء الزمان متماثلة وليس أيضًا بالزمان لأنه يلزم أن يكون للزمان زمان وأن يكون الباري زمانيًّا قالوا وإذا كان قد عُقِل تقدم الأمس على اليوم من غير حاجة إلى زمان آخر فكذلك يعقل تقدم العدم على الوجود وتقدم الباري على الوجود قالوا وانتم لا تقولون بهذا التقدم لا تقولون إنه مسبوق موجود غيره أو معدوم نفسه بهذا النوع من السبق والتقدم وقد يقال هذا الجواب

اتفاق ملاحدة الفلاسفة وملاحدة المتكلمين على نفي علو الرب الحقيقي

وإنْ كان فيه من إبطال كلام أولئك ما فيه فلم يجيبوا عن الشبهة في الجواب بل هذه معارضة ومن أعطى النظرَ حقَّه علم أن هؤلاء الملاحدة قلبوا الحقيقة ونفوا عن الرب التقدم الحقيقي ومنعوا إمكان التقدم الحقيقي بحال كما أنهم وملاحدة المتكلمين في العلو قلبوا الحقيقة فنفوا عن الرب العلوَّ الحقيقي والمباينة الحقيقية بل منعوا إمكان العلو الحقيقي والمباينة الحقيقية بل منعوا أو موَّهوا بما في لفظ المكان من الاشتراك وبيان ذلك أن يقال لا ريب أنه يقال إن التقدم والتأخر والمقارنة من الأمور التي فيها إضافة كما يقال هذا إما أن يكون متقدمًا على هذا أو متأخرًا عنه أو مقارنًا له ويقال إما أن يكون معه أو قبله أو بعده وإما أن يكون معه أو أمامه أو خلفه فلفظ مع هي بمعنى المقارنة والمصاحبة وهي ظرف يقارن ظرف الزمان تارة وظرف المكان أخرى فإذا قيل هو قبله أو بعده أو معه كانت هنا ظرف زمان وإذا قيل أمامه أو وراءه أو معه كانت ظرف مكان والتقدم والتأخر قسيمان للمقارنة التي يعبر عنها بلفظ مع فيقال هو متقدم عليه أو متأخر عنه أو هو معه وإذا كان

كذلك فالتقدم والتأخر والمقارنة في الأصل إنما هي بالزمان والمكان كما أنه المستعمل في ذلك إذا قلَّب الزمان والمكان وهي الألفاظ التي تسمى ظروف الزمان والمكان والله الذي علّم البيان علم الإنسانة العبارة عن المعاني التي يعقلها قلبه فالمعقول لبني آدم من ذلك هو المعبَّر عنه بألفاظ الزمان والمكان فأما التقدم والتأخر بالمكان كقول سمرة بن جندب أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا رواه الترمذي وكقول أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه الذي في الصحيحين لما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه الحديث في صلاة

الخوف ذكر الصف المقدم والصف المؤخر وهكذا لفظ الأول والآخر يستعمل في المكان كما يُستعمل في الزمان كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ونظائر هذا في الاستعمال كثير ومنه قوله تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ {97} يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود 97-98] مع أن تقدم فرعون وتقدم الإمام هو بالمكان والزمان جميعًا فإذًا فعلُهُ قبل فِعْلِهم وهو إمامهم

ثم التقدم بالرتبة والشرف هو من هذا فإن المكانة والرتبة مأخوذة من المكان لأن صاحب الرتبة المتقدمة يكون متقدمًا في المكان والمكانة على صاحب الرتبة المتأخرة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم والتقدم بالرتبة كالعلو بالرتبة والدرجة والمكانة وأصله من المكان وقد تكلمنا على هذا مبسوطًا في غير هذا الموضع وسنوضحه إن شاء الله إذا تكلمنا على ما تأوَّل به ما جاء في القرآن من وصفه سبحانه بالعلو فإن إلحاد هؤلاء في أسمائه وآياته التي وُصف فيها بالعلو والظهور والرفعة تشيه إلحاد هؤلاء في أسمائه وآياته التي

وصف فيها بالأولية والتقدم والنوع الثاني التقدم والسبق والأولية بالزمان كقوله سبحانه وتعالى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} [يس 39] وقوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11} [الأحقاف 11] وقول إبراهيم عليه السلام أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ {76} فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ {77} [الشعراء 75-77] وقوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ {24} [الحجر 24] يتناول هذا وقد فسر أيضًا بالاستقدام والاستيخار في صفوف الصلاة ومنه قوله تعالى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس 12] فإن الذي قدموه هو ما فعلوه قبل موتهم وآثارهم ما أخروه وقد فسر أيضًا بالمكان وفسرت آثارهم بآثار خطاهم في المسجد والتقدم والتأخر والسبق والأولية في هذا النوع أشهر وقد يقال إنما استُعمل في المكان لتضمُّنه التقدم في الزمان أيضًا كما استعمل لفظ الأول والآخر فإنه لا يكاد يخلو في جميع موارده عن تقدمه نوعًا من التقدم بالزمان

وأما ما ذكروه من التقدم بالعلية والشرط فهذا قد نًوزِعوا فيه وقيل لهم يمتنع في المقارنة الزمانية أن يكون أحدهما متقدمًا على الآخر بوجه من الوجوه فإن التقدم إذا كان من عوارض الزمان وهو ضد المقارنة واجتماع التقدم والتأخر مع المقارنة في شيئين لأعيانهما جمع بين الضدين فكما أنه يمتنع أن يكون أمامه ويكون معه في ظروف المكان والمكانة وموانعهما فإنه يمتنع أن يكون قبله ويكون معه في ظرف الزمان وتوابعه فمن قال إن العالم مع الله لم يصح أن يقول هو بعده ولا متأخرًا عنه ولا أن يقول إن الله قبله ولا متقدمًا عليه وهذا يختص بالكلام على ما أثبتوه من التقدم بالعلية والشرط دون الزمان وما نفوه من امتناع تقدم الله بالزمان كما نفوا أيضًا علوه بالمكان فيُجعل في ذلك فصلان

الفصل الأول ما أثبتوه من التقدم بالعلة والشرط دون الزمان وأما المتقدم بالشرط كما مثلوه من تقدم الواحد على الاثنين فإن الواحد ليس له وجود خارجي محدد عن المواد بل ليس في الخارج من الوحدان إلا ما له حقيقة تتميز بها ولكن الإنسان يتصور في ذهنه الواحد قبل الاثنين ويتكلم بلفظ الواحد قبل الاثنين وهذا ترتيب زماني محسوس ثم إذا قُدِّر اجتماع تصوره للواحد والاثنين أو اجتماع نطقه بهما فهو كاجتماع أعيانهما في الخارج كما لو اجتمع درهم ودرهمان وثلاثة دراهم ونحو ذلك فليس هناك ترتيب أصلاً وليس الدرهم متقدم على الدرهمين ولا الدرهمان متقدمان على الثلاثة وقول القائل لا توجد الدرهمان إلا بوجود الدرهم أو لا يوجد الاثنان إلا بوجود الواحد يقال له أما الدرهمان الموجودان في الخارج فهما مستغنيان في وجودهما عن الدرهم المنفرد عنهما لا يشترط وجودُهما وجودَه بحال ولكن هما متوقفان على وجود أنفسهما كتوقف الدرهم الواحد على وجود نفسه فليس بأن يجعل تقدمه عليهما لكون الاثنين واحدًا وواحدًا بأولى من أن يجعل متقدمًا على نفسه لأن الواحد واحد وكل هذا غلط وهذا الترتيب من جنس التركيب

والافتقار الذي يذكرونه في افتقار الشيء إلى صفته وبعضه وهو من جنس افتقاره إلى نفسه فيكون وجوده لا يكون إلا بصفته التي يمتنع أن يكون ذاته بدونها مثل كون وجوده لا يكون إلا بوجوده وهو مثل كونه واجبًا بنفسه ولا ريب أن الذهن قد يغلط فيظن في الواجب بنفسه أنه علة نفسه وأن هناك

تقدمًا وتأخرًا وهو غلط بل هو هو فتوقُّف الاثنين على الواحد وتوقف الثلاثة على الاثنين هو توقف الجملة على بعض أفرادها وهو كتوقف الشيء على نفسه كتوقف الاثنين على الاثنين والثلاثة على الثلاثة وإذا لم تكن الجملة إلا هذه الأفراد وهذا التأليف لم يكن المتوقف غير المتوقف عليه ولم يكن هناك شيء متقدمًا على شيء بوجه من الوجوه في الخارج إلا إذا وجد أحدهما قبل الآخر فيكون الترتيب زمانيًّا وهو حق ولكن الذهن قد يدرك المفرد قبل الجملة والبسيط قبل المركب والواحد قبل العدد وننطق بذلك فيكون الترتيب في علمنا ونطقنا لا في الحقيقة نفسها فهذا هو التقدم بالشرط الذي يجعلونه في الأعداد والمقادير والمركبات ونحو ذلك وكذلك هو في الصفات والكيفيات فإنه إذا قيل العلم والقدرة مشروطة بالحياة والشرط متقدم على المشروط فليس في الموصوف ترتيب بحال بل الحياة والعلم والقدرة موجودة معًا بكل وجه لكن العلم يستلزم وجود الحياة فلا يوجد إلا معها لا أنه لا يوجد إلا بعدها وإذا لم يوجد إلا معها سواء كانت قبله أو لم تكن لم يقتض ذلك أنه يجب تأخره عنها بل إذا قارنها فهو مقارن لها وإذا قدر حياة لا علم لها ثم حصل معها علم فهنا هو متأخر عنها في الزمان أيضًا ونحن لا ننازع في أن الصفات يعرض لها الترتيب الزمني كما يعرض الأعداد كما تقدم ولكن ليس هذا بواجب ومتى

انتفى هذا الترتيب لم تكن مرتبة أصلاً بل تكون متقارنة وأما الترتيب في علم الإنسان بالصفات فهذا لا ينضبط فقد يعلم الإنسان العلم ويستدل به على الحياة وقد يعلم الحياة ويستدل بها على العلم وحيث وجد ذلك الترتيب فهو ترتيب زماني وهو ترتيب في العلم بها والتعبير عنها لا في ذاتها وأما ما ذكر وهـ من التقدم بالعلية فيقال لهم ليس هذا أيضًا حقيقة وليس في المخلوق شيء واحد هو علة تامة لشيء أصلاً لكن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمراده بها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما سوى ذلك من الأسباب الموجودة فليس شيء منها بمفرده علة تامة لشيء ولكن يكون سببًا والسبب بمنزلة الشرط الذي إذا ضم إليه غيره من السباب صار المجموع علة ولكن ذلك المجموع لا يكون إلا بمشيئة الله لا يكون المجموع بعلة غير مشيئة الله قط فإذًا وصف العلية التامة لا تقوم بشيء من المخلوقات وإذا لم يكن شيء من المخلوقات علة تامة امتنع بطريق الأولى أن يكون متقدمًا بالعلية لكن يكون سببًا وهو كالشرط والشرط لا يجب تقدمه على المشروط بل قد يقارنه وقد يسبقه كما تقدم وإذا قارنه فليس هو متقدمًا عليه بوجه من الوجوه فكذلك ما يسمونه علة إنما هو في الحقيقة شرط وسبب ويكون متقدمًا عليه وإذا كان

مقارنًا لم يكن متقدمًا فلا يجتمع الضدان وذلك يظهر فيما يذكرونه من الأمثلة وأشهرها الشمس مع الشعاع والشعاع عندهم إما أن يراد به ما يقوم بذات الشمس من الضوء أو ما يقوم بالأجسام المقابلة للشمس وهو المسمى بالشعاع عندهم وهو شعاع منعكس فإذا أريد به الضوء القائم بذات الشمس فذاك صفة من صفاتها ليست متقدمة عليه بوجه من الوجوه ومن جعل تقدم الباري على العالم كتقدم ذات الشمس على صفتها فقد جعل المخلوقات مثل صفة من صفات الخالق وجعل الخالق بمنزلة المحل للمخلوقات وهذا أقبح من قول من يقول إن الباري حالّ في المخلوقات ونحن إنما قصدنا أن نبين أن قول هؤلاء أقبح من قول أولئك لكن هؤلاء مع زيادة القبح يكونون قد جعلوا الصانع محلاًّ للمخلوقات من هذا الوجه وحالاًّ فيها وإن أرادوا بالشعاع الضوء الموجود في الأجسام المقابلة للشمس من الجدران والأرض والهواء وغير ذلك فيقال هذا الشعاع لم يحدث لمجرد الشمس وليست الشمس وحدها علة مولدة له بل لابد فيه من شيئين أحدهما الشمس والثاني جسم آخر

يقابل الشمس لينعكس الشعاع عليه وإذا لم تكن الشمس علة تامة لم يـ حصل المقصود بل هي جزء العلة وهي سبب وشرط فإن الشعاع يتوقف على الشمس المستنيرة وعلى المحل الذي ينعكس عليه الشعاع وإذا كان كذلك كان توقفه على هذين توقف المشروط على شرطه فإنهم فرقوا بين التقدم بالعلة والتقدم بالطبع والشرط بأن المتقدم بالعلة يستلزم وجود المتأخر بخلاف المتقدم بالشرط وقد تقدم قولنا إنه ليس في المخلوقات شيء منفرد يستلزم وجود شيء متأخر عنه لكن مشيئته مستلزمة لمرادها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد ظهر في الشعاع الذي ضربوه مثلاً أن نفس الشمس وحدها لو قُدِّر وجودها بدون ما يقابلها لم يكن للشعاع وجود ولكن وجوده بشرط الشمس وشرط ما يقابلها فيكونان شرطين وإذا كان كل منهما شرطًا فالشرط قد يتقدم على المشروط وقد لا يتقدم عليه فلا ريب أن الجدار والأرض والهواء موجود قبل الشعاع وكذلك الشمس موجودة قبل هذا الشعاع وذلك تقدم بالزمان لكن إذا حصلت حصل الشعاع وتولد عن اجتماع هذين الأصلين له كتولُّد غيره من المتولدات عن

أصلين وكل منهما متقدم عليه ومتى ظهر هذا في شعاع الشمس ظهر أنه في شعاع السراج وغيره من النيرات إذ النار يكون لها شعاع كما يكون للشمس شعاع فهذا ما يمثلون به من المرئيات وأما ما يمثلون به من المسموعات فإنهم يمثلون بوجود الأصوات عن الحركات لوجود الطنين عن النقرة فيقال وهذا أيضًا كذلك فإن الصوت لا يولّده شيء واحد بل لا بد من شيئين من جسمين يقرع أحدهما الآخر أو يقلع عنه وهذان أصلان للصوت الذي تولد عنهما كأصلي الشعاع وهذان الأصلان وهما الجسمان المتحركان هما متقدمان عليه بالزمان فإن قيل المراد بالعلة الحركة المولدة للصوت والمقابلة المولدة للشعاع فيقال الحركة مع الصوت والمقابلة مع الشعاع إما أن يكونا متقارنين فإن كانا متقارنين في الزمان لم يكن أحدهما متقدمًا على الآخر بوجه من الوجوه ولا نسلِّم على هذا التقدير أن الحركة والمقابلة هي علة الصوت والشعاع بل علة ذلك هو الفاعل للحركة والفاعل للمقابلة وإذا كانت

المقابلة لم يفعلها واحد من الخلق والحركة لم يفعلها واحد من الخلق لم يكن للفاعل لهذا المتولد واحد من الخلق وهذا هو الصواب المقطوع به أن جميع المتولدات لا يجوز أن تكون فعلاً لفاعل واحدٍ من الخلق بل كل من الأمرين سبب فيها وهما متشاركان فيها متعاونان عليها وقد بينا أن الخلق لا يفعل فعلاً تامًّا إلا بشركة من غيره والخالق سبحانه هو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وذلك يظهر ببيان ما ذكروه من المثال فالناقر إذا نقر طشتٍ فحدث صوت فالصوت لا بد له من فعل الإنسان ومن الجسم الذي جعلت عليه النقرة فجميع ما يحدثه الإنسان من الأصوات منفصلاً عنه لا بد فيه من جسم آخر معه وأما صوته القائم ببدنه فإنه يحرك عضوين فصاعدًا من أعضائه لا يكون الصوت بحركة شيء واحد فالحركتان جميعًا هنا سبب الصوت وهو وإن كان المحركَ لأعضائه فنفسُ أعضائه والنقرة التي فيها والصلابة التي بها صارت متصوتة ليس من فعله ولا مقدورًا له بل الله هو الذي خلق ذلك له وجعله آلة له بمنزلة الآلات المنفصلة عنه فنفسُ قدرته لا تستقل بالصوت إلا بهذه الأمور الخارجة عن قدرته

فصار الصوت متولدًا عما يقدر عليه العبد وعما لا يقدر عليه العبد وكل ذلك أسباب وشروط ليس شيء منها علية تامة فقد ظهر أنه إذا قيل إن الصوت والحركة متقارنان في الزمان لم يجز أن تجعل الحركةَ علةً للصوت بل يكون الفاعل للصوت هو الفاعل للحركة أكثر ما يقال إن وجود الصوت مشروط بوجود الحركة كما تشترط الحركة في ذلك الشرك لا يجب أن يتقدم المشروط بل يجب مقارنته له فإذًا تكون الحركة والمقابلة شرطًا في الصوت والشعاع ولا يجب أن يكونا متقدمين عليه بل دعوى تقدم الحركة والمقابلة مع القول باقترانهما جمع بين الضدين وأما إن قيل إن كان الصوت والحركة ليسا متقارنين في الزمان بل الحركة قبل الصوت فعلى هذا التقدير لا يضرّ القول بتقدم الحركة على الصوت إذ المقصود أن يمتنع أن تكون الحركة متقدمة بوجه وتكون متقارنة في الزمان بل إما أن تكون متقدمة أو مقارنة للحقيقة وأما التقدم الذهني وهو إدراك أحدهما قبل الآخر أو جعل أحدهما شرطًا أو مفرداً أو بسيطًا أو نحو ذلك فهذا الترتيب الذهني لا يقتضي الترتيب

الخارجي بل هذا الترتيب الذهني بمنزلة الترتيب النطقي على ما تقدم بيانه ووجود الباري تعالى حقيقي خارجي ليس هو في مجرد الذهني وكذلك القول في مثالهم الآخر وهو تولد الحركة عن الحركة كقول القائل حركت يدي فتحرك خاتمي أو كمي فإنه من هذا الباب ليس مجرد حركة اليد علة تامة لحركة الخاتم أو الكم بل نفس وجود محل الحركة الذي هو الخاتم والكم هو شرط أو سبب في وجود الحركة فالحركة تتوقف على المحل الذي يقوم به كما تتوقف على السبب الذي يطلبها وإذا كانت هذه الحركة تتوقف على أمرين فصاعدًا فالقولُ في وجود هذه الحركة مع حركة اليد كالقول في الحركة والصوت إما أن يقال هما متقارنان في الزمان فلا يكون أحدهما علة للآخر وإن كان شرطًا مقارنًا له وإما أن

يكونا متعاقبين فيكونان متعاقبين في الزمان وإن كان سريعًا فحركة الخاتم لليد كحركة بعض اليد مع بعض مثل حركة الأصابع مع الكف أو حركة الظفر مع الأنملة وأما قولهم العقل يدرك هذا قبل هذا قيل لهم العقل يدرك الأمور على ما هي عليه وإلا كان ذلك جهلاً لا عقلاً فإن كان ذلك الشيء في نفسه مرتبًا فأدركه العقل مرتبًا وإلا كان إدراكه جهلاً ومتى كان المدرك مرتبًا بحيث يكون بعضه قبل بعض فهذا هو الترتيب الزماني والتقدم الزماني ويمتنع مع وجود هذا الترتيب الخارجي أن يكون زمانهما واحدًا ويمتنع مع كونهما غير متميزين في الزمان أن يكونا متميزين فالجمع بين الضدين ممتنع إما ترتيب وتقدم وتأخر وإما مقارنة ليس فيها تقدم وتأخر وإذا تبين ذلك ظهر أنه ليس فيما يعلمه الإنسان شيء متقدم على غيره بالعلية أو الشرط مع مقارنته له بالزمان بل المتقدم سواء سُمّي شرطًا أو علة أو غير ذلك إن كان مقارنًا في الزمان غير متقدم فيه فليس متقدمًا بحال وإذا كان متقدمًا فيه وهو متقدم في الزمان

فهو متقدم غير مقارن وإذا كان كذلك وقد قالوا إن العالم مقارن للباري لا يقدر وقت يكون فيه الباري إلا ويكون فيه العالم فقد أثبتوا مقارنة له مطلقًا ومنعوا أن يكون الباري متقدمًا عليه بوجه من الوجوه ومن المعلوم ببديهة العقل أن الفاعل للشيء لا بد وأن يكون متقدمًا عليه سواء سمي علة أو لم يسمَّ فإذا كان الفاعل لا يكون إلا متقدمًا على الفعل وعلى أصلهم يمتنع أن يكون متقدمًا عليه امتنع عندهم أن يكون رب العالمين أو خالقًا للعالم وأيضًا فكلُ ما وجبت مقارنته لغيره كان وجوده متوقفًا على وجود قرينه فيكون وجود الباري ممتنعًا إلا بوجود ما تجب مقارنته له وهو العالم فيكون الباري محتاجًا إلى العالم من هذا الوجه فإن قيل إنه علة له لا سيما إذا ثبت ذواتٌ غنية عنه فإنه يكون محتاجًا إلى غيره قطعًا كما يصرح بذلك الاتحادية منهم حيث يجعلون الباري والعالم كل منهما محتاجًا إلى الآخر ويكونون بما أوجبوه من مقارنة العالم له واحتياجه إليه قد جعلوه كفوًا له كما أنهم بما أثبتوه من تولده عنه قد جعلوه والدًا له فجعلوا الخلق ولدًا لله وكفوًا له وهو سبحانه في غير موضع من كتابه نزه نفسه عن الشريك والولد كما قال تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء

111] وقال تعالى تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً {1} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً {2} [الفرقان 1 - 2] وقد ذكر أن الشيء وحده لا يولِّد شيئًا ولا يكون علة تامة بل كلُّ ما ولَّد شيئًا فلابد له من شريك ومعين له كالشمس التي لا يتولد شعاعها إلا بها وبما يقابلها والجسم الذي لا يتولد الصوت عنه إلا بجسم آخر مماسّه وملاقيه كما أن الأعيان أيضًا من الأولاد لا تتولد إلا عن أصلين فكل مولِّدٍ فهو محتاج إلى كفوٍ يشاركه ويعاونه على التولد وهؤلاء إذا زعموا أن العالم مقارن له فقد جعلوه محتاجًا إليه من تلك الجهة وأيضًا فإذا جعلوه مولدًا له فلابد له من توليده من شيء آخر كما يقول بعضهم هي أعيان الممكنات المستغنية عنه الثابتة في العدم وكما يقول منهم من يقول بالقدماء الخمسة وأمثال ذلك مما فيه إثبات شيء غني عنه شريك له وإن كان منهم من يحيل ذلك بل محققوهم يحيلون ذلك للبدلاء لهم إذ الواحد من كل وجهٍ لا يكون علة

ولا مولدًا وهذا ضد قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فإن المعلوم بالحس والعقل أن الواحد لا يصدر عنه شيء ولا يصدر شيء ويتولد شيء إلا عن شيئين فيكون الباري محتاجًا إلى كفو وشريك وصاحبة يتولد العالم عنهما قال سبحانه وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} [الأنعام 100-101] وقال تعالى قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس 68] وهم في جعله مولِّدًا للعالم وإثباتهم لمقارنة العالم إياه هذه المقارنة التي يمتنع فيها تقدمه عليه واستقلاله بإبداعه وقد جعلوه مفتقرًا إلى بعض العالم محتاجًا إلى غيره كما تقدم من هذين الوجهين ضد ما أثبتوه من أنه واجب الوجود بنفسه وهذه عادتهم التناقض والجمع بين النفي والإثبات ومن وافقهم من المتكلمين على أنه ليس فوق العالم بل

أوجب محايثته للعالم ومقارنته له فإنه أيضًا جعله مفتقرًا إلى العالم والاتحادية تصرِّح بهذا كله ومن هذا حدثني بعض الفضلاء الضابطين عن الشيخ القاضي تقي الدين محمد القشيري عرف بابن دقيق العيد رحمه الله أنه قال لما دخل علينا الشيخ عز الدين بن عبد السلام قدس الله روحه إلى مصر سألناه عن ابن عربي فقال شيخ سوء مقبوح كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجًا وبين ما ذكره عنه من هذه الصفات فقلت لمن حدثني لم يكن بعد قد فهمت حقيقة قوله وأين هذا من القائلين بقدم العالم أولئك يثبتون عالمًا وواجبًا غيره صدر عنه وإن كان قولهم باطلاً من جهة أخرى

القول بأن الرب حال في العالم يوجب افتقاره للمخلوقات

وهذا عنده نفس العالم صورته وهويته وليس له وجود غير وجود العالم ولكن هو كما يذكر عن ابن سبعين أحد أئمة الاتحادية ومحققيهم وأذكيائهم أنه قال عن كلام ابن عربي فلسفة مخموجة وكلامه هو ادخل في الفلسفة وأبعد عن الإسلام ولا ريب أن هؤلاء من جنس الملاحدة الباطنية القرامطة وهو وهؤلاء الفلاسفة مشتركون في الضلال ومذاهب هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات من أشد المذاهب اضطرابًا وتناقضًا وقولاً لا حقيقة له فلما كان مذهبهم المقارنة التي هي في الحقيقة تعطيل الصنع والخلق والإبداع وإن كانوا يدعون أنهم يثبتون واجبًا غير العالم فهذا دعواهم وإلا ففي الحقيقة يلزمهم ألا يكون ثَمَّ واجب الوجود غير العالم وهذا حقيقة قول الاتحادية وهو الذي أظهره إمام هؤلاء فرعون فإن الاتحادية تنتحله وتعظمه والباطنية تنتحله وتعظمه وهو على مقتضى أصول الفلاسفة الصابئة المشركين اللذين هم من أعظم الناس إيمانًا بالجبت والطاغوت وليس هذا موضع تفصيل ذلك ولم يكن هذا الموضع موضع كلام في مسألة خلق الله للعالم وإبداعه إياه وإنما

المقصود تمثيل من يقول إنه في كل مكان بمن يقول إنه مقارن للوجود وأن كلا القولين في الحقيقة يوجب افتقاره إلى المخلوقات ويمنع أن يكون واجب الوجود وأن أصحاب هذه الأقوال وإن قالوا مع ذلك هو مباين للعالم وفوقه أو قالوا هو قبل العالم ومتقدم عليه فلا حقيقة لكلامهم بل قولهم صريح في معنى ذلك والتكذيب به ومن قال منهم ليس بداخل العالم ولا بخارجه فهو كمن قال لا قبل العالم ولا معه وكل من هؤلاء ينازع في أنه رب العالمين وخالقه وفي إنه إله العالم المعبود لا يثبتون حقيقة ربوبيته ولا حقيقة إلهيته بل هم مشركون به وجاحدون معطلون وإن كان جهمية المتفلسفة أشد إشراكًا وجحودًا من جهمية المتكلمين لكون هؤلاء أقرب إلى دين المرسلين الذين جاءوا بالحق المبين سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم بقدم العالم يوجب القول بقدم جميع الحوادث وذلك مخالف للمشاهدة وأنهم إذا قالوا هو علة تامة امتنع أن يحدث عنه شيء بواسطة أو بغير واسطة فإن الواسطة إذا كانت قديمة لزم قدم معلولها وإن كانت محدثة فالقول في حدوثها كالقول في حدوث ما يحدث عنها

الفصل الثاني فيما نفوه عن الرب تعالى من التقدم بالزمان وما نفوه من تقدم العدم على الوجود بالزمان وقولهم مع من وافقهم من المتكلمين ليس تقدم الرب على العالم زمانًا فنقول التقدم المعقول الحقيقي إما أن يكون بالزمان فقط أو يكون بغير الزمان أو يكون بالزمان وبغير الزمان أو لا يكون بالزمان ولا بغيره أما الأول فلا ريب أن الأقدمين من الآدميين كالآباء متقدمين على المتأخرين منهم بالزمان وإذا حقق التقدم بالزمان كان معناه أن الأولين قارنوا الزمان المتقدم على زمان هؤلاء فالتقدم والتأخر هو في الزمانين وفي أهل الزمانين لكن تقدُّم الزمان يعرف بقدم أهله كما يعرف تقدمه بتقدم أهله وتأخُّر الزمان يعرف بتأخر أهله كما يعرف تأخره بتأخر أهله إذ كل من الزمان وأهله متقارنان فتقدم أحدهما تقدم قرينه وتأخره تأخر قرينه وذلك يعرف في الأيام بطلوع الشمس وغروبها وفي الأشهر بالأهلة وفي السنين بالعدد كما في الأسابيع هذه شريعة المسلمين ولبقية الأمم في ذلك سنين أخرى منهم من يجعل الشهور عددية والسنة طبيعية كحركة الشمس وإن كانت حركة الشمس في البرج المعين

لا يرى وإنما يعلم بالحساب وهذه سنة من ليس من أهل الكتاب كالروم والفرس وغيرهم ومنهم من يجمع بين الأمرين وهذه سنة مَن بدَّل وغيَّر من أهل الكتاب كما يفعل اليهود والنصارى وقد تكلمنا على هذا مبسوطًا في غير هذا الموضع وأما الأسبوع فليس له سبب مرئي بالاتفاق وإنما سببه سمعي وهو ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقد شرع الله لأهل الكتب من المسلمين واليهود والنصارى الاجتماع في كل أسبوع لذكر الله وعبادته وفي ذلك حفظ أيام الأسبوع الذي يذكر فيه خلق الله السموات والأرض في ستة أيام وانقضاء ذلك في اليوم السابع ولهذا لا توجد أيام الأسبوع إلا في لغة من تلقى ذلك عن أهل الكتاب كالفرس أما الترك الأعراب مثل التتار ونحوهم فليس في لغتهم لهذه الأيام ذكر لأنه لا يعلم سببها بالرؤية ولا علم لهم بذلك من جهة السمع لبعدهم عن ديار العلم والإيمان وأما ما يعلم بالرؤية فقد قال تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة 189] وقال تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ

السَّمَاوَات وَالأَرْضَ [التوبة 36] وقال تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {96} [الأنعام 96] وقال تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {5} [يونس 5] وقال تعالى وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ {37} وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {38} وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم ِ {39} لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {40} [يس 37-40] ونحو هذا من القرآن في مواضع فلا ريب أنه مما يشاهده الناس من نور الشمس والقمر تتوقت الأوقات ويتميز آخر الزمان بعضه من بعض ويعلم بذلك عدد السنين والحساب الذي به يعرف المتقدم والمتأخر فإذا قيل إن هذا متقدم بالزمان كان معناه أن تقدمه متقدم لتقدم الزمان وأن تقدمه عرف بتقدم الزمان لا يراد بذلك أن تقدمه هو بسبب تقدم الزمان إذ ليس جعل تقدم الزمان سببًا لتقدمه بأولى من جعل تقدمه سببًا لتقدم الزمان وذلك أن اليوم المعين يحدث فيه طلوع الشمس والقمر وكذلك طلوع الكواكب وغير ذلك من الحركات ومن

خلاصة كلام المؤلف في تقديم الزمان

ذلك ما هو فلك الشمس والقمر ومنه ما هو تحت فلك الشمس والقمر وجميع ذلك يقال فيه إنه زماني وإن كان تقدم الزمان وتأخره إنما يعرف بما يرى من الأنوار كالشمس والقمر التي بها تتوقت الأوقات والمقصود أن التقدم بالزمان لا يشترط أن يكون الزمان مؤثرًا فيه فإنه غير مؤثرٍ في الأفلاك وأما التقدم بغير الزمان فإنه لو لم يخلق شمس ولا قمر ولا كان فلك ولا حركة فلك لكان يعقل أن الشيء يكون قبل الشيء لكن إذا لم يكن هناك موجود يميز ذلك لم يعلم مقدار ذلك ولا أجزاؤه ولا يتميز بعضها من بعض لكن هذا لا يعدم بحال فإن الله سبحانه وتعالى حي موجود قيوم أزلي وقد قال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه

ورُوِي أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل والنهار بأنوار تظهر من جهة العرش والله سبحانه وتعالى قادر أن يظهر ما شاء من نوره أي وقت شاء فيكون ذلك مؤقتًا وتحديدًا لآخر الزمان وأبعاضه كما جعل ذلك في الدنيا بالشمس والقمر ولو قدر عدم ذلك كله وعدم ما يتميز به لنا متقدم عن متأخر لم ينتف التقدم والتأخر بل هو ثابت في نفسه فيكون الشيء قبل الشيء سواء وجدت الحركات والأنوار التي توقت أجزاء ذلك وأبعاضه أو لم توجد وإنما بحركة الأنوار يتميز أبعاض ذلك عندنا والتقدم والتأخر لا يشترط فيه وجود هذا الزمان المحدد وليس هو المؤثر فيه بل هو ثابت في نفسه سواء كان هذا الزمان المحدود أو لم يكن لكن هذا الزمان المحدود المؤقت يبين لنا المتقدم والمتأخر وهذا مما ينبغي أن يعرف وتصُّور ذلك فطري بديهي لا يفتقر تصور الإنسان التقدم والتأخر إلى تصور الأوقات المحددة بالأنوار والحركات كما أن العلو

قول الرازي وأهل الكلام: المحدث بعد عدمه يكون عدمه سابقا على وجوده، والرد عليه من عدة وجوه

والسفل أمر حقيقي معقول ولو فرض عدم هذه الأجسام المعنية العالية والسافلة أو عدم الإنسان ذي الجهات الست بل كل قائمين بأنفسهما يعقل كون أحدهما فوق الآخر إذا ظهر ذلك فقولهم المحدث بعد عدمه يكون عدمه سابقًا على وجوده وتلك القبلية أمر زائد على ذات العدم ولا محالة قبل كل قبلية قبلية أخرى فإذن هاهنا قبليات لا نهاية لها ولا بداية ولا يَعنى بالزمان إلا بما تلحقه القبلية والبعدية لذاته فإذن لا أول للزمان فإذن يلزم من حدوثه بعد عدمه قدم الزمان فيكون حدوث العالم بهذا التفسير مستلزمًا لقدمه يجاب عنه بوجوه أحدها أن يقال لهم لاريب أن هذا العدم قبل الوجود

فإن كان كما يوصف بأنه قبل غيره أو بعده يكون زمانًا لزم أن يكون الله زمانًا وكل موجود زمانًا إذا قيل إن هذا قبل هذا أو بعده فالوجود قبل العدم والعدم قبل الوجود والوجود قبل الموجود فإن كان الموصوف بأنه قبل وبأنه بعد زمانًا فهذه الأشياء كلها زمان وهذا لا يقوله أحد وإن قيل إن وصف الشيء بأنه قبل أو بعد يستلزم الزمان والزمان هو الذي يلحقه القبل والبعد لذاته وهذه الأمور لا يلحقها ذلك لذاتها فيقال تقدم العدم على الوجود لا يقتضي ذلك لكن يقتضي أن ذلك مستلزم للزمان والزمان على هذا التقدير ما يعقل فيه التقدم والتأخر وإن كان معدومًا إذ التقدير أن العدم يتقدم على الوجود وإذا كان كذلك فالزمان بهذا الاعتبار لا يجب أن يكون وجوديًّا بل يكون عدميًّا وإن عقل فيه التقدم والتأخر إذ لا فرق في التوقيت بين العدم والوجود فإنه قد يقال هذا كان وقت عدم كذا وفنائه كما يقال وقت وجوده وحدوثه ثم كل منهما قد يتميز بعضه عن بعض كالوجود المختلف والعدم والمختلف وقد لا يتميز كالوجود الواحد والعدم الواحد فظهر أن ذلك لا يستلزم قدم موجود الثاني أن ذلك لو افتقر إلى شيء موجود يتميز به بعض ذلك عن بعض كالوجود المختلف والعدم المختلف كان وجود الله ونور وجهه كافيًا في ذلك فهو سبحانه يظهر ما شاء من نوره كما يظهر ما شاء من نور مخلوقاته وذلك تتوقت به الأزمنة وتتحدد ولا يحتاج في ذلك إلى غيره فإذا لم يكن

إلا هو وحده فالأوقات تتميز بعلمه وبفعله عند من يقول ذلك من المسلمين ولا يحتاج إلى شيء غيره الثالث أن هذا معارض بتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض الرابع أن يقال نحن نعقل التقدم والتأخر مع قطع النظر عن زمان موجود والعلم بذلك ضروري وكذلك قولهم لو كان تقدم الباري على العالم بالزمان لزم أن يكون الباري تعالى زمانيًّا والزمان زمانيًّا وهما محالان أما الأول فلأن الزمان من لواحق التغير وذلك ممتنع على الباري سبحانه وتعالى وأما الثاني فلامتناع التسلسل يجاب عن ذلك بأربعة أوجه أحدها أن الزمان الذي قد بيناه لا يجب أن يكون وجوديًّا فلا يمتنع حينئذٍ أن يكون الباري زمانيًّا الثاني أنه لو فرض أن ذلك موجود فالموجود هنا هو الله

سبحانه وتعالى وهو متقدم على العالم بتقدم هو من صفات نفسه وإذا قيل هو زماني وكان المراد بالزمان هنا شيئًا من صفاته لم يكن ذلك محالاً وليس النزاع في مجرد لفظٍ فإنا نعقل ونتصور تصورًا بديهيًّا وجود شيء قبل شيء من غير أن يكون هناك موجود غيرهما فهذا التقدم سواء سموه زمانيًّا أو لم يسموه فهو معقول الوجه الثالث هب أن يقال أن الزمان من لواحق الحركة لكن هذه مسألة حلول الحوادث وقد ذكر الرازي أنه ليس في الأدلة العقلية ما يحيلها وأن القول بها يلزم كل الطوائف فيجوز عند من يجوزها أن يكون ذلك الزمان من لواحق حركته هو سبحانه وتعالى الوجه الرابع أن يقال لا يحتاج أن يجعل تقدم الباري على العالم بزمان موجود فلا يرد علينا هذا السؤال وأما كون الزمان زمانيًّا فهذا وارد عليهم كما هو وارد على مخالفيهم وليس هو من خصائص حدوث العالم بل هو حجة عليهم في إثبات تقدم وتأخر بغير زمان موجود ثم يقال التسلسل يقطع أن يكون الزمان الثاني عدمًا وبأن يكون من توابع وجود الحق كما تقدم

فظهر أن ما نَفَوه عن الرب من التقدم بالزمان ليس فيه ما يقبل النزاع إلا وجه واحد وله ثلاثة أوجه لاتقبل النزاع بين العقلاء فهو أربعة أوجه الأول أن يكون متقدمًا على بعض مخلوقاته تقدمًا مقارنًا لما خلقه من الليل والنهار كتقدمه على الحوادث اليومية ولاريب أن كل تقدم يوصف به المخلوق على غيره فالباري يوصف به زيادة وأحرى وهذا من باب قياس الأولى فإن التقدم على الغير من صفات الكمال كالعلو وكل علو يثبت للمخلوق فهو به أحق وكل تقدم يثبت للمخلوق فهو به أحق فإذا كان الأولون متقدمين على الآخرين تقدمًا معلومًا بمقارنة ذلك بالزمان فهو موجود مع طلوع الشمس وغروبها كما أن غيره موجود مع ذلك ووجوده أكمل فمقارنته له أكمل وليس في ذلك ما يقتضي أنه محتاج إلى الزمان بل قد بينَّا أن مقارنة المخلوق للزمان لا تُوجِب حاجة المخلوق إليه فالخالق أولى أن لا يكون محتاجًا إلى الزمان إذا كان الزمان قد قارن وجوده حين وجود الزمان يبين هذا أن المقارنة يدل عليها لفظ مع وكون الله مع خلقه عمومًا أو خصوصًا مما اجمع عليه المسلمون ودل عليه القرآن في غير موضع فهو مع كل شيء معية عامة أو خاصة فلماذا يمتنع أن يكون مع الزمان والمكان على الوجه الذي يليق

أظهر حجج الذين يقولون بقدم العالم

به وذلك أمر واجب لا محالة الوجه الثاني أن الزمان الذي يراد به ما يقدر فيه من وجود الليل والنهار الذي ذكرنا أن العدم يتقدم على الوجود به أمر عدمي فلا يمتنع تقدمه بهذا الزمان كما تقدم الوجه الثالث أنه متقدم على المخلوقات بنفسه وما هو عليه من صفاته وإن لم يخطر بالقلب شيء آخر من وجود أو عدم يكون متقدمًا به بل هو متقدم بنفسه وإن شمي شيء من ذلك زمانًا أو دهرًا كان النزاع لفظيًا وأما الوجه الذي فيه النزاع فإن يفعل فعلاً آخر ويتصرف تصرفًا قائمًا بنفسه يتوقف به ما يوصف به فهذا فيه نزاع كما تقدم وهؤلاء الذين يقولون بقدم العالم عن موجبه أشهرهم هم الفلاسفة المشاءون أتباع أرسطو وهم مبدلة دين الصابئة الصحيح وأظهر حججهم التي اعتمدوا عليها وهو الذي اعتمده أفضل متأخريهم ابن سيناء ونحوه من الملاحدة وهو

طلب سبب التخصيص وهو أنهم قالوا العقل الصريح الذي لا يكذب قط يعلم أن الذات إذا كانت واحدة من جميع جهاتها ولم تفعل ثم فعلت فعلاً فلابد من تجديد شيء لها إما قدرة أو علمًا أو إرادة أو غير ذلك مما هون من الشروط وزوال

الموانع وإلا فإذا كانت كما لم تزل امتنع صدور الفعل عنها لأن تخصيص بعض الأوقات بالفعل لابد له من مخصص والقول في ذلك الحادث المتجدد كالقول في جملة العالم وإذا صدر الفعل عنها لم يكن صادرًا بعد أن لم يكن لئلا يلزم المحال المذكور وبالجملة فإما أن تكون هي علة تامة للفعل أو لا تكون فإن كانت علة تامة وجبت مقارنة الفعل لها وإن لم تكن علة تامة فلابد من تجدد أمر يصير به علة تامة والقول في ذلك المتجدد كالقول في العالم إن كانت علته تامة وجبت مقارنته وإن لم تكن علة تامة فلابد من تجدد أمر ويلزم التسلسل ومدار هذه الحجة على وجوب مقارنة الأثر للمؤثر التام وأنه يمتنع أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً وهذه الحجة يقولون بها وقد أجاب الناس عنها بالممانعات تارة وبالمعارضات أخرى تارة يمنعونهم وجوب مقارنة الأثر

بيان بطلان قول الفلاسفة بقدم العالم

للمؤثر إذا كان فاعلاً باختياره وقدرته ويقولون القادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك وتارة يذكرون من أسباب الترجيح أمورًا وتارة يبدون ما في الوجود من المخصصات للصفات والمقادير وغير ذلك مما لا يُحصِي تفاصيله إلا الله ويقولون القول في سبب التخصيص بالزمان كالقول بالتخصيص بالحيز والصفات والمقادير والحركات وغير ذلك من الأنواع التي اشتمل عليها العالم وتارة يقولون هذا بعينه وارد في الحوادث اليومية فإن حدوثها مشهود وهذه الحجة واردة عليها فما كان جوابًا عنها بل التحقيق أن هذه الحجة تبطل بنفسها فبطل قولهم بقدم العالم فإنه يقول الحوادث إما أن يجوز صدورها عن علة قديمة تامة أو لا يجوز فإن جاز

أصل حجة الفلاسفة في قولهم بقدم العالم والرد عليهم

صدورها عن علة تامة قديمة بطلت هذه الحجة وأمكن أن يقال إنه حدث عن فاعل قديم وإن قيل لا يجوز صدورها عن علة تامة قديمة قيل فهذه الحوادث المشهودة لا يجوز حينئذٍ صدورها عن علة تامة قديمة فلابد من حدوث علتها التامة ثم القول في حدوث تلك العلة التامة كالقول في حدوث الحوادث فإن كان حدوث حوادث لا أول لها ممتنعًا بطل مذهبهم وغن كان ممكنًا جاز أن يقال حدوث العالم كان موقوفًا على حوادث لا أول لها ولا يمكنهم أن يقولوا بامتناع حلول الحوادث فهم يجوِّزون حلول الحادث بالقديم بل ليس منهم إلا من يجوز قيام الحادث بواجب الوجود كما جوزه كثير من أهل الكلام وليس لهم على ذلك دليل ثم الحجة لا تدل على قدم الأفلاك وبالجملة فهم مضطرون إلى إثبات محدث أحدث هذه الحوادث وإبطالهم حدوث الأفلاك مع هذا باطل والمقصود هما أن أصل هذه الحجة هو القياس الفاسد وهو تمثيل الله بغير من الفاعلين وجعلهم له أندادًا وأكفاءً وأمثالاً حتى يحكم عليهم بما يحكم به عليه حتى جعلوه مولِّدًا للعالم فجعلوه له ولدًا وشريكًا فنفوا بهذه الحجة أن يكون خالقًا بارئًا مبدعًا للعالم وجعلوه علة والدة تولد عنها العالم تولُّدًا قارنها

به ومدارها على أنه يمتنع منه أن يحدث شيئًا ويجدده لأن ذلك تخصيص بلا مخصص وهذا القياس والمثل الذي ضربوه لله هو كنظائره في الأمثال المتناقضة الفاسدة وقد بيّنا قبل أن الله لا يجوز أن يُجعَل هو وغيره سواء لا في قياس تمثيل ولا في قياس شمول بل إنما يستعمل في جانبه قياس الأولى والأحرى فما كان من باب المدح والثناء في المخلوق فهو أحق به وما كان من باب العيب والنقص الذي يتنزه عنه المخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وهذا القياس مضمونه أنهم وصفوا الله بامتناع الفعل منه وعجزه عنه إذا لم يكن متولدًا عنه كما يمتنع في غيره من المتولد الموجب بذاته أن يكون محدثًا أو معيدًا لما صدر عنه فقاسوه سبحانه وتعالى بالعاجز المضطر الذي يمتنع عليه الفعل والإحداث وهو ضرب

مَثَلٍ له فيما هو نقص في المخلوق فأوجبوا هذا النقص للخالق بالقياس عليه والكلام على ذلك من وجوه أحدها أن يقال كونه يفعل بعد أن لم يفعل إما أن يكونوا علموا ذلك لعلمهم بخصوص ذات الله وامتناع ذلك عليه كما يمتنع عليه العدم المنافي لوجوبه أو علموه لقياس شمولي متضمن لقضية كلية أو لقياس تمثيل فإن ادعوا الأول لم يصح لثلاثة أوجه أحدها أنهم يقرون أنهم لم يعلموا خصوص ذات الرب والثاني أن يقال فما تلك الخاصية التي يمتنع حدوث الفعل منها ويكون إحداثها للأمر ممتنعًا ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك ولا ذكره الثالث أن معرفة عين الشيء إنما تكون بالحواس الباطنة أو الظاهرة وذلك يوجب أن تكون معرفة الله بديهية أو حسية وهم لا يقولون بذلك ومن يقر بذلك يعلم أن الأمر بخلاف ما قالوه فإن ادعوا ذلك عن قياس شمولي أو تمثيل وهو طريقهم فيقال لا يصح دخوله هو وغيره تحت حكم كلي في هذا الباب فإنه ليس في الكائنات شيء واحد هو علة تامة لفعل بل لايصدر شيء إلا عن اثنين فصاعدًا وإذا لم يكن في الموجودات علة تامة ولم يكن غيره مؤثرًا تامًّا لم يمكن أن

يقال المؤثر التام يجب أن يقارنه الأثر أو يمتنع تخلف الأثر عنه إذ ليس في الكائنات ما هو وحده مؤثر تام البتة وهذا مشهود محسوس في جميع المؤثرات سواء كان بالإرادة والاختيار كالحيوانات أو كان بالطبع كالجامدات فليس فيها ما يكون وحده مؤثرًا بل النار ونحوها لا تحرق إلا مع سبب آخر وهو المحل القابل للإحراق والإنسان لا يفعل بإرادته وقدرته إلا بأسباب خارجة عن قدرته وأيضًا فذلك الغير الذي يدخل تحت القضية الكلية إما أن يكون حيًّا له مشيئة أو يكون غير حي ليس له إلا الطبع وعلى التقديرين فهذه الأمور تصدر عنها الأفعال بعد أن لم تكن صادرة كما هو مشهود في جميع الفاعلين لكن المنازع يقول إنها لا تحدث فعلاً حتى يغير والتغير على الرب محال يقال له هذا إنما يصلح أن يقال لو كان غيرك هو المحتج بالقياس على هذه الأمور فتفرق أنت والمقصود هنا أنك أنت لا يمكنك أن تذكر قضية كلية تعم شيئين فصاعدًا على امتناع صدور الفعل عن الذات بعد أن

لم يكن صادرًا عنها وإن لم يكن لك على ذلك قياس شمول فقياس التمثيل أبعد وأبعد فتبين أن حكمه بأنه واجب الوجود لا يحدث شيئًا قول بلا علم أصلاً لا هو معلوم بنفسه ولا بحجة ومنشأ ضلالة هؤلاء المشركين الصابئين والمجوس المشركين وغيرهم من أصناف المشركين هو القياس الفاسد الذي مضمونه التسوية بين الله وبين غيره وأن يجعل غير الله عدلاً وندًّا ومثلاً وكفوًا فتارة يعدلونه بما وجوده مما له فعل بمشيئته فيه وتارة يعدلونه بما وجوده مما له فعل بقوة فيه بلا حياة وهؤلاء من أجدر الناس أن يقولوا تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} [الشعراء 97- 98]

ولهذا كان من أصول أهل السنة أنه لا خالق إلا الله ولا فاعل مستقل بالفعل ولا مؤثر تامًّا غيره وذلك أن كل ما يقدر غيره مما له فعل وتأثير ففعلُه موقوف على شروط من غيره يكون شريكًا وممنوع بمعارضات من غيره وله كفو يفعل كفعله وله شريك وله ندّ وله كفو ولهذا بين سبحانه وتعالى اختصاصه بعدم الشريك والمعاون وعدم الند المعارض وعدم الكفو المماثل كما في قوله تعالى مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [فاطر 2] فأخبر أنه لا مانع ولا معارض لما يفتحه من رحمته وأخبر أن ما يمسكه فلا يرسله ولا يعطيه أحد غيره وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة في رفعه من الركوع وبعد السلام اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وليس في الوجود من يعطي شيئًا إلا وله مانع غيره ولا يمنع شيئًا إلا وله معطٍ غيره

فهو في إعطائه غير مستقل بل لابد له من شريك ومعاون وهذا لأنه ليس في المخلوقات ما هو مؤثر تام فلا شيء يؤثر وحده ولا شيء إذا أثَّر يكون الأثر واجبًا معه مطلقًا بل قد يكون له من المعارضات ما يمنع أثره ومن أظهر ما يسمى مؤثرًا الشمسُ في الإشراق والتسخين وهي لا تشرق إلا مع شيء آخر يقابلها يتعلق شعاعها عليه فيكون الضوء والشعاع حادثًا بسببين بسببها وبسبب الجسم المقابل لها الذي يحل به الشعاع ثم إن موانع الضوء والشعاع من السحاب وغيره موجودة مشهودة وكذلك تسخينها مشروط بالمحل الذي تقوم به السخونة وموانع السخونة موجودة مشهودة ومع كون فعلها موقوفًا على شريك لها ولها مانع يمنعها بل أسباب غيرها فإن السخونة عن الشعاع فإنها تكون عن النار وتكون عن الحركة وكذلك الإشراق يكون عن النار والقول في تسخين النار وإشراقها وتسخين الحركة كذلك فإنه لابد من سبب آخر كالجسم الحامل للسخونة وثم موانع تمنع وجود السخونة فلا تكون بالأسباب الموجودة من رحمة فاه ممسك أيضًا من الأسباب المخلوقة وما يكون بها من

إمساك بغيرها يكون به إرسال ما أمسكه الله والله سبحانه هو وحده الذي ما يفتحه للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ولهذا قال بعد ذلك يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [فاطر 3] وقال تعالى وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء [الأنعام 100] وكذلك قوله قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ {38} [الزمر 38] وقوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس 107] بين سبحانه أنه لا يكون غير الله معارضًا ومانعًا لما يشاؤه الله من منفعة أو مضرة إذ كل ما يقدر من سبب لنفع أو ضُرُّ فله مانع ومعارض فما من سبب مقتضٍ في الوجود إلا وله مانع معارض وما كان كذلك لم يكن علة تامة ولا مؤثرًا تامًّا إلا بمشيئة الله تعالى فإنه ما شاء الله كان والله تعالى لا معارض لحكمه ولا مانع له فلا يكشف ما ينزله من الشدة إلا هو ولا يرد ما ينزله من الرحمة أحد غيره وأيضًا ما من سبب إلا وله كفو يكون عنه بدلاً وعوضًا

فإذا انتفى أمكن حصول الأثر بكفوه والله تعالى ما لم يشأ لم يكن وظهورها في الأسباب الخاصة مثل عطاء الآدميين ومنعهم وضرهم ونفعهم من الملوك وغيرهم واضح جدًّا فإنه مع أن قلوبهم بيد الله هو الذي يقلبها كيف يشاء وأن اختيارهم وقدرهم التي تكون بها أفعالهم كثيرة التحول والتغير فإن أحدهم لايستقلّ وحده بفعل شيء قط بل لابد من أسباب أخر خارجة عن قدرته يكون الأمر بالمجموع ثم إن مع وجود تلك الأسباب منه ومن غيره يكون لها معارض وعوائق ومعارضات ثم إن مع وجود تلك الأسباب وانتفاء موانعها قد استُغْنِي عنها بكفوها ونظيرها ويحصل المقصود من غيرها مثل ما يحصل منها وكل سبب لايكون له كالرسول المرسل الذي هو خاتم الرسل الذي لايمكن العباد أن يستغنوا عما جاء به من البينات والهدى فإنه نفسه معترف بأنه عبد الله ورسوله وأن الله هو الذي أعطاه هذا وكذلك الشمس وما يكون بها من نهار وبعدمها من ليل فإنه لا يدَّعى أحد قط إضافتها إلى غير الله ولهذا قال الخليل عليه السلام فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة 258] وقال تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ {71} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ

سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {72} وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {73} [القصص 71-73] الوجه الثاني أنهم اعتمدوا على أنه لا يحدث شيئًا حتى يحدث أمر من الأمور فلا يحدث سواه حتى يحدث فيه شيء أو يتغير وهذا المقام للناس فيه نزاع مشهور بين الأولين والآخرين فطوائف كثيرة من متكلمي المعتزلة والأشعرية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وغيرهم منعوهم هذا وقالوا هل يحدث عنه شيء بعد أن لم يحدث من غير حدوث شيء في نفسه وطوائف كثيرة من المتكلمين من الشيعة والمرجئة والكرامية وأهل

الحديث والفقهاء والصوفية سلموا ذلك ونحن ننزل إلى التسليم فنقول هب أنه يمتنع أن يحدث شيئًا حتى يحدث فيه شيء فأنتم لم تقيموا حجة على امتناع أن يحدث فيه شيء إلا أن قلتم القول في هذا الحادث كالقول في العوالم وهذا الحادث لا يحدث إن لم يحدث سبب يقتضي حدوثه فنقول هب أن الأمر كذلك فَلِمَ قلتم أنه لا يحدث لنفسه عملاً وحركة يحدث به ذلك المفعول وهذا قول طوائف من أهل الكلام والفقه وجمهور أهل الحديث والتصوف وغيرهم وهو قول طوائف من الأوائل

والأواخر حتى قال أوحدهم في زمانه أبو البركات صاحب المعتبر إلهية الباري لِمَ لا تتم إلا مع هذا القول وقد قال الرازي إن هذا يلزم جميع الطوائف القول به وأنه ليس في الأدلة العقلية ما ينفيه وليس المقصود هنا تقريره لكن يقال وأنتم لم تذكروا حجة غلا قولكم والقول في الحادث في ذاته كالقول في العالم الذي لابد لحدوثه من سبب والأمر كذلك لكن لم تذكروا حجة على امتناع حدوث هذا الحادث إلا مجرد الدعوى الأولى وهو أنه يمتنع أن يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن صادرًا وهذا هو نفس المذهب فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب لكن يحتجون بأن ذلك يفضي إلى التسلسل

ولكن التسلسل في هذا ليس ممتنعًا عندكم فإنكم تقولون ما هو أبلغ من ذلك في الفلك ومَن تدبَّر هذا علم أن القوم لم يذكروا على ذلك حجة أصلاً إلا مجرد المطالبة بقولهم لِمَ فعل بعد أن لم يفعل والمطالبة بالدليل ليست دليلاً على عدم المدلول فإذا لم تعلموا لِمَ أحدث لم يكن هذا دليلاً على امتناع الإحداث فظهر أنهم لم يعلموا نفي الإحداث وفرق بين العلم بامتناع الشيء أو عدمه وبين المطالبة بدليلي جوازه أو علة وقوعه وهذا التحقيق يبين أن القوم كما قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 112] ومن فَهِم هذين الوجهين فهم الجواب عما يصفون به هذا القياس من الصور المختلفة فإن المادة واحدة كقول بعضهم ما لأجله يكون المحدث محدثًا إما أن يكون

حاصلاً بتمامه في الأزل أو لايكون فإن لم يحصل لم يحصل إلا لمؤثِّر والكلام فيه كالكلام في الأول فتسلسل وهو محال وإن كان حاصلاً فهو معلوم بالضرورة أن المؤثر إذا حصل مع جميع الأمور التي باعتبارها تتم مؤثريته فإنه يستحيل تخلف الأثر عنه فإذًا يستحيل تخلف العالم عن الباري وكذلك أنه يمكن الجواب عن القسمين بهذين الوجهين أما الأول فيقال لا نسلِّم أن المؤثر إذا لم يكن حاصلاً بتمامه ولكن نفس التأثير الذي يقال إنه قام به من التخليق والكلام والإرادة لم يكن حاصلاً أو وجود شرط وانتفاء مانع ليس بحاصل فإن هذا كله من تمام المؤثر كان المراد بالمؤثر عنده مجموع الأمور التي إذا وجدت وجد المفعول وهي الأمور التي يجب أن يقارنها المفعول وتكون واجباتها فإذا لم تحصل هذه الأمور لم يكن المؤثر حاصلاً لكن يقال هذه الأمور إذا لم تكن جميعها حاصلة بل فات بعضها لم يكن المؤثر الأول حتى يلزم

التسلسل بل يكون هذا المؤثر الثاني هو المؤثر في ذلك الشرط أو زوال ذلك المانع وليس المؤثر في العالم المؤثر في بعض الأسباب التي يجب العالم عندها سواء قيل هو التخليق أو الكلام أو الإرادة أو غير ذلك فإن قيل المؤثر في ذلك التتمة الذي هو الموجب الذي يجب عنده وجود الأثر إما أن يكون حاصلاً بتمامه في الأزل أو لا يكون كان المختار أنه لم يزل حاصلاً في الأزل وهنا جوابان أحدهما أن يقال لا نسلِّم أن وجود مفعول يتوقف على هذا المؤثر بل يقال ليس في الوجود المعروف مؤثر يجب عنده وجود الأثر وجوبًا يمتنع زواله حتى يقال فإن لم يكن لم يحصل الأثر ولا موجب الحوادث إلا مشيئة الله تعالى ومشيئته ليس لها نظير حتى يقاس بها والله ليس كمثله شيء والثاني أن يقول حصوله بعد ذلك يكون لوجود شرطه أو انتفاء مانعه وهذا التسلسل في الشروط وانتفاء الموانع ليس ممتنعًا عند المنازع وإنما الممتنع التسلسل في العلل التامة التي كلُّ علة تُوجِب الأخرى والأمر هنا ليس كذلك بل يكون حدوث هذا الشرط موقوفًا على شرط آخر ليس علة له ويجوز تعاقب الشروط ودليل ذلك أن الحوادث اليومية موجودة والعالم مملوء من الحوادث فالموجب التام لكل حادث إما أن يكون حاصلاً في الأزل أو لايكون ويعود التقسيم

وغاية ما قاله هؤلاء أن هذه الحوادث تتبع حركة الفلك المتعاقبة وليس الغرض الكلام في هذا الجواب ليس المقصود أنهم إذا اشترطوا شروطًا ولم يكن ذلك من التسلسل الممتنع فهنا أولى الوجه الثاني أن يقال وإن كان المؤثر بتمامه حاصلاً في الأزل لكن لِمَ قلتم إنه يستحيل تخلف الأثر عنه قوله من المعلوم بالضرورة أن المؤثر إذا حصل مع جميع الأمور التي باعتبارها تتم مؤثريته فإنه يستحيل تخلف الأثر عنه يقال هذه قضية كلية مضمونها أن كل مؤثر تام فإنه يستحيل تخلف الأثر عنه والقضية الكلية لابد لها من أفراد غير مورد النزاع الذي يراد الاستدلال عليه بها ومعلوم أن الوجود كله ليس فيه مؤثر تام غير الله أصلاً بل لا يصدر عن شيء واحد من المخلوقات أثر أصلاً ولا يصدر إلا عن شيئين فصاعدًا وليس من المخلوقات ما يقال إنه مؤثر إلا

ويمكن تخلُّف أثره عنه سواء في ذلك المؤثرات الاختيارية والطبيعية فإذا لم نشهد في العالم مؤثرًا يجب وجوبًا عقليًّا أن يقترن بعه الأثر المنفصل عنه فكيف يعلم أن المؤثر التام يجب اقتران الأثر به فضلاً عن أن يكون ذلك معلومًا بالضرورة وهو حكم لانظير له ومورد النزاع غير معلوم فإن قال أريد بالمؤثر التام ما يجب عند وجود الأثر كان التقدير المؤثر الذي لا يتخلَّف عنه أثره إما أن يكون حاصلاً في الأزل أو لايكون والجواب أن هذا ليس بحاصل في الأزل ولا في الموجودات المشهودة مؤثر لا يتخلف عنه أثره وتحرير هذا الوجه أن جميع ما يفرض من المؤثرات المشهودة يمكن وجودها عقلاً مع عدم أثرها وليس في العالم مؤثر واحد يوجب أثرًا أصلاً وإنما التأثير عقب شيئين كما تقدم بيانه ووجود تلك الأسباب بدون ذلك الأثر ممكن فإذا لم يحكم العقل حكمًا قاطعًا بأن ما يعرفه من المؤثرات يوجب الآثار وجوبًا يمتنع فكاكه لم يكن له سبيل إلى أن يحكم بوجوب مقارنة الأثر للمؤثر الوجوب العقلي أصلاً ويعود الأمر إلى أن يقال فإذا صدر عنه الأثر تارة ولم يصدر أخرى كان تخصيصًا بغير مخصص وهذا هو الذي قدمنا الكلام عليه فقلنا إنهم أثبتوه في حق الله بالقياس على خلقه مع وجود الفارق ويمكن تلخيص هذا الجواب بأن يقال في

الوجه الثالث قولك ما لأجله يكون المحدث محدثًا إما أن يكون أزليًّا أو لايكون ما تعني به أتعني به ما يجب وجود الأثر عنده أم تعني به ما لأجله يجوز أن يكون فاعلاً مثل قدرته وغيرها من صفاته فإن قال أعني الأول قيل ليس ذاك بأزلي ولا نسلم بأنه محتاج إلى حصوله في كون المحدث محدثًا وإن سلَّمنا أنه لابد منه فلا نسلم لزوم التسلسل وإن أريد به الثاني فهو أولى ولكن ليس ذلك بموجب لوجود الأثر عنده الوجه الرابع أن هذه الحجة مدارها أنه إذا كان مؤثرًا تامًّا وجب وجود الأثر مقارنًا له وإذا لم يكن مؤثرًا تامًّا امتنع وجود الأثر عنه إذا لم يكن تامًّا وامتنع أن يتم المؤثر بعد ذلك لأنه يستلزم التسلسل وحينئذٍ فيلزم امتناع إحداثه بعد أن لم يكن محدثًا فلابد في هذه الجهة من تقدير هذه المقدمات ومطلوبهم ثبوت القسم الأول وهو انه مؤثر تام فيجب مقارنة الأثر له ويمتنع تخلف الأثر عنه أو أن يفعل شيئًا بعد أن لم يكن فعله والمؤثر التام هو العلة وهو المولِّد وقد يقولون إن ذلك لا ينافي كونه مختارًا إذ اختياره للشيء المعين من لوازم ذاته ولو لم يكن مؤثرًا تامًا امتنع منه الفعل سواء قيل إنه تم أو لم يقل إنه تم وإذا كان كذلك فالعلمُ بهذه المقدمات في حق الله لا سبيل لهم إليه إلا بمجرد القياس الذي لا يصح فإن واجب الوجود لا ندَّ له ولا عدل له ولا مثل له حتى يقال إنه

بمنزلة ذلك المؤثر التام والمنع متوجه على هذه المقدمات الثلاث فَلِمَ قلتم إنه إذا كان كاملاً في نفسه قادرًا على الفعل بحيث لايعجز عنه إذا أرادوه أنه يجب صدور الفعل عنه غايتكم في هذا أن تمثِّلوا الله ببعض مخلوقاته وتقيسوا عجزه ونقصه على عجز هذه المخلوقات ونقصها وقد أجابهم من أجابهم من المتكلمين كالرازي وغيره بجواب بنوه أيضًا على القياس الفاسد فقالوا لهم قولكم جميع جهات مؤثِّرية الباري في العالم لابد وأن تكون حاصلة في الأزل ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عنه قلنا هذا إنما يلزم إذا كان موجبًا بالذات أما إذا كان قادرًا فلا وقال هؤلاء قولاً كليًّا إن القادر لا يتوقَّف ترجيحه لأحد المثلين على الآخر على مرجح لوجهين أحدهما أن الواحد من الناس إذا استوى في حقه إرادة الفعلين كالهارب إذا عَنَّ له طريقان متساويان في حقه والجايع إذا قدم له رغيفان متساويان في حقه فإنه يرجح أحدهما لا لمرجِّح الثاني أن القادر إنما يفعل أحد المقدورين دون الآخر

لإرادته له والإرادة بنفسها مرجحة لأحد المقدورين وذلك صفة نفسية لها لا يجوز تعليلها بأمرٍ خارجٍ عنها وهذه خاصية الإرادة كما أن خاصية القدرة كونها بحيث يتمكن بها من الفعل وخاصية العلم كونه بحيث يعلم به فكذلك خاصية الإرادة كونها بحيث يخصص بها مقدور على مقدور ومنهم من قال ترجيح القادر بإرادته لابد له من ترجيح ومنهم من ذكر الترجيح بالعلم ومنهم من ذكر الترجيح بما في الفعل من الإحسان ومنهم من ذكر الترجيح بالقدرة وهو أنه كان ممتنعًا والمقصود هنا الكلامُ على من سلَّم ما ذكروه في المرجح الموجب بالذات ومنعه في القادر المختار فالصواب هو الفرق بين الله وبين غيره لا الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار فيقال لهم ما ذكروه ممتنع في حق الله تعالى بكل وجه وليس في الوجود شيء موجب بذاته تجب مقارنة موجبه

له أصلاً بل جميع الكائنات إنما هي أسباب لا يوجد الأثر عنها إلا بسبب آخر فإما أن يكون علمنا في الموجودات سببًا هو موجب بذاته وهو على تامة مولد بنفسه فهذا خلاف ما الوجود عليه فما من أثر يصدر إلا عن اشتراك بسببين فأكثر ومع هذا فيمكن تخلفه عنهما وإذا وجد هذا في جميع ما يقال إنه مؤثر من المؤثر باختياره وقدرته وبطبعه وقوته فليس فيها شيء يستقل بأثره وحده فضلاً عن أن يقال إنه موجب له بذاته والأثر الحاصل عند اجتماع أسباب كالحريق الحاصل عند وجود النار وجسم يلاقيه والشعاع الحاصل عند وجود الشمس وجسم يقابله ليس بواجب أيضًا فقد يمكن أن يكون ذلك ولا يكون إشراق ولا إحراق فإذا كان ليس في الوجود من يفعل بذاته أثرًا فضلاً عن أن يقال إنه موجب وإنما الأثر يصدر عن شيئين كصدور الولد عن الوالدين والنتيجة عن المقدمتين وهو مع

ذلك ليس بواجب كيف يسلّم لهم أن الموجب بالذات لا يتخلف عنه الأثر وهو قول لا حقيقة له وبهذا يتبين أن القوم أشركوا بالله وعدلوا به وضربوا له مثل السوء كما فعل إخوانهم الذين جعلوه يولِّد البنات وهملا يرضون بتوليدهن وجعلوا مملوكه شريكه وهم لا يرضون بمشاركة المملوك وذلك أن هؤلاء جعلوا الأثر لازمًا له لايمكنه دفعه بوجه من الوجوه قياسًا على ما هو موجب بذاته من العلل وهم مع ذلك لم يجدوا في العلل ما يكون معلوله لازمًا لايمكنه دفعه بوجه من الوجوه فوصفوا الله بما ينزهون عنه المخلوقات ووصفوه من التولد والعجز بما لا يصفون به المصنوعات ولهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة أنه ليس في الموجود مؤثر تام إلا الله تعالى فلا رب غيره ولا إله سواه ولهذا قال من قال من متكلمة أهل الإثبات كالأشعري إن أخص وصف الله هو القدرة على الاختراع ور ريب أن هذا من أخص أوصاف الله وإن لم يكن هو وحده الأخص لكن الشعري حرر القول في هذا الأصل تحريرًا باين به سائر أهل الضلال من

أهل القبلة وكان انتصاره لهذا الأصل من أحسن أو أحسن ما نصره من مذاهب أهل السنة والجماعة وأما الذين يفرقون بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار في الشاهد والغائب فتفريقهم باطل أما في الشاهد فلأن الفاعل باختياره إذا حصل عنده الإرادة الجازمة مع القدرة التامة كان بمنزلة الموجب بذاته وجاز أن يسمى موجبًا بذاته والموجب بذاته إنما أوجب بصفة قائمة به طبيعية هي نظير الاختيار في المختار وكلاهما فيه قوة فعل بها وكلاهما فيه اقتضاء وميل إلى الفعل وكلاهما يسمى طبيعة وغريزة فإن خلقية الحي يسمى طبيعة له كما يسمى بذلك ما في الجامدات لكن بينهما من الفرق حصول الشعور في أحدهما دون الآخر والشعور يستلزم اللذة والألم ولهذا فرق بينهما بأن جعل أحدهما إرادة دون الآخر وإن كان قد يسمى إرادة كما في قوله تعالى جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف 77] وهذا الفرق أول من أحدثه في الإسلام القدرية وبالغوا في إثبات الفعل للحي القادر حتى جعلوا الإنسان مستقلاً بما يفعله وأخرجوا فعله عن أن يكون مخلوقًا لله ومقدورًا له ومرادًا

له والأشعرية ونحوهم وإن خالفوهم في هذا فقد وافقوهم وزادوا عليهم في سلب ما في الأجسام من القوى والطبائع التي بها يفعل ما جعلها الله فاعلة له وفي الحقيقة فالجميع فيه القوى والطبائع التي هي مبدأ الميل إلى الفعل والحركة سواء كانت مع الحياة أو بدونها والله هو خالق هذا كله لكن غير الحي لا تكون حركته إلا تبعًا إذا خرج من مستقره كان فيه ميل إلى مستقره فليست الحركة فيه أصلية بخلاف الحي فإن كل حركة في الكون مبدؤها من اختيار حيٍّ وملائكة الله تعالى هم الذين يدبر الله بهم ما يدبره من أمر خليقته كما يدبر بالآدميين ما شاء لكن الملائكة أكبر وأكثر كما قال تعالى فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5} [النازعات 5] وقال تعالى فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً {4} [الذاريات 4]

وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه فأولئك الفلاسفة أشركوا بالله وعدلوا به حيث قاسوه على الموجب بذاته من المخلوقات وهؤلاء كانوا أمثل فإنهم لما عدلوا به وأشركوا بما شبهوه بالفاعل باختياره من المخلوقات ثم إن كل واحد من الفريقين لو كان حكمُ الأصل ثابتًا لكان قياسه من أفسد القياس لما فيه من تسوية رب العالمين ببعض المخلوقات فكيف وحكم الأصل مُنتفٍ في الأصلين فإن أولئك قاسوه على القادر المختار الذي يرجِّح أحد المثلين على الآخر وهو نفسه إن شاء فعل وإن شاء ترك وليس في الوجود قادر مختار بهذا المثابة كل قادر مختار من المخلوقين فإنه لايفعل حتى تثبت له إرادة جازمة معينة لمراده وتكون حاصلة فيه من غيره وهذا خير من بعض الوجوه والله تعالى له المثل الأعلى ليس كذلك بل هو يستقل بالفعل بإرادته التي لم يستفدها من غيره من غيره ولايضطر إلى الفعل فلا فعلُه ولا نفسُ إرادته تضطره بل هذان وصف الآدميين وإنكار القدرية لذلك وما يقال إنه موجب بذاته في

المخلوقات سواء قيل إنه يقتضي بالطبع بلا حياة ولا شعور أو فيل إن له حياة وشعورًا ليس كما يقوله هؤلاء بل ليس في الوجود ما يفعل شيئًا إلا بشريك معاون له يكون هو وذاك سببين والله تعالى لا شريك له ثم إذا وجد شريك كان صدور الأثر عنهما بغير اختياره ولا بمشيئته ويكون عاجزًا عن رد الأثر إذا وجد الشريك والله تعالى لا يفعل شيئًا إلا باختياره ومشيئته وليس عاجزًا عن رد الشيء لفعل غيره له بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فظهر أن هؤلاء جميعهم أتوا من تمثيل الله بخلقه ثم إنهم غلطوا في حكم الأصل الذي مثَّلوه به قال الله تعالى وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} [الأنعام 100-101] فهذا بعض ما يتعلق بقولهم في المقدمة الواحدة أنه يجب مقارنة الأثر إذا كان تامًّا وأما المقدمة الثانية وهو أنه إذا لم يوجد المؤثر التام امتنع صدور الفعل عنه ويمتنع أن يكون تامًّا بعد أن لم يكن فيمتنع

أن يفعل بعد أن لم يفعل فهم إنما يوجبون بالمؤثر التام ما تجب مقارنة الفعل له وقد قلنا إن هذا لاوجود له فبطل قولهم إذا لم يوجد المؤثر التام بهذا التفسير امتنع وجود الفعل بل جميع المؤثرات التي نشهدها يمكن تخلف الأثر عنها فلا تكون تامة عندهم ومع هذا فالأثر يوجد عندها ثم لو سلم أن هذه يمتنع صدور الأثر عنها لم يسلم أن الباري كذلك وأنه إذا كان بحيث لايجب صدور الفعل عنه لايكون مؤثرًا تامًّا فيمتنع صدور الفعل عنه بل هذا القول هو عين الباطل في حق الله تعالى أن يقال لايفعل حتى يمتنع أن يفعل ويمتنع أن يفعل إذا لم يجب أن يفعل فالفعل منه إما واجب لا يقدر على تركه أو ممتنع لا يقدر على فعله بل هذا سلب لقدرته التي هي مدلول فعله وقد جعلوه بهذا أعجز من عامة المخلوقات وأنقص منها فإنه ليس شيء منها بحال يكون المتولد عنه إما واجبًا لايمكن عدمه بحال وإما ممتنعًا لايمكن وجوده بحال ونحن نعلم أن الأمور الموجودة يجب وجودها بمشيئة الله تعالى لها وما لم يوجد يمتنع وجودها بعدم مشيئة الله لها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فالوجوب والامتناع هو بحسب مشيئة الله وعدم مشيئته وأما الوجوب والامتناع بحسب سبب آخر فهو باطل وهو خلاف الواقع ومن استقرأ الموجودات لم يجد شيئًا موجبًا يمتنع أن يكون

الفلاسفة يمثلون الله تعالى بغيره فيما هو نقص وعجز

موجبًا ويمتنع إن لم يكن موجبًا بهذا الاعتبار أن يوجد ذلك الأثر وإذا كان الوجوب والامتناع في الممكنات بحسب مشيئة الله تعالى فلا نظير لمشيئته كما لا نظير له ومن قاسها ومثَّلها بغيرها فهو كمن قاسه ومثله بغيره وذلك من الإشراك به وجعل الأنداد والأمثال والأكفاء له وهو ممتنع في نفسه لأن مماثلته لغيره توجب اتصاف أحدهما بصفة الآخر وذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم بيانه وأيضًا فإنهم يمثلون بغيره فيما هو نقص وعجز في ذلك الغير لو كان موجودًا وهو سبحانه لا يمثّل بغيره ويسوَّى به في الكمالات فكيف في النقائص فصار هذا باطلاً من ثلاثة أوجه أحدها أن هذا الوصف ليس ثابتًا لغيره حتى يجعل هو وإياه تحت قضية كلية في قياس شمولي أو يشبه به في قياس

تمثيل ولو كان موجودًا أو مقدرًا لم يجز أن يعدل بالله ويسوي به لأن الله أكبر من كل شيء ولو جاز أن يعدل بغيره لم يعدل به فيما هو نقص لا يعدل بالناقصات فلو كان حكم الأصل موجودًا كان قياسهم من باب ويجعلون لله ما يكرهون حيث وصفوه بما ينزهون عنه المخلوقات فيف ولا وجود للأصل وأما الكلام على أصلهم الثاني وهو انه يمتنع أن يصير مؤثرًا تامًّا بعد أن لم يكن فيمتنع أن يحدث شيئًا والمؤثر التام عندهم الذي تجب مقارنة الفعل له فهذه أيضًا باطلة من جانب النفي والإثبات كبطلان وجوب المقارنة التامة وامتناعها فإنه يقال إما أن يكون مؤثرًا تامًّا في الأزل بجميع حوادث العالم أو لا يكون فإن كان مؤثرًا تامًّا وجب وجودها جميعًا في الأزل وهو خلاف المشهود المحسوس المعلوم لكل أحد فإن لم يكن مؤثرًا تامًّا في الأزل امتنع أن يصير بعد ذلك مؤثرًا تامًّا فيجب أن لايفعل شيئًا فيلزمهم إما قدم جميع الحوادث أو عدمها وكلاهما معلوم الفساد وإنما لزمهم ذلك لأجل المقدمتين اللتين بَنَوا عليهما قدم العالم فإنهم قالوا لا يفعل إلا أن تكون بحيث تجب مقارنة الأثر له ويمتنع أن يصير كذلك بعد أن لم يكن لأنه يفضي إلى التسلسل فيقال لهم المؤثر في جميع هذه الحوادث كائنًا ما كان إما أن يكون مؤثرًا

تامًّا بتفسيركم أو لا يكون فإن كان كذلك وجب قدمها جميعها وإن لم يكن كذلك وجب امتناعها جميعها لامتناع تمام المؤثرية فيما بعد واعتذارهم عن ذلك بأن تمام المؤثرية في الفلك التاسع الذي بحركته تستعد القوابل لفيضان الوجود والكمال عليها لا يدفع هذا التناقض الظاهر فإن مجموع هذه الأمور التي حصلت بها هذه الآثار هي المؤثر التام فحدوث هذا المجموع إما أن يصدر عن مؤثر تام أو لا فإن لم يصدر عن مؤثر تام موجب للمقارنة بطل قولهم إن الثر لايصدر إلا عن مؤثر تام تجب مقارنة الثر له فإن صدرت عن مؤثر تام تجب مقارنة الثر له فإن كان قديمًا لزم قدمها وإن كان محدثًا فالقول في علة حدوثه كالقول فيما تقدم وهذا كلام قاطع

وبرهان ساطع لا مندوحة عنه وبغيره يتفطن لضلال هؤلاء الذين هم أكفر وأضل من عموم المشركين اللذين هم بربهم يعدلون يوضح ذلك أن حقيقة ما يقولونه إن المؤثرية التامة لكل حادث يحدث مستلزمة لحدوثه فكلما دار الفلك حدث بدورانه من استعداد القابل وفيض الفاعل ما يستلزم الحادث بمجموعهما وبالمجموع تتم المؤثرية هذا حقيقة قولهم فإذا كانت المؤثرية التامة تحدث شيئًا بعد شيء كما تحدث عنها الآثار شيئًا بعد شيء فكل من المؤثرية وآثارها تحدث شيئًا بعد شيء لكن بعض أجزائها قديم إما واجب الوجود بنفسه وإما غير واجب الوجود بنفسه بل بغيره وبعض أجزائها حادث وإذا كان كذلك فلابد لحدوث المؤثرية شيئًا بعد شيء من سبب إذ الحادث لايحدث نفسه كالحركة الفلكية شيئًا بعد شيء لابد لحدوث مؤثريتها من سبب حادث فإذا قيل هو التصورات المتجددة أو الشوق المتجدد أو ماذا عسى أن يقال كان

القول في حدوث هذا كالقول في حدوث ما حدث عنه فكيف ما داروا كانوا مضطرين إلى حدوث حوادث في العالم من غير حدوث شيء في العالم كالحركة الفلكية فإنها حادثة شيئًا بعد شيء في العالم وكحركة النفس المحركة لها عند من يقول بذلك منهم كان ذلك حادثًا في العالم وفي الممكنات من غير أن يكون في الممكنات سبب يقتضي حدوثه ومن غير أن يحدث في الممكنات وفي العالم ما يحصل به مؤثرية ذلك الحادث فإذا كان في العالم من الحوادث ما ليس له سبب تام يقتضي حدوثه من العالم علم أن الموجب التام للحدوث أمر خارج عن العالم ولا يخرج عن العالم إلا الله سبحانه يجوز أن يحدث الحوادث بعد أن لم تكن من غير أن يعاونه شيء على ذلك هو المطلوب واعلم أن الكلام هنا على وجهين أحدهما إفساد دليلهم على القدم وهو قولهم يمتنع حدوثه بعد أن لم يكن لأن الحادث يقتضي شيئًا وحدوث الحادث عن العلة التامة القديمة محال فلا يكون العالم حادثًا فقد تبين أن هذا مُنتقِض بجميع الحوادث وبجميع ما يقال إن وجد سبب لها فإنها حادثة بعد أن لم تكن ونفس حركة الفلك ظاهرة في النقض فإن الحركة حوادث متوالية وليس فوقها عندهم سبب حادث يوجبها فهي حوادث عن علة قديمة عندهم فقد جوَّزوا حدوث الحادث عن حركة تامة قديمة فإن

قالوا فوقها سبب حادث به تمت مؤثريتها كما يقوله من يجوز قيام الحوادث به منهم جاز عند هؤلاء حدوث العالم بمثل هذا فعلى القولين تبطل الحجة وأما الوجه الثاني فهو الاستدلال بهذه على حدوث العالم وهو أن يقال لو كان العالم قديمًا للزم أن يكون له موجب تام يستلزم موجبُه قِدَمَهُ عن غير موجب فإنه يستلزم محالاً لأنه إنْ لم يكن تامًّا مستلزمًا أمكن وجوده وأمكن أن لا يوجد والممكن لا يوجد إلا بموجب تام مستلزم والموجب التام المستلزم لا يتخلف عنه شيء من موجباته ولوازمه فجميع الحوادث إن كان هو موجِبًا تامًّا مستلزمًا لها لزم قدمُها وهو خلاف المشاهدة وإن لم يكن موجِبًا تامًّا مستلزمًا لها فلابد من شيء يتم به موجبها وذلك إن كان قديمًا لزم قدمها لأن قدم الملزوم يوجب قدم اللازم وإن كان محدثّا كان من جملة الحوادث فلابد له من شيء به يتم مُوْجِبُهُ من غير الحوادث لأن الكلام في جميع الحوادث وما يتم به الموجب من غير الحوادث لا يكون إلا قديمًا ولو كان قديمًا لزم قدم الحوادث فصار قدم العالم مستلزمًا لقدم الحوادث وهو ممتنع فقدم العالم ممتنع فصار قدم العالم مستلزمًا لعدم قدمه وما اقتضى ثبوت نفيه كان ممتنعاً ثبوته واعلم أنه كما يُحتج بما في العالم من الحوادث فإنه يحتج

بما فيه من الاختصاص والمقادير والصفات والأزواج المتنوعة كما قال وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] فإن مبدع العالم إن كان علة موجبة بنفسه وهو واحد بسيط امتنع أن يصدر عنه أمور مختلفة على أصلهم وإن لم يكن كذلك كان فاعلاً بمشيئته واختياره ما يختاره من المفعولات وحينئذ فيمتنع أن يقال الحركة هي الموجبة للحوادث لأن الحركة إنما تحدث عنها مع بقية الحركات المختلفة لأن حركات الأفلاك مختلفة كما أن الأفلاك مختلفة ومعلوم أن حركة التاسع ليست الموجبة للحركة التي تخلفها في الثامن فإن قيل إنها توجب الحركة التي ترادفها إذ للثامن وغيره من الأفلاك حركة تخصُّه وحركة تابعة لحركة التاسع فالحركات إذاً مختلفة والمتحركات مختلفة والمعلولات المختلفة تستلزم عللاً مختلفة إذ العلة الواحدة من كل وجه لا تُوجِب معلولين مختلفين ولايقال ذلك بحسب القوابل لأن الكلام في القوابل المختلفة كالكلام في الحركات المختلفة وهذه المختلفات من الفاعل والقوابل لاتكون صادرة عن علة واحدة فيقتضي الصدور عن فاعل حي ذي صفات ومشيئة يفعل بها وهذا ضد ما يقولونه من أنه واحد لايصدر عنه إلا الواحد فإن هذا الواحد الذي أثبتوه ونفوا عنه الصفة والقدر وسموا ذلك تركيباً وكثرة قد تبرهن في غير هذا الموضع بالوجوه الكثيرة

أنهم لا دليل لهم على هذه الوحدة وأن ألفاظ حججهم ألفاظ فيها إجمال واشتراك كما قد بيَّناه في غير هذا الموضع بل تبين بالبرهان أن هذه الوحدة يمتنع أن يوصف بها موجود وأن وصف المبدع بها يقتضي تعطيله ولهذا آل بهم الأمر إلى القول بأن الوجود كله واحد ثم إن العالم فيه كثرة مشهودة فإن كان الصادر عن الواحد واحداً من كل وجه فلا يصدر عنه إلا واحد ويلزمهم نفي الكثرة المشهودة في الوجود وهو خلاف المشاهدة وإن كان فيه ما يسمونه كثرة وتعدداً وتركيباً ونحو ذلك فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد فهم بين أمرين إما إثبات الواحد ونفي جميع الصادر الثاني والثالث والرابع والخامس وإما إثبات الكثرة في الصادر الأول ثم في المبدع يوضح هذا أن الفلك الثامن مكوكب كثير الكواكب والتاسع فوقه أطلس فمن أين جاءت هذه الكثرة العظيمة وإذا قالوا إنه صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر ثم صدر عنه ما تحت فلك القمر ففي هذا الكلام من التناقض والهذيان ما لا يروج على عقول الصبيان وقد كنت في أوائل معرفتي بأقوالهم بعد بلوغي بقريب وعندي من الرغبة في طلب العلم وتحقيق هذه الأمور ما أوجب أني كنت أرى في منامي ابن سيناء وأنا أناظره في هذا المقام

وأقول له أنتم تزعمون أنكم عقلاء العالم وأذكياء الخلق وتقولون مثل هذا الكلام الذي لايقوله أضعف الناس عقلا وأورد عليه مثل هذا الكلام فأقول العقل الأول إن كان واحداً من جميع الجهات فلا يصدر عنه إلا واحد لايصدر عنه عقل ونفس وفلك وإن كان فيه كثرة فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد ولو قيل تلك الكثرة هي أمور عدمية فالأمور العدمية لايصدر عنها وجود ثم إذا جوَّزوا صدور الكثرة عن العقل الواحد باعتبارٍ ما فليجوِّزوا صدورَها عن المبدع الأول بمثل ذلك الاعتبار بدون هذه الواسطة كقولهم باعتبار وجوبه صدر عنه عقل وباعتبار وجوده صدر عن نفس وباعتبار إمكانه صدر عنه فلك فإن هذه الصفات وإن كانت أموراً ثبوتية فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد وإن كانت إضافة أو سلباً أو مركباً منهما فالمبدع الأول عندهم يتصف بالسلب والإضافة والمركب منهما فبطلانُ كلامهم في هذا المقام الذي هو أصل توحيدهم يظهر من وجوه كثيرة متعددة تبيَّن فيها أن القوم من أجهل الخلق وأضلهم وأبعدهم عن معرفة الله وتوحيده فإن عوام اليهود والنصارى الذين لم نوافقهم أعلم بالله من خواص هؤلاء الفلاسفة المبدلين الصابئين وقد بينا في غير هذا الموضع أن ما يذكرونه من المجردات المفارقات إنما أصله ما تصوروه من الكليات الذهنية المجردة

عن المحسوسات العينية فتخيَّلوا ما في الذهن ثابتاً في الأعيان كما تخيل قدماؤهم كأصحاب أفلاطون أن الكليات ثابتة في الخارج أزلية وهي المثل الأفلاطونية وتخيلوا وجود هيولى مقارنة للصورة ومدة وراء حركة الأجسام وتخيل غير هؤلاء كأصحاب فيثاغورس وجود أعداد خارجة عن المعدودات وتخيل أرسطو وأصحابه وهو صاحب التعاليم تركيب الجسم من مادة وصورة وأن المادة

شيء كوجود تختلف عليه صورة الأجسام وهي عند التحقيق ترجع إلى تقدير ذهني لا حقيقة له في الخارج وكذلك تخيُّله أن حقائق الأنواع الكلية ثابتة في الأعيان الخارجية وأنها غيرها وكل هذا لأن الذهن يجرد العقول عن المحسوس والمعقولات أمور كلية ثابتة في الذهن والذهن يجردها تجريداً بعد تجريد كما يجرد العدد عن المعدود والأنواع عن الأشخاص والأقدار عن المقدورات ومن هذا الباب تجريده للكليات الخمسة فمن تخيل أن المجردات أمور ثابتة في الخارج كان نسبتها كمن رأى صورة في المرآة فظن تلك الصورة التي يراها في نفس المرآة موجودة في الخارج فجاء ليمسها أو لينالها كما ينال الصورة المحسوسة فلم يجد شيئاً ولاريب أن هؤلاء وسائر الذين كفروا كما قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {39} أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ

بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ {40} [النور 39-40] فالمثل الأول نسبة الجهل المركب والكفر المركب كالاعتقادات الفاسدة كاعتقاد هؤلاء والثاني نسبة الجهل البسيط والكفر البسيط كحال من لم يعتقد منهم شيئاً أو تعارضت عنده الاعتقادات وصار حيران لا يرى حقًّا وإذا تأمل العاقل كلامهم فيما يثبتونه من العقول المجردة المفارقة علم أنهم أخذوا ذلك عن المجردات المعقولة لنا وتلك الأعراض قائمة في أنفسنا وهم يجعلون تلك المفارقات جواهر روحانية بل هي عندهم أشرف الموجودات ومن يجمع بين كلامهم وبين ما جاءت به الرسل يجعل هذه المجردات التي هي في الحقيقة خيالات ملائكة الله التي أخبرت بها الرسل وقد بينا في غير هذا الموضع أن من نزل الملائكة على ما يدعيه هؤلاء من هذه المجردات كان من أجهل الناس وأكفرهم فإنه قد ذكر من أصناف الملائكة وأوصافهم ما تبين أنه أبعد الأشياء عن هذه ولهذا يصيرون إلى جعل الملائكة قُوى في النفس صالحة كما يجعلون

الشياطين كذلك ومن سمع ما أخبر الله به في القرآن والسنة عن الملائكة والشياطين علم أن بين هذا وهذا من الفرق ما لا يخفى على أدنى الناس علماً بما جاءت به الرسل وما يقوله هؤلاء إنما يلبسون على الناس بعباراتهم الغريبة وبمن أضلوه من متكلم متصوف حتى اخذ عبارات المسلمين مما جاء بها الكتاب والسنة فنزلها على معاني هؤلاء الكفرة الملحدين كما يوجد مثل ذلك في كلام صاحب رسائل إخوان الصفا وصاحب جواهر القرآن ومشكاة الأنوار ومن سلك

هذا السبيل من فيلسوف قرمطي ومشارك له في بعض ذلك وإن كان فيه من التصوف الإسلامي ما يباين به القرمطي لكن يشاركه من وجه ويفارقه من وجه وما أحسن ما قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري فيمن هو خير من هؤلاء أخذوا أصح الفلسفة فلبّسوه لحاء الإسلام وهو كما قال الحلية حلية مسلم والعبارة عبارة مسلم والمعرفة والقصد ليست معرفة المسلمين ولا قصد المسلمين بل ذلك سبيا الزنادقة المنافقين أعداء الرسل وسوس الملل الوجه الخامس على أصل حجتهم أن يقال أنتم طلبتم

الموجب للتخصيص فيقال إذا جعلتموه مولداً موجباً بذاته كان المحذور ألزم ولزمكم من الجهل بعدم المخصص المرجح أعظم مما لزمكم من الجهل به على تقدير تخصيصه بمشيئته وذلك أنه يقال إذا كان العالم متولداً عنه لازماً لذاته لا ينفكّ عن ذاته ولايقدر على إزالة لزومه له وتولده عنه ولاعلى عدمه كما هو قولكم فما الموجب لكونه بهذه الصفة مع ما في ذلك من القصور والعجز والنقص فإن كون الذات بحيث يلزمها غيرها ويتولد عنها ولاينفك عنها ولايقدر على دفع تولُّده ولزومه لها ولو أراد أن يدفعه لم يستطع ولا يمكنه ذلك لاريب أنه أنقص من كون الذات تقدر على دفعه وإن شاءت دفعه عنها دفعته ولو لم تكن أنقص لكن كونه بهذا التولد وهذا الإيجاب وهذا الاقتضاء وهذا الإحداث لابد له من موجب فإن كونه كذلك نوع من الاختصاص إذ تعقل وجود الذات الواجبة خالية عن هذا اللزوم والتولد فلابد لهم أن يقولوا نفس الذات الواجبة بخصوصها لايمكن أن يكون إلا كذلك على هذا الاقتضاء والتولد فإنه لو أمكن أن يكون كذلك وأمكن أن لايكون كذلك كان وجود أحد الممكنين متوقفاً على مرجح فإذا قالوا ذلك قيل من المعلوم أن كون ذاته من لوازمها أن تفعل إن شاءت وتترك إن شاءت هو أعظم في القدرة والكمال من أن يكون من لوازمها الفعل الذي لايقدر على تركه ولو شاءه ومن تدبَّر هذا وميَّزه حسم هؤلاء الذين بدلوا دين

المرسلين وغيروا فطرة الله التي فطر الناس عليها وكل ما يسألون عنه من وجه خالقيته وفاعليته يلزمهم في وجه توليده أو محايثته أعظم منه ومن هنا يظهر الوجه السادس وهو أن يقال واجب الوجود ليس كمثله شيء من الأشياء ولايجوز أن يُجعَل له عدل ولا ند ولا مثل في أفعاله كما لايجوز أن يُجعَل له ذلك في صفاته وأسمائه ومن خصائصه أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وانه ما شاء فعل وليس غيره من القادرين بهذه المثابة وليس غيره يفعل ما يشاء بل قد يعجز عنه وإذا كانت مشيئته في عمومها ونفوذها من خصائصه فهو إذا شاء فعل وإذا شاء ترك وذاته هي الموجبة لهذه المشيئة المتعلقة بالفعل وإن لم يكن لغيره مثل هذه المشيئة إذ ليس غيره واجب الوجود ولا صفاته واجبة بوجه كما أن ذاته ليست واجبة بل يمكن وجود ذاته دون صفاته وإن كانت ذاته واجبة بغيرها فكما لاعدل لله في صفاته لاعدل لع في أفعاله يقرر هذا الوجه السابع وهو أنهم يقولون إنه وَلَدَ الفلك إما بواسطة فلك وإما بواسطة عقل ونفس أو بغير واسطة والفلك له مشيئة يفعل بها على التعاقب حوادث العالم فإذا كانوا يجعلون له

نفيهم الصفات عن الذات أولى بالنقص

ولداً تولد عنه ويثبتون لولده مشيئة وفعلاً يفعل به الحوادث على التعاقب فإثبات مشيئةٍ له يفعل بها أولى وأحرى وإيجاب ذاته لصفاته أقرب إلى المعقول من إيجابها لأمور منفصلة عنه إذ الصفات صفات كمال فكونُ الذات تستلزمها تقتضي كمال الذات أما كون الذات مستلزمة لغيرها المنفصل عنها بحيث لايمكنها فراقه فهذا لا كمال فيه ومن المعلوم أن الأعلى لا يُستكمَل بالأسفل ومن هنا يظهر الوجه الثامن وهو أنهم نفوا الصفات وليس له إلا صفة سلب أو إضافة أو مركبة منهما قالوا لأن الصفات تقتضي من التعدد والتركيب ما يقتضي الحاجة إلى الغير المنافية لوجوب الوجود ومن المعلوم بالفطرة البديهية أن كون الذات قد تولد عنها ذات أخرى لايمكن أن تنفصل عنها أصلاً ولايقدر على دفع لزومها وتولدها عنها ولو أرادت ذلك لم ينف مرادها ولايقدر أن يغير شيئاً ولايحدثه ولايتصرف فيه بوجه من الوجوه فهذه الذات أولى بالنقض من غبر وجه من الذات المستغنية بما هي عليه من الصفات وقد قدمنا فيما تقدم الجوابَ عن شبهة التركيب الخارجة وبيَّنا أن ذلك كله ألفاظ مجملة مشتركة وأن الموجود يمتنع أن

يكون إلا بصفات ونفيها ينفي الوجود الواجب والممكن وأما ما ذكروه من التولُّد والتعليل فالنقض فيه ظاهر وأين من يتولد عنه الشيء بغير اختياره ممن يفعل باختياره هذا من أبين الأمور الحسية العقلية أن الذي يفعل باختياره أكمل ممن يتولد عنه الفعل من غير أن يقدر على منعه له أو يكون له اختيار في تركه وهو وإن اثبتوا له غاية وربما يثبتون له إرادة تستلزم العالم فهم يتناقضون في ذلك كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أنه أنهم ينفون الاختيار ويثبتون من الحكمة الغائية في العالم ما يستلزم الاختيار وكذلك الغاية ولا ريب أنهم كثيرو التناقض كما قد بيناه في غير هذا الموضع وهذا حال كل من خالف الرسل يكون تناقضه على قدر مخالفته ويقال لهم الذي يمكنه الفعل والترك أكمل ممن لايمكنه إلا الفعل بل كثيرٌ من أهل الكلام يقول الذي يقدر أن يريد الفعل ويقدر أن يريد الترك أكمل ممن لايقدر على إرادة الترك بل هو لايمكنه إلا إرادة للفعل بل هذا نوع من الخبر وإن كان فيه اختياراً إلا أنذلك أكمل وإن كان كذلك فكونُه سبحانه على صفة يشاء الفعل ويشاء الترك أكمل من أن تكون ذاته لا تقتضي إلا شيئاً معيناً

لذات الرب خصوصية يتميز بها عن سائر الذوات

وإذا كان لابد من أن يكون هو على وجه يوجب وجود العالم على ما هو عليه ثم يمكن أن يكون ذلك على وجه هو فيه أكمل من وجه كان من قال إنه على الوجه الأنقص دون الأكمل من أجهل الناس وأظلمهم لاسيما إذا ادعى امتناع الوجه الأكمل ولزوم الوجه الأنقص الوجه التاسع أنه لاريب أن لذاته خصوصية يتميز بها عن سائر الذوات إذ الوجود المطلق الذي لا اختصاص فيه بشيء دون شيء إنما وجوده في الذهن لا في الخارج بينهم وهو القدر المشترك بين الموجودات فإن المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج بالاتفاق والمطلق لا بشرط لا يوجد أيضاً في الخارج مطلقاً بالاتفاق وإن كان المتفلسفة كابن سيناء يتناقضون في هذا الموضع فيجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ويجعلون موردَ التقسيم بين الواجب والممكن الذي هو موضوع العلم الإلهي عندهم الوجودَ المطلق لا بشرط وقد دخل معهم في هذا التناقض أهل الوحدة كابن عربي وابن سبعين وأمثالهم

ممن يقول بأن الوجود واحد وهو الله سواء فسّر بهذا أو بهذا فمن فسره بالمطلق بشرط الإطلاق لزمه أن يكون معدوماً في الخارج ومن فسره بالمطلق لا بشرط فغايته أن يجعله وجود المخلوقات أو جزءاً منها أو حالاً فيها وكل ذلك من أبين الأقوال فساداً في العقل وأظهرها كفراً في الدين وعلماء النظار كالقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي المعالي والغزالي قد بيَّنوا فساد قول من يجعله وجوداً مطلقاً فيقول كل موجود فله حقيقة يختص بها ويتميز بها ويباين بها غيره وإذا كان كذلك فكونُه بتلك الحقيقة الخاصة

المباينة لغيرها في حقيقتها المخالفة لما سواها في ماهيَّتها إن قيل لابد له من موجب فلا موجب له سوى الذات نفسها فهي موجبة لما هي عليه بنفسها ووجودها على ما هي عليه واجب بها لا بغيرها وإن قيل لا مُوجب له بمعنى أنه لا موجب لتلك الحقيقة والخاصية منفصل عنها فهو أيضاً صحيح وإنما المقصود أن تلك الحقيقة الخاصة واجبة الوجود بنفسها لايجوز أن يُطلَب لها سبب منفصل عنها بل طلب ذلك إنكار لواجب الوجود بنفسه وإنكار الوجود الواجب يستلزم إنكار الموجود كله إذ الموجود إما أن يكون واجبًا أو ممكناً والممكن لابد له من واجب فلابد في الوجود من واجب وإذا كان إنكار الاختصاص الواجب بنفسه يقتضي إنكار واجب الوجود وإنكار

الموجود بالكلية كان هذا أعظم السفسطة وإذا كان الأمر كذلك كان طلب علة علمه ومشيئته وقدرته وسائر صفاته الواجبة له كطلب علة ذاته وهو محال فالأول مثله فقول القائل لِمَ فعل بعد أن لم يكن يفعل كقول القائل لم فعل ولِمَ شاء وذلك كقوله لِمَ كان وهذه كلها أسوِلَةُ باطلة لأنها تنافي وجوب الوجود ويتقرر ذلك بالوجه العاشر وهو أن هذه المسائل هي مسائل الشيطان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول مَنْ خَلَقَ الله فإذا وجد أحدُكم ذلك فَلْيستعِذ بالله ولينتهِ. وفي حديثٍ آخر في الصحيح لايزال الناس تَسْوِلُكُمْ حتى يقولوا هَذَا الله خَلَقَ كل شيء فمن خلق الله فهذه السؤالات من شياطين الإنس والجن أسولة معلومة الفساد في العقل ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العبدَ إذا جاءته هذه.

المسائل أن يستعيذ بالله منها وينتهي فإن الشيطان يلقي إليه هذه المسائل ليشكِّكه في الحق كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن للملك لمةً وللشيطان لمة فلمةُ الملك إيعادٌ بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق الوجه الحادي عشر أما ما ذكروه منقوضٌ عليه بجميع ما في الوجوه من الحوادث وبجميع ما في الوجود من كل موجود وصفة وقدرة وذلك أنه ما من موجود من سماءٍ أو أرضٍ أو ليلٍ أو فلكٍ أو نجمٍ أو بشرٍ أو حيوان أو نباتٍ إلا وهو مخصوص بأمور متعددة من الخواص في مقاديره وصفاته ومكانه وزمانه وهذا يذكر على وجهين الأول النقض بالحوادث كلها فإنه يقال في كل حادث

جميع الأمور المعتبرة في تأثيره إما أن تكون حاصلة في الأزل أو لاتكون فإن كانت حاصلة وجب قدمه وهو خلاف المشهود وإن لم تكن حاصلة في الأزل فالقول في حصولها بعد ذلك كالقول في ذلك الحادث ويلزم التسلسل فيجب أن لا يحصل بعد ذلك فيمتنع حدوث هذه الحوادث وهو خلاف المشهود فطردُ قياسهم هذا الذي به يهوِّلون يلزمهم إما القول بقدم جميع الموجودات وإما عدم جميع المفعولات وإذا بطل القِدَمُ والعَدَمُ عُلِم أنهم زَلّت بهم القَدَمُ والثاني أن يقال هذه مع حدوثها وما يزعم أنه قديم من الأفلاك والكواكب والعناصر هي مختصة في مقاديرها وصفاتها وأحيازها وحركات من الخصائص مما لايحصيه إلا الله تعالى فالمقتضي لذلك التخصيص إما أن يكون موجباً بالذات ليس له التخصيص أو لايكون فإن كان موجباً بالذات فهو لا اختصاص فيه على ما يزعمونه بل هو واحدٌ من جميع الوجوه والعقلُ الصريح يشهد أن ما يكون كذلك لا يُخصّصُ شيئاً بصفةٍ وقدرٍ دون شيء ولايعقل ذاتاً على صفة مخصوصة دون ذات وإن كان الفاعل لذلك ما من شأنه التخصيص فهو يخص الحوادث بأوقاتها كما يخصها بأحيازها وكما يخصها بصفاتها وأقدارها بل أمر الزمان أخص من غيره ومها اعتذروا به مثل أن يقولوا لايمكن غير ذلك أو ما سوى ذلك.

ممتنع فإنه يقال نظيره في محل النزاع كما قال من قال من المتكلمين إنه لم يكن فعله إلا حين فُعلَ بل قد يدرك العقل الإحالة في العدم أعظم مما يُدركه في هذه الخصائص والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما مخالفة هؤلاء لما جاءت به الرسل عن الله وما نزلت به كتبه فهو أعظم وأكثر من أن يوصف هنا وإن كان من دخل في الملل من منافقيهم من الملاحدة القرامطة الباطنية ومن ضاهاهم من المتفلسفة ونحوهم يزعمون أنهم يجمعون بين الكتب الإلهية وبين هذه الفلسفة الفاسدة الحائدة كما فعل أصحاب الرسائل التي سمَّوها رسائل إخوان الصفا وغيرهم فإن من تحققت معرفته ببعض ما جاءت به الرسل وببعض ما عليه هؤلاء علم أنهم أعداء الرسل وسُوْسُ الملل وأنهم من أعظم الناس نفاقاً للمرسلين إذا أظهروا موافقتهم وأعظمهم معاداة لهم وكفراً بهم ومحاربة لهم إذا اظهروا مخالفتهم بل هم أئمة الكفر من كل طائفة كما قال تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) [القصص 41] وقال تعالى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) [غافر 56] وقال تعالى فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا

بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) [غافر 83-85] وقال تعالى مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) [غافر 4-5] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) [الفرقان 31] وقال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [النعام 112] وقال تعالى ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) [المدثر 11-26] وهذا باب واسع ليس هذا موضعه وقد تكلمنا على كثير مما يتعلق بهذا في غير هذا الموضع وإنما نبَّهنا هنا على ذلك لِتعلُّق الكلام في المكان بالكلام في الزمان وتعلق الكلام في كونه فوق العالم بكونه قبل العالم كما قال سبحانه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) [الحديد 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء

الوجه الثاني عشر أن خروج هؤلاء الجهمية عن النقيضين ومنعهم من ثبوت العلو الحقيقي والمباينة الحقيقية هو كخروج سائر إخوانهم من ملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم عن النقيضين ومنعهم من أسمائه الحسنى فقول القائل ليس بداخل العالم ولاخارجه أو لا على العالم ولا فيه أو ليس بمباين للعالم ولا محايث له كقوله لا قائم بنفسه ولابغيره ولامقارن للعالم ولايتقدم عليه ذلك كقولهم ليس بحي ولاميت ولاعالم ولاجاهل ولا قادر ولاعاجز ولامتكلم ولا أخرس ولاسميع ولا أصم ولابصير ولا أعمى ومنعهم من أن يكون له العلو والمباينة الحقيقية كمنع أولئك من أن يكون له التقدم والأولوية الحقيقية أو يكون عالماً أو قادراً أو حيًّا والسؤلات التي يوردها هؤلاء على ثبوت علوه ومباينته كالسؤالات التي يوردها إخوانهم على ثبوت علمه وقدرته وحياته أو على ثبوت كونه عالماً قادراً حيًّا سواء بسواء وإذا كان المؤسس وغيره يعلمون أن قول الملاحدة خروج عن النقيضين فقولُه وقول موافقيه أيضاً خروج من النقيضين جميعاً وهم وإن قرروا بألفاظ النصوص مثل اسمه العلي والظاهر والكبير والمتعالي ونحو ذلك فقد جحدوا حقائقها كما أن إخوانهم الجهمية لما نفوا أن يكون عِلمٌ وقُدرةٌ وحَيَاةٌ فهم في

الحقيقة قد نفوا أن يكون حيًّا عالماً قادراً موافقةً للزنادقة الملاحدة النافين للأسماء كما قال أبو الحسن الأشعري في الإبانة وزعمت الجهمية والقدرية أن الله تعالى لاعلم له ولا قدرة ولا حياة ولاسمع ولابصر وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعَهم من ذلك خوف السيف من إظهار نفي ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لاعلم ولاقدرة لله عز وجل فقد قالوا ليس بعالم ولاقادر ووجب ذلك عليهم قال أبو الحسن وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولاقادر ولاحي ولاسميع ولابصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عز وجل عالمٌ قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن تثبت لله علماً وقدرة أو سمعاً أو بصراً وحقيقتهم القرمطة في السمعيات والسفسطة في

العقليات فهؤلاء بمنزلة الملاحدة من وجهين أحدهما إقرارهم بلفظٍ مع جحدهم بحقيقة معناه كما هو عادة القرامطة الباطنية في تحريف الكلم عن مواضعه وكما ذكره الأشعري عن المعتزلة وه النفاق في القرآن وهو من الإلحاد في أسماء الله وآياته والوجه الثاني السفسطة في العقليات من وجوه منها نفيُهم للنقيضين جميعاً بقولهم ليس بعالم ولاجاهل ولاحي ولا ميت ولاقادر ولاعاجز ومن تدبر هذا وتدبر قول هؤلاء في قولهم ليس فوق العالم ولابداخل العالم أو ليس بمباين للعالم ولامحايث له أو لاداخل العالم ولاخارجه عَلِم أن هذا في العقل مثل الأول بل أبلغ وأبدَهُ للعقل وهو بمنزلة قول القائل لاقائم بنفسه ولابغيره ولامع العالم ولاقبله لأن ذلك نفي للنقيضين في الصفات وهذا في الحقيقة نفي للنقيضين في الذات أو مما هو لزومه للذات ووجوبه لها أعم من وجوب تلك الصفات وأيضاً فهذان النقيضان لايُتصَوَّر أن يخلو عنهما وجود بخلاف تلك الصفات والمرجع في هذا التناقض إلى الفِطَرِ الصحيحة السليمة وكل من أنصف وعلم ما في فطر الخلق وما عليه الموجودات علم هذا يقيناً لاريب فيه ولهذا تجد عامة بني آدم

السليمي الفطرة ينفرون عن نفي هذين النقيضين أعظم من نفورهم عن نفي ذينك النقيضين إذ هو عام لكل موجود بخلاف الصفات المختصة بالكامل من الموجودات والله سبحانه وتعالى أعلم وما يعتذر به هؤلاء من أنه ليس بقابل للدخول والخروج هو من جنس ما يعتذر به القرامطة والفلاسفة من الفرق بين السلب والإيجاب وبين العدم والملكة كقولهم إنه لايقبل

الجهمية يجمعون بين النقيضين: الوجود ونفي العلم والقدرة

هذه الصفات حتى يقال إنه يلزم من نفي أحد النقيضين إثبات الآخر وإذا كان المسلمون قد بينوا أن واجب الوجود أحق بالصفات الوجودية وبصفات الكمال من سائر الموجودات وأن مَن نفى قبوله لها ألحقه بالمعدوم والموات كان هذا جواباً للفريقين وليس هذا موضع بسط ذلك إذ المقصود هاهنا أنهم من جنس القرامطة الملاحدة في هذا المقام الوجه الثالث عشر أن هؤلاء الجهمية كما نفوا النقيضين جميعاً فإنهم يثبتون النقيضين جميعاً فإنهم يقرون بأنه موجود وبأنه حي عالم قادر ثم يقولون إنه لاعلم له ولاقدرة وهذا نفي لكونه عليماً قديراً ويقولون ليس بداخل العالم ولاخارجه ولامباين ولامحايث ولاجسم ولاجوهر ولايشار إليه ولايجوز أن يُرى ونحو ذلك وهذا نفي لوجوده وهذا بيان لقولهم هو موجود فحقيقة أقوالهم أنه موجود معدوم قائم بنفسه ليس بقائم بنفسه عالم ليس بعالم قادر ليس بقادر حي ليس بحي فقولهم يستلزم الجمع بين النقيضين من هذا الوجه وأحدهما إيمان والآخر كفر فجمعوا في قولهم بين ما يستلزم الإيمان والكفر جميعاً للإقرار بالصانع والإنكار له والنقيضان لايجتمعان ولايرتفعان وهم يجمعون بين النقيضين من هذا الوجه كما يرفعون النقيضين في الوجه الذي قبل هذا

الوجه الرابع عشر من شبههم ادعاء التماثل بين الله وخلقه أن هؤلاء الجهمية مدار جميع حججهم في هذا الباب على التمثيل بين الله تعالى وبين خلقه مثل قولهم لو كان له صفات لكان مثل سائر الموصوفين من الجسام ولو كان مرئيًّا لكان حكمه حكم سائر المرئيات ولو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام لأن الأجسام متماثلة وكل حجة مبناها على التمثيل بين الله وبين خلقه تحقيقاً أو تقديراً فإنها حجة باطلة لأن هذا منتفٍ في نفس المر والعلم وبانتفائه ضروري فإذا كانت الحجة لا تتم إلا بهذه المماثلة الباطلة كانت باطلة وهم يستعملون التمثيل في حق الله من وجوه أحدها أنهم يجعلون ما يثبتون له من الصفات التي ورد بها الشرع مثل الثابتة للمخلوق ويحكمون عليه بما يحكمون على ذلك ثم ينفون بعد ذلك فيمثلون ويعطلون الثاني أنهم يمثلونه في السلوب والأمور العدمية التي لاتستلزم صفة كمال بالمعدومات الناقصات الثالث أن ما ينفونه عنه يقدرون ثبوته له وأنه إذا ثبت له كان مساوياً لغيره وهذا أيضاً باطل

الرابع أن ما يثبتونه مثل وجوده وكونه عالماً قادراً ونحو ذلك يثبتونه على مماثلته لما يوصف بهذه الأمور الخامس أن ما أقروه من الصفات الشرعية أثبتوا فيه المماثلة فهم يثبتون المقايسة والمماثلة فيما يثبتونه بالعقل وفيما يقرونه من الشرع وفيما ينفونه من الصفات الشرعية ومن الصفات العقلية ويمثلونه أيضاً بالناقصات والمعدومات فهذا عدلهم وإشراكهم بالله من هذه الوجوه الخمسة وأما تعطيلهم فمن وجوه أيضاً أحدها نفي مضمون السماء والصفات الشرعية والثاني نفي الحقائق العقلية والثالث وصفه بالصفات العدمية التي لاتستلزم وجوداً وهذه الصفات لاتكون إلا لمعدوم الرابع جمعهم بين النقيضين وهذا هو صفة المعدوم الممتنع وأما منازعوهم فحجتُهم مبناها على قياس الأَولَى والأحرى وهذه حق في الشرع والعقل فإنهم أوجبوا عُلوَّه ومباينته ومنعوا خُلوَّّه عن النقيضين بقياس الأولى وذلك أن علوه على العالم مع أنه معلوم بالفطرة فهو ثابت أيضاً بالأقيسة العقلية البرهانية التي مبناها على الأولى والأحرى وذلك

كقولهم إن القائم بنفسه لابد أن يكون مبايناً للقائم بنفسه بالجهة وقولهم إن القائم بنفسه المباين للقائم بنفسه لاتكون مباينته له بمجرد الحقيقة والزمان بل بقدر زائد على ذلك وليس إلا الجهة وقولهم إن القائم بنفسه إما أن يكون مماساً لغيره أو مبايناً له وقولهم الموجود هو إما قائم ينفسه أو قائم بغيره وهذا متفق عليه وهو إما مباين لغيره وإما محايث له وإما داخل في غيره وإما خارج عنه وهو مباين لغيره إما بالحقيقة أو المكان أو الزمان وأمثال هذه المقاييس التي هي عندهم من البراهين العقلية التي يثبتون بهام باينته وعلوه ووجوب ذلك له وأما ما يثبتون به امتناع ما تقوله النفاة فمثل قولهم إثبات موجود لامباين لغبره ولامحايث له ممتنع في البديهة وهو إثبات موجود لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره وكذلك قولهم لاداخل العالم ولاخارجه وعلى هذا فمن فسَّر الجوهر بالقائم بنفسه والعرض بالقائم بغيره وادعى وجود موجود ليس بجوهر ولا عرض فقد ادعى ما يعلم فساده بالبديهة ثم إنهم يقولون ما وجب للقائم ينفسه أو للموجود من وجوب المباينة لغيره الذي يقتضي عدم المحايثة وكونه فيه فاللهُ أحق به وأولى لأن الله تعالى هو القيوم الغني فهو أحق بما يستوجبه القيام والغنى ويقولون ما امتنع على الموجود من كونه غير قائم بنفسه ولاقائم بغيره ولامحايثاً ولامبايناً أو لاداخل العالم ولاخارجه فإنما امتنع المنافي

لعدمه وأن هذه صفة المعدوم وكل أمرٍ منه الوجود واختص به المعدوم فوجودُ الرب أحق بمنعه والله أحق بالتنزيه عنه من غيره من الموجودات والله سبحانه ابعد عن كل ما ينافي الوجود ويمانعه ويعارضه ويختص بالمعدوم إذ وجوده هو الوجود الواجب الذي ينافي العدم من كل وجه فتبين أن هؤلاء لما رأوا نوع كمالٍ وغنىً يجب للمخلوقات علموا أن الخالق أحق به ولما رأوا نوع عدم يمتنع على الموجودات ويتنزَّه عنه علموا أن تنزيه الخالق أحق بذلك وهو عن ذلك أبعد وهذا من أحسن النظر والاعتبار العقلي الموافق للعقل الصريح وبهذا جاء كتاب الله في غير موضع فيما ضربه من القياس والمثال كقوله سبحانه حيث نفى عن نفسه الشريك والولد في مواضع مثل قوله في سورة النحل وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الآيات 57-60] وكقوله وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) [النحل 71] وقوله تعالى ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ

فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [الروم 28] وكقوله تعالى وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) [الإسراء 39-42] وكقوله سبحانه فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) [الصافات 149] وقوله تعالى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) [الزخرف 15-19] وقال تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) [النجم 19-22] وقال وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) [الأنعام 136] وقال وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) [يس 78-81] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) [الروم 27] وقال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) [الأحقاف 33] وقال إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) [غافر 56-57] وليس هذا الموضع موضع استقصاء الكلام في هذا كله وإنما نبهنا على جماع ذلك وأصله

فصل: نقل المؤلف عن الرازي جوابه عن حجة الامتناع، والكلام عليه من وجوه

فصل وأما قول الرازي في الجواب الثاني عن حجة الامتناع وهو أن يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولاخارجه كما يمتنع أن يكون لا مع العالم ولا متقدماً عليه لا قديماً ولا محدثاً قال وأيضاً فالعقل يأبى إثبات موجود في جهةٍ لايمكن أن يُنسب إلى موجود في جهة أخرى بأنه يساويه أو أنه أصغر منه أو أعظم منه وأنتم تمنعون أن يقال الباري مساوٍ للعرش أو أعظم منه وأنت تمنعون أن يقال الباري مساوٍ للعرش أو أعظم منه أو أصغر منه فإن التزموا ذلك لزمهم انقسام ذاته فالكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال له هذا من الأجوبة القياسية الإلزامية وأنت قد قرَّرت في أول نهايتك أن مثل هذا الكلام باطل لا ينفع في النظر ولا يقبل في المناظرة كما تقدم نظير ذلك غير مرة

إذ حاصله الاستدلال بخطأ المنازع في موضع على صواب المستدل في موضع آخر فمضمونه بيان تناقض المنازع فإنه يقول له كما قلت ذلك فقل هذا لازمٌ له فيقول المنازع أنا اعتقدت عدم التلازم فإن كان اعتقادي صحيحاً لم يلزم وإن لم يكن صحيحاً فقد يكون خطئي في نفس اللازم لا في إثبات الملزوم الذي تنازعنا في ثبوته وبيان ذلك هنا أن الذين قالوا هو فوق العرش وهو مع ذلك يمتنع أن يكون اكبر منه أو أصغر منه أو مساوياً له إما أن يكون العقل يأبى قولهم كما يأبى وجود موجود لاداخل العالم ولاخارجه أو لا يأباه فإن كان يأباه فهذا العلم الضروري حجة في الموضعين عليهم وعلى غيرهم ولا إجماع في ذلك بل قد تقدم بعض ما في ذلك من النزاع وإن لم يكن العقل يأبى ذلك لم يصلح معارضتهم بذلك ولم يكن هذا الكلام لازماً لهم فهذا في النظر أما في المناظرة فإنهم يقولون نحن فرَّقنا بين الموضعين لأنا نعتقد أن

الموجود الخارج عن العالم يمكن أن يكون لا أكبر ولا أصغر ولا مساوياً لأن هذه التقادير من عوارض التركيب والتقسيم وهو ليس بمركب ولامنقسم وأما كونه موجوداً لا بخارج العالم ولا داخله فهو معلوم الامتناع بالبديهة فإما أن يكون هذا الفرق صحيحاً أو باطلا فإن كان صحيحاً حصل الجواب وإن كان باطلاً فنحن نمنع الحكم في صورة الإلزام ونقول إنه أكبر من العرش وقوله يلزم انقسام ذاته فقد تقدم جوابه الوجه الثاني أن يقال أما كونه فوق العرش فهو قول سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل الإثبات للصفات كالكرامية والكُلابية والشعرية وأئمتهم وقدمائهم وعامة أئمة الفقهاء والحديث والتصوف ثم من هؤلاء من قال إنه ليس بجسم ولا يكون

مقدراً ولا له حَدّ فيمتنع أن يُقال هو أكبر أو اصغر أو مساوٍ لأن الاتصاف بقدر دون قدر من لوازم كونه في نفسه له قدر وحد فإذا لم يكن له في نفسه قدر ولا حدّ لم يَجُز أن يوصف بما يستلزم ذلك من كونه أكبر أو اصغر أو مساوياً وهذا قول الكُلابية والأشعرية وطوائف من أهل الفقه والحديث والتصوف فإما أن يكون قول هؤلاء حقًّا أو باطلاً فإن كان حقًّا اندفع الإلزام وإن كان باطلاً لزم بطلان إحدى مقالتيه لا بعينها إما مقالته التي وافقكم عليها وهي نفي الجسم المستلزم لنفي الحد والقدر وإما في مقالته التي وافق عليها أهل الإثبات وهو كونه فوق العرش خارج العالم فإذا كان خطؤه إنما يستلزم بطلان إحدى المقالتين لا بعينها لم يكن لكم أن تجعلوا المقالة الباطلة هي القول الذي نخالفكم فيه دون الذي نوافقكم عليه إلا بحجة وأن لم تذكر هنا حجة توجب ذلك بل جعلت ما يلزمهم بموافقتكم معارضة محضة وقد تقدم الكلام على ما ذكروه في نفي الانقسام الوجه الثالث أن الذي خالفكم فيه هؤلاء قد تقدم قول المحتج فيه أنه معلوم بالاضطرار والبديهة فإن البديهة تنكر وجود موجود لا داخل العالم ولاخارجه كما تنكر وجود موجود لا قائم بنفسه ولا بغيره ولا مع العالم ولا قبله ولا قديم ولا محدث والقول الذي وافقكم عليه من نفي الحد

والقدر وملازم ذلك لم يذكر أحد أنه معلوم بالضرورة أو البديهة أكثر ما يقال أنه ثابت بالقياس العقلي وأنت قد ذكرت أن المعلوم بالضرورة ثبوت ذلك بتقدير ثبوت الأول وإذا كان كذلك لنم يصح أن تقدح في قولهم الذي يقولون إنه معلوم بالضرورة بقولهم الذي يقولون إنه معلوم بالنظر لأن القدح في الضرورة بالنظر باطل كما تقدم بل إذا كان ما ألزمتهم لازماً ضروريًّا وقد ادعوا أن الملزوم ضروري كان كلاهما ضروريًّا فلا يقدح فيه النظري بحال إذ الضروري أصل النظري فالقدح في الضروري بالنظري يستلزم القدح فيهما الوجه الرابع إذا أنهم خالفوا موجب العقل في هذا الموضع لم يكن ذلك عذراً لهم في مخالفته في موضع آخر بل يكون ذلك زيادة في ضلالهم والإنسان لايسوغ له في عقل ولا دين أن ينتقل عن ضلال قليل إلى ضلال كثير بل بقاؤه على قليلِ ضلال خير من الانتقال إلى كثيره وإنما هذا بمنزلة شخص احتج على شخص في مسألة بنص أو إجماع فقال أنا وأنت قد خالفنا النص والإجماع في نظير هذه المسألة فنخالفه فيها ومعلوم أن هذا كلام فاسد أو رجل طلب من يشهد له بالزور في قضية أخرى لأنه شهد له بالزور في قضية أو أن يفعل محرماً

قاعدة: لا يجوز إلزام المقر بالأعلى أن يقر بالأدنى

ل أنه فعل محرماً آخر وأمثال ذلك من الإلزامات الباطلة وإن كان ذلك إذا وقع كان جزءاً للموافقة على الباطل أولاً الوجه الخامس أنه ليس إنكار العقل لوجود موجود فوق العالم لايوصف بكونه أكبر منه أو أصغر مثل إنكاره لوجود موجود لايكون داخل العالم ولا خارجه فإن هذا الثاني مثل إنكار لوجود موجود لا قائم بنفسه ولابغيره ولامباين لغيره ولامحايث له وذلك إنكار للمساواة وعدمها والمساواة وعدمها من عوارض المقدار والمباينة وعدمها من عوارض نفس الحقيقة ومعرفة الفطرة بنفس الموجودات قبل معرفتها بأقدارها وأيضاً فإنهم مفطورون على الإقرار بأن ربهم فوق السموات وإنكار هذا إنكار للعلم الضروري الفطري الذي فُطِر عليه بنو آدم وأما كونه مساوياً أو غير مساوٍ فليس هو في فطرتهم مثل ذلك وإذا لم يكن إنكار العقل لهذا كإنكار العقل لهذا لم يكن المنازع في الأدنى كالمنازع في الأعلى ولم يَجُز إلزام المقر بالأعلى أن يقر بالأدنى لكونه مثله الوجه السادس أن يقال ما ذكرته من كون العقل يوجب

أن يكون مساوياً أو زائداً أو ناقصاً يوجب عليهم وعليك الإقرار به إذا كان مبايناً للعالم فكيف إذا كانت مباينته ضرورية وإلا فالجواب عنه بجواب سديد وأنت لم تجب عنه بجواب سديد بل قلت ذلك يستلزم انقسام ذاته وهذا قد تقدم الجواب عنه بما في لفظ الانقسام من الاشتراك وأن الانقسام المعروف غير لازم بالاتفاق وأمّا ما سميته أنت انقساماً فقد تقدم أنه لازمٌ لكل موجود وأنه لامحذور فيه وإن كان كذلك كان العقل مطابقاً لما دل عليه بالنص والإجماع من أن الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء وأعلم من كل شيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم يا عدي ما يُفِركَ أيُفِرُّكَ أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم من إله إلا الله يا عدي ما يُقِرُّكَ أن يقال الله أكبر فهل تعلم شيئاً أكبر من الله رواه احمد والترمذي وقد تقدم

حديث أبي رزين العقيلي المشهور في سنن أبي داود وابن ماجة قلت يارسول الله أَكُلُّنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين ألي كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال فإنما هو من خلق الله فالله أعظم

وقال ابن عباس أو عكرمة لمن سأله عن قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال قال فالله أعظم الوجه السابع أن يقال العلم بنفي الانقسام على الوجه الذي ادعيته يخالفك فيه أكثر العقلاء ومثبتوه واختلفوا في طرق إثباته ولم يتفقوا على طريق واحد بل كل منهم أبطل طريق صاحبه ومنازعوهم أبطلوا طرقهم ولاخلاف أنها نظرية دقيقة خفية وأما العلم بالمباينة ولوازمها فهو ضروري فطري فإذا نفيت ما زعمته من الانقسام على هذه الطريق ونفيت لوازمه

المعلومة بالفطرة والضرورة وباقيه واضح من تلك الأقيسة ومنازعوك وأثبتوا ما يُعلَم بالفطرة والضرورة والأقيسة الواضحة وشاهده الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة كان معلوماً عند كل عاقل لأن ما فعلوه هو الحق دون ما فعلته

فصل: في نقل المؤلف عن الرازي في نهايته الحجة الثالثة لمثبتي الجهة

فصل ثم ذكر الرازي في نهايته الحجة الثالثة لمثبتي الجهة وهي الاستدلال برفع الأيدي في الدعاء وقد تقدم ذكرها ثم قال ورابعها التمسُّك بظاهر الآيات كقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) ، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وقوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ وقوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ قال ومما تمسكوا به على اختصاصه بجهة فوق خاصة بعد أن بينوا كونه في الجهة هو أن فوق اشرفُ الجهات فيجب أن يكون مختصاً به

مناقشة المؤلف للرازي من وجوه

قال والجواب عما تمسكوا به رابعاً أنا نعارضهم بقوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وبقوله تعالى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا وبقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) وبقوله إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) قال وأما التفصيل في تأويل كل واحدة من الآيات فقد صنفوا فيه كتباً فلا حاجة بنا إلى ذكره قلت والكلام على ما ذكره من وجوه أحدها أن الذي ذكره لايصلح أن يكون معارضاً وإنما يعارض بمثل ذلك من لايعلم حقيقة المعارضة وذلك أن المعارضة نوعان معارضة في الحكم ومعارضة في الدليل

فالمعارضة في الحكم نفي قول المستدل أو إثبات نقيضه بدليل آخر والمعارضة في الدليل بيان انتقاضه أو انتقاض مقدمة من مقدماته ويقال هذا معارضة في مقدمة الدليل وما ذكره ليس بمعارضة في الحكم ولامعارضة في الدليل وذلك أن المعارضة في الحكم المعارض به هو الذي يدل على نقيض قول المستدل أو على مثل قول المعارض فإنه إذا ثبت قول المعترض نفى قول منازعه الذي يناقضه ومتى نفى قول المستدل حصل مقصود المعترض وذلك يستلزم صحة قوله الذي يناقضه وهذه الآيات لاينازع هذا المؤسس وموافقوه أنها لاتنفي أن يكون الله فوق العرش ولا هي أيضاً دالة عندهم على أن الله بذاته في كل مكان حتى يقال يلزم من ذلك نفي كونه فوق العرش بل المنازع وذووه لايستريبون أنها لا تدل على شيء من ذلك ومن ادَّعى دلالتها على أن الله تعالى بذاته في كل مكان فهو مبطل سواء قيل إن ظاهرها يقتضي ذلك أو لايقتضيه فإن أكثر ما يقال إن ظاهرها يقتضي أنه في كل مكان لكنْ المؤسسُ وموافقوه

لاينازعون لأولئك في أنها لاتدل على ذلك ولم يُرد بها ذلك وأنه لايجوز أن يستدل بها على ذلك وإذا كانوا متفقين على عدم جواز الاستدلال بها على أن الله في كل مكان وعلى أن ذلك لم يُرد بها ولم تدل عليه لم تكن منافية ومعارضة لما استدل عليه به المثبتون بتلك الآيات وإذا لم تكن معارضة لها لم تكن المعارضة بها معارضة صحيحة وهذا بيِّنٌ لما يقابله فإن الاتفاق إذا حصل من الخصمين على أن قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] وعلى أنها لم تدل على أن ذات الله في الأرض بل معناها أنه إلهُ مَن في السماء ومن في الأرض ونحو ذلك كانت الآيات الدالة على أنه الله فوق وأنه فوق العرش لا تعارضها هذه الآيات فإن كونه فوق العرش لايعارضه كونه معبوداً في السماء والأرض وكونه مع الخلق بعلمه وقدرته ونحو ذلك بل الذين يقولون ليس هو فوق العرش يوافقون المثبتة على أن معنى هذه الآيات فتعيَّن التأويل لهما أو لأحدهما ويجعل هذا معارضة في الدليل لا في الحكم أي أن التمسك بالظاهر يقتضي الجمع بين هذا وهذا وذلك ممتنع فتكون دلالة الإثبات منتقضة وهذه المعارضة باطلة فإن الأدلة على أنه مباين للعالم فوق العرش نصوصٌ كثيرة قطعية يعلم بالضرورة

مضمونها ويعلم ذلك أيضاً بأدلة كثيرة ويعلم بالسنة المتواترة ويعلم بإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم إنه موافق للفطرة الضرورية والبراهين العقلية وأما ما يظن أنه يدل على أنه في العالم فيقال أولاً لا نسلِّم أن شيئاً من الآيات ظاهر ة في ذلك ولو سلم ظهوره فمعه قرائن لفظية تبين المراد به فلا يكون ذلك مراداً ومع القرائن اللفظية لايبقى ظاهراً في المحايثة ثم إنه قد ثبت تفسيره باتفاق سلف الأمة بما ينفي المحايثة ويُعلم بالحس والعقل ضرورة ونظراً انتفاءُ ما يتوهم فيه من المحايثة ومع ذلك من ظن أنه دالٌ على المحايثة يكون ضالاً من جهة نفسه لا من جهة الآيات ثم يقال ليس هذا معارضة في الدليل بأن تكون قدحاً من آيات تدل على أنه فوق مثل هذه الآيات ولم يُرد بها أنه فوق فيبقى اللفظ محتملاً للتعيين ونقض دلالاته وأما ما يدل على نفي الفوقية فهذه معارضة في الحكم حينئذٍ فيقال لهم ليس للمعترض أن يعارضه بظاهر يوافق خصمه على عدم منافاته لمذهبه وأيضاً فإذا قدر تعارضهما في الظاهر كان ذلك محوجاً إلى تأويل أحدهما فلماذا يجب تأويل

الصنفين جميعاً بل لو قال لهم القائلون إنه بذاته في كل مكان نحن نقول بنصوص المحايثة ونتأوَّل نصوص المباينة لكانوا أقرب إلى اتباع النصوص منهم ف إنه من المعلوم أن صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح الذي يسميه المتأخرون التأويلَ على خلاف الأصل وما كان على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل فيكون مثبتو المحايثة أقل مخالفة للنصوص من نفاة المحايثة والمباينة ولهذا كان عوامهم وعبادهم إنما يفهمون من قولهم المحايثة استدلالاً يهدم الشبهات الوجه الثاني أن يقال ظاهر هذه الآيات إما أن يقتضي أنه بذاته في كل مكان أو لا يقتضي فإن اقتضى الأول وجب القول بمضمون الصنفين جميعاً فيقال إنه فوق العرش وإنه بذاته في كل مكان كما تقوله طائفة من الجهمية المجسمة وغير المجسمة كما تقدم ذكره فكان على هذا المؤسس أن يقول

بقول هؤلاء إن كانت هذه الآيات تقتضي أنه في كل مكان بذاته ويحتاج أن يجيب إخوانه هؤلاء الجهمية عن دلالة الصنفين من الآيات على مذهبهم وإن لم تكن هذه الآيات تقتضي أنه بذاته في كل مكان وهو الذي تقوله الجماعة لم يصلح لمعارضة ما دل على أنه فوق العرش فقد ظهر على التقديرين بطلان قوله وهو أنه لاداخل العالم ولاخارجه فإنه سواء كانت هذه الآيات دالة على أنه في كل مكان أو لم تكن دالة فإن القرآن يدل على بطلان قولهم إنه لا داخل العالم ولا خارجه إذ مضمون القرآن على أحد التقديرين أنه خارج العالم وعلى التقدير الآخر الذي عارض به المنازع أنه داخله والقول بمضمونها قد قاله القوم وعلى التقديرين فقولُ المؤسس باطل يقرر هذا الوجه الثالث أنه إن لم تكن هذه الآيات دالة على أنه داخل العالم فلا تصلح المعارضة بها وإن كانت دالة كان في القرآن ما يدل على أنه خارج العالم وفيه ما يدل على انه داخل ومن المعلوم أن النصوص إذا تعارضت فالواجب استعمالها جميعاً أو ترجيح أحد النصين وتأويل الآخر فأما ترك العمل بجميع النصوص فلا يقوله أحد ولا يستحلُّه مسلم فكان الواجب حينئذٍ أن نقول إنه خارج العالم وتأويل ما دل على داخله أو نقول إنه داخله ويتأول كما دل على أنه خارجه أو نقول بمجموع

النصين وهو أنه داخله وخارجه والأقوال الثلاثة قد قال بها طوائف فأما قوله وقول ذويه من أنه لاداخل العالم ولاخارجه فهو خلاف النصوص جميعاً وتركُ لاتباعِ جميع آيات القرآن ومعلوم أن هذا باطل بالضرورة من دين المسلمين ودين كل من آمن بالرسل فيكون فسادُ قوله معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام يوضِّحه الوجه الرابع وهو أن يقال لاريب أن نصوص العلو والفوقية كثيرة جدًّا في القرآن وهذه الآيات القليلة قد يزعم من يزعم أنه تدل على أنه في داخل العالم فإن كان الواجب اتباع هذا وتأويل هذا أو بالعكس أو اتباعهما جميعاً كان ذلك مما قد يقال إنه يسوغ أما إذا كان الحق خلاف ما يُعرَف ويفهم من الآيات كلها وهذا الحق وهو أنه لاداخل العالم ولاخارجه لم يدل عليه الكتاب لا نصًّا ولا ظاهراً كان الكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس قد أكثر فيه من الآيات التي لا هدى فيها بل ظاهرها الإضلال والكفر والحق الذي يجب اعتقاده لم تذكره قط فيه ومعلوم أن من تكلم كلاماً كثيراً بما يظهر منه نقيض الحق ولم يتكلم بكلام يظهر فيه الحق لم يكن هادياً إلى الحق

قاعدة: لا يحكم بكفر من يتكلم بما هو كفر حتى تقوم عليه الحجة البلاغية

ولا مبيناً له ولا دالاً على الحق بل كان سكوته عما يدل على الباطل كما سكت عما يدل على الحق خيراً مما يتكلم بما يدل على الباطل ويسكت عما يدل على الحق وهذا مقتضى قول المؤسس وموافقيه وحينئذٍ يكون عدم الكتاب والرسول في هذا الباب الذي هو من أعظم أصول الدين على قولهم خيراً وأنفع للخلق من وجود الكتاب والرسول فإن الكتاب والرسول على قولهم لم يهدهم إلى الحق في ذلك ولا بيَّنه ولا سكت أيضاً عما يدل على الباطل حتى يكونوا كما كانوا عليه في الجاهلية بل تكلم بكلام كثير يدل على الباطل عندهم ومعلوم أن هذا القول كفرٌ بصريح الكتاب والرسول وكل قول يستلزم الكفر فهو من أعظم الباطل والضلال بل هو كفر وهذا لازم لهؤلاء لزوماً لا محيدَ عنه وإن كان منهم من لايهتدي إلى هذا الضلال الذي وقعوا فيه وهذا الكفر الذي لزمهم ولو اهتدى إلى ذلك لرجع عن قوله ولهذا لم يُحكم بكفر من يتكلم بنا هو كفر إن لم تقم عليه الحجة البلاغية إذ قد لا يكون عَلِمَ ما جاء به الرسول في ذلك ومن هؤلاء من قد يظن أن قوله حزبه عليه دليل من كتاب أو سنة أو أثر عن بعض السلف فإذا عرف أن هذا القول الذي يقولونه من أنه ليس فوق العرش ولا فوق العالم لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها أهل القرون الثلاثة الفاضلة بل نطقوا بنقيض ذلك كما هو معروف في موضعه تبين لهم أنهم ضلال مخالفون لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المؤمنين السابقين ومن علم أن قولهم مخالف لذلك

واتبعه كَفَرَ كما كَفَّرهم السلف والأئمة الوجه الخامس أن هذه الآيات إنما يعارض بها الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان كما ذكر ذلك الأئمة وإن كان كثير من هؤلاء ملبِّساً كما لَبَّس هذا المؤسس لايقول بموجب الآيات ولابموجب هذه وإنما يذكر هذه ليدفع بها في الظاهر دلالة تلك الآيات وهي عنده لا تدفع دلالتها كما ذكرناه وهؤلاء الجهمية إذا قالوا إنه في كل مكان بذاته فقد لزمهم من المحاذير والمناقضات التي فروا إليه من كونه فوق العرش أكثر مما فروا منه وإذا كان كذلك لم يكن لهم حجة عقلية يحتجون بها في تأويل تلك الآيات دون هذه فيكون احتجاجهم بهذه الآيات باطلاً كاحتجاج إخوانهم فظهر فساد المعارضة بها من الطائفتين جميعاً وذلك أن المعارض بها إذا قال إنه في كل مكان بحيث يماس الجسام ويكون محدوداً بها أوقال إنه داخل العالم وخارجه وهو جسم محدود ففي هذه الأقوال من الفساد ما ليس في قول من يقول إنه فوق العرش وهو جسم كما تقدم وإذا كان كذلك لم يكن كما تقدم له القول فيما ادعاه من موجب هذه الآيات لاقتران الدليل العقلي بها دون تلك بل الأدلة العقلية على موافقة تلك الآيات أدل منها على هذه كما

لا تعارض بين آيات المعية وآيات العلو

تقدم بيانه وإن قال إنه في كل مكان بلا مماسة أو أنه داخل العالم وخارجه وليس بجسم أو أنه ذاهب في الجهات إلى غير غاية وليس بجسم ونحو ذلك فمن المعلوم أن هذا أبعد عن المعقول وأعظم إحالة من كونه فوق العرش وليس بجسم ومن المعلوم أيضاً أن هذه الآيات التي ذكرها لا تدل على ذلك فحينئذ لا يكون قد قال بموجب هذه الآيات ولابموجب تلك بل ترك النصين جميعاً مع مخالفته للمعقول وهذا كله يبين أن هذه الآيات لا تصلح أن يعارض بها أحد ممن يقول إن الله ليس فوق العرش الوجه السادس أن هذه الآيات ليس فيها ما يعارض تلك الآيات بوجه من الوجوه كما تقدم حكاية أقوال الأئمة وكما سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام مفصلاً إذا ذكرنا قوله مبسوطاً فإن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] ليس ظاهرها أن ذاته في السموات والأرض فإنه لم يقل وهو في السموات وإنما قال وَهُوَ اللَّهُ فالظرف متعلق باسم الله فيكون بمنزلة قوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف 84] وأما آيات المَعِيَّة فنحن نعلم بالاضطرار من لغة العرب أنها لا تقتضي أن الله تعالى مختلط بالخلق ممتزج بهم

بل عامة ما استعمل فيه لفظ مع في القرآن لايدل على ذلك لا في الله تعالى ولا في حق المخلوق وإنما يدل على المقارنة والمصاحبة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أنت الصاحب في السفر وكون الشيء مقارناً لغيره أو مصاحباً له لايمنع أن يكون فوقه ولا يجب أن تكون ذاته مختلطة ممتزجة بذاته وإذا لم يكن لفظ مع في جميع القرآن يدل على الممازجة والمخالطة علم أن ذلك ليس مدلول هذه الكلمة بل كون الشيء مع الشيء على أي وجهٍ قيل لا يمنع أن يكون فوقه ولا يجب أن يكون تحته وإذا لم يكن بين الآيات تنافٍ لم تصلح المعارضة بها وأما قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) فلا منافاة أيضاً بين علوه وبين قربه إن أريد بهذه الآية الله سبحانه وتعالى وأما إن أريد بها الملائكة اندفعت المعارضة من كل وجه وقد تكلمنا على قربه في جواب الأسولة المصرية

نصوص العلو والفوقية لا تحتمل التأويل

كلاماً مبسوطاً وحينئذ فلا حاجة إلى تأويل شيء من هذه الآيات الوجه السابع أنا لو فرضنا الحاجة إلى التأويل فلا ريب أنه على خلاف الأصل وما كان على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل فإذا كان أحد القولين مستلزماً لتأويل آيات قليلة اثنتين أو ثلاث أو عشر فالقول الآخر يستلزم مع تأويل هذه أو مع ترك تأويلها تأويل نحو خمسمائة موضع لم يكن هذا القول مثل ذاك بل كان كل قول أقرب إلى تقرير النصوص خيراً من القول المقتضي تأويلها الوجه الثامن أن تلك الآيات نصوص لاتحتمل التأويل كما سنقرره إن شاء الله الوجه التاسع أن الظواهر إذا تعاضدت على مدلول واحد صار قطعيًّا كأخبار الآحاد إذا تواردت على معنى واحد صار تواتراً فإن الظنون إذا كثرت وتعاضدت صار بحيث تفيد العلم اليقيني وهذه النصوص كذلك

الوجه العاشر أن كل من تدبر هذه النصوص بلا هوى ونظر فيما جاء عن السلف في تفسيرها وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جنسها أفاده ذلك علماً ضروريًّا من أقوى العلوم الضرورية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بمضمونها وأن الله فوق العالم والعمل الضروري لا يندفع بالتأويلات وبسط هذه الأجوبة وغيرها له موضع آخر ثم قال الرازي والجواب عما تمسكوا به خامساً من أن الفوق أشرف الجهات فيجب أن يكون الباري مختصاً به إذ من يقول الأرض كُرَيَّةٌ يقول إن جهات الفلك كلها فوق

لأنه لو كان بعض الحيوان تحت أرجلنا ورأسه مسامِتاً لأخمصنا إذا كان قائماً لكان الفوق عنده ما سامت رأسه وإذا كانت الجهات كلها فوق فكيف قلتم إنه يجب حصوله تعالى في بعضها لأنه أشرف مما عداه ولأنا لو تصورنا أنفسنا إذا ضممنا رؤوسنا إلى جهة الأرض وكانت الأنوار في هذه الجهة وجهة فوق مظلمة لتصورنا أن الأرض هي الشريفة ولأنه لا حيِّزَ إلا ويُفرض فوقه حيز آخر فإذاً لاحيز إلا بالقياس إلى ما فوقه أسفل فوجب أن لايحصل في شيء من الجهات والكلام على هذا من وجوه9 الأول أن قولـ ـه من يقول إن الأرض كُرَيَّةٌ يقول إن جهات الفلك كلها فوق يُشعر أن الفلك جهات متعددة عند من يقول ذلك وليس الأمر كذلك باتفاق علماء المسلمين الذين يقولون الفلك مستدير وباتفاق علماء الهيئة الذين يقولون

بكُرِية الأرض واستدارة الفلك فإن العلو عندهم جهة واحدة لاجهاتٍ متعددة وليس للعالم عندهم إلا جهتان جهة السفل وهو المركز في جوف الأرض وأسفلها وجهة العلو وهي جهة السماء وهي جهة المحيط فقولُه جهات الفلك كلها فوق كلامٌ لا حقيقة له فإذًا لاجهة للفلك إلا جهة واحدة وهي جهة فوق فلا جهات هنالك عند هؤلاء الوجه الثاني أنه إذا كان الفلك عالياً من جميع جوانبه وهو في العلو والأرض هي السفلى وجوفها هو المركز وهو أسفل سافلين وليس للعالم إلا جهتان العلو والسفل كان قولُهم إن الله في العلو وفوق العرش تخصيصاً له بالجهة العالية دون السافلة وذلك تخصيص له بالجهة الشريفة فظهر بذلك شرف العالية الفوقانية على السفلى التحتانية

الوجه الثالث أن كونه فوق العالم أمرٌ يلزم كونه خارج العالم على قول هؤلاء وكل ما كلن خارج العالم كان فوقه بالضرورة إذ لايمكن أن يكون شيء خارج العالم ولا يكون فوقه إذ المحيط بالعالم هو أعلى شيء فيه من جميع النواحي وإذا كان كذلك كان كونه فوق العالم من لوازم كونه خارج العالم وكونه خارج العالم من لوازم ذاته وكونه قائماً بنفسه كما تقدم ذلك فصار كونه فوق العالم من لوازم وجود نفسه الوجه الرابع أن قوله إذا كانت الجهات كلها فوق فلما قلتم إنه يجب حصولها في بعضها لأنه أشرف مما عداه يقال له كونها كلها فوق هو وصف لها في نفسها وهيمن ذلك الوجه جهة واحدة لا جهات لايتصور أن يكون في بعضها دون بعض بل يجب أن يكون في تلك الجهة وهي الجهة العالية بالذات على العالم وأما كونها جهات ست فهو بالإضافة إلى الحيوان إذ يسمّى ما يسامت رأسه فوق وما يسامت رجليه تحت وما يحاذي بيمينه يميناً وما يحاذي شماله يساراً وما يحاذي وجهه أماماً وما يحاذي قفاه خلفاً لأنه يؤم هذا ويقصده ويخلف هذا وهذه أمور إضافية فأمام هذا يكون خلفاً لغيره وخلفاً له أيضاً إذا استدار وكذلك ما يكون يميناً له يكون يساراً لغيره وله أيضاً إذا انفتل ومن المعلوم أن ما كان أعلى كان

أشرف مما كان أسفل والحيوان حيث كان من الأرض فالسماء فوق رأسه والأرض تحت رجليه فلا تكون قط السماء إلا من الجهة التي تحاذي رأسه وهي الجهة الشريفة فإذا قيل إن الباري يختص بالجهة الشريفة بالنسبة إلينا فذاك تخصيص له بالجهة التي استحقها بنفسه وهي الجهة العليا الخارجة عن العالم فصار استحقاقه لها لوجهين أحدهما لوجوب كونه مبايناً للعالم خراجاً عنه ولايكون كذلك إلا إذا كان فوق العالم ولوجوب كونه العلي الأعلى على كل شيء فيجب أن يكون فوق العالم ولكونه من العالم بأشرف جهاتهم الإضافية ناحية العلو وهي ناحية السماء منهم حيث كانوا فهذه ثلاثة أوجه متناسبة متوافقة ليست مختلفة كما زعمه المؤسس الوجه الخامس قوله ولأنا لو تصورنا أنفسنا إذا ضممنا رؤوسنا إلى جهة الأرض وكانت النوار في هذه الجهة وجهة فوق مظلمة لتصورنا أن الأرض هي الشريفة فمضمونه أن جهة السماء هي بنفسها الجهة العليا الواسعة سواء كنا موجودين أو معدومين وجهة الأرض هي جهة السفلى الضيقة والرب يمتنع أن يكون فيها لأن أسفل الأرض ضيق سافل وذلك يستلزم أن يحيط بالله أقل

مناقشة قول الرازي: "لا حيز إلا ويفرض فوقه حيزا آخر"

شيء وأسفله وأضيقه وأيضاً فإنه يجب مباينته للعالم وذلك يستلزم كونه فوق العالم وأيضاً فما ذكره من تقدير رؤوسنا والنور من الجهة السافلة تقدير خلاف الواقع وإذا كان تقديراً لاحقيقة له كان الحكم اللازم له حكماً لاحقيقة له كما لو قال قائل لو كان العرش في جوف الأرض ولو كانت الأرض فوق السماء ونحو ذلك ولاريب أنه لو اختلفت صفات الأجسام ومقاديرها وحقائقها لاختلفت أحكامها لكن بكل حال يجب أن يكون الله مبايناً للعالم وأن يكون هو العلي الأعلى وذلك يمنع أن يكون في الجهة السفلى الضيقة سواء على أي وجه قُدِّر وهو المطلوب الوجه السادس قوله لاحيز إلا ويُفرض فوقه حيزٌ آخر يقال له المفروض هو تقدير الذهن وتخيُّله وذلك لايستلزم تحقق هذا المقدار في الخارج بل تقدير أحياز بعضها فوق بعض بمنزلة تقدير أجسام لا نهاية لها وذلك تقدير لاحقيقة له في الخارج فقوله ولا حيز إلا وهو بالنسبة إلى ما فوقه أسفل يوجب ألا يحصل في شيء من الجهات إنما يصح لو كان فوقه شيء لا يلزم إذا قَدَّر الذهن شيئاً لاحقيقة له في الخارج كما لا يلزم إذا قُدِّر أجسام لا نهاية لها أن يكون مداخلاً للأجسام وكما لا يلزم إذا قُدِّر هناك عالم آخر أن يقال لايكون فوق هذا العالم بل فوق ذلك بل إذا قدر الذهن حيزاً فوق حيز قدر أيضاً فوق الأسفل وهكذا كلما زاد الذهن في هذا التقدير زِيدَ في

هذا التقدير ولكن لايلزم من ذلك أن يكون الخارج كذلك وإنما هي تقدير ذهني وقد قدمنا فيما مضى أن الأحياز التي قال إنها خارج العالم إنما هي أمور عدمية وتقديرات ذهنية ليس لها حقيقة خارجية والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل: في نقل المؤلف كلام الرازي عن الكرامية إطلاق الجسم على الله تعالى

فصل قال الرازي في تأسيسه الفصل السادس اعلم أن المشهور عن قدماء الكرامية إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى إلا أنهم يقولون لانريد به كونه تعالى مؤلفاً من الأجزاء ومركباً من الأبعاض بل نريد به كونه تعالى غنيًّا عن المحل قائماً بالنفس وعلى هذا التقدير فإنه يصير النزاع في أنه تعالى جسم أم لا نزاعاً لفظيًّا هذا حاصلُ ما قيل في هذا الباب إلا أنا نقول كل ما كان مختصاً بحيز أو جهة ويمكن أن يشار إليه بالحس فذلك المشار إليه إما أن لا يبقى منه شيء في جوانبه الستة فهذا يكون كالجوهر الفرد وكالنقطة التي لا تتجزأ ويكون في غاية الصغر والحقارة ولا أظن أن عاقلاً يرضى أن يقول إن إله العالم

كذلك أما إن بقي منه شيء في جوانبه الستة أو في أحد هذه الجوانب فهذا يقتضي كونه مؤلفاً مركباً من الجزأين أو أكثر أقصى ما في الباب أن يقول قائل إن تلك الأجزاء لا تقبل التفريق والانحلال إلا أن هذا لا يمنع من كونه في نفسه مركباً مؤلفاً كما أن الفلسفي يقول الفلك جسم إلا أنه لايقبل الخرق والالتئام فإن ذلك لايمنعه من اعتقاد كونه جسماً طويلاً عريضاً عميقاً فثبت أن هؤلاء الكرامية لما اعتقدوا كونه تعالى مختصًّا بالحيز والجهة ومشارًا إليه بحسب الحس واعتقدوا أنه تعالى ليس في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد والنقطة التي لا تتجزأ وجب أن يكونوا قد اعتقدوا أنه تعالى ممتد في الجوانب أو في بعض الجوانب ومن قال ذلك فقد اعتقد كونه تعالى مركباً مؤلفًا فكان امتناعه عن إطلاق لفظ المؤلف

مناقشة المؤلف للرازي وبيان المقارنة بين مثبتة الجسم ونفاته

والمركب امتناعاً عن مجرد هذا اللفظ مع كونه معتقداً لمعناه فثبت أنهم إنما أطلقوا عليه لفظ الجسم لأجل أنهم اعتقدوا كونه تعالى طويلاً عميقاً عريضاً ممتداً في الجهات فثبت أن امتناعهم عن هذا الكلام لمحض التقية والخوف وإلا فهم يعتقدون كونه تعالى مركباً مؤلفاً فهذا تمام الكلام في القسم الأول من هذا الكتاب وهذا هو القسم المشتمل على الوجوه العقلية والكلام على هذا من وجوه أحدها أن القول بكون الجسم الموجود القائم بنفسه أو الموجود هو قول أئمة المجسمة مثل هشام بن الحكم

نقل المؤلف عن الشعري: الاختلاف في الجسم

وغيره فإن الأمة أول ما تنازعت في الجسم نفياً وإثباتاً هل الله تعالى بجسمٌ أو ليس بجسمٍ والخائضون في ذلك هم أهل الكلام فقال أبو الهذيل العلاَّف وأتباعه من المعتزلة إنه ليس بجسم وقال هشام بن الحكم وأتباعه من الشيعة أنه جسم وكان أولئك يفسرون الجسم بما احتمل الصفات أو ربما هو مؤلف من الأجزاء وهؤلاء يفسرون الجسم بالقائم بنفسه أوبالموجود قال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين بعد أن ذكر اختلافهم في الجليل من الكلام والتوحيد والقدر والأسماء والأحكام والإمامة والوعيد قال ذكر اختلاف الناس في الدقيق اختلف المتكلمون في الجسم ما هو على اثنتي عشرة مقالة فقال قائلون الجسم هو ما احتمل الأعراض كالحركات والسكون وما أشبه ذلك فلا جسم إلا ما احتمل الأعراض

ولا ما يحتمل أن تحلّ الأعراض فيه إلا جسم وزعموا أن الجزء الذي لايتجزأ جسم يحتمل الأعراض وكذلك معنى الجوهر أنه يحتمل الأعراض وهذا قول أبي الحسن الصالحي قال وزعم صاحب هذا القول أن الجسم محتمل لجميع أجناس الأعراض غير أن التأليف لايسمى حتى يكون تأليف آخر ولكن أحدهما قد يجوز على الجزء ولا نسمِّيه تأليفاً اتباعاً للغة قالوا وذلك أن أهل اللغة لم يجيزوا مماسة

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الأشعري

لا شيء قالوا وإنما سمي ذلك عند مجامعة الآخر له وإلا فحظه من ذلك قد يُقَدِّرُ الله أن يُحدِثَهُ فيه وإنْ لم يكن آخر معه إذا كان يقوم به ولايقوم بأخيه وشبهوا ذلك بالإنسان يُحَرِّك أسنانه فإن كان فيه شيء فذلك مضغٌ وإن لم يكن في فيه شيء لم يسمَّ ذلك مضغاً قال وقال قائلون الجسم إنما يكون جسماً للتأليف والاجتماع وزعم هؤلاء أن الجزء الذي لايتجزأ إذا جامع جزءاً آخر لايتجزأ فكل واحد منهما في حال الاجتماع جسم لأنه مؤلف بالآخر فإذا افترقا لم يكونا ولا واحدٌ منهما جسماً قال وهذا قول البغداديين قلت وهذا قول كثير من متأخري المتكلمة الصفاتية كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره وهو قول القاضي أبي يعلى قال وقال قائلون معنى الجسم أنه مؤتلف وأقل الأجسام جزءان ويزعمون أن الجزأين إذا تألَّفا فليس واحدٌ

منهما جسماً ولكن الجسم هو الجزآن جميعاً وأنه يستحيل أن يكون التركيب في واحدٍ والواحد يحتمل اللون والطعم والرائحة وجميع الأعراض إلا التركيب وأحسب هذا قول الإسكافي وزعموا أن قول القائل يجوز أن يُجمع إليهما ثالث خطأٌ محال لأن كل واحد منهما مشغل لصاحبه وإذا أشغله لم يكن للآخر مكان لأنه إذا كان جزآن مكانهما واحد فقد ماس الشيء أكثر من قدره ولو جاز ذلك جاز أن تكون الدنيا تدخل في قبضة ولهذا قال لا يماس الشيء أكثر من قدره قال وهذا قول أبي بشر صالح بن أبي صالح ومن وافقه قلت هذا القول قول طائفة من متأخري المتكلمة الصفاتية الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد قال وقال أبو الهذيل الجسم ما له يمين وشمال

وظهر وبطن وأعلى وأسفل وأقل ما يكون الجسم ستة أجزاء أحدها يمين والآخر شمال أحدها ظهر والآخر بطن وأحدها أعلى والآخر أسفل وأن الجزء الواحد الذي لايتجزأ يماس ستة أمثاله وأنه يتحرك ويسكن ويجامع غيره ويجوز عليه الكون والمماسة ولايحتمل اللون والطعم والرائحة ولا شيئاً من الأعراض غير ما ذكرنا حتى تجتمع هذه الستة الأجزاء فإذا اجتمعت فهي الجسم وحينئذٍ يحتمل ما وصفنا قال وزعم بعض المتكلمين أن الجزأين اللذين لايتجزآن يحلهما جميعاً التأليف فإن التأليف الواحد يكون في مكانين وهذا قول الجبائي قال وقال معمَّر هو الطويل العريض العميق وأقل الأجسام ثمانية أجزاء فإذا اجتمعت الأجزاء وجبت الأعراض

وهي تفعلها بإيجاب الطبع وإن كل جزء يفعل في نفسه ما يحله من الأعراض وزعم أنه إذا انضم جزء إلى جزء حدث طول وأن العرض يكون بانضمام جزأين إليهما وأن العمق يحدث بأن ينطبق على أربعة أجزاء فتكون الثمانية الأجزاء جسماً عريضاً طويلاً عميقاً قال وقال هشام بن عمرو الفوطي إن الجسم ستة وثلاثون جزءاً لايتجزأ وذلك أنه جعل ستة أركان وجعل كل ركن منه ستة أجزاء فالذي قال أبو الهذيل إنه جزء جعله هشام ركناً وزعم أن الجزء لا يجوز عليه المماسة وأن المماسات للأركان وأن الأركان التي كل ركن منها ستة أجزاء ليست الستة الأجزاء متماسة ولا متباينة ولا يجوز ذلك إلا على الأركان فإذا كان كذلك فهو محتمل لجميع الأعراض من اللون والطعم والرائحة والخشونة واللين والبرد وما أشبه ذلك

قال وقال قائلون الجسم الذي سماه أهل اللغة جسماً هو ما كان طويلاً عريضاً عميقاً ولم يُحِدُّوا في ذلك عدداً من الأجزاء وإن كان لأجزاء الجسم عدد معلوم قال وقال هشام بن الحكم معنى الجسم أنه موجود وكان يقول إنما أريد بقولي جسم أنه موجود وأنه شيء وأنه قائم بنفسه قال وقال النظَّام الجسم هو الطويل العريض العميق وليس لأجزائه عدد يوقف عليه وأنه لا نِصف إلا وله نصف ولا جزء إلا وله جزء قال وكانت الفلاسفة تجعل حد الجسم أنه العريض العميق قال وقال عباد بن سليمان

الجسم هو الجوهر والأعراض التي لا ينفكّ منها وما كان قد ينفك منها م الأعراض فليس ذلك من الجسم بل ذلك غير الجسم وكان يقول الجسم هو المكان ويعتل في الباري تعالى أنه ليس بجسم فإنه لو كان جسماً لكان مكاناً ويعتل أيضاً بأنه لو كان جسماً لكان له نصف قال وقال ضرار بن عمرو الجسم أعراض أُلِّفَتْ وجمعت فقامت فثبتت فصارت جسماً تحتمل الأعراض إذا حلَّت والتغيير من حال إلى حال وتلك الأعراض هي ما لا تخلو الأجسام منه أو من ضده نحو الحياة والموت اللذين لا يخلو الجسم من واحد منهما والألوان والطعوم التي لا ينفك من واحد من جنسها وكذلك الزِنَةُ كالثقل والخفَّة وكذلك الخشونة واللين والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وكذلك

الصمد فأما ما ينفك منه ومن ضده فليس ببعض له عنده وذلك كالقدرة والألم والعلم والجهل وليس يجوز عنده أن تجتمع هذه الأعراض وتصير أجساداً بعد وجودها ومحال أن يفعل بها ذلك إلا في حال ابتدائها لأنها لاتخرج إلى الوجود إلا مجتمعة وقد يمكن أن تجتمع عنده كلها وهي موجودة ومحال أن تفترق كلها وهي موجودة لأنها لو افترقت مع الوجود لكان اللون موجوداً لا الملون والحياة موجودة لا الحي فإذا قلت له فليس يجوز على هذا القياس عليها الافتراق قال مرة افتراقُها فَنَاؤها وقال مرة الافتراق يجوز على الجسمين فأما أبعاض الجسم مع الوجود فلا وقد يجوز عنده أن يفني بعض الجسم وهو موجود على أن يجعل مكانه ضدُّه فهذه الأقوال ترجع إلى أقوال أحدها أنه المحتمل للصفات والأعراض وإن لم يكن مؤلفاً والثاني أنه ما يدخله التأليف من الأجزاء وهو يُسمى الواحد جسماً حال تركيبه أو لا يكون جسماً إلا الجزءان أو الستة أو الثمانية أو الستة والثلاثون ولايحصر ذلك بعدد على الأقوال الستة

والثالث أنه الطويل العريض العميق وإن لم يكن مؤلفاً من الأجزاء أو لم يكن مؤلفاً من الأجزاء المحصورة كما يقوله النظام والفلاسفة وهو قول الشهرستاني وغيره والرابع أنه المؤلّف من الأعراض والخامس أنه الموجود أو أنه المكان والسادس انه الموجود أو أنه القائم بنفسه وهو مع حكاية هذا عن هشام قد ذكر عنه أنه قال إن الله تعالى جسم محدود عريض طويل عميق طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه نور ساطع له قدر من الأقدار بمعنى أن له مقداراً في طوله وعرضه وعمقه لا يتجاوزه في مكان دون مكان

كالسبيكة الصافية تتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون ولم يعين لوناً ولا طعماً هو غيره وانه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد قال وحُكي عنه أنه قال هو جسم لا كالأجسام ومعنى أنه شيء موجود قال وذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري متكوناً ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسَّة وأن يكون طويلاً أو عريضاً أو عميقاً وزعم أنه يتحرك من وقت خلق الخلق قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفاً بلون أو طعم أو رائحة أو مجسّة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مماس له دون ما سواه وقال في اختلاف الشيعة في التجسيم وهم ست فرق

فالفرقة الأولى الهشامية وهم أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد وذكر نحو ما تقدم قال وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث المكان بأن تحرك الباري فحدث المكان بحركته وزعم أن المكان هو العرش قال وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له إن ربه لجسم ذاهب جاء فيتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال والفرقة الثانية يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود

ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستوٍ بلا مماسة ولا كيف قال والفرقة الثالثة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسماً والرابعة أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ريهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً أو دماً ويقولون هو نور ساطع يتلألأ ضياء وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وعين وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم والفرقة الخامسة يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمرٍ واحدٍ وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من

تعقيب المؤلف على الأشعري في نقله اختلاف الشيعة في الجسم

الحيوان قال والفرقة السادسة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا صورة ولايشبه الأشياء ولايتحرك ولايسكن ولايماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج قال وهؤلاء من متأخريهم فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه قلت فقد ذكر عن المجسمة قولين أحدهما أنه لا يوصف بالطول والعرض والعمق وذكر هؤلاء ثلاثة أقوال أحدها أن معنى ذلك أنه موجود ولايثبتون الباري تعالى ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش بلا كيف

والقول الثاني أنه جسم وأنكروا أن يكون يوصف بالكيفيات الخمس أو بشيء مما وصفه به هشام غير أنه على العرش مماس له دون ما سواه وهذان القولان يشبهان القول الذي ذكره الرازي عن قدماء الكرامية والقول الثالث إثبات أن الباري تعالى متلوِّن ومنع أن يكون ذا طعم أو لون أو رائحة أو طويل أو عريض أو عميق لكنه متحرك والقول الثاني الذي ذكره عن المجسمة أنه طويل عريض عميق وأن هؤلاء يقولون معنى الجسم أنه الموجود القائم ينفسه وأنه مع ذلك الطويل العريض العميق الموصوف بالحركة والسكون وما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي فقولهم

هو الموجود القائم بنفسه لاينافي عندهم قولهم هو الطويل العريض العميق الموصوف بالحركة والسكون لأنه عندهم لاموجود قائم بنفسه إلا كذلك وهذا قول أئمة المجسمة وجمهورهم كهشام وغيره وهو أيضاً قول طوائف من الكرامية لكن هشام وأصحابه لا يثبتون للجسم صفة غير نفسه ولهذا يقول لا موجود إلا الجسم ولهذا لايقول إن صفته غيره وأما الكرامية فنقل عنهم أنهم يقولون إن صفته غيره هذا مع أن هذه المقولات والفرق كانوا قبل وجود الكرامية فإن محمد بن كرام إنما ظهر في أثناء المائة الثالثة وهو فرين أبي سعيد بن كُلاّب وهما أقدم من الأشعري وإن كان أي

نقل المؤلف عن الأشعري اختلاف المرجئة في الإيمان

الأشعري قد أدرك ذلك الزمان لكن ابن كرام كان بسجستان وتلك النواحي وابن كلاب كان بالبصرة وكذلك الأشعري وعصرهما هو عصر أئمة أهل السنن المصنفة كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومع هذا فلم يذكر الأشعري في مقالاته عن الكرامية شيئاً خصهم به إلا أنه عدهم في فرق المرجئة فقال اختلفت المرجئة في الإيمان ما هو وهم اثنتا عشرة فرقة فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله ورسوله وبجميع ما جاء من عنده فقط وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعلم بالجوارح فليس بإيمان وزعموا

أن الكفر بالله هو الجهل به وهذا قول يُحكى عن جهم بن صفوان قال وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لايكفر بجحده وأن الإيمان لا يتبعَّض ولا يتفاضل أهله فيه وان الإيمان والكفر لايكونان إلا في القلب دون غيره من الجوارح والفرقة الثانية من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط فلا إيمان بالله إلا بالمعرفة به ولا الكفر بالله إلا الجهل به وأن قول القائل إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفر ولكنه لايظهر إلا من كافر وذلك أن الله تعالى أكفر من قال ذلك وأجمع المسلمون انه لا يقول إلا كافر وزعموا أن معرفة الله تعالى هي المحبة له وهي الخضوع لله تعالى وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول وأنه لا يؤمن بالله إذا جاء الرسول إلا مؤمن بالرسول ليس لأن ذلك يستحيل ولكن لأن الرسول قال من لا يؤمن بي فليس مؤمناً بالله وزعموا أيضاً أن الصلاة ليست بعبادة لله وأنه لاعبادة إلا الإيمان به وهو معرفته والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة وكذلك الكفر

والقائل بهذا القول أبي الحسين الصالحي ثم ذكر سائر مقالات المرجئة التي هي أصلح من هذين القولين فقال والفرقة الثالثة من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وزعموا أن إبليس كان عارفاً بالله غير أنه كفر باستكباره على الله وهذا قول قوم من أصحاب يونس السمري وزعموا أن الإنسان وإن كان لايكون مؤمناً إلا بجميع الخلال التي ذكرناها فقد يكون كافراً بتركه خصلة منها ولم يكن يونس يقول بهذا والفرقة الرابعة منهم وهم أصحاب أبي شمر ويونس

يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والخضوع له والمحبة له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء فإن قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم والمعرفة بما جاء من عند الله غير داخلٍ في الإيمان ولايسمُّون كل خصلة من هذه الخصال إيماناً ولابعض إيمان حتى تجتمع هذه الخصال فإذا اجتمعت سموها إيماناً لاجتماعهما وشبهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بَلْقَاءَ ولابعض أبلق حتى يجتمع السواد والبياض فإذا اجتمعا في الدابة سمى ذلك بَلَقَاً إذا كان في فرس فإذا كان في جمل

أو كلبٍ سمى بَقَعاً وجعلوا ترك الخصال كلها وترك كل خصلة منها كفراً ولم يجعلوا الإيمان متبعِّضاً ولامحتملاً للزيادة والنقصان وحُكي عن أبي شمر أنه قال لا أقول في الفاسق الملِّي فاسق مطلق دون أن أقيد فأقول فاسق في كذا وحكى محمد بن شبيب وعباد بن سليمان عن أبي شمر أنه كان يقول إن الإيمان هو المعرفة بالله والإقرار به وبما جاء من عنده ومعرفة العدل يعني في القدر وما كان من ذلك منصوصاً عليه أو مستخرجاً بالمعقول مما فيه إثبات عدل الله ونفي التشبيه والتوحيد فكل ذلك إيمان والعلم به إيمان والشاك فيه كافر الشاك في الكفار كافر أبداً والمعرفة لايقولون إنها إيمان ما لم يعلم الإقرار وإذا وقعا كانا جميعاً إيماناً والفرقة الخامسة من المرجئة أصحاب أبي ثوبان يزعمون

أن الإيمان هو الإقرار بالله ورسله وما كان لايجوز في العقل إلا أن يفعله وما كان جائزاً في العقل أن لا يفعله فليس ذلك من الإيمان والفرقة السادسة من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وفرائضه المجتمع عليها والخضوع له بجميع ذلك والإقرار باللسان فمن جهل شيئاً من ذلك وقامت عليه حجة أو عُرِّفه ولم يُقرَّ به كفر ولم تُسمَّ كل خصلة من ذلك إيماناً كما حكينا عن أبي شمر وزعموا أن الخصال التي هي إيمان إذا وقعت فكلُّ خصلة منها طاعة فإن فعلت خصلة منها ولم تفعل الأخرى لم تكن طاعة كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة لأن الله أمر بالإيمان جملة أمراً واحداً

ومن لم يفعل ما أمر به لم يُطع وزعموا أن ترك كل خصلة من ذلك معصية فإن الإنسان لايكفر بترك خصلة واحدة وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم ويكون بعضه أعلم بالله وأكثر تصديقاً له من بعض فإن الإيمان يزيد ولاينقص وأن من كان مؤمناً لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر وهذا قول الحسين بن محمد النجار وأصحابه والفرقة السابعة الغيلانية أصحاب غيلان يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء

به الرسول وبما جاء من عند الله تعالى وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار فلذلك لم يجعلها من الإيمان وذكر محمد بن شبيب عن الغيلانية أنهم يوافقون الشمرية في الخصلة من الإيمان أنه لايقال لهما إيمان إذا انفردت ولايقال لها بعض إيمان إذا انفردت وأن الإيمان لايحتمل الزيادة والنقصان وأنهم خالفوا في العلم فزعموا أن العلم بأن الأشياء محدثة مدبرة ضرورية والعلم بأن محدثها ومدبرها ليس باثنين ولا أكثر من ذلك اكتساب وجعلوا العلم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عنده اكتساباً وزعموا أن من الإيمان إذا كان الذي جاء من عند الله منصوصاً بإجماع المسلمين ولم يجعلوا شيئاً من الدين مستخرجاً إيماناً قال وكل هؤلاء الذين حكينا قولهم من الشمرية والجهمية والغيلانية والنجارية ينكرون أن يكون من الكفار إيمان وأن يقال فيهم بعض الإيمان إذ كان الإيمان لايتبعض عندهم وذكر زرقان عن غيلان أن الإيمان هو الإقرار باللسان

وهو التصديق وأن المعرفة بالله فعل الله وليست من الإيمان في قليل ولا كثير واعتل بأن الإيمان في اللغة هو التصديق والفرقة الثامنة من المرجئة أصحاب محمد بن شبيب يزعمون أن الإيمان الإقرار بالله والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء والإقرار والمعرفة بأنبياء الله وبرسله وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نص عليه المسلمون ونقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام وأشباه ذلك مما لا اختلاف بينهم فيه ولا تنازع وما كان من الدين نحو اختلاف الناس في الأشياء فإن الراد للحق لا يكفر وذلك أنه إيمان واستخراج ليس يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به من عند الله تعالى ولا يرد على المسلمين ما نقلوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ونصوا عليه والخضوع لله هو ترك الاستكبار وزعموا أن إبليس قد عرف الله تعالى وأقر به وإنما كان كافراً لأنه استكبر ولولا استكباره لما كان كافراً وأن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله وأن الخصلة ممن الإيمان قد تكون طاعة وبعض إيمان ويكون صاحبها كافراً بترك بعض الإيمان ولا يكون مؤمناً إلا بإصابة الكل وكل رجل يعلم أن

الله واحد ليس كمثله شيء ويجحد الأنبياء فهو كافر بجحده الأنبياء وفيه خصلة من الإيمان وهي معرفته بالله وذلك أن الله أمره أن يعرفه وأن يقر بما كان عرف فإذا لم يقر أو عرف الله وجحد أنبياءه فإذا فعل ذلك فقد جاء ببعض ما أمر به وإذا كان الذي أمر به كله إيمان فالواحد منه بعض إيمان وكان محمد بن شبيب وسائر من قدمنا وصفه من المرجئة يزعمون أن مرتكبي الكبائر من أهل الصلاة العارفين بالله ورسله المقرين به وبرسله مؤمنين بما معه من الإيمان فاسقون بما معهم من الفسق والفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والإقرار بالله والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير قال وذكر أبو عثمان الآدمي أنه اجتمع أبو حنيفة

وعمر بن عثمان الشمزي بمكة فسأله عمر فقال له أخبرني عمن زعم أن الله تعالى حرّم أكل الخنزير غير أنه لا يدري لعل الخنزير الذي حرمه الله ليس هي هذه العين فقال مؤمن فقال قد عمر فإنه قد زعم أن الله قد فرض الحج إلى الكعبة غير أنه لا يدري لعلها كعبة غير هذه بمكان كذا فقال هذا مؤمن قال فإن قال أعلم أن الله بعث محمداً وأنه رسول غير أنه لا يدري لعله هو الزنجي قال هذا مؤمن ولم يجعل أبو حنيفة شيئاً من الدين مستخرجاً إيماناً وزعم أن الإيمان لا يتبعَّض ولايزيد ولايتفاضل الناس فيه قال فأما غسان وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم يحكون

عن أسلافهم أن الإيمان هو الإقرار والمحبة لله والتعظيم له والهيبة منه وترك الاستخفاف بحقه وأنه لا يزيد ولا ينقص والفرقة العاشرة من المرجئة أصحاب أبي معاذ التَّوْمِني يزعمون أن الإيمان ما عصم من الكفر وهو اسم لخصال إذا تركها التارك أو ترك خصلة منها كان كافراً فتلك الخصال التي يكفر بتركها أو ترك خصلة منها إيمان ولا يقال للخصلة منها إيمان ولابعض إيمان وكل طاعة إذا تركها التارك لم يجمع

المسلمون على كفره فتلك الخصلة شريعة من شرائع الإيمان تاركها إن كانت فريضة يوصف بالفسق فيقال له إنه فسق ولا يسمى بالفسق ولايقال فاسق وليس تخرج الكبائر من الإيمان إن لم يكن كَفَر فتارك الفرائض مثل الصلاة والصوم والحج على الجحود لها والرد لها والاستخفاف بها كافر بالله وإنما كفر للاستخفاف والرد والجحود وإن تركها غير مستحلًّ لتركها متشاغلاً مسوّقاً يقول الساعة الأصلي وإذا فرغت من لهوي ومن عملي فليس بكافر إذا كان غرضه أن يصلي يوماً ووقتاً من الأوقات ولكن نُفَسِّقُهُ وكان أبو معاذ يزعم أن من قتل نبيًّا أو لطمه كفر وليس من أجل اللطمة والقتل كَفَرَ ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له وكان يزعم أن الموصوف بالفسق من أصحاب الكبائر ليس بعدو لله ولا وليٍّ لله وكل المرجئة يقولون إنه ليس في أحد من الكفار إيمان بالله والفرقة الحادية عشرة من المرجئة أصحاب بشر المريسي يقولون إن الإيمان هو التصديق لأن الإيمان في اللغة هو

التصديق وما ليس بتصديق فليس بإيمان ويزعم أن التصديق يكون بالقلب واللسان جميعاً وإلى هذا القول كان يذهب ابن الراوندي قال وكان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية فليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفراً ولايجوز أن يكون إيماناً إلا ما كان في اللغة إيماناً وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر ولكنه عَلَمٌ على الكفر لأن الله تعالى بين لنا أنه لا يسجد للشمس إلا كافر قال والفرقة الثانية عشرة من المرجئة الكرامية أصحاب محمد بن كَرَّام يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب وأنكروا أن تكون معرفة القلب أو شيء

نقل المؤلف عن الأشعري اختلاف المرجئة في الكفر

غير التصديق باللسان إيماناً وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين على الحقيقة وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان قال ومن المرجئة من يقول إن الفاسق من أهل القبلة لا يُسمَّى بعد تقضِّي فعله فاسقاً ومنهم من يقول لا أقول لمرتكب الكبائر فاسق على الإطلاق دون أن يقال فاسق في كذا ومنهم من أطلق اسم الفسق قال واختلفت المرجئة في الكفر ما هو وهم ست فرق الفرقة الأولى تزعم أن الكفر خصلة واحدة وبالقلب تكون وهو الجهل بالله وهؤلاء هم الجهمية والفرقة الثانية

منهم يزعمون أن الكفر خصال كثيرة ويكون بالقلب وبغير القلب والجهل بالله كفر وبالقلب يكون وكذلك البغض لله والاستكبار عليه وكذلك التكذيب بالله وبرسله بالقلب وباللسان وكذلك الجحود لهم والإنكار لهم وسبُّهم وكذلك الاستخفاف بالله ورسله كفر وكذلك ترك التوحيد إلى اعتقاد التثنية والتثليث أو ما هو أكثر من ذلك كفر وزعم قائل هذا القول أن الكفر يكون بالقلب واللسان دون غيرهما من الجوارح وكذلك الإيمان وزعم قائل هذا القول أن قاتل النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولاطِمَه لم يكفر من أجل القتل واللطمة ولكن من أجل الاستخفاف وكذلك تارك الصلاة مستخفًّا لتركها إنما يكفر بالاستحلال لتركها لا بتركها وزعم صاحب هذا القول أن من استحل ما حرم الله مما نص الرسول على تحريمه وأجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر بالله وأن استحلال ذلك كفر وكذلك من قال قولاً واعتقد عقداً قد أجمع المسلمون على إكفار فاعله وكل قول أجمعوا على

إكفار قائله كفر بأي جارحة كان الفعل والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن الكفر بالله هو التكذيب والجحد له والإنكار له باللسان وأن الكفر لا يكون إلا باللسان دون غيره من الجوارح وهذا قول محمد بن كرام وأصحابه والفرقة الرابعة منهم يزعمون أن الكفر هو الجحود والإنكار والستر والتغطية وأن الكفر يكون بالقلب واللسان والفرقة الخامسة منهم أصحاب أبي شمر وقد تقدمت حكاية قولهم في إكفار من رد قولهم في التوحيد والقدر والفرقة السادسة أصحاب محمد بن شبيب وقد ذكرنا قولهم في الإكفار عند ذكرنا قولهم في الإيمان وأكثر المرجئة لا يكفِّرون أحداً من المتأوِّلين ولا يكفرون إلا من جمعت الأمة على إكفاره قلت فلم يذكر عن الكرامية شيئاً انفردوا به إلا قولهم في الإيمان والكفر أن ذلك يتعلق باللسان فقط دون القلب ولاريب أن هذا القول هو بدعة من الكرامية لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه وهو باطل فإن إدخال المنافقين في اسم المؤمنين مما

يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام ونصوص القرآن الكثيرة تنفي ذلك ولم يذكر عن الكرامية في جميع كتابه شيئاً إضافة إليهم غير ذلك فأما سائر ما يذكره أصحابه من الكرامية من التجسيم وحلول الحوادث وذلك بأنه قد حكاه في كتابه عن طوائف من أهل القبلة من أهل الكلام والحديث والتصوف والتفسير بل عن طوائف غيرهم متقدمين على الكرامية لاسيما أصل القول بحلول الحوادث فإنه ذكره عن طوائف متنوعة من الفقهاء والصوفية من أهل الحديث والمتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم والقول الذي ذكره عن جهم والصالحي في الإيمان فهو الذي ينصره أئمة أصحابه ويضيفونه إليه ولا ريب أن كتبه المصنَّفة في آخر عمره مثل المقالات

الفرق بين نفاة الجسم ومثبتته

ونحوها إنما قال فيها بقول أهل السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والجهم اعتقد في الإيمان ما اعتقده في الله المُؤْمَنِ به من أنه إذا كان واحداً امتنع أن يكون له صفات وأن كونه واحداً يمتنع أن يكون حيًّا قادراً عالماً له حياة وقدرة وعلم وكذلك اعتقد في الإيمان أنه لايكون إلا شيئاً واحداً يتساوى فيه جميع الموصوفين به وأن ذلك لايمكن أن يكون إلا خصلة واحدة ولايمكن أن تكون تلك الخصلة إلا مجرد المعرفة واعتقد أن الواحد لايتصور أن يتضمن أشياء لأن ذلك عنده تركيب وانقسام فنفى ذلك بزعمه في الإيمان كما نفاه في حق الله تعالى فجحد أن يتميز في الإيمان شيء من شيء في الوجود والعلم كما قال ذلك في الله تعالى وإذا كان كذلك عُلِم أن الذين قالوا إنه جسم وأن معنى ذلك أنه موجود قائم بنفسه وأنه لايعقل قائم بنفسه إلا الجسم لهم قولان منهم من يقول إنه مع ذلك طويل عريض عميق ومنهم من يقول ليس بذي أجزاء وأبعاض وأن هذا مما ينازعون فيه

موافقيهم على أنه جسم وإذا كان كذلك علم أن امتناعهم عن ذلك ليس لمحض التَّقيَّة والخوف بل هو اعتقاد يعتقدونه وينفون الأجزاء والأبعاض وإن قال القائل هذا تناقض منهم وأنه يلزمهم القول بالأجزاء والأبعاض فغايتُه أنهم في ذلك كسائر الطوائف التي يقال إنه يلزمهم قولٌ وهم لايقولون به وهذا كما أن الكُلاَّبية أئمة الأشعرية وقدماؤهم تقول بقول المعتزلة ومتأخرو الأشعرية يلزمهم القول بأنه جسم وهم لايقولون بذلك وكذلك كل من أثبت الرؤية يقول نفاتها وكثير ممن يثبتها أنه يلزمه القول بالتجسيم وإن كان لايقول بذلك الوجه الثاني أن لوازم نفاة الجسم أعظم من لوازم مثبتته فإن من نفاه يقال عنه إنه يلزمه أن الله لا يُرى وأن الله لا يتكلم وأن القرآن مخلوق وأن الله ليس على العرش وأنه لا يقوم به صفة وأن إقراره بالكُرَوِيَّة وبأن كلام الله غير مخلوق وأن الله تعالى على العرش وغير ذلك إنما هو لمحض التقية والمصانعة لأهل السنة والحديث وهذا يقوله خلق كثير من الأشعرية وغيرهم حتى قالوا إن الأشعري إنما

صنف كتاب الإبانة تقية وإلا فالرجل باطنه يشبه بواطن شيوخه المعتزلة وأنهم بمنزلة المنافقين الذين يوافقون أهل السنة والحديث في الظاهر ويخالفونهم في الباطن وأيضاً فمن تأمل كلام الرازي وجده في كثير من مسائله لاينصر القول الذي ينصره إلا للتقية دون الاعتقاد كما فعله في مسألة الرؤية والقرآن ونحوهما فإن كلامه يقتضي أن الرجل منافق لأصحابه الذين هم متأخرو الأشعرية فضلاً عن قدمائهم وأيضاً فالأشعري قد ذكر عن المعتزلة أنهم منافقون بإثبات أسماء الله فقال في المقالات الحمد لله الذي بصَّرنا خطأ المخطئين وعَمَى العَمين وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لاعلم له ولا قدرة ولا حياة له ولاسمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي يوصف بها لنفسه قال وهذا قولٌ أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين

يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حيّ ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا نقول عين لم يزل ولم يزيدوا على ذلك قال غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك قال وقد أفصح بذلك رجل يُعرف بابن الإيادي كان ينتحل مذهبهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة

نقل المؤلف عن السلف أن الجهمية معطلون

وقال الأشعري أيضاً في الإبانة زعمت الجهمية والقدرية أن الله عز وجل لاعلم له ولاقدرة ولا حياة ولا سمع ولابصر وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم من ذلك خوف السيف من إظهار نفي ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لاعلم ولاقدرة لله عز وجل فقد قالوا ليس بعالم ولاقادر ووجب ذلك عليهم وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم إن الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عز وجل عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن تثبت له علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وأيضاً فكلامُ السلف والأئمة كثيرٌ مشهور في أن الجهمية

وهم أول من نفى الجسم وملازمه في الإسلام إنما هم معطِّلون في الحقيقة وإنما يظهرون الإقرار نفاقاً ومدار أمرهم على التعطيل كما ذكره البخاري وغيره من الأئمة عن وكيع بن الجراح الإمام أنه قال لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل قال البخاري وحدثني أبو جعفر سمعت الحسن بن موسى الأسيب وذكر الجهمية فنال منهم ثم قال أُدْخِلَ رأسٌ من رؤساء الزنادقة يقال له شمغلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك

فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية والجهمي إذا غلا قال ليس ثَمَّ شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هم اثنان خالقُ خير وخالقُ شر فضرب عنقه وصلبه وهذان الصنفان جمعهما المعتزلة وفيهم يقول ابن المبارك ولا أقول بقول جهم إنّ له قولاً يُضارعُ قول الشرك أحيانا ولا أقول تخلى من بريته ربُّ العباد وولَّى الأمر شيطانا وروى عن يحيى بن يوسف الزمي قال كنا عند

عبد الله بن إدريس فجاء رجل فقال ياأبا محمد ما تقول في قوم يقولون القرآن مخلوق قال أمن اليهود قال لا قال أمن النصارى قال لا قال فمن المجوس قال لا قال فممّن قال من أهل التوحيد قال ليس هؤلاء من أهل التوحيد هؤلاء من الزنادقة مَن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق وهذا أصل الزندقة قال وقال وهب بن جرير الجهمية زنادقة إنما يريدون أنه ليس على

العرش استوى قال البخاري وكان إسماعيل بن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحداً يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة وقال البخاري نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوماً أضلّ في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفِّرهم إلا من لا يعرف كفرهم قال وقول عبد الله بن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية

وقال الإمام أحمد في وصف قول الجهمية ما قدمناه حيث قال إنه بلغه أن الجهم لقي أناساً من المشركين يقال لهم السُّمَنِيَّة فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيتَ إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فهل شممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مجسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحيَّر الجهم فلم يَدْرِ من يعبد أربعين يوماً ثم إنه

استدرك حجة مثل حجج الزنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث شيئاً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما يشاء وينهي عما يشاء وهو روح غائب غن الأبصار فاستدرك جهمٌ حجةٌ مثل هذه الحجة فقال للسُّمني ألست تزعم أن فيك روحاً قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فسمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا قال لا قال فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يُسمع له صوت ولايشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولايكون في مكان دون مكان ووجدت ثلاث آيات من المتشابه في القرآن قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذّب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً وكان من المشبهة فأضل بكلمه بشراً كثيراً واتبعه على قوله رجالٌ من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد

بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولايكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا له منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون فيه شيئان ولايوصف بوصفين مختلفين ولا له أعلى ولا له أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو بمعلوم ولا معقول وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو

لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعبد ذلك تبين للناس أنهم لايثبتون شيئاً ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لايعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لاتؤمنون بشيء بل تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر الأمر هو كلّم موسى قالوا لم يتكلم ولا يُكَلم لأن الكلام لايكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله ولايعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى فرية وضلالة وكفر

وروى عبد الله بن أحمد عن ابن إبراهيم بن طهمان قال الجهمية كفار وعن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان وعن سليمان التيمي عن أبيه قال ليس قوم أشد

بغضاً للإسلام من الجهمية وعن سلام بن أبي مطيع قال الجهمية كفار وعن يزيد بن هارون وذكر الجهمية فقال زنادقة وفي رواية أخرى رواها المروذي

عنه وذكر الجهمية فقال كفار لايعبدون شيئاً وروى المروذي عن سلام بن أبي مطيع قال الجهمية كفار لايصلى خلفهم وعن محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال كان أبي يحيى وعبد الرحمن يعني ابن مهدي يقولان الجهمية تدور على أن تقول ليس في السماء شيء وروى سليمان بن

حرب عن حماد بن يزيد قال الجهمية تحاول على أن ليس في السماء شيء ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد عنه ولفظه إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وروى الخلال عن وكيع بن الجراح أنه قال القرآن

كلام الله أنزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم كل صاحب هوى يعبد الله ويعرفه إلا الجهمية فإنهم لايعرفونه بشر وأصحابه وعن شبابة بن سوّار قال اجتمع رأيي ورأي جماعة من الفقهاء وأبي النضر هاشم بن القاسم على أن المريسي كافر جاحد يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه وعن ابن عيينة قال هذا الذي يقول في القرآن يعني المريسي ينبغي أن

يصلب وعن عباد بن العوام أنه قال كلام بشر المريسي يزعم أنه ليس بشيء يعني أن الله ليس بشيء وعنه قال كلمت بشراً وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن ليس في السماء شيء وروي عن أبي بكر بن عياش إنما تحاول الجهمية أن ليس في السماء شيء وعن الميموني أنه ذاكر أبا عبد الله

أحمد بن حنبل أمر الجهمية وما يتكلمون به فقال في كلامهم كلام الزنادقة يدورون على التعطيل ليس يثبتون شيئاً وهكذا الزنادقة وقال لي أبو عبد الله بلغني أنهم يقولون شيئاً هم يدعونه وينقصون على المكان ويقولون هو الأشياء وليس بالشيء في الشيء قال لي فهو قد ترك قوله الأول وأقبل يتعجب إليَّ وعن أحمد بن حنبل قال ما أحد أضر على الإسلام من الجهمية ما يريدون إلا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كثيرٌ في كلام السلف والأئمة وسائر العلماء لايحصيه إلا الله يصفون فيه الجهمية بالزندقة التي هي النفاق وبالتعطيل وبالجحود للقرآن والحديث وبأنهم إنما يقرون في الظاهر بالإسلام والقرآن خوفاً من السيف إذا كان كذلك وهم أول من أحدث في الإسلام القول بأن الله تعالى ليس بجسم وأنه إذا كان ليس بجسم فإن ذلك يستلزم نفي علوه على العرش ونفي صفاته وغير ذلك علم أن ما في هؤلاء من المنافقة والتقية وخوف السيف من أهل الإيمان أعظم مما ذكر وهـ أولئك

الوجه الثالث أن يقال إنه من المعلوم أن في هؤلاء وهؤلاء مَن قد يقول القولين اللذين هما في نفس الأمر متناقضان فإنهم مع ذلك نوعان منهم من يعلم التناقض ويقر بأحدهما إما لرغبةٍ وإما لرهبة ومنهم من لايعلم التناقض وهذا لاريب فيه فإنا نعلم خلقاً من الجهمية الذين ينكرون الصفات ويقولون هذه تجسيم والله ليس بجسم الذين يتظاهرون بالإسلام وهم في الباطن لايقرون بأن القرآن حق وما خالفه باطل ولا يقرون بأن محمداً هو رسول الله إلى جميع الخلق ولا يقرون بأنه تجب عبادة الله وحده لاشريك له ولا يقرون بالمعاد الذي أخبر الله به في كتابه بل منهم طوائف يجعلون اليهودية والصابئة والشرك كل ذلك أديان غير محرمة ولاأهلها كفار كدين الإسلام ثم من هؤلاء من يرجِّح الإسلام على سائر هذه الأديان ومنهم من لا يرجحه ومنهم طوائف يعتقدون أن الأنبياء إنما هم من عقلاء بني آدم وفضلائهم وبمنزلة الملوك الذين لهم علم وعدل وأنه إنما تجب طاعتهم في الأمور والسياسات الظاهرة التي هي نظام الدنيا فأما الأمور الدينية الباطنة النافعة في الآخرة من العلوم والأعمال فيدَّعون أنهم أعلم بذلك من الأنبياء والمرسلين أو مثلهم وأنهم مستغنون عن الرسل فيها ومنهم طوائف يجحدون خالق العالم جحداً

محققاً ويسخرون بمن يقر بوجوده أما العبادات التي جاءت بها الرسل والتحريمات فيسخرون بأهلها سخرية زائدة على الحد ومنهم من يعبد الأصنام والكواكب أو يأمر بذلك وقد يرى ذلك أفضل وأنفع من عبادة الله وحده إلى أمور أخرى من أصناف الكفر والزندقة التي توجد في الجهمية التي هي بإجماع المسلمين من أعظم الزندقة والنفاق إذا استبطنها من يظهر الإسلام وغن أعلنها كان كافراً معلناً باتفاق المسلمين وهذه الأمور هي من جنس سائر الضلال تارة يتلقاه بعض الضالين عن المضلين كما قال تعالى إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) [الصافات 69-70] وقال عنهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة 170] وتارة يقولونه لتشابه قلوبهم كما قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] وقال تعالى كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) [الذاريات 52-53] وقال تعالى بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) [المؤمنون 81-82] وقال

تعالى مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت 43] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام 112] وقال تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام 148] وهذا في القرآن في غير موضع يذكر مُشابهةَ ضلال الآخرين لضلال الأولين وذلك أن بني آدم جنس واحد مشتركون في الحد والحقيقة الإنسانية وقوى إدراكهم وحركاتهم من جنس واحد من هذا الوجه فهم يتشابهون في الإيمان والكفر والهدى والضلال والعلم والجهل والقدرة والعجز وسائر ما يعرض لهم من الأمور المتقابلة ولاريب أن كثيراً ممن ليس بزنديق ولامنافق من أهل الإيمان قد التبس عليه كثيرٌ مما يقولون الجهمية وظن أن ذلك حق وأنه من تعظيم الله وتنزيهه وغالب هؤلاء في حيرة فإنهم لابد أن يروا منافاة الفطرة وما جاءت به الرسل لما يقوله الجهمية فيرونه منافياً للعقل والشرع المعلومين بالاضطرار فتارة يُعرضون عن النظر في ذلك مطلقاً

فلا يحققون الإيمان بما جاءت به الرسل ويقررون أمره ولايعتقدون ما يقوله الجهمية وهذا ضَعفٌ في إيمانهم ومرض في قلوبهم وتارة يقولون هذا ويقولون هذا إما في حالٍ واحدة وإما في حالين ولايشعرون بالتناقض الذي بينهما وتارة يوافقون المؤمنين وتارة يوافقون الجهمية وتارة يوافقون هؤلاء في البعض وهؤلاء في البعض وهو موجود أيضاً في المثبتة للجسم فإن منهم من يستعمل التقية مع نفاقٍ فيوافقونهم على ما ينفونه من تفاريغ ملازم الجسم مع علمه بأنه متناقض ومنهم من يقول القولين المتناقضين ولايشعر بالتناقض كما تقدم وهؤلاء المتناقضون يقولون قول هؤلاء وقول هؤلاء لكن بعبارات متنوعة وهؤلاء خلق عظيم وطوائف كثيرة في الأمة من أصناف أهل العلم والدين لايحصيهم إلا رب العالمين الوجه الرابع أنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الناس رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 25] وقال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء 105] وقال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً

فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة 213] وقال تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء 59] وهذا عام في جميع الأشياء لاسيما باب أسماء الله وصفاته فإن الاعتصام في ذلك بالكتاب والسنة هو من أعظم أصول الإيمان فإن الله قد ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته ويجادلون فيه بغير علم والذين يجادلون بغير كتاب منزل من الله ونهى عن ضرب الأمثال له فقال وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) [الأعراف 180] وقال وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) [الرعد 13] وقد روي أنها نزلت فيمن جادل في الله من أي جنس هو من أجناس المخلوقات وقال الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ

أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر 35] وهذا في كل من جادل في الله بغير كتاب منزل من السماء فإن الكتاب المنزل هو السلطان كما قال تعالى أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) [الروم 35] وقال تعالى أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) [الصافات 156-157] وقال تعالى أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) [الطور 38] وإذا كان كذلك فالواجب أن يجعل ما بعث الله به رسله من السماء والكلمات هي الأصل والرد عند التنازع في النفي والإثبات وأما سائر ما يتكلم الناس به من نفي وإثبات فيرد إلى ذلك فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو الباطل وإذا كانت الألفاظ مجملة تحتمل ما يوافق كتاب الله وما يخالفه لم تقبل مطلقاً ولم تردّ مطلقاً بل يقبل منها ما وافق كتاب الله ويرد ما خالفه والمنافق المذموم الذي ذمه الله ورسوله هو من أظهر الإيمان بالكتاب والرسول وموالاة المؤمنين وأبطن نقيض ذلك فأما من استعمل التقية مع غير كتاب الله ورسوله وأهل الإيمان فليس هو هذا المنافق وإذا كان كذلك فالجهمية نفاة الصفات تنفي الجسم

وملازمه نفاقهم في الإيمان بالله والرسول فإنهم يظهرون الإيمان بالقرآن وبما جاء فيه من أسماء الله وصفاته التي هي من آياته وهم عند التحقيق غير مؤمنين بذلك بل هم منافقون في كثير من ذلك يحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وصفاته وذلك مضموم إلى منافقتهم في المعقولات حيث يبغون اتباع المعقول وهم من أعظم الخلق جحوداً للمعقولات ففيهم من السفسطة في العقليات والقرمطة والنفاق في الشرعيات مما لاينضبط هنا وهذا من أعظم الأمور دناة وبطلاناً في العقل والدين بإجماع المسلمين وأما ما ذكره الرازي عن منازعيه من التقية فغايتهم أنهم استعملوا التقية مع من يقول إنه ليس بجسم وغاية هذا أن يكون هو المصيب وهم المخطئون إذ ليس قوله مأثوراً عن الله ور عن رسوله ولا عن أحدٍ من سلف الأمة وأئمتها فإنه ليس في هؤلاء من نفى ما ينفيه هؤلاء بلفظ الجسم وملازمه ولا نفى ما يسمونه تركيباً وانقساماً وتأليفاً وإذا كانت هذه المعاني لايوجد نفيها عن الله لا بألفاظهم ولا بألفاظ أخرى في كلام الله

ولا رسوله ولا كلام سلف الأمة وأئمتها وإنما غاية أحدهم أن يستنبط ذلك كما ذكره الرازي في الأدلة السمعية ومعلوم لمن تدبر تلك الأدلة أنها لاتفيد ظنًّا ضعيفاً فضلاً عن ظنٍّ قويٍّ فضلاً عن العلم بل قد بينا فيما تقدم أن كل دليل ذكره فإنه أدل على نقيض مطلوبه منه على مطلوبه وإذا كان الأمر كذلك وقدرنا أن نفي هذه المعاني حق كان مستعمل التقية والخوف مع هؤلاء النفاة أحسن حالاً وأعظم قدراً عند أهل العلم والإيمان من حزب الرازي النفاة فيما يستعملونه من التقية والخوف فإن أولئك يستعملونها مع أهل العلم والإيمان وهو حال المنافقين الذين ذكرهم الله وذمَّهم في القرآن فيما شاء الله من المواضع وهذا بيِّنٌ ظاهرٌ فإن خطأ هؤلاء إذا ثبت أنه خطأ هو خطأٌ فيما يقال إنه معقول ليس خطأً فيما جاء به الرسول وتقاته مع من يدعي العقليات ليس مع أهل الإيمان والقرآن وأين من يتقي من يكون مصيباً من العقلاء والملوك إلى من يتقي وينافق الأنبياء والمرسلين وخلفاءهم الراشدين هذا كله إذا قدر خطؤه حيث كان في الباطن يعتقد ما هو خطأ وأما إن كان ما يقوله الباطن صواباً فيكون قولهم بألسنتهم خلاف ما في

ليس لأحد أن يشرع دينا لم يأذن به الله فيذم أحدا أو يمدحه

قلوبهم من غير إكراه ضعفاً في إيمانهم وجماع القول أنه إذا قُدِّر أنهم استعملوا التقية فأظهروا نفي هذه الأمور مع اعتقاد ثبوتها فإما أن يكونوا في هذا الاعتقاد مخطئين أو مصيبين فإن كانوا مخطئين كان هذا كما تقدم أنه من جنس مخالفة الملوك والعقلاء فيما هم فيه مصيبون ومخالفتهم من جنس المنافقين لأنبياء الله والمرسلين وعباد الله أهل العلم والإيمان فإذا كانوا مصيبين في هذا الاعتقاد كانوا بمنزلة مؤمن كتم إيمانه وأظهر خلاف ما يعتقده من الإيمان فهو مؤمن بقلبه معتقد متكلم بكلمة الخطأ أو الكفر خوفاً وهذا سائغ في الدين قال تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل 106] وقال تعالى لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران 28] وحيث لايكون سائغاً فالتكلُّم بذلك مع اعتقاده الإيمان لنوع رغبةٍ أو رهبةٍ على أي وجه كان هو خيرٌ من المنافق الذي يتكلم بقول أهل الإيمان ويبطن خلاف ذلك فأولئك النفاة منافقون وهذا مذنب ذنباً دون ذنب أولئك بكثير الوجه الخامس أنه ليس لأحد أن يشرع ديناً لم يأذن به الله

ولا يسمي أحداً باسم حمدً أو ذم إلا بسلطان من الله ولا يفرِّق بين ما جمع الله بينه ويجمع بين ما فرق الله بينه ويقطع ما أمر الله به أن يوصل وينقض عهد الله من بعد ميثاقه قال تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 21] وقال تعالى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم 23] وقال تعالى المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) [الأعراف 1-3] وقال تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام 153] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران 102-103] وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام 159] وقال تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) [البقرة 176] والله سبحانه وتعالى مدح في كتابه المؤمنين والمقسطين والصادقين والعالمين والمصلين والمتصدقين والصائمين والأبرار ونحو ذلك وذم في كتابه الكافرين والمنافقين والفجار والكاذبين والمحرقين للكلم عن مواضعه والملحدين في أسماء الله وآياته والمشركين والعادلين به والجاعلين له أنداداً ونحو ذلك

فالذي يجب أن يحمد ما حمده الله ويذم ما ذمه الله تعالى وأما الأسماء التي تعرف بها المذاهب والمقالات والطوائف سواء كانت مضافة إلى إمام المذهب كالجهمية والأزارقة والكُلابية والكرامية والأشعرية أو كانت مضافة إلى قول أو عمل لهم كما يقال الحرورية لاجتماعهم بحروراء ويقال لهم الخوارج والمارقة لمروقهم من الإسلام وكما يقال الرافضة لرفضهم زيد بن علي بن الحسين لموالاته أبا بكر وعمر وكما

يقال المعتزلة لاعتزالهم أهل الجماعة من أصحاب الحسن البصري ونحوهم وكما يقال المجسمة لاتباعهم لمن قال إنه جسم وكما يقال معطلة لتعطيلهم الصفات إذ استلزم ذلك تعطيل الذات وكما يقال الزنادقة هم

المنافقون فالواجب أن تكون تلك السماء هي بنفسها لايعلق بها حمد ولا ذمً إلا بما حَمده القرآن وذمه فالله تعالى هو الذي حمدُه زين وذمُه شين وإنما هذه السماء للتعريف كأسماء القبائل وليس لأحد أن يوالي المسمَّى بهذه الأسماء أو يعاديه مطلقاً إلا إذا كان المسمى بها كذلك في الشرع كالمنافق والملحد فإن هذا من اتباع الأهواء أو من التفرق في الدين بل

يوالي من ذلك ما يحبه الله ورسوله يعادي من ذلك ما ذمه الله ورسوله والجهمية هم الذين اتبعوا جهماً فيما ابتدعه في الإسلام وكل ما ابتدعه ضلالة مخالفة للكتاب والسنة ولهذا كان كلام الجهم كله منكراً باتفاق السلف والأئمة إذ ما لم يبتدعه الجهم لايضيفه السلف إلى الجهمية وأما الكرامية والكلابية والأشعرية فهؤلاء هم المتبعون لأئمتهم فيما رتَّبوه من المذاهب وفي مذاهبهم ما هو صواب وخطأ لكن لهؤلاء مقالات ابتدعوها لم يُسبقوا إليها فتلك المذاهب تضاف إلى صاحبها وتذم مطلقاً كما يذم ما ابتدعه ابن كرام من جعل الإيمان هو مجرد قول اللسان بدون تصديق القلب ويذم ما ابتدعه ابن كلاب والأشعري من الكلام في الصفات والكلام الذي وافق أهل السنة من وجوه كثيرة ووافق فيه الجهمية من وجوه أخرى وإذا كان كمذلك فلفظُ المجسمة لايوجد به ذكر في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة لا بمدحٍ ولا ذم ولايوجد أيضاً ذم هذا المعنى الذي سميته أنت تجسيماً في كلام أحد من سلف الأمة وأئمتها وأما المذهب الذي ذكرته فهو الذي يسميه السلف مذهب الجهمية وأول من ابتدعه في الإسلام الجعد وذمُّه

في كلام السلف وأئمتهم متواتر ودلالة الكتاب والسنة على بطلان معانيه وذمها لا يحصى فلا يستوي في ذمه الله ورسوله والمؤمنون بمن لا يوجد ذمه في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام المؤمنين ومما يوضح الأمر أن ذم الرافضة في كلام السلف والأئمة كثير جدًّا وقد علم العلماء أن أول من ابتدع الرفض في الإسلام بعضُ الزنادقة المنافقين كما ذكروا من أول من ابتدع التجهم كان

كذلك ومع هذا فالمتكلمون الذين تكلموا في الجسم نقياً وإثباتاً في عهد السلف أئمة النفاة مهم أو من المعتزلة كأبي الهذيل وذويه وأئمة الإثبات منهم هم متكلموا الرافضة كهشام بن الحكم وذويه ومع هذا كلامُ السلف كثيرٌ مستفيض في ذم الجهمية والمعتزلة على نفي الصفات ولم يعرف عن السلف ذم لهؤلاء الرافضة على ما يقال إنه التجسيم ولا شاع عنهم من عيب الرافضة بذلك ما شاع عنهم من عيب المعتزلة على النفي ولايحفظ عن أحد من السلف ذم المجسمة ولا ذم من يقول بالجسم ولا نحو هذا أصلاً فإذا كانوا متفقين على ذم الجهمية نفاة الصفات بنفي الجسم وملازمه ولم يذموا أحدًا لخصوص كونه أثبت الجسم ولم ينفه كما نفاه نفاة الجسم على أن ذم هؤلاء ذمٌ لا أصل له في الكتاب والسنة ولا كلام أحد من سلف

السلف لم يذموا أحدا لكونه أثبت الجسم

الأمة وأن النفاة مذمومون بالكتاب والسنة والإجماع نعم ذم السلف من كان يزيد في الإثبات على ما جاء في الكتاب والسنة من المشبهة والمجسمة كما وجد هذا في كلام غير واحد من السلف رضي الله عنهم فيذمونهم ذمًّا خاصًّا على ما زادوه من الباطل وما وصفوا الله تعالى به مما هو مُنزَّه عنه كما يذكر عنهم من المقالات الباطلة وذموهم على التجسيم الذي ابتدعوه وخالفوا به الكتاب والسنة ولم يكن في كلامهم نفي عام وذم عام كما يوجد في كلام النفاة وهؤلاء السلف والأئمة الذين ذكرنا مدحهم وذمهم قد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم والمؤمنون شهداء الله في أرضه وهم الذين يُعتدّ بإجماعهم في الدين فإذا كانوا مجمعين على ما ذكرناه كان ذلك ثابتاً بالكتاب والسنة بخلاف من قد تنازعت الجماعة في مدحه وذمه الوجه السادس أن انتحال قول أو طريقة للذم بها والمدح والموالاة عليها والمعاداة غير الإيمان والقرآن أو إمام يوالى على اتباعه مطلقاً ويعادَى على عدم اتباعه مطلقاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حال أهل البدع الضالين بل حال المنافقين والمرتدين وإن كانوا مع ذلك مقرين بالكتاب والرسول كما فعل أتباع مسيلمة الكذاب حيث زعموا أنهم يؤمنون بالرسولين والقرآنين وكما فعلت الخوارج حيث جعلت تمتحن الناس وتواليهم وتعاديهم

على ما أحدثوه من الرأي وكذلك الرافضة وغيرهم وهؤلاء الجهمية عمدوا إلى ألفاظ القرآن والرسول مثل قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) [طه 5] وقوله أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك 16] وقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) [النساء 164] وقوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة 255] وقوله الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) [الرعد 9] وأمثال ذلك فجعلوه المجمل المتشابه وجعلوا ما ابتدعوه من لفظ الجسم والتحيز والتركيب والتأليف هو أصل دينهم المحكم الذي يوالون عليه ويعادون عليه ومعلوم أن هذا تبديل للدين وتحريف للكتاب وهو شبيه بما فعله المبدلون المحرفون من أهل الكتاب حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوه الشياطين الوجه السابع أن هؤلاء القوم إما أن يكون فيهم تقية ومخافة من إظهار ما يعتقدونه أو لايكون فإن لم يكن بطل ما ذكره وإن كان فيهم تقية ومخافة من إظهار ما يعتقدونه فهذا لايدل على أنه باطل فإن الإنسان قد يكتم الحق تارة والباطل أخرى فلا يكون هذا دليلاً في إبطال قولهم ولكن غايته أن هؤلاء مجسمة حقيقة في المعنى لا في اللفظ وقد تقدم الكلام على هذا

الوجه الثامن هَبْ أن هؤلاء معتقدون كونه مركباً مؤلفاً فقد تقدم أن هذه ألفاظ مجملة يُنفى بها الحق كما يُنفى بها الباطل وليس على من اعتقد معنى صحيحاً دل عليه القرآن والعقل واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها حرج وإن كان كذلك المعنى يسمى في بعض الاصطلاحات تركيباً وتأليفاً فإن القول إما أن يذم للفظه لكون الشرع ورد بذمه أو لمعناه المذموم في الشرع ولفظ التركيب والتأليف ليس منفيًّا عن الله بهذا اللفظ في شيء من الكلام المقبول ولا هو المعنى الذي يقصدونه هم بهذا اللفظ منفياً في شيء من هذا الكلام المقبول لا في كلام الله ولا في كلام رسوله ولا كلام أحد من سلف الأمة ما ينفيه مما لا يعلمه إلا الله وإذا كان كذلك لم يكن في اعتقاد لم يذمه الشرع عارٌ وإنما العار فيما خالف الشرع وأما العقل فقد تقدم أنهم مخالفون لضرورة العقل ونظره وأن منازعهم لايخالف العقل لاضرورة ولا نظراً وإنما خالف أقيسة فاسدة من جنس مقاييس المشركين الذين هم بربهم يعدلون الذين سوَّوا رب العالمين بما اتخذوه من الأوثان وهذه المقاييس هي بمنزلة الأوثان التي يجب أن

يقال فيها كفرانك لاسبحانك ويقال فيها ما قاله الخليل عليه السلام لقومه إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة 4] وإذا كان القياس الذي يسوَّى فيه بين الحق والباطل كقياس الذين قالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وقياس الذين جعلوا المسيء كالذين آمنوا وعملوا الصالحات فيها من الشرك بقدر ذلك كما قال تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) [الأنعام 121] فكيف بقياس الذين يعدلون رب العالمين بالمعدومات والموتات ويعدلونه بالموجودات التي ليست مثله في صفات الكمال ليعطلوا عنه صفات الكمال فإنهم يعدلون به ويشركون في قياسهم من هذه الوجوه الثلاثة الوجه التاسع أن لفظ التركيب والتأليف لفظ مجمل فيه ما هو منتفٍ عند المنازع له بلا ريب ومنها ما ليس منتفياً بمقتضى ما ذكره المنازع وإذا كان من الممكن أن الذين نفوه من منازعه إنما نفوه بأحد معنييه دون المعنى الآخر وإذا كان كذلك لم يكونوا بهذا معيبين ولا مستعملين للتقية بل كان هذا خيراً من

أن يجعل ألفاظ القرآن والرسول التي أنزلها الله تعالى المحكمة مجملة مشتبهة ويجعل ألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة هي الحاكم عليها لكن أولئك المتكلمون ينفون تلك الألفاظ المجملة وإذا كانوا عارفين بالمعنيين جميعاً وعالمين بأن المستمع يفهم منها المعنى الذي لم يقصدوه كانوا قد استعملوا معه المعاريض وهذا يجوز مع الظالم دون العادل كما قال الخليل عليه السلام لسارة هذه أختي وكما كان أبو بكر يفعل وهو خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يسمع كلامه إذا سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا رجل يهديني السبيل وكما

قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله من أنت فقال من ماء أراد خلقنا من ماء وفهم المستمع أنه من قبيلة من العرب تسمى ماء وإذا كان كذلك وكان المخاطب له ظالماً يستحلّ منهم ما حرمه الله ورسوله بما ابتدعه من الرأي الفاسد لم يكونوا مذمومين على ما استعملوه من المعاريض كذلك من نفي الجسم من أهل الإثبات وأراد بنفيه ما يتضمنه من الباطل دون الحق كان من هذا الباب ولم يكن هذا مما يُذم في العقل والدين ل هو من جنس كيد الله للمؤمن المحق إذْ جعل الله له توسعة في الكلام بحيث يكذب فيما يعنيه ولايفهم الظالم ما يستعين به على الظلم والعدوان بل يكتمه ذلك وإن كان في هذا تلبيس على الظالم حيث يفهم من كلامه ما لا يعنيه فهذا التلبيس جزاء له على ما لبّسه من الحق بالباطل بما دخل فيه من الكذب والظلم كما كاد الله ليوسف الصديق عليه السلام مثل تأذين المؤذِّن أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) [يوسف 70] فهم وإن اعتقدوا أنه أُرِيدَ سرقة

الصواع فقد كانوا يستحقون الخطاب بالسرقة لأنهم سرقوا يوسف من أبيه ولبسوا على أبيهم فإن الدين كله مداره على العدل والقسط قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 25] وإن قُدر أن ذلك الظالم متأول وأنه معتقد صواب نفسه فهو من البغاة المتأولين والبغاة المتأولون يجب أن يعاملوا بالقسط والعدل فيدفع بغيهم وإن كان في ذلك ضرر بهم لأنهم أيضاً يضرون غيرهم فيتقابل الضرران ويتميز أهل العدل بأنهم أهل الحق والعدل فلهذا كان هذا مما أمر الله به ورسوله وهو من العدل والقسط ومن هذا ما وصف الله تعالى به نفسه في مثل قوله تعالى وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) [البقرة 14-15] وفي مثل قوله إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء 142] وفي مثل قوله الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) [التوبة 79] فلما كان المنافقون فيهم من الكذب والظلم ما هو استهزاء

وخديعة ومكر وسخرية بغير الحق جازاهم الله على ذلك بما فعله بهم من الاستهزاء والخديعة والسخرية بالحق والعدل ومثله قوله إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) [الطارق 15-16] وقوله أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) [الطور 42] وقوله فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) [القلم 44] وقوله أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) [المؤمنون 55-56] وقوله فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) [الأنعام 44] إلى أمثال ذلك في القرآن وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع فإذا كان كذلك وقد علم أن هؤلاء الملاحدة الجهمية وسائر أتباعهم فيهم من النفاق أعظم مما يوجد في أكثر أهل الأهواء وفيهم من صفات المنافقين بقدر ذلك من السخرية والاستهزاء والخديعة ونحو ذلك فالله تعالى يجازيهم على أعمالهم جزاءً وفاقاً وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) [فصلت] فيما يأمر به ويشرعه وفيما يقدره ويتوعد به وهذا يتقرر بالوجه العاشر وهو أن هؤلاء الجهمية فيهم من استعمال

الألفاظ المجملة وإفهام الناس خلاف ما في نفوسهم ما لا يوجد في غيرهم من أهل الأرض والرافضة يشركونهم في ذلك لكن هؤلاء أعظم كفراً ونفاقاً فلهذا قال عبد الرحمن بن مهدي هما ملّتان الجهمية والرافضة ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال البخاري ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليهودي والنصراني ولا يُسلَّم عليهم ولايعادون ولايناكحون ولايشهدون ولاتأكل ذبائحهم وهذا مشروح في غير هذا الموضع فإن الجهمية قدحوا في حقيقة التوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله والرافضةُ حقيقةُ قولهم قدحٌ في الأصل الثاني وهو شهادة أن محمداً رسول الله فإذا جمع الإنسان بين الرفض والتجهم يقرب حينئذ إلى الملاحدة القرامطة الباطنية الذين هم أعظم أهل الأرض نفاقاً وكتماناً لما في أنفسهم وإظهاراً لخلاف ما يعتقدونه ومخاطبة للناس بالألفاظ المجملة التي يفهمون الناس منها

ما لا يقصدونه هم ولفرط ضلالهم يجعلون الأنبياء كذلك زعماً منهم أن هذا هو الكمال الذي لا كمال بعده وهؤلاء الملاحدة هم الذين ينفون عن الله النقيضين جميعاً وينفون أسماء هـ الحسنى وهم مشتركون مع الفلاسفة المشائين في عامة الأمور الإلهية فإنه بعد ظهور الإسلام وانتشاره لم يكن بُدٌّ من الدخول فيه رغبة في أهله ورهبة منهم فصار هؤلاء المنافقون من المتفلسفة ونحوهم يدخلون في هؤلاء الملاحدة وأشباههم ولهذا ذكر ابن سيناء اشتغاله بهذه الفلسفة كان لأن أباه كان من أهل دعوة القرامطة الملاحدة الذين كان ملكهم إذ ذاك بمصر وكان لهم ظهور عظيم في الأرض وقصص يطول شرحها ولهذا لما ظهر المشركون من الترك من التتار وأتباعهم كان من أعظم من انضم إليهم من المنافقين هم الملاحدة وصار مقدم الفلاسفة الطوسي الذي كان وزيراً للملاحدة الباطنية

وزيراً لهؤلاء المشركين وقدموه على الطوائف المنتسبة إلى العلم الذين يسمونهم الداشمندية من جميع أصناف الناس من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم وظهر بسبب ظهوره من النفاق والزندقة في المنتسبين إلى العلم ما لا يمكن وصفه وتصرف في أهل الإسلام تصرُّفَ الأعداء المحادِّين لله ورسوله بحسب الإمكان مع ما كان عليه من الفلسفة وسعة الخلق والحلم والتدبير المطابق لمذهب الصابئين المتبوعين لليهود والنصارى التنصر والإشراك وهو لايُظهر لكل مسلم خروجهم عن الإسلام ونفاقهم وزندقتهم ولكن المقصود الجهمية الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما سواه فإن هؤلاء يستعملون من الألفاظ المجملة التي يعنون بها ما لا يفهمونه الناس ما لا يحصيه إلا الله وذلك في الألفاظ الشرعية التي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله إذا أظهروا الإيمان بها وفي الألفاظ التي يثبتونها هم لبيان ما يجب في أصول الدين وصفات الله تعالى فيوهمون الناس أنهم لاينفون عن الله إلا ما قد يظهر أنه نقص

وعي وهم ينفون بها أموراً لو فهمها الناس لكفَّروهم وهذا موجود في كلام أئمتهم حتى أن الأتباع يُعرضون عن تلك المواضع وأما الألفاظ الشرعية فيقرون بها بفهم منها وهم يحرفونها إلى معانٍ بعيدة عن مدلولها ومعناها فإذا كانوا بهذه الحال فكيف يليق بهم أن يعيبوا أهل الإثبات على ألفاظ قليلة مجملة إذا وافقوهم عليها بأحد المعنيين دون الآخر مع أن تلك الألفاظ ليست شرعية الوجه الحادي عشر قوله أنهم يطلقون لفظ الجسم على الله تعالى إلا أنهم يقولون لانريد به كونه تعالى مؤلفاً من الأجزاء ومركباً من الأبعاض بل نريد به كونه تعالى غنيًّا عن المحل قائماً بالنفس وعلى هذا التقدير فإنه يصير النزاع في كونه تعالى جسماً أم لا نزاعاً لفظيًّا يقال له قد تقدم حكاية أقوال هؤلاء القائلين بالأجزاء أو نفاة ذلك والخلاف مع الطائفتين جميعاً ليس بلفظي محض بل هؤلاء يقولون إنه فوق العرش ومنهم من يقول هو مماس له ويقولون مع ذلك ليس بمركب ولا مؤلف بل هو جسم كما أن الكلابية وأئمة الأشعرية يقولون هو فوق العرش ويقولون ليس

بجسم وهؤلاء جميعاً يثبتون ذات الرب تعالى كما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ثم إن كثيراً من الناس النفاة والمثبتين يقولون لا يكون فوق العرش إلا ما كان مركباً من الأبعاض مؤلفاً من الأجزاء وأولئك ينكرون هذا فهذا موضع نزاع بين الطائفتين وليس هو نزاعاً لفظيًّا مطلقاً لكن يقال إذا كان الجسم عند مُطْلِقِهِ لا يكون إلا مؤلفاً مركباً من الأجزاء والأبعاض وهؤلاء يقولونه وينفون هذا المعنى صار النزاع لفظيًّا فيقال هؤلاء وإن نفوا هذا المعنى لكن يثبتون معنى آخر يستلزم عند المنازع هذا المعنى وأيضاً فإنهم إذا قالوا أنه قائم بالنفس غني عن المحل أرادوا بذلك أنه مباين للعالم بالجهة ولايُتَصور عندهم قائم بالنفس إلا كذلك والمنازع يزعم أنه يمكن أن يكون قائماً بالنفس لامبايناً لغيره ولامحايثاً له ولاداخل العالم ولاخارجه وأولئك يقولون هذا خلاف ما يعلم بالضرورة وجحد للمعقول الصريح وأولئك يقولون لهم إثبات ما بين بالجهة خارج العالم ليس بمؤلف ولامركب أيضاً خلاف ما يعلم بالضرورة وجحد

للمعقول الصريح وإذا كانت كل طائفة تذكر أن قول الأخرى يتضمن مخالفة العلم الضروري والمعقول الصريح لم يكن هذا النزاع لفظيًّا محضاً ولا هو أيضاً نزاعاً في جميع مسمى الجسم ومسمى القائم بالنفس بل في بعضه فإن أولئك يوافقون هؤلاء على نفي بعض مسمى الجسم وهو التأليف والتركيب ولا يوافقونهم على نفي المباينة بالجهة وامتناع خلوه عن المحايثة والمباينة وهؤلاء يوافقونه في لفظ القائم بالنفس على استغنائه عن الغير وعدم حاجته إليه وهو وجوب الوجود لكن لايوافقونهم على عدم مباينته بالجهة وامتناع قائم بنفسه غير مباين القائم الآخر بغير الحقيقة والزمان بل عندهم كل قائم بنفسه لابد أن يباين القائم الآخر بنفسه بغير الحقيقة والزمان إذ المباينة بالحقيقة والزمان وتوابع ذلك تحصل بين القائم بنفسه وبغيره وبين القائمين بغيرهما فظهر أن الذين يفسرون الجسم بالقائم بنفسه دون التركيب وافقوا أولئك على نفي بعض مسمى الجسم عندهم دون بعض وأولئك وافقوا هؤلاء على إثبات بعض مسمى القائم بنفسه دون بعض وأن أولئك

يقولون يعلم بالاضطرار أن كل ما هو قائم بنفسه لايكون إلا جسماً كما يقول هؤلاء يعلم بالضرورة أن ما يكون جسماً لايكون إلا مؤلفاً وقد قدمنا فيما تقدم أنه إذا كانت كل طائفة مصيبة فيما تذكره من العلم الضروري فخطأُ المثبتة أقل من خطأ النفاة في الشرع والعقل فإن المثبتة أثبتت ما علم بالفطرة والشرعة من أن الله فوق العالم وقد وافقها على ذلك سلف الأمة وأئمتها وغايتهم أنهم نفوا بعضهم لوازم ذلك وأما النفاة فإنهم نفوا ما علم بالفطرة والشرعة ثبوته وادَّعَوا وجود موجود يعلم بالفطرة عدمه وأخرجوه عن النقيضين وأثبتوا له النقيضين فكانوا أكثر تناقضاً وتعطيلاً ونفياً للحق وإذا كان كل من العلمين ضروريًّا لزم المعنى الذي سموه تأليفاً وتركيباً واستعمالنا في هذا الموضع وفي غيره لفظ الضرورة مثل قولنا معلوم بالضرورة وبالاضطرار وهذا من العلوم الضرورية ومما يضطر الإنسان إلى العلم به ونحن مضطرون إلى العلم بكذا ونحو ذلك من باب المخاطبة لهم بلغتهم وعرفهم واصطلاحهم وهذا الاصطلاح قد اشتهر حتى صار ظاهراً في ألسنة أهل العلم من عامة الطوائف والذي يضطر إليه الإنسان

قد يكون علماً وقد يكون عملاً وقد يراد بالاضطرار إليه وجوده بغير اختياره وقد يراد احتياجه إلى وجوده فإن هذا في الأصل مشتق من الضرر وهذا اللفظ جاء في كتاب الله تعالى متضمناً هذا المعنى كما قال تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) [البقرة 126] وقال أيضاً فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ [البقرة 173] فحذف فاعل اضطر لأن الجوع هو الذي اضطره يعني جعله محتاجاً إلى ذلك والجوع ضرر وهناك يضطر إلى العذاب بمعنى يلجأ إليه بغير اختياره والعذاب هو الضر ر فتارة يكون الضرر من جهة السبب المضطر وتارة من جهة الغاية التي يضطر إليها لكن لما كان هذا متضمناً معنى الإلجاء والاضطهاد والإكراه ونحو ذلك مما فيه عدم الاختيار استعمله هؤلاء فيما يوجد بغير اختيار الإنسان من العلم وإن لم يكن هنالك ضرر وما يوجد بغير اختياره وتارة لا يكون له فيه اختيار أصلاً وتارة يكون مختاراً له من وجه دون وجه كالمضطر إلى الإطعام ولهذا ما كان من القسم الأول سموه ضروريًّا بلا نزاع وما كان من القسم الثاني سماه بعضهم ضروريًّا ولم يسمه بعضهم ضروريًّا بل سماه كسبيًّا

واختياريًّا ونظريًّا ومن قال بالأول قال العلوم كلها ضرورية في الانتهاء وهذا حق والنزاع لفظي وهم لا يطبِّقون ذلك إلا على العلوم الصادقة بناءً على أن العبد لايضطر إلى اعتقاد غير حق وهذا صواب في القطرة الصحيحة فإنها مفطورة على الشعور الصحيح والإرادة لكن إذا غيرت الفطرة فقد يضطر إلى إكراه فاسد كالإحساس الفاسد ويضطر إلى إرادة فاسدة كما دل عليه القرآن الوجه الثاني عشر قوله فذلك المشار إليه إما أن لايبقى منه شيء في جوانبه الستة أو يبقى يقال له هؤلاء المنازعون نزاعاً معنويًّا يقولون لايجوز أن يقال يبقى منه شيء ولايجوز أن يقال لا يبقى منه شيء لأن البقاء وعدمه فرع على كونه مركباً منقسماً وإذا قدرنا أنه قائم بنفسه مشار إليه بالحس ليس بمركب لم يَجُز أن يقال يبقى أو لا يبقى فهذا قولهم في المقام الأول فإن قال هذا خلاف الحس أو الضرورة لم يدفع ذلك فإنَّ دَفْعَ ذلك يكون باطلاً من جنس

دفعه الباطل بل يقال إما أن يكون هذا حقًّا أو خطأً فإن كان حقًّا فلا كلام عليه وإن كان خطأ فلا ريب أنه أبعد عن الخطأ من دعوى موجود لاداخل العالم ولا خارجاً عنه ولامبايناً لغيره ولامحايثاً له وكون القائم بنفسه لايباين القائم بنفسه إلا بالحقيقة والزمان أو كون القائم بنفسه لا يباين القائم ينفسه بالجهة ونحو ذلك من الأمور التي كُلُّ من فهمها وتصورها علم أنها مخالفة للحس والضرورة ولاريب أن الفطرة هي بذلك أعظم إقراراً منها بهذا فإنك إذا عرضت على كل ذي فطرة سليمة وجود موجود لاداخل العالم ولاخارجه أو وجود الباري لافوق العالم ولافيه ونحو ذلك يكون إنكاره بفطرته ذلك إنكاراً يضطر إليه لا يملك دفعه عن نفسه ولو عرضت عليه موجوداً فوق العالم مشاراً إليه بالحس لايوصف بأنه يبقى منه شيء في جوانبه الستة أو لايبقى لم يكن إنكاره لهذا بفطرته وبديهته كإنكاره لذلك فإنَّ فَهمَ هذا أدق وهو بعد فهمه أقرب إلى دخول الشبهة فيه من الأول ولهذا كان الذين قالوا ذلك فيهم من فضلاء المسلمين وأعيان العلماء ما ليس في أولئك فإن أولئك ليس فيهم من يقلده المسلمون فرعاً من فروع الدين فضلاً عن أن يقلدوه أصول دينهم ولا فيهم إلا من له مقالات تخالف إجماع المسلمين بل هو كفر صريح

الوجه الثالث عشر قوله وإما أن يبقى منه شيء فهذا يقتضي كونه مركباً مؤلفاً من الجزأين أو أكثر يقال هذا مبنيٌّ على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة وهذا فيه نزاع مشهور فالمؤسس من الموافقين في هذا الأصل فالمنازع يقول لا أسلِّم أنه إذا بقي منه كان مركباً من الجزاء بل هو واجب في نفسه وإن تميز في الحس أو العلم منه شيء عن شيء الوجه الرابع عشر أن هذا بعينه يَرد عليك في جميع ما أثبته من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك وهذا قد أورده عليك نفاة الصفات فقال في حجتهم إن ذات الله لو كانت موصوفة بصفات قائمة لها لكانت حقيقة الإلهية

مركبة من تلك الذوات ومن تلك الصفات ولو كانت كذلك لكانت ممكنة لأن كل حقيقة مركبة فهي محتاجة إلى أجزائها وكل واحد من أجزائها غيرها فإذن كل حقيقة مركبة في ذاتها فهي محتاجة إلى غيرها وذلك في حق الله تعالى محال فإذن يستحيل اتصاف ذاته بالصفات وقال في الجواب قوله يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما نلتزمه وهذا الجواب يقال نظيره إن عنيتم بكونه مؤلفاً مفتقراً إلى غيره افتقاره إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال أن تكون تلك الذات بما هي عليه من الصفة والقدر الواجبة واجبة لذاتها وإن عنيت

أن تلك الذات لا يمكن وجودها أو لايعقل وجودها إلا على هذا الوجه فهذا مما نلتزمه الوجه الخامس عشر أن هذا يلزم سائر بني آدم وسائر من أقرَّ بوجود شيء ما فإن الموجود لابد أن يتميز منه شيء عن شيء وأما الوجود الواجب فالتميز فيه أظهر لأنه أكمل وأتم فلابد أن يتميز عن غيره من الموجودات بخصوص ذاته الواجبة مع مشاركته لها في عموم الوجود وهذا إثبات لمعنيين يُعلم أحدهما مع عدم العلم بالآخر فإما أن ينفي أحدهما مع تقدير عدم الآخر أو لا ينفي فإن لم ينفِ لزم أن يكون أحدهما عين الآخر وهو محال وإن جاز ذلك جاز ذلك في نظيره فلا فرق بين أن تُجعل الحقيقتان المتميزتان في الذهن إحداهما عين الأخرى أو يجعل الحيزات المتميزات أحدهما عين الآخر وغن لم ينف لزم التركيب من صفتين وأكثر فكذلك القول في كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً وذي عناية وفاعلاً وموجباً لغيره وسائر

هذه المعاني وقول القائل هذه الأمور إضافية ليست وجودية لاينفعه ولو لم يقل إن الإضافات من جملة الأعراض الوجودية فكيف إذا قيل ذلك وذلك أنا نعلم بالاضطرار أن هذه الأمور يختص بها الموجود دون المعدوم وأنه لايجوز وصف المعدوم بها والأمور العدمية المحضة لا يختص بها الموجود ولا يكون وصف المعدوم بها ممتنعاً وأيضاً فإن المعدوم يوصف بنقائضها فيقال ليس بفاعل ولا عاقل ولامعقول ولا عقل ولا واجب ولا له عناية فلو كانت هي أموراً عدمية لكانت نقائضها وجودية فإن الوجود نقيض العدم ولو كانت نقائضها وجودية لامتنع وصف المعدوم بها فإنه من أَبْدَهِ العلوم الضرورية أن الوجود لايكون صفة للعدم فإن كانت نقائضها صفة للعدم كانت عدماً فتكون هي وجودية وهي معانٍ ثابتة لواجب الوجود بالاضطرار ولابد من ثبوت معاني متعددة لكل موجود فإن كانت هذه المعاني المتميزة في العلم من ضرورة الوجود الواجب

وغير الواجب كان ما سموه تركيباً من ضرورة كل موجود فلا تكون محالاً بل تكون واجباً ويمتنع وجود موجود بدون هذه المعاني التي سموها تركيباً ويكون نفيها نفياً للوجود وذلك جماع السفسطة ولهذا جعل الناس أول قولهم سفسطة وآخره زندقة الوجه السادس عشر قوله أقصى ما في الباب أن يقول قائل إن تلك الأجزاء لاتقبل التفريق والانحلال إلا أن هذا لايمنع من كونه في نفسه مركباً مؤلفاً كما أن الفلسفي يقول إن الفلك جسم إلا أنه لايقبل الخرق والالتئام فإن ذلك لايمنع من اعتقاد كونه جسماً طويلاً عريضاً عميقاً يقال له هذا مثل قول القائل إن القول بثبوت الصفات قول بثبوت الأعراض والأعراض لا تقوم إلا بمتحيز غاية ما في الباب أن يقال تلك الصفات لازمة للموصوف لا تفارقه ولا تزايله ولهذا امتنع من امتنع من تسميتها أعراضاً قال لأن العرض ما لا يبقى بل يَعرض ويزول وتلك الصفات

لازمة باقية فيقال له إلا أن هذا لا يمتنع كونه في نفسه متحيزاً قامت به الصفات التي هي من جنس الأعراض كما أن الفلسفي لما اعتقد في الإنسان أنه حيوان ناطق وأن هذه صفات ذاتية له لايمكن أن تفارق ذاته لا في الذهن ولا في الخارج لم يمنعه ذلك من أن تكون هذه الصفات عنده أعراضاً وكذلك إذا قال القائل القول بكونه عالماً قادراً حيًّا هو قولٌ بثبوت هذه الصفات بل إذا قال القائل القول بكونه واجب الوجود أنه فاعل العالم وأنه عاقل ومعقول وعقل وأن له عناية ونحو ذلك هو قول بثبوت الأعراض والصفات والتركيب أقصى ما في الباب أن يقول قائل إن هذه الصفات والأجزاء ذاتية للموصوف لايقبل مفارقتها ومما يوضح ذلك أن هؤلاء يسمون الصفات الذاتية أجزاء

ويقولون أجزاء الحد وأجزاء الكم والقدر فهم إذا أثبتوا هذه المعاني كانوا مضطرين إلى القول بثبوت هذه الأمور التي يسمونها أجزاء وصفات ذاتية ونحو ذلك ومتى ادعوا أنها أمور ليست وجودية وأن المفهوم منها واحد كانوا من أعظم الناس مكابرة للضروريات في كل واحدة من الدعوتين ومتى أقروا بما هو معلوم بالفطرة الضرورية وبما هو أجلى العلوم البديهية أنها أمور وجودية وليس أحدهما هو الآخر فقد أقروا بما منه فروا وهذا شأن من فر من الحق الذي لا يفرّ منه إلا إليه ولا ملجأ منه إلا إليه قال تعالى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) [الذاريات 49] قالوا لتعلموا أن خالق الأزواج واحد فأخبر أن لكل شيء ندًّا ونظيراً خلاف زعم الذين جعلوا له ولداً وقالوا لم يتولَّد عنه ولم يصدر عنه إلا

واحد وهو العقل الأول ثم قال فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) [الذاريات 50-51] فأمرهم بالفرار إليه وأن لايجعلوا معه إلهاً آخر فمن طلب نفي شيء عنه أو إثبات شيء له بالتسوية بينه وبين غيره فقد أشرك به ووقع فيما عنه فرَّ ولم ينجه إلا الفرار إلى الله وحده الوجه السابع عشر أن قول القائل في جميع هذه المعاني الثابتة في حق الرب أقصى ما في الباب أن يقول قائل هي لازمة ذاتية لاتقبل الانفصال والزوال كلامٌ فاسد فإن هذا ليس أقصى ما في الباب وليس هذا هو الفارق بين رب العالمين وبين بعض مخلوقاته بل بينهما من عدم التشابه والتماثل ما لا يدركه عقل عاقل وما يتصور من قدر مشترك فيه نوع مشابهة ما فتلك من أبعد الأمور بعداً عن الحقيقة بحيث لايقتضي مماثلة بوجه من الوجوه إذ هذه الأمور لا تقتضي مماثلة بين الوجودين المخلوقين فَأَنْ لا تقتضي بين وجود الرب الخالق ووجود المخلوق أولى وأحرى وهذا كقول القائل إذا كان حيًّا عالماً قادراً والعبد حيًّا عالما ً قادراً فقد ثبت أنه مركب أو انه مماثل ونحو ذلك أقصى ما في الباب أن ذلك تجب له هذه الأسماء وهذا لا تجب له أو أن يقول قائل إذا كان موصوفاً

قاعدة: الله تعالى لا يضرب له المثل بغيره

بالحياة والعلم والقدرة فقد ثبت التركيب ولذا أقصى ما في الباب أن ذلك تجب له هذه الأسماء وهذا لا تجب له أو أن يقول قائل إذا كان موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة فقد ثبت التركيب أقصى ما في الباب أن يقال تلك الصفات لازمة دون هذه وكذلك سائر النظائر بل هو مثل أن يقول القائل إذا كان موجوداً وهذه المشهودات موجودة فقد تماثلا في الحقيقة الوجودية أقصى ما في الباب أن يقول هذا واجب وهذا ليس بواجب وكل هذه المقاييس والأمثال المضروبة باطلة فإن حقيقة ذات الله تعالى التي هي ليس بينها وبين غيرها من الحقائق تماثُل بوجه من الوجوه بل كل ما يعلم من التباين بين موجود وموجود فالتباين الذي بين الله وبين خلقه أعظم من ذلك بما لا يقدر قدره إلا الله إذ العلم بحقيقة ذلك من خواص الرب سبحانه وتعالى ولا يعلم ما هو إلا هو لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] الوجه الثامن عشر أنا قدمنا غير مرة أن الله لايضرب له المثل بغيره ولا يسوَّى بينه وبين غيره لا في نفي ولا في إثبات بل هذا من الإشراك وجعل الأنداد والأكفاء له وهذا من

أعظم الأمور فساداً وتحريماً في العقل والدين وذلك أكبر الذنوب بل ما ثبت لغيره من صفات الحمد والثناء فهو أحق به وأولى ولايكون مماثلا لذلك الغير في ذلك النفي والتنزيه وفد ذكرنا أن مثل هذا القياس العقلي والمثل المضروب هو الذي يستعمل في باب الربوبية في كتاب الله تعالى في باب التنزيه عن الشركاء والأولاد وغير ذلك ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه قال نعم قال فاقضوا الله فالله أحق بالقضاء وهذا المعنى جاء في أحاديث متعددة صحيحة فقبول الاستيفاء من الإنسان عن غيره لما

كان من باب العدل والإحسان كان الله أحق بالعدل والإحسان من العباد وكان الذي يقضي عن غيره حق المخلوق هو أحق بأن يقضي عنه حق الخالق من جهتين من جهة أن حق الخالق أعظم ومن جهة أنه أعدل وأرحم ونظير ذلك في جانب النفي ما رواه الإمام أحمد في مسنده أنهم لما فاتتهم الصلاة سألوه هل يقضونها مرتين فقال أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم يقول إنه نهى عن الربا لما فيه من الظلم وهو المعاوضة عن الشيء بما هو أكبر منه في الديون الثابتة في الذمة بعوض أو غيره وهو أحق بتنزيهه عن الظلم من عباده وكذلك الأمثال والمقاييس التي تضرب في عمل العبد له مثل طاعته وعبادته وشكره وخوفه ورجائه والاستحياء منه وغير ذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم لبهز بن حكيم لما قال فإذا كان أحدنا خاليًا قال فالله

أحق أن يُسْتَحْيَى منه من الناس ومثل قوله في القرآن وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة 62] فالأمثال تضرب تارة لما يوصف به من الصفات والأفعال وهو الحق الموجود وتارة لما يؤمر به الإنسان من الأعمال وهو الحق المقصود وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما رأى امرأة من السبي لما رأت طفلاً أخذته فأرضعته أترون هذه طارحة ولدها في النار قالوا لا يا رسول الله قال للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها فيه قياس الأولى لكن من باب التصور وقد يستعمل من باب

التصديق بأن يقال إذا كانت هذه لكونها كانت سبباً في وجود هذا فيها هذه الرحمة فالرب الخالق لكل شيء ووجود كل شيء منه أحق بأن يكون رحيماً بذلك ومن باب الأمر قول ابن عمر لغلامه نافع وقد رآه يصلي في ثياب ناقصة فقال أرأيت لو أرسلتك في حاجة أكنت تذهب هكذا فقال لا فقال فالله أحق من تُزُيِّنَ له من الناس وهذا يسبه حديث بهز بن حكيم ومنه الحديث

المرفوع لايمنعن أحدكم هيبةُ الناس أن يقول الحق إذا رأى منكراً أو سمعه فيقول الله له ما منعك أن تقول الحق فيقول ربِّ خفت الناس فيقول الله فإياي كنت أحق أن تخاف وهذا المعنى في قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت 10] ومن باب الخبر قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس 81] أمثال بني آدم فيعيدهم كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) [الأحقاف 33] وكما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) [غافر 57] إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) [غافر 59] وأما ظن من ظن كالرازي أن قوله عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ

المراد به إعادة خلق السموات والأرض واستدل بذلك في مسالة الإفناء فليس بشيء والعربية تمنع ذلك ومن ذلك الاستدلال على قدرته على الإعادة بقدرته على الابتداء كقوله وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) [يس 78-79] وقوله إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج 5] وقوله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ثم قال وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الروم 27-28] فأخبر أن له المثل الأعلى وذلك يدل على ما ذكرناه من أنه له قياس الأعلى لا المساوي وقد ذكر مثلين مثلاً لنفي الشرك ومثلاً لإعادة الخلق وذلك في الأصلين الإيمان بالله وباليوم الآخر ومنه قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) [القيامة 36-40] فبيَّن بما ضرب من المثل الأعلى أن الذي خلق الإنسان على هذه الصفة أولى بأن يكون قادراً على إحيائه وذلك معلوم بالفطرة

الضرورية العقلية ومن باب النهي قوله تعالى وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة 267] يقول إذا كنتـ م في حقوق بعضكم على بعض لا تأخذو ن إلا بإغماض فأنا أحق ألا تؤدوا في حقي الخبيث ومنه قول بعض السلف لبنيه في الأضحية لايُهدى أحدكم ما يستحي أن يهديه لكريمه فإن الله أكرم الكرماء ومنه حديث عمر في الناقة التي أهداها وقد بُذِلَ له فيها مال كثير وهذا الذي نبهنا عليه من أن الطرق العقلية القياسية في أمر الربوبية لا تكون من باب التمثيل والتشريك الذي تستوي أفراده

وإنما هو من باب قياس الأولى والتنبيه قاعدةٌ شريفة عظيمة القدر ولهذا خلاصة ما عند المتكلمين من الطرق العقلية هي من هذا الباب فإن كلامهم يشتمل على حق وباطل مثال ذلك أنهم لما أثبتوا كونه سميعاً بصيرًا بالطرق العقلية ذكر أبو عبد الله الرازي هذا المؤسس في كتاب نهاية العقول طرقَهم وبسط الكلام في ذلك بسطاً كثيراً ثم أنه زيفها وذكر عللها ثم قال الفصل الثالث فيما تُعَوِّلُ عليه هذه المسألة فذكر طريقة عقلية وطريقة سمعية قال والمعتمد طريقان الأول ما ذكره الإمام الغزالي وهو أنه قال نحن نعلم بالضرورة أن السميع والبصير أكمل ممن لايكون سميعاً بصيراً والواحد منا سميع بصير فلو لم يكن الباري كذلك لزم أن يكون الواحد منا أكمل من الباري وذلك معلوم الفساد بالضرورة فوجب القطع بكونه سميعاً بصيراً ثم أورد على هذه الطريقة أَسْوِلَةً وذكر جوابها وتقريرها يمكن أجود ما قرره وكذلك يمكن تقرير الطريقة المشهورة أنه

حي والحي إما أن يكون سميعاً بصيراً أو أبكم وأصم وذكر غيرها وكان يمكن تقرير تلك الطرقة العقلية على هذه الطريقة الولية أيضاً لكن ليس هذا موضع شرح ذلك وإنما الغرض التنبيه على أن هذه القاعدة قاعدة شريفة عامة النفع وهي التي جاء بها الكتاب والسنة وهي مبرهنة معقولة في نفسها وقوله في القرآن وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ في موضعين من كتابه بيانٌ لها والمقصود هنا أنه سبحانه أنه كان له المثل الأعلى الذي فيه قياس الأولى فكونه تعالى لايتفرق ولاينحل ولايتمزق هو من معنى صمديته وقيوميته كما تقدم ذلك ومعلوم أن غيره إن كان له وصف من الاجتماع الذي فيه نوع تصمد فليس قيامه بنفسه كقيام الحق ولا تصمده كتصمد الحق سبحانه وتعالى بل هو القائم بنفسه الذي يجب له هذا القيام بنفسه ويمتنع عدمه وهو

القيم لكل ما سواه وهو الصمد السيد الذي لاجوف له ولايتفرق ويتبعض ويتمزق وهو الذي يصمد له كل حي ما سواه فهو الصمد في نفسه الذي يصمد له كل شيء وهو القائم بنفسه المقيم لكل شيء وإذا كان كذلك لم بجز أن يمثل بشيء من الأجسام بوجه من الوجوه بل للمنازع أن يقول ما يذكره وهو الوجه التاسع عشر أن نفي مباينته للغير يوجب عدم قيامه بنفسه ونفي عدم تفرقه يوجب عدم صمديته فالذي يقول لا هو مباين لغيره ولامحايث له ولايوصف باجتماع ولا افتراق ونحو ذلك من الأمور المتقابلة التي ينفونها عنه من جنس نفي الملاحدة لكونه عالماً وجاهلاً ولكونه قادراً وعاجزاً يوجب نفي كونه قيوماً وكونه صمداً ودلالة هذه السماء على موجب قول أهل الإثبات أظهر كثير من دلالة ما ذكره من الأدلة السمعية على قول أهل النفي ولهذا كان فضلاء أهل النفي إذا سمعوا

تفسير المفسرين لقوله الصمد بأنه الذي لا جوف له قالوا هذا تفسير المجسمة ومعلوم أن هذا تفسير الصحابة والتابعين وروي مرفوعاً وذلك أشهر من كلامهم من تفسير الصمد بأنه السيد وإن كان كلاهما حقًّا فإذا كان اسم الصمد يدل على أنه جسم واسمه القيوم يدل علة أنه ما باين العالم في الجهة أعظم من دلالة ما ذكره على النفي من وجوه كثيرة ظهر بطلان قول النفاة دع سائر الأسماء التي هي على ذلك أدل من اسمه العلي والأعلى والعظيم والكبير وغير ذلك الوجه العشرون قوله كما أن الفلسفي يقول الفلك

جسم إلا أنه لايقبل الخرق والالتئام فإن ذلك لايمنعه من اعتقاد كونه جسماً طويلاً عريضاً عميقاً يقال لاريب أن بين الشيئين اللذين يقال إنهما جسم قدراً مشتركاً وقدراً مميزاً وكذلك ما يقال إنه جوهر ومتحيز وقائم بنفسه أو غني عن المحل أو مباين لغيره أو محل للصفات أو حامل الصفات أو محل للأعراض أو حامل للأعراض مثل ما يقال إنه موجود وثابت وكائن وحق وغير ذلك من الأسماء العامة التي يسميها أهل النحو أسماء الأجناس فلا ريب أن بين المسميات بها قدراً مشتركاً وقدراً مميزاً والمعنيُّ بالقدر المشترك أن يكون في أحد المسميات ما يشبه ما في الآخر ليس المراد أن يكون في الخارج شيء معين هو بعينه مشترك بينهما فإن هذا ممتنع بكل موجود في الخارج فإنه متميز بنفسه مختص بصفاته لايشركه غيره في نفس وجوده وماهيته وصفاته القائمة به إلا بمعنى المشابهة والذهن يرتسم فيه معنى يتناول المشتبهين وذلك هو المعنى العام وله لفظ يطابقه وهو اللفظ العام وإذا كان كذلك فكونُ الفلك مشاركاً لغيره في مسمى الجسم وممتازاً عنه بعدم قبول الانقسام والانحلال لا يقتضي لهذا أن يكون الباري مع مخلوقاته عند من يصرِّح بلفظ

الجسم بهذه المنزلة فضلاً عمن يقول أعني به القائم بنفسه الغني عن المحل وإن كان عنده كل قائم بنفسه مباين لغيره حامل للصفات لا يُشار إليه بأنه هنا أو هناك وهو الذي يعنيه غيره بلفظ الجسم لكن مع هذا كله لايقتضي أن كون المميز بين الباري وبين مخلوقاته مثل المميز بين الفلك والعناصر وهو عدم الانخراق بل هذا بمنزلة أن يقال إذا كان قائماً بنفسه فهو مساوٍ لسائر القائمات بأنفسها من السموات والأرض والحيوان والشجر والنبات أقصى ما في الباب أن يقول قائل هذه القائمات بأنفسها تقبل التفرق والانحلال وهو ليس كذلك أو يقول إذا كان حيًّا عالماً قادراً سميعاً بصيراً فهو مساوٍ لكل موصوف بذلك من الآدميين والملائكة والجن أقصى ما في هذا الباب أن هذه الصفات يمكن زوالها عن محلها وتلك الصفات لايمكن زوالها عن محلها بل اشتراك الجسام والقائمات بأنفسها والمخلوقات في هذه الأمور العامة لايُوجِب اشتراكها في حقائقها بل لكل من هذه الأجناس حقيقة وصفات تخصه هو بها مباين مخالف لغيره أعظم بكثير مما هو له مشابه وقد تقدم بيان هذا لما بينا فساد قول من يقول بتماثل الأجسام وأنها لما اشتركت في

مسمى القدر وهذا من أبعد الأشياء عن حقائقها وصفاتها المقومة لها فكيف تكون متماثلة بمجرد ذلك وإذا كان الأمر كذلك في المخلوقات مع تماثلها في الجملة وأنه ما من شيء منها إلا وقد خلق الله له زوجاً كما قال تعالى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات 49] فكيف بخالق الموجودات وبارئ الكائنات رب الأرض والسموات وصانع كل ما يعلم ويشهد خالق كل شيء ورب كل شيء ومليكه مع العلم بأن هذه العبارات العامة لم تدخل فيها نفسه المقدسة بما لها من السماء والصفات وهو سبحانه لايسمى من الأسماء ولايوصف من الصفات إلا بما يخصه ويمنع مشاركة غيره له وإذا أضيف ما يشبه ذلك الاسم أو الصفة إلى غيره كان أيضاً مقيداً بما يوجب اختصاص ذلك الغير به ويمنع أن يكون لله شريك في شيء من أسمائه وصفاته لكن إذا قُدِّر تجرُّد ذلك الاسم عن المخصصات وهذا تقدير لاوجود له في الخارج كان مشتركاً بين المسميات كما أنه إذا قدر صفة مشتركة بين الموصوفات وهو المعنى العام وهذا تقدير لاوجود له في الخارج كانت تلك الصفة وذلك المعنى العام مشتركاً بين الموصوفات والموجودات لكن هذا المطلق

المشترك من السماء والمعاني والصفات إنما ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان وقد قدمنا أن هذا التقدير إنما يفعل للحاجة إلى زوال الاشتراك الذي في نفوس بني آدم الذين وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) فيقدر تقديراً ليبين بتقديره ما فيه من افتقاره أو ما فيه من علو الله على غيره وأن له المثل الأعلى وأنه أحق بكل ثناء وأبعد عن كل نقص كما يقدر وجود مثل للباري أو شريك في الملك ونحو ذلك ليس بتقديره امتناعه وتنزُّه الباري عنه إذ كل ما ينزه عنه الباري تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً من الشركاء والأولاد والأنداد والعيوب والنقائص وسائر ما يصفه به المبطلون الذين سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) فلابد من تصوره وتقديره في النفس ليُنفى عن الرب وينزه عنه إذ حكم الذهن بنفي الشيء وإثباته لايكون إلا بعد تصوره فلا يمكن نفي شيء وتنزيه الرب عنه إن لم يكن معلوماً متصوراً في الذهن وهو لاحقيقة له في الخارج فيكون مقدراً تقديراً بطريق المقايسة والمشابهة للمخلوق الموصوف ثم حينئذ يصير معلوماً فيُنفى ويسلب ويقدس الرب عنه وينزه وهذا الذي قلناه عام في كل أمر يُقدَّرُ مشتركٍ بين الرب وبين عباده من الأسماء والصفات وغير ذلك فليس بينهما قدر مشترك يستويا فيه ولكن هو أحق من كل موجود

وكامل بكل وصف له وجودية وكمالية وبنفي كل صفة سلبية ونقيصة وهو أحق بمناقضة المعدوم الناقص ومنافاته ومباينته من كل شيء فإذا ثبت لغيره صفة وجودية كمالية كان له من ذلك ما هو أكمل وأعلى وأرفع فإنه سبحانه وتعالى له المثل الأعلى وإذا نُزِّه غيره عن عدم أو نقص كان له من التنزيه ما هو أكمل وأعلى وارفع قال تعالى في الأول وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم 27] وقال في الثاني وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى وهي التي ضرب مثلاً إلى قوله لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل 58-60] وإذا ثبت له الأعلى من ثبوت الوجود والكمال ونفي العدم والنقص فإن الذهن أيضاً يأخذ هنا قدراً مشتركاً فيجرده تجريداً وإن لم يكن ذلك موجوداً في الخارج ليستدل بذلك القدر المشترك على أن لله ما هو أعلى وأرفع في جانب الوجود والعدم وهذا الذي يسميه بعض الناس الألفاظ المشكِّكة فينتقل الذهن والمتكلم من إثبات القدر

المشترك إلى القدر المميز وإن لم يكن في الخارج شيء مشترك أصلاً ويثبت من المعاني والألفاظ التي فيها تشبيه واشتراك بحسب ذلك كلفظ الوجود والذات والعليم والقدير والسميع والبصير وغير ذلك من أسماء الرب وصفاته سبحانه وتعالى فليس لأحد قط أن يحصر الفارق بين الله وبين غيره في شيء معين من جنس ما يجده من الفوارق بين المخلوقات حتى يقول إنه ليس بينه وبين غيره من الفرق إلا مثل ما بين كذا وكذا ولو قال ذلك على تقدير قول منازعه وذلك أنه على ذلك التقدير أيضاً فلله حقيقة اختص بها تباين سائر الخلائق ولا يعلمها العباد وبالجملة فليس أحد يعلم حقيقة الرب كما يعلم الرب نفسه وقد قال إمام الأئمة صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

وإذا لم يكن هذا معلوماً وهو من الأمور التي يباين الله وتفارق حقيقته بها حقيقة غيره كان المدعي انحصارَ المباينة والمفارقة في شيء معين مبطلاً قائلاً على الله غير الحق مفترياً عليه وهذه الجملة مع بيانها فإنها نافعة في أصول عظيمة الوجه الحادي والعشرون قوله أقصى ما ذكره أنهم معتقدون كونه مركباً مؤلفاً فيقال قد تقدم غير مرة أن لفظ التركيب والتأليف فيه اشتراك وإجمال وإبهام وإيهام وأنت لم تُرد التركيب والتأليف المعروف في اللغة وهو أن يكون الشيء قد ركّبه غيره أو ألّفه غيره من شيئين مختلفين أو غير مختلفين أو ركبه في غيره أو ألّف بين شيئين كما قال تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار 8] وقال تعالى هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال 62-63]

وقال إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة 60] فلم ترد ما يشبه هذا التأليف والتركيب المعروف من اللغة التي نزل بها القرآن وإنما أرادت ما سميتموه أنتم تأليفاً وتركيباً كما سمَّى المنطقيون الموصوف بالصفات مركباً مؤلفاً وبمثل هذا الكلام المجمل المتشابه الذي يذكرونه وليس له أصل في كتاب الله وسنة رسوله ضل من ضلَّ كما وصف ذلك الأئمة وذموا المتكلمين بمثل هذا الكلام كقول الإمام أحمد فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُلَبِّسون عليهم وهذا كما ذكر الأئمة فإن عامة الألفاظ التي يستعملونها هؤلاء من هذا الباب مثل لفظ الجسم والمتحيز والجوهر والطويل والعريض والعميق والمنقسم والمؤلف والمركب ليس فيها لفظ واحدٌ

هو باقٍ على معناه في اللغة ولا منها لفظ إلا وهو مجمل متشابه يحتمل المعنيين المختلفين ويكون أحد المعنيين مما يجب تنزيه الرب تعالى عنه عند أهل الإيمان وفي صريح العقل كما يجب تنزيهه عن مماثلة المخلوقات وعن أن يكون يفتقر إلى غيره أو مفعولاً لغيره حتى يركبه أو يؤلفه أو غير ذلك من المعاني ويكون المعنى الآخر مما أثبته القرآن والعقل أو مما لا يُعلم نفيه أو مما يقتصر العقل على دَرْكه أو هو معنى دقيق يحتاج إلى نظر طويل وعلوم كثيرة فيطلقون نفي ذلك اللفظ المشترك مقروناً بالتنزيه والتعظيم فيقوم الاشتباه في ذهن المستمع حتى يظن ابتداءً أن المنفي هو المعنى الذي نفاه القرآن والعقل ثم لايميز بين هذا وذاك فينفي المعنيين جميعاً بغير حجة ويقع في القياس الفاسد بسبب اشتراك اللفظ ولهذا ذم السلف والأئمة هؤلاء المتكلمين الجهمية وأخبروا أن من وافقهم على ما ابتدعوه من الألفاظ والمعاني فإنه لابد أن يتجهم كما رواه الخلال عن أبي داود السجستاني

سمعت أبا ثور قال قال لي الشافعي يا أبا ثور ما رأيت أحداً ارتدى شيئاً من الكلام فأفلح وعن أبي يوسف قال العلم بالكلام يدعو إلى الزندقة وعن أبي عمر الضرير

قال العلم بالكلام بمنزلة العلم بالتخنث كلما كان صاحبه يزداد علماً كان أشد لفساده وعن عبد الملك بن الماجشون أنه أوصى رجلاً فقال إياك والكلام فإن لأوله آخر سوء وعن يزيد بن هارون قال لو تكلمت ما أمِنت أن أبتدع وقال من تكلم ابتدع ولو سكتت المرجئة لم يبتدعوا وقال إن المرجئة كانت لسان أهل السنة حتى غَلَوا نسأل الله العافية والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

فرغ من تعليقه أبو بكر بن المجد بن ماجد المقدسي بتاريخ العشرين من شهر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بالقاهرة المصرية وحسبنا الله ونعم الوكيل

فصل: مناقشة المؤلف للرازي في تأويل المتشابهات من الأخبار

فصل قال الرازي القسم الثاني من هذا الكتاب في تأويل المتشابهات من الأخبار والآيات والكلام فيه مرتب على مقدمة وفصول فيقال مقصوده بذلك الآيات والأخبار التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله التي يجب عنده نفي دلالتها على شيء من الصفات التي ينفيها وتسمية هذه الآيات والأحاديث كلها متشابهات واعتقاد أن المتشابه من ذلك له معنيان أحدهما حق والآخر باطل وأن ظاهرها باطل أمرٌ لم يذهب إليه من سلف الأمة وأئمتها فإن الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ

مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران 7] وهذا حق وسنتكلم إن شاء الله على الآية حيث تكلم هو عليها لكن المقصود هنا أن تعيين هذه الآيات والأخبار بأنها من المتشابهات هو قوله ورأيه ورأي من يوافقه وكذلك كل طائفة من أهل الكلام والأهواء والبدع يجعلون ما خالف مذهبهم من القرآن والحديث متشابهاً وما وافقه محكماً والجهمية والمعتزلة لايجعلون المتشابه ما ذكر هو فقط بل عندهم ما دلَّ على أن الله يُرى وان لله علماً أو قدرة أو مشيئة أو وجهاً أو سمعاً أو بصراً أو أنه يتكلم بنفسه أو غير ذلك فهو عندهم من المتشابه والقرامطة والغالية والفلاسفة عندهم أسماء الله الحسنى هي من جملة المتشابه وكذلك عندهم ما أخبر الله به من أمور الآخرة هو من المتشابه

وغرضهم بذكر لفظ المتشابه أن لا يؤمن بما دل عليه اللفظ بل إما أن يعرض عنه وإما أن يحال إلى معنى آخر بعيد عن دلالة اللفظ وكذلك القدرية من المعتزلة وغيرهم عندهم آيات القدر كلها متشابهة والمحكم آيات الأمر وإذا كانت كل طائفة تقول إنه متشابه ما تقول الأخرى إنه محكم كان تسميته لذلك متشابهاً من جملة دعاويه ولم يكن بُدٌّ من الفرق بين المحكم والمتشابه وهو قد ذكر ذلك فيما بعد فيؤخر الكلام عليه إلى موضعه إذ المقصود هنا أن لا يُسلم له تسميته جميع هذه الآيات

والأخبار متشابهة فإن ذلك دعوى لم يذكر هنا حجتها

فصل: في نقل المؤلف عن الرازي في مقدمة كتابه

فصل ثم قال أما المقدمة فهي في إثبات أن جميع فرق الإسلام مقرون بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار ثم ذكر تسعة عشر وجهاً بعد ما ذكره من النصوص الدالة على نفي الجسم وكلامه في الموضعين متقارب وقد ادعى هنا الإجماع على تأويل بعض الظواهر ومقصوده بذلك أن التأويل مما أجمعوا عليه في الجملة فمن نفاه مطلقاً كان مخالفاً للإجماع ومن أثبته في الجملة كان له حجة فأما لفظ التأويل فمرادُه به صرف اللفظ عن دلالته الظاهرة إلى غيرها بدليل

كلام المؤلف على معاني التأويل

وسنتكلم إن شاء الله على لفظ التأويل ومعانيه في القرآن والسنة وكلام المفسرين والفقهاء والمتكلمين وغير ذلك فإن لفظ التأويل في هذا الاصطلاح أخصُّ من لفظ التأويل في كلام كثير من السلف وأهل التفسير والأئمة وهو غير معنى لفظ التأويل في القرآن وذلك أن لفظ التأويل في كلامه وكلام كثير من متأخري المتكلمين والفقهاء وأهل الأصول والجدل معناه هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر بدليل ولهذا يقولون التأويل على خلاف الأصل ويقولون التأويل يحتاج إلى دليل ويتكلمون في التأويلات وانقسامها إلى مقبول ومردود وعلى هذا الاصطلاح فإقرار الكلام على معناه الظاهر وتفسيره بما يوافق معناه الظاهر ليس بتأويل وهذا اصطلاح خاص وإن كان قد شاع في عُرْفِ المتأخرين من هؤلاء وأما لفظ التأويل في كلام أكثر المتقدمين من السلف والأئمة

من أهل الفقه والحديث والتفسير فإنهم يعنون بلفظ التأويل نظير ما يعنى بلفظ التفسير ويقول المصنف منهم في تفسير القرآن قد اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية كما يقال اختلف المفسرون في هذه الآية وهذا الاصطلاح أعم من الذي قبله وأما لفظ التأويل في القرآن فالمراد به حقيقة المعنى الذي يُؤوَّل إليه اللفظ وهو الحقيقة الموجودة في الخارج فإن الكلام قسمان خبر وأمر فتأويل الخبر هو الحقيقة المخبر عنها وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود به والمتوعَّد به وتأويل ما أخبر الله به من صفاته نفس حقيقته وما هو عليه وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها كما قال تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف 53] وقال تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 39] وقال يوسف عليه السلام يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف 100] وقال تعالى فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء 59] وقد بسطنا الكلام في ذلك في القواعد وغيرها

كلام المؤلف على لفظ الظاهر ومعناه

وسنتكلم إن شاء الله على ذلك إذا تكلمنا على ما ذكر في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] وأما لفظ الظاهر فينبغي أن يُعرف أن الظاهر قد يراد به نفس اللفظ لظهوره للسمع أو لظهور معناه للقلب وقد يراد به المعنى الذي يظهر من اللفظ للقلب وقد يراد به الأمران ويعلم أن الظهور والبطون من الأمور النسبية فقد يظهر لشخص أو طائفة ما لا يظهر لغيرهم تارة لأسباب تقترن بالكلام أو المتكلم وتارة لأسباب تكون عند المستمع وتارة لأسباب لأُخَر ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ لايجب أن يكون لمجرد الوضع اللغوي المفرد بل قد يكون من جهة الحقيقة اللغوية أو العرفية أو الشرعية وقد يكون من جهة المجاز الذي اقترن باللفظ من القرائن اللفظية والحالية ما جعله هو ظاهر اللفظ عند من يسميه مجازاً وأما من يمنع تسميته مجازاً إما في القرآن أو

مطلقاً فلا يسمون ذلك مجازاً ويعلم أن وضع اللفظ حال الإفراد قد يخالف وضعه حال التركيب بل غالب الألفاظ كذلك وهذه مقدمات تحتاج إلى بسط ونحن نذكر ذلك في موضعه وإنما المقصود هنا التنبيه على أن كثيراً من الناس يدعي أن ظاهر القرآن والأخبار شيء إما موافق له وإما مخالف له ليتأوله وتكون دعواه باطلة فيجب الاعتناء أولاً بذلك فإنه مَقامٌ مهم ضلَّ وزلَّ فيه طوائف وهم الذين ينفي أهل العلم قولهم كما ورد في الحديث يحمل هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عدولهُ وينفون عنه تحريف العالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين

مناقشة المؤلف للرازي في قوله إن جميع الطوائف أقروا بأنه لا بد من التأويل

وهؤلاء إما أنهم ضلوا معتقدين أنهم متبعون القرآن وإما أنهم جعلوا ظاهر القرآن ضلالاً لا هدىً للناس ونذكر مقدمة مختصرة فنقول قول القائل إقرار الطوائف بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار يقتضي أن إقرار بعض ظواهر الكتاب والسنة ضلال باتفاق الأئمة فبقال له أتقول حيث كان الظاهر ضلالاً غير مراد للمتكلم إن الله لم يبين ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله أو أنه لابد من بيان ذلك بالنصوص فإن أراد الأول كان مضمون كلامه أن من الآيات والأحاديث ما ظاهره ضلال وباطل إما كفر وإما ما دون الكفر وأن الله لم يبين ذلك ولا ذكر المراد الحق ولا ما ينفي المراد الباطل وعلى هذا فلا يكون القرآن كله هدى للناس ولا بياناً للناس ولا يكون الرسول بلَّغ البلاغ المبين ولا يكون الله قد بين للناس ما يتقون بل ضلوا بكلامه قبل أن يبين لهم ما يتقون ولايكون الناس مأمورين بتدبر القرآن كله ولا مأمورين باتباعه كله فإنه إذا كان بعض القرآن دلالته باطلة مضلة ولم يبين في القرآن ما يزيل هذا الضلال الباطل لزم من اتباعه الضلال

وأما إن قال ما لم يُرَد ظاهره فإنه قد بين بخطاب آخر ما يبين المراد أو ينفي الباطل لم ينازعه عامة العلماء في هذا فإنه بالجمع بين النصوص من الآيات والأخبار يكون البيان من الله ورسوله حاصلاً وتقوم الحجة على الناس بالرسالة إذ على الناس أن يؤمنوا بالكتاب كله ولايؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض وللإمام أحمد رحمه الله في هذا رسالة معروفة في الرد على من تمسك ببعض الظواهر دون ما يفسره من الآيات والأخبار لكن هذا ما ينفعه في باب الصفات كما سنبينه إن شاء الله تعالى ونحن لا نقصد الكلام في إثبات التأويل في الجملة ولا نفيه ولا وجوب موافقة الظاهر مطلقاً ولا مخالفته إذ في هذا تفصيل وكلام على الألفاظ المشتركة كما قد تكلمنا على ذلك في جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية وفي غير ذلك وإنما المقصود تعقب كلامه بما يجب من ردٍّ أو قبول ونبهنا على أنه ليس كل ما يدعي المدعي أنه ظاهر اللفظ يكون

كذلك سواء وافق ذلك الظاهر أو خالفه وهذا الغلط ما زال ولا يزال في الناس حتى أنه كان منه قطعة في الصدر الأول مثل ما ظن بعضهم أن ظاهر قوله تعالى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة 187] أن يتبين لهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود فكان يعمد أحدهم فيربط في رجليه حبلين ففي الصحيحين عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال أُنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار

وفي الصحيحين عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت إلى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر من الليل فلا يتبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار وفي رواية قال إن وسادك إذا لعريض وهذه الحال جرت لبعض الناس الذين شهدناهم ولا ريب أن هؤلاء غلطوا فيما ظنوه الظاهر لا لقصورٍ في بيان اللفظ ودلالته ولكن لقصورٍ في فهمهم فإن الله تعالى قال حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فذكر خيطين مفردين مُعرَّفَيْن باللام واللام تصرفهما إلى الخيط المعروف

المعهود والخيط إنما يقال للشيء الدقيق دون الغليظ وقوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ يقتضي أن الخيطين المعروفين يتناولهم كلهم فمن جعل ذلك عُقُلاً لكل الناس عقالان يختصان بهما ويختلفون في التبيّن بحسب المكان الذي هم فيه فإنما أُتي من نفسه قال الإمام أحمد أكثر ما يغلط الناس من جهة التأويل والقياس فالتأويل كحال هؤلاء الذين تأولوا القرآن على غير تأويله والمراد بالتأويل المعنى العام كما سنذكره إن شاء الله والتأويل في الألفاظ المسموعة كالقياس في المعاني المعقولة مثل ما ظن بعضهم لمَّا سمع أن الجنب يتيمم بالصعيد أن البدل يكون مثل المبدل منه فقاس التراب على الماء فَتَمَعَّكَ كما تتمعك الدابة ليوصِّل التراب إلى جميع البدن بحسب الإمكان كما وصل الماء

نقل المؤلف عن الرازي ادعاءه أن القرآن ظواهر لا بد من تأويلها

قال الرازي أما في القرآن فبيانه من وجوه الأول وهو أنه ورد في القرآن ذكر الوجه وذكر الأعين وذكر الجنب الواحد وذكر الأيدي وذكر الساق الواحد فلو أخذنا بالظاهر يلزمنا إثبات شخص له وجه وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة وله جنب واحد وعليه أيدٍ كثيرة وله ساق واحد ة ولا نرى في الدنيا شخصاً أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة ولا أعتقد أن عاقلاً يرى بأن يوصف ربه بهذه الصفة

يقال قد ادعى في هذا الوجه أن ظاهر القرآن الذي هو حجة الله على عباده وهو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وهو الذي هدى الله به عباده وجعله شفاءً لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ادعى أن ظاهر كلامه أنه شخص له وجه فيه أعين كثيرة وله جنب واحد وعليه أيدٍ كثيرة وله ساق واحد فقد ادعى أن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه أنه على هذه الصورة الشنيعة القبيحة فلا يكون الله كما وصف به نفسه إذ قد وصف نفسه بأقبح الصفات في ظاهر خطابه

بيان المؤلف أن ما ذكره الرازي ليس هو ظاهر القرآن

ويكفي المرءَ المؤمن أن يعلم أن هؤلاء يجعلون القرآن بهذه الصفة فهل هذا إلا من جنس قول الذين جعلوا القرآن عضين فعضوه بالباطل وقالوا هو شعر أو سحر أو مفترى بل هذا أقبح من ذلك فإن أولئك اتفقوا على عظمة الكلام وارتفاع قدره لفظاً ومعنى ولم يدَّعوا أن ظاهره وصف الخالق بما لا توصف به القردة والخنازير ولو كان هذا ظاهر القرآن لكان هذا من أقوى الوجوه للذين جعلوا القرآن عضين نبين أن هذا ليس هو ظاهر القرآن من وجوه أحدها أن الله تعالى إنما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس 71] فدعوى المدعي أن ظاهره أعينٌ كثيرة وأيدٍ كثيرة فِريةٌ ظاهرة إذ لفظ الجمع لا يدل بمطلقه على الكثرة أصلاً الثاني دعواه أن ظاهر القرآن أن لله جنباً واحداً عليه أيدٍ كثيرة باطلٌ أيضاً فأين في القرآن أن الأيدي في الجنب غايته

أن يجعل بالقياس على بني آدم وهذا ليس من ظاهر الخطاب وكذلك جعله للأعين الكثيرة في الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا وإنما قالع بالقياس على عيون بني آدم التي في وجوههم الثالث أنه من أين في ظاهر القرآن أنه ليس لله إلا ساق واحد وجنب واحد فإنه قال أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] وقال يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم 42] وعلى تقدير أن يكون هذا من صفات الله فليس في القرآن ما يُوجِب أن لايكون لله إلا ساق واحد وجنب واحد فإنه لو دل على إثبات جنب واحد وساق واحد وسكت عن نفي الزيادة لم يكن ذلك دليلاً على النفي إلا عند القائلين بمفهوم الاسم واللقب لأنه متى كن للتخصيص بالذكر سبب غير الاختصاص بالحكم لم يكن المفهوم مراداً بلا نزاع ولم يكن المقصود بالخطاب في الآيتين إثبات الصفة حتى يكون المقصود تخصيص أحد الأمرين بالذكر بل قد يكون المقصود حكماً آخر مثل بيان تفريط العبد وبيان سجود العباد إذا كشف عن ساق وهذا الحكم قد يختص بالمذكور دون غيره مثل أن

يقال هب أنه أخبر أنه يكشف عن ساق واحدة فمن أين في الكلام أنه ليس له إلا ساق واحدة والقائل إذا قال كشفت عن يدي أو عن عيني أو عن ساقي أو قدمي لم يكن ظاهر هذا أنه ليس له إلا واحد من ذلك بل قد يقال إنه لم يكشف إلا عن واحد فدعواه النفي في ظاهر القرآن دعوى باطلة وهو ممن لايقول بمفهوم الصفة فكيف بما ليس من باب المفهوم بحال فكيف وليس في القرآن ما يقتضي إثبات الوحدة العينية وذلك أن قوله يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] اسم جنس مضاف ومثل هذا إما أن يكون ظاهره العموم على القول المختار كالمعرَّف باللام عند الجمهور وإما أن يكون العموم كثيراً فيه كقوله لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة 187] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم 34] ولو كان هذا صفة لكان بمنزلة قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] وبِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران 26] ووَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) [طه 39] الوجه الرابع أنه يقال من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية بل كثير منهم ينفون ذلك بل ينفون قول أحدٍ

نقل المؤلف عن الأئمة كلامهم في التأويل والرد على المؤولة

منهم بذلك قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في النقض على المريسي ومتبعيه وادعى المعارض زوراً على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله تعالى يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] قال يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو وليس على ما يتوهمون قال فيقال لهذا المعارض ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك فإن كنت صادقاً في دعواك فَأَشِر بها إلى أحد من بني آدم قاله وإلا فَلِمَ تُشَنِّع بالكذب على قوم هم أعلم بالتفسير منك وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك إنما تفسيرها عندهم تحسُّر الكافرين على ما فرَّطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله فسمّاهم الساخرين

فهذا تفسير الجنب عندهم فمن أنبأك أنهم قالوا جنب من الجُنوب فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم وقد قال أبو بكر الصديق الكذب مجانبٌ للإيمان وقال ابن مسعود لايجوز من الكذب جد ولا هزل وقال الشعبي من كان كذاباً فهم منافق فاحذر أن تكون منهم وتوجيه ذلك أن الله تعالى قال أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) [الزمر 56-59] فهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الموصوفة بما وصفت به

وعليه هذه النفوس لاتعلم أن الله جنباً ولا تقرّ بذلك كما هو الموجود منها في الدنيا فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنه بذلك وقد قال في كلامهم يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ فجعلوا التفريط في جنب الله والتفريط فعل أو ترك فعل وهذا لايكون قائماً بذات الله لا في جنب ولا في غيره بل يكون منفصلاً عن الله وهذا معلومٌ بالحس والمشاهدة فظاهر القرآن يدل على أن قول القائل يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ليس أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله تعالى وأبعاضه فأين في ظاهر القرآن أنه ليس لله إلا جنب واحد بمعنى الشق لكن قد يقال القرآن فيه إثبات جنب الله تعالى وفيه إثبات التفريط فيه فثبوت نوع من التوسع والتجوز فيما جعل فيه لا يوجب ثبوت التوسع والتجوز فيه كما في قوله تعالى بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] فإن هناك شيئين اليد وكون الملك فيها ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله

قال القاضي أبو يعلى فأما قوله تعالى يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الآية فحكى شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن جماعة من أصحابنا الأخذ بظاهر الآية في إثبات الجنب صفة لله تعالى قال ونقلت من خط أبي حفص البرمكي قال ابن بطة قوله بذات الله أمر الله كما تقول في جنب الله يعني في أمر الله قال القاضي وهذا منه يمنع أن يكون صفة لذات وهو الصحيح عندي وأن المراد بذلك التقصير في طاعة الله تعالى والتفريط في عبادته لأن التفريط لا يقع في جنب الصفة وإنما يقع في الطاعة والعبادة وهذا مستعمل في كلامهم فلان في جنب فلان يريدون بذلك في طاعته وخدمته والتقرب منه ويبين صحة هذا التأويل ما في سياق الآية مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) ، لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) وهذا كله راجع إلى الطاعات

قال وقد اعتبر أحمد القرائن في مثل هذا فقال في قوله مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] قال المراد به علم الله لأن الله افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم وقد يقال من يثبت ذلك من الصفات يحتاج إلى استنباط يثبت ذلك بأن يقول الجنب الجانب والناحية وهو الجهة أي على ما فرطت في جهة الله وجانبه وناحيته كما تقول أعيش في جنب الله وجانبه وجهته وكما يقال أعرضت عن جانبي وجنبي وجهتي ويميل على جوانبه ثم يقولون وهذا إنما يقال لما له جانب هو حدُّه ونهايته فيدل بطريق الاستلزام على أن له جنباً هو حدُّه ونهايته كما قد يقال في قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ [البقرة 115] إنه وإن كان المراد قبلة الله كما قال مجاهد والشافعي وغيرهما لأن الذي

بالمكان الذي يتولاه أي يستقبله إنما هو نفس تضمن الجهة والمكان لا شيء من الله تعالى لكن كونه أضيف إلى الله فقيل وجه الله أي جهة الله وقبلة الله فإنه يدل على أن له وجهاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي إذا قام يصلي فإن الله قِبَلَ وجهه وأنه يستقبل الله بوجهه والغرض هنا أن المثبتة للصفة في هذا النص يستنبطونه بطريق آخر غير ظاهر النص وليس الغرض تقرير طريقهم الوجه الخامس أن يقال هب أن ظاهره أو مستنبطه إثبات جنب واحد لله فالجنب أعم من أن يكون أحد شِقّي الشيء بل يطلق على جوانبه كلها فيقال جوانب الشيء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب

ومعلوم أن قوله على جنب لم يدل على أنه ليس لعمران إلا شق واحد بل المراد جميع جنوبه كما قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران 191] وقال فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء 103] وذلك يدخل فيه المستلقي على ظهره الوجه السادس أنه من أين في ظاهر القرآن لله ساقٌ وليس معه إلا قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم 42] والصحابة قد تنازعوا في تفسير الآية هل المراد به الكشف عن الشدة أو المراد به أنه يكشف الرب عن ساقه ولم يتنازع الصحابة والتابعون في ما يذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية بخلاف قوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن 27] ونحو ذلك فإنه لم يتنازع

فيها الصحابة والتابعون وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله تعالى لأنه قال يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ولم يقل عن ساق الله ولا قال يكشف الرب عن ساقه وإنما ذكر ساقاً منكَّرة غير معرَّفة ولا مضافة وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين الذي قال فيه فيكشف الرب عن ساقه وقد يقال إن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود والسجود لايصلح إلا لله فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه وأيضاً فحَمْلُ ذلك على الشدة لا يصحّ لأن المستعمل في الشدة أن يقال كشف الله الشدة أي أزالها كما قال فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) [الزخرف 50] وقال فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ [الأعراف 135]

دعوى الرازي أن ظاهر القرآن أن لله أعينا والرد عليه

وقال وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) [المؤمنون 75] وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال كشف الشدة أي أزالها فلفظ الآية يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وهذا يراد به الإظهار والإبانة كما قال كَشَفْنَا عَنْهُمُ وأيضاً فهناك تحدث الشدة ولا يزيلها فلا يكشف الشدة يوم القيامة لكن هذا الظاهر ليس ظاهراً من مجرد لفظ ساق بل بالتركيب والسياق وتدبر المعنى المقصود الوجه السابع أن دعواه أن ظاهر القرآن أن لله أعيناً كثيرة وأيدياً كثيرة باطلٌ وذلك أنه وإن كان قد قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وقال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود 37] وقال وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] فقد قال في قصة موسى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه 39-40] فقد جاء هذا بلفظ المفرد في موضعين فلم يكن دعواه الظهور في معنى الكثرة لكونه جاء بلفظ الجمع بأولى من دعوى غيره الظهور في معنى الإفراد لكونه قد

جاء بلفظ المفرد في موضعين بل قد ادعى الأشعري فيما اختاره ونقله عن أهل السنة والحديث هو وطوائف معه إثبات العينين لأن الحديث ورد بذلك وفيه جمع بين النصين

كما في لفظ اليد بل لو قال قائل الظاهر في العين للمفرد أو المثنى دون المجموع لتوجَّه قوله وذلك أن قوله بِأَعْيُنِنَا في الموضعين مضاف إلى ضمير جمع والمراد به الله وحده بلا نزاع ومثل هذا كثير في القرآن يسمي الرب نفسه من الأسماء المضمرة بصيغة الجمع على سبيل التعظيم لنفسه كقوله إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) [الفتح 1] وقوله نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف 32] فلما كان المضاف إليه لفظه لفظ الجمع جاء المضاف كذلك فقيل بِأَعْيُنِنَا وفي قصة موسى لما أفرد المضاف إليه افرد المضاف فقيل وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه 39] ومعلوم أن هذا هو الأصل والحقيقة فإن الله واحد سبحانه ومن احتج بما ذكره الله تعالى عن نفسه بلفظ الجمع على العدد فهو ممن تمسك بالمتشابه وترك المحكم كما فعل

نصارى نجران الذين قَدِموا على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في أمر المسيح وذكروا أن صدر آل عمران أُنزلت بسببهم إذ عامته في ذكر المسيح واتّباعهم للمتشابه أن قالوا ألم يقل في كتابك إنا ونحن فهذا يدل على أن الآلهة ثلاثة فتركوا المحكم في كتاب الله كقوله وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة 163] وقوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة 73] واتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهكذا قد يقال فيمن عمد إلى لفظ أعيننا وترك لفظ عيني أنه اتبع المتشابه دون المحكم ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا عائشة إذا رأيتِ الذين يتبعون ما تشابه منه

فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم وهذا الكلام يقال في لفظ أيدينا مع قوله مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقوله بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] فإن صيغة المضاف إليه هناك صيغة جمع بخلاف صيغة المضاف إليه في بقية الآيات فجاء على لفظ المضاف إليه ومما يوضح الأمر في ذلك أن من لغة العرب الظاهرة التي نزل بها القرآن استعمال لفظ الجمع في موضع التثنية في المضاف إذا كان متصلاً بالمضاف إليه والمعنى ظاهر كقوله تعالى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [التحريم 4] وليس لكل منهما إلا قلب فالمعنى قلباكما لكن النطق بلفظ الجمع أسهل والمعنى معروف أنه ليس لكل منهما إلا قلب وكذلك قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة 38] والمعنى فاقطعوا أيمانهما إذ لا يقطع من كل

واحد إلا يده اليمنى لكن وضع الجمع موضع التثنية لسهولة الخطاب وظهور المراد وفي قراءة عبد الله فاقطعونا أيمانهما حتى أن التعبير في مثل هذا بلفظ التثنية عدول عن أفصح الكلام وغن كان جائزاً كما قال ظهراهما مثل ظهور الترسين وقد جاء مثل الأول في المضاف المنفصل وهو قليل كقوله وضعا رحالهما

وإذا كان كذلك قيل لفظُ بأعيننا ولفظ أيدينا مع كون المضاف إليه ضمير جمع أولى بالحسن مما إذا كان المضاف إليه ضمير تثنية فإذا كان من لغتهم ترك استحسان قلباكما ويديهما فلأن يكون في لغتهم ترك استحسان بعيننا أو بعينينا ومما عملت يَدُنَا أو يدانا أولى وأحرى ويكون المضاف مفرداً أو مثنى والمضاف إليه مجموعاً وهذا خروج عن المطابقة وعدول عن الحسن أعظم من ذلك بل هنا يقبح مثل هذا اللفظ فإنه إذا عبر عن نفسه بصيغة الجمع تعظيماً وتفخيماً فالتعبير مع ذلك عما أضيف بما لا تعظيم فيه تناقض في البيان وتناسب الكلام ويوضح ذلك أنه في الصورة المستشهد بها كقوله صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وفَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا يعلل بأنـ ـه حسن العدول عن المثنى بأن صيغة الجمع واحدة معربة

القرآن جاء صريحا في اليد بلفظ التثنية

بالحروف فهي أخف من صيغة التثنية التي تختلف في النصب وفي الرفع والخفض إذ يحتاج أن يقول صيغ قلباهما وقلب الله قلبيهما وزيّن الإيمان في قلبيهما وعلى المعروف يقال صغت قلوبهما وقلب الله قلوبهما وزيّن الإيمان في قلوبهما فهذا أخف وأسهل وأحسن فإذا قال مما عملت يدانا وخلقنا بيدينا وبسطنا بيدينا كان هذا بخلاف ما لو قيل عملت أيدينا وخلقنا بأيدينا وبسطنا أيدينا كان هذا أخف وأسهل وأحسن من الأول فكيف وفي هذه الصور المضاف إليه لفظه لفظ الجمع فإذا كانوا يعدلون عن إضافة المثنى إلى المثنى فيجعلون المضاف بلفظ الجمع فلأن يعدلوا عن إضافة المثنى إلى الجمع ويجعلوا المضاف بلفظ الجمع أولى وأحرى الوجه الثامن أن القرآن جاء صريحاً في اليد بلفظ التثنية في قوله مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ولم يقل لما خلقته

أيدينا كما قال هناك مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا بل أخبر أنه خلق هو وذكر أنه خلق بيديه ومثل هذا اللفظ لايحتمل من المجاز ما يحتمله ما عملت أيدينا فإن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه كقوله ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) [الحج 10] وقال تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] فأخبر عن اليهود أنهم ذكروا ذلك بصيغة الفرد ثم قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ فأخبر أن يديه مبسوطتان وجاء بلفظ المفرد في مواضع كقوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران 26] وقوله تبارك وتعالى تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] ولم يجئ بلفظ الجمع إلا في قوله مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا فإذا ادعى المدعي أن ظاهر القرآن أن لله أيدياً كثيرة بهذه الآية مع معارضة تلك الآيات المتعددة لها أليس هذا في غاية البهتان وكان إذا لم يعرف الجمع بين الآيات يكفيه أن يقول

لا أعلم ظاهر القرآن أو يدعي أنه ليس له ظاهر أما تعيين المجمل المرجوح للظهور دون غيره فتحريف وتبديل الوجه التاسع أن يقال له أما صيغة التثنية فإنها نص في مسماها لأنها من أسماء العدد وأسماء العدد نصوص لايجوز اثنان أو ثلاثة أو أربعة ويعني به إلا ذلك العدد حتى أنه قيل في مثل قوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 228] أن ذلك يوجب القروء الكاملة لكونه بلفظ العدد بخلاف قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة 197] فإنه يراد به بعض الثلاث لكونه لفظ جمع ولكون مثل ذلك مستعملاً في أسماء الزمان وأما صيغة المفرد فكثيراً ما يراد بها الجنس فيتناوله سواء كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة كما قد يراد بها الواحد في العين وقد يقال الأصل هو الأول ولهذا إذا دخل حرف النفي عليها كان ظاهرها نفي الجنس وقد يراد بها نفي الواحد من الجنس فيقال ما جاءني رجل بل رجلان هذا خلاف الظاهر والأصل عند الإطلاق إذا قلت ما جاءني رجل أن تكون

نافية للجنس ونفي الواحد يكون بقرينة ولهذا عامة المفرد المضاف في القرآن كذلك مثل قوله لَيْلَةَ الصِّيَامِ ونِعْمَةَ اللهِ ونحو ذلك وإذا كان كذلك فقوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ وبِيَدِهِ الْمُلْكُ يدل على جنس اليد فيعم ما للمضاف إليه سواء كانت يداً أو يدين أو يكون مطلقاً لايدل على عموم ولا خصوص وكذلك قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي يتناول ما للمضاف إليه من ذلك وقوله فيكشف الرب عن ساقه وحتى يضع رب العزة فيها قدمه يقال إنه من المطلق أيضاً إذ الجنس المضاف يراد به العموم تارة ويراد به مطلق الجنس تارة والمقصود أن ذلك لايوجب أن يكون واحداً بالعين وأما صيغة الجمع واستعمالها بمعنى التثنية فقد تقدمت

شواهده وإذا كان كذلك كان ظاهر القرآن بل نصه أن لله يدين وكان ما ذكر فيه من لفظ المفرد أريد به الجنس وما ذكر فيه من لفظ الجمع أريد به المثنى وكل هذا هو من ظاهر الخطاب وفصيح اللغة ليس فيه شيء من غريب اللغة وخفيها بل هو جارٍ على الاستعمال الظاهر المشهور فتبين أنما جعله ظاهر القرآن هو خلاف نصه وظاهره الوجه العاشر أنه إذا كان مقصوده أن الله ليس موصوفاً بظواهر النصوص فكان ينبغي أن يذكر ما وردت به الأخبار أيضاً فإنه موصوف بالأمرين جميعاً وفيما وصف به من الأخبار ما إذا ضم إلى القرآن تبين من مجموع النصوص زوال ما ادعاه من الشناعة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين

فصل: ادعاء الرازي لزوم تأويل قوله تعالى {الله نور السماوات والأرض} ، والرد عليه من عدة أوجه

فصل قال الرازي الوجه الثاني أنه ورد في القرآن أن الله نور السموات والأرض وأن كل عاقل يعلم بالبديهة أن الله ليس هو هذا الشيء المنبسط على الجدران والحيطان وليس هو النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار ولابد لكل واحدٍ منا أن يفسر قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بأنه مُنور السموات والأرض أو بأنه هادٍ لأهل السموات والأرض أو بأنه مصلح لأهل السموات والأرض وكل ذلك تأويل قلت والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال له الله أخبر أنه نور السموات والأرض فإن النار جملة وتفصيلاً كالموجود في السرج والمصابيح وغير ذلك إنما يكون

في بعض الأرض أو بعض ما بين السماء والأرض فضلاً عن أن تكون هذه النيران نور السموات والأرض وكذلك ضوء الشمس والقمر ليسا نور السموات والأرض وإن كانا موجودين في بعض السموات ومنورين لبعض الأرض فإنا نعلم أن نور الشمس التي هي أعظم من نور القمر ليس هو نور جميع السموات والأرض فإذا كانت هذه الأمور ليست نور السموات والأرض والله قد أخبر أنه هو نور السموات والأرض لم يكن ظاهر كلامه أن الله هو هذه الأنوار حتى يجعل ظاهر كلام الله باطلاً ومحالاً وكفراً وضلالاً بالبهتان وتحريف الكلم عن مواضعه بل لو كان الخطاب الله هو النور الذي تشهدونه في السموات والأرض أو الله هو النور الذي في السموات والأرض لكان لكلامه وجه بل قال هو نور السموات والأرض فالمحرف لهذه الآية ظن أن مسمى نور السموات والأرض هي هذه الأنوار المشهودة المخلوقة من القمرين والنار فاعتقد أن ظاهر القرآن هو هذا الباطل الوجه الثاني أنه قد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام من الليل اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات

والأرض ومن فيهن وهذا يقتضي أن كونه نور السموات والأرض أمر مغاير لكونه رب ذلك وقيمه ومن المعلوم أن إصلاح ذلك وهدايته وجعله نيِّراً هو داخل في كونه ربه وقيمه فعلم أن معنى كونه نور السموات والأرض غير ذلك الثالث أن الله قد قال في كتابه العزيز وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر 68-69] فقد اخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره وقال الإمام أحمد في الرد على الجهمية نقول إن اله لم يزل متكلماً إذا شاء ولا نقول إنه كان قد لا يتكلم حتى خلق كلاماً ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق

لنفسه علماً فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نوراً ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة فقالت الجهمية لنا لمَّا وصفنا من الله هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره لم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن لم يزل بقدرته وبنوره لا متى قدر ولا كيف قدر فكل ما له فهو في نفسه نور فإن إنارته على غيره فرع استنارته في نفسه ولهذا كان لفظ النور يقع على الجواهر المنيرة وعلى الأعراض القائمة بالمستنير بها أخرى قال تعالى وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [نوح 16] فجعل القمر نفسه نوراً وهو جوهر قائم بنفسه ويقال لضوئه وضوء الشمس نور

الوجه الرابع أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نورٌ أنَّى أراه وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال إن الله لاينام ولاينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو قال النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وقال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أن له حجاباً من النور أو النار وهذا ليس هو نور وجهه الذي لو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وكذلك روى عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا محمد بن

كثير أنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله من خلقه بأربعٍ بنارٍ وظلمةٍ ونورٍ وظلمةٍ

وقال حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل هل رأيت ربك فانتفض جبريل وقال يا محمد إن بيني وبينه سبعين حجاباً من نورٍ لو دنوت من أدناها حجاباً لاحترقت

الخامس أن كونه نوراً أو تسميته نوراً مما لم يكن ينازع فيه قدماء الجهمية وأئمتهم الذين ينكرون الصفات بل كانوا يقولون إنه نور قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله بكل مكان لايخلو منه مكان فقلنا لهم أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف 143] لِمَ تجلى للجبل إذا كان فيه بزعمكم فلو كان فيه كما تزعمون لَمْ يكن متجلياً لشيء هو فيه لكن الله تبارك وتعالى على العرش وتجلى لشيء لم يكن فيه ورأى الجبل شيئاً لم يكن رآه قط قبل ذلك وقلنا

للجهمية الله نور فقالوا هو نور كله فقلنا قال الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً وقلنا لهم أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور فلِمَ لايضيء البيت مظلم من النور الذي هو فيه إذ زعمتم أن الله في كل مكان وما بال السراج إذا دخل البيت المظلم يضيء فعند ذلك تبين كذبهم على الله وقال الخلال حدثنا يحيى ن أبي طالب قال كنا عند عمر بن يحيى الواسطي بن أخي علي بن عاصم فتذاكرنا

من قال القرآن مخلوق فقال حدثني يحيى بن عاصم قال كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي فقلت له يا أبت مثل هذا يدخل عليك قال يا بني ما له قلت إنه يقول القرآن مخلوق وإن الله معه في الأرض وإن الشفاعة باطلة وإن الصراط باطل وإن الميزان باطل وإن منكراً باطل مع كلامٍ كثير قال ويحك أدخِله علىَّ قال فأدخلته فجعل يقول ويلك يا بشر اُدْنُه فما زال يدنيه حتى قرب منه ثم قال ويلك يا بشر ما هذا الكلام الذي بلغني عنك قال وما هو يا أبا الحسن قال بلغني أنك تقول القرآن مخلوق وأن الله في الأرض معك مع كلام كثير فقال ويلك من تعبد وأين ربك قال يا أبا الحسن لم أجئ لهذا إنما جئت لتقرأ عليَّ كتاب خالد قال فقال لا ولا نعمة عين ولا عزازة حتى أعلم ما أنت عليه أين ربك ويلك قال فقال أما إذ أبيت عليَّ يا أبا الحسن فربي نور في نور قال فجعل يزحف إليه

من ضعف ويقول ويحكم اقتلوه فإنه والله زنديق وقد كلمت هذا الصنف بخراسان قال فأخرجناه قلت والصنف الذي أشار إليهم علي بن عاصم محتمل أنهم من أتباع المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأنهما امتزجا واختلطا فإنهم لا يثبتون فوق العالم شيئاً كما تقول الجهمية وقد تقدم كلام ابن كلاب على مضاهاة المعتزلة للثنوية والدهرية فإذا كان أئمة المؤسس وقدماء أهل مذهبه يقولون إنه نور فكيف يدّعي الإجماع على خلاف ذلك فإن هذه التأويلات التي يذكرها في كتابه هي تأويلات بشر المريسي وهو إمام المتأولين فيها كما سننبه إن شاء الله على ذلك فهؤلاء المعطلة الجهمية وكذلك المجسمة كما نقل الأشعري في كتاب المقالات عن الهشامية أصحاب هشام بن الحكم أنهم يقولون إنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من

نقل المؤلف عن ابن فورك مذهب ابن كلاب في هذه الآية

جميع جوانبها وكذلك نقل عن أصحاب هشام بن سالم الجواليقي أنهم يقولون إنه نور ساطع يتلألأ بياضاً وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وانف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم وكذلك نقل عن فرقة خامسة أنهم يزعمون أنه ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وأيضاً فالقول بأن الله في نفسه نور هو قول الصفاتية أهل الإثبات كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابها ولم يذكر الخلاف في ذلك إلا عن المعتزلة فذكر أبو بكر بن فورك في كتابه الذي سماه مقالات

الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وذكر أنه وأبا الحسن الأشعري متفقان لا يتنازعان إلا فيما لا قدر له من الأمور اللطيفة وذكر مذهبه في أصول ذكرها إلى أن قال فصل في إبانة مذاهبه في الصفات هذا الباب منقسم على وجهين أحدهما ما اشتهر به من مذاهبه حتى تغني شهرته عن الاستشهاد عليه على التفصيل بكلامه في كتبه الموضوعة في هذا المعنى والثاني ما يغمض ويختلف فيه عنه ثم قال أما المشهور من مذهبه في باب الصفات وذكر

أصولاً إلى أن قال والمشهور من مذاهبه في ذلك أن القول بأن الله سبحانه نورٌ لا كالأنوار حقيقة لا بمعنى أنه هادٍ وعلى ذلك نص في كتاب التوحيد في باب مفرد لذلك تكلم فيه على المعتزلة إذ تأولوا ذلك على أن معناه هادٍ فقال إن سئل سائل عن الله عز وجل أَنورٌ هو قيل له كلامك يحتمل وجهين إن كنت تريد أنه نور يتجزأ تجوز عليه الزيادة والنقصان فلا وهذه صفة النور المخلوق وإن كنت تريد معنى ما قاله سبحانه وتعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فالله عز وجل نور السموات والأرض على ما قاله قال فإن قال فما معنى قولك نور قيل له قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق وما معنى النور الخالق وهو الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء ومن تعدى أن يقول الله نور فقد تعدى إلى غير سبيل المؤمنين لأن الله سبحانه لم يكن يسمي نفسه لعباده بما ليس هو به فإن قال لا أعرف النور إلا هذا النور المضيء المتجزئ قيل له فإن كان لايكون نوراً إلا مضيئاً فكذلك

لايكون حكمه إلا وحكمه حكم ذلك الشيء قال ابن فورك ثم قال في هذا الفصل فإذا قال الله عز وجل إني نور قلت أنا هو نور على ما قال الله سبحانه وتعالى وقلت أنت ليس الله عز وجل نوراً فمن المثبت له على الحقيقة أنا أو أنت وكيف يتبين الحق فيه إلا من جهة ما أخبر الله سبحانه وتعالى والدافع لما قال الله سبحانه كافر بالله سبحانه وتعالى وإن لزمنا أن لا نقول إن الله نور لأن ذلك موجود في الخلق لزمنا أن لا نقول إن الله عز وجل شيء سميع بصير موجود لأن ذلك موجود في الخلق ومعنانا في هذا إثبات خلاف معناكم في ذلك التعطيل قال ومعنانا في قولنا إن الله نور نثبت لله تعالى اسمَ النور على ما ورد به كتابه مما يسمى به عندنا فنحن متبعون لما أخبرنا في كتابه فإن جاز لكم أن يكون شيء لا كالأشياء جاز أن نقول نورٌ

لا كالأنوار وأنتم ظلمة فيما سألتم جَحَدَةٌ لما أخبر عن نفسه في كتابه ونحن وأنتم متفقون إن أقررتم بالكتاب أن الله نور السموات والأرض ومختلفون في أن نقول نور فقلنا نحن نور وقلتم أنتم لا نقول نور فإن زعمتم أن معنى نور معنى هادي قلنا لكم فيجوز أن يكون غيره نوراً هادياً فإن قلتم لا أَكْذَبكم القياسُ واللغة وإن قلتم نعم قلنا لكم فقد سويتم بين النور الهادي الذي هو غير الله سبحانه وبينه إذ كان هو النور الهادي ومعنى هذا نور ومعنى هذا نور فقد استويا في معنييهما وأسمائهما فدخلتم فيما عبتم على مخالفكم إذ زعمتم أنه نورٌ لا كنور وقلتم إنه نور هادٍ لا كنور هادٍ فما الفصل بينكم وبين من قال ذلك وما الفرق بينه وبينكم إن كان نوراً فالنور لا يكون إلا جسداً مجسداً وضياءً ساطعاً قلنا ولا يكون عالماً بصيراً إ لا لحم ودم متجزئ متبعض فإن جاز قياسكم عل مخالفكم جاز قياسه عليكم أنه لا يكون سميعاً بصيراً إلا لحم

تعقيب المؤلف على ما نقله ابن فورك عن ابن كلاب

ودم فإن قلتم يكون عالماً لا لحم ولا دم قيل لكم كذلك يجوز أن يكون نوراً لاجسداً ولاضوءاً ساطعاً لا على ما تعقلون مما وقع عليه أثر الصفة والزيادة والنقصان وليس لكم إلا التعطيل والنفي لله سبحانه قال أبو بكر بن فورك وإنما استوفيت ذكر هذا الفصل من كتابه رحمه الله تعالى بألفاظه لتحقُّق هذا الوصف في الله تعالى تمسُّكاً بمحكم الكتاب وأنه لايرى أن يعدل عن الكتاب ما وجد السبيل إلى التمسك به لرأي وهوى لا يُوجِبه أصلٌ صحيح وقد كشف عن ذلك بغاية البيان وإزالة اللبس فيه وأن السمع هو الحجة في تسمية الله عز وجل ولايجب أن يحمل على المجاز لأجل أن ذلك يقتضي أن يكون على جميع معاني ما هو مخلوق لأنه يوجب أن يحمل سائر ما ورد به السمع من أسمائه سبحانه وتعالى على المجاز لأن جميع معاني ما هو في الخلق لايصح إطلاقه فيه تعالى قلت فهذا الكلام الذي ذكره عن ابن كلاب يقتضي إبطال التأويل له بالهادي ونحوه وأن ذلك هو تأويل مَن تأوَّله من المعتزلة ويقتضي أن المحذور فيما يُؤَوِّلُ عليه من جنس

نقل المؤلف عن ابن العربي المالكي

المحذور الذي يفر منه فلا حاجة إلى التأويل ولافائدة فيه وإن كان قد جرى في تحقيق ذلك على أصله في نظائره كما قد بينا أصله وأصل الأشعري والقلانسي وغيرهم في غير هذا الموضع وأنهما مع مخالفتهما للمعتزلة لم يوافقا السلف والأئمة بل لهم طريقة سلكوها وبينوا من تناقض المعتزلة ما يظهر به فساد قولهم وكذلك قال أبو الحسن الأشعري فيما حكاه عن أصحابه كالقاضي أبي بكر بن العربي وغيره فإنه

قال وقد اختلف الناس بعد معرفتهم بالنور على ستة أقوال الأول معناه هادٍ قاله ابن عباس والثاني معناه منور قاله ابن مسعود وروي أنه في مصحفه مُنوِّر السموات والأرض والثالث أنه مزين وهو يرجع إلى معنى منور قاله أُبيّ بن كعب الرابع أنه ظاهر الخامس أنه ذو النور السادس أنه نور لا كالأنوار قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري قال وقالت المعتزلة لايقال له نور إلا بالإضافة قال والصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار لأنه حقيقة والعدول عن الحقيقة إلى أنه هادٍ أو منور وما أشبه ذلك هو مجاز من غير دليل لايصح ولأن الأثر الصحيح يعضده ويصح أن يكون على هذا صفة ذات ويصح أن يكون صفة فعل على معنى أنه ظاهر إذ روح النور البيان والظهور

نقل المؤلف عن الإقليشي

قلت كونه ظاهراً ليس بصفة فعل وقال الإقليشي وتسمية الله سبحانه وتعالى بهذا صحيح في الشرع والنظر أما الشرع فقوله سبحانه وتعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور 35] فإن احتج محتج وقال أراد منير السموات والأرض أو هادي أهل السموات والأرض وأبى من تسمية الله نوراً احتججنا عليه بالحديث الذي خرَّجه مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أنَّى أراه وحديث ابن عباس المخرج في مصنف الترمذي إذ قال رأى محمد ربه قيل له أليس يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ قال ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره فهذان الحديثان يصرحان بتسمية الله تعالى نوراً قال وأما النظر فإن النور يطلق على ما يظهر في ذاته فقط وغلى ما يظهر في ذاته ويُظهر غيره كجمرة النار فإنها

نقل المؤلف عن الأشعري

تسمى نوراً لظهورها وكالشمس فإنها تسمى نوراً لأنها تظهر في ذاتها ويظهر بضوئها غيرُها وهذا القول وهو نفي كونه نوراً في الحقيقة حكاه الشعري في كتاب المقالات عن الجبائي فقال وكان الجبائي يزعم أن الباري نور السموات ومعنى ذلك أنه هادي أهل السموات والأرض وأنهم به يهتدون كما يهتدون بالنور والضياء وأنه لايجوز أن نسميه نوراً على الحقيقة إذا لم يكن من جنس الأنوار لأنا لو سميناه بذلك وليس هو من جنسها لكانت التسمية له بذلك تلقيباً إذا كان لايستحق معنى الاسم من جهة المعقول واللغة ولو جاز أن يسمى بأنه جسم محدث

نقل المؤلف من كتاب "الإرشاد" للجويني

وبأنه إنسان وإن لم يكن مستحقًّا لهذه الأسماء ولا لمعانيها من جهة اللغة فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يسمى على جهة التلقيب قال وكان الحسين النجار يزعم أنه نور السموات والأرض بمعنى أنه هادي أهل السموات والأرض قلت القول بأنه نور حقيقةَ هو قول أئمة الأشعرية المتقدمين قلت وأما كلام المؤسس فإنه اتبع فيه أبا المعالي الجويني فإنه غَيّر مذهب الأشعري في كثير من القواعد ومال إلى قول المعتزلة فإنه كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم بن الجبائي وكان قليل المعرفة بمعاني الكتاب والسنة وكلام

السلف والأئمة مع براعته وذكائه في فنه قال في الإرشاد له ذكره الأنصاري شارحه ومما يسأل عنه قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس هادي أهل السموات والأرض قال ولا يستجيز مُنْتَمٍ إلى الإسلام القول بأن نور السموات هو الله والله تعالى يقول لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ قال والمقصود من إطلاق هذا اللفظ ضرب الأمثال فهي كذلك على الإجمال وقد نطق بذلك

سياق الآية وكذلك قوله وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ [النور 35] ولما كان النور يُستضاء به ويهتدى سُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب فسمت المطر سماء لنزوله من السماء فكذلك يحتمل أن يكون سبحانه أطلق هذا الاسم على نفسه وسماه به لأن النور من خلقه وكأنه قال منه نور السموات والأرض وهو مُنِّورهما قال وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا أي بنور من ربها وقال وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى 52] وفي التفسير وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا أي بآثارِ عدلِ ربها يعني بحيث ينتصف للمظلومين وقال تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] وقال وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور 40] وقال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن شرح الصدور نور يقذف في القلب فثبت أن النور

نقل المؤلف عن الخطابي

مجعول مخلوق والجعل المضاف إلى الله عز وجل لا يكون إلا بمعنى الخلق ونصوص القرآن شاهدة لما ذكرناه النور هو الهادي لايعلم العباد إلا ما علمهم ولايدركون إلا ما يسر لهم إدراكه فالحواسُ والعقل فطرته وعطيته وقال الخطابي ولايجوز أن يُتوهَّم أن الله نور من الأنوار فإن النور تُضادُّه الظلمة وتعاقبه فتزيله وتعالى الله أن يكون له ضد أو ندّ

تعقيب المؤلف على ما نقله عن العلماء

قلت ذكرنا كلام هؤلاء النفاة مع كلام المثبتة فإن أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لايكتبون إلا ما لهم والمرجع بعد ذلك إلى الحجة فإن هذه الأقوال المذكورة عن النفاة يظهر فسادها لمن تدبر ذلك بلا كلفة وأما ما ذكروه عن الصحابة فسنتكلم عليه إن شاء الله قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي وأتباعه الجهمية قال وادَّعى المعارض أيضاً أن قوماً زعموا أن الله عيناً يريدون جارحاً كجارح العين من الإنسان وأرادوا التركيب واحتجوا بقوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) [طه 39] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود 37] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] قال المعارض والمعقول بين أن هذا يريد عين القوم يعني رئيسهم وكبيرهم ولايريد جارحاً ولكن يريد الذي يجوز في الكلام وقال ابن عباس في قوله فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا يقول في كلاءتنا وحفظنا ألا ترى إلى قول القائل عين الله عليك يقول

أنت في حفظ الله وكلاءته قال فيقال لهذا المعارض أما ما ادعيت أن قومًا يزعمون أن لله عيناً فإنا نقوله لأن الله قاله ورسوله وأما جارح كجارح العين من الإنسان على التركيب فهذا كذب ادعيته علينا عمداً لما أنك تعلم أحداً لايقوله غير أنك لا تألو ما شنَّعت ليكون أنجع لضلالك في قلوب الجهال والكذب لايصلح منه جَدّ ولاهزل فمن أي الناس سمعت أنه جارح مركب فأشر إليه فإن قائله كافر فَلِمَ تكرِّر قولك جسم مركب وأعضاء وجوارح لأجزاء كأنك تهول بهذا التشنيع علينا أن نكف عن وصف الله بما وصف نفسه في كتابه وما وصفه به الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن وإن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين ولا بعضو ولا بجارحة لكنا نصفه بما يغيظك من

هذه الصفات التي أنت ودعاتك لها منكرون فنقول إنه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ذو الوجه الكريم والسمع السميع والبصر البصير نور السموات والأرض كما وصفه الرسول في دعائه حين يقول اللهم أنت نور السموات والأرض وكما قال أيضاً نور أنى أراه وكما قال ابن مسعود نور السموات والأرض من نور وجهه والنور لا يخلو من أن يكون له إضاءة واستنارة ومرأى ومنظر وأنه يُدرك يومئذ بحاسة النظر إذا كشف عنه الحجاب كما يُدرك الشمس والقمر في الدنيا وإنما احتجب الله عن أعين الناس في الدنيا رحمة لهم لأنه لو تجلَّى في الدنيا لهذه الأعين المخلوقة الفانية لصارت دكًّا وما احتملت النظر إلى الله تعالى لأنها أبصار خلقت للفناء لاتحتمل نور البقاء فإذا كان يوم القيامة ركبت الأبصار للبقاء فاحتملت النظر إلى نور البقاء

وأما تفسيرك عن ابن عباس في قوله فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا أنه قال بحفظنا وكلاءتنا فإن صحّ قولك عن ابن عباس فمعناه الذي ادعينا لا ما ادعيت أنت نقول بحفظنا وكلاءتنا بأعيننا فإنه لايجوز في كلام العرب أن يوصف أحد بكلاءةٍ إلا وذلك الكالئ من ذوي الأعين فإن جهلت فسمِّ شيئاً من غير ذوي الأعين يوصف بالكلاءة وإنما أصل الكلاءة من جهة النظر وقد يكون الرجل كالئاً من غير نظر ولكنه لايخلو أن يكون من ذوي الأعين وكذلك معنى قولك عين الله عليك فافهم وقد فسرنا بعض هذا الكلام في صدر كتابنا غير أنك أعدته لحاجة فيك اغتياظاً على من يؤمن برؤية الله تعالى يوم القيامة وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة لمَّا بين ما سمى الله بعض خلقه من أسمائه مع انتفاء التمثيل قال وربنا جل وعلا النور وقد سمى الله تعالى بعض خلقه نوراً

فقال مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ وقال نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور 35] وقال نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) [التحريم 8] وقال تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [الحديد 12] قال أبو بكر وقد كنت أخبرت منذ دهر طويل أن بعض من كان يدَّعي العلم ممن كان لايفهم هذا الباب يزعم أنه جائز أن يُقرأ اللهُ نُورُ السموات والأرض وكان يقرأ اللهُ نَوَّرَ السموات والأرض فبعثت إليه بعض أصحابي وقلت له قل له ما الذي تنكر أن يكون لله عز وجل اسم يسمي الله بذلك الاسم بعض خلقه فقد وجدنا الله تعالى قد سمى بعض خلقه بأسامٍ هي أسامي وبينت له بعض ما أمليته في هذا الفصل وقلت للرسول قل له قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإسناد الذي لايدفعه عالم بالأخبار ما يثبت أن الله نور السموات والأرض قلت في خبر طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

يدعو اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن فرجع الرسول وقال لست أنكر أن يكون الله نوراً كما قد بلغني بعد أنه رجع وقال أبو الحسن الأشعري في إبانته قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فسمى نفسه نوراً والنور عند الأمة لايخلو من أحد معنيين إما أن يكون نوراً يسمع أو نوراً يُرى فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئاً في نفيه رؤيةَ ربِّه وتكذيبه بكتابه عز وجل وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وقال القاضي أبو يعلى فأما قوله في حديث جابر بَيْنَا أهلُ الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوق رؤوسهم فإذا الرب سبحانه وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام

عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) [يس 58] قال فينظر إليهم وينظرون إليه ولايلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه قال

فلا يمتنع حمله على ظاهره وأنه نور ذاته لأنه إذا جاز أن يُظهر لهم ذاته فيرونها جاز أن يظهر لهم نوره فيرونه لأن النور من صفات ذاته ومنه قوله تعالى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر 69] وذكر في موضع آخر قولين في ذلك ورجح هذا في المذهب فقال في تفسير الأسماء الحسنى وأما وصفه بأنه نور فقيل معناه منوِّر السموات والأرض بالنيرين أو منور قلوب أهل السموات والأرض بالهدى والتوفيق لأنه لايجوز أن يكون جسماً مضيئاً ولا شعاعاً وضياءً كبعض الأجسام فكان معناه ما ذكرنا قال وذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

[النور 35] يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض وقيل هو نور لا كالأنوار ليس بذي شعاع ولاجسم مضيء على ظاهر القرآن وهو أشبه بكلام أحمد رحمه الله فيما خرجه في الرد على الجهمية لأنه قال قلنا للجهمية الله نور فقالوا هو نور كله فقلنا لهم قال الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً وقلنا لهم لمّا زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان قال وظاهر هذا الكلام من أحمد أنه أثبت له هذه الصفة قلت كلام أحمد رحمه الله صريح في أن كونه نوراً يوجب أن تضيء به الأمكنة التي لا حجاب بينه وبينها كما دل على ذلك الكتاب والسنة في قوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا

وهؤلاء المفسرون للقرآن والأسماء الحسنى قدوتهم في تفسيره أنه هادي هو ما نقلوه عن ابن عباس وهذا إنما هو مأخوذ من تفسير الوالبي علي بن أبي طلحة الذي رواه عبد الله ابن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه وكذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا أتاه العلم ازداد هُدىً على هدى ونوراً على نور فكلهم على هذه الرواية يعتمد فإن هذا تفسير رواه الناس عن عبد الله بن صالح وأبو بكر

عبد العزيز نقل ذلك من تفسير محمد بن جرير إذ كان يعتمد عليه وابن جرير يروي من هذا التفسير بالإسناد وكذلك البيهقي في تفسير الأسماء الحسنى إنما رواه من هذا الطريق وهذا التفسير هو تفسير الوالبي وأما ثبوت ألفاظه عن ابن عباس ففيها نظر لأن الوالبي لم يسمعه من ابن عباس ولم يدركه بل هو منقطع وإنما أخذ عن أصحابه وكما أن السدي أيضاً يذكر تفسيره عن ابن مسعود

هن ابن عباس وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وليست تلك ألفاظهم بعينها بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل المغازي والسير وهو مما يُستشهد به ويعتبر به ويُضم بعضه إلى بعض فيصير حجة وأما ثبوت شيء بمجرد هذا النقل عن ابن عباس فهذا لايكون عند أهل المعرفة بالمنقولات وأحسن حال هذا أن يكون منقولاً عن ابن عباس بالمعنى الذي وصل إلى الوالبي إن كان له أصل عن ابن عباس وغايته أن يكون لفظ ابن عباس وإذا كان لفظه قول ابن عباس فليس مقصود ابن عباس بذلك أن الله هو نفسه ليس بنور وأنه لا نور له فإنه قد ثبت بالروايات الثابتة عن ابن عباس إثبات النور لله تعالى كقوله في حديث عكرمة لما سأله عن قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ

فقال ويحك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء وابن عباس هو الراوي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم أنت رب السموات والأرض ومن فيهن وأنت نور السموات والأرض ومن فيهن وأنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن ومعلوم أنه لو لم يكن النور إلا الهادي لكانت الهداية مختصة بالحيوانات فأما الأرض نفسها ف توصف بهدى والحديث صريح بأنه نور السموات والأرض ومن فيهن وأيضاً فوصفه بأنه القيم والرب وفرق بين ذلك وبين النور ولكن عادة السلف من الصحابة والتابعين كل منهم يذكر في

تفسير الآية أو الاسم بعض معانيه التي يصلح للسائل كما ذكروا مثل ذلك في اسمه الصمد واسمه الرحمن وغيرهما من أسمائه لا يريدون بذكر ما يذكرونه نفي ما سواه مما يدل عليه الاسم وكذلك في سائر تفسير القرآن مثل تفسير قوله فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر 32] حيث يذكر كل منهم بعض أنواع هذه الأصناف وهذا كثير في التفسير ومقصوده هنا يذكر نوره الذي في قلوب المؤمنين ولاريب أن هذا متعلق بهدايته للمؤمنين فذكر من معنى الاسم ما يناسب مقصوده وكونه هادياً مثل كونه نوراً فـ ي ما يلزم عليهما كما نبهنا على هذا في غير هذا الموضع وكلام ابن كلاب قد نبَّه فيه على ذلك وأما ما ذكره عن ابن مسعود أنه قال منور وأنها في مصحفه كذلك فهذا لا ينافي كونه نوراً بل هو

توكيد فإن الموجودات النورانية نوعان منها ما هو ينفسه مستنير كالجمرة فهذا لا يقال له نور ومنها ما هو مستنير وهو ينير غيره فهذا هو النور كالشمس والقمر والنار وليس في الموجودات ما ينوِّر غيره وهو في نفسه ليس بنور فقراءة ابن مسعود منوِّر هو تحقيق لمعنى كونه نوراً وهذا مثل كونه مكلماً ومعلماً فإن ذلك فرعُ كونه في نفسه متكلماً عالماً يؤيد ذلك أن ابن مسعود كان يقول إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وأما ما نُقِلَ عن أبي بن كعب أنه قال مزيِّن فهذا لا أصل له ولم يعز ذلك إلى حيث يقبل وهو بالكذب على أُبيٍّ أشبه فإن تفسير أُبيِّ بن كعب لهذه الآية معروف بالإسناد رواه

العلماء كعبد الله بن المبارك وغيره عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبيِّ بن كعب وقد رواه عامة الأئمة المصنفين في التفسير بالإسناد كما كانت عادة أئمة السلف مثل ابن جريج ومعمر ووكيع وهُشَيم وابن المبارك وعبد الرزاق والإمام أحمد

وإسحاق بن راهوية وخلائق غيرهم وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره ومحمد بن جرير وذكر الإمام أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريق عبد بن حميد ثنا عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية غن أبي بن كعب في قول

الله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قال فبدأ بنور نفسه فذكره ثم ذكر نور المؤمن فقال مَثَلُ نُورِهِ يقول مثل نور المؤمن قال فكان أبي بن كعب يقرأها كذلك مثل نوره مثل نور المؤمن قال فهم عبدٌ جعل الإيمان والقرآن في صدره قال قلت كَمِشْكَاةٍ قال المشكاةُ صدرهُ فِيهَا مِصْبَاحٌ قال المصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره قال الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ قال الزجاجة قلبه قال الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ قال قلبه مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب دري يقول مضيء يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ قال فالشجرة المباركة الإخلاصُ لله وحده وعبادته لا شريك له لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ قال فمثله كمثل شجرةٍ التفَّ بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت

لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أُجِير من أن يضله شيء من الفتن وقد ابتلي فثَّبته الله فيها فهو بين أربع خلال إن أُعطي شكر وإن ابتُلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات قال نُورٌ عَلَى نُورٍ فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة قال ثم ضرب مثل الكافر وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ الآية قال فكذلك الكافر يجيء في يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيراً فلا يجده فيدخله الله النار قال وضرب مثلاً آخر للكافر فقال أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ الآية فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة

ومصيره إلى الظلمات إلى النار الوجه السادس أنه لو فرض أن ظاهر هذه الآية أنه نور النيرين ونور النار المشهودة فهو سبحانه وتعالى قد بين في غير موضع أنه خالق ذلك قال تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) [فصلت 37] وقال هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس 5] وقال وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) [إبراهيم 33] وقال يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف 54] وإذا كان في القرآن آية يفسر معناها آية أخرى لم يكن هذا مخلاًّ بكونه هدىً وبياناً وبلاغاً للناس بخلاف ما إذا كان ظاهره ضلال ولم يبين ذلك

الجزء السادس

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء السادس التأويل - المعية - القرب - النفس - الأصابع الجسم والجهة - الصورة حققه د. عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى

فصل: في الوجه الثالث من الوجوه التي ادعى فيها الرازي أن القرآن ظواهر يجب تأويلها

فصل قال الرازي الوجه الثالث قال الله تعالى وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد 25]

رد المؤلف على الرازي في معنى الإنزال

ومعلومٌ أن الحديد ما نزل جرمه من السماء إلى الأرض وقال تعالى وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر 6] ومعلوم أن الأنعام ما نزلت من السماء إلى الأرض والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال قوله معلوم أن الحديد ما نزل وأن الأنعام ما نزلت لم يذكر ما به يعلم ذلك أبضرورة أم بدليل فلو نازعه منازع وقال هذا غير معلوم لنا إذ من الممكن نزول أصل هذا الحيوان كنزول أصل الإنسان والجن والحية وكما روي في نزول كبش الفداء ونزول حديد من السماء احتاج إلى ما يدفع به هذا

الوجه الثاني: أنه روى أنه ينزل من السماء حديد

الثاني أن من الناس من قد روى أنه قد ينزل من السماء حديد الوجه الثالث وهو الجواب أن يقال له إن الله تعالى لم يقل أنزلنا الحديد من السماء ولا قال أنزلنا لكم ثمانية أزواج من السماء فقول القائل معلوم أن الحديد ما نزل جرمه من السماء إلى الأرض وأن الأنعام ما نزلت من السماء إلى الأرض لا يعارض ظاهر القرآن حتى يقال إن ظاهر القرآن ليس بحق وأنه مؤول بل قال وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد 25] والإنزال يقتضي أن يكون من محلٍّ عالٍ ولا ريب أن الحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض وقد قيل إنه كلما كان المعدن أعلى كان حديده أجود والمستخرجون للحديد من المعادن يقولون نزل لنا من المعدن

كذا وكذا يبين ذلك أن الله ذكر الإنزال على ثلاث درجات قال في الحديد وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد 25] فأطلق الإنزال ولم يذكر من أين نزل وقال في الغيث وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة 22] وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ فذكر أنه أنزل المطر من السماء فإنه نزل مما يسمو على رؤوس بني آدم ويعلو عليهم بخلاف الجبال فإنها نفسها لا تسامت رؤوس بني آدم وقال في القرآن تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) وقال حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) [غافر 1-2] وقال حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) [فصلت 1 -2] وقال وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام 114] وقال وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) [النمل 6] وقال الر كِتَابٌ

أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود 1] فأخبر أن القرآن منزل منه وأن المطر نزل من السماء وأخبر أنه أنزل الحديد ولم يذكر من أين نزل وبهذا يظهر ما لبَّسته الجهمية من المعتزلة وغيرهم

الرد على من زعم بأن الإنزال يكون بمعنى الخلق

في دعواهم أن الإخبار بان القرآن مُنزَّل لا يمنع أن يكون مخلوقًا فإن المخلوق يوصف بالإنزال كالماء والحديد وزعم بعضهم أن الإنزال يكون بمعنى الخلق فإن الله أخبر أن القرآن منزل والإنزال هو من العلو حيث كان وهذا من المعلوم بالضرورة من اللغة وهو من اللغة العامة الشائعة يوضح ذلك أن الله تعالى قال لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 25] ثم قال وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد 25] ففرق بين إنزال الكتاب والميزان وذكر أنه أنزل ذلك مع الرسل وبين إنزال الحديد فوصفه بإنزال مطلق لم يجعله مع الكتاب والميزان ولم يصفه بالإنزال الذي وصف به الكتاب والميزان وقد قال تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ [الأحزاب 26] فإذا كان قد يسمى هذا نزولاً فما أنزله من الجبال أولى أن يكون منزلاً فإن الجبال أعلى من الصياصي التي هي

الحصون التي كانت بالحجاز وكذلك قال لنوح عليه السلام فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) [المؤمنون 28-29] وإنما هو نزوله من السفينة إلى الأرض يقرر ذلك أن الله تعالى قال لنوح يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ الآية [هود 48] بعد قوله وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود 44] فهذا هبوط من السفينة وقال لآدم ومن معه وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة 36] فهذا هبوط من السماء وكذلك قال لإبليس فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) [الأعراف 13] فلفظ الهبوط من جنس لفظ النزول فبعضه من السماء أو الجنة وبعضه من الأرض مكان عال في الأرض كالسفينة كما أن العلو والظهور الذي في مقابلته

بيان معنى إنزال الأنعام والرد على الرازي

كذلك وأما قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر 6] فإنه ينزل الماء من أصلاب الذكور إلى بطون الإناث ثم ينزل الأجنة من بطون الإناث إلى الأرض فأنزل منها ثمانية أزواج ومن المشهور في اللغة أنه يقال عن ابن آدم أنزل الماء أو المني ولم ينزل كما في الحديث وذلك أنه سبحانه قال خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر 6] فحواء خلقت من نفس آدم من ضلعه

القصراء لم تخلق من مني ولا في رحم كما قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] وقال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف 189] فلم تكن زوج آدم منزلاً منه بل مخلوقاً مجعولاً منه وزوجها هي حواء وأما الأنعام فإنه يعلو بعضها بعضًا وهي قائمة أو قاعدة وتلد وهي كذلك قائمة فينزل الله تعالى منها أولادها وتسمية ذلك إنزالاً ليس بدون تسمية إخراج المني إنزالاً بل أبلغ وفي الصحيحين عن أسامة أنه قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أين ننزل غدًا قال بخيف بني

كنانة حيث تقاسموا على الكفر واستعمال لفظ النزول في النزول من ظهر الدابة أكثر وأشهر وأظهر مما يذكر وعلى هذا فـ من في قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ

[الزمر 6] يحتمل وجهين أحدهما أن يكون لبيان الجنس كما هو الظاهر لكثير من الناس والمعنى أنزل ثمانية أزواج كما قال وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد 25] وإنزالها كإنزال المني ومن هنا مثل من في قوله وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام 141] إلى قوله وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام 142] إلى قوله ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام 143] أي أنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا ثمانية أزواج ويحتمل أن تكون من لابتداء الغاية كقوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الرعد 17] وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] والمعنى أنه أنزل ثمانية أزواج أنزلها من الأنعام فيكون قد ذكر المحل الذي أنزلت منه وهذان الوجهان يجيئان في قوله تعالى في السورة الأخرى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] فقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا هل المراد جعل لكم

من جنسكم أزواجًا يذرؤكم في ذلك أو المراد جعل أزواجكم من أنفسكم لكون حواء جعلت من نفس آدم وكذلك من الأنعام أزواجًا وقد يقال بيان الجنس أظهر لأنه لم يخلق من آدم إلا زوجه فقط كما قال خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] وأما أزواج ولده فلم تخلق من ذواتهم فيكون المعنى جنسكم أزواجًا كما قال لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور 12] وقال ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة 85] وقال وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات 11] وله نظائر في القرآن

فصل: في الوجه الرابع من الوجوه التي ادعى فيها الرازي أن للقرآن ظواهر لا بد من تأويلها

فصل قال الرازي الرابع قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقال تعالى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] وكل عاقل يعلم أن المراد منه القرب بالعلم والقدرة الإلهية قلت قد ذكر في هذا الوجه لفظ المعية ولفظ القرب ولم يذكر إلا تأويل لفظ القرب وذكر في الوجه السادس قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] مع قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] وتلك الآية هي نظير هذه لا نظير تلك ثم ذكر الوجه التاسع وهو آخر وجوه القرآن قال

بحث المعية

تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] وهذه المعية ليست إلا بالعلم والحفظ والرحمة فيكون ذكره لتلك المعية في تلك الآية لأنه جعل معناها معنى قربه فلابد من الكلام في لفظ المعية ولفظ القرب أما المعية فالكلام عليها من وجوه أحدها أن يقال لا يخلو إما أن يكون ظاهر قوله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] أن ذاته نفسها مختلطة في المخلوقات أو لا يكون هذا ظاهر الخطاب فإن كان الأول فهذا قول طوائف من إخوانه الجهمية الذين ينكرون أنه فوق العرش ويقولون إنه في كل مكان أو إنه نفس وجود الأمكنة ولهم في ذلك مقالات تقدم حكايتها وبينَّا أنه عاجز عن مناظرتهم والرد عليهم إلا إذا وافق أهل

الإثبات فهؤلاء إذا قالوا له نحن نتمسك بظاهر القرآن لم يمكنه الرد عليهم وقوله كل عاقل يعلم أن المراد منه القرب بالعلم والقدرة الإلهية هؤلاء إخوانه الجهمية ينازعونه في هذا ونحن وإن كنا نعلم بطلان قولهم لكن المقصود هنا أن ما ادعاه من الاتفاق على أن من ظواهر القرآن ما ليس بحق ليس كما ادعاه فليس في شيء مما ذكره وفاق ولا في صورة واحدة وإن لم يكن ظاهر الخطاب يدل على أن ذاته في المخلوقات لم تكن الآية مصروفة عن ظاهرها فعلى التقديرين لم يسلم ما ادعاه من الاتفاق على إحالة ظاهر القرآن الوجه الثاني أن أهل السنة والإيمان والإثبات لا ينازعونه في أن الله ليس في المخلوقات لكن ينازعونه في أن ظاهر هذه الآية يدل على ذلك فيقال لا يخلو إما أن يكون ظاهر الآية يدل على أن ذاته في نفس المخلوقات أم لا فإن كان الثاني بطل قوله وإن كان الأول فلا ريب أن الله قد فسر هذه الآيات وأزال

الشبهة التي تعترض بما بينه في غير موضع من كتابه من أنه استوى على العرش وأنه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح وانه رفع عيسى إليه وأنه تعرج الملائكة والروح إليه إلى غير ذلك من النصوص المفسرة المحكمة التي تبين أن الله فوق الخلق فكان ذلك بيانًا من الله بليغًا لعباده أن ذاته ليست في نفس المخلوقات وكان ذلك البيان مانعًا عن فهم هذا المعنى الباطل من القرآن وهم لاينازعون أن القرآن يفسر يعضه يعضًا ويكون بعضه مانعًا من حمل بعضه على معنى فاسد كما تقدم وإنما الممتنع أن يكون ظاهره ضلالاً ولم يبين الله ذلك الوجه الثالث أن هؤلاء يقولون إن الله تعالى قد بين في غير موضع أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وبين أن له ملك السموات والأرض وما بينهما

وبين أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وأن كرسيه وسع السموات والأرض وأنه يمسك السموات والأرض أن تزولا إلى غير ذلك من الآيات التي فيها بيان أن جميع هذه المشهودات هي مخلوقة لله مملوكة لله مدبرة لله وهذه نصوص صريحة في أن الله تعالى ليس فيها لأن الخالق ليس هو المخلوق ولا بعض المخلوق ولا صفة للمخلوق وإذا كان كذلك فمثل هذه النصوص تهدي القلوب وتشفيها وتعصمها عن أن يفهم من قوله وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد 4] أنه في المخلوق كما يزعم ذلك من يزعمه من الزنادقة

والجهمية من الاتحادية والحلولية عمومًا وخصوصًا ومثل هذا لا يمتنع كما تقدم الوجه الرابع أن يقال إنه ليس ظاهر قوله وَهُوَ

مَعَكُمْ [الحديد 4] أنه في المخلوقات ولا أنه مختلط ممتزج بها ونحو ذلك من المعاني الفاسدة ولا يدل لفظ على هذا بوجه من الوجوه فضلا عن أن يكون ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ وذلك أن لفظ مع قد استعمل في القرآن في مواضع كثيرة وفي سائر الكلام ولا يوجب في عامة موارده أن يكون الأول في الثاني ولا مختلطًا به ومعنى اللفظ وظاهره وإنما يؤخذ من موارد استعمالاته قال تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا الآية [الفتح 29] وقال فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف 157] وقال عن المنافقين يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد 14] وقال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) [التوبة 83] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التوبة 119] وقال وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [البقرة 43] وقال يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران 43] وقال رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى

قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) [التوبة 87] وقال عن نوح وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) [هود 40] وقال فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) [الشعراء 119] وقال قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود 48] وقال هارون فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) [الأعراف 150] وقال لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف 88] وقال قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النمل 47] وقال فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة 249] وقال إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) [النساء 146] وقال عن فرعون فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) [الإسراء 103] وقال وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) [البقرة 14] وقال وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة 41] وقال وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة 213] وقال رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) [آل عمران 53] وقال وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران 146]

وقال وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) [آل عمران 193] وقال فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ إلى قوله وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء 102] وقال فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء 140] وقال وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) [المائدة 84] فهذه المواضع الكثيرة التي وصف الله بأن المخلوق مع المخلوق لم يوجب ذلك أن يكون الأول في الثاني ولا ذاته مختلطة ممتزجة بذاته أصلاً ولا أن يكون محايثًا له فكيف إذا وصف الرب نفسه بأنه مع عباده عمومًا وخصوصًا يقال إن ظاهر ذلك أن ذاته فيهم أو ممتزجة مختلطة بهم وذلك لأن مع ظرف مكان معناها المصاحبة والمقارنة والموافقة فإذا قيل هذا مع هذا كان التقدير أنه في مكان أو في مكانة لها اتصال بالثاني بحيث يكونان مقترنين

مصطحبين متفقين وهذا معنى قول من يقول من النحاة إن مع للمصاحبة ثم ذلك الاقتران يدل على أمور أخرى تكون من لوازم الاقتران فالله سبحانه إذا قيل إنه مع خلقه فمن لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم وإذا كان مع بعضهم خصوصًا كان في السياق ما يبين أنه ناصر لهم معين لهم ولهذا جاءت المعية في كتاب الله عامة وخاصة لكن ذلك من خصوص التركيب والسياق وإلا فالقدر المشترك يبين مواردها هو ما تقدم قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) [التوبة 36] وقال فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) [آل عمران 81] وقال وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ [المائدة 12] وقال إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة 140] وقال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) [النحل 128] وقال وَاصْبِرُوا إِنَّ

بحث القرب ومعنى قرب الرب من عباده

اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) [الأنفال 46] وقال خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) [الحديد 4] فأخبر أنه مستوٍ على عرشه وهو مع ذلك مع عباده وكلاهما حق فمن تدبر القرآن علم بالاضطرار أن كونه معهم ليس ذاته فيهم ولا أنه مختلط بهم كسائر موارد مع ومن ادعى ذلك أن هذا ظاهر القرآن فقد افترى على اللغة عمومًا وعلى القرآن خصوصًا وأما قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقوله كل عاقل يعلم أن المراد منه القرب بالعلم والقدرة الإلهية فليس الأمر كما ادعاه من هذا العموم والإجماع وذلك أنه سبحانه قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وهل المراد بذلك

الملائكة أو العلم أو كلاهما قال أبو عمر الطَّّلَمَنْكي ومن سأل عن قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ

إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] فاعلم أن ذلك كله على معنى العلم والقدرة عليه قال والدليل على ذلك صدر الآية قال الله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] لأن الله لما كان عالمًا بوسوسته كان أقرب إليه من حبل الوريد وحبل الوريد ما يَعْلَم ما توسوس به النفس ويلزم الملحد على اعتقاده أن يكون معبوده مخالطًا لدم الإنسان ولحمه وأن لا يُجَرد الإنسانُ تسميته المخلوق حتى يقول خالق ومخلوق لأن معبوده بزعمه داخلُ حبلِ الوريد من الإنسان وخارجه فهو على قوله ممتزج به غير مباين له قال وقد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله على عرشه بائن من خلقه تعالى الله عن قول أهل الزيغ علوًّا

كبيرًا قال وكذلك الجواب في قوله فيمن يحضره الموت وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة 85] أي بالعلم به والقدرة عليه إذ لا يقدرون له على حيلة ولا يدفعون عنه وقد قال الله تعالى تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) [الأنعام 61] وقال قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة 11] انتهى كلامه وهكذا ذكر غير واحد من المفسرين مثل الثعلبي

وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وفي قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] فذكر أبو الفرج القولين إنهم الملائكة وذكره عن أبي صالح عن ابن عباس

وأنه القرب بالعلم وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات الباري جل وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية ولا حاجة إلى هذا فإن المراد بقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] أي بملائكتنا في الآيتين وهذا بخلاف لفظ المعية فإنه لم يقل ونحن معه بل جعل نفسه هو الذي مع العباد وأخبر أنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة وهو نفسه الذي خلق السموات والأرض وهو نفسه الذي استوى على العرش وتفسير قربه سبحانه

القرب لا يكون خاصا وعاما كالمعية

بالعلم قاله جماعة من العلماء لظنهم أن القرب في الآية هو قربه وحده ففسروها بالعلم ولما رأوا ذلك عامًا قالوا هو قريب من كل موجود بمعنى العلم وهذا لا يحتاج إليه كما تقدم وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] لا يجوز أن يراد به مجرد العلم فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال إنه أقرب إليه من

غيره لمجرد علمه به ولا لمجرد قدرته عليه ثم إنه سبحانه وتعالى عالم بما يسره من القول وبما يجهر به وعالم بأعماله فلا معنى لتخصيصه حبلَ الوريدِ بمعنى أنه اقرب إلى العبد منه فإن حبل الوريد قريب إلى القلب ليس قريبًا إلى قوله الظاهر وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه قال تعالى وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) [الملك 13 - 14] وقال تعالى أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) [الزخرف 80]

وسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة فإنه قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق 16-18] فَقَيّدَ القرب بهذا الزمان وهو زمان تلقي المتلقيين قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق 18] ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذاته لم يختص ذلك بهذه الحال ولم يكن لذكر العتيد والرقيب معنى مناسب وكذلك قوله في الآية الأخرى فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)

[الواقعة 83-85] لو أراد قرب ذاته لم يخص ذلك بهذه الحال ولا قال وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة 85] فإن هذا إنما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال لكن لا نبصره والرب تبارك وتعالى لا يراه في هذه الحال أحد لا الملائكة ولا البشر وأيضًا فإنه قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] فأخبر عمن هو أقرب إلى المختصر من الناس الذين عنده في هذه الحال وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل هي في كل مكان أو قيل فريبة من كل موجودٍ لا تختص بهذا الزمان والمكان والأحوال فلا يكون أقرب من شيء إلى شيء ولا يجوز أن يراد به قرب الرب الخاص كما في قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة 186] فإنما ذلك

إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده وهذا المحتضر قد يكون كافرًا أو فاجراً أو مؤمنًا ومقربًا ولهذا قال تعالى فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) [الواقعة 88-94] ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصه الرب بقربه منه دون من حوله وقد يكون حوله قوم مؤمنون وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء 97] وقال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال 50] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) [الأنعام 93] وقال تعالى حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) [الأنعام 61] وقال تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) [السجدة 11] ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال وَنَحْنُ

أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وهذا كقوله سبحانه نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) [القصص 3] وقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف 3] وقال إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) [القيامة 17-19] فإن مثل هذا اللفظ ذكره الله تعالى في كتابه دلَّ على أنه المراد أنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده وأعوانه من الملائكة فإن صيغة نحن يقولها المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره وليس لأحد جنود يطيعونه كطاعة الملائكة لربهم وهو خالقهم وربّهم فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه وملائكته تعلم فكان لفظ نحن هنا هو المناسب وكذلك قوله وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق 16] فإنه سبحانه يعلم ذلك وملائكته يعلمون ذلك كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر حسنات وإذا

هم بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة وإن تركها لله كتبت له حسنة فالمَلَكُ يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة وليس ذلك من علمهم بالغيب الذي اختص الله به وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث صفية

رضي الله عنها إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم

وقرب الملائكة والشيطان من قلب ابن آدم مما تواترت به الآثار سواء كان العبد مؤمنًا أو كافرًا وبما ذكرنا تبين أن قول المؤسس لا وجه له وبالله

التوفيق

فصل: في الوجه الخامس للرازي في تأويل ظاهر القرآن

فصل قال الرازي الخامس قوله تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] فإن هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال له أنت مقصودك أنه لابد من مخالفة ظاهر القرآن وليس في ظاهر الآية ذكر القرب إلى مَن بل قال وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] فلم يقل واقترب إلى كذا فيحتاج أن يقول ظاهر القرآن فيه واقترب إلى الله والاقتراب إلى الله محال وليس في ظاهر القرآن ذكر ذلك بل هو من باب المحذوف المضمر الوجه الثاني أن المقترَب إليه محذوف فلابد من إضماره فلا يخلو إما أن يكون الاقتراب من الله تعالى ممكنًا أو ممتنعًا فإن كان ممكنًا كان المعنى واقترب إلى الله كما أن

المعنى واسجد لله وعلى هذا التقدير فلا يكون في ذلك مخالفة لظاهر القرآن ولا لمضمره أيضًا وإذا كان الاقتراب من الله غير ممكن بل من الممكن الاقتراب إلى ثوابه وكرامته أو غير ذلك كان هذا هو المضمر ابتداء وعلى هذا التقدير أيضًا فلا يكون قد خولف ظاهر القرآن فعلى التقديرين لم نترك ظاهر القرآن فدعواه ترك ظاهره دعوى باطلة وهذا بيِّنٌ لا مندوحة عنه الوجه الثالث قوله هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية لا يدل على أنه مخالف للظاهر كما لم يدل على المقترب إليه فمن المعلوم أن المُقْتَرِبَ إلى الله إنما يَقْتَرِبُ بطاعته وعبادته التي من جملتها السجود وهو أعظم العبادات البدنية الفعلية لكن إذا قال قائل التقرب بالطاعة والعبودية لم يكن قد بيَّن المتقرب إليه ولا بيَّن أن ظاهر

التقرب غير مراد فقوله القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية كلام لا يليق بمورد النزاع ولا يتناول المقصود الوجه الرابع أن يقال التقرب سواء كان بالعبادة والطاعة أو بغير ذلك لابد له من متقرَّب إليه فإن القرب من الأمور المستلزمة للإضافة فلابد فيه من متقرب إليه وهو لم يذكر المتقرب إليه من هؤلاء في النص ولا في كلامه ليبين أن الظاهر من النص متروك وظهر أن كلامه كلام من لم يتصور ما يقول الوجه الخامس أن يقال إن هذا التقرب إذا لم يكن إلى الله تعالى فإلى من هو فإن قال إلى الطاعة والعبادة قيل له الطاعة والعبادة نفس فعل العبد الذي هو الاقتراب والمسئول عنه ما يتقرب إليه لا ما يتقرب به فما هذا

المتقرب منه وإن قال المتقرب إليه هو ثواب الله قيل له ثواب الله في الآخرة هو الجنة وفي الدنيا ما يجده من النعم ومن المعلوم أن الساجد لم يتقرب إلى الجنة إلا كما يتقرب إلى الله تعالى فإنه لم يقطع ببدنه مسافة بينه وبين الجنة وإذا كان كذلك كان المحذور الذي فرَّ إليه المتأول من جنس ما فر منه وأما ثواب الدنيا فيقال أولاً ليس ذلك بلازم فمن المتقربين من لا يثاب إلا بعد الموت ويقال ثانيًا ليس في مجرد السجود تقرب إلى نفس الأجسام التي ينعمه الله بها فإن تلك قد تكون غير معلومة للعبد ولو كانت معلومة لم يكن التقرب إليها مقدوراً له بل إثباتها بقدرة الله ومشيئته فكيف يكون العبد متقربًا إليها الوجه السادس أن قوله فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود يقال له يحتاج أن نُبَيِّن أن ظاهر الخطاب هو الاقتراب بنفس السجود والقرآن إنما فيه وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

[العلق 19] وأنت لم تبين أن ظاهره الاقتراب بالسجود واعلم أنا نحن لا ننازع في السجود يكون بع اقتراب كما لا ننازع في أن الاقتراب إلى الله ولكن نحن كل ما نقوله لا ندعي أنه يخالف ظاهر القرآن بل إما أن يكون ظاهر القرآن دالاًّ عليه أو هو معلوم من ظاهر القرآن ومن دليل آخر أو معلوم من دليل لا يعارضه ظاهر القرآن الوجه السابع أن يقال له المعلوم بالضرورة أنه لا يكون اقتراب فعلي إلا الاقتراب بالجهة أي شيء كان المتقرب إليه فإذا أمر العبد أن يقرب إلى شيء أو يتباعد عنه أو يتقرب من شيء أو يتباعد عنه لم يعقل إلا الاقتراب والتباعد بالجهة وكذلك إذا قيل فلان قد تقرب إلى كذا أو تباعد منه فالمعلوم بالضرورة أن التقرب بالأفعال لا يكون إلا اقتراباً بالجهة

فإن قيل فقد يقال هذا قريب من هذا بمعنى أنه مشابه له قيل عنه جوابان أحدهما أن هذا قرب في الصفات ونحن قلنا التقرب بالأفعال الثاني أن القرب هاهنا بالجهة أي هذا مكانه ومكانته قريب من هذا كما بسطنا هذا الكلام في موضعه فإن قيل القرب والبعد لا يعقل إلا للأجسام قيل وجميع ما يوصف به الرب مثل العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والرحمة والغضب والرضا والسخط والإرادة والمحبة والفعل وغير ذلك لا يعقل إلا للأجسام سواء بسواء فنفي إحدى الصفات بمثل هذا الكلام كنفي سائر الصفات وذلك باطل بالاتفاق ويقال هنا جواب مركب وهو أن هذه الصفات إما أن

تكون في نفس الأمر لا تقوم إلا بما هو جسم أو لا تكون فإذا كان الأول لم يكن القول بالجسم باطلا على الإطلاق ولم يصح نفي الجسم مطلقًا بل يُنفى الباطل وإن كان الثاني كان قولهم هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام قولاً باطلاً فهذا الكلام يبين بطلان إحدى المقدمتين لا بعينها وأيهما بطلت بطلت هذه المعارضة العقلية القياسية التي

تزعمون أنها توجب تأويل النصوص الوجه الثامن قوله فإن هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود يقال هذا الكلام تضمن إثبات القرب الأول ونفي الثاني وأنهما متناقضان متضادان وليس فيما ذكرته بيان تناقضهما فإن كون القرب بالطاعة والعبودية لا ينافي كونه بالجهة إذ الطاعة هي فعل المقترب والجهة مكان فعله ولا منافاة بين الفعل والمكان فإن يُثْبِت قربًا ينافي قرب الجهة كان كلامه باطلاً وهذا ممتنع فليس في شيء من أنواع القرب ما ينافي قرب الجهة إذ القرب مستلزم الجهة الوجه التاسع قولك القرب بالجهة معلوم بالضرورة أنه

لا يحصل بسبب السجود يقال تدعي أنه لا يحصل إلى الله أو لا يحصل إلى الله ولا إلى غيره فإن كان المدعى هو الثاني فهذا تعطيل للنص لا تأويل فإنك إذا ادعيت أن القرب لا يتصور إلى شيء من الأشياء بالجهة امتنع أن يكون العبد متقربًا إلى شيء من الأشياء وتسمية العمل الذي ليس فيه قرب إلى شيء تقربًا لا يكون لا حقيقة ولا مجازًا فيكون باطلاً ويكون قلبًا للغة وتبديلاً لها وإن ادعى أن القرب يحصل إلى غير الله بالجهة كان قوله إن القرب بالجهة يعلم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود إطلاقاً باطلاً بل كان عليه أن يقول لا يحصل إلى غير الله وإذا قال ذلك قيل له لا فرق بين كون السجود مقربًا بالجهة إلى الله أو إلى غيره وهذا الوجه بيِّنٌ ظاهر فإنه بين أمرين إما أن يسمى ما ليس فيه تقرب بوجه من الوجوه تقربًا وإما أن يخالف ما ادعاه من العلم الضروري

وعلى التقديرين فهو يبطل بل مضمون قوله إنه زعم أن القرآن باطل بالضرورة الوجه العاشر أن يقال بل التقرب إلى الله بالسجود حق كما دلت عليه النصوص مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأخبر أن العبد يقرب من ربه وأنه أقرب ما يكون العبد في سجوده وقال في الحديث الآخر أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الآخر فهذا قرب الرب من عبده وذاك قرب العبد من ربه وقوله تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19]

يدل على ذلك لأن قوله وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) ذكر بعد قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) إلى قوله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) إلى قوله كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] ومعلوم أنه ذكر الصلاة لله وأمر بالسجود لله فقوله وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] أيضًا أمر بالاقتراب إلى الله وحذف مثل هذا المفعول للاختصار كثير في كلام العرب لدلالة الكلام ودلالة الحال عليه فإنه إذا كان قد أمره أن يقرأ باسم ربه الذي خلق فَلأن يكون السجود له والاقتراب إليه أولى وأحرى وأمره بالاقتراب مطلق لا يتقيد بالسجود بل يكون الاقتراب بالسجود وبغير السجود وإن كان العبد أقرب ما يكون من ربه إذا كان ساجدًا ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال يقول الله تعالى من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولايزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبَبْتُهُ كنت سمعه الذي يسمع به وبَصَرَه الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولأن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله تَرَددِي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وذكر التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة كثير في الأحاديث وقد قال تعالى في كتابه أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ

[الإسراء 57] وابتغاء الوسيلة إلى ربهم أيهم اقرب هو طلب التقرب إليه وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة 35] وقال تعالى وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) [سبأ 37] وقال تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) [الواقعة 10-12] وقال فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) [الواقعة 88-89] وقال وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) [المطففين 27-28] فوصف خير الأصناف الثلاثة من عباده بأنهم المقربون

وقال تعالى في موسى وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) [مريم 52] وقال في داود وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) [ص 25] والزلفى هو القرب وفي الأثر المحفوظ عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال يدنيه حتى يَمَسَّ بعضه رواه حماد بن

سلمة والثوري وسفيان بن عيينة عن ابن أبي

نجيح عن مجاهد وقال في أم المسيح يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) [آل عمران 45] وقال في الملائكة لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) [النساء 172] وهذا أمر مستقر في الفطر حتى المشركين الذين يعبدون الأوثان أخبر عنهم بقوله تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] والله لم ينكر على المشركين طلب التقرب إلى الله تعالى وإنما أنكر عليهم أنهم اتخذوا أولياء من دونه يتقربون

بعبادتهم إليه وهو تعالى لم يشرع ذلك ولم يأمر به بل إنما يُتَقَرَّبُ إليه بعبادته وحده لا شريك له فأما قوله فأما القرب بالجهة فمعلوم بالضرورة أنه لا يحصل بسبب السجود فيقال له المعلوم بالضرورة أن جسد الإنسان لا يرتفع في السجود إلى فوق وليس قربه مجرد قرب جسده كما أن تقارب بني آدم وتباعدهم ليس بمجرد قرب الجسد وبعده بل كما قال قائلهم وإن كانت الأجساد منا تباعدت فإن المدى بين القلوب قريب وذلك أن قلوب بني آدم وأرواحهم لها قرب وبعد وحركة وصعود وهبوط ومكانة كما أن الجسد له كذلك والناس يحس أحدهم بقرب قلب بعض الناس من قلبه وبعده منه فالساجد إذا سجد يتقرب قلبه وروحه إلى الله تعالى نفسه وكذلك الأعمال الصالحة جميعها التي يتقرب بها إلى

الله تقرب بها روحه وقلبه إلى الله نفسه فإذا كان في الدار الآخرة قرب جسده أيضَا مع قلبه ورفع بعضهم فوق بعض درجات وظهر في الدار الآخرة ما كان باطنًا في الدنيا وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ولو قال قائل إن السجود وغيره من الأعمال الصالحة هي تورث القرب إلى الله تعالى كما قال وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران 133] والمغفرة والجنة ليست من أفعالهم لكن المسارعة إليها هو بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة الموجبة لذلك فكذلك الأمر بالاقتراب إلى الله تعالى هو أمر بالأعمال الموجبة لذلك فكان في هذا الكلام ما يَرُد على المنازع ويمنع أن يكون ظاهر القرآن ضلالاً

يقرر ذلك أن الله تعالى قد أخبر في غير موضع من كتابه بانتهاء العباد إليه عمومًا وخصوصًا فقال يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) [الانشقاق 6] فذكر أنه كادح إليه وأنه ملاقيه وقال تعالى وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [الأنعام 38] وقال تعالى وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) [المائدة 48] وقال كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) [العلق 6-8] وقال تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) [الغاشية 25-26] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) [الأنعام 60-62] وقال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ [الأنعام 94] وقال وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) [يونس 46] وقال فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ

فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) [غافر 77] وقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) إلى قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام 27-31] فأخبر أنهم يقفون على ربهم وأخبر أن الذين كذبوا بلقاء الله خاسرون وقال تعالى وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) [السجدة 10-12] فذكر كفرهم بلقاء ربهم وذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بعد الموت وذكر أن المجرمين ينكسون رؤوسهم عند ربهم وقال وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) [البقرة 45-46] وقال فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف 110] وقال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) [الأحزاب 44] وقال الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ

مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) [البقرة 156-157] وقال يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) [القيامة 10-13] وقال إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) [القيامة 30] وقال يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] وقال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلى قوله إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا إلى قوله تعالى فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) إلى قوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس 13-15] وقال وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) [الأنعام 51] وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه

يقول يدنو المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع كَنَفَهُ عليه فيقول هل تعرف فيقول أعرف ربِّ فيقول هل تعرف فيقول أعرف رب فيبلغ من ذلك ما شاء الله فيقول الله إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أسترها عليك اليوم قال وأما الكافر أو المنافق فينادى عليهم على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين

وقد ذكر سبحانه وتعالى السعي إليه في الدنيا كقوله تعالى عن الخليل صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات 84] فقال الخليل صلى الله عليه وسلم وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) [الصافات 99] وقال موسى صلى الله عليه وسلم وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) [طه 84] وقول المسيح صلى الله عليه وسلم مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران 52] وفي الصف قال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) [الذاريات 50] وقال تعالى وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر 54] وقال وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور 31] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم 8] وقال المؤمنون رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ

أَنَبْنَا [الممتحنة 4] وقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) [الشورى 10] وقال تعالى اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) [الشورى 13] وقال وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد 30] وقول نبينا صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه

وفي الحديث الذي علمه البراء بن عازب اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة إليك لاملجأ ولا منجا منك إلا إليك وفي حديث المباهاة يوم عرفة يقول الله تعالى انظروا

إلى عبادي أتوني شعثًَا غبرًا ما أراد هؤلاء والسجود هو نهاية خضوع العبد وتواضعه والعبد كلما تواضع رفعه الله كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله

فالمتواضع لله الذي ذلَّ واستكان لله تعالى لا لخلقه يكون قلبه قريبًا من الله فيرفعه الله بذلك فهو في الظاهر هابط نازل وفي الباطن وهو في الحقيقة صاعد عالٍ كما في مسند الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ عن عمر موقوفًا قال ما من أحد إلا وفي

رأسه حَكَمَة فإن رفعَ رأسه قيل له انتكس نَكَسَكَ الله وإن طأطأ رأسه قيل له انتعش نَعَشَكَ الله

فالمتكبر الذي يطلب الاستعلاء يعاقب بأن يخفضه الله وينكسه والمتواضع الذي يتواضع لله فيطأطئ رأسه لله يثيبه الله بأن ينعشه ويرفعه وكل هذه أمور حقيقية وسنبسط الكلام إن شاء الله على ذلك في الكلام على نصوص العلو وما يتبعه

فصل: في الرد على الرازي بزعمه الإجماع على تأويل صفة الوجه

فصل قال الرازي السدس قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] وقال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة 85] قلت أما آية القرب فهي نظير قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقد تقدمت وأما قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] فلم يذكر من أي وجه يجب مخالفة ظاهر الآية وكأنه يقول ظاهرها أن نفس صفة الله ثَمَّ وصفة الله لا تكون ثَمَّ والكلام على هذه الآية من وجوه أحدها أن يقال نحو ما ذكرتُه في بعض المجالس فإن هذه الآية هي التي أوردها عليّ بعض أكابر

الجهمية لما ذكرت أن السلف لم يتأولوا آيات الصفات وأخبارها وجرى في ذلك مناظرة مشهورة وكانوا أيامًا يكشفون الكتب ويطالعون ما قدروا عليه ويفتشون الخزائن حتى وجدوا ما زعموا أنهم يعارضون به فلما اجتمعنا في المجلس الثاني أو الثالث قال ذلك الشخص قد وجدنا عن السلف أنهم تأولوا فقلت لعلك قد وجدت قولهم في قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] أي قبلة الله فقال نعم فقلت هذا معروف عن مجاهد والشافعي

وغيرهما وهذا حق ولكن ليس هو من باب التأويل فإن لفظ الوجه ظاهر هنا في الوجهة على قول هؤلاء وقد قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] فأخبر أن الوجهة يوليها العبد أي يتولاها أي يستقبلها ويقولون أي وجه تقصد أَيْ أَيّ وجهة تقصد وفلان قد قصد هذا الوجه وجاء من هذا الوجه أي الوجهة والجهة وهو قد قال وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة 115] وهذه هي الجهات ثم قال فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] أي تستقبلوا فإن ولى هنا فعل لازم بمعنى تولى واستقبل وإن كان يستعمل أيضًا متعديًا فقد قرئ هُوَ مُوَلِّيهَا وهو مُولَّاها

الوجه الثاني: قد يراد بالوجه الجهة

وهذا كما يقال وجه وتوجه وقدم وتقدم وبين وتبين فالمعنى أينما تستقبلوا فثم وجه الله أي مكان تستقبلوه فهنالك وجه الله والمقصود بهذا الكلام أن من قال من السلف والأئمة لم يقولوه لأنهم ينفون وجه الله الذي يراه المؤمنون في الآخرة ل قالوه لأن ذلك ظاهر الخطاب عندهم لأن لفظ الوجه مشهور أنه يقصد به الجهة والقبلة هي الجهة وقد اخبر أن وجهه ثم أي في ذلك المكان وهذا يناسب أن يكون قبلته في ذلك المكان لأن صفته ليست في مكان فهذا القول ليس عندنا من باب التأويل الذي هو مخالفة الظاهر أصلاً وليس المقصود نصر هذا القول بل بيان توجيهه وأن قائليه من السلف لم يكونوا من نفاة الصفة ولا ممن يقول ظاهر الآية ممتنع ثم يقال هنا جواب مطلق وهو أن الوجه يراد به الجهة ولا يكون ذلك خرفًا لظاهر الخطاب إذ كان ذلك

مبينًا في الكلام كقول أنس في حديث الاستسقاء فلم يقدم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود فهذه الآية إما أن يكون ظاهرها أن وجه الله الذي هو الصفة ثم أو يكون ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة

المخلوقة فقط أو يكون ظاهرها أن كلاهما ثم أو تكون مجملة تحتمل الأمرين فإن كان ظاهرها هو الأول أقرت على ظاهرها ولا محذور في ذلك ومن يقول هذا لا يقول إن وجه الله هو نفسه في نفس الأجسام المستقبلة فإن هذا لا يقوله أحد من أهل السنة بل يقول فثم إشارة إلى البعيد وقوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة 115] أي أينما تستقبلوا والعبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه والله يقبل عليه بوجهه ما لم يصرف وجهه عنه كما تواترت بذلك الأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه وإذا

كان كذلك فقد أخبر أنه أينما استقبل العبد فإنه يستقبل وجه الله فإن ثم وجه الله فإن الله فوق عرشه على سمواته وهو محيط بالعالم كله فأينما ولى العبد فإن الله يستقبله وعلى هذا فقوله ثم إشارة إلى ما دل عليه أينما وهو المستقبل وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وإن كان ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة المخلوقة فقط لم تكن مصروفة عن ظاهرها إذا فسرت بذلك وتوجيه ذلك أن يقال قوله فثم إشارة إلى مكان وجود والله تعالى فوق العالم ليس هو في جوف الأمكنة لكن يرد على هذا أن يقال لو أراد الله ذلك لقال فأينما تولوا فوجهوا الله لأنه إذا لم يرد بالوجه إلا الجهة المستقبلة فهي التي تولى كما قال وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] فأخبر أن العباد يولون نفس الوجهة فإذا كان المراد بالوجه الوجهة قال فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115]

أي فهو قبلة الله وقد يؤكد ذلك بأن يقال لفظ الوجه وإن كان مراده الجهة لكن الله إنما سمى القبلة في كتابه وجهه لم يسمها وجهًا فيفسر القرآن بعضه ببعض ويقال أيضًا إذا كان المراد ليس هو إلا أن هناك قبلة مخلوقة لله فهذا قد عرف بقوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة 115] وأما إن قيل إن ظاهرها يتناول الأمرين وقول مجاهد وغيره لا ينافي ذلك فإن القبلة ما يستقبله المصلي وقد ثبت بالنصوص المتواترة أن المصلي يستقبل ربه وهو أيضًا يستقبل القبلة المخلوقة القريبة منه وهي السترة والبعيدة عنه وهي الكعبة مثلاً فإن كلاهما يسمى قبلة إذ القبلة ما يستقبل فيكون على هذا قوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] أي فثم جهته التي يصلي إليها وثم وجهه الذي يستقبله المصلي وكل ذلك موجود في توجه العبد وليس في ظاهر القرآن أن الله تعالى في جوف المخلوقات وإنما قال فثم وهذا إشارة إلى ما استقبل

الوجه الثالث: هذه الآية دالة على الصفة

فتناول العالم وما وراءه وما فوقه فإن ذلك كله يستقبله العبد ومن قال هذا قال إن الله ذكر هذا الموضع بلفظ الوجه لا بلفظ الجهة والكلام هو في استقبال القبلة في الصلاة فلا يجوز حمل الآية على أحد المعنيين دون الثاني وقد تقدم بيان أنه لا يجوز حمله على الوجهة فقط وكذلك لا يجوز حمله على صفة الله فقط لأن المقصود بالآية بيان جواز استقبال تلك الجهة في الصلاة فلابد من دلالتها على هذا الحكم يوضح ذلك أن المصلي إنما مقصوده التوجه إلى ربه وكان من المناسب أن يبين له أنه إلى أي الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك ليس في الجهات ما يمنع التوجه إلى ربك فجاءت الآية وافية بالمقصود فقال وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة 115] فأخبر أن الجميع ملكه وهو خَلْقه وقد علم بالفطرة والشرعة أن الرب فوق خلقه ومحيط به فدل ذلك على أن من استقبل شيئًا من المشرق أو المغرب فإنه متوجه إلى ربه كسائر ما يستقبله والله قبل وجهه إلى أي جهة صلى لأنه فوق ذلك كله ومحيط بذلك كله الوجه الثالث أن يقال بل هذه الآية دلت على الصفة

الوجه الرابع: بيان بطلان ادعاء الرازي الإجماع على التأويل

كغيرها وذلك هو ظاهر الخطاب وليست مصروفة عن ظاهرها وإن كانت مع ذلك دالة على استقبال قبلة مخلوقة ويجزم بذلك فلا نسلم أنها مصروفة عن ظاهرها ولفظ الوجه هو صفة الله فما الدليل على وجوب تأويلها وقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة 115] فيه الإشارة إلى وجه الله بأنه ثم والله تعالى يشار إليه كما تقدم تقرير هذا الوجه الرابع أن يقال أنت ادعيت أن جميع فرق الإسلام يقرون بالتأويل وذكرت هذه الآية للاحتجاج بذلك فإن لم يكن تأويلها متفقًا عليه لم ينفعك ذكرها ومعلوم عدم الاتفاق

على ذلك فإن كثيرًا من أهل الإثبات بل أكثرهم جعلها من آيات الصفات مع قولهم إن الله فوق العرش خارج العالم كما تقدم بيانه وسواء كان قولهم حقًّا أو باطلاً لا إجماع معك وإن ادعيت وجوب التأويل بدليل آخر لم ينفعك في هذا المقام

فصل: في الرد على الرازي في تأويله قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}

فصل قال الرازي السابع قال تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ولاشك أنه لابد فيه من التأويل والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال له هذا ممنوع ولم يذكر على ذلك حجة وغايته أن يقول الاقتراض لا يكون إلا من محتاج والله الغني فيقال له أين في لغة العرب أن مسمى القرض مطلقًا يستلزم حاجة المقترض الوجه الثاني إنه من المعلوم أن المقترض من الآدميين قد يكون مستغنيًا عن الاقتراض وإنما يقترض لحاجة المُقرِض كما كان الزبير بن العوام يفعل ففي

صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير أنه قال حسبت ما كان على الزبير من الدين فوجدتها ألفي ألف ومائتي ألف قال وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير لا ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة وهذا كثير في الناس يريدون حمل أموالهم إلى مكان فيقرضونه لمليء وإذا كان هذا موجودًا في المحتاجين من بني آدم فكيف

يقال إن لفظ القرض في حق الله تعالى ظاهره حاجة الله تعالى ومعلوم أن العبد محتاج إلى حسنات يثاب عليها فالله تعالى إذا اقترض منه ما يحفظ له حتى يؤديه إليه وقت حاجته إليه ألم يكن محسنًا باقتراضه ولايمنع ذلك أن يكون مقترضًا الوجه الثالث أن الإنسان يقترض لغيره بطريق الأمر بالمعروف والصلة والإحسان إلى الاثنين إلى المقترض لدفع حاجته وإلى المقرض ليحصل له الأجر ومع ذلك يضمن المقترض ماله ويقول لا تعرفه إلا مني فالله تعالى إذا اقترض من بعض عباده لبعض فرزق هذا المقترض وأثاب هذا المقرض وضمن له الوفاء الأكمل كيف يكون تسميته هذا قرضًا مخالفة للظاهر الوجه الرابع أن الإنسان يقترض من عبده ما أعطاه إياه ولو شاء أن ينتزعه منه بغير إقراض لساغ له في الشريعة لكن يأخذه اقتراضًا إحسانًا إليه ويعطيه لمن يحتاج إليه إما عبد آخر أو غيره والله سبحانه وهو المالك للخلق ولأموالهم وقد أعطاهم وأباح لهم فيها من التصرف ما أعطى

وأباح ولو شاء أن ينتزعها منهم وهو غير ظالم لفعل فإذا أحسن إليهم بأن أخذ ما يأخذه قرضًا ليعطيه عبدًا آخر وأحسن إلى هذا المقرض بما يثيبه عليه كيف يمتنع أن يكون هذا قرضًا الوجه الخامس إن هذا السؤال هو سؤال اليهود الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران 181] فإن الله تعالى لما أنزل هذه الآية قال بعض اليهود إنما يقترض الفقير فالله فقير ونحن الأغنياء الوجه السادس أن يقال المعنى في قوله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة 245] هو ظاهر متفق عليه ليس فيه اشتباه ولا نزاع وكل من سمع هذا الخطاب علم المراد به هو التقرب إلى الله بإنفاق المال في سبيله غاية ما في هذا الباب أن يقول بعض الناس تسمية هذا

قرضًا مجاز وكون اللفظ مجازًا لا يمنع أن يكون هو ظاهر الخطاب فإن المجاز المقرون بالقرائن اللفظية المبينة نص في معناه ليس للخطاب ظاهر إلا ذلك المعنى وليس الكلام هنا في كون اللفظ حقيقة أو مجازًا أو كون القرآن مشتملا على المجاز فإن هذه مسألة أخرى وشواهدها أضعاف ما ذكره وإنما المقصود هنا أن قولك إن الطوائف متفقة على وجوب التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار والتأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره فهل ظاهر هذه

الآيات عند من يسمعها من المخاطبين خلاف ما أريد بها حتى يقال إنها متأولة وإنما تدخل الشبهة على هؤلاء بأن يقولوا القرض لايكون إلا لحاجة المقترض وانتفاعه هو به فيقال لهم هب أن الأمر كذلك في حق المخلوق فالقرض هنا مضاف إلى الله والمعنى ظاهر مفهوم وهو الصدقة على عباده والإنفاق في سبيله لم يظهر لأحد قط أن الله نفسه محتاج في نفسه إلى الانتفاع بالقرض فأكثر ما يقال إن تسمية هذا قرضًا مجاز لكن ليس هذا المجاز هو الظاهر من هذا اللفظ بعد التركيب والتأليف الذي يجعله نصًّا في معناه حيث أضيف القرض إلى الله ألا ترى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في خالد إنه سيف من سيوف

الله وقوله في فرس أبي طلحة إن وجدناه لبحرًا

وقول أبي بكر عن أبي قتادة لا يعمد إلى أَسَدٍ من أُسْدٍ الله ونحو ذلك

فإن قيل إن هذا مجاز فلا يقول أحد إن ظاهر هذا اللفظ أن خالدًا حديد وأن الفرس ماء وأن أبا قتادة هو السبع الذي له ناب بل اللفظ نص في خلاف هذا وهو أن خالدًا شجاع متقدم بمنزلة السيف الذي يقتل الله به أعداءه وأن الفرس جواد جرى بمنزلة البحر وأن أبا قتادة رجل شجاع بمنزلة الأسد الذي سلطه الله على أعدائه وقد بسطنا هذه القاعدة في غير هذا الموضع

فصل: في الرد على الرازي في تأويله قوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد}

فصل قال الرازي الثامن قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل 26] ولابد فيه من التأويل والكلام على هذا أن يقال التأويل هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر لدليل وهذه الآية ليس ظاهرها والمعنى المفهوم منها أن الله سبحانه نفسه جاءت ذاته من أسفل الجدران كما تجيء الهوام والحشرات من أسفل البنيان وكما يخرج المحاصرون للحصون من أسفلها إذا نقبوا الأساس بل ظاهرها المراد هدم الله بنيانهم من أصله والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس وكان بعضهم يقول هذا مثل للاستئصال وإنما معناه أن الله استأصلهم والعرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء قاله ابن جرير وفي كتب اللغة يقال

أُتي فلان إذا أطل عليه العدو وقد أتيت يا فلان إذا أنذر عدوًّا أشرف عليه قال الله عز وجل في النحل فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل 26] أي هدم بنيانهم وقلع بنيانهم من قواعده وأساسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم فأي حاجة حينئذ إلى التأويل

فصل: في الرد على الرازي في تأويله قوله تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى}

فصل قال الرازي التاسع قال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] وهذه المعية ليست إلا بالعلم والحفظ والرحمة فهذه وأمثالها من الأمور التي لابد لكل عاقل من الاعتراف بحملها على التأويل يقال له أما لفظ المعية فقد تقدم الكلام عليه وأما قوله إن هذه الأمور لابد لكل عاقل من الاعتراف بحملها على التأويل فالكلام عليه من وجوه أحدها أنه ادعى أن جميع فرق الإسلام مقرون بالتأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار وهنا ادعى وجوب الاعتراف بالتأويل فأين ذكر إقرارهم بالتأويل من ذكر وجوب إقرارهم

بالتأويل فإن غايته تبين وجوب دخولهم في التأويل وهذا القدر قد ادعاه هذا المدعي في هذا الكتاب فليس في هذه المقدمة فائدة إلا إذا كان الخصم موافقًا على ما ذكر من التأويل وإلا فهو في الموضعين ملزم له بالتأويل فيكون غايته أن يقيس موضع النزاع على مورد النزاع لقيام الحجة في الموضعين الثاني أنا قد بينا أنه ليس في هذه المواضع موضع إلا ومن الناس من ينكر التأويل فيه فبطل ما ادعاه الثالث أنه قد تبين بما تقدم أنه ليس فيها موضع واحد يجب فيه التأويل ولم يذكر على عامة ذلك حجة الرابع أنه قد تبين بما تقدم من الوجوه الكثيرة أن هذه الآيات جميعها ليس فيها ما يجوز تأويله فضلاً عن وجوب تأويله الخامس أنه ادعى أنه لابد من التأويل في بعض ظواهر

القرآن والأخبا ر بمعنى مخالفة ذلك الظاهر وقد تبين أن عامة هذه النصوص لا يظهر منها معنى باطل بل لا يظهر منها إلا ما هو حق سواء كان الظهور باللفظ المفرد أو بالتركيب

فصل: في تأويل الرازي لحديث "مرضت ولم تعدني ... "

فصل قال الرازي أما الأخبار فهذا النوع فيها كثير فالأول قول صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى مرضت فلم تعدني استطعمتك فما أطعمتني استسقيتك فما سقيتني ولا يشك كل عاقل أن المراد بها التمثيل فقط والكلام على هذا أن يقال هذا فيه من قلة المعرفة بأحاديث الرسول ومعنى التأويل ما به يضل الجهول وذلك أن هذا الحديث الصحيح له تمام آخر ذكر فيه تفسيره وأظهر فيه معناه ففي صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى يوم القيامة

يا ابن آدم مرضت فلم تعدني فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ويقول يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني فيقول أي رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين فيقول تبارك وتعالى أما علمت أن عبدي فلانًا استسقاك فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي قال ويقول يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني فيقول أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانًا استطعمك فلم تطعمه أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي فإذا كان الرب لمَّا قال لعبده مرضت وجعت قال كيف أعودك وكيف أطعمك قال إن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده وعبدي فلان جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي فهل يكون في إظهار المعنى وبيانه وكشفه وإيضاحه أبلغ

من هذا الخطاب وإذا كان المتكلم قد أظهر المعنى وبينه كيف يجوز أن يقول لابد من التأويل في الظاهر والتأويل صرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى غيره فهل يجوز صرف هذا الكلام بتمامه عن هذا المعنى الذي أظهره المتكلم بل لو قيل له تأويل هذا الحديث كفر وضلال لكان متوجهًا فإن التأويل هو صرفه عن المعنى الظاهر إلى غيره فالمعنى الذي أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم المتكلَّم به هو أن المراد بقول جعت جوع عبدي ومرضت مرض عبدي فإن جاز أن يُصرف عن هذا المعنى اقتضى ذلك أن يكون الله نفسه هو الجائع المريض وذلك كفر صريح ولكن هذا المؤسس لم يذكر إلا بعض الحديث وكأنه ما سمع إلا ذلك فلو كان الحديث ليس فيه إلا اللفظ الذي ذكره لكان لكلامه مساغ وقيل إنه يتأول ولكن ليس الأمر كذلك ودعواه كثرة احتياج الأخبار إلى التأويل هو لقلة معرفتهم بها فإنهم لا يميزون بين صدقها وكذبها فكثيرًا ما يسمعون الكذب ويعتقدونه من جنس الصدق مبدلاً مغيرًا إما مزيدًا فيه وإما منقوصًا منه وإما مغيرًا في إعرابه كما وجدنا ذلك لهم ثم يكون حاجته إلى التأويل بحسب ذلك وهذا لا يمكن

في القرآن لأن حروف القرآن محفوظة وأما قوله ولا يشك عاقل أن المراد منها التمثيل فقط فلفظ التمثيل مجمل فليس المقصود مجرد التمثيل بأن يكون قد جعل عائد العبد كأنه قد عاد الله إذا مرض في نفسه ومطعم العبد كأنه مطعم الله إذا جاع في نفسه فيكون قد مثَّل عيادة عبده وإطعامه عيادته وإطعامه بل حمل هذا الحديث على هذا المعنى ضلال وإشراك وتشبيه لله بخلقه ورد لمعناه الحق وذلك إنما التمثيل يكون إذا كان الحكم في الأصل صحيحاً ثم قدر وجوده في الفرع والله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يُطعَم ولا يجوز أن يمرض ويعاد حتى يقال جعل إطعام عبده وعيادته مثل إطعامه وعيادته وأيضًا فإنه قد فسر المراد فقال أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده وعبدي فلان جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي فبين أني أنا عند عبدي فإذا عدته كنت عائدًا إلي بهذا المعنى وإذا أطعمته كنت أنا الذي أقبض الصدقة وآخذها فهي لك عندي وجعل نفسه مريضًا وجائعًا

لمرض العبد الذي يحبه وجوعه كما قال وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ولو أريد مجرد التمثيل لقيل لو عدته لكنت كأنك قد عدتني ولو أطعمته لكنت كأنك أطعمتني وهذا باطل

فصل: في تأويل الرازي لحديث "من أتاني يمشي أتيته هرولة"

فصل قال الرازي الثاني قوله صلى الله عليه وسلم من أتاني يمشي أتيته هرولة ولا يشك كل عاقل أن المراد منه التمثيل والتصوير يقال له هذا الحديث لفظه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن تقرَّب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ولا ريب أن الله تعالى جعل تقربه من عبده جزاء لتقرب عبده إليه لأن الثواب أبدًا من جنس العمل كما قال في أوله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وكما قال صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن وارحموا من في

الأرض يرحمكم من في السماء وقال لا يرحم الله من لا يرحم الناس وقال تعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد 7] وقال إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) [النساء 149] وقال وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور 22] وإذا كان كذلك فظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر وكلاهما مذكور بلفظ المساحة

فيقال لا يخلو إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه وهو تقرب بالمساحة المذكورة أو لا يكون فإن كان ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ فإما أن يكون ممكنًا أو لا يكون فإن كان ممكنًا فالآخر أيضًا ممكن ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر وإن لم يكن ممكنًا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك فيكون الآخر أيضًا ظاهرًا في الخطاب فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع بل ظاهره هو المعنى الحق ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة لكن قد يقال عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا يقال هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية فيكون بمعنى الخطاب ما ظهر بها

لا ما ظهر بدونها فقد تنازع الناس في مثل هذه القرينة المقترنة باللفظ العام هل هي من باب التخصيصات المتصلة أو المنفصلة وعلى التقديرين فالمتكلَّم الذي ظهر معناه بها لم يُضِل المخاطب ولم يلبس عليه المعنى بل هو مخاطب له بأحسن البيان ثم يقال الحجة لمن جعل ذلك مخصصًا متصلاً لا من منع ذلك أن يكون ذلك تخصيصًا

فصل: في نقل الرازي عن الغزالي إقرار أحمد بن حنبل بالتأويل والرد على ذلك

فصل قال الرازي الوجه الثالث نقل الشيخ الغزالي عن أحمد بن حنبل أنه أقر بالتأويل في ثلاثة من الأحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله في الأرض

وثانيها قوله صلى الله عليه وسلم إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن

بيان أن ما نقله الرازي عن الغزالي خلاف ما في "الإحياء"

وثالثها قوله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن الله أنا جليس من ذكرني والكلام على هذا من وجوه أحدها أن الذي ذكره الغزالي في كتابه المسمى بإحياء علوم الدين أنه قال سمعت بعض أصحابه يقول

إنه حسم الباب في التأويل إلا لثلاثة ألفاظ قوله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله في الأرض وقوله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وقوله صلى الله عليه وسلم إني

أجد نفس الرحمن من قبل اليمين فقد نقل عن الغزالي خلاف ما ذكر في الإحياء فإما أن يكون هو غلط في النقل عن الغزالي أو الغزالي نقل في كتاب آخر خلاف ما نقل في الإحياء وعلى التقديرين فيعلم أن هذا النقل الذي ذكره غير مضبوط الثاني أنا قد تكلمنا على ما ذكره الغزالي في هذا الباب ونحوه وبينا أن في هؤلاء من القصور في معرفة الكتاب والسنة وحقائق الإيمان ومعرفة السلف وكلامهم ما أوجب ظهور ما يظهر منهم من التناقض والبدع وطريق الزنادقة

المنافقين وفتح باب الإلحاد والتحريف فإنهم قليلو المعرفة بالأحاديث النبوية والآثار السلفية ومعاني الكتاب والسنة إلى الغاية وهم في المعقولات في غاية الاضطراب وللغزالي في ذم الكلام والمتكلمين والفلاسفة ما يطول

ذكره وهذه الأمور أكبر من عقول عامة الخلائق وغاية المتكلم فيها أن يتكلم بمبلغ علمه ومقدار علمه وسمعه ونهاية اجتهاده ووسعه كما يفعله أبو حامد ونحوه إذا اجتهدوا وقصدوا الحق مع سعة مرادهم وتفننهم في علوم كثيرة وهذا الكلام الذي نقله عن أبي حامد ذكره لما تكلم عن مراتب التأويلات واختلاف الناس فيها وقد تكلمنا على ما ذكره في ذلك في الأجوبة المصرية وغيرها وسنتكلم

إن شاء الله تعالى على ما ذكره الغزالي وغيره إذا تكلمنا على ما ذكره الرازي في الفرق بين ما يؤول وما لا يؤول فإنهم جميعهم مضطربون في الأصل كما أنهم مقصرون في معرفة السلف والأئمة وما دل عليه الكتاب والسنة لكن المقصود هنا ذكر ما نقله عن أحمد فإنه قال في أثناء كلامه في التأويلات وفي هذا المقام لأرباب المقامات إسراف واقتصاد فمن مسرف في دفع الظواهر انتهى إلى تغيير جميع الظواهر أو أكثرها حتى حملوا قوله تعالى وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس 65]

وقوله وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت 21] وكذلك جميع المخاطبات التي تجري من منكر ونكير والميزان والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة وفي قولهم أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله زعموا أن كل ذلك لسان الحال قال وغلا آخرون منهم أحمد بن حنبل حتى منع تأويل قوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ (117) وزعموا أن ذلك خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كل مكون حتى سمعت لبعض أصحابه أنه حسم الباب في التأويل إلا لثلاثة ألفاظ قوله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله

في الأرض وقوله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وقوله صلى الله عليه وسلم إني أجد نفس الرحمن من جانب اليمن ومال إلى حسم الباب أرباب الظواهر قال والظن بأحمد بن حنبل أنه علم أن الاستواء ليس هو الاستقرار والنزول ليس هو الانتقال ولكنه منع من التأويل حسمًا للباب ورعاية لصلاح الخلق فإنه إذا فتح الباب اتسع الخرق وخرج عن الضبط وجاوز الاقتصاد إذ حد الاقتصاد لا ينضبط ويشهد له سيرة السلف فإنهم كانوا يقولون أمروها كما جاءت حتى قال مالك لما سئل عن

الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة

قال وذهب طائفة إلى الاقتصاد ففتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله تعالى وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل وهم الأشعرية وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفات الله تعالى تعلق الرؤية به وأولوا كونه سميعًا بصيرًا وأولوا المعراج وزعموا أنه لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط وجملة من أحكام الآخرة لكن أقروا بحشر

الأجساد بالجنة وباشتمالها على المأكولات والمشروبات والمنكوحات والملاذ المحسوسة وبالنار وباشتمالها على جسم محسوس محرق تحرق الجلود وتذيب الشحوم ومن ترقيهم على هذا الحد تدرجت الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة وردوها إلى آلام عقلية روحانية ولذات عقلية وأنكروا حشر الأجساد وقالوا ببقاء النفوس وأنها تكون إما معذبة وإما منعمة بعذاب ونعيم لا يدركه الحس وهؤلاء هم المسرفون وحد هذا الاقتصاد بين هذا الانحلال وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين وقرروه وما خالف ما أولوه فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد

فلا يستقر له فيه قدم ولا يتعين له موقف والأليق بالمقتصر على السمع المجرد مقام أحمد بن حنبل والآن فكشف الغطاء في حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة

والقول فيه يطول قلت وقد تكلمنا على هذا الكلام وما فيه من مردود مقبول وما فيه من عزل الرسول صلى الله عليه وسلم عزلاً معنويًّا وإحالة الخلائق على الخيالات والمجهولات وفتح باب النفاق وبيناه في الأجوبة المصرية والمقصود هنا أن أبا حامد تكلم بمبلغ علمه وما وصل إليه من كلام السلف والأئمة ولهذا كلامه في ذلك في غاية التقصير فإن كلام الإمام أحمد بن حنبل في الأصول مع أنه ملء الدنيا وقد صنف في ذلك مصنفات وما من مسألة منها إلا وقد ذكر فيها من الدلائل وكلام الله ورسوله والصحابة والتابعين وما شاء الله وناظر الجهمية وغيرهم من الذين حرفوا باب الإيمان بالله واليوم الآخر ومع هذا فلم يكن

عنده منه شيء وكذلك غير كلام أحمد بن حنبل من كلام الصحابة والتابعين فيه أعظم مما في كلام أحمد بن حنبل ونحوه فإن أحمد بن حنبل لم يبتدع من عنده شيئًا ولكن كان أعلم أهل زمانه بما أنزل الله على رسوله وما كان عليه الصحابة والتابعون وكان أتبع الناس لذلك وابتلى بالمخالفين من أهل الأهواء ومناظرتهم بالخطاب والكتاب والرد عليهم فأظهر من علوم السلف ما هو متبع فيه كسائر الأئمة قبله وما من قول يقوله إلا وقد قاله بلفظه أو بمعناه ما شاء الله من الأئمة قبله وفي زمانه وعليه من الدلائل ما شاء الله فلهذا اتخذته الأمة إمامًا لأن الله تعالى يقول وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) [السجدة 24] وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ممن آتاه الله من الصبر واليقين بآيات الله ما استحق به الإمامة حتى اشتهر ذلك عند الخاصة والعامة فصار لفظ الإمامة مقرونًا باسمه أكثر وأشهر مما يقترن باسم غيره

قال أبو بكر الخلال في أثناء كتاب السنة قال أبو بكر المروذي قال وقال ابن

دريد في قوله تعالى وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) [الصافات 173] هم أهل السنة وقال عبد الوهاب الوراق إن لم يكونوا هذه العصابة

فلا أدري أي عصابة هي قال أبو بكر الخلال فهي عصابة أحمد بن حنبل رضي الله عنه الذابون عن السنة المحيون لما أماته الناس من السنن عن أهل الخلاف وإظهار ذلك وإحياء أمر المجانبة لأهل الزيغ والجدال والتمسك بما عليه إمام الناس في زمانه أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأبو حامد كانت مواده في العلوم الإلهية من المتكلمين والفلاسفة والصوفية الذين فهم كلامهم وقد

ذكر في المنقذ من الضلال أن هؤلاء هم والباطنية هم الخائضون في هذا الفن وذكر بعض ما في طريق الباطنية

من الضلال وهو كثيرًا يعيب طريقة المتكلمين والفلاسفة ويذكر أنها لا توصل إلى علم ويقين وكان يؤثر من طريق الصوفية مجملات لم يفصلها ولم تتفصل له بل يحيل على مكاشفات ومشاهدات لا وصل إليها ولا رأى من وصل إليها فأما الطريقة التي لخاصة المسلمين أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية أهل السنة ظاهرًا وباطنًا المقتبسين من مشكاة الرسالة أهل العلم والإيمان الذين يرون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق من ربهم الذين قذف الله في قلوبهم من نوره ما أبصروا به وأيقنوا بحقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لم يصل أبو حامد إلى معرفتهم ومعرفة طريقهم وإن كان يومئ إليهم جملة لا تفصيلاً ويشتاق إلى سبيلهم لكونه

كان قليل المعرفة بالحديث والآثار والمعرفة لمعانيها وكان يقول بضاعتي من الحديث مزجاة كما نقل عنه أبوبكر بن العربي أنه سمعه منه ولهذا في كتبه من المنقولات المكذوبة الموضوعة ما شاء الله مع أن تلك الأبواب يكون فيها من الأحاديث الصحيحة ما فيه كفاية وشفاء ومن ذلك هذا النقل الذي نقله عن أحمد فإنه نقله عن مجهول لا يعرف وذلك المجهول أرسله إرسالاً عن أحمد ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب مفترى عليه ونصوصه المنقول عنه بنقل الثقات الأثبات والمتواتر عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه بل إذا كان أبو حامد ينقل عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله فكيف ما ينقله عن مثل أحمد ولم يكن ممن يتعمد الكذب فإنه كان أجل قدرًا من ذلك وكان من أعظم الناس ذكاء وطلبًا للعلم وبحثًا عن الأمور ولما قاله كان من أعظم الناس قصدًا للحق وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة بليغة ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين لكن لكونه لم يصل إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الطرق الصحيحة كان ينقل ذلك بحسب ما بلغه لاسيما مع هذا الأصل الفاسد إذ جعل النبوات فرعًا على غيرها وقد قيل عنه إن كثيرًا مما يذكر في كتبه مما كان يسمعه من بعض القصاص والوعاظ أو

السؤال والشحاذين وبعض العباد والزهاد وقد قال الإمام أحمد أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص والسؤال وكذلك أحاديث العباد الذين لا يضبطون مردوده حتى قال يحيى بن سعيد ما رأينا

الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث وقال أيوب السختياني إن لي جيرانًا أرجو بركة دعائهم في السحر ولو شهد أحدهم عندي على جزرة بصل لما قبلت شهادته وقال ملك بن أنس أدركت بهذا المسجد كذا وكذا شيخًا كان يقول حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم فضل وصلاح فلم يكن يأخذ عن أحد منهم شيئًا وكان يقدم

ابن شهاب وهو شاب فيردهم على بابه ولهذا لم يذكر أهل الصحيح عن زهاد البصرة وعبادها مثل مالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد

السبخي وثابت البناني إلا لثابت وحده والباقون أبعد الناس عن تعمد الكذب لكن قد لا يحفظونه فأحاديثهم تصلح لأن يستشهد بها ويعتبر لا تصلح للاعتماد مع ما فيهم من الخير والدين والصلاح وما لهم من الكرامات والمقصود أن هذا المنقول عن أحمد كذب عليه ولم يقل أحمد قط إن قوله كُنْ فَيَكُونُ (117) خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كل مكون

ولا توجد هذه العبارة في شيء من كلامه ولا من كلام أصحابه وكذلك أحمد لم يحسم التأويل إلا في هذه الأحاديث الثلاثة وقد ذكرنا من كلامه في مسمى التأويل وتأويل الأحاديث في هذا الباب ما فيه كفاية وفي كتاب السنة للخلال وغيره من الكتب من كلام الإمام أحمد ما يعرف به مذهبه وسنبين أن استثناء هذه الأحاديث الثلاثة من التأويل لا يصلح أن يقوله أحد من المنتسبين إلى غلمان أحمد فضلاً عن أن يقول هو وإنما يصلح أن يثبت هذه الأحاديث ويجعلها مما يتأول مثل هؤلاء الذين لا يعرفون الأحاديث الصحيحة من الضعيفة ولا يعرفون دلالة الألفاظ حتى يميزوا ما هو تأويل مخالف للظاهر وما ليس تأويلاً مخالفًا للظاهر فلقلة معرفتهم بأعلام الهدى وهي ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه دلالتها يقعون في الحيرة والاضطراب حتى لا يميزوا بين ما يقبل من كلام الفلاسفة والمتكلمين وما يرد بل

تارة يوافقونهم وتارة يخالفونهم وتارة يكفرونهم فهم دائمًا متناقضون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك وأبو حامد من خيارهم وأعلمهم وأدينهم وهو مع هذا يكفر الفلاسفة فضلاً عن أن يضللهم تارة وتارة يجعل ما كفرهم به من العلم المضنون به على غير أهله ويضلل المتكلمين تارة ويجعل طريقهم ليس فيها بيان للحق وتارة يجعلها عمدته وأصله الذي يضلل من خالفه وكذلك تارة يقول في الصوفية الأقوال المتناقضة فتارة يجعلهم خاصة الأمة ويفضلهم على الفقهاء وتارة يمنع إعطاءهم الزكاة ويوجب عليهم الاكتساب

مع إباحته إعطاء الزكاة للمتفقهة وإن كان في آخر عمره مال إلى طريقة أهل الحديث وكان كثير المطالعة لصحيح البخاري وبذلك ختم عمله وعليه مات وهو أفضل أحواله والله تعالى يغفر لنا ولسائر إخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا يجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ومع هذا فأبو حامد لم يعرف في كلامه خروج إلى الشرك وعبادة الأوثان بل غاية ما ينتهي إليه ضلال الصابئين من المتفلسفة ونحوهم

فكيف بمن يخرج إلى الإشراك بالله الصريح والردة إلى الأمر بعبادة الكواكب والأوثان وإن كان قد تاب من ذلك وأسلم بعد ذلك فإنه يكون كالذين ارتدوا على

عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ثم عادوا مثل الأشعث بن قيس والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ومن خيار من عاد إلى الإسلام من المرتدين عبد الله بن سعد ين أبي سرح فإنه

حديث "الحجر الأسود" غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم

كان كاتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وارتد ثم أسلم عام فتح مكة الوجه الثالث أما قوله الحجر الأسود يمين الله في الأرض فإنه ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل قد رووه عن ابن عباس ولم يقل أحمد قط إن هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يتأول بل هذا الحديث سواء كان عن ابن عباس أو كان مرفوعًا فلفظه نص صريح لا يحتاج إلى تأويل فإن لفظه الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه

وقبّله فكأنما صافح الله وقبّل يده وتسمية هذا تأويلاً أبعد من تسمية الحديث الذي فيه جعت وذلك أنه يمين الله في الأرض فقوله في الأرض متصل بالكلام مظهر لمعناه فدل بطريق النص أنه ليس هو يمين الله الذي هو صفة له حيث قال في الأرض كما لو قال الأمير مخاطبًا للقوم في جاسوس له هذا عيني عندكم فإن هذا نص في أنه جاسوسه الذي هو بمنزلة عينه ليس هو نفس عينه التي هي صفة فكيف يجوز أن يقال إن هذا متأول مصروف عن ظاهره وهو نص في المعنى الصحيح لا يحتمل الباطل فضلاً عن أن يكون ظاهره باطلاً وأيضًا فإنه قال من استلمه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يده فجعل المستلم له كأنما صافح الله تعالى ولم يقل فقد صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به بل ذلك نص في المغايرة بينهما فكيف يقال إنه مصروف عن ظاهره وهو نص في المعنى الصحيح

بل تأويل هذا الحديث لو كان مما يقبل التأويل أن يجعل الحجر عين يمين الله وهو الكفر الصريح الذي فروا منه قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على

المريسي ومتبعيه وروى المعارض أيضًا عن ابن عباس الركن يمين الله في الأرض يصافح به خلقه وروي عن الثلجي يعني محمد بن شجاع الثلجي أنه قال يمين

الله نعمته وبركته وكرامته لا يمين الأيدي قال فيقال لهذا الثلجي الذي يريد أن ينفي عن الله تعالى يديه اللتين خلق يهما آدم ويلك أيها الثلجي إن تفسيره على خلاف ما ذهبت إليه وقد علمنا يقينًا أن الحجر الأسود ليس بيد الله نفسه فإن يمين الله معه على العرش غير باين منه ولكن تأويله عند أهل العلم أن الذي يصافح الحجر الأسود ويستلمه كأنما يصافح الله كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] فثبت له اليد التي هي اليد عند ذكر المبايعة إذ سمى اليد مع اليد واليد معه على العرش وكقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل يد السائل فثبت بهذا لله اليد التي

هي اليد وإن لم يضعها المتصدق في نفس يد الله وكذلك تأويل الحجر الأسود إنما هو إكرام للحجر الأسود وتعظيم له وتثبيت ليد الرحمن ويمينه لا النعمة كما ادعى الثلجي الجاهل في تأويله وكما يقدر أن يكون مع كل صاحب نجوى وفوق عرشه كذلك يقدر أن تكون يده فوق أيديهم من فوق عرشه وقد ذكر القاضي أبو يعلى هذا الأثر عن أحمد ولم

يذكر عنه فيه كلامًا فرواه مرفوعًا بإسناد ضعيف قال حدثنا أبو القاسم يعني عبد العزيز بن علي الأزجي قال حدثنا القاضي عمر بن سَبَنْك حدثنا أحمد بن القاسم بن نصر ابن زياد حدثنا أبو سالم العلاء بن مسلمة

الرواس قال حدثنا أبو حفص العبدي عن أبان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر في الأرض يمين الله جل اسمه فمن مسح يده على الحجر فقد بايع الله عز وجل أن لا يعصيه وهذا إسناد ضعيف قال القاضي وروى ابن جريج عن محمد بن عباد

ابن جعفر المخزومي قال سمعت عبد الله بن عباس يقول إن هذا الركن الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه وهذا هو المعروف ثم قال القاضي اعلم أن هذا الخبر ليس على ظاهره لأن إضافة الحجر إلى أنه صفة ذات هي يمين تحيل صفاته وتخرجها عما تستحقه لأن الحجر جسم مخلوق حالٌّ

في مخلوق وفي الأرض والقديم سبحانه تستحيل عليه هذه الصفات ويفارق هذا ما تقدم من إثبات اليمين في الخبر الذي قبله وأن ذلك صفة ذات يعني قوله الذي في صحيح مسلم المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين لأنه لا يستحيل إضافة

اليمين إليه لأنها غير مستحيلة عليه لأن إضافة اليمين إليه كإضافة اليد إليه وذلك جائز قال ومثل هذا غير موجود هاهنا يبين صحة هذا من كلام أحمد أنه فسر قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] قال معناه هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش قلم يحمل قوله وَفِي الْأَرْضِ على ظاهره بل تأوله وبين أنه على العرش فوجب أيضًا أن يمتنع من إطلاق صفة ذات في الأرض

تلمس في جهة من الجهات وقد قيل في تأويله أوجه أحدها أن هذا على طريق المثل وأصله أن الملك كان إذا صافح رجلاً قبَّل الرجل يده فكأن الحجر لله عز وجل بمنزلة اليمين للملك تستلم وتلثم وقد روي في الخبر أن الله عز وجل حين أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى جعل ذلك في الحجر الأسود وكذلك يقال إيماناً بك ووفاء بعهدك قال وقد قيل فيه وجه آخر وهو أنه يحتمل أن يكون معنى قوله الحجر يمين الله في أرضه إنما إضافة اليد على طريق التعظيم للحجر وهو فعل من أفعال الله تعالى سماه يمينًا

بنسبته إلى نفسه وأمر باستلامه ومصافحته ليظهر طاعتهم بالائتمار وتقربهم إلى الله تعالى فيحصل لهم بذلك البركة والسعادة قال وقيل وجه آخر وهو أن قوله يمين الله أمان الله لأن الحجر من جملة البيت وقد قال سبحانه وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران 97] قال ولا بأس بهذه الوجوه للمعنى الذي بينا من امتناع إضافة ذلك إلى الله سبحانه وتعالى ويبين صحة ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود من ياقوت الجنة وإنما سودته خطايا بني آدم وأيضًا قول عمر إني لأعلم

أنك حجر لا تضر ولا تنفع وهذا لا يقال في صفات

القديم فالقاضي نفى عنه المعنى الفاسد الذي يقال إنه ظاهره وسمى ذلك ظاهره موافقة لمن جعل ذلك ظاهره وبين امتناع ذلك المعنى بالأدلة الشرعية والعقلية ولم يذكر عن أحمد في ذلك شيئًا وتسميته لذلك ظاهرًا هو موافقة منه لمن سماه ظاهرًا من المتأولين فإنه صنف كتابه على كتاب أبي بكر بن

فورك وكذلك في معناه الوجوه التي ذكرها هؤلاء وهي فاسدة إلا الوجه الأول الذي هو ظاهر الحديث وكذلك إن قوله ‘ن أحمد لم يحمل قوله وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] على ظاهره موافقة على تسمية ذلك ظاهر والذي ذكره أحمد في الآية هو ظاهرها كما بيناه في غير هذا الموضع وهذا الذي قاله القاضي من التسمية لا يلزم الإمام أحمد

فإن القاضي واحد أصحابه وهو وغيره من أصحاب أحمد قد يوافقون المثبتة على أشياء من قولهم على أحاديث ضعيفة ودلالات ضعيفة ويوافقون النفاة على أشياء أيضًا من قولهم مثل نفي الأسماء التي يزعمون أن العقل نفاها كالجوهر والجسم ونحو ذلك وليس هذا ولا هذا من قول السلف والأئمة وأصحاب أحمد فيهم من النفي والإثبات ما يوجد في غيرهم لكنهم أقرب إلى الاعتدال في الطريقين وأقل غلوًّا فيهما من غيرهم لأن الإمام أحمد له من تقرير أصول السنة ما لايوجد لغيره فلا يمكن أتباعه أن يغلوا في الانحراف عن السنة والاعتدال كانحراف غيرهم وإن كان يوجد فيهم من قد ينحرف إلى النفي أو الإثبات أو كليهما جميعًا على وجه التناقض أو لاختلاف الاجتهاد ولعل هذا المنقول من أنه لم يتأول إلا كذا أصله عن

القاضي فإن القاضي في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات قد يتأول أشياء مثل هذا لكنه مع ذلك يبين أن تأويلها وجب لأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة نفت ذلك كما ذكره هنا وكما يأتي كلامه في قوله إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمين ولا ريب أن صرف ظاهر النص ينص آخر ليس مما ينازع فيه الفقهاء والذي أنكرناه وهو كون ظاهر القرآن باطلاً وكفراً من غير أن يبين الله تعالى ذلك فهذا مما ينكره علماء الإسلام وقد روى عثمان بن سعيد الدارمي هذا الخبر مرفوعًا في إثبات صفة اليد بلفظ آخر فقال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن أبي

سويد عن عطاء عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من فاوض الحجر فإنما يفاوض كف الرحمن يعني استلام الحجر الأسود

فهذا فيه إثبات وصف صفة الرحمن بمفاوضته كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] الوجه الرابع أن قوله إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمين فلم أجد عن أحمد فيه كلامًا أيضًا ولا نقل ذلك عن أصحابه الذين تتبعوا نصوصه كالخلال وغيره ولكن تكلم فيه ابن حامد وابن بطة والقاضي وغيرهم

فذكر القاضي ما حدثه به أبوالقاسم الأزجي بإسناده عن أبي بن كعب أنه قال لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن جل اسمه وفي رواية فإنها من نفس الله جل وعز فإذا رأيتموها فقولوا اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به

قال وروى ابن بطة في بعض مكاتباته إلى بعض أصدقائه جواب مسائل سأله عنها بإسناده عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الريح فلا تسبوها فإنها من نفس الرحمن تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فاسألوا الله من

خيرها واستعيذوا بالله من شرها ثم قال القاضي اعلم أن شيخنا أبا عبد الله ذكر هذا الحديث في كتابه وامتنع أن يكون على ظاهره في أن الريح صفة ترجع إلى الذات والأمر على ما قاله ويكون معناه أن الريح مما يفرج الله تعالى بها عن المكروب والمغموم فيكون معنى النفس معنى التنفس وذلك معروف من قولهم نفست عن فلان أي فرجت عنه وكلمت فلانًا في التنفيس عن غريمه ويقال نفس الله عن فلان كربه أي فرج الله عنه وروي في الخبر من نفس عن مكروب كربة نفس الله عنه كربة يوم القيامة

وروي في الخبر أن الله فرج عن نبيه بالريح يوم الأحزاب فقال فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا

[الأحزاب 9] قلت ثم رأيت أبا عبد الله بن حامد ذكر في كتابه في ذلك نزاعًا بين أصحابه فقال فصل وهل يجوز أن يقال بأن الريح من نفس الرحمن فقد ذكر ابن قتيبة في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن فقال فرأيت بعض أصحابنا يثبتون لله وصفًا في ذاته بأنه يتنفس وقد فصلوا بين الرياح فقالوا ما كان من هذه الرياح الهابة مثل رياح الرحمة والعذاب من الريح العقيم

والعاصف والجنوب والشمال والصبا والدبور وما دخل في ذلك وهي ثلاثون ريحًا كلها خاصة بالأفعال مخلوقة وريح أخرى من صفاته هي ذات نسيم

صباي هو خارج عن الريح وهي من نفس الرحمن قال ابن حامد ولم أجد ذلك لأبي عبد الله نصًّا ولا أدخله الخلال في جامعه من كتاب السنة والأشبه عندي أنه ضعيف الإسناد فلا يجوز أن يثبت به صفات الله تعالى قلت فابن حامد قد طعن في نفس هذا الخبر من أصله فلم يحتج إلى تأويله وأما القاضي فقال وإنما وجب حمل هذا

الخبر على هذا ولم يجب تأويل غيره من الأخبار لأنه قد روي في الخبر ما يدل على ذلك وذلك أنه قال فإذا رأيتموها فقولوا اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وهذا يقتضي أن فيها شرًّا وأنها مرسلة وهذا من صفات المحدثات قال وحدثنا أبو القاسم بإسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الريح من روح الله يبعثها بالرحمة ويبعثها بالعذاب فلا تسبوها واسألوا الله خيرها وعوذوا بالله من شرها قال وقوله فإنها من روح الله يدل على صحة هذا التأوبل وأنه يروح بها عن المكروب وقوله يبعثها بالرحمة

وبالعذاب صريح في أنها مخلوقة مأمورة بالرحمة تارة وبالعذاب أخرى وهذا دليل على صحة هذا التأويل ثم قال حديث آخر في هذا المعنى من حديث دعلج عن ابن خزيمة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو

مولي ظهره إلى اليمين إني أجد نفس الرحمن من هاهنا وروى ابن بطة في مكاتبته إلى بعض أصدقائه بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الإيمان يمان والحكمة يمانية وأجد نفس ربكم الكريم من قبل اليمن قال القاضي ومعناه ما تقدم من الحديث الذي قبله وهو أني أجد تفريج الله عني وتنفيسه عن كربي بنصرته إياي من قبل اليمن وذلك لما نصره المهاجرون والأنصار نفس الله عن نبيه ما كان فيه من أذى المشركين وقتلهم الله على أيدي المهاجرين من أهل اليمن والأنصار وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يمدح أهل اليمن فروي عنه أنه قال الإيمان يمان والحكمة يمانية وإنما وجب حمله على ذلك لما تقدم في الحديث الذي قبله وأن فيه ما دل على أن النفس مخلوق لأنه أضافه إلى الريح والريح مخلوقة من جهة أنها مأمورة بالرحمة والعذاب فوجب حمل هذا

المطلق على ذلك قال ورأيت في بعض مكاتبات ابن بطة إلى بعض أصدقائه وقد ذكر هذين الخبرين حديث جابر إذا رأيتم الريح فلا تسبوها وحديث ابن هريرة أجد نفس ربكم وحكى كلام ابن قتيبة في ذلك فقال أنت في نفس من أمرك أي في سعة وقوله من نفس الرحمن معناه أن يفرج بها الكرب ويذهب بها الجدب يقال اللهم نفس عني أي فرج عني وذكر كلامًا طويلاً

ثم قال ابن بطة بعده ومما يشهد لصحة هذا التأويل وأن الريح من نفس ربكم وإنما أراد بالنفس الفرج والروح ما سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول إنما سميت الريح ريحًا لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم والأذى فهي مأخوذة من الروح وأصلها روح فصارت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم قال ابن بطة فهذا ما قاله أهل العلم بتأويل الكتاب والسنة وكلام العرب في تأويل الريح ومعنى النفس بها وفي كتاب الله تعالى ما دل على أنها بمعنى الفرج من الغم والنفس من الكرب إذ الغم والضيق يكونان بركودها

كما يدل عليه قوله عز وجل حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا [يونس 22] وقوله وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف 57] وقوله إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ [الشورى 33] قال القاضي أبو يعلى وفي معنى ذلك حديث رواه ابن فورك ولم يقع لي طريقه أنه قال هذا نفس ربي أجده بين كتفي أتتكم الساعة معناه هذا فرج الله عني صرف به همومي وغمومي وكشف عن قلبي وسرى عن فؤادي ما كان يجده صلى الله عليه وسلم في مستقبل أوقاته من زوائد

روح اليقين والألطاف فسمى ذلك نفس الرب لأنه هو الذي نفس به عنه والإضافة إلى طريق الملك والموجب لحمله على ذلك ما تقدم من الخبر الأول وقد بينا أن فيه ما دل عليه قلت فهذا كلام القاضي وما ذكره فيه من كلام غيره وقد بين أنه إنما تأول هذا الخبر لأن في الخبر نفسه ما دل على صحة التأويل ومثل هذا لا نزاع فيه فإنه إذا كان في الحديث الواحد متصلاً به ما يبين معناه فذلك مثل التخصيص المتصل ومثل هذا لا يقال فيه إنه خلاف الظاهر بل ذلك هو الظاهر بلا نزاع بين الناس ولهذا يقبل مثل ذلك في الإقرار والطلاق والعتاق والنذر واليمين وغير ذلك من المواضع التي ليس له أن يرفع الظاهر بعد تمام الكلام وله أن يصل بالكلام من

الاستثناء والشرط والعطف والصفات والأحوال وغير ذلك مما يقيد أوله ويخصه ويصرفه عن موجب إطلاقه بل لا نزاع بين الناس إلا نزاعًا شاذًا في الطلاق أو فيه وفي العتق فإن في الناس من يقول إنه لا يقبل رفع مطلقه بشرط ملحق ولا باستثناء يروى ذلك عن شريح وهو قول في مذهب أحمد وهو رواية شاذة عنه والمتواتر عنه وعن سائر العلماء خلاف ذلك وهو الصواب وليس المقصود هنا الكلام على خصوص هذه الأحاديث وتفسيرها ولكن الغرض الكلام على ما احتج به المؤسس من

رد الإمام أحمد على تأويل الجهمية

أن صرف الظواهر متفق على الحاجة إليه ومقصوده بذلك صرفها بالأدلة القياسية كما قد قرره في أثناء الكتاب وبين أن اللفظ لا يجوز صرفه عن ظاهره إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال وأن الدليل القاطع لا يجوز صرفه عن ظاهره إلا عند قيام دليل قاطع آخر وهذا محال وهذا الذي قاله خلاف ما اتفقت عليه الأمة وقد حكى هو في غير هذا الموضع اتفاق الأمة على خلافه كما سنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه الوجه الخامس أن قوله قلوب العباد بين أصبعين من

أصابع الرحمن قد نص أحمد على رد تأويل الجهمية فيه روى الخلال في كتاب السنة عن أبي طالب قال قلت لأبي عبد الله قال أبو إسحاق بن أبي الليث الذين يصفون ربهم يقول هو السميع البصير قال عافاه الله كأنه أعجبه قوله قلت ما تقول أنت قال أقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ووصف ولا يجوز الحديث قال بين أصبعين وقال خلق الله آدم وكما جاء في الحديث

مثل هذا قلنا مثله قلت فنحن الذين يصفون قال نعم قال وصف النبي صلى الله عليه وسلم لا نجوزه

فصل: في ادعاء الرازي تأويل الإمام أحمد لحديث "إتيان سورة البقرة"

فصل قال الرازي الرابع حكي أن المعتزلة تمسكوا في خلق القرآن بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال تأتي سورة البقرة وآل عمران كذا وكذا يوم القيامة كأنهما غمامتان فأجاب أحمد ابن حنبل وقال يعني ثواب قارئيهما وهذا تصريح منه بالتأويل

يقال هذه الحجة والجواب عنها مذكور فيما حفظ من مناظرة أحمد للجهمية من المعتزلة وغيرهم لما حبس وامتحن وهو أيضًا مذكور فيما خرجه في الرد على الجهمية فقال فيما خرجه وقد ذكره الخلال عنه في كتاب السنة باب ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت أن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب فيأتي صاحبه فيقول هل تعرفني فيقول له من أنت فيقول أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت

ليلك قال فيأتي الله به فيقول يا رب فادَّعوا أن القرآن مخلوق من هذه الأحاديث فقلنا لهم إن القرآن لا يجيء إنه قد جاء من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فله كذا وكذا

ألا ترون أن من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا تجيئه يجيء ثوابه لأنا نقرأ القرآن ويجيء ثواب القرآن فيقول يا رب كلام الله لا يجيء ولا يتغير من حال إلى حال وأما كلامه في المناظرة فروى الخلال في كتاب السنة أخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم أن

أبا عبد الله قال احتجوا علي يومئذ فقالوا تجيء البقرة يوم القيامة وتجيء تبارك وقلت لهم إن هذا الثواب قال الله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] إنما تأتي قدرته إنما القرآن أمثال ومواعظ وكذا وكذا وأمر وقال حنبل في موضع آخر ومواعظ وأمر وزجر

وهذا نظير ما روي عن مجيء سائر الأعمال الصالحة في الصور الحسنة ومثل ما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور الذي رواه أحمد من حديثه حدثنا

أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان أبي عمر عن البراء بن عازب قال

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير في يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال أستعيذ بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثًا ثم قال إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من كفن الجنة وحنوط من حنوط الجنة فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقا فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك

الكفن وذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيبة فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا ثم إلى التي تليها حتى ينتهون بها إلى السماء السابعة فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان له وما علمك فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت

قال فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي أفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها فيفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح فيقول له أبشر بالذي يَسُرُّك فهذا يومك الذي كنت توعد فيقول له من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول ربِّ أقم الساعة رب أقم الساعة ثلاثًا حتى أرجع إلى أهلي ومالي قال وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه

فتتفرق في أعضائه كلها فينتزعها نزع السفود من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب قال فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المسوح قال ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمي بها في الدنيا حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون لها فلا يُفتح

لها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف 40] ثم يقول الله تعالى اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى قال فيطرح روحه طرحًا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) [الحج 31] قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري قال فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي منادٍ من السماء كذب عبدي فأفرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار فيدخل عليه من حرها وسمومها ويضيق عليه في قبره

دلالة النصوص على حمل الأعمال ووزنها

حتى تختلف فيه أضلاعه قال ويأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول أنا عملك السيئ فيقول رب لا تقم الساعة وكذلك ما جاء في الكتاب والسنة من حمل الأعمال ووزنها كقوله تعالى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ

أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) [الأنعام 31] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وفي السنن لأبي داود وغيره عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن

والمعنى الظاهر الذي يظهر للمخاطب من قوله يجيء عمله في صورة رجل أن الله تعالى يخلق من عمله صورة يصورها ليس المعنى الظاهر أن نفس أقواله وأفعاله على صورة رجل فإن هذا لا يظهر من هذا الخطاب ولا يفهمه أحد منه وعلى هذا فلا يكون هذا الخطاب مصروفًا عن ظاهره ولكن أزيل عنه المعنى الفاسد الذي يتأوله عليه المبتدع حيث جعل نفس كلام الله الذي تكلم به هو الصورة المصورة كما جعلوا نفس المسيح ابن مريم هو كلمة الله التي تكلم بها وإنما المسيح تكوَّن بكلمة الله فسمي كلمة الله لذلك وليس ظاهر الخطاب أن نفس كلام الله هو نفس جسد المسيح فالمفعول بالكلمة والمفعول مما يقرؤه الإنسان ويعمله من الصالحات يسمى باسمها فلو قيل إن في هذا نوعًا من التوسع والتجوز حيث سمي

ما يكون عن العمل باسم العمل لكان هذا سايغًا لكن ذلك لا يمنع أن يكون ذلك هو المعنى الظاهر كما تقدم نظيره هذا مع أن الناس قد تنازعوا في نفس الأعراض من العمال وغيرها هل يجوز قلبها أجسامًا قائمة بأنفسها وذكر النزاع في ذلك أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات فقال واختلف يعني أهل الكلام

ونحوهم في قلب الأعراض أجساماً والأجسام أعراضًا فقال قائلون منهم حفص الفرد وغيره جائز أن تقلب الأعراض أجسامًا والأجسام أعراضًا لأنه خلق الجسم جسمًا والعرض عرضًا وإنما كان العرض عرضًا بأن خلقه الله عرضًا وكان الجسم جسمًا بأن خلقه الله جسمًا فجائز أن يكون الذي خلقه الله عرضًا أن يخلقه جسمًا والذي خلقه جسمًا يخلقه عرضًا وكذلك زعم أن الله تعالى خلق اللون

لونًا والطعم طعمًا وكذلك قوله في سائر الأجناس وأن الأشياء إنما هي على ما هي عليه بأن خلقت كذلك وأن الإنسان لم يفعل الأشياء على ما هي عليه ولم تكن على ما هي عليه بأن فعلها كذلك قال وقال أكثر أهل النظر بإنكار قلب الأعراض أجسامًا والجسام أعراضاً وقالوا ذلك محال لأن القلب إنما هو رفع الأعراض وإحداث أعراض والأعراض لا تحتمل أعراضًا واعتلوا بعلل كثيرة قلت والقول الأول قول طوائف من العلماء منهم

أبو الوفاء بن عقيل قال في كفايته في الجواب عن هذا الحديث لما احتجت به المعتزلة على خلق القرآن فقال والجواب أن هذا معنى ثوابها بدليل قوله اتقوا النار ولو بشق تمرة ومعلوم أن التمرة لا تقيه فضلاً عن شقها وإنما

المراد به اتقوا النار ولو بثواب شق تمرة قالوا الثواب عرض فكيف تقول والكلام عندك عرض فكيف يجيء فرجع الكلام يردك فأنت احتججت وأنت أخذت بما به استدللت قال ولأن الله قادر على أن يقلب العرض جسمًا والجسم عرضًا ولأنه يحتمل أن يكون من بعض ثوابه شخص كولدان الجنة وحورها فيجيء ذلك الوليد في هذه الصورة قلت ثم إني وجدت هذا التمثيل الذي ذكرته من تمثيل

مجيء القرآن في صورة مجيء عمله الصالح في صورة قد ذكروه أئمة السنة كما ذكر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي ومتبعيه قال في كلامه عليه في النزول فكان من أعظم حجج المعارض لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول حكاية حكاها عن أبي معاوية لعلها مكذوبة عليه أنه قال نزوله أمره وسلطانه وملائكته ورحمته وما أشبهها فتكلم على إبطال ذلك بما ليس هذا موضعه إلى أن قال ثم قلت ويحتمل ما قال أبو معاوية أن نزوله أمره وسلطانه

كما يرون أن القرآن يجيء يوم القيامة شافعًا مشفعًا وماحلاً مصدقًا فقالوا معنى ذلك أنه ثوابه فإن جاز لهم هذا التأويل في القرآن جاز لنا أن نقول إنا نزوله أمره ورحمته قال فيقال لهذا المعارض لقد قست بغير أصل ولا مثال لأن العلماء قد علموا أن القرآن كلام والكلام لا يقوم بنفسه شيئًا قائماً حتى تقيمه الألسن ويستبين عليها وأنه بنفسه لا يقدر على المجيء والتحرك والنزول بغير

منزل ولا محرك إلا أن يؤتى به وينزل والله تعالى حي قيوم ملك عظيم قائم بنفسه في عزه وبهائه يفعل ما يشاء كما يشاء وينزل بلا منزل ويرتفع بلا رافع ويفعل ما يشاء بغير استعانة بأحد ولا حاجة فيما يفعل إلى أحد فلا يقاس الحي القيوم الفعال لما يشاء بالكلام الذي ليس له عين قائم حتى تقيمه الألسن ولا له أمر ولا قدرة ولا يستبين إلا بقراءة أرأيت إن كان نزوله أمره ورحمته لا تنزل إلا في ثلث الليل ثم إلى السماء الدنيا وما بال أمره ورحمته في دعواك لا ينزل إلى الأرض حيث مستقر العباد ممن يريد الله أن يرحم ويحب ويعطي فما بالها تنزل إلى

السماء الدنيا لا تجوزها وما بال رحمته تبقى على عباده من ثلث الليل إلى انفجار الفجر ثم ترجع من حيث جاءت بزعمك وما باله إذ الله بزعمك في الأرض فإذا استرحمه عباده واستغفروه وتضرعوا إليه بَعَّدَ عنهم رحمته على السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام ولا يغشيهم إياها وهو معهم في الأرض بزعمك إذ زعمت أن نزوله تقريب رحمته إياهم كقوله الآخر من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا فقلت هذا تقرب بالرحمة ففي دعواك في تفسير النزول من تقرب إليه شبرًا

تباعد هو عنه مسيرة ما بين الأرض إلى السماء أو كلما ازداد العباد إلى الله اقترابًا تباعد هو برحمته عنهم بعد ما بين السماء والأرض بزعمك لقد علمت أيها الجاهل أن هذا تفسير محال يدعو إلى ضلال والحديث نفسه يبطل هذا التفسير ويكذبه غير أنه أغيظ حديث للجهمية وأنقض شيء لدعواهم لأنهم لا يقرون أن الله فوق عرشه فوق سمواته ولكنه في الأرض كما هو في السماء فكيف ينزل إلى سماء الدنيا من هو تحتها في الأرض وجميع الأماكن منها ولفظ الحديث ناقض لدعواهم وقاطع لحججهم قال وأخرى أنه قد عقل كل ذي عقل ورأي أن القول لا يتحول صورة له لسان وفم ينطق ويشفع فحين اتفقت المعرفة من المسلمين أن ذلك كذلك علموا أن ذلك

ثواب يصوره الله تعالى بقدرته صورة رجل يبشر به المؤمنين لأنه لو كان للقرآن صورة كصورة الإنسان لم يتشعب أكثر من ألف ألف صورة فيأتي أكثر من ألف ألف شافعًا وماحلاً لأن الصورة الواحدة إذ هي أتت واحدًا زالت عن غيره فهذا معقول لا يجهله إلا كل جهول قال وهذا كحديث الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا مات تأتيه أعماله الصالحة في صورة رجل في أحسن هيئة وأحسن لباس وأطيب ريح فيقول له من أنت فيقول أنا عملك الصالح كان حسنًا فكذلك تراني

حسنًا وإن كان طيبًا تراه طيبًا وكذلك العمل السيئ بأتي صاحبه فيقول له مثل ذلك ويبشره بعذاب الله قال وإنما عملهما الصلاة والزكاة والصيام وما أشبهها من الأعمال الصالحة وعمل الآخر الزنا والربا وقتل النفس بغير حقها وما أشبهها من المعاصي وقد اضمحلت وذهبت في الدنيا فيصور الله بقدرته للمؤمن والفاجر ثوابها وعقابها ويبشرهما به إكرامًا للمؤمنين وحسرة على الكافرين وهذا المعنى أوضح من الشمس وقد علمتم ذلك إن شاء الله تعالى ولكن تغالطون وتدلسون وعليكم أوزاركم وأوزار من تضلون وقال

الخلال في كتاب السنة أخبرني محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثني أبو جعفر قال كان رجل يأتي أبا عبيد قال فسأله عن الحديث الذي يروى فيه أن البقرة وآل عمران تأتي يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أليس ذلك يدل على أن هذا مخلوق فقال أبو عبيد إن إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عن علي بن زيد بن جُدْعان عن سعيد بن

كعب قال لو رأى أحدكم ثواب ركعتين لرأى أعظم من الجبال الراسيات وقال النبي صلى الله عليه وسلم ظل المؤمن صدقته يوم القيامة فيجيء ديناره ودرهمه يظله إنما هذا ثواب ذلك وقال الله تعالى مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام 160] ومن أكبر الحسنات أن يقول الرجل لا إله إلا الله فإذا قال لا إله إلا الله يقال له يوم القيامة لا إله إلا الله عشر مرات إنما هذا ثواب ذلك قال ولم نر العرب تدفع في طبعها أن يقول الرجل للرجل

لأوفينك ما عملت ليس أنه يريد نفس ما عمل إنما يعده على الطاعة الثواب ويتوعده على المعاصي العقاب وإنما معنى مجيء البقرة وآل عمران إنما يعني ثوابهما

فصل: في تأويل الرازي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرحم تتعلق بحقوي الرحمن"

فصل قال الرازي الخامس قوله عليه السلام إن الرحم تتعلق بحقوي الرحمن فيقول سبحانه صلي من وصلك وهذا

لابد فيه من التأويل يقال له بل هذا من الأخبار التي يقره من يقر نظيره والنزاع فيه كالنزاع في نظيره فدعواك أنه لابد فيه من التأويل بلا حجة تخصه لا يصح فإنك إن ذكرت الحجة التي تذكرها على وجوب تأويل خلقه بيديه ووضعه قدمه ونحو

ذلك فهذا يحتاج إلى أن يحتج له كما سيأتي وإن كنت هنا ادعيت وجوب التأويل بالإجماع فذكرت هذا وأمثاله فيما لا يشك احد في وجوب تأويله وليس الأمر كذلك قال القاضي أبو يعلى اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره وان الحقو والحُجْزَة صفة ذات لا على وجه الجارحة والبعض وأن الرحم آخذة بها لا على وجه الاتصال والمماسة بل يطلق تسمية ذلك كما أطلقها الشرع

ونظير هذا ما حملناه على ظاهره في وضع القدم في النار وفي أخذ داود بقدمه لا على وجه الجارحة ولا على وجه المماسة كما أثبتنا خلق آدم بيديه فاليدان صفة ذات والخلق بهما لا على وجه المماسة والملاقات وكذلك هاهنا قال وذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه هذا في الحديث وأخْذُه يظاهره وهو ظاهر كلام أحمد قال المروذي جاءني كتاب من دمشق فعرضته على أبي عبد الله فنظر فيه وكان فيه أن رجلاً ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت

الرحم فأخذت بحقو الرحمن وكان الرجل تلقاه يعني حديث أبي هريرة فرفع المحدث رأسه فقال أخاف أن تكون كفرت فقال أبو عبد الله هذا جهمي وقال أبو طالب سمعت أبا عبد الله سئل عن حديث هشام بن عمار أنه قرأ عليه حديث يجيء الرحم يوم القيامة فتتعلق بالرحمن فقال أخاف أن تكون قد

كفرت فقال هذا شامي ما له ولهذا قلت ما تقول قال يمضي الحديث على ما جاء قلت أما قول القاضي على غير وجه الاتصال والمماسة وغير ذلك ففيه نزاع يذكر في غير هذا الموضع وأما ما ذكره عن شيخه أبي عبد الله بن حامد فقد قال ابن حامد في كتابه فصل ومما يجب التصديق به أن لله حقوًا قال المروذي قرأت على أبي عبد الله كتابًا فنظر فيه فإذا فيه ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق الرحم حتى إذا فرغ منها أخذت بحقو الرحمن فرفع المحدث رأسه وقال أخاف أن تكون قد كفرت قال أبوعبد الله هذا جهمي وقال أبو طالب سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث هشام بن عمار أنه قرئ عليه حديث

الرحم تجيء يوم القيامة فتتعلق بالرحمن تعالى فقال أخاف أن تكون قد كفرت فقال هذا شامي ما له ولهذا قلت ما تقول قال يمضي كل حديث على ما جاء وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحم شجنة يعني لها تعلق تقرب من الرحمن تعالى تتعلق بحقو الرحمن تعالى تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني قال فقال أحمد في الحديث في كنَفَه قيل له

قول النبي صلى الله عليه وسلم يضع عليه كنفه قال هكذا يقول بيديه وهذه أحاديث مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرحم والحقو وأنه يضع كنفه على عبده ومثل ذلك أيضًا ما رواه عنه أبو علي الصانع من أصحاب إدريس الحداد المقري قال سمعت عمران النجار يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول وسألته ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ [الروم 25] فمن قال إن دعوة الله مخلوقة فقد كفر قال فجملة هذه المسائل مذهب إمامنا فيها الإيمان والتصديق بها والتسليم والرضا وأن الله يضع كنفه على عبده تقريبًا له إلى أن يضع كنفه عليه وذلك صفة ذاته لا يدري ما التكييف فيها ولا ماذا صفتها وكذلك في الرحم تأخذ بحقو

الرحمن صفة ذاته لا يدري ما التكييف فيها ولا ماذا صفتها وكذلك دعوة الله لعباده وهم في الأرض أموات بالخروج منها فيخرجون كل ذلك صفات ذاته من غير تكييف ولا تشبيه قال فأما الحديث في الرحم والحقو فحديث صحيح ذكره البخاري وقد سئل إمامنا عنه فأثبته وقال يمضي الحديث كما جاء وأما الحديث في كنفه فهو حديث ثابت رواه الأئمة أحمد بن حنبل وابن معين وابن المديني

ما ورد في الأخبار من المماسة والقرب

ووكيع أن الله يدني عبده يوم القيامة يقول أُدْنُه أُدْنُه حتى يضع كنفه عليه فيقول أتذكر كذا أتذكر كذا ثم قال ابن حامد فصل ومما يجب الإيمان به والتصديق ما ورد في الأخبار من المماسة والقرب من الحق سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام وقد اعتمد أصحابنا في ذلك على جواب أبي عبد الله في هذا في المقام المحمود فقال أبو بكر بن صدقة ذكر الحديث عند أبي عبد الله فقال فاتني عن ابن فضيل وجعل يتلهف

وقال عبد الله قال أبي ما وقع لي بعلو وجعل كأنه يتلهف إذ لم يقع له بعلو وهو حديث أحمد بن حنبل عن ابن فضيل عن ليث عن

مجاهد عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) [الإسراء 79] قال يقعده معه على العرش فيطلق ذلك كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مقامًا مخصوصًا لمقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويشهد لذلك ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله كتب كتابًا بيده قبل أن يخلق

السموات والأرض وهون معه على العرش إن رحمتي تغلب غضبي وأحمد بن حنبل قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا

أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله يعني الخلق كتب كتابًا هو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي قال ابن حامد وقد ذكر في كتاب السنة أخبارًا عن الصحابة في الدنو فروى عن محمد بن بشر قال حدثنا

عبد الرحمن بن شريك عن أبيه حدثني عبد العزيز بن رفيع وسالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال إذا

نظر داود إلى خطيئته ولى هاربًا فيناديه الله عز وجل يا داود اُدْنُ مني فلا يزال يدنيه حتى يمس بعضه ورواه وكيع عن سفيان عن منصور وعن مجاهد عن عبيد ابن عمير وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى [ص 25] قال ذكر الدنو حتى يمس بعضه قال وقد روي أشد من هذا عن مجاهد فرووا منه

طريق الحديث الأول قال حدثني إبراهيم بن مهاجر وليث بن أبي سليم قالا حدثنا مجاهد قال إذا كان يوم القيامة ذكر داود ذنبه فيقول الله تعالى كن أمامي فيقول ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل كن خلفي فيقول ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل خذ بقدمي وبالإسناد حدثني أبو يحيى القتات وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن

أبي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) [ص 25] قال يدنو منه حتى يقول الله عز وجل خذ بقدمي قال ابن حامد وهذا كله يقطع به كما جاءت به الأخبار والمقصود هنا أن هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء وردوا على من نفى مُوجَبه والغرض أن هذا ليس مما اتفقت الأئمة على تأويله

فلا يكون حجة له فإن قيل فقد ذكر الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق فقال أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين القول في مراتب الصفات أن قومًا من المثبتين للصفات أفرطوا في تحقيقها حتى خرجوا إلى ضرب التشبيه والتمثيل كما أفرط قوم في نفيها حتى صاروا إلى نوع من الإبطال والتعطيل وكلا القولين خطأ وخطل وللحق

بينهما نهج واضح لا يخفى صوابه على من وفقه الله فأما النفاة من الجهمية فإنهم قصدوا إلى كل شيء يفهم ويدري أو يتوهم من أسماء الله وصفاته فسموه تشبيهًا بغير حجة وأما المشبهة فإنهم حملوا كل شيء من هذا على حقيقة اسمه بظاهر معناه من غير تأويل له أو يخرج على وجه يصح على معاني أصول العلم وتعسفوا أيضًا في جهات مأخذها حتى جعلوا شيئاً كثيرًا مما تلقفوه من أفواه الناس وحفظوه من ألسن القصاص وسمعوه رواية عن قراءة الكتب مثل كعب

ووهب وأمثالهما مثل نوف البكالي وعن بعض أهل التفسير كمقاتل بن سليمان وكأشياء تروى عن مجاهد ومن نحا نحوه من المقتحمين في هذا الباب أصلاً يعتقدونه دينًا ويتخذونه مذهبًا وهذا مما يجب التثبت فيه

والتوقف عنه فإن هذا الشأن أعظم من أن يدخله شيء من التساهل أو يكون فيه للظن مدخل أو للتأويل موضع أو للعقل والقياس متعلق إنما طريق العلم به السماع أو التوقيف من قبل الكتاب المنزل أو قول الرسول المرسل بالخبر الصحيح الذي يقطع العذر به وقد أخبر الله أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقطع الشبه بينه وبين الأشياء كلها وأبطل القياس فيها وقال سبحانه وتعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة 255] وقال وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء 36] وقال وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) [البقرة 169] فأما ما ثبت من الصفات بكتاب الله وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي ينقطع العذر به فإن القول به واجب لأن الله سبحانه وتعالى شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله الصدق ونزهه عن الكذب فقال وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم 3-4] وقال جل وعلا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا

يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) [الجن 26-27] قال والكلام فيها ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم منها يحقق ولا يتأول كالعلم والقدرة ونحوهما وقسم يتأول ولا يجري على ظاهره وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى من تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وما أشبهه لا أعلم أحدًا من العلماء أجراه على ظاهره أو اقتضى منه أو احتج بمعناه بل كل منهم تأوله على القبول من الله تعالى لعبده وحسن الإقبال عليه والرضا بفعله ومضاعفة الجزاء له على صنيعه وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال سبحانه وعزتي لأقطعنّ من قطعك ولأصلن من وصلك

ولا أعلم أحدًا من العلماء حمل الحقو على ظاهر مقتضى الاسم له في موضع اللغة وإنما معناه اللياذ والاعتصام به تمثيلاً له بفعل من اعتصم بحبل ذي عزة واستجار بذي ملكة وقدرة كما روي الكبرياء رداء الله قال وليس هذا الضرب في الحقيقة من أقسام الصفات ولكن ألفاظه متشاكلة لها في موضع الاسم فوجب تخريجه ليقع بع الفصل بين ما له حقيقة منها وبين ما لا حقيقة له من جملتها ومن هذا الباب قوله تعالى أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] لا أعلم أحدًا من علماء المسلمين إلا تأول الجنب في هذه الآية ولم أسمع أحدًا منهم أجراه على ظاهره أو اقتضى منه معنى الجنب الذي هو الذات وإنما تأولوه على القرب والتمكين وقال الفراء معنى الجنب معظم الشيء كما يقول الرجل

لصاحبه هذا قليل في جنب ما أوجبه لك والقسم الثالث من الصفات يحمل على ظاهره ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يقتضي له معرفة كيفية أو يشبه بمشبهات الجنس ومن غير أن يتأول فيعدل به عن الظاهر إلى ما يحتمله التأويل من وجه المجاز والاتساع وذلك كاليد والسمع والبصر والوجه ونحو ذلك فإنها ليست بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء ولكنها صفات الله عز وجل لا كيفية لها ولا تُتَأوَّل فيقال معنى اليد النعمة والقوة ومعنى السمع والبصر والعلم ومعنى الوجه الذات على ما ذهب إليه نفاة الصفات فإن قيل ما منعكم أن تجعلوا سبيل هذا الضرب من الصفات سبيل الضرب الأول في حملها على حقيقة مقتضى

الاسم أو سبيل الضرب الثاني في حملها على سعة المجاز والتأويل وما الذي أوجب التفريق بينه وبينها وتعليق القول فيها على الوجه الذي ذكرتموه قيل منعهم من إجرائها على حقيقة مقتضى أسبابها في العرف أن ذلك يفضي بنا إلى التشبيه والتمثيل وهو منفي عن الله وأما حملها على الوجه الآخر فإن الكتاب قد منع منه لأنك إذا تأملت لفظه في الكتاب وجدته ممتنعًا على تأويل القوم غير مطاوع له ألا تراه يقول مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] بتشديد الياء في الإضافة وذلك تحقيق التثنية والعرب إنما تستعمل ذلك في موضع لا يجوز أن يكون وراءه ثالث كما يقول الرجل رد علي درْهَمي إذا لم يكن عندي غيرهما وكما قال سبحانه مخبرًا عن شعيب أنه قال لموسى عليه السلام أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القصص 27] إذ لم يكن له غيرهما وإذا تحققت التثنية لم

يجز صرفها إلى النعمة ولا إلى القوة لأنه ليس تخصيص التثنية في نعم الله تعالى ولا في قوته معنى يصح لأن نعمه أكثر من أن تعد أو تحصى قال الله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم 34] فدل ذلك على تحقق خلق الله آدم عليه السلام بيديه اللتين هما صفتان له من صفات ذاته كما قال في تكذيب اليهود عند قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة 64] مستقصاً ذكر اللفظ الموضوع للتثنية فدل ذلك على تحقيق ما قلناه وأيضًا فإن معنى اليد لو كان النعمة والقوة لوجد إبليس متعلقًا من هذه الجهة لما امتنع من السجود لآدم عليه السلام فيقول وما في خلقك إياه بنعمتيك أو قوتيك مما يوجب علي أن أسجد له لقد خلقتني بنعمتيك وقوتيك وأنا مساوٍ له في خلقك إيانا جميعًا بيديك اللتين هما النعمة والقوة لأنه لا يخفى على أحد من ذوي العقول أن الله سبحانه خلق

الأشياء بقوته وقدرته فلما لم يتعلق إبليس بهذه الحجة وأعرض عنها إلى قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) [ص 76] كان فيه أوضح دليل على أنه علم تخصيص الله لآدم عليه السلام في خلقه إياه بمعنى لم يشاركه إبليس ولا غيره من الملائكة فيه وليس لذلك التخصيص وجه غير ما بينه الله عز وجل في قوله تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] على ما نطق به التنزيل وشهد بصحته التأويل والله أعلم وأيضًا فإن نعم الله تعالى مخلوقة كآدم لا فرق بينهما في سمة الخلق فكيف يخبر عن خلق مخلوق بمخلوق وأي فائدة في ذلك إذا كان هكذا وأيضًا فإن الله عز وجل لا يوصف بالقوة عند نفاة الصفات فكيف يثبتون له في تأويل هذه الآية ومن مذهبهم أن القوة عن الله منتفية وقد زعم بعضهم أن معنى النعمتين هنا الماء والطين لأنه خلق آدم عليه السلام منهما وهذا تأويل ساقط لا معنى له ولو أراد ذلك لقال لما خلقت من

يدي ولم يقل بيدي كما يقول القائل صنعت هذا الكوز من الفضة أو النحاس وطبعت هذا السيف من الحديد ونسجت هذا الثوب من الكتان ولا يقول في شيء من هذا بالباء لأن الباء حرف للإلصاق وحرف لتعدية الفعل قال وكذلك القول في الوجه والبصر وسائر الصفات التي تذكر في الباب وذلك أنه تعالى لما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) [الرحمن 27] فأضاف الوجه على الذات وفي حكم اللغة أن المضاف غير المضاف إليه وأن إعراب النعوت تابع لإعراب المنعوت فلو كان الوجه

ههنا صلة ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال والإكرام فيكون نعتًا للذات فلما رَفَع فقال ذو الجلال والإكرام علم أنه نعت للوجه وصفة للذات ولو كان معنى البصر العلم كما تأوله هؤلاء القوم لذهب فائدة قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] لأنه قد نفى عن خلقه شيئًا أثبته لنفسه دونهم وقد احتج القوم بهذه الآية في أن الله تعالى لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة فلو كان معناه يعلم بالأبصار لم يكن بينه وبين خلقه في ذلك فرق لأنهم يعرفون الله ويعلمونه فما الذي أثبته لنفسه ونفاه عن خلقه إذاً إذا كانت الأبصار لا تراه ولا يراها نظرًا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات اليد والوجه والسمع والبصر مع ما جاء في الكتاب من ذكرها أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة والكتاب يطول باقتصاصها وهي مشهورة عند أهل العلم والعناية بهذا الشأن قال والأصل أن الخطاب في الكتاب والسنة وبيان الشريعة محمول على ما تعقله العرب وتستعمله في كلامها

فإن الله تعالى لم يخاطبنا بما لا نعقله ولا نفهمه إلا أنا لا ننكر التأويل في بعض ما تدعو إليه الحاجة من الكلام والعدول عن ظاهر اللفظ وموضوعه لقيام دليل يوجبه أو ضرورة تلجئ إليه فأما أن يكون الظاهر المفهوم وهو الحجة والبيان بلا حجة ولا بيان فلا يجوز ذلك وكفانا أن ننفي الكيفية عن صفات الله تعالى فأما أن نبطل الصفات مع ورود التوقيف بها فلا يجوز ذلك في حق دين ولا دلالة علم وهذا الباب من نوع العلم الذي يلزمنا الإيمان بظاهره لوقوع الحجة به وقيام الدليل عليه من جهة التوقيف ولا يجوز لنا البحث عن باطنه والكشف عن علته كما لا يجوز لنا ذلك في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى بل يصح الإيمان والعلم به وبأنِيَّنِه من غير علم بالمائية التي

هي سؤال عن التجنيس إذ لا جنس له سبحانه ولا بالكيفية التي هي سؤال عن الهيئة والصورة فإنه سبحانه واحد ليس بذي هيئة ولا صورة ولا بالكمية التي هي سؤال عن العدد فإنه سبحانه واحد ليس بذي عدد ولا كثرة ولا بالكمية التي هي سؤال عن برهان الشيء وعلته وتعالى الله عز وجل فإن الماهية والكيفية والكمية عن الله منفية ولهذا كان إعراض موسى عليه السلام في الجواب لما سأله فرعون حين قال له وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قال موسى عليه السلام رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) وذلك أنه لما أحال في سؤاله فسأله عن جنس ما لا جنس له ولا تحديد استجهله موسى عليه السلام فأضرب عن سؤاله فلم يجب عنه ثم أخبره عن قدرته وعظم ملكه وسلطانه بما يرد به من جهله فيما سأل عنه وانتظر الجواب فيه

كما يقول الرجل العاقل للجاهل إذا سأل عن الباطل والمحال ليس لك عندي جواب إلا أن الذي أعرف وأجيب به كذا وقد أمرنا بالإيمان بملائكة الله تعالى وهم مخلوقون لله تحيط بهم الحدود وتصفهم الكيفية ثم إنا لا نعلم خواصهم ولا نقف على حقائق صفاتهم ولم يكن ذلك قادحًا في صحة العلم بكونهم والإيمان بهم وقد حجب عنا علم الروح ومعرفة كيفية العقل مع علمنا بأنه آلة التمييز وبه تدرك المعارف وهذه كلها مخلوقات لله عز وجل فما ظنك بصفات رب العزة سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] فإن قيل أما هذه الأمور فإنما جاز أن يطوى عنا علمها لأنك لم تجد عليها دلالة من حس ولا في كيفيتها بيانًا من نص ولا رأيتَ لها مثالاً من نظير وشكل واليد والسمع والبصر والوجه معلومة بأسمائها ونظائرها موجودة بخواص صفاتها قيل هذا ظلم في المعارضة وجور في حق المطالبة وذلك أن اليد والسمع والبصر إنما كانت جوارح لذات هو جسم عريض عميق فلما كان الذات الذي به قيام هذه الصفات معلوم الكيفية كانت صفاته كذلك فأما إذا كانت هذه

الأسماء صفة للذات المتحاشي عن هذه النعوت المنزهة عما جرى الأمر عن النزاهة والبعد عن التحديد والتكييف حصل العلم بظاهرها من طريق التوقيف حسب ولا حول ولا قوة إلا بالله قيل هذا الذي ذكره الخطابي ذكره بمبلغ علمه حيث لم يبلغه في حديث الرحم عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت والخطابي له مرتبة في العلم معروفة ومرتبة أئمة الدين المتبوعين فوق طبقة الخطابي ونحوه وهذه الطريقة التي سلكها في تقسيم الأحاديث إلى الأقسام الثلاثة وما ذكر في الصفات الخبرية هي تشبه طريقة أبي

محمد بن كُلاَّب وهي طريقة طوائف كثيرة ممن يقول بالكلام والحديث وغير ذلك وهي طريقة الشعري نَفسِه والبيهقي في آخر أمره وطريقة ابن عقيل في آخر

أمره وجمهور أئمة الحديث وأئمة الفقهاء وأئمة الصوفية طريقهم أكمل من ذلك وأتبع للسنة كما قد بين في مواضع وأما ما ذكره الخطابي من الحاجة إلى تأويل بعض النصوص وكذلك يقول القاضي أبو يعلى وأمثاله فهؤلاء وإن قالوا بذلك فالقاضي قد بين أن التأويل يكون لدلالة نص آخر على خلاف ظاهر النص المؤول والخطابي قد ذكر أن التأويل يكون لدلالة أو ضرورة ومعنى الضرورة أن العلم بالضرورة نفي الظاهر وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن العموم ونحوه من الظواهر إذا علم بالحس أو الضرورة أنه انتفاءُ ظاهرها ففي تسمية ذلك تخصيصًا وصرفًا ونزاع بين الناس لأن ذلك يجري مجرى القرائن المتصلة وهؤلاء المثبتون للصفات التي يسمونها الصفات الخبرية

كاليد والوجه بينهم نزاع في أصلين أحدهما فيما ثبت من ذلك هل هو ما جاء به القرآن أو ما يوافقه من الأخبار أو ما جاء به القرآن والأخبار المتواترة أو ما جاءت به الأخبار الصحيحة أيضًا أو ما جاءت به الأخبار الحسان أو ما جاءت به الآثار ويعنون بإثباتها أنه ليس القول بها ممتنعًا على نزاع لهم في ذلك والأصل الثاني هل إثبات معاني هذه النصوص على الوجه الذي ذكره الخطابي وهو الذي يقوله ابن كلاب والأشعري وكثير من طوائف أتباع الأئمة ويقوله القاضي أبو يعلى وغيره في كثير من الأحاديث أو أكثرها أو على وجوه أخرى لهم في ذلك أيضًا نزاع وليس هذا موضع تفصيل مقالاتهم ولكن نبهنا على أصله

فصل: في تأويل الرازي لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسجد لينزوي من النخامة ... "

فصل قال الرازي السادس قال صلى الله عليه وسلم إن المسجد لينزوي من النخامة كما ينزوي الجلد من النار

ولابد من التأويل

فصل: في تأويل الرازي لقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن"

فصل قال الرازي السابع قال صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وهذا لابد فيه من التأويل لأنَّا نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا إصبعان بينهما قلوبنا قلت هذا الحديث في الصحيح والكلام عليه من وجوه أحدها أنه ليس ظاهر هذا الحديث أن أصابع الرب في صدور العباد إنما أخبر أن قلوبهم بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء لم يقل إن الأصابع في صدورهم ولا قال إن قلوبهم معلقة بالأصبع أو متصلة بها بل قال إنها بين أصبعين وكون أن الشيء بين شيئين ليس ظاهره أنه مماس لهما كما في قوله عن الجنة والنار وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف 46] وكما في قوله تعالى يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف 38]

الوجه الثاني أنه لو فرض أنه أخبر عن شيء من الغيب بأنه في قلوب العباد لم يكن ما ذكر من الضرورة مانعة من ذلك لأن الضرورة تمنع أن تكون الأشياء التي نشاهدها في قلوبنا ونحن لا نشاهد كذلك أما إذا أخبرنا بأن الملائكة تنزل على قلوبنا أو الشياطين تنزل أو أن على أفواهنا ملائكة تكتب كلامًا ونحو ذلك من الأمور الغائبة التي ليست من جنس المشاهدات لنا فإذا أخبرنا بوجودها لم نعلم بالضرورة انتفاء ذلك فقول القائل نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا أصبعان بينهما قلوبنا يقال له المعلوم بالضرورة أن الأصابع التي شهدناها مثل أصابع الآدميين ليست في صدورنا أما لو أخْبِرنا أن أصابع الملائكة أو الجن في صدورنا لم نعلم انتفاء ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مولود إلاّ يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه

إلا مريم وابنها ثم قرأ أبو هريرة وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) [آل عمران 36] وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال إن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد يضرب

مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد مع أنا لا نشهد هذا المس لجسم المولود ولا هذا المبيت على الخياشيم ولا العقد ولا نحو ذلك وظهر أن هذا الحديث لو كان ما ادعاه لم يكن ذلك معلوم الانتفاء بما ادعاه من الضرورة الوجه الثالث إنَّ سنبين فساد ما ذكروه من التأويل في

ذلك وإبطال السلف له

فصل: في تأويل الرازي للعندية بالرحمة

فصل قال الرازي الثامن قال صلى الله عليه وسلم حكايةً عن الله أنا عند المنكسرة قلوبهم وليست هذه العندية إلا بالرحمة وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى في صفة الأولياء فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ومن المعلوم بالضرورة أن القوة الباصرة التي بها يرى الأشياء ليست هي الله تعالى

الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله "أنا عند المنكسرة قلوبهم"

والكلام على هذا من وجوه أما قوله أنا عند المنكسرة قلوبهم فهذا قد روي في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عمران القصير أن موسى عليه السلام قال يا رب أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقترب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى عبدي مرضت فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده عبدي جعت فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي

ظاهر الحديث لا يفهم منه نزول الله تعالى من فوق العرش

فلانًا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ففي هذا الحديث ثبت هذا القول وهو قوله فلو عدته لوجدتني عنده لكن لفظ المنقول أن الله يوجد عند بعض المرضى وعند المنكسرة قلوبهم لم يقل أنا عند المنكسرة قلوبهم بل قال لوجدتني هناك وأين أجدك قال هناك والكلام عليه من وجوه أحدها أنه ليس هذا ظاهر هذا الحديث أن الله نزل من فوق العرش وانتقل إلى عند هؤلاء ولا ظاهره أن جميع الوجود خال عن الله إلا هذا الظرف الخاص ولا يفهم من إطلاق هذا الحديث هذا المعنى بل هذا المعنى المعلوم فساده بالضرورة والحس يَعْلَمُ أنه ليس ظاهر الحديث كل من يعلم هذا فلو كان ظاهر اللفظ في اللغة لو تجرد هذا لدل على ذلك المعنى الفاسد لكان مع اقترانه بهذا العلم الظاهر الحسي الضروري تسمية ذلك المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ نزاعًا وكذلك في تسمية مثل ذلك لفظًا ومن منع ذلك قال هذه

القرينة الظاهرة للمخاطبين المعلومة بالبديهة والحس العام هي من القرائن المتصلة بالخطاب وهي أبلغ من القرائن اللفظية المتصلة فإذا كانت القرائن اللفظية المتصلة تمنع أن يكون ظاهر الخطاب هم معناه لو عدمت الصلات اللفظية فهذا كذلك وأولى ومن المعلوم أن الخطاب الذي اتصل به استثناء أو شرط أو صفة ليس ظاهره ما يدل عليه بدون ذلك الاستثناء والشرط والصفة فكذلك هذه القرينة فإن دلالة الخطاب لابد فيها من علم المخاطَب بالمخاطِب وحاله وباللغة التي يخاطبه بها وإذا كان كذلك كان هذا العلم هو

الظروف يتنوع تعلقها بمعاني الأسماء والأفعال

الدال على مدلول الخطاب فظاهر الخطاب ما يظهر بهذا العلم الوجه الثاني أن الألفاظ التي يسميها النحاة ظروفًا يتنوع تعلقها بمعاني الأسماء والأفعال التي يسميها النحاة مظروفة بحسب حقائق تلك المظروفات وهذا الموضع من لم يهتد لهذا التنوع فيه وإلاَّ ضل كما ضل كثير من الناس حتى وجدوا ما يسميه أهل اللغة ظروفًا وأوعية من شأنه ألا يكون هو المظروف الموعى فيه كالمائعات في الآنية وكالجامدات فيما يحيط بها من الملابس والمساكن وغير ذلك ورأوا النحاةَ يسمون ألفاظًا ظروفًا فاعتقدوا أن معنى هذه في اللغة أن تكون محيطة بالمظروف حاوية له كما يحيط ظرف اللبن والخمر والماء بذلك ويقول أحدهم في للظرفية فالظرف يكون حاويًا للمظروف وهذا غلط فإن العرب لم يقولوا في للظرفية حتى يجعل معنى أحد اللفظين في كلامهم هو معنى الآخر لأن الأصل عدم الاشتراك بل نطقوا بهذه

الأدوات في مواضعها مستوفين لتعلقها بما تعلقت به بحسب تلك الحقائق وإن كان يكون بين تلك المعاني قدر مشترك لكن ذلك القدر المشترك مطلق لا وجود له في الخارج بل الذهن يجرده إذ هم لم يتكلموا بهذه الأدوات مطلقة قط ثم إن النحاة رأوا ذلك المعنى المشترك فيه نوع مشابهة لما تسميه العرب من الأجسام ظرفًا فسموه ظرفًا حقيقة عرفية خاصة اصطلاحية ليست هي اللغة التي تكلم بها العرب وجاء بها القرآن والحديث وهكذا سائر اصطلاحهم مثل الفاعل والمفعول والحال والصفة والتمييز والمعرب والمبني والمبتدأ والخبر ونحو ذلك فإن العرب لا تفرق بين الجملة الإسمية والفعلية في تسمية كل منهما خبرًا صادقًا أو كاذبًا ولا يسمى المفرد الذي لا يستقل بالإفادة خبرًا فتسمية المفرد الذي هو أحد ركني الجملة خبرًا وتخصيص ذلك بالجملة الإسمية دون الفعلية بل تخصيص ذلك بالجزء الثاني منها دون الأول هذا لفظ النحاة واصطلاحهم وإن كان بينه

وبين اللغة الأصلية نوع تعلق يجعله بالنسبة إليه مجازاً كما سمع بعض الأعراب قومًا من النحاة يتحدثون باصطلاحهم فقال قوم يتكلمون في كلامنا بغير كلامنا ليصلحوا به كلامنا وكذلك اسم الفاعل هو الاسم الذي اسند إليه الفعل ونحوه متقدمًا عليه مثل قام زيد وأقام زيد ونحو ذلك ولا يسمون الاسم الظاهر في قولك زيد قائم فاعلاً بل مبتدأ ومن المعلوم أن لفظ الفاعل ليس لمسماه في اللغة لفظ ولا يختص إذا جعل اسمًا لاسم الفاعل عن قديم أو آخر بل هذا اصطلاح احتاجوا إليه لبيان قوانين اللغة العربية في نحوها وتصريفها وهو من أنفع الأشياء في معرفة الأدلة السمعية واللغة العربية لكن ينبغي أن يعرف اصطلاح اللغات ليحمل كلام كل متكلم على لغته وعادته ومثال ذلك في الأدوات التي يسميها النحاة ظروفًا أنهم يقولون رأيت فلانًا في داره ويقولون رأيت فلانًا في المرآة أو الماء ويقولون رأيت فلانًا في المنام فلفظ في التي يسميها النحاة ظرف مكان موجود في المواضع الثلاثة مع العلم بأنه ليس المعنى الظاهر ولا حقيقة اللفظ في قولهم في البيت مثل قولهم في المرآة

ولا مثل قولهم في المنام وكل من الألفاظ الثلاثة حقيقة في معناه وقوله رأيته في المرآة حقيقة ومعنى ظاهر لا مجاز ولا خلاف الظاهر وكذلك قوله رأيته في المنام معناه ظاهر وهو أيضًا حقيقة هذا اللفظ مع العلم بأن ظاهر اللفظ الأول أن ذاته قد كانت في داره وليس ظاهر اللفظين الآخرين أن ذاته كانت في المرآة ولا في نفس الرائي ومع العلم بأن كونه مرئيًّا في المرآة ووجوده في المرآة ليس مساويًا لكونه مرئيًّا في المنام ولا لوجوده في نفس الرائي وذلك لاختلاف حقائق المَحَال وتعلق الحال بها التي هي معاني اللفظ لظرف فليس الدار كالمرآة ولا المرآة كنفس الرائي ولا وجود زيد في الدار كوجوده في المرآة أو في نفس الرائي إذا عرف هذا فلفظ عند هي من الألفاظ التي يسميها النحاة ظرف مكان فتتنوع دلالتها بتنوع معنى الاسم أو الفعل الذي يسمونه مظروفًا ويتنوع أيضًا بتنوع ما يضاف

إليه من الظرف وهي في نفسها اسم ليست حرفًا بخلاف في فإنها حرف وإذا كان كذلك فهم يقولون ويستعملون ذلك في بعض الأعيان القائمة بنفسها كقولهم فلان أو المال عند فلان كما في مثل قوله تعالى وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) [الصافات 48] وقوله أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) [الطور 37] ومن هذا قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) [القمر 54-55] وقوله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) [الأعراف 206] وقوله وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) [الأنبياء 19] وقوله فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) [فصلت 38] وقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف 42] أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ [النجم 35] ويستعملون ذلك أيضًا فيما يقوم بغيره من الصفات والأفعال كقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف 42] وقوله أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) [النجم 35] وقوله أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) [الطور 41] ومعلوم أن الذي عنده هو قائم بنفسه وكذلك الذكر

الذي عند الملك قائم بالذاكر وهذه الألفاظ على ظاهرها وهي حقيقة كالأولى بل النحاة يقولون إن الظرف لا يتعلق في نفس الأمر إلا بفعل مذكور أو محذوف فإذا علق بالأعيان أو الصفات في خبر المبتدأ أو الصفة أو الحال كان العامل فيه فعلاً عامًا أو اسم فاعل عام فإذا قيل زيد في البيت كان التقدير استقر أو مستقر في البيت أو كان أو حصل أو وجد أو كائن أو حاصل ونحو ذلك ويقولون إن ذكر عامل الظرف في خبر المبتدأ شريعة منسوخة ومحققوهم يقولون لم يكن هذا شريعة قط فإن الناطقين باللغة لم ينطقوا بهذا قط وإنما هو موجب بالقياس لكن عدل عن ذكره لوضوح المعنى بدونه وعدم الحاجة إليه فإن مقصودهم بذلك طرد القياس في أن الظرف إنما ينتصب بفعل مذكور أو مقدر ومن الناس من تنازع في ذلك وفي هذا من البحوث ما ليس هذا موضعه ويقولون أيضًا فلان عند فلان عالم أو عدل أو مسلم وهذا عنده جائز أو محرم وهذا عنده محبوب أو مكروه وعظيم أو حقير ونحو ذلك ومنه قوله تعالى عن

جبريل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) [التكوير 19-21] وقوله وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) [ص 47] وهذا نظير كون العلم عند العالم فإن الذي عنده من قبل ما في نفسه من الاعتقاد والإرادة وما يتبع ذلك فإذا اعتقد أنه عالم أو عدل كان عند محبته وتعظيمه وكذلك بالعكس ومعلوم أن ذلك إنما صار ظرفًا لفظيًّا لأن المعلوم المحبوب والمعظم لابد أن ترتسم صورته في النفس فيقال فلان عالم عندي فيجعل الظرف ظرفًا للجملة وهي الاسمان والمعنى ظاهر معروف أن المظروف إنما هو اعتقاد علمه لا نفس ذاته ولا نفس علمه وذلك

لأن الخبر بقوله عالم أفاد ثبوت علمه بذكر الظرف بعد ذلك أي هذا الثبوت وهذه النسبة التي دل عليها اللفظ هي عندي في نفسي وأما كونها في الخارج فذلك مقام آخر وكذلك إذا قيل إنه محبوب أو معظم عندي فإن التقييد بالظرف دل على أن هذه المحبة وهذه العظمة في نفسه فإذا كان معنى الجملة يقوم بالنفس وذلك مسبوق بقيام مفرديها فمعنى المفرد أيضًا يقوم بالنفس فيقال فلان لا يزال عندي أي في نفسي فهو مثاله وصورته العلمية ويحصل الفرق بين كون المظروف ذاته في الخارج أو المظروف صورته علمًا وحبًّا ونحو ذلك في النفس بحسب الظرف والمظروف فإذا كان الخطاب عن ميت أو غائب مثل أن يقول القائل إذا اجتمع بمن كان غائباً عنه والله ما زلت عندنا كان ظاهر هذا اللفظ ما زلنا نستحضرك بقلوبنا ونذكرك بألسنتنا ونحو ذلك وقد يقال في مثل ذلك ما زلت معنا إذا كانوا

مستحضرين له ذاكرين له وإن لم يشعر هو بذلك ويقال فلان ما عنده إلا الله ورسوله ثم من المعلوم أن العلم والذكر والمحبة والتعظيم قد يكون من الطرفين فمن كان زيد عنده معلوماً مذكورًا محبوبًا معظمًا فإنه قد يكون عند زيد كذلك وهذا ثابت في حق الله تعالى كما جاء في الأثر إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله في قلبه فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه وقد قال تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وقال لايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه لأن النوافل

القرب من الله تعالى على ثلاث درجات

محاب الحق تعالى فإذا كان الله تعالى محبوبًا معظمًا مذكورًا عند عبده وكان العبد متقربًا إليه كان العبد محبوبًا معظمًا مذكورًا عند الرب متقربًا إليه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من أعظم ما يكون العبد متقربًا إلى ربه إذا ذل له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وربه في هذه الحال عنده في قلبه في غاية الإجلال والإكرام وقد تقرب إلى ربه بنهاية تقربه فربه أيضًا يتقرب إليه ويجله ويكرمه فمن انكسر قلبه لله فإنه متواضع خاشع لله سواء كان هو قد شهد من عظمة الحق ما أوجب انكسار قلبه أو كان أعداء الله قد آذوه وكسروا قلبه لأجل عبادته وطاعته لله فالأول كالمصلي والثاني كالمجاهد فهذا يكون متقربًا إلى الله تعالى بغاية التقرب فيتقرب الله إليه أيضًا كذلك فيكون الله عنده في قلبه وهذا على ثلاث درجات

أما الدرجة الأولى فهو وجود الرب عنده في قلبه معلومًا معبودًا محبوبًا معظمًا وهذا مما لا ينازع فيه الثانية صعود قلبه إلى الله وعروجه إليه ودنوه منه بحيث يقرب نفس الظرف إلى المظروف حتى يحصل من كون الله نفسه عنده ما ليس لغيره وهذا متفق عليه بين أهل الإثبات والجهمية تنازع فيه ويلزم من قربه هو من الله ودنوه منه قرب الرب منه ودنوه منه فإن ما قربت إليه فقد قرب إليك بالضرورة الثالثة أن يكون الرب نفسه تقرب إليه تقرب من نفسه ودنو من نفسه غير ما جعله فيه من التقرب فهذا أيضًا ثابت عند كثير من أهل الإثبات أو أكثرهم ومنهم من

ينازع فيه وهذا مبسوط في مسألة القرب وعلى هذا التقدير فإن الرب نفسه يكون عند عبده خارجًا عما في نفس العبد وقد قال من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وقال أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقرب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت وهو يخرج على القولين فالأولون يقولون إن الرب يتقرب إلى عبده بنفسه غير ما يوفق العبد له من تقربه إلى ربه وهؤلاء يقولون بل هو إذا تقرب إلى ربه أثابه بما يوفقه له

من تقرب آخر يكون الرب متقربًا إليه أكثر مما يقرب إليه وهؤلاء يمنعون أن يكون الله موصوفًا بذاته بحركة أو تقرب أو نحو ذلك والأولون لا يمنعون ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية وغير ذلك والمقصود هنا أن قوله لو عدته لوجدتني عنده وقوله أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقرب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت ليس ظاهره أن ذات الله تكون موجودة في المكان الذي يكون ذلك فيه بل يكون الله موجودًا عنده أي في نفسه إذ هذه العندية أقرب إليه من تلك العندية فإن الظرف المتصل بالإنسان أقرب إليه من الظرف المنفصل عنه فحمل الكلام عليه أولى وإذا كان الظرف هو نفسه فقوله وجدتني عنده كقوله وجدتني في قلبه ووجدتني في نفسه ووجدتني حاضرًا في قلبه ووجدتني ثابتًا في قلبه ونحو ذلك من العبارات

جواب المؤلف عن تأويل الرازي لحديث "كنت سمعه الذي يسمع به"

ومعلوم أن هذا الخطاب حق على ظاهره كما تقدم من ثبوت تعلقات الظرف بالمظروف وإن ذلك ليس بمنزلة قوله كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] بل باقتران ما أضيف إليه الظرف في الموضعين اقترن تعلقه بالمظروف كما لو قيل لبعض الصحابة وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أحد وقال الآخر وجدت رسول الله عند المتبعين لسنته لاسيما وقد علم المخاطب أنه يمتنع أن يشاهد الموجود عند غيره فقد علم المخاطب بقوله لو عدته لوجدتني عنده وعلم موسى بن عمران أنهم لا يشهدون الله عيانًا في الدنيا فلا يظهر لهم من قوله لوجدتني عند عبدي المريض وعند المنكسرة قلوبهم من أجلي إلاَّ ما هو المناسب اللائق بهذا المضاف إليه دون المضاف إلى غيره وأما قوله صلى الله عليه وسلم كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به فلو ذكر الحديث بألفاظه لعلم أن معناه ظاهر لا يحتاج

إلى تأويل فإنه قال من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبس يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة فقوله من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة تصريح منه بالفرق والجمع حيث جعل معاداة وليه معاداة له ولم يجعل نفسه ذات وليه ثم قال وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه فقد بين وأظهر أن المتقرب إليه عبده والمتقرب ليس المتقرب إليه

وقال لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وهذا كله إظهار وبيان لأن الله تعالى ليس هو عين العبد وأعضائه وقواه ثم قال فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه فقد بين واظهر بعد قوله كنت سمعه وبصره وقوله فبي يسمع وبي يبصر أنه لئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ومن المعلوم أن هذا صريه في أن السائل المستعيذ ليس هو المستعاذ به ثم قال وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نقس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته وهذا تصريح بأنه عبده ليس الرب جزءاً منه ولا صفة له وأنه يقبض ويموت ومعلوم أن الله حي لا يموت فضلاً عن أن يكون بعضًا أو صفة لمن يموت فإنه لو كان ظاهره أن الله نفسه هو عين العبد وسمعه ويده ورجله لكانت هذه الأعضاء تموت بموت الجملة

وهذا كله يبين أنه ليس ظاهر الحديث أن الله هو القوة الباصرة بل ظاهره ما ظهر منه وما بينه الرسول الذي هو من أحسن الألفاظ وأحسنها بيانًا وإظهارًا إذ لا يكون أحد غير الرسول أحسن بيانًا وإظهاراً لما يخبره به عن ربه من الرسول وقد نزهه الله أن يكون ظاهر كلامه كفرًا وضلالاً وإفكًا ومحالاً ولا يكون هو قد جعل هذا الظاهر غير ظاهر وقذف بالحق على الباطل حتى يظهر الحق ويخفى الباطل كيف وقد تكفل الرب بإظهار دينه على الدين كله بظهور العلم والحجة وظهور القدرة والنصرة وأخبر أنه أرسله بالهدى ودين الحق فكيف يكون كلامه مضلاًّ إذا كان ظاهره الضلال ولم يبين ذلك

فصل: في الرد على الرازي نفيه وإنكاره صفتي العظمة والكبرياء

فصل قال الرازي الوجه التاسع قال صلى الله عليه وسلم الكبرياء ردائي والعظمة إزاري والعاقل لا يثبت لله تعالى إزارًا ورداء فيقال هذا الحديث في الصحيح رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدًا منهما عذبته وقد ورد أيضًا سبحان من تقمص بالعز ولاق

به وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزارًا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس مما يصنع من جلود الأنعام والثياب كالقطن والكتان بل الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد فإنه لو قال عن بعض العباد إن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما على ظهور الأنعام ولا من جنس الثياب ما يبين ويظهر أنه ليس المعنى أن العظمة والكبرياء هما إزار ورداء بهذا المعنى فإذا كان المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق بذلك لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك ويبين المعنى الحق فكيف يدعي أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى الذي يعلم كل مخاطب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عنه بلبس الأكسية وثياب القطن والكتان التي يحتاج إليها لدفع الحر وابرد وستر العورة وهذا أقبح ممن يزعم أن قوله إن خالدًا

سيق من سيوف الله سلًَّه الله على المشركين أن ظاهره أن خالدًا من حديد وأقبح ممن يزعم أن قوله عن الفرس إن وجدناه لبحرًا ظاهره أن الفرس ماء كثير ونظائر هذا كثيرة وإذا كان هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر الحديث بل نص الحديث الذي هو أبلغ من مجرد الظاهر ينافيه كان ما ذكره باطلاً يبقى أن يقال فالتعبير عن هاتين الصفتين بإضافة الرداء والإزار إليه فهذا لا يحتاج إليه في رد ما قال لكن فيه زيادة الفائدة وقد قال الخطابي وغيره إن المعنى أني مختص بهاتين الصفتين كاختصاص المؤتزر المرتدي بإزاره وردائه فلا يصلح أن أنازع فيهما وهذا كلام مجمل وبسط ذلك يحتاج إلى أن يعرف أن جنس اللباس في كل ما يضاف بحبسه فبنو آدم يذكر لهم

اللباس الذي على أبدانهم الذي يقيهم الحر والبرد والسلاح ويستر عوراتهم وهو المذكور في قوله تعالى قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف 26] ثم الصفات التي تقوم بالإنسان التي هي لباس له بها يكون من المتقين كما قال وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف 26] وليس قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى مما يقال فيه أنه خلاف الظاهر فيحتاج إلى تأويل فإنه لم يجرد لفظ اللباس بل أضافه إلى التقوى وهذا قد يعم اللباس الظاهر الذي يتقى به والأخلاق والأعمال الصالحة ولهذا تجعل هذه الصفات ظرفًا للموصوف كما قد يجعل هو محلا لها فيقال فلان في علمه وحكمه وصدقه وعدله من خيار الناس ولباس الإنسان منه ما لا يصلح مشاركة غيره فيه كالإزار والرداء والسراويل ونحو ذلك بل مشاركة الإنسان فيه

يوجب له من النقص والضرر ما يدعوه على أن يمنع طالب الشركة في ذلك والكبرياء والعظمة لا تصلح إلا لله رب العالمين الرب الخالق الباري الغني الصمد القيوم دون العبد المخلوق الفقير المحتاج والكبرياء فوق العظمة كما جعل ذلك رداء وهذا إزارًا ولهذا كان المشروع في العبادات الله أكبر دون الله أعظم وذلك في الصلاة والأذان والأعياد والمناسك وعلى الأشراف حتى لو قال المؤذن الله أعظم أو الله الكبير أو الله الأكبر لكان قد بدل شريعة الإسلام عند جميع المسلمين وكان ذلك مما ينكره المسلمون كلهم وكذلك إمام الصلاة لو جعل يقول الله أعظم بدل الله أكبر أو قال الله الكبير أو قال الله الأكبر لكان المسلمون يتبادرون إلى إنكار ذلك ومن جوز من الفقهاء ذلك فهو قول يقوله فلو ظهر ذلك إلى

العمل وشاع بين المسلمين كان هو من أعظم الناس إنكارًا لذلك لكن بين تقدير العمل وبين وقوعه في الخارج فروق عظيمة وهما مع أنهما لا يصلحان إلا لله فيمتنع وجود ذاته بدونهما بحيث لو قدر عدم ذلك للزم تقدير المحذور الممتنع من النقص والعيب في ذات الله فكان وجودهما من لوازم ذاته وكمالها التي لا ينبغي أن تعرى الذات وتجرد عنها كما أن العبد لو تجرد عن اللباس لحصل له من النقص والعيب بحسب حاله ما يوجب أن يحصل له لباسًا وأيضًا فاللباس يحجب الغير عن المشاهدة لبواطن اللابس وملامستها وكبرياء الله وعظمته تمنع العباد من إدراك البصر له ونحو ذلك كما في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنات الفردوس أربع

ثنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وثنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فهذا الرداء الحاجب الذي قد يكشفه لهم فينظرون إليه سماه

رداء الكبرياء فكيف ما يمنع من إدراكه وإحاطته أليس هو أحق بأن يكون من صفة الكبرياء

فصل: في رد المؤلف على الرازي تأويله قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لها لسانا يقدس الله عند العرش"

فصل قال الرازي العاشر قال صلى الله عليه وسلم لأبي ابن كعب يا أبا المنذر أية آية في كتاب الله تعالى أعظم قال فتردد فيه مرتين ثم قال في الثالثة آية الكرسي فضرب بيده صلى الله عليه وسلم على صدره قال أصبت والذي نفسي بيده إن لها لسانًا يقدس الله عند العرش ولابد فيه من التأويل قال فثبت بكل ما ذكرناه أن المصير إلى التأويل أمر

الوجه الأول: بيان لفظ الحديث ورواياته

لابد منه لكل عاقل وعند هذا قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أن الله منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحًا لئلا يكون ذلك سببًا للطعن فيها فهذا تمام القول في المقدمة وبالله التوفيق والكلام على هذا من وجوه أحدها أن لفظ الحديث الذي ذكر عن أبي رضي الله عنه على ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن رباح عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله أعظم قال قلت اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم

يا أبا المنذر وهكذا رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده زاد أبو مسعود الدمشقي صاحب أطراف البخاري ومسلم والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش لكن هذه الزيادة ليست موجودة فيما بأيدي الناس من صحيح مسلم

لكن رواها الإمام أحمد عن أبي بكر بن أبي شيبة ورواها ابن أبي شيبة في مصنفه ذكر هذا عبد الحق في الجمع بين الصحيحين

والقول في ذلك كالقول فيما تقدم من مجيء القرآن والأعمال الصالحة كما تقدم بيانه ونظير ذلك ما ورد من أن للكلم الطيب حول العرش دويًّا كما ورد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إن لها دويًّا حول العرش تذكر بصاحبها وما يشبه هذا ما روي عن عبد الله بن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد

أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال الترمذي حديث حسن فمعلوم أنه ليس المعنى الظاهر من هذا الباب أن نفس العمل أو القول الذي يقوم بالقائل والقائل هو نفس شجر الجنة ولكن يظهر منه أن هذا الكلام يصير منه شجر في الجنة فيغرسه الله غراسًا في الجنة كلما تكلم العبد بهذه الكلمات غرس له غراس هذا هو المعنى الذي يظهر منه سواء كان الله تعالى يصور نفس هذا العمل ذلك الغراس كما يصور

الوجه الثاني: بطلان ادعاء الرازي وجوب التأويل

من الحب ونوى شجرًا ومن المني حيوانًا أو كان بذلك العمل يخلق شجرًا وإن لم يكن من نفسه الوجه الثاني قوله فثبت بكل ما ذكرنا أن المصير إلى التأويل أمر لابد منه لكل عاقل يقال قد ذكر تسعة عشر وجهًا على عدد خزنة جهنم وليس فيها ما يوجب التأويل الذي يدعي نظيره وهو وجوب صرف الخطاب عن معناه الذي يظهر للمستمعين إلى ما ينافي ذلك الوجه الثالث أن التأويل الذي هو صرف الخطاب عن ظاهره الذي يظهر للمخاطبين إلى خلاف ظاهره لدليل شرعي يبين ذلك قد لا ينازعونه فيه فإن كلام الله وكلام رسوله

الوجه الرابع: اعتماد الرازي لتأويله على النظريات العقلية

يبين بعضه بعضًا وإنما ينازعونه في وجوب هذا الصرف لما يعتقد الإنسان من معقوله وهذا لم يذكر له حجة وما يعرف معناه ببديهة العقل والحس أن المتكلم لم يقصده ليس هو من هذا الباب في أحد القولين كما تقدم وهذا المؤسس قد قرر ضد ذلك فإنه قرر كما سيأتي حكايته وجوب صرف الكتاب والسنة لما سماه أدلة عقلية وقرر أنه لا يجب صرف ذلك لدليل من الكتاب والسنة فكان الذي قرره نقيض ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها وهو مخالف أيضًا لما عليه أكثر المتكلمين وأكثر الجهمية فإنهم يوجبون التأويل لمعارضة الدليل الشرعي الواضح أيضًا وسنتكلم إن شاء الله على ما قاله الوجه الرابع أن يقال سلَّمنا أنه يجب التأويل عند مخالفة الحس والعقليات الضرورية كما يخص العموم بذلك عند من يسمي ذلك تخصيصًا في مثل قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 23] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف 25] ونحو

ذلك فلٍمَ قلت إنه يجوز أو يجب التأويل عند مخالفة النظريات العقلية والفرق بينهما من وجوه أحدها أن ما يعلم بالحس والبديهة يكون علمه حاصلاً عند المستمعين وبيانه مقارنًا لخطاب المتكلم أو سابقًا عليه أو لاحقًا له قريبًا ومعلوم أن الخطاب لا يكون إلاَّ لمن معه من العلم ما يدله على معنى الخطاب بحيث يكون عالمًا بالمتكلم ولغته وغير ذلك وإذا كان كذلك كان وجود العلوم الضرورية والحسية عند المخاطبين مما لابد منه في صحة كونهم مخاطبين فيكون ذلك من أسباب معرفتهم بمعنى الخطاب ويكون الخطاب على هذا الوجه هدى وبيانًا وشفاء ولا يكون إضلالاً ولا تلبيسًا أما النظريات التي لا تعرف إلا بدقيق النظر وطويله ويقع فيها النزاع فإذا خوطبوا بما ظاهره الكفر والضلال ولم يتبين لهم المعنى المراد ولا يعرفونه إلا بمثل هذه الوجوه إن عرفوه كان هذا إضلالاً وتلبيسًا بل كان عدم الخطاب أنفع وأهدى لهم إذ كانوا بدون الخطاب يعرفون الحق بهذه النظريات من غير معارض وإذا خوطبوا بما يعارض هذه العلوم

الوجه الخامس: التأويل السائغ

كان قد أظهر لهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والأمر باعتقاد الباطل من غير بيان الوجه الثاني أن العلوم الحسية والبديهية تكون مقارنة للخطاب فتمنع عن فهم الباطل ابتداء بخلاف هذه النظريات الوجه الثالث أن مثل هذه العلوم لا يقع فيها نزاع واختلاف فلا يفضي ذلك إلى ما نهوا عنه من التفرق والاختلاف بخلاف النظريات الدقيقة المشتبهة الوجه الخامس أن يقال لا خلاف بين المسلمين بل بين العقلاء أن التأويل حيث ساغ سواء كان في كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام غير الله ورسوله إنما فائدته الاستدلال على مراد المتكلم ومقصوده ليس التأويل السائغ أن ينشئ الإنسان معاني لذلك اللفظ أو يحمله على معاني سائغة

لم يقصدها المتكلم بل هذا من أبطل الباطل وأعظمه امتناعًا وقبحًا باتفاق العقلاء وهو الذي يقع فيه هؤلاء المتأولون المحرفون كثيرًا وبذلك أشعر لفظه حيث قال فعند ذلك قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أنه تعالى منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحًا فإن قوله نضع ظاهره أنهم يضعون لها ما يمكن من المعاني الصحيحة من غير نظر منهم في أن المتكلم قصد تلك المعاني أو لم يقصدها وعلى هذا فيكون التأويل كذبًا وافتراء على المتكلم إذا قيل معنى هذا الكلام هذا فإن معنى التأويل أنه قصد وأراد به كذا وليس عند المتأول إلا أن هذا المعنى يصلح في الجملة أن يراد بهذا الكلام ولكن قد يصلح أن يريد غيره ولا يصلح أن يريد هو فمن فسر كلام الفقهاء كالشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة

بدقائق الأطباء التي يقصدها بقراط وجالينوس أو فسر كلام الأطباء بما يختص بدين المسلمين من معاني الحج والصلاة وغير ذلك لكون ذلك المعنى يصلح لذلك اللفظ في الجملة كان مع كونه من أكذب الناس وأعظمهم افتراء من أبعد الناس عن العقل والدين وأشدهم إفسادًا للعلوم والمخاطبات فهكذا من نظر إلى ما يحتمله اللفظ من المعاني مما يصلح

أن يريده من ينشئ الخطاب بذلك اللفظ ففسر كلام الله وكلام رسوله به كان في إفكه وضلاله بل في كفره ونفاقه أعظم من أولئك لأن الفرق بين كلام الله ورسوله وما يقصده الله ورسوله بالخطاب من معاني أسمائه وصفاته وبين الأعراب ونحوهم وما يقصدونه في خطابهم من وصف الإبل والشاء والمنازل والمياه والقبائل أعظم من الفرق بين كلام الفقهاء وكلام الأطباء وبهذا تبين أن ما يذكره طائفة من الناس مثل هذا المؤسس وأمثاله في أصول الفقه أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين كان لمن بعدهم إحداث تأويل آخر بخلاف الأحكام قول باطل فإن تأويل الأمة للقرآن والحديث هو إخبارهم بأن هذا هو مراد الله تعالى منه قطعاً أو ظاهرًا فاتفاقهم في ذلك على قول أو قولين هو كاتفاقهم في الأحكام على قول أو قولين ولو قدر أنه أريد بالتأويل تجويز الإرادة مثل أن تقول طائفة يجوز أن يكون هذا هو المراد وتقول طائفة أخرى يجوز أن يكون هذا هو المراد كانوا متفقين على

الوجه السادس: أهل التأويل يرد بعضهم على بعض

أنهم لم يعلموا لله مرادًا غير ذينك الوجهين فلا يجوز أن يكون من بعدهم هو العالم بمراد الله تعالى دونهم ولهذا كانت هذه المعاني التي يفسرون بها كملام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويتأولونها عليها يعلم في كثير منها أو أكثرها بالضرورة أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يريدا تلك المعاني أكثر مما يعلم بالضرورة انتفاء ما ذكره من خلاف بعض الظواهر وحينئذ فينقلب ما ذكره من الدليل عليه أعظم انقلاب بأن يقال في الوجه السادس أنه لا خلاف بين جميع الطوائف أن كثيرًا من هذه التأويلات أو أكثرها باطل بل كثير من التأويلات يعلم فسادها بضرورة العقل وذلك أنه ما من طائفة من الطوائف الذين يحرفون الكلام عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته ويسمون ذلك تأويلاً من أصناف المتجهمة ونحوهم إلاَّ وهي ترد كثيرًا من تأويلات الطائفة الأخرى وتقول إنها باطلة كما أن المؤسس وأمثاله يردون تأويلات المعتزلة للآيات والأخبار التي فيها وصف الله تعالى بأن له علماً وقدرة وحياة

وسمعًا وبصرًا وأن له كلامًا قائمًا بنفسه وأنه يرى ونحو ذلك ويردون تأويل الجهمية من المعتزلة وغيرهم لعذاب القبر والصراط والميزان وغير ذلك وهم والمعتزلة يردون تأويلات الفلاسفة الصابئين للجنة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب والفلاسفة العقلاء مع سائر المتكلمين يردون تأويل القرامطة والباطنية للصلاة والزكاة والحج وغير ذلك والباطنية ترد كل طائفة منهم تأويل الآخرين فإن بينهم نزاعًا طويلاً والمعتزلة أيضًا ترد تأويل الأشعرية ونحوهم للآيات التي فيها تنزيه الله نفسه عن الظلم وفيها إثبات فعل العباد لأفعالهم فيها وإخراج الأعمال الصالحة من الإيمان ونحو ذلك

وهذا المؤسس قد اعترف بذلك في هذا الكتاب وغيره فقال في الفصل الثالث من القسم الثالث من هذا الكتاب في الطريق الذي يعرف كون الآية محكمة أو متشابهة ثم قال اعلم أن هذا موضع عظيم وذلك لأن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات الموافقة لمذهب خصمه متشابهة فالمعتزلي يقول إن قوله تعالى فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 29] محكم وقوله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] متشابه والسني يقلب القضية في هذا الباب والأمثلة كثيرة فلابد ههنا من قانون أصلي يرجع إليه في هذا الباب وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما ذكره من القانون وإذا كان العقلاء من جميع الطوائف مقرين بأنه لابد من إبطال جنس التأويل وأن فيه ما هو باطل محرم فمعلوم أن هذا ليس هو مثل ما ذكره من اتفاق الطوائف على الإقرار بأنه لابد من

التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار فإنه لم يذكر نقلاً للإجماع في شيء مما ذكره وأما هذا فهو منقول بالاتفاق لا ينكره أحد بل ما من أحد إلا وهو ينكر كثيرًا من تأويل ظواهر القرآن والأخبار التي قد يتأولها بعض الناس ويقول إنها باطلة إما بالضرورة وإما بالنظر وكل من هؤلاء المختلفين يقول إن العقل يوجب عليه التأويل الذي يزعم الآخر أنه تأويل باطل وعند هذا فيقول نفاة هذه التحريفات الحق الذي هو أحسن تفسيرًا من قول أولئك المتكلمين يقولون إذا ثبت أن هذه التأويلات منها باطل كثير باتفاق الطوائف وثبت أن الحق الذي يدعيه مدع فيها لم يتفق على أنه حق بل النزاع واقع فيه هل هو حق أو باطل وهم يقولون لا يفصل بينهم إلا العقل وكل منهم يدعي أن العقل معه وليس العقل متكلمًا ظاهرًا يفصل بينهم كان الفصل بينهم متعذرًا وكذلك النزاع بينهم واقعًا لازمًا ضرورة عدم الفصل بينهم وكان معهم باطل قطعًا ولم يعلم أن معهم حقًّا أو الحق الذي معه لا يمكن تمييزه كانت مذاهبهم من جنس مذاهب اليهود والنصارى بعد التبديل بل أولئك أجود مما يقوله هؤلاء من التأويلات وإن لم

يكونوا أجود في الجملة مما هو عليه كل طائفة من طوائف المسلمين إذ مع كل طائفة من المسلمين الذين هم مسلمون حقيقة من الحق الذي لا ريب فيه أعظم مما مع اليهود والنصارى لكن الكلام هنا في تأويلاتهم التي ينازعهم فيها أهل الإثبات فإن أهل الكتابين معهم حق مأثور عن الأنبياء بلا ريب ومعهم باطل ابتدعوه وباطل حرفوه كما مع هؤلاء الجهمية ونحوهم من المتكلمين ومع هذا فلا نزاع بين المسلمين أنه لا يجوز اتباعهم في علومهم وأنهم ضلال وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه

الوجه السابع: التأويل محرم لأنه قول بلا علم

كان هؤلاء المتكلمون بهذه التأويلات أولى أن ترد عليهم كلها ولا يقبل منها شيء إذ لم يعلم أن فيها ما هو حق فإذا كان الكلام الذي علم أن فيه حقًّا وباطلاً قد أمرنا أن لا نقبله فمثل هذا الكلام أولى أن لا نقبله وهذا بينٌ ظاهر لمن قصده إسكات هؤلاء عن التأويلات ومنعهم من التكلم بها ومنع قبولها وأما من يقصد إبطالها وبيان فسادها فإنه يقول في الوجه السابع قد أجمعت هذه الطوائف وسائر المسلمين وسائر أهل الأرض على أن في التأويلات ما هو باطل ولم يتفقوا على أن ما فيها ما هو حق كما تقدم وأن الحق الذي اتفقوا عليه قليل معروف وكل منهم يدعي أن العقل يوجب تأويله يدعي الآخر أنه باطل وأن العقل الذي يدعي أنه أوجب باطل يعلم بطلانه بالعقل أيضًا كانوا مختلفين فيما يقولون إنه العقل الذي يجب اتباعه وحينئذ فلابد من عقل يميز بين العقل الصحيح والعقل الفاسد لكن هذا العقل هو من جنس عقولهم فيكون معرفة صحيح ذلك من باطله

بما يسمونه العقل متعذرًا وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يمكن معرفة الصحيح من الفاسد فيما يسمونه عقليات مما يسمونه عقلاً وإذا لم يمكن معرفة ذلك امتنع اعتقاد موجبه أو القول به وإذا كان كذلك وهذا هو مستندهم الذي أوجبوا به تأويل النصوص فيكون هذا برهانًا قاطعًا على أن مستندهم الموجب للتأويل باطل وإذا بطل مستند التأويل بطل التأويل لأنه لولا معارضة المعقول لهذه النصوص لما كان تأويلها باطلاً بالاتفاق فثبت أن تأويلها باطل وهذا يدل على شيئين يدل على أن التأويل محرم إذ هو قول بلا علم ويدل على أنه باطل بمعنى أنه غير مطابق للحق لأن المتكلم الذي تكلم بكلام له ظاهر وله باطن يخالف الظاهر

الوجه الثامن: أن الله تعالى قد أقام الحجة على عباده

يمتنع أن يريد به إفهام المخاطبين خلاف الظاهر بلا دليل فإذا ثبت أنه لا دليل يعلم به ما يخالف الظاهر وهذا بشرط أن يكون المتكلم مقصوده البيان والإفهام وهو حكيم فأما إن كان مقصوده التدليس والتلبيس أو كان جاهلاً فلا يمتنع أن يخاطب الناس بما يفهمون منه خلاف مقصوده أو أن يدلهم بغير دليل لكن هذا متفق على انتفائه في حق الله ورسوله الوجه الثامن إذا ثبت أن ما تسمونه معقولاً يمتنع أن يفصل بينهم النزاع أو يبين لهم الحق من الباطل من هذه التأويلات والله سبحانه قد أقام الحجة على عباده وبين أنه ما كان ليضلهم حتى يبين لهم ما يتقون علم أنه لابد أن يكون ما يفصل النزاع ويبين الحق من الباطل غير هذه المستندات التي يسمونها المعقولات ولا يجوز أن يكون ذلك هو التخيلات التي يدعي بعض الناس الاختصاص بها ويسميها مكاشفات أو اتباع الأهواء التي يسمونها الذوقيات

كما يذكره طائفة من المتصوفة لأن الاختلاف والنزاع في ذلك عظيم كثير والضلال به أعظم وأكثر فتعين أن يكون الفاصل بين النزاع والحاكم بين الناس الهادي لهم إلى الرشاد هو كتاب الله كما أخبر بذلك في كتابه حيث قال كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة 213] وقال فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] وقال كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم 1] وقال إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء 9] وقال وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى 52-53] وقال تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [الزمر 1-2] وقال تعالى وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) [الأنعام 155] وذلك كثير في كتاب الله تعالى فإذا ثبت أنه لا هادي للعباد ولا فاصل بينهم في موارد

النزاع والعناد إلا كتاب الله امتنع حينئذ أن يكون له معارض يعارضه يتقدم عليه لأنه حينئذ يكون ذلك المعارض حاكمًا عليه وهاديًا دونه عند التعارض وذلك خلاف ما ثبت باتفاق العباد كما بيناه وإذا امتنع المعارض الذي يقدم عليه ثبت بطلان جميع التأويلات لأنه لبد فيها من أن يقال عارض هذه النصوص معارض يجب تقديمه عليها كما يقرره هذا المؤسس ونحوه ممن يلحد في أسماء الله وآياته ويحرف الكلم عن مواضعه وهذا الكلام له شعب ودعائم كثيرة يطول تعريفها في هذا الموضع وهو حجة قاطعة عليهم كما قال تعالى لنبيه وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) [الفرقان 33] فإن هؤلاء جاؤوا بأمثال وهي مقاييسهم العقلية التي يعارضون بها كتاب الله وقد تكفل الله أنه يأتي بالحق وأحسن تفسيرًا وهو فيما ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعله ميزانًا لأهل العلم والإيمان إلى يوم القيامة وما زال السلف والأئمة ينبهون على هذا الأصل وهو اضطراب الناس فيما يختلفون فيه ويدعي كل فريق أنه قال ذلك بالمعقول

كما قال عثمان بن سعيد الدارمي في رده على الجهمية قال في مسألة الرؤية وقال بعضهم إنا لا نقبل هذه الآثار ولا نحتج بها قلت أجل ولا كتاب الله تقبلون أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فهم يتوارثونها عن أعلام الناس وثقاتهم قرنًا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسينا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة تداولتها العلماء والفقهاء فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا يقدرون أن يأتوا فيها بخبر ولا أثر وقد علمتم إن شاء الله أنه لا تدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا بهذه الآثار

والأسانيد على ما فيها من الاختلاف هي السبب إلى ذلك والمنهج الذي درج عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم للغائب احتجاجًا واحتسابًا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كتاب الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من آثارهم واقتبسوا الهدي من سبيلهم

وارضوا بهذه الآثار إمامًا كما رضي القوم بها لأنفسهم إمامًا فلعمري ما أنتم بأعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم بل أضل وأجهل ولا يمكن الاقتداء بهم إلاَّ باتباع هذه الآثار على ما تروى فمن لم يقبلها فإنما يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين قال تعالى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) [النساء 115] فإن قال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا ها هنا ضللتم سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس بشيء واحد موصوف محدود عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نعد ولكن الله تعالى قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) [المؤمنون 53] فوجدنا المعقول عند كل حزب ما هم عليه

والمجهول عندهم ما خالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفة كل فرقة منكم تدعي أن المعقول عندها ما تدعوا إليه والمجهول ما خالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بين في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن ترد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيض بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الحائدة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ما خالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا بهذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم عنها بزعمكم فأنَّى تهدون وقال الإمام أحمد رحمه الله الحمد لله الذي جعل في

الوجه التاسع: أن كثيرا من التأويلات من أظهر الأمور فسادا

كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين الوجه التاسع أن يقال هب أنهم لم يتفقوا على اشتمال

التأويلات على أصناف الضلالات فذلك معلوم بالضرورة العقلية فيما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من التأويلات وهذا مما يتعذر عده وإحصاؤه فإنه ما زال أهل العقل والعلم إذا سمعوا كثيرًا من هذه التأويلات ورأوها في المصنفات يعلمون أنها من أظهر الأمور فسادًا في البديهي من المعقولات ولا ينقضي تعجبهم من قوم يذهبون إلى تلك التأويلات ممن له في العلم صيت مشهور وقد رأيت وسمعت من ذلك بعجائب ولكن ننبه ببعض ما ذكره هذا المؤسس وذلك بأمثلة أحدها قوله في تأويل قوله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] الوجه الثاني إن الرب هو المربي فلعل ملكًا عظيمًا هو أعظم الملائكة كان مربيًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وكان هو المراد من قوله وَجَاءَ رَبُّكَ فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل إيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله وعلى كلامه وأن الله لم يجعل لمحمد

قط ربًّا غير الله وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام 164] وقد قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام 112-115] وأيضًا فقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام 158] وقال وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] والملك اسم جنس ففصل بين ربه وبين الملائكة والملائكة تعم جميع الملائكة كما قال في الآية التالية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] ففصل بين اسم الله وبين الملائكة وهناك سمى نفسه الله وهنا سمى نفسه ربك فإذا جعل الجاعل رب محمد بعض الملائكة فهذا مع أنه من أعظم الإلحاد في أسماء الله وآياته أليس يعلم كل مسلم بل كل عاقل أنه معلوم الفساد بالضرورة وأن الله ورسوله لم يرد

بهذا الخطاب ذلك وهل هذا التأويل إلاَّ من جنس تأويل غلاة القرامطة في قوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) أنه علي ابن أبي طالب بل ذلك التأويل أقرب لأن غايته أن يجعل علي بن أبي طالب من جنس المسيح ابن مريم وهذا مذهب مع كونه من أعظم الكفر والضلال فعليه أمة عظيمة من بني آدم وهم النصارى ومن اتبعهم على الحلول والاتحاد ودلالة لفظ العلي على علي بن أبي طالب أظهر من دلالة قوله وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] على أن ربه ملك من الملائكة وإذا جاز تسمية بعض الملائكة رب محمد لأنه رباه مع العلم بأن أحدًا من الملائكة لم يرب محمدًا فتسمية علي العلي العظيم لماله من علو القدر والعظمة أقرب المثال الثاني قوله في تأويل قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ

يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) [البقرة 210] الوجه الخامس وهو أقوى من كل ما سبق أنا ذكرنا في التفسير الكبير قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة 208] إنما نزل في حق اليهود وعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة 209] خطاباً مع اليهود فيكون قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] حكاية عنهم والمعنى أنهم لا يقبلون دينكم إلا لأنهم

ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ومما يدل على أن المراد ذلك أنهم فعلوا ذلك مع موسى عليه السلام فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] وإذا ثبت أن هذه الآية حكاية عن حال اليهود وعن اعتقادهم لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها وذلك لأن اليهود كانوا على دين التشبيه وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى وكانوا يقولون إنه تعالى تجلى لموسى على الطور في ظلل من الغمام فظنوا مثل ذلاك في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن مذهبهم ليس بحجة وبالجملة فإنه يدل على أن قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله وليس في الآية دلالة على أن أولئك الأقوام محقون أو مبطلون وعلى هذا التقدير زال الإشكال وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالآية المذكورة في سورة الأنعام فإن قيل هذا التأويل كيف يتعلق

بهذه الآية لأنه قال في آخرها وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) [البقرة 210] هذا لفظه فمن تدبر هذا الكلام أليس يعلم بالضرورة أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى كتابه حيث جعل خطابه مع المؤمنين خطاباً مع اليهود مع أن الله سبحانه دائماً في كتابه يفصل بين الخطابين فيقول لأولئك يا بني إسرائيل أو يا أهل الكتاب ويقول لهؤلاء يا أيها الذين آمنوا والخطاب لبني إسرائيل للمؤمنين فيه اعتبار لأن القرآن كله هدى للمؤمنين فإذا جعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط أليس هذا من أعظم تبديل القرآن وقد قال بعد هذه الآية سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة 211] فلم سماهم بني إسرائيل وإنما أمر المؤمنين بالدخول في السلم كافة أي في جميع الإسلام لا في بعضه دون بعض وأن

يدخلوا كلهم لا يدخله بعض دون بعض ولهذا قال لهم فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) [البقرة 209] ولا يقال لهم إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال والزلل كاليهود ثم جعل قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] هو من اعتقاد اليهود الفاسد لا من كلام الله الذي توعد به عباده وجعل هذا هو الجواب المعتمد أليس يعلم ببديهة العقل والدين كل من قرأ القرآن من المؤمنين أن هذا من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين وأن رد هذا لا يحتاج إلى دليل وهو كذب على اليهود أيضاً فإن القوم لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ليخاطبهم وقد ذكر أهل التفسير والسير والحديث والمغازي مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ومع كثرة ما نزل بسببهم من القرآن ومع هذا فما نقل هذا أحد وكذلك ما نقله عنهم من أنهم كانوا يقولون إنه تجلى لموسى على الطور في ظلل من الغمام أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه فإن كان هذا حقًّا عنهم وكانوا

ينتظرون مثل ذلك فيكونون قد جوزوا أن يكون الله تجلى لرسول آخر في الغمام كما تجلى لموسى ومعلوم أن اليهود لا تقول ذلك وما ذكر الله تعالى عنهم في طلبهم رؤية الله جهرةً فهذا حق لكن أخبر أنهم طلبوا الرؤية لم يخبر أنهم انتظروها والمتطلب للشيء معتقد لأنه يكون لا طالب من غيره أن يكونه وهذا كما قال تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة 108] وأما قوله إن اليهود كانوا على دين الشبيه وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله فيقال إنه لا ريب أن التوراة مشتملة على صفات الله تعالى التي يسميها الجهمية تشبيهاً وهي إلى الآن كذلك مثل ما ذكره فلا يخلو إما أن يكون ذلك من التوراة المنزلة أو مما بدلوه فإن كان الأول كان ما سماه تشبيهاً هم الحق المنزل من عند الله تعالى وإن كان الثاني كان إنكاره ذلك عليهم وذمهم عليه أولى

بالإنكار والذم على أمور دون ذلك كأخذ الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ومعلوم أن الكتاب والسنة لم تنكر على اليهود قط ما عندهم من هذه الصفات ولا ما يقولونه من ذلك وإنما ذمهم على وصفهم الله بالعجز والكلال والفقر والبخل كما ذكر في قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) [آل عمران 181] وفي قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وفي قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) [ق 38] وهو سبحانه وتعالى قد ذكر ذنوبهم في مثل قوله قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) [المائدة 60] وفي قوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء 160-161] وفي قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) [آل عمران 112] ونحو ذلك

ولم يعبهم قط بإثبات الصفات التي يسميها الجهمية تشبيهاً ولا ذكر ذلك من ذنوبهم وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) [مريم 64] وهذا دليل قاطع على أن هذه الصفات في الجملة منزلة من عند الله وأنها حق ليست مما افتراه اليهود وابتدعوه بل ذمهم على كتمان ذلك وغيره وعلى تحريف الكلم عن مواضعه فإن كثيرًا منهم يحرفون ذلك ويكتمونه أكثر من تحريف الجهمية المنتسبين إلى الإسلام وأكثر من كتمانهم وقد روي أن الجهم بن صفوان أخذ هذا المذهب الذي يتأول فيه الصفات عن الجعد بن درهم والجعد أخذه عن

بيان بن سمعان وأخذه بيان من طالوت بن أخت لبيد بن أعصم وأخذه طالوت من لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهون من أعظم من نزل فيه قوله تعالى وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ الآية [البقرة 101-102] وهذا مذكور في غير هذا الموضع فيكون قول المؤسس ونحوه من الجهمية هو قول المبدلين من اليهود الذين ذمهم الله عليه وأنكره عليهم وهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وحيث حرفوا كتاب الله بالتأويل الذي يحرفون فيه الكلم عن مواضعه وللمؤسس وأمثاله من ذلك أعظم شبه باليهود حيث صنف كتب السحر وعبادة الأوثان وأمر باتباع ذلك وتعظيمه وحرف كتاب الله تعالى فهذا من أحوال اليهود التي ذمها الله تعالى في القرآن يبين ذلك أن الله ذم اليهود على كتمان ما عندهم من الكتاب وأخبر أن الرسول بين لهم بعض ما كتموه وعفا عن بعضه فقال قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ

[المائدة 15] وقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة 140] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران 187] فهذا النبذ وراء ظهورهم هو ضد بيان ما فيه وهو الحال التي وصفهم الله في قوله نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة 101-102] فلو كان ما عندهم من الصفات وهي كثيرة جدًّا في التوراة باطلاً وكفراً وضلالاً لم يكونوا مذمومين على نبذ ذلك وراء ظهورهم وعلى كتمانه بل كان الواجب ذمهم على وجود ذلك في كتابهم وإقرار ذلك بينهم كما ذم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وأيضاً فإن قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة 208] إذا كان خطاباً لليهود وهم المنتظرون للأمر الممتنع فوجه الكلام أن يخاطبوا بما يوبخهم ويقرعهم فيقول ما تنظرون بصيغة المخاطبة لا بصيغة الغيبة كما في نظائر ذلك من القرآن حيث يقول إذا خاطبهم فعلتم وفعلتم

فأما الانتقال في مثل هذا من المخاطبة إلى الغيبة ففيه تعظيم للمخاطب كما في قوله وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) [الحجرات 7] وفي قوله حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا [يونس 22] فإن قوله كنتم يتناول المؤمن والكافر فعدل إلى صيغة الغيبة التي تتناول من فعل ذلك الفعل المذموم خاصة وأيضاً فالفرق ظاهر بينٌ معلوم بالاضطرار من اللغة بين الاستفهام الذي يقصد به نفي وجود ما يظنه الإنسان وينتظره ويرجوه ويخبر به وبين ما لا يقصد به ذلك بل يقصد به تهديده وتخويفه من الأمور الكائنة الموجودة وتحذيره منها فالأول كقوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) [القيامة 36] أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون 55-56] أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) [الطور 30-33] وقوله أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) [المعارج 38] فنظيره أن يقال أينتظرون أن يأتيهم الله أو أيطمعون أن يأتيهم الله في ظل من الغمام ونحو ذلك

وأما الثاني فكقوله وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) [ص 15] وقوله قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة 52] فمن المعلوم أن هذا الاستفهام يتضمن معنى النفي كالأول وأن ذلك تهديد لهم وتخويف مما ينتظرونه ويتربصونه فقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] صيغة مثل هذه الصيغ فإن هل متضمنة معنى النفي بلا نزاع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم هل ينظر أحدكم إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر

وأيضاً فقوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ [البقرة 210] وإخبار بأن الله تعالى يقضي الأمر كما في قوله تعالى وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) [هود 44] وفي قوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) [الزمر 69] وأيضاً فإنه في سورة الأنعام إنما ذكر قبل هذه المشركين قال تعالى أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) [الأنعام 156-158] فقوله وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالآية المذكورة في سورة الأنعام من أظهر الأمور فساداً بالضرورة عند أدنى تدبر للقرآن فإن اليهود لم يجر لهم ذكر بل جرى

ذكر المشركين المكذبين بهذا كله وهو أشبه بالجهمية الذين يقولون إن الله لا يأتي ولهذا قال انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) [الأنعام 158] فهو يهددهم ويتوعدهم بمجيء هذا الأمر الذي يكذبون به كما في قوله تعالى وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) [ص 15] وأيضاً فالانتظار إما أن يقصده المرء كما زعمه هذا المؤسس أن اليهود قصدوا انتظار إتيان الله في ظلل من الغمام في الدنيا أو لا يقصده كما لم يقصد المشركون انتظار ما وعد الله به يوم القيامة وإتيان الله والملائكة وغير ذلك فإن كان الأول كانت صيغة الإنكار بلفظ ينتظر هذا أو كيف ينتظر هذا أو نظن وجود هذا لا يكون بصيغة الحصر الذي مضمونها ما ينتظر إلا هذا لأن ذلك يقصد أشياء كثيرة ينتظرها غير هذا فلا يصلح أن يقال ما ينتظر إلا هذا وهو ينتظر أشياء غيره وإن كان الثاني حسن خطابه بصيغة الحصر لأنه ينتظر أشياء لا حقيقة لها مثل الذي قيل فيه ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا [المدثر 15-16] والذي قال أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)

[مريم 77-78] فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم أشياء كثيرة كما قال يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) [النساء 120] فيقال لمثل هذا ما ينتظر إلا العذاب لا النعيم أو ما ينتظر إلا الحق والعدل أو ما ينتظر إلا الجزاء على الأعمال ونحو ذلك والآية جاءت بصيغة النوع الثاني دون الأول ودلائل هذا كثيرة المثال الثالث قوله تأويل أحاديث الضحك واعلم أن حقيقة الضحك على الله عز وجل محال ويدل على ذلك وجوه الأول قوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) [النجم 43] فبين أن اللائق به أن يضحك ويبكي فأما الضحك والبكاء فلا يليقان به وقال لو جاز الضحك عليه لجاز البكاء عليه ونقد

التزمه بعض الحمقى قال والضحك إنما يتولد من التعجب والتعجب حالة تحصل للإنسان عند الجهل بالسبب وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال إلى أن قال إذا ثبت هذا فنقول وجه التأويل فيه من وجوه أحدها أن المصدر كما يحسن إضافته إلى المفعول فكذلك يحسن إضافته إلى الفاعل فقوله ضحكت من ضحك الرب أي من الضحك الحاصل في ذاتي بسبب أن الرب خلق ذلك الضحك الثاني أن يكون المراد أنه تعالى لو كان ممن يضحك كالملوك كان هذا القول مضحكاً له ذكر هذا التأويل بعد أن ذكر لفظ الحديث الذي في

الصحيح وعزاه إلى شرح السنة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة من أخرجه الله تعالى بفضله من النار قال فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول أي رب أدخلنيها فيقول الله تعالى يا ابن آدم أيرضيك أن أعطيك الدنيا قال فيقول أي رب أتهزأ بي وأنت رب العالمين فضحك ابن مسعود وقال ألا تسألوني مما أضحك فقالوا لم تضحك فقال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ولم تضحك يا رسول الله قال من ضحك رب العالمين حين قال أتهزأ

بي وأنت رب العالمين فيقول الله تعالى إني لا أستهزئ بك وأنا على ما أشاء قدير وذكر من شرح السنة حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم وه طويل قال فيه ثم قال يا رب أدخلني الجنة فيقول الله تعالى أَوَلَست قد زعمت أن لا تسألني غيره ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فلا يزال يدعو حتى ضحك فإذا ضحك الله منه أذن له بدخول الجنة

وفي الضحك أحاديث أخر صحيحة لم يذكرها مثل ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقتل أحدهما في سبيل الله ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد في سبيل الله

والمقصود أن هذا التأويل الذي ذكره مما يعلم بالضرورة من له أدنى عقل وعلم باللغة أنه باطل فإن قول المصدر كما تحسن إضافته إلى المفعول فكذلك تحسن إضافته إلى الفاعل إنما يصح في مصدر الفعل المتعدي مثل ضرب وقتل وأكل وأضحك وأبكى وأمات وأحيا فإنه يقال أكل زيد فأعجبني أكل الطعام كما تقول أعجبني إبكاء هذا الفاجر وأعجبني إضحاك هذا المؤمن أو إضحاك الله فأما ضحك ففعل لازم لا يتصور أن يضاف مصدره إلى مفعول فضحك مثل فرح وعجب وحزن وطرب فإذا قيل أعجبني ضحك زيد أو بكاؤه أو فرحه أو حزنه أو طربه أو عجبه لم يتصور أن يكون في هذا الكلام مفعول هو المضحَك المبكى والمفرَح والمحزَن وهذا واضح لا خفاء به ثم إن هذا التأويل مع ظهور فساده بالضرورة فهو متناقض في نفسه تناقضاً معلوماً بالضرورة أيضاً

وفيه إثبات ما يعلم بطلانه بالحس فإنه قال فقوله ضحكت من ضحك الرب أي من الضحك الحاصل في ذاتي بسبب أن الرب تعالى خلق ذلك الضحك فالكلام يقتضي ضحكين ضحكه والضحك الذي ضحك منه وجعل نفسه ضاحكاً من ضحك نفسه حيث قال ضحكت من الضحك الحاصل في ذاتي فجعل في ذاته ضحكين أحدهما ضحك والثاني مضحوك منه وهذا خلاف المحسوس ثم لو كان كذلك فمن أي وجه يكون أحدهما مضحوكاً منه دون الآخر وكلاهما خلق الله تعالى ولكن من استدل على أن الله لا يضحك بأنه أضحك وأبكى كانت تلك الحجة في رد معنى النص من جنس هذا التأويل للنص فإن طرد هذا الدليل الذي ذكره أنه إذا علم غيره وجهله لم يكن عالماً وإذا أنطق غيره وأسكته لم يكن ناطقاً وإذا أسمع غيره وأصمه لم يكن سميعاً وإذا أرى غيره وأعماه لم يكن بصيراً وإذا أحيا غيره وأماته لم يكن حيًّا وإذا أرضى غيره وأسخطه لم يكن

راضياً ونظائر كثيرة وكذلك نظير هذه الحجة احتجاجه بأنه إذا جاز عليه الضحك جاز عليه البكاء حيث جعل صفات الكمال مستلزمة لثبوت نقائضها من صفات النقص فيلزم إذا جاز وصفه بالعلم أن يجوز وصفه بالجهل وإذا جاز وصفه بالقدرة والسمع والبصر أن يجوز وصفه بالعجز والعمى والصمم وإذا جاز وصفه بالفرح أن يجوز وصفه بالغم والحزن وإذا جاز وصفه بالحياة أن يجوز وصفه بالموت إلى نظائر ذلك وكذلك من جنس هذا التأويل قوله لو كان ممن يضحك لكان هذا القول مضحكاً فهل يسوغ في عقل عاقل أن يكون الرسول قد أخبر غير مرة أن الله يضحك مما ذكره ويقول ضحكت من ضحك رب العالمين ومع هذا لا يكون لهذا الضحك وجود إنما هو معدوم متعذر فإن جاز أن يخبر الرسول بوجود شيء ويكون معدوماً زال الإيمان من عامة أخباره وهذا اللفظ لا يحتمل هذا بوجه من الوجوه

ثم إنه استدل على بطلان اتصافه بالضحك أن الضحك يستلزم التعجب والتعجب يستلزم الجهل بالسبب وقد ذكر عقب هذا وصفه بالفرح وأوله بالرضا قال ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم عجب ربكم من شاب ليست له صبوة وفي حديث آخر عجب ربكم من ثلاثة وذكرهم قال وقرئ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) [الصافات 12]

بضم التاء قال وذلك يدل على ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى قال واعلم أن التأويل هو أن العجب حالة تحصل عند استعظام الأمر فإذا عظم الله أمراً أو فعلاً إما في كثرة ثوابه أو في كثرة عقابه جاز إطلاق لفظ التعجب عليه فقوله في هذا الموضع التعجب حالة تحصل عند استعظام الأمر ينافي قوله قبل هذا بوجه التعجب حالة تحصل للإنسان عند الجهل بالسبب وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال فهل يوجد من يصف الله بالعجب ويبين أنه لا يستلزم الجهل ويمنع من وصفه بصفة

أخرى قال لأنها تستلزم العجب وهو ممتنع لاستلزام الجهل المثال الرابع في الحجاب قال تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] وذكر أخباراً منها ما رواه صاحب شرح السنة في باب الرد على الجهمية عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشقه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه

قال وروي في تفسير قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] أنه تعالى يرفع الحجاب فينظرون إلى وجهه قلت وهذا الحديث في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض الله وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة

ومما لم يذكر من الأحاديث ما في الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن ثم قال وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محال لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين بل هذا محمول عندنا على أن لا يخلق الله في العين رؤية متعلقة به وعند منكر الرؤية على أنه تعالى يمنع وصول آثار إحسانه وفضله إلى الإنسان قلت ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر النصوص فساد هذين التأويلين فإن عدم خلق الرؤية أمر عدمي محض فقوله حجابه

النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه كيف يتصور أن يكون هذا العدم المحض نوراً وأن ذلك النور لو كُشِفَ لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه البصر وكيف يتصور أن يقال فيكشف الحجاب فينظرون إليه والأمر العدمي المحض هل يكشف وكيف يتصور أن يقال وما بين القوم وبين لأن ينظروا إلى ربهم إلا أمر عدمي على وجهه في جنة عدن ثم في أي لغة يوجد تسمية العدم المحض حجاباً ومعلوم أن نقيض الحجاب لا حجاب والعدم يصح وصفه بأنه ليس بحجاب فلو كان الحجاب عدميًّا لكان عدمه وجوديًّا فكلن الموجود صفة للمعدوم وهذا ممتنع بالضرورة ومما ينبغي أن يعلم أن هذا المؤسس وأمثاله كثيراً ما يدخلون في جنس التأويل الذي يدخل فيها الفلاسفة من القرامطة الباطنية ونحوهم الذين هم أعظم الناس جهلاً ونفاقاً وكانت هذه مشهورة عند غالية الرافضة ولهذا يتصل

هؤلاء بهم لما بين هؤلاء من الجهل والنفاق ومحادة الله ورسوله ومشاقة الله ورسوله وهم من أعظم الناس كذباً وتصديقاً للكذب فإنهم يروون من المكذوبات على الرسل وغيرهم وما الله به عليم ويتأولونها بما لا يخفى على أدنى عاقل أنه معلوم الفساد بالضرورة مثل ما صنع هذا المؤسس في كتاب صنفه في تفسير المعراج

النبوي فرواه بسياق عجيب لا يوجد في شيء من كتب

الأحاديث والتفسير والسير ثم فسره تفسير المشركين والصابئين من المتفلسفة ونحوهم كما صنع ذلك ابن سينا وعين القضاة الهمذاني ونحو هؤلاء

فجعل أنبياء الله مثل آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وموسى وإبراهيم هم الكواكب التي هي القمر والزهرة وعطارد والشمس والمريخ والمشترى وزحل إلى أمثال ذلك مما يعلم كل مسلم أن الرسول لم يقصد ذلك ولم يرده وأنه من أعظم الافتراء على الله ورسوله وهذا من جنس تأويلات الرافضة للؤلؤ والمرجان الذي في البحر بالحسن والحسين والإمام المبين والنبأ

العظيم بعلي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن ببني أمية وأمثال هذه الخرافات التي هي من أقبح الكذب والافتراء وأفحش القول ومن هذا تأويل الملاحدة الزنادقة المنافقين من المشركين والصابئين والمتفلسفة ونحوهم ولما أخبر الله به من أمر اليوم الآخر فلا يجعلون لذلك حقيقة غير موت الإنسان كما يقولون في قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) [التكوير 1] المراد شمسه التي هي قلبه إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار 1] سماؤه التي هي / رأسه وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) [التكوير 2] هي حواسه وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) [التكوير 4] رجليه وإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) [الزلزلة 1] يديه وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) [التكوير 5] قواه لاسيما العصبية ودكت الجبال هي عظامه ونحو ذلك وهذا كثير في كلام هذه الملاحدة من الباطنية والقرامطة وطائفة من الاتحادية وأصحاب رسائل إخوان

الصفا وأصحاب السهروردي الحلبي المقتول على الزندقة ونحو هؤلاء وإن كان كثيراً مما يثبتونه أو أكثره حق فإنه كما

روي عن المغيرة بن شعبة أنه من مات فقد قامت قيامته والقيامة يراد بها انخرام القرن وما يثبتونه من معاد النفوس حق وما يثبتونه من حيث

الجملة من النعيم والعذاب الروحاني حق وما يثبتونه مما يدخل فيما أمرت به الرسل من الأخلاق الفاضلة والسياسات العادلة ونحو ذلك حق فما من أمة إلا ومعها حق ومعلوم أن الحق الذي بأيدي اليهود والنصارى أكثر من الحق الذي مع هؤلاء فإن جنس أهل الكتاب خير من جنس الصابئين كما أن جنس الصابئين خير من جنس المشركين لكن المقصود أنهم فيما كذبوا أو ارتابوا فيه من الحق الذي أخبرت به الرسل يسلكون مثل هذه التأويلات التي يعلم بالاضطرار أن الرسل لم ترد ذلك فقد سلك الرازي هذا المسلك في مناظرتهم في المعاد وقال إنا نعلم بالاضطرار أن إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني فوجب القطع بوجود هذا المعاد وبهذا أجاب من أخذ يورد على إثبات ذلك بظواهر الآيات والأحاديث وأظنه اتبع في ذلك أبا الحسين البصري هذا مع

قوله في السؤال المتشابهات من القرآن الدالة على التشبيه والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد البدني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون أيضاً تأويل الآيات الواردة هنا وهذا الذي قاله في ذلك يقوله أهل الإثبات في نصوص الصفات فإن من علم ما جاء به من ذلك في الكتاب والسنة وتدبر ذلك علم بالاضطرار وبطلان التأويل وأن الرسل وصفت الرب بما ينافي بمذهب النفاة وقد قال هو في جواب الفلاسفة لما قالوا له إن في كتاب الله تعالى آيات كثيرة دالة على التشبيه والقدر وقد تأولتموها فقال إنا لم نتمسك بظواهر الآيات والأخبار حتى يلزمنا الجواب عن هذه المعارضة بل بالأمر المعلوم بالضرورة من دين الأنبياء لم يقل أحد أنه علم دينهم

بظواهر التشبيه والقدر فظهر الفرق وليس الأمر كما نفاه بل عامة أهل الحديث والسنة بل والعامة يعلمون من دينهم بالضرورة إثبات الصفات والقدر أيضلً وإذا كان من هذه التأويلات مما يعلم فساده بالضرورة ما لا يحصيه إلا الله وهي أضعاف مضاعفة لما يدعي المدعي أنه لابد من تأويله فعند هذا يقول ذوو التأويل ومبطلوه قد ثبت بالدليل أن الله أنزل كتابه شفاء وهدى للناس وقال فيه هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) [آل عمران 138] وقال إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف 2] وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين كما أمر به فإن الله أخبر أن عليه البلاغ المبين وقال عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ [الجن 26-28] وقال يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 67] قالت عائشة من زعم أن محمداً كتم الوحي فقد

كذب وثبت أن رسولنا كان أعلم الناس بالله وبما يخبر به عن الله تعالى وكان أنصح الناس لأمته وكان أفصح الناس وأكملهم بياناً وإيضاحاً وإذا كان كذلك فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا كان بهذه الحال لم يكن الكلام الذي أنزله الله إليه فيما يخبر به عن نفسه وعن خلقه والكلام الذي يخبر به الرسول عن ربه وعن خلقه مما ظاهر باطل وضلال وإفك ولم يكن ذلك الكلام معارضاً لما هو معلوم بالمعقول ولم يكن ذلك الكلام مسلوب الدلالة والبيان ولم يكن غير مستحق لإبلاغ العباد وإفهام المراد ولا يكون المتبع لمعناه المتمسك بفحواه في

الوجه العاشر: أن المتكلمين من أعظم الناس نزاعا

ضلال وفساد ولا في كذب على الرسول في المراد ولا يجوز أن يكون الرسول قد أحال المخاطبين في معرفة ما جاء به من الكتاب المبين على ما يحدثه بعض المظاهرين لمتابعته بعد انقراض الخلفاء الراشدين وذهاب خير القرون الوجه العاشر قوله قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أن الله تعالى منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحاً يقال له ليس هذا قول جميع المتكلمين بل المتكلمون من أعظم الناس نزاعاً في كونه موصوفاً بالجهة والجسمية أم لا وأكثرهم من أهل الإثبات وطوائف من متقدميهم ومتأخريهم يصرحون بلفظ الجسم والجهة وغير ذلك وجمهورهم يثبتون أنه فوق العرش ومنهم طوائف يصرحون بنفى ذلك وكتب المقالات تتضمن من هذا وهذا شيئاً كثيراً مع أن أكثرها إنما صنفها نفاة الجسم ومع هذا فقد حكوا فيها من مقالات المثبتين شيئاً كثيراً فكيف يكون ما صنفه المثبتون وما زال في كل عصر من أعصار المسلمين التي يكون فيها من ينفي هذه الأشياء أن يكون فيها من يقابله من أهل الإثبات

الوجه الحادي عشر: أن هذه التأويلات قد اتفق على إنكارها سلف الأمة

وإن كان من كلام هؤلاء وهؤلاء من أهل البدع والضلال ما أنكر سلف الأمة وأئمة السنة ولكن المقصود هنا أن الطرق التي سلكوها وسموها العقليات وما يسمونه علم الكلام يتضمن من كلام المثبتة أعظم مما يتضمن من كلام النفاة وقد ذكرنا ما ذكره هذا المؤسس من جهة موافقيه مع استيعابه لذلك من جميع الجهات وما ذكره لمخالفيه مع تقصيره في ذلك ومع هذا فقد ظهر رجحان جانب منازعيه ظهوراً لا يرتاب فيه لبيب فكيف لو ذكر ما يقولونه هم بأنفسهم بغير توسط نقل خصومهم الوجه الحادي عشر أن هذه التأويلات كما اتفق على إنكارها سلف الأمة وأئمة السنة فما زال في الإسلام من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من ينكرها ويبطلها ويقرر ضدها والكتب المصنفة في ذم التأويل وإبطاله كثيرة

الوجه الثاني عشر: وضوح فساد أدلتهم على التأويل

موجودة الوجه الثاني عشر أن يقال له بأي دليل ثبت ما ادعاه هؤلاء من النفي ومعلوم أنك قد استوعبت أدلتهم وقد تقدم من التنبيه على فسادها ما يوجب العلم اليقيني بإبطالها لكل من تدبر ذلك ونظر فيه الوجه الثالث عشر، يقال أي المتكلمين سلم له في هذا الباب قانون واحد لم يتناقض فيه وأيهم الذي ما قيل عنه أو ثبت عنه أنه متناقض في النفي والإثبات أعني إثبات الجسم أو بعض ملازمه ومن المعلوم أن إثبات الملزوم بدون اللازم أو نفي اللازم بدون الملزوم متناقض ممتنع وما من

هؤلاء إلا من يلزم بهذا التناقض فهؤلاء أوسط المتكلمين وهم المتكلمة الصفاتية الموافقون لأهل السنة والجماعة في الأصول الكبار من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن دخل في شيء

من ذلك من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والصوفية يقول عنهم نظراؤهم وأشكالهم أنهم متناقضون كما يقول ذلك مخالفوهم من المعتزلة والرافضة والجهمية المحضة وغيرهم وأما تناقض هؤلاء وتهافتهم فأضعاف ذلك دع تناقض المتفلسفة وتهافتهم فإن ذلك لا يحصيه إلا الله فمتأخرو الأشعرية يقولون إن قدماءهم متناقضون في قولهم إن الله تعالى فوق العرش مع نفي كونه جسماً ويقولون إنهم متناقضون في إثبات الصفات الخبرية مع نفي الجسم أيضاً ومتقدموهم مع سائر الطوائف من النفاة يقولون إن ما يقوله متأخروهم إن من أقر بالرؤية ونفى أن يكون فوق

العرش فهم متناقض ويقول عامة الناس إن الإقرار برؤية مرئي لا يواجه البصر متناقض ويقول طوائف من المثبتة والنفاة إن الإقرار بوجود جسم فوق العالم ليس بممتد في الجهات كما يقوله من يقوله من الكرامية وموافقيهم متناقض ويقول طوائف من النفاة والمثبتة إن الإقرار بذي علم وقدرة وسمع وبصر وإرادة لا يكون بقائم بنفسه متميزاً عن غيره بالجهة متناقض معلوم الفساد بالضرورة ويقول طوائف من النفاة والمثبتة بل جمهور الخلق إن الإقرار بمن هو عالم سميع بصير قدير لا يكون قائماً بنفسه متميزاً بالجهة عن غيره متناقض ممتنع ويقول هؤلاء وأكثر منهم إن الإقرار بموجود قائم بنفسه مباين له وليس في جهة متناقض ممتنع ويقول جماهير بني آدم إن الإقرار بحي عالم قادر سميع بصير لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر متناقض متهافت

ويقول عامة بني آدم إن الإقرار بموجود واجب بنفسه موجود في الخارج يكون موجوداً مطلقاً محضاً مجرداً عن المعينات والمخصصات من أظهر الأمور فساداً في بديهة العقل لمن فهم ذلك وأمثال هذا كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى

فصل: في تأويل الرازي لحديث الصورة والرد عليه

فصل قال الرازي الفصل الأول في إثبات الصورة اعلم أن هذه اللفظة ما وردت في القرآن لكنها واردة في الأخبار فالخبر الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق آدم على صورته

وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم لعبده قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته والجواب اعلم أن الهاء في قوله صلى الله عليه وسلم على صورته يحتمل أن تكون عائدة على شيء غير صورة آدم وير الله تعالى ويحتمل أن يكون عائدًا إلى آدم عليه السلام

ويحتمل أن يكون عائدًا إلى الله تعالى فهذه طرق ثلاثة الطريق الأول أن يكون هذا الضمير عائداً إلى غير آدم وإلى غير الله تعالى وعلى هذا التقدير ففي تأويل الخبر وجهان الأول هو أن من قال للإنسان قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فهذا يكون شتماً لآدم عليه السلام فإنه لما كان صورة الإنسان مساوية لصورة آدم كان قوله قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك شتماً لآدم عليه السلام ولجميع الأنبياء عليهم السلام وذلك غير جائز فلا جرم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وإنما خص آدم بالذكر لأنه عليه السلام هو الذي ابتدئت خلقته على هذه الصورة الثاني أن المراد منه إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريباً من السماء فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى

إنسان معين وقال إن الله تعالى خلق آدم على صورته أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت ألبتة فأبطل بهذا البيان وَهْمَ من توَّهم أن آدم عليه السلام كان على صورة أخرى غير هذه الصورة الطريق الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى آدم عليه السلام وهذا أولى الوجوه الثلاثة لأن عود الضمير إلى أقرب مذكور واجب وفي هذا الحديث أقرب الأشياء المذكورة هو آدم عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى ثم على هذا الطريق ففي تأويل الخبر وجوه الأول أنه تعالى لما عظم أمر آدم فجعله مسجود الملائكة ثم إنه أتى بتلك الزلة فالله تعالى لم يعاقبه

بمثل ما عاقب به غيره فإنه نقل أن الله تعالى أخرجه من الجنة وأخرج معه الحية والطاووس وغيَّر تعالى خلقهما مع، هـ لم يغير خلقة آدم عليه السلام بل تركه على الخلقة الأولى إكراماً له وصوناً له من عذاب المسخ فقوله صلى الله عليه وسلم عن الله خلق آدم على صورته معناه خلق آدم على هذه الصورة التي هي الآن باقية من غير وقوع التبديل فيها والفرق بين هذا الجواب وبين الذي قبله أن المقصود من هذا بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان مصوناً عن المسخ والجواب الأول ليس فيه إلا بيان أن هذه الصورة الموجودة ليس هي إلا التي كانت موجودة قبل من غير تعرض لبيان أنه

جعله مصوناً عن المسخ بسبب زلته من أن غيره صار ممسوخاً الثاني أن المراد منه إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا بواسطة النطفة ودم الطمث فقال صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدم نطفة وعلقة ومضغة الثالث أن الإنسان لا يكون إلا في مدة طويلة وزمان مديد وبواسطة الأفلاك والعناصر فقال صلى الله عليه وسلم إن الله خلق

آدم على صورته أي من غير هذه الوسائط والمقصود منه الرد على الفلاسفة الرابع المقصود منه بيان أن هذه الصورة الإنسانية إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده لا بتخليق القوة المصورة والمولدة على ما يذكره الأطباء والفلاسفة ولهذا قال الله تعالى هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر 24] فهو الخالق أي هو العالم بأحوال الممكنات والمحدثات والبارئ هو المحدث للأجسام والذوات يعد عدمها والمصور أي هو الذي ركَّب تلك الذوات على صورها المخصوصة وتركيباتها المخصوصة الخامس قد تذكر الصورة ويراد بها الصفة يقال شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة والمراد من الصورة في كل هذه المواضع الصفة فقوله إن الله خلق آدم على صورته أي على جملة صفاته وأحواله و ... ذلك لأن الإنسان حين يحدث يكون في غاية الجهل والعجز ثم لا يزال

يزداد علمه وقدرته إلى أن يصل إلى حد الكمال فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خلق من أول الأمر كاملاً تامًّا في علمه وقدرته وقوله خلق الله آدم على صورته معناه أنه خلقه في أول الأمر على صفته التي كانت حاصلة له في آخر الأمر وأيضاً فلا يبعد أن يدخل في لفظ الصورة كونه سعيداً أو شقيًّا كما قال صلى الله عليه وسلم السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه فقوله صلى الله عليه وسلم

إن الله خلق آدم على صورته أي على جميع صفاته من كونه سعيداً أو عارفاً أو تائباً أو مقبولاً من عند الله تعالى الطريق الثالث أن يكون ذلك الضمير عائداً إلى الله تعالى وفيه وجوه الأول المراد من الصورة الصفة كما بيناه فيكون المعنى أنه آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات قادراً على استنباط الحرف والصناعات وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه فصح قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته بناء على هذا التأويل فإن قيل المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية قلنا المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المساواة في الإلهية ولهذا المعنى قال الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم 27] وقال صلى الله عليه وسلم تخلقوا بأخلاق الله

الثاني أنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف فقد يصح إضافتها إلى الخالق والموجد فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور بمزيد من الكرامة والجلالة الثالث قال الشيخ الغزالي ليس الإنسان عبارة عن هذه البنية بل هو موجود ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير والتصرف

فقوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته أي نسبة ذات آدم عليه السلام إلى هذا البدن كنسبة الباري تعالى إلى العالم من حيث أن كل واحد منهما غير حال هذا الجسم وإن كان مؤثراً فيه بالتصرف والتدبير قال الخبر الثاني ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه التوحيد بإسناده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال

لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن

إيراد المؤلف لحديث الصورة كما هو في الصحيحين

قال واعلم أن ابن خزيمة ضعَّف هذه الرواية ويقول إن صحت هذه الراوية فلها تأويلان الأول أن يكون المراد من الصورة الصفة على ما بيناه الثاني أن يكون المراد من هذه الإضافة بيانُ شرف هذه الصورة كما في قوله بيت الله وناقة الله قلت هذا الحديث أخرجوه في الصحيحين من وجوه ففي الصحيحين عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً ثم قال اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاسمع ما يحيون كبه فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة

على صورة آدم قال في رواية يحيى بن جعفر ومحمد ابن رافع على صورته

وروى البخاري من حديث أبي سعيد المقبري وهمام أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ورواه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن

الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه ومن حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بهذا الإسناد وقال إذا ضرب أحدكم ومن حديث سهيل بن أبي صالح عن

أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ومن حديث أبي أيوب يحيى بن مالك المراغي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه وفي رواية محمد بن حاتم فيه قال إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله

نقل المؤلف اتفاق السلف على أن الضمير يعود إلى الله تعالى

خلق آدم على صورته وليس ليحيى بن مالك عن أبي هريرة في الصحيحين غيره والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب

كالتوراة وغيرها ولكن كان من العلماء في القرن الثالث من يكره روايته ويروي بعضه كما يكره رواية لعض الأحاديث لمن يخاف أن نفسه ويفسد عقله أو دينه كما قال عبد الله بن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وفي البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وإن كان مع ذلك لا يرون كتمان ما جاء به الرسول مطلقاً بل لابد أن يبلغوه حيث يصلح ذلك ولهذا اتفقت

الأمة على تبليغه وتصديقه وإنما دخلت الشبهة في الحديث لتفريق ألفاظه فإن من ألفاظه المشهورة إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وهذا فيه حكم عملي يحتاج إليه الفقهاء وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بلا وكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط وهي قوله فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه ولم يذكر الثانية وعامة أهل الأصول والكلام إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله خلق الله آدم على صورته ولا يذكرون الجملة الطلبية

فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين وصاروا متفقين على تصديقه لكن مع تفريق بعضه عن بعض وإن كان محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء في إخباره بخلق آدم في ضمن حديث طويل إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور

وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم ولذلك لأنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة وذلك مثل ما ذكره أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد فإنه ذكر الاحتمالات الثلاثة ذكر عود الضمير إلى المضروب وذكر عوده إلى آدم وتأول عوده إلى الله على إضافة الخلق فقال باب ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم تأولها بعض من لم يتبحر العلم على غير تأويلها ففتن عالماً من أهل الجهل والعناد حملهم الجهل بمعنى الخبر على القول بالتشبيه جل وعز عن أن يكون وجه خلق من خلقه مثل

وجهه الذي وصفه بالجلال والإكرام ونفى الهلاك عنه حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال حدثنا شعيب يعني ابن الليث حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن

سعيد بن لأبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم لأحد قبح الله وجهك ووجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن

سعيد عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وحدثنا بندار حدثنا يحيى بن سعيد حدثني ابن عجلان قال حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك بمثل حديث أبي

موسى حدثنا أبو موسى قال حدثنا يحيى عن أبي عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه قال أبو بكر بن خزيمة ليس في خبر ابن عجلان أكثر من هذا ومعنى هذا أن يحيى بن سعيد القطان الإمام رواه عن ابن عجلان عن المقبري كما رواه الليث وغيره ورواه أيضاً عنه عن أبيه عن أبي هريرة لكن يذكر إحدى الجملتين فقط وكان عند ابن عجلان الحديث عن المقبري وعن أبيه وقد رواه البخاري في صحيحه من طريق

مالك عنه مختصراً فقال البخاري باب إذا ضرب العبد فليتجنب الوجه حدثنا محمد بن عبيد الله قال حدثنا ابن وهب حدثني مالك بن أنس قال وأخبرني ابن فلان عن

سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه

وقد روى البخاري ومسلم الحديث في خلق آدم بطوله ثم قال ابن خزيمة توهم بعض من لم يتبحر العلم أن قوله على صورته يريد صورة الرحمن عز وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر بل معنى قوله خلق آدم على صورته الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم أراد أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب والذي قبح وجهه فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول ووجه من أشبه وجهك لأن وجه آدم شبيه وجوه بنيه فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك كان مقيحاً وجه آدم صلوات الله عليه الذي وجوه بنية شبيهة بوجه أبيهم فتفهموا رحمكم الله معنى الخبر لا تغلطوا ولا تغالطوا فتضلوا عن سواء السبيل وتحملوا على القول بالتشبيه

الذي هو ضلال قال وقد رويت في نحو هذا لفظة أغمض من اللفظة التي ذكرناها في خبر أبي هريرة وهو ما حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن الأعمش عن

حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن قال وروى الثوري هذا الخبر مرسلاً غير مسند حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى

قال حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبح الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن قال أبو بكر وقد افتتن بهذه اللفظة التي في خبر عطاء عالم ممن لم يتبحر العلم وتوهموا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر من إضافة صفات الذات فغلطوا في ذلك غلطاً بيناً وقالوا مقالة شنيعة مضاهية لقول المشبهة أعاذنا الله وكل المسلمين من قولهم قال والذي عندي في تأويل هذا الخبر إن صح من

جهة النقل موصولاً فإن للخبر عللاً ثلاثاً إحداهن أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر والثانية أن الأعمش مدلس لم يذكر أنه سمعه من حبيب ابن أبي ثابت والثالثة أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول حدثنا أبو بكر بن عياش عن

الأعمش قال قال حبيب بن أبي ثابت لو حدثني رجل عنك بحديث لم أبال أن أرويه عنك يريد لم أبال أن أدلسه قال أبو بكر ومثل هذا الخبر لا يكاد يحتج به علماؤنا من أهل الأثر لاسيما إذا كان الخبر في مثل هذا الجنس فيما يوجب العلم لو ثبت لا فيما يوجب العمل لما قد يستدل على صحته وثبوته بدلائل من نظر وتشبيه وتمثيل معين من سنن

النبي صلى الله عليه وسلم قال فإن صح هذا الخبر مسنداً بأن يكون الأعمش قد سمعه من حبيب بن أبي ثابت قد سمعه من عطاء بن أبي رباح وصح أنه عن ابن عمر على ما رواه الأعمش فمعنى هذا الخبر عندنا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر إنما هو من إضافة الخلق إليه لأن الخلق يضاف إلى الرحمن إذ الله خلقه وكذلك الصورة تضاف إلى الرحمن لأن الله صورها ألم تسمع قوله عز وجل هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان 11] فأضاف الله الخلق إلى نفسه إذ الله تولى خلقه وكذلك قوله تعالى هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فأضاف الله الناقة إلى نفسه وقال تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وقال أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً

فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء 97] وقال إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف 128] فأضاف الأرض إلى نفسه إذ الله تولى خلقها وبسطها وقال فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم 30] فما أضاف الله على نفسه على معنيين أحدهما إضافة الذات والآخر إضافة الخلق فتفهموا هذين المعنيين لا تغالطوا قال فمعنى الخبر إن صح من طريق النقل مسنداً فإن ابن آدم خلق على الصورة التي خلقها الرحمن حين صور آدم ثم نفخ فيه الروح قال الله جل وعلا وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف 11] والدليل على صحة هذا التأويل أن أبا موسى محمد بن المثنى حدثنا قال حدثنا أبو عامر عبد الملك بن

عمرو قال حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن

أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما أنبأنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث كثيرة وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك

فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن قال أبو بكر فصورة آدم هي ستون ذراعاً التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خلق عليها لا على ما توهم بعض من لم يتبحر العلم فظن أن قوله على صورته على صورة الرحمن صفة من صفات ذاته عز وجل عن أن يوصف بالذرعان والأشبار قد نزه الله

نفسه وتقدس عن صفات المخلوقين وقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 11] وهو كما وصف نفسه في كتابه على لسان نبيه لا كصفات المخلوقين من الحيوان ولا من الموتان كما شبه الجهمية معبودهم بالموتان لا ولا كما شبه الغالية من الرافضة معبودهم ببني آدم قبح الله هذين القولين وقائلهما حدثنا أحمد بن منيع

ومحمود بن خداش قالا حدثنا أبو سعد الصاغاني قال حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن

أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 1-4] قال ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء وقال ابن خداش في حديثه فالصمد الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد

إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث والباقي مثل لفظ ابن منيع هذا مجموع ما ذكره ابن خزيمة قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن

الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول ذكر فيه الأئمة الاثنى عشر المتبوعين في العلم وهم الشافعي ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل والبخاري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي والليث بن

سعد وإسحاق بن راهوية وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان

وقد ذكر في ترجمة سفيان بن سعيد الثوري أنه سئل عن قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] قال علمه ثم ذكر في أثناء الترجمة فإن قيل فقد منعتم من التأويل وعددتموه من الأباطيل فما قولكم في تأويل السلف وما وجهه نحو ما يروى عن ابن عباس في معنى اسْتَوَى أي استقر وما رويتم عن سفيان في قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ قال علمه الجواب قلنا لعلتين لا ثالث لهما على أن الجواب عن السؤال أن يقال إن كان السلف صحابيًّا فتأويله مقبول

متبع لأنه شاهد الوحي والتنزيل وعرف التفسير والتأويل وابن عباس من علماء الصحابة وكانوا يرجعون إليه في علم التأويل وكان يقول أنا من الراسخين في العلم إذ كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ظهراني الأئمة الأربعة وسائر المشايخ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يدأب ليلاً ونهاراً في البحث والتسآل عن النساء والرجال الذين عرفوا تأويل ما لم يعرفه في صغره وشاهدوا تنزيل ما لم يشاهده في حاله من كبره وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعرفة التأويل وكان رديفاً له فقال اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين

وكان لعمر مجلسان في كل يوم مجلس لكبار الصحابة ومشايخهم ومجلس لشبانهم وكان يأمر ابن عباس أن يحضر مع كبار الصحابة مجلسه فكانت إذا ألقيت عليهم مسألة يجيبون فيها قال لابن عباس غص يا غواص دس يا دواس إذا أجاب ابن عباس بجواب صوبه وقرره وإذا تقرر أن تأويل الصحابة مقبول فتأويل ابن عباس أولى بالاتباع والقبول فإنه البحر العباب وبالتأويل أعلم الأصحاب فإذا صح عنه تأويل الاستواء بالاستقرار وضعنا له الحد بالإيمان والتصديق وعرفنا من الاستقرار ما عرفناه من الاستواء وقلنا إنه ليس باستقرار يتعقب تعباً واضطراباً بل هو كيف شاء وكما يشاء والكيف فيه مجهول والإيمان به

واجب كما نقول في الاستواء سواء فأما إذا لم يكن السلف صحابيًّا نظرنا في تأويله فإن تابعه عليه الأئمة المشهورون من نقله الحديث والسنة ووافقه الثقاة الأثبات تابعناه وقبلناه ووافقناه فإنه وإن لم يكن إجماعاً حقيقة إلا أن فيه مشابهة الإجماع إذ هو سبيل المؤمنين وتوافق المتفقين الذين لا يجتمعون على الضلالة ولأن الأئمة لو لم يعلموا أن ذلك عن الرسول والصحابة لم يتابعوه عليه فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف غير مجهول نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن خزيمة تأويل الحديث خلق الله آدم على صورته فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل ولم يتابعه عليه من قبله من أهل الحديث لما روينا عن أحمد رحمه الله تعالى ولم يتابعه أيضاً من بعده حتى رأيت في كتاب الفقهاء

للعبادي الفقيه أنه ذكر الفقهاء وذكر عن كل واحد منهم مسألة تفرد بها فذكر الإمام ابن خزيمة وأنه تفرد بتأويل هذا الحديث خلق الله آدم على صورته على أني سمعت عدة من المشايخ رووا أن ذلك التأويل مزور مربوط على ابن خزيمة وإفك افتُرى عليه فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقيله ولا يُلتفت إليه بل نوافق ونتابع ما اتفق الجمهور عليه

وكذلك في تأويل الشيخ أبي أحمد محمد بن علي الفقيه الكرجي الإمام المعروف بالقصاب للآيات والأخبار الواردة في إحساس الميت بالعذاب وإطنابه في كتابه المعروف بـ نكت القرآن وذهابه إلى أن الميت بعد السؤال لا يحس طول لبثه في البرزخ ولا بالعذاب فنقول هذا تأويل تفرد به ولم يتابعه الأئمة عليه والقول ما ذهب إليه الجمهور وتفرده بالمسائل لا يؤثر ولا يقدح في درجاتهم وعذر كل من تفرد بمسألة من أئمتنا من عصر الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا أن يقال لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوة ولكل جواد كبوة وكذلك عذر كل إمام ينفرد بمسألة على ممر الأعصار والدهور غير أن المشهور ما ذهب إليه الجمهور

وأما قول سفيان في قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] وقوله إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] أنه علمه وكذلك قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] أنه علمه فاعلم أن هذا في الحقيقة ليس بتأويل بل هو المفهوم من خطاب الأعلى مع الأدنى فإن في وضع اللغة إذا صدر مثل هذه اللفظة من السادة مع العبيد لا يفهم إلا التقريب والهداية والإعانة والرعاية كما قال تعالى لموسى وهارون اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) [طه 43-44] فقال موسى لهارون رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) [طه 45] فقال لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] ومعلوم أن هذا الخطاب لا يفهم منه إلا الإعانة والرعاية والهداية كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد إرم وأنا معك

نعم إذا صدر الخطاب من الأدنى مع الأعلى نحو العبد إذا قال لسيده إني معك يُفهم الصحبة والخدمة ولا يفهم الإعانة والرعاية قال ثم إن قلنا إن قول سفيان في الآية تأويل فهو تأويل يروى عن ابن عباس وتأويل الصحابة مقبول لما ذكرناه وإن كان تأويل سفيان إلا أنه تابعه عليه الأئمة على ما رويناه عن مالك وسفيان بن عيينة وكذلك عن الشافعي وأحمد وغيرهم فإن قولهم إن الله على عرشه بائن من

خلقه وعلمه محيط بكل مكان موافقة منهم لما قاله سفيان وقد ذكرنا أن التأويل إذا تابع عليه الأئمة فهو مقبول فإن قيل فهلا جوزتم التأويل على الإطلاق اعتباراً بتأويل السلف قلنا معاذ الله أن يجوز ذلك إذ ليس الأصول تتلقى من الرأي حتى يقاس عليه ويقال لما جاز للسلف التأويل جاز للخلف فإنا قد بينا أن تأويل السلف إن صدر من الصحابة فهو مقبول لأنهم سمعوه من الرسول وإن صدر من غيرهم وتابعهم عليه الأئمة قبلناه وإن تفرد نبذناه وأعرضنا عنه إعراضنا عن تأويل الخلف قلت فقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام الملقب بقوام السنة أبي القاسم إسماعيل

ابن محمد التيمي صاحب كتاب الترغيب والترهيب قال سمعته يقول أخطأ محمد بن خزيمة في حديث

الصورة ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب قال أبو موسى أشار بذلك أنه قل من إمام وإلا وله زلة فإذا تثرك ذلك الإمام لأجل زلته ترك كثير من الأئمة وهذا لا ينبغي أن يفعل قال وقد كان في شدة تمسكه بالسنة وتعظيمه للحديث وتحرزه من العدول عنه ما تكلم فيه من حديث نعيم بن حماد الذي رواه بإسناده في النزول

بالذات وكان من اعتقاد الإمام إسماعيل أن نزول الله بالذات وهو مشهور من مذهبه قد كتبه في فتاوى عدة وأملى فيه أمالي جمة إلا أنه كان يقول هذا الإسناد الذي رواه نعيم إسناد مدخول وفيه مقال وعلى بعض رواته مطعن لا تقوم به الحجة ولا يجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كنا نعتقد ذلك إلا بعد أن يرد بإسناد صحيح

قال وسألت الإمام أبا القاسم إسماعيل بن محمد يوماً وقلت له أليس قد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله اسْتَوَى قعد قال نعم قلت له يقول إسحاق بن راهوية إنما يوصف بالقعود من يمثل القيام فقال لا أدري أيش يقول إسحاق قال وهذا من تمسكه بالسنة وتركه الالتفات مع ثبوت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة إلى غير ذلك وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة ما ذكره إسحاق بن منصور الكوسج في مسائله

المشهورة عن أحمد وإسحاق أنه قال لأحمد لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته أليس تقول بهذه الأحاديث قال أحمد صحيح وقال إسحاق صحيح ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي وذكر أيضاً عن يعقوب ابن بختان أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته فقال لا تفسره ما لنا أن نفسره كما جاء الحديث

قال الخلال وأخبرنا أبو بكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله كيف تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال الأعمش يقول عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر قال وقد رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على صورته فنقول كما جاء في الحديث قال وسمعت أبا عبد الله يقول لقد سمعت الحميدي يحضره سفيان بن

عيينة فذكر هذا الحديث خلق الله آدم على صورته فقال من لا يقول بهذا فهو كذا وكذا يعني من الشتم وسفيان ساكت لا يرد عليه شيئاً قال المروذي أظن، ي ذكرت لأبي عبد الله عن بعض المحدثين بالبصرة أنه قال قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال صورة الطين قال هذا جهمي وقال نسلم الخبر كما جاء وروى الخلال عن أبي طالب من وجهين قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل أن

يخلقه قال الخلال وأخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له أي شيء أنكر على بشر بن السري وأي شيء كانت قصته بمكة قال تكلم بشيء من كلام الجهمية فقال إن قوماً يجدون قيل له التشبيه فأومأ برأسه نعم فقال فقام به مؤمل حتى جلس فتكلم ابن

عيينة في أمره حتى أخرج وأراه كان صاحب كلام وقال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني قال سمعت إسحاق بن راهوية يقول قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق آدم على صورة الرحمن إنما عليه أن ينطق بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نطق به

قال إسحاق حدثنا جرير عن الأعمش عن حبيب ابن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن فقد صحح إسحاق حديث ابن عمر مسنداً خلاف ما ذكره ابن خزيمة قال الخلال أنا يعقوب بن سفيان الفارسي قال حدثنا محمد بن حميد حدثنا الفرات

ابن خالد عن سفيان الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق آدم على صورته وقال الخلال أن علي بن حرب الطائي حدثنا زيد ابن أبي الزرقاء عن ابن

لهيعة عن أبي يونس والأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن عز وجل

وما كان من العلم الموروث عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلنا أن نستشهد عليه بما عند أهل الكتاب كما قال تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) [الرعد 43] وقال تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) [يونس 94-95] وقال تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف 10] وقال تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) [الشعراء 196-197] وقال تعالى أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) [الأنعام 114] وقال تعالى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) [الأنعام 20] وقال تعالى وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ [الرعد 36] وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره تميم

بطلان عود الضمير في حديث الصورة إلى غير الله تعالى

بخبر الدجال والجساسة فرح بذلك وقال حدثني حديثاً يوافق ما كنت حدثتكموه إذا عرف ذلك فيقال أما عود الضمير إلى غير الله فهذا باطل من وجوه أحدها أن في الصحيحين ابتداء إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً وفي أحاديث أخر إن الله خلق آدم على صورته ولم يتقدم ذكر أحد يعود الضمير إليه

وما ذكر بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يضرب رجلاً ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال خلق الله آدم على صورته أي على صورة هذا المضروب فهذا شيء لا أصل له ولا يعرف في شيء من كتب الحديث الثاني أن الحديث الآخر لفظه إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وليس في هذا ذكر أحد يعود الضمير إليه الثالث أن اللفظ الذي ذكره ابن خزيمة وتأويله وهو قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجهًا أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته ليس فيه ذكر أحد يصلح عود الضمير إليه وقوله في التأويل أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب والذي

قبح وجهه فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول ووجه من أسبه وجهك يقال له لم يتقدم ذكر مضروب فيما رويته عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في لفظه ذكر ذلك بل قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولم يقل إذا قاتل أحدكم أحدًا وإذا ضرب أحدًا والحديث الآخر ذكرته من رواية الليث بن سعد ولفظه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجهًا أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وليس في هذا ذكر مر حتى يصلح عود الضمير إليه فإن قيل قد يعود الضمير إلى ما دل عليه الكلام وإن لم يكن مذكورًا كما في قوله تعالى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران 180] أي البخل لأن لفظ يبخلون يدل على المصدر الذي هو البخل ومنه قول الشاعر

إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف أي إلى السفه قيل هذا إنما يكون فيما لا لبس فيه حيث لم يتقدم ما يصلح لعود الضمير إليه إلاَّ ما دل عليه الخطاب فيكون العلم بأنه لابد للظاهر من مضمر يدل على ذلك أما إذا تقدم اسم صريح قريب إلى الضمير فلا يصلح أن يترك عوده إليه ويعود إلى شيء متقدم لا ذكر له في الخطاب وهذا مما يعلم بالضرورة فساده في اللغات الرابع أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد لاسيما وقوله وإذا قاتل أحدكم وإذا ضرب أحدكم عام في كل مضروب والله خلق آدم على صورهم جميعهم فلا معنى لإفراد الضمير وكذلك قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك عام في كل مخاطب والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم

الخامس أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم لم يخلق آدم على صورهم فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده لا يقال إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود كما يقال خلق الخلق على غير مثال أو نسج هذا على مثال هذا ونحو ذلك فإنه في جميع هذا إنما يكون المصنوع المقيس متأخرًا في الذكر عن المقيس عليه وإذا قيل خلق الولد على صورة أبيه أو على خلق أبيه كان كلامًا سديدًا وإذا قيل خلق الوالد على صورة ولده أو على خلقه كان كلامًا فاسدًا بخلاف ما إذا ذكر التشبيه بغير لفظ الخلق وما يقوم مقامه مثل أن يقال الوالد يشبه ولده فإن هذا سائغ لأن قوله خلق

إخبار عن تكوينه وإبداعه على مثال غيره ومن الممتنع أن الأول كون على مثال ما لم يكن بعد وإنما يكون على مثال ما قد كان السادس أنه إذا كان المقصود أن هذا المضروب والمشتوم يشبه آدم فمن المعلوم أن هذا من الأمور الظاهرة المعلومة للخاص والعام فلو أريد التعليل بذلك لقيل فإن هذا يدخل فيه الأنبياء أو فإن هذا يدخل فيه آدم ونحو ذلك من العبارات التي تبين قبح كلامه وهو اشتمال لفظه على ما يعلم هو وجوده أما مجرد إخباره بما يعلم وجوده كل أحد فلا يستعمل في مثل هذا الخطاب السابع أنه إذا أريد جرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فعل على مثال غيره بل يقال فإن وجهه يشبه وجه آدم أو فإن صورته تشبه صورة آدم الثامن أن يقال هب أن هذه العلة تصلح لقوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فكيف

يصلح لقوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ومعلوم أن كون صورته تشبه صورة آدم لا توجب سقوط العقوبة عنه فإن الإنسان لو كان يشبه نبيًّا من الأنبياء أعظم من مشابهة الذرية لأبيهم في مطلق الصورة والوجه ثم وجبت على ذلك الشبيه بالنبي عقوبة لم تسقط عقوبته بهذا الشبه باتفاق المسلمين فكيف يجوز تعليل تحريم العقوبة بمجرد المشابهة المطلقة لآدم التاسع أن في ذرية آدم من هو أفضل من آدم وتناول الفظ لجميعهم واحد فلو كان المقصود بالخطاب ليس ما يختص به آدم من ابتداء خلقه على صورة بل المفصود مجرد مشابهة المضروب المشتوم له لكان ذكر سائر الأنبياء والمرسلين بالعموم هو الوجه وكان تخصيص غير آدم بالذكر أولى كإبراهيم وموسى وعيسى وإن كان آدم أبوهم فليس هذا المقام مقاماً له به اختصاص على زعم هؤلاء العاشر وهو قاطع أيضاً أن يقال كون الوجه يشبه وجه

آدم هو مثل كون سائر الأعضاء تشبه أعضاء آدم فإن رأس الإنسان يشبه رأس آدم ويده تشبه يده ورجله تشبه رجله وبطنه وظهره وفخذه وساقه يشبه بطن آدم وظهره وفخذه وساقه فليس للوجه بمشابهة آدم اختصاص بل جميع أعضاء البدن بمنزلته في ذلك فلو صلح أن يكون هذا علة لمنع الضرب لوجب أن لا يجوز ضرب شيء من أعضاء بني آدم لأن ذلك جميعه على صورة أبيهم آدم وفي إجماع المسلمين على وجوب ضرب هذه الأعضاء في الجهاد للكفار والمنافقين وإقامة الحدود مع كونها مشابهة لأعضاء آدم وسائر النبيين دليلٌ على أنه لا يجوز المنع من ضرب الوجه ولا غيره لأجل هذه المشابهة الوجه الحادي عشر أنه لو كان علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهي أيضلً عن الشتم والتقبيح لسائر الأعضاء لا يقولن أحدكم قطع الله يدك ويد من أشبه يدك الوجه الثاني عشر أن ما ذكره من تأويل ذلك فإنه إبطال لقول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى مثل ما يقال إنه

كان عظيم الجثة طويل القامة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى إنسان معين وقال إن الله خلق آدم على صورته أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت البتة يقال لهم الحديث المتفق عليه في الصحيحين مناقض لهذا التأويل مصرح فيه بأن خلق آدم أعظم من صور بنيه بشيء كثير و، هـ لم يكن على شكل أحد من أبناء الزمان كما في الصحيحين عن همام بن منيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق اله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً ثم قال اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاسمه ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالو السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم قال فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن قال في رواية يحيى بن جعفر ومحمد بن رافع على صورته فهذا الحديث الذي هو أشهر الأحاديث التي فيها أن الله خلق

آدم على صورته ذكر فيه أن طوله ستين ذراعاً وأن الخلق لم يزل ينقص حتى الآن وأن أهل الجنة يدخلون على صورة آدم ولم يقل إن آدم على صورتهم بل قال هم على صورة آدم وقد روي أن عرض أحدهم سبعة أذرع فهل في تبديل كلام الله ورسوله أبلغ من هذا أن يجعل ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به وأوجب التصديق به قد نفاه وأبطله وأوجب تكذيبه وإبطاله الوجه الثالث عشر أنه قد روي من غير وجه على صورة الرحمن

إبطال المؤلف لقول من يقول: إن الضمير عائد على آدم

فصل وأما قول من قال الضمير عائد إلى آدم كما ذكر ذلك للإمام أحمد عن بعض محدثي البصرة ويذكر ذلك عن أبي ثور فهو كما قال الإمام أحمد هذا تأويل الجهمية وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه وقد زعم المؤسس أنه أولى الوجوه الثلاثة وليس كما ذكره بل هو أفسد الوجوه الثلاثة ولهذا لم يعدل إليه ابن خزيمة إلا عند الضرورة لرواية من روى على صورة

الرحمن ولقوله ابتداء إن الله خلق آدم على صورته فأما حيث ظن أن التأويل الأول ممكن فلم يقل هذا وبيان فساده من وجوه أحدها أنه إذا قيل إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة آدم أو لا تقبحوا الوجه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورة آدم كان هذا من أفسد الكلام فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم فأي تفسير فسر ليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه ولا عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرق الحديث فروي قوله إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه مفرداً وروي قوله

الله خلق آدم على صورته مفرداً أما مع أداء الحديث على وجهه فإن عود الضمير إلى آدم يمتنع فيه وذلك أن خلق آدم على صورة آدم سواء كان فيه تشريف لآدم أو كان فيه إخبار مجرد بالواقع فلا يناسب هذا الحكم الوجه الثاني أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم بأي وجه فسر ذلك فلا فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في هذا الحكم فلو كان خلق آدم على صورة آدم مانعاً من ضرب الوجه أو تقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الأعضاء وتقبيح سائر الصور وهذا معلوم الفساد في العقل والدين وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة من أقبح الكلام وإضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا صدر إلا عن جهل عظيم أو نفاق شديد إذ لا خلاف في علمه وحكمته وحسن كلامه وبيانه كما يذكر أن بعض الزنادقة سمع قارئاً يقرأ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل 112] فقال وهل يذاق

اللباس فقالت له امرأة هبك تشك في بداية العقول أو يعلل حكم المحل بعلة لا تعلق لها به فإن هذا مثل أن يقال لا تضربوه وجوه بني آدم فإن أباهم له صفات يختص هو بها دونهم مثل كونه خلق من عير أبوين أو يقال لا تضربوا وجوه بني آدم فإن أباهم خلق من غير أبوين الوجه الثالث أن هذا تعليل للحكم بنا يوجب نفيه وهذا من أعظم التناقض وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة وعلقة ومضغة وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة بواسطة العناصر وبنوه قد خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وخلقوا في مدة من عناصر الأرض فإن كانت العلة المانعة من ضرب الوجه وتقبيحه كونه خلق على ذلك الوجه وهذه العلة منتفية في بنيه فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه وتقبيحها لانتفاء العلة فيها فإن آدم

هو الذي خلق على صورته دونهم إذ هم لم يخلقوا كما خلق آدم على صورهم التي هم عليها بل نقلوا من نطفة إلى علقة إلى مضغة الوجه الرابع ما أبطل به الإمام أحمد هذا التأويل حيث قال من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه وهذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد يعم الأحاديث يعم قوله ابتداء إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ويعم قوله لا تقبحوا الوجه وإذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وذلك أن قوله خلق الله آدم على صورته يقتضي أنه كان له صورة قبل الخلق خلقه عليه فإن هذه العبارة لا تستعمل إلا في مثل ذلك وبمثل هذا أبطلنا من يقول إن الضمير عائد إلى المضروب فإن المضروب متأخر عن آدم ولا يجوز في مثل هذا الكلام أن

تكون الصورة التي خلق عليها آدم متأخرة عن حين خلقه سواء كانت هي صورته أو صورة غيره فإذا قيل عملت هذا على صورة هذا أو على مثال هذا أو لم يعمل هذا على صورة غيره أو لم يعمل على مثال أو لم ينسج على منوال غيره كما يقال في تمجيد الله تعالى خلق الله العالم على غير مثال والإبداع خلق الشيء على غير مثال ونحو ذلك من العبارات كان معناها المعلوم بالاضطرار من اللغة عند العامة والخاصة أن ذلك على صورة ومثال متقدم عليه أو لم يعمل على صورة ومثال متقدم عليه وذلك أن هذا اللفظ تضمن معنى القياس فقوله خلق أو عمل أو صنع على صورة كذا أو مثاله أو منواله تضمن معنى قيس عليه وقدر عليه وإذا كان كذلك فجميع ما يذكر من التأويلات مضمونه أو صورته تأخرت عنه فتكون باطلة

وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أنه لم تكن لآدم صورة خلق عليها قبل صورته التي خلقها الله تعالى الوجه الخامس أن جميع ما يذكر من التأويل كقول القائل خلق آدم على صورة آدم موجود نظيره في جميع المخلوقات فإنه إن أريد بذلك على صورتها الثابتة في القدر في علم الله وكتابه أي على صفتها التي هي عليها أو غير ذلك فهذا موجود نظيره في سائر المخلوقات من السموات والأرض وما بينهما ومن الملائكة والجن والبهائم بل وذرية آدم كذلك فإنهم خلقوا على صورهم كما يذكرونه في معنى قولهم خلق الله آدم على صورة آدم فإن كون آدم على صورته يعني شبحاً موجود في صور

هذه الأمور وأما كونه خلق على هذه الصورة ابتداء أو فيغير مدة فإنه لم يخلق إلا من حال إلى حال من التراب ثم من الطين ثم من الصلصال كما خلق بنوه من النطفة ثم العلقة ثم المضغة فلا منافاة في الحقيقة بين الأمرين فإذا جاز أن يقال في أحدهما إنه خلق على صورته رغم تنقله في هذه الأطوار جاز أن يقال في الآخر خلق على صورته مع تنقله في هذه الأطوار وإذا كان كذلك فمن المعلوم بالاتفاق أن قوله خلق آدم على صورته هي من خصائص آدم وإن كان بنوه تبعاً له في ذلك كما خلقه الله تعالى بيديه وأسجد له ملائكته علم بطلان ما يوجب الاشتراك ويزيل الاختصاص الوجه السادس أن المعنى الذي تدل عليه هذه العبارة التي ذكروها هو من الأمور المعلوم ببديهة العقل التي لا يحسن بيانها والخطاب بها لتعريفها بل لأمر آخر فإن قول القائل إن الشيء الفلاني خلق على صورة نفسه لا يدل لفظه على غير ما هو معلوم بالعقل أن كل مخلوق فإنه خلق على

الصورة التي خلق عليها وهذا المعنى مثل أن يقال أوجد الله الشيء كما أوجده وخلق الله الأشياء على ما هي عليه وعلى الصورة التي هي عليها ونحو ذلك مما هو معلوم ببديهة العقل ومعلوم أن بيان هذا وإيضاحه قبيح جدًّا الوجه السابع أن دلالة قول القائل خلق آدم على صورة آدم على ما يدعونه من معان أخر مثل كونه غير مخلوق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أو كونه لم يخلق في مدة ومن مادة أو لم يخلق بواسطة القوى والعناصر مما لا جليل عليه بحال فإن هذا اللفظ لا يفهم منه هذه المعاني بوجه من الوجوه فلابد أن يبين وجه دلالة اللفظ على المعنى من جهة اللغة ويذكر له نظير في الاستعمال الوجه الثامن أن رواية الحديث من وجوه فسائر الألفاظ تبطل عود الضمير إلى آدم مثل قوله لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن وقوله في الطريق الآخر من حديث أبي هريرة إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن وقول ابن عباس فيما يذكره عن الله تعالى تعمد إلى خلق من خلقي

خلقتهم على صورتي فتقول لهم اشربوا يا حمير فأما قوله إن حديث ابن عمر قد ضعفه ابن خزيمة فإن الثوري أرسله فخالف فيه الأعمش وأن الأعمش وحبيباً

مدلسان فيقال قد صححه إسحاق بن راهوية وأحمد ابن حنبل وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء ابن أبي رباح إذا أرسل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلابد أن يكون قد سمعه من أحد وإذا كان في إحدى الطريقين قد بين أنه أخذه عن ابن عمر كان هذا بياناً وتفسيراً لما تركه وحذفه من الطريق الأخرى ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً وأيضاً فلو قدر لأن عطاء لم يذكره إلا مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن عطاء من أجلِّ التابعين قدراً فإنه هو وسعيد بن المسيب

وإبراهيم النخعي والحسن البصري أئمة التابعين في زمانهم وقد ذكر المصنف لهذا الحديث كابن خزيمة أن الأخبار في مثل هذا الجنس الذي توجب العلم هي أعظم من الأخبار التي توجب العمل ومعلوم أن مثل عطاء لو أفتى في مسألة فقه بموجب خبر أرسله لكان ذلك يقتضي ثبوته عنده ولهذا يجعل الفقهاء احتجاج المرسل بالخبر الذي أرسله دليلاً على ثبوته عنده فإذا كان عطاء قد جزم بهذا الخبر العلي عن

النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الباب العظيم أيستجيز ذلك من غير أن يكون ثابتاً عنده أن يكون قد سمعه من مجهول لا يعرف أو كذاب أو سيئ الحفظ وأيضاً فاتفاق السلف على رواية هذا الخبر ونحوه مثل عطاء بن أبي رباح وحبيب بن أبي ثابت والأعمش والثوري وأصحابهم من غير نكير سمع من أحد لمثل ذلك في ذلك العصر مع أن هذه الروايات المتنوعة في مظنة الاشتهار دليل على أن علماء الأمة لم تنكر إطلاق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن بل كانوا متفقين على إطلاق مثل هذا وكراهة بعضهم لرواية ذلك في بعض الأوقات له نظائر فإن الشيء قد يمنع سماعه لبعض الجهال وإن كان متفقاً عليه بين علماء المسلمين وأيضاً فإن الله قد وصف هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فمن الممتنع

أن يكون في عصر التابعين يتكلم أئمة ذلك العصر بما هو كفر وضلال ولا ينكر عليهم أحد فلو كان قوله خلق آدم على صورة الرحمن باطلاً لكانوا كذلك وأيضاً فقد روي بهذا اللفظ من طريق أبي هريرة والحديث المروي من طريقين مختلفين لم يتواطأ رواتهما يؤيد أحدهما الآخر ويستشهد له ويعتبر به بل قد يفيد ذلك العلم إذ الخوف في الرواية من تعمد الكذب أو من سوء الحفظ فإذا كان الرواة ممن يعلم أنهم لا يتعمدون الكذب أو كان الحديث ممن لا يتواطأ في العادة على اتفاق الكذب على لفظه لم يبق إلا سوء الحفظ فإذا كان قد حفظ كل منهما مثل ما حفظ الآخر كان ذلك دليلاً على أنه محفوظ لاسيما إذا كان ممن جرب بأنه لا ينسى لما فيه من تحرِّيه اللفظ والمعنى ولهذا يحتج من منع المرسل به إذا روي من وجه

آخر ولهذا يجعل الترمذي وغيره الحديث الحسن ما روي من وجهين ولم يكن في طريقه متهم بالكذب ولا كان مخالفاً للأخبار المشهورة

وأدنى أحوال هذا اللفظ أن يكون بهذه المنزلة وأيضاً فقد ثبت عن الصحابة أنهم تكلموا بمعناه كما في قول ابن عباس تعمد إلى خلق من خلقي على صورتي والمرسل إذا اعتضد به قول الصاحب احتج به من لا يحتج بالمرسل كالشافعي وغيره وأيضاً ثبت بقول الصحابة ذلك ورواية التابعين كذلك عنهم أن هذا كان مطلقاً بين الأئمة ولم يكن منكوراً بينهم وأيضاً فعلم ذلك لا يؤخذ بالرأي وإنما يقال توقيفاً ولا يجوز أن يكون مستند ابن عباس أخبار أهل الكتاب الذي هو أحد الناهين لنا عن سؤالهم ومع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم أو تكذيبهم فعلم أن ابن عباس إنما قاله توقيفاً من النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح

البخاري عن ابن شهاب عن عبيد الله عن عبد الله أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسولكم أحدث الكتب عهداً بالرحمن تقرؤونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم الكتب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم الآية فمعلوم مع هذا أن ابن عباس لا يكون مستنداً فيما يذكره من صفات الرب أنه يأخذ ذلك عن أهل الكتاب فلم يبق إلا أن يكون أخذ من الصحابة الذين أخذوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الوجوه كلها مع أنها مبطلة لقول من يعيد الضمير في قوله على آدم فهي أدلة مستقلة في الإخبار بأن الله تعالى خلق آدم على صورة نفسه وبهذا حصل الجواب عما يذكر من كون الأعمش مدلساً حيث يقدم على رواية مثل هذا الحديث ويتلقاه عنه العلماء ويوافقه الثوري والعلماء على روايته عن ذلك الشيخ بعينه

وكذلك قوله حبيب مدلس فقد أخذه عنه هؤلاء الأئمة وأيضاً فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء كالتوراة فإن في السفر الأول منها سنخلق بشراً على صورتنا يشبهها وقد قدمنا أنه يجوز الاستشهاد بما عند أهل الكتاب إذا وافق ما يؤثر عن نبينا بخلاف ما لم نعلمه إلا من جهتهم فإن هذا لا نصدقهم فيه ولا نكذبهم ثم إن هذا مما لا غرض لأهل الكتاب في افترائه على الأنبياء بل المعروف من حالهم كراهة وجود ذلك في كتبهم وكتمانه وتأويله كما قد رأيت ذلك مما شاء الله من علمائهم ومع هذا الحال يمتنع أن يكذبوا كلاماً يثبتونه في ضمن التوراة

وغيرها وهم يكرهون وجوده عندهم وإن قيل الكاره لذلك غير الكاتب له فيقال هو موجود في جميع النسخ الموجودة في الزمان القديم في جميع الأعصار والأمصار من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً فمن المعلوم أن هذه النسخ الموجودة اليوم بالتوراة ونحوها قد كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان ما فيها من الصفات كذباً وافتراءً ووصفاً لله بما يجب تنزيهه عنه كالشركاء والأولاد لكان إنكار ذلك عليهم موجوداً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين كما أنكروا عليهم مادون ذلك وقد عابهم الله في القرآن بما دون ذلك مما هو دون ذلك فلو كان هذا عيباً لكان عيب الله لهم أعظم وذمهم عليه أشد

الوجه التاسع إبطال أعيان التأويلات التي ذكرها فأما قوله في الوجه الأول أنه لم يغير خلقة آدم ولم يمسخها كما مسخ غيره كالحية والطاووس قيل خلق آدم على صورة آدم فيقال له العبارة المعروفة عن هذا المعنى أن يقال أبقى آدم على صورته أو تركه على صورته أو لم يغير صورة آدم لا يقال خلقه على صورة نفسه فإن هذا اللفظ لا يستعمل في مثل ذلك المعنى ألا ترى أن الله لما مسخ بعض بني إسرائيل كالذين قال لهم كونوا قردة خاسئين كما قال وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة 60] وأنجى الذين كانوا ينهون عن المنكر فإنه

لا يقال خلق هؤلاء على صورهم بل يقال أبقاهم على صورهم أو أبقى صورهم أو لم يمسخهم وهذا لما تقدم من أن هذا اللفظ لا يقال إلا فيما تقدمت الصورة على خلقه لا فيما تأخرت وأيضاً فهذا من الأمر المعروف الظاهر لكل أحد أن مضمونه أن صورة آدم كانت كهذه الصور لم تمسخ وما من الناس إلا من يعرف هذا كما يعرف آدم فقول القائل لهذا كقوله إن آدم كان له وجه وعينان وأذنان ويدان وساقان وهذا من الكلام السمج وأيضاً فالإخبار بما ذكره من مسخ غير آدم غير معلوم ولا مذكور

وأيضاً فإن الله تعالى قد أخبر أنه تاب على آدم واجتباه وهو في الجنة قبل إهباطه إلى الأرض فزال عنه العقاب قبل هبوطه وأما التأويل الثاني وقوله إن فيه إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا من نطفة ودم الطمث فيقال له قد أخبر الله في كتابه أنه خلق آدم من الماء والتراب ومن الطين ومن الحمأ المسنون وهذه نصوص ظاهرات متواترات بسمعها العام والخاص تبين أنه لم يخلق من نطفة ودم طمث وتبطل هذا القول إبطالاً بيناً معلوماً بالاضطرار فأما قول القائل إن آدم خلق على صورة آدم فليس في هذا القول دلالة على نفي كونه مخلوقاً من غيره أصلاً

وقوله خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدم نطفة ثم علقة ومضغة يقال له خلق بعد تقدم تراب وطين وصلصال ودلالة اللفظ على نفي هذا المتقدم كدلالته على نفي ذلك المتقدم فإن كان قوله خلق آدم على صورة آدم يقتضي خلقه ابتداء من غير تنقل أحوال فهو ينفي الأمرين وإلا فهو ينفي لا هذا ولا هذا وهذا التخليط إنما وقع لكون الصورة التي خلق عليها جعلوها متأخرة عن الخلق وهو خلاف مدلول اللفظ وأما التأويل الثالث وقوله إن الإنسان لا يتكون في مدة أطول من مدد بنيه وبواسطة الأفلاك والعناصر فقوله خلق آدم على صورة آدم أي من غير هذه الوسائط والمقصود منه الرد على الفلاسفة فيقال هذا أظهر بطلاناً من الأول فإن آدم عليه السلام لم يتكون إلا في مدة أطول من مدد بنيه ومن مادة أعظم من مواد بنيه فإن الله خلقه من التراب والماء وجعله صلصالاً وهذه

هي العناصر وأيضاً فإنه أبقي أربعين عاماً قبل نفخ الروح فيه وولده إنما يبقون أربعة أشهر قال تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) [الإنسان 1] وأيضاً فاللفظ لا يدل على نفي ذلك بوجه من الوجوه لا حقيقة ولا مجازاً بل هذه الدلالة من جنس ما تدعيه غالية الرافضة ونحوهم من جهال الزنادقة أن قول إِمَامٍ مُبِينٍ هو علي بن أبي طالب بل ربما هذا أقوى فإن لفظ الإمام فيه

اشتراك وإلا فكون الشيء خلق على صورة نفسه المتقدمة أو المتأخرة أي شيء فيه مما ينفي كونه في مدة وخلق من مادة ثم إن هذا المؤسس مع كونه يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على رفع تأثير الأفلاك والعناصر ردًّا على الفلاسفة يقرر في كتب له أخرى دلالة القرآن على تأثير الأفلاك والكواكب تارة عملاً بما يأمر به المنجمون من الأخبار وتارة أمراً بما يأمر به السحرة المشركون من عبادتهم فقد جعل كلام الله ورسوله متناقضاً حيث أثبت ذلك ونفاه ثم إنه في جانب الإثبات يغلو حتى يأمر بما هو محرم بل كفر بإجماع المسلمين وفي جانب النفي يغلو حتى يمنع كونها أسباباً كسائر الأسباب وهذا من أعظم التناقض في ما جاء به الرسول ومن جهة المعقول وأما التأويل الرابع فقوله المقصود منه بيان أن هذه الصورة الإنسانية إنما حصلت بتخليق الله لا بتأثير القوة المصورة يقال له إن كان اللفظ دالاًّ على ذلك

فإنما يدل عليه قوله خلق الله آدم كما ذكر ذلك في القرآن في غير موضع إذ قوله على صورته لا يتعرض لذلك وإن لم يكن دالاًّ عليه فهو باطل وعلى التقديرين فدعوى أن قوله على صورته بغير القوى الطبيعية دعوى باطلة ويقال له ثانياً إخبار الله تعالى بأنه خلق آدم وهو الخالق أظهر وأشهر في القرآن وعند العامة والخاصة من أن يكون المستفاد منه يحتاج إلى قوله على صورته ويقال له ثالثاً أي شيء في قوله على صورته ما يمنع هذه القوى ويقال له رابعاً ومن الذي يمنع وجود هذه القوى والطبائع وأن الله هو خلقها وخلق بها كما أخبر في غير موضع من كتابه أنه يحدث الأشياء بعضها ببعض كما في قوله تعالى فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف 57] ومن أعظم الضلال جحود ما يوجد في المخلوقات

وما أخبر الله به في كتابه وجعل ذلك تأويل الأحاديث مع دعوى المدعي أنه يرد بذلك على الدهرية والفلاسفة والأطباء والمشبهة وهو قد أضحك العقلاء على عقله بما جحده من الحسيات والمعقولات وألحد في آيات الله بما افتراه من التأويلات وأخبر عن الرسول أنه أخبر بجحد الموجودات مع أن لفظه صلى الله عليه وسلم من أبعد شيء عن هذه الترهات وأما التأويل الخامس فقوله إن الصورة تذكر ويراد بها الصفة يقال شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة والمراد أن الله تعالى خلق آدم من أول الأمر كاملاً تامًّا في علمه وقدرته أو كونه سعيداً عارفاً تائباً فيقال له الصورة هي الصورة الموجودة في الخارج

ولفظ ص ور يدل على ذلك وما من موجود م الموجودات إلا له صورة في الخارج وما يكون من الوقائع يشتمل على أمور كثيرة لها صورة موجودة وكذلك المسؤول عنه من الحوادث وغيرها له صورة موجودة في الخارج ثم تكون الصورة الموجودة ترتسم في النفس وقد تسمى صورة ذهنية فقوله شرحت له صورة الواقعة وأخبرني بصورة المسألة إما أن يكون المراد به الصورة الخارجية أو الصورة الذهنية وأما الصفة فهي في الأصل مصدر وصفت الشيء أصفه وصفاً وصفة ثم يسمون المفعول باسم المصدر سنة جارية لهم فيقولون لما يوصف به من المعاني صفة ثم قد يغلب أحد اللفظين في بعض الاصطلاحات كما اصطلح طائفة من الناس على أن جعلوا الوصف اسماً للقول والصفة اسماً للمعنى كما أن طائفة أخرى جعلوا الجميع اسماً للقول والتحقيق أن كلا منهما يدل على هذا والواصف للشيء لا يصفه حتى يعلمه فيرتسم مثاله في نفسه ومن هنا يقام

الدليل مقام الصفة كما قد قيل في قوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد 35] قال بعضهم أي صفة الجنة التي وعد المتقون وإذا كان ما في النفس من العلم بالشيء يسمى مثلاً له وصفة فالصورة الذهنية هي المثل الذي يسمى أيضاً صفة ومثلاً ولهذا يقال تصورت الشيء وتمثلت الشيء وتخيلته إذا صار في نفسك صورته ومثاله وخياله كما يسمى مثاله الخارج صورة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله المصورين وقال من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ وقال لا تدخل الملائكة بيتاً فيه

صورة كما يسمى ذلك تمثالاً في مثل قول علي بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني ألا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً

مشرفاً إلا سويته وقال العلماء كابن عباس وعكرمة واحمد وغيرهم الصورة هي الرأس فإذا قطع الرأس لم تبق صورة ولهذا قال ابن عباس لمن استفتاه إن كنت مصوراً فصور الشجر وما لا روح فيه

وسيأتي في الصحيحين من حديث القيامة قال فيه ويحرم الله صورهم على النار هذا في حديث أبي سعيد وفي حديث أبي هريرة حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود وقال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ

اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراق 11] وقال تعالى اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر 64] وقال يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار 6-8] وقوله إن لفظ الصورة يذكر ويراد به الصفة إن أراد له أن الصورة توصف بالقول وأن لفظ الصورة يراد به ما يوصف بالقول من الصورة الخارجية أو ما يطابقه من الصور الذهنية فهذا قريب ولكن هذا يوجب أن لفظ الصورة لابد له من صورة خارجية وإن طابقها الصورة الذهنية وإن أراد به أن لفظ الصفة قد لا يراد به إلا ما يقوم بالأعيان من المعاني كالعلم والقدرة فهذا باطل لا يوجد في الكلام أن قول القائل صورة فلان يراد بها مجرد الصفات القائمة به من العلم والقدرة ونحو ذلك بل هذا من

البهتان على اللغة وأهلها وأيضاً فقول القائل خلق آدم على صورة آدم بمعنى على صفة آدم لا يدل على أنه خلق على صفات الكمال ابتداء ولو أريد بالصورة ما يتأخر عن وجوده فإن المخلوق على صفة من الصفات يخلق عليها في مدة وفي غير مدة يبين ذلك أنه جعل أحد المحملين كونه خلق عارفاً تائباً مقبولاً عند الله ومعلوم أن هذه الصفة تأخر وجودها عن ابتداء خلقه فإن التوبة كانت بعد الذنب فإذا كان لا ينافي كونه مخلوقاً عليها فكذلك لا ينافي كونه مخلوقاً على صفة العلم والقدرة وإن تأخر ذلك عن وجوده وإذا كان كذلك فلا فرق بينه وبين غيره أيضاً فهذا الذي ذكره من معنى الخبر باطل فإن آدم لم يُجعل ابتداء على صفة الكمال بل بعد أن خلقه الله تعالى علَّمه الأسماء التي لم يكن بها عالماً كما علم بنيه البيان بعد أن خلقهم

فهذه التأويلات التي هي ذكر دلالة اللفظ على معنى من المعاني تارة يكون المعنى باطلاً وتارة يكون اللفظ غير دال عليه وتارة يكون اللفظ دالاًّ على نقيضه وضده وتارة يجتمع من ذلك ما يجتمع وهذا شأن أهل التحريف والإلحاد نعوذ بالله من الغي والزيغ ونسأله الهدى والسداد وهذه التأويلات وإن كان المؤسس مسبوقاً بها وهو إن كان قد نقل منها ما نقله من كتاب أبي بكر بن فورك ونحوه وهم أيضاً مسبوقون بأمثالها فقد كان من هو أقدم منهم يذكر من التأويلات ما هو أمثل من ذلك إذ كل ما تقدم الزمان كان الناس أقرب إلى السداد في الثبوتات والقياسات الشرعيات والعقليات وكان قدماء الجهمية أعلم بما جاء به الرسول وأحسن تأويلاً من هؤلاء كما تقدم فيما ذكره عن المروذي عن أحمد أنه ذكر له عن بعض المحدثين بالبصرة أنه

قال قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال صورة الطين قال هذا جهمي وقال نسلم الخبر كما جاء فأخبر أحمد أن هذا جهمي كما أن من قال على صورة الأرحام فهو جهمي لأن الجهمية هم الذين ينكرون الصفات ويتأولون ما ورد في ذلك من الأخبار والآيات وهذا التأويل أجود مما تقدم فإن قوله على صورة آدم يقتضي أن يكون لآدم صورة خلق عليها وتلك هي صورة الطين فإن الله صور آدم طيناً حتى يبس فصار صلصالاً ثم نفخ فيه الروح ومراد هؤلاء أنه خلقه على تلك الصورة المصنوعة من الطين لكن هذا أيضاً فاسد فإن قول القائل خلق على تلك الصورة يقتضي أن تكون له صورة أخرى خلقت على تلك الصورة وآدم هو بعينه تلك الصورة التي خلق فيها الروح بل تصويره هو خلقه من تراب ثم من طين كما قال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف 11] فقدم الخلق على التصوير فكيف تكون الصورة التي لآدم

سابقة على الخلق حتى يقال خلق آدم على تلك الصورة وأيضاً لو أريد أنه خلق من صورة الطين بعينها لا من أبوين ولا يجوز ذلك لقيل كما قال الله تعالى مِنْ تُرَابٍ وقال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) [ص 71] وقال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) [الحجر 28] وكذلك إذا تأوله متأول على الصورة المقدرة له وهي ما سبق له في علم الله وكلامه وكتابه أي خلق آدم على الصورة التي قدرها له فإن الله وإن كان خلق كل شيء على ما سبق من تقديره فلا يصح تأويل الحديث على هذا لأن جميع الأشياء خلقها الله تعالى على ما قدره فلا اختصاص لآدم بذلك وأيضاً فإنه لا يصلح أن يقول لا تقبحوا الوجه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على ما قدره فإن الوجه وسائر الأعضاء بل وسائر المخلوقات خلقها على ذلك فينبغي أن لا يصلح تقبيح شيء من الأشياء ألبتة لعموم العلة وأيضاً فإن قوله ووجه من أشبه وجهك يمنع أن

يكون المراد التقدير وأيضاً فإن هذه العلة لا تصلح أن تكون مانعة من التقبيح وأيضاً فإن قوله إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته يمنع أن يكون المراد به التقدير فإن ذلك لا يختص بالوجه ولا بآدم ولا يصلح أن يعلل به منع ضرب الوجه ولو علل به وجب أن لا يضرب شيء من الأشياء وأيضاً فقوله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً إلى قوله فكل من يدخل الجنة يدخلها على صورة آدم صريح في أنه أراد صورة آدم المخلوقة لا المقدرة وأيضاً فتسمية ما قدر صورة ليس له أصل في كلام الله وكلام رسوله فليس في هذا الخطاب أن صور الأشياء ثابتة في علم الله أو تقديره وإن كان من المتأخرين من يقول لفلان عند فلان صورة عظيمة وهذا الأمر مصور في نفسي لكن مثل هذا الخطاب لا يجوز أن يحمل عليه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك من لغته التي خاطب بها أمته

فصل وأما التأويلات الثلاثة التي ذكرها في الطريق الثالث فالكلام في إبطالها فقط إذ لفظ الحديث مع سائر الأحاديث موافقة لهذه الطريق كما جاء على صورته وعلى صورة الرحمن وعلى صورتي أما التأويل الأول وهو وقوله المراد من الصورة الصفة كما بيناه فيكون المعنى أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص

والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات قادراً على استنباط الحرف والصناعات وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه فصح قوله إن الله خلق آدم على صورته على هذا التأويل فالكلام عليه من وجوه أحدها أنه تقدم أن لفظ الصفة سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج أو لما يطابقها من العلم والقول وذلك المطابق يسمى صفة ويسمى صورة وأما الحقيقة الخارجية فلا تسمى صفة كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها صورة وإذا كان كذلك فقوله على صورته لابد أن يدل على الصورة الموجودة في

الخارج والقائمة بنفسها التي ليست مجرد المعاني القائمة بها من العلم والقدرة وإن كان لتلك صورة وصفة ذهنية إذ وجود هذه الصور الذهنية مستلزمة لوجود تلك وإلا كان جهلاً لا علماً فسواء عنى بالصورة الصورة الخارجة أو العلمية لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات والمثال العلمي المطابق لذلك الوجه الثاني أن قوله إن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بالعلم والقدرة إن أراد به امتياز عن بنيه فليس كذلك وإن أراد به امتيازه عن الملائكة والجن فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه وإن كان هو أيضاً علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه لاسيما عند جمهور الجهمية من المعتزلة والمتفلسفة ونحوهم الذين يزعمون أن الملائكة أفضل من الأنبياء ونهو أحد أقوال هذا المؤسس وسواء كان الأنبياء أفضل أو الملائكة فلا ريب

أنه لم يتميز أحدهمَا عن الآخر بجنس العلم والقدرة لكن بعلم خاص وقدرة خاصة وأيضاً فأهل السنة الذين يقولون الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة لا يقولون إنهم خلقوا على صفة الكمال التي هم بها أفضل من الملائكة بل يقولون إن الله ينقلهم من حال إلى حال حتى يكونوا في نهايتهم أفضل من الملائكة في نهايتهم فقد ثبت باتفاق الطوائف أن آدم لم يخلق على صفة من العلم والقدرة امتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام بل في الأشخاص والأجسام من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر الوجه الثالث أن يقال المشاركة في بعض الصفات واللوازم البعيدة إما أن تصحح قول القائل إن الله خلق ذلك الموصوف على صورة الله أو لا تصحح ذلك فإن لم تصحح ذلك بطل قولك إن خلق آدم على هذه الصفات التي جعلتها بعض اللوازم يصحح قوله إن الله خلق آدم على

صورة الرحمن وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق صح أن يقال إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته بل خلق كل حي على صورته بل ما من شيء من الأشياء إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة ولو أنه القيام بالنفس وحمل الصفات فيصح أن يقال في كل جسم وجوهر إن الله خلقه على صورته على هذا التقدير الوجه الرابع أن لفظ الحديث إذا قاتل أحدكم أو ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن ضرب الوجه لأن الله خلق آدم على صورته فلو كان المراد مجرد خلقه عالماً قادراً ونحو ذلك لم يكن للوجه بذلك اختصاص بل لابد أن يريد الصورة التي يدخل فيها الوجه الوجه الخامس الحديث الآخر لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن تقبيح الوجه المشبه لوجه آدم لأن الله خلق آدم على صورته وهذا يقتضي أنه نهى عن ذلك لتناوله لله وأن أدخل وجه ابن آدم فيما خلقه الله على صورته فإن قيل هذا تصريح بأن وجه الله يشبه وجه الإنسان كما

ورد صورة الإنسان على صورة الرحمن فالجواب أن هذا أيضاً لازم للمنازع ولهذا أورده وأجاب عنه فقال فإن قيل المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية قلنا المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الإلهية قال ولهذا المعنى قال الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم 27] وقال صلى الله عليه وسلم تخلقوا بأخلاق الله ومن المعلوم أن المشابهة هي المشاركة في صفات الكمال التي هي العلم والقدرة أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه وأيضاً فهذا المؤسس قد ذكر في أجلِّ كتبه الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول في مسألة تكفير المخالفين

من أهل القبلة في حجة من كفر المشبهة قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن يكون هو الذي يذهب إلى كون الله مشبهاً بخلقه من الوجوه أو ليس كذلك والأول باطل لأن أحداً من العقلاء لم يذهب إلى ذلك ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له بل المشبه هو الذي يثبت الإله تعالى على صفة يشبهه معها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا أثبته جسماً مخصوصاً لحيز معين فإنه يشبهه بالأجسام المحدثة فثبت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع

فالمجسم كافر ثم قال في الجواب عن ذلك لأنه نصر عدم تكفير أهل القبلة قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلاً بكون الله شبيهاً بخلقه من كل الوجوه فلا شك في كفره لكن المجسمة لا يقولون بذلك فلا يلزم قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق وإن عنيتم بالمشبهة من يقول بكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه موجود شيء وعالم وقادر والحيوانات أيضاً كذلك وذلك لا يوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع

على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى للإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه وهذا تصريح منه بأن القول بكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه داخل في قول كل المسلمين ور ريب أن كل موجودين فلابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه وإن كان أحدهما أكمل فيه وأولى به من الآخر وإلا فإذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلاً ولا يشتركان فيه لم يكونا موجودين وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها وهذا الكلام قد نبهنا عليه غير مرة في هذا وفي الأجوبة المصرية وفي جواب المسألة الصرخدية وغير ذلك في بيان شبهة التركيب والتجسيم وشبهة التشبيه والاتفاق والاشتراك بين الموجودين يكون في مراتب الوجود الأربعة

الحقيقي الخارجي العيني إذا كان هذا موجوداً ثابتاً وهذا موجود ثابت وهذا قائم بنفسه وهذا موصوف بالصفات وهذا موصوف بالصفات وهذا متميز من غيره باين منه وهذا متميز عن غيره باين منه وهذا حي وهذا حي وهذا عليم وهذا عليم وهذا قدير وهذا قدير وهذا سميع وهذا سميع وهذا بصير وهذا بصير وهذا رؤوف رحيم وهذا رؤوف رحيم وهذا عظيم كبير وهذا عظيم كبير وهذا صمد وهذا صمد وهذا واحد وهذا واحد وبينا أن الموجودين في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في نفسه ووجوده وماهيته بل كل منهما مختص بذلك بائن بذاته لكن يشبه أحدهما الآخر شبهاً قليلاً أو كثيراً صغيراً أو كبيراً بعيداً أو قريباً وإنما يشتبهان في شيء وذلك الشيء الذي

يشتبهان فيه هو الذي يشتركان فيه وهو المعنى الكلي وهو بعينه لا يوجد في الخارج مجرداً عنهما وإنما يوجد في هذا حصة منه وفي هذا حصة منه فهو بوصف العموم لا يوجد في الخارج وبوصف الخصوص يوجد في الخارج أما بوصف الإطلاق المقابل للتقييد فلا يوجد في الخارج فليس في الخارج مطلق غير مقيد وأما بوصف الإطلاق حتى عن التقييد وهو المطلق الذي يمنع كونه مقيداً فقد يقال في ذلك إنه موجود في الخارج لكن هو موجود مع كونه مقيداً لا موجوداً مطلقاً غير مقيد وكذلك في الحي والحي والعالم والعالم لابد من نوع اشتباه هو الاشتراك في المرتبة الثانية وهي المرتبة العلمية يقوم في نفس العالم معنى عام كلي يعم هذا وهذا كما يقوم في نفسه المعنى المطلق والمعنى الخاص فذلك المعنى العام يقال له المعنى المشترك وهو الذي اشتبها

فيه ثم في المرتبة الثالثة والرابعة يكون اللفظ بالاسم والخط مطابقاً لهذا المعنى العلمي فيقال في الاسم العام الذي يجب الاشتراك فيه الموجود ينقسم إلى واجب وممكن والحي ينقسم إلى واجب وممكن ونحو ذلك إذ مورد التقسيم مشترك بين الأقسام ويقال في المطلق الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يوجب الاشتراك الموجود قد يكون واجباً وقد يكون ممكناً والموجود يقال للواجب والممكن وكذلك الحي والعليم والقدير ويقال في الخاص هذا الموجود وهذا الحي وأسماء الله كلها خاصة به ولكن إذا جردت عن أداة التخصيص لفظاً أو قصداً أمكن في بعضها أن تجعل مطلقة وعامة كالعليم والسميع والبصير والحي ونحو ذلك ولم يكن ذلك في بعضها ولهذا جعلها الفقهاء في باب الأيمان ثلاثة أقسام قسماً مختصًّا بالله لا يجوز أن يسمى به غيره كاسم الله ورب العالمين فهذا نص وقسماً هو ظاهر في حق الله لكن يجوز أن يسمى به غيره مع القرينة فهذا أيضاً يمين عند الإطلاق وبالنية

نفي التشبيه من كل وجه هو الجحود والتعطيل لرب العالمين

وقد لا يكون يميناً كالحي والصمد وقسماً ليس هو ظاهراً في حق الله بل هو مجمل مشترك ويقال له وللمخلوق مثل اسم الموجود ونحوه فهذا القسم لا يكون يميناً عند الإطلاق وإن قصد به الله فهل يكون يميناً على قولين مشهورين أحدهما يكون يميناً وهو ظاهر مذهب أحمد فتنعقد اليمين عندهم بالصريح والكناية والثاني لا يكون يميناً وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول في مذهب أحمد لأن اليمين لا تنعقد عند هؤلاء بالكناية وإذا كان الأمر كذلك علم أن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين كما عليه المسلمون متفقون كما أن إثباته مطلقاً هو جعل الأنداد لرب العالمين لكن من الناس من لا يفهم هذا ولا يعتقد أن لفظ التشبيه يدل على التمثيل المنفي عن الله إذ لفظ التشبيه فيه عموم وخصوص كما سنبينه ومن هنا ضل فيه أكثر الناس إذ ليس له حد محدود وما هو منتفٍ بالاتفاق بين المسلمين بل بين أهلل الملل كلهم بل بين جميع العقلاء المقرين بالله معلوم بالضرورة

لفظ التشبيه لم يرد في الكتاب والسنة

العقل ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين المسلمين بل بين أهل الملل كلهم بل بين جميع العقلاء للتقرير بالصانع فلما كان لفظ التشبيه يقال على ما يجب انتفاؤه وعلى ما يجب إثباته لم يرد الكتاب والسنة به مطلقاً لا في نفي ولا إثبات ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ المثل والكفو والند والسمي وجاء لفظ الشبه في الإثبات مقيداً في كلام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم كما روى عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو الهلال الراسبي أن عبيد الله بن رواحة قال

للحسن هل تصف ربك قال نعم بغير مثال قال وحدثنا سلمان بن سليمان قال حدثنا

شعبة عن أبي جمرة عن ابن عباس قال ليس لله مثل وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية وبينا أن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه فيجب أن ينفى عنه المثل مطلقاً ومقيداً وكذلك الند والكفو والشريك ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن بنفيها وذكرنا من أدلة ذلك أن الله تعالى لما نفى المثل عن نفسه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ

شَيْءٌ [الشورى 11] والسمي بقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) [مريم 65] والند بقوله فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [البقرة 22] والكفو بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 4] والشريك والعديل والمساوي بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) [يونس 18] ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام 1] إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) [الشعراء 97-98] فلا يخلو إما أن يكون النفي من ذلك مختصًّا بالمماثل له من كل وجه وهو المكافئ له من كل وجه فقط والمساوي والمعادل له والمكافئ له من كل وجه أو يكون النفي عاماً في المماثل ولو من بعض الوجوه والمكافئ ولو من بعض الوجوه ولا يجوز أن يكون النفي مختصًّا بالقسم الأول لأن هذا لم يعتقده أحد من البشر وهو سبحانه ذم ونهى عما هو موجود في البشر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله

وحده فثبت أن هذه الأسماء المنفية تعم المثل والكفو والند والشريك والعديل ولو من بعض الوجوه وهذا هو الحق وذلك لأن المخلوقات وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الموجود والحي والعليم والقدير فليس مماثلة بوجه من الوجوه ولا مكافأة له بل هو سبحانه له المثل الأعلى في كل ما يثبت له ولغيره ولما ينفى عنه وعن غيره لا يماثله غيره في إثبات شيء ولا في نفيه بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله التي تعجز عقول البشر عن معرفتها وألسنتهم عن صفتها ما لا يعلمه إلا الله مما لا نسبة إلى

ما علموه من المر المشتبه المشترك إليه والمنفي عنه لابد أن يستلزم وصفاً ثبوتيًّا كما قررنا هذا في غير هذا الموضع ومنافاته لذلك المنفي وبعده عنه ومنافاة صفاته الوجودية له فيه من الاختصاص الذي لا يشركه فيه أحد ما لا يعلمه أيضاً إلا هو بخلاف لفظ التشبيه فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه البعيدة وهذا مما يجب القول به شرعاً وعقلاً بالاتفاق ولهذا لما عرف الأئمة ذلك وعرفوا حقيقة قول الجهمية وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع ووجوده كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق

والتعطيل ويمنعون عن إطلاق لفظهم العليل لما فهموه من مقصودهم وإن لم يفهمه أهل الجهل والتضليل مثل ما ذكره الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية وقد ذكرناه فيما تقدم قال فيه في وصف قول الجهم ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] ولَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافراً وكان من المشبهة

وأضل بشراً كثيراً وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سأله الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ما تفسيره يقول ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل

ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون فيه شيئان مختلفان ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم وليس هو معلوماً وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة

بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم فمن تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئاً إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون وقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله تعالى ولا يعلم أنهم إنما يقودون قومهم إلى الضلالة والكفر

وقد نقل أهل المقالات عن جهم أنه كان يقول إن الله شيء وهذا معنى ما ذكره أحمد فإنهم وإن أطلقوا أنه شيء لا كالأشياء فلم يريدوا أنه ليس بمثل لها فإن ذلك حق ولهذا لم ينكر أحمد قولهم ليس كمثله شيء من الأشياء لكن أرادوا نفي الشبه من كل وجه ومعناه شيء لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً فبين الإمام أحمد أنه يعلم بالمعقول الصريح الذي يشترك فيه العقلاء أن ما لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه لا شيء كما نقل الناس أن جهماً يقوله ولهذا قال فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً أي لجميع العقلاء فإن هذا لا يختص أهل السمع والكتاب بل يشترك فيه العقلاء كلهم فهذا سؤال عن كونه موجوداً ثم سألهم عن كونه معبوداً فإن هذا يختص به من يوجب عبادة الله وهم المسلمون قديماً وحديثاً

قال فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئاً إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فهنا جعل الكلام مع المسلمين الذين يعبدون الله تعالى والعبادة متضمنة لقصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزم لمعرفته والعلم به فلما قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق ثم قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة فحينئذ تبين للمسلمين الذين يعبدون الله أنهم لا يثبتون شيئاً يعبدونه وإنما هم منافقون في ذلك لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد فعرف المسلمون بطلان قولهم أنهم يعبدون الله ويثبتونه كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة فأنكروا صفاته مطلقاً وأنكروا أنه يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فأنكروا بذلك وجوده

وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه لكن أرسل ذلك والله أعلم بحقيقته أنه لما قرئ على علماء بعداد من المحنة كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم فيه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه أقر بذلك من أقر ب هواما أحمد فقال لا أقول لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام واحترازه منها مع أن كثيراً من الناس يطلق هذه العبارة ويريد بذلك نفي المماثلة ومقصوده صحيح وقد يريد به مل يجمع الحق والباطل أو يريد تنزيهاً مطلقاً لا يحصل معناه وهؤلاء لا يريدون حقيقة قول الجهمية ومما يبين ذلك أنه

ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين ولا الأكابر من أتباع التابعين ذم المشبهة وذم التشبيه أو نفي مذهب التشبيه ونحو ذلك وإنما اشتهر ذم هذا من جهة الجهمية كما ذكره الإمام أحمد ثم قابلهم قوم من أهل الإثبات والرافضة وغلاة أهل الحديث فزادوا في الإثبات حتى دخلوا في التمثيل المنفي في الكتاب والسنة وذلك تشبيه مذموم فذم بقايا تابعي التابعين ومن بعدهم من أئمة السنة هذا التشبيه وذموا المشبهة بهذا التفسير فصار لفظ المشبهة مذموماً في كلام هؤلاء كما هو مذموم في كلام الجهمية لكن بين المعنيين فرق عظيم ولهذا كانوا يفسرون مرادهم ويقولون من أغرق في نفي التشبيه وذم المشبهة كان جهميًّا كما ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم وأبو القاسم اللالكائي عن عبد الرحمن بن عمر

الأصبهاني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول لفتى من ولد جعفر بن سليمان مكانك فقعد حتى تفرق الناس ثم قال يا بني تعرف في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف وكل ذلك يجري مني على بال وحتى

لا أمرك وما بلغني فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصر إليكم يعني السلطان فإذا صار إليكم جل وعظم قال يا أبا سعيد وما ذاك قال بلغني أنك تتكلم في الرب تعالى وتصف وتشبه فقال الغلام نعم فأخذ ليتكلم في الصفة فقال رويدك يا بني حتى نتكلم أول شيء في المخلوق فإن عجزنا عن المخلوق فنحن عن الخالق أعجز وأعجز أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة عن البناني قال سمعت زرًّا قال قال عبد الله في قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) قال رأى جبريل له ستمائة جناح قال نعم فعرف الحديث فقال عبد الرحمن صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح فبقي الغلام ينظر إليه فقال عبد الرحمن

يا بني فإني أهوِّن عليك المسألة وأضع عنك خمسمائة وسبعاً وتسعين صف لي خلق ثلاثة أجنحة ركب الجناح الثلث منه موضعاً غير الموضعين اللذين ركبهما حتى أعلم فقال يا أبا سعيد نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك وأستغفر الله وذكر أيضاً عبد الرحمن بن أبي حاتم قال حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث قال حدثنا سويد بن سعيد

قال حدثنا علي بن عاصم قال تكلم داود الجواربي فضل في التشبيه فاجتمع فقهاء واسط منهم محمد بن زيد وخالد الطحان

وهشيم وغيرهم فأتوا الأمير وأخبروه بمقالته فأجمعوا على سفك دمه فمات في أيامه فلم يصلِّ عليه علماء واسط وذكر عبد الرحمن قال حدثنا أحمد بن سنان قال

سمعت شاذ بن يحيى الواسطي يقول كنت قاعداً عند يزيد بن هارون فجاء رجل فقال يا أبا خالد ما تقول في الجهمية قال يُستتابون لأن الجهمية غلت فتفرعت في غلوها إلى أن نفت والمشبهة غلت فتفرعت في غلوها حتى مثلت فالجهمية يستتابون والمشبهة كذا رماهم بأمر عظيم وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة حدثني أبو بكر ابن صدقة قال سمعت أبا بكر بن أبي

عون يقول سمعت يزيد بن هارون يقول الجواربي والمريسي كافران وسمعت يزيد بن هارون وقد ذكر الجواربي فضربه مثلاً فقال أما داود الجواربي عبر جسر واسط يريد العيد فانقطع الجسر فغرق من كان عليه فخرج شيطان فقال أنا داود الجواربي وذكر عبد الرحمن حدثنا يوسف بن إسحاق حدثنا أحمد بن الوليد عن محمد بن عمرو بن بكيت قال سمعت وكيعاً

يقول وصف داود الجواربي الرب فكفر في صفته فرد عليه المريسي فكفر في رده عليه إذ قال هو في كل شيء وقال عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الصدائى قال قال نعيم بن حماد من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن انك ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه قال عبد الرحمن حدثنا أحمد بن سلمة قال سمعت إسحاق بن إبراهيم بن

راهوية يقول من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلقه فهو كافر بالله العظيم لأنه وصف لصفاته إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وسمعت إسحاق يقول علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل الجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة بل هم المعطلة ولو جاز أن يقال هم المشبهة لاحتمل ذلك وذلك أنهم يقولون إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله في أسفل الأرضين وأعلى السموات على معنى واحد وكذبوا في ذلك ولزمهم الكفر قال عبد الرحمن سمعت أبي يقول علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة وعلامة القدرية

تسميتهم أهل السنة مجبرة وعلامة المعتزلة تسميتهم أهل السنة حشوية وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة

ناصبة وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة أخبرني يوسف ابن موسى أن أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم وليس كمثله شيء

قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثه قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئاً ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد

صحاحا ولا يرد على الله تعالى قوله ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وليس كمثله شيء

وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فعبد الله يصف الله غير محدود ولا معلوم إلا بما وصف به نفسه قال الله تبارك وتعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] وقال حنبل في موضع آخر فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفاته منه له ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله

بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلماً عالماً غفوراً عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يعلم كيف ذلك إلاّ بتصديق الرسول عليه السلام وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال لي أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ

الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شيء فقلت لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] قال ما أردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله تعالى وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له والمشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي قال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحد وهو كلام سوء وهو محدود

والكلام في هذا لا أحبه قال عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 7] فقد أمر الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عما نهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال وزاد أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا الكلام

الفرق بين العلو والاستواء

وقال تبارك وتعالى اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى والذي جاء به الشرع في هذا النص من قوله خلق آدم على صورته ونحوه فإنه أخص مما يعلم بمجرد العقل من ثبوت القدر المشترك بينه وبين كل موجود أو كل حي فإن هذا المدلول عليه بالنص لا يعلم بالعقل والقياس وإنما يعلم أصل ذلك مجملاً وهذا كما ذكر في مسألة العلو أن العقول يعرف بها أن الله تعالى فوق خلقه وأما استواؤه على العرش بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام فهذا إنما يعلم بالسمع هذا مما

اتفق عليه أئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أن العلم بكونه فوق العالم فطري عقلي وأما العلم باستوائه على العرش فسمعي شرعي وكذلك أئمة متكلمة الصفاتية مثل أبي محمد بن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وغيرهما وكلام الأشعري الذي رأيناه يدل على ذلك أيضاً وإن كان ابن فورك جعل ذلك خلافاً بينه وبين ابن كلاب فقد بينا غلطه في ذلك والمقصود أن العلو عقلي والاستواء سمعي فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه أخبر الله على ألسنتهم بما تقصر العقول عن دركه وإن كان ذلك من المعروف الذي يعرف

بالمعقول أصله ويعرف على سبيل الإجمال كما أن ما أمروا به كذلك هو معروف في العقول في الجملة لكن تفاصيل المأمور به لا تعرف إلا بالشرع المسموع ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة من ثبوت هذا الشبه من بعض الوجوه والله هو الذي خلق آدم على صورته هو خير مما ذكره المؤسس واستشهد عليه بما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وهو قوله تخلقوا بأخلاق الله فإن هذا من جنس ما يقوله المتفلسفة الصابئون ومن سلك مسلكهم من الإسلاميين من قولهم إن الفلسفة هي التشبه بحسب الطاقة فيثبتون أن العبد يصير شبيهاً بالله تعالى بفعل نفسه ويحتج من اتبعهم على ذلك كأبي حامد وغيره بقوله تخلقوا بأخلاق الله وهذا اللفظ لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث ولا هو معروف عن أحد من أهل العلم بل هو

من باب الموضوعات عندهم وإن كان قد يفسر بمعنى صحيح يوافق الكتاب والسنة فإن الشارع قد ذكر أنه يحب اتصاف العبد بمعاني أسماء الله تعالى كقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال إنه وتر يحب الوتر إنه طيب لا يقبل إلا طيباً

الراحمون يرحمهم الرحمن إنك عفو تحب العفو فاعف عني إن الله نظيف يحب النظافة لكن المقصود أن هؤلاء مع كونهم أظهر الناس تبرُّءاً من التشبيه يزعمون أن كمال الفلسفة عندهم أن يفعل الإنسان ما يصير به مشابهاً لله في الجملة وقد وافقهم عليه بعض المتكلمين وإن كان كثير من المتكلمين يخالفونهم في ذلك

يلزمهم من تأويل حديث الصورة نظير ما فروا منه

ويقول أخبرهم كالمأزري ليس لله خلق يتخلق به العبد فلأن يكون الله هو القادر على أن يخلق ما يشبهه من بعض الوجوه أولى وأحرى فيكون هذا ثابتاً بخلق الله تعالى وأما الأخلاق والأفعال المناسبة المشابهة لمعاني أسمائه التي يحبها فهي مما أمر به وهو سبحانه له الخلق والأمر الوجه السادس أن يقال المحذور الذي فروا منه لتأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة أو الصورة المعنوية أو الروحانية ونحو ذلك يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه وإن كان مثل هذا لازماً على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه لأجله ولم يكن أيضاً

محذوراً بالاتفاق وذلك أن كون الإنسان على صورة الله التي هي صفته أو صورته المعنوية أو الروحانية فيه نوع من المشابهة كما أنه إذا أُقِرَّ الحديث كما جاء فيه نوع من المشابهة غايته أن يقال المشابهة هنا أكثر لكن مسمى نوع من التشبيه لازم على التقديرين والتشبيه المنفي بالنص والإجماع والأدلة العقلية الصحيحة مُنتفٍ على التقديرين وإذا ادعى المنازع أن هذا فيه نوع من التجسيم المقتضي للتركيب فقد تقدم أن ما يسمونه تركيباً لازم على القول بثبوت الصفات بل على القول بنفس الوجود بل هو لازم لمطلق الوجود وقد تقدم بيان ذلك وبينا أن جميع ما يدعى من الأدلة العقلية المانعة من ذلك فإنه فاسد متناقض ومعنى فساده ظاهر ومعنى تناقضه أن ما يدعيه يلزمه من الإثبات نظير ما نفاه فيكون جامعاً بين النفي وإثباته أو إثبات نظيره الوجه السابع أن يقال إذا كان مخلوقاً على صورة الله تعالى المعنوية فلا يخلو إما أن يكون ذلك مقتضياً لكون

صفات العبد المعنوية من جنس صفات الله بحيث تكون حقيقتها من جنس حقيقتها أو لا يقتضي ذلك بل يقتضي المشابهة فيها مع تباين الحقيقتين فإن كان مقتضى الحديث الأول فهو تصريح بأن الله له مثل وهذا باطل وأيضاً فإنه ممتنع في العقل فإن المتماثلين في الحقيقة يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه والمخلوق يجب أن يكون معدوماً محدثاً مفتقراً ممكناً والخالق يجب أن يكون قديماً واجب الوجود غنيًّا فيجب أن يكون الشيء الواحد واجباً ممكناً غنيًّا فقيراً موجوداً معدوماً وهذا جمع بين النقيضين فثبت أن الحديث لا يجوز حمله على هذا

وأيضاً فإنه على هذا التقدير لا يكون في جمله على الصورة الظاهرة محذور وإن لم يكن ذلك مقتضياً لكون صفات العبد من جنس صفات الرب بحيث تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع كون هذا عالماً وهذا عالماً وهذا حيًّا وهذا حيًّا وهذا قادرًا وهذا قادرًا وهذا سميعًا بصيرًا وهذا سميعًا بصيرًا بل هذا موجود وهذا موجود مع كون الحقيقتين والعلم والقدرة متشابهات وكذلك لا يجب إذا كان لهذا وجه وصورة ولهذا وجه وصورة أن تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع تشابه الحقيقتين يوضح ذلك أنه على التقديرين لابد أن يكون بين الذات والذات مشابهة إذا كان على

الصفة المعنوية فإن كون هذا عالماً قادراً وهذا موجوداً وهذا موجوداً وهذا ذاتاً وهذا ذاتاً لها صفات وهذا ذاتاً لها صفات لابد أن يثبت التشابه كما تقدم الوجه الثامن أن الأدلة الشرعية والعقلية التي تثبت بها تلك الصفات تثبت بنظيرها هذه الصورة فإن وجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل كذلك ثبوت ذات لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل وثبوت المشابهة من بعض الوجوه في الأمور الكمالية معلوم بالشرع والعقل وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به فلابد لكل موجود قائم بنفسه من صورة يكون عليها ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يقوم عليها

قصر الحديث على تأويله بالصورة المعنوية باطل

الوجه التاسع أن هذا المعنى الذي ذكروه وإن كان ثابتاً في نفسه ويمكن أن يكون الحديث دالاًّ عليه باللزوم والتضمن لكن قصر الحديث عليه باطل قطعاً كما تقدم الوجه العاشر ثبوت الوجه والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة المتواترة واتفق على ذلك سلف الأمة وسيأتي إن شاء الله تعالى طائفة من النصوص التي فيها إثبات صورة الله تعالى كقوله فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ونحو ذلك مما هو من الأحاديث التي اتفق العلماء على صحتها وثبوتها فأما لفظ الوجه فلا يمكن استقصاء النصوص المثبتة له فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة

فسلم عليهم واسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال وكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن وهذا الحديث إذا حمل على صورة الله تعالى كان ظاهره أن الله طوله ستون ذراعاً والله تعالى كما قال ابن خزيمة جل أن يوصف بالذرعان والأشبار ومعلوم أن هذا التقدير في حق الله باطل على قول من يثبت له حدًّا ومقداراً من أهل الإثبات وعلى قول نفاة ذلك أما النفاة فظاهر وأما المثبتة فعندهم قدر الله تعالى أعظم وحده لا يعلمه إلا هو وكرسيه قد وسع السموات والأرض والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة

والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد قال الله تعالى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر

وابن مسعود وابن عباس أن الله يقبض السموات والأرض بيديه قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما وما فيهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وإذا كان الأمر كذلك كان أكبر

وأعظم من أن يقدر بهذا القدر وهذا من المعلوم بالضرورة من العقل والدين قيل ليس هذا ظاهر الحديث ومن زعم أن الله طوله ستون ذراعاً وزعم أن هذا ظاهره أو حمله عليه فهو مفترٍ كذاب ملحد فإن فساد هذا معلوم بالضرورة من العقل والدين كما تقدم ومعلوم أيضاً عدم ظهوره من الحديث فإن الضمير في قوله طوله عائد إلى آدم الذي قيل فيه خلق آدم على صورته ثم قال طول آدم ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فهذه الضمائر كلها عائدة إلى آدم وهذا منها أيضاً فلفظ الطول وقدره ليس داخلاً في مسمى الصورة حتى يقال إذا قيل خلق الله آدم على صورته وجب أن يكون على قدره وطوله بل من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون

أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما وقدر ذواتهما وقد تظهر السموات والقمر في صورة ماء أو مرآة في غاية الصغر ويقال هذه صورتها مع العلم بأن حقيقة السموات والأرض أعظم منذ لك بما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر وكذلك المصور الذي يصور السموات والكواكب والشمس والقمر والجبال والبحار يصور ذلك مع أن الذي يصوره وإن شابه ذلك فإنه أبعد شيء عن حقيقته وعن قدره والإضافة تتنوع دلالتها بحسب المضاف إليه فلما قال في آخر الحديث فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً هذا يقتضي المشابهة في الجنس والقدر لأن صورة المضاف من جنس صورة المضاف إليه وحقيقتهما واحدة وأما قوله خلق آدم على صورته فإنها تقتضي

نوعاً من المشابهة فقط لا تقتضي تماثلاً لا في حقيقة ولا قدر وأما الذين ظنوا أن الضمير في قوله طوله ستون ذراعاً لما كان عائداً إلى آدم فكذلك الضمير في صورته وان المعنى خلق أدم على صورة آدم فقد تقدم الكلام عليهم وأن آدم لم يكن له صورة قبل ذلك يخلق عليها وذكرنا الوجوه المتعددة الدالة على فساد ذلك ولهذا كان بعض المحدثين الذين يريدون أن لا يحدثوا بعض الناس بهذا المعنى يقولون خلق آدم طوله ستون ذراعاً فإذا كان هذا في بيان مقدار صورة آدم التي خلقه عليها لا يقال في مثل ذلك خلق آدم على صورة آدم بل قد يقال خلق على هذه الصورة وعلى هذه الصفة فإن هذا اللفظ ليس فيه إضافة تقتضي تقدم الصورة التي خلق عليها بل فيه تخصيص وبيان للصورة التي كان عليها بعد الخلق مع أن

هذا لا يصلح أن يقال في هذا اللفظ لن قول القائل خلق آدم على صورة آدم أو على الصورة التي كانت لآدم إذا أراد به التقدير وهو كونها ستين ذراعاً فإنه يقتضي كون المخاطبين يعرفون ذلك من تأويل هذا الخطاب فإن الخطاب المعرف بالإضافة أو اللام يقتضي تقدم معرفة المخاطبين بذلك المعرَّف ومعلوم أن المخاطبين لم يكونوا يعلمون طول آدم وهكذا لا يصلح أن يقال في القدر ما ذكر في صورة آدم من كونه لم يمسخ أو كونه خلق ابتداء ونحو ذلك إذ هذا معلوم بخلاف القدر فعلم أن الحديث أخبر فيه بجملتين أنه خلق آدم على صورته وأن طوله ستون ذراعاً ليس هذا التقدير هو تقدير الصورة التي خلق عليها حتى يقال هي صورة آدم

وأما التأويل الثاني وهو تأويل ابن خزيمة أنه إضافة خلق كما في ناقة الله وبيت الله وأرض الله وفطرة الله فالكلام عليه من وجوه أحدها انه لم يكن قبل خلق آدم صورة مخلوقة خلق آدم عليها فقول القائل على صورة مخلوقة لله وليس هناك إلا صورة آدم بمنزلة قوله على صورة آدم وقد تقدم إبطال هذا من وجوه كثيرة الثاني أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها كالناقة والبيت والأرض والفطرة التي هي المفطورة فأما الصفات القائمة بغيرها مثل العلم والقدرة والكلام والمشيئة إذا أضيفت كانت إضافة صفة

إلى موصوف وهذا هو الفرق بين الأمرين وإلا التبست الإضافة التي هي إضافة صفة إلى موصوف والتي هي إضافة مملوك ومخلوق إلى المالك والخالق وذلك هو ظاهر الخطاب في الموضعين لأن الأعيان القائمة بنفسها قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله فيعلمون أنها ليست إضافة صفة وأما الصفات القائمة بغيرها فيعلمون أنه لابد له من موصوف تقوم به وتضاف إليه فإذا أضيفت علم أنها أضيفت إلى الموصوف التي هي قائمة به وإذا كان كذلك فالصورة قائمة بالشيء المصور فصورة الله كوجه الله ويد الله وعلم الله وقدرة الله ومشيئة الله وكلام الله يمتنع أن تقوم بغيره الوجه الثالث أن العيان المضافة إلى الله لا تضاف إليه لعموم كونها مخلوقة ومملوكة له إذ ذلك يوجب إضافة جميع الأعيان إلى الله تعالى لاشتراكها في الخلق والملك فلو

كان قوله في ناقة صالح نَاقَةَ اللَّهِ بمعنى أن الله خلقها وهي ملكه لوجب أن تضاف سائر النوق إلى الله تعالى بهذا المعنى فلا يكون حينئذ لها اختصاص بالإضافة وكذلك قوله وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج 26] لو كان المراد به أنه خلقي وملكي لوجب إضافة سائر البيوت إلى الله لمشاركتها في هذا المعنى فلابد أن يكون في العين المضافة معنى يختص بها يستحق بها الإضافة فبيت الله هو البيت الذي اتخذ لذكر الله تعالى وعبادته وهذه إضافة من جهة كونه معبوداً فيه فهو إضافة إلى إلهيته لا إلى عموم ربوبيته وخلقه كما في لفظ العبد فإن قوله لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن 19] وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان 63] هو إضافة إليهم لأنهم عبدوه لا لعموم كونه عبَّدهم بخلقه لهم فإن هذا يشركهم فيه جميع الناس وهو قد خصهم بقوله إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقوله عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ

[الإنسان 6] ونحو ذلك كذلك الناقة فيها اختصاص بكون الله جعلها آية ففيها معنى الإضافة إلى إلهيته وأما قوله يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) [العنكبوت 56] وقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء 97] ففي الإضافة تخصيص للأرض التي هي باقية على ما خلقها الله تعالى فلم يستول عليها الكفار والفجار من عباده ومنعوا باستيلائهم عليها من عبادة الله عليها ولهذا لم تدخل أرض الحرب في هذا العموم وقد يقال الإضافة لعموم الخلق لأن الأرض واحدة لم تتعدد كما تعددت النوق والبيوت والعبيد وقوله فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم 30] تضاف إلى الله من الوجهين من جهة انه خلقها فتكون إضافة إلى جهة ربوبيته ومن جهة أنه فطرها على الإسلام الذي هو عبادة الله فيكون في الإضافة معنى الإضافة إلى ألوهيته وإذا كان كذلك فالصورة المخلوقة هي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله وأيضاً فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله خلق ذلك جميعه فينبغي أن يضاف سائر الأعضاء إلى الله بهذا الاعتبار حتى

يقال يد الله ووجه الله وقدمه ونحو ذلك لكون أن الله خلقه الوجه الرابع أن قوله إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته لو كانت الإضافة إضافة خلق وملك لوجب ألا يضرب شيء من الأعضاء لأن إضافته إلى خلق الله وملكه كإضافة الوجه سواء الوجه الخامس أن هذا الوجه المضروب هو في كونه مخلوقاً مملوكاً لله بمنزلة الصورة المملوكة لله فلو كان قد نهى عن ضرب هذا لكونه ذلك لكان هذا التشبيه من باب العبث لأن العلة في المشبه به مثل من يقول لأحد ابنيه إنما أكرمتك لأنك مثل ابني الآخر في معنى البنوة أو يقول لعبده إنما أعطيتك لأنك مثل عبدي الآخر في معنى العبودية وهما مشتركان في هذا الوجه السادس أنه من المعلوم أن جميع ما يضرب من الموجودات ويشتم هو من مخلوق الله مملوك وهذا يوجب ألا يضرب مخلوق ولا يشتم مخلوق

الوجه السابع أن قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته يدل على أن المانع هو مشابهة وجهه لصورة الله فلو أريد صورة يخلقها الله لكان كونه هو في نفسه مخلوقاً لله أبلغ من كونه مشبهاً لما خلقه الله فيكون عدولاً عن التعليل بالعلة الكاملة إلى ما يشبهها الوجه الثامن أنه لو قال لا تضرب وجه هذا فإن الله خلقه على صورته لكان قد يقال فإن الله خلق هذا على صورة مشرفة مكرمة بل قال إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته فخلق المخلوق على صورته وهذا من بنيه فمعلوم أن صورته كصورة آدم فذكر ثلاثة أشياء

الصورة المضروبة المشتومة المنهي عن ضربها وشتمها وهي وجوه الآدميين وآدم الذي خلقه الله والصورة التي خلق عليها آدم فلابد من إثبات هذه الثلاثة ولو أريد الصورة المخلوقة لم يكن إلا صورة فقط فيقال خلق هؤلاء أو هذا أو الذرية على صورته الوجه التاسع أن العلم بأن الله خلق آدم هو من أظهر العلوم عند الخاصة والعامة فإذا لم يكن في قوله على صورته معنى إلا أنها الصورة التي خلقها وهي ملكه لكان قوله خلق آدم كافياً إذ خلق آدم وخلق آدم على صورته سواء على هذا التقدير وإن ادعى أن في الإضافة بمعنى الخلق تخصيص فكذلك يكون في لفظ خلق لا فرق بين قول القائل هذا مخلوق الله وبين قوله إن الله هو الذي خلق هذا ومعلوم أن حمل الحديث على هذا يوجب سقوط فائدته كما لو صرح بذلك فقال خلق آدم على الصورة التي خلقها الله أو خلق آدم على الصورة التي خلقها الرحمن ومثل هذا الكلام لا يضاف إلى أدنى الناس فضلاً عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم

الوجه العاشر أن قوله خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن يقتضي أنه براه وصوره على تلك الصورة فلو أريد الصورة المخلوقة المملوكة التي هي صورة آدم المضافة إليه تشريفاً لكان قال صورة آدم صورة الله أو صورة الإنسان صورة الله ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإضافة المجردة وإن كان في ذلك ما فيه أما إذا قيل خلقه على صورته ولم يرد إلا أن صورته المخلوقة هي الصورة المضافة إلى الله لكونها مخلوقة له فهذا تناقض ظاهر لا يحتمله اللفظ أما التأويل الثالث المذكور عن الغزالي من أن معنى قوله خلق آدم على صورته أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير

والتصرف ونسبة ذات آدم إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم من حيث أن كلاًّ منهما غير حال في هذا الجسم وإن كان مؤثراً فيه بالتصرف والتدبير فهذا يشبه ما ذكره الإمام أحمد عن الجهم في مناظرته للمشركين السُّمَنية قال وكان الجهم وشيعته كذلك دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً وكان مما بلغنا من أمر الجهم أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في

الله تبارك وتعالى فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتنا عليك دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك فقال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قالا لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا

فوجدت له محسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون، الروح التي في عيسى صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا هي من روح الله ومن ذات الله فإذا أراد الله أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمنى ألست تزعم أن فيك روحاً فقال نعه فقال هل رأيت روحك قال لا قال

فسمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا أو محسًّا قال لا قال فكذلك الله تعالى لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه كما تقدم ذلك فقد شبه الجهم الله بالروح التي في الإنسان من جهة أن كلاهما لا يشبه بشيء من الحواس الخمس مع تدبيره لذلك الجسم وهذا يشبه قول الصابئة المتفلسفة الذين اتبعهم أبو حامد

حيث ادعوا أن الروح هي كذلك ليست جسماً ولا يشار إليها ولا تختص بمكان دون مكان ولكنها مدبرة للجسد كما أن الرب مدبر للعالم مع أن في كلام أبي حامد من التناقض في هذه الأمور ما ليس هذا موضع استقصائه وبهذا يتبين ما نبهنا عليه في غير موضع أن مذهب الجهمية هو من جنس دين الصابئة المبدلين وذكر أن أستاذه الجهد بن درهم كان من أتباعهم وعلماء هؤلاء هم المتفلسفة ولهذا لما دخلت المعتزلة في دين الجهمية واتبعوا هؤلاء الصابئة الفلاسفة في مواضع كثيرة كما قيل المعتزلة مخانيث الفلاسفة وقد ذكر ذلك غير واحد من المطلعين على المقالات ولما كان هؤلاء المتفلسفة الصابئون لا يجمعهم قول في باب العلوم الإلهية بل بينهم فيها من التفرق الاضطراب

ما لا يحصيه إلا رب الأرباب كان للجهمية من المعتزلة ونحوهم من ميراث هؤلاء أوفر حظ ونصيب ور ريب أنهم لابد أن يخالفوا أهل النفي العظيم والتعطيل المطلق منهم فيكون بينهم منازعات ومجادلات عظيمة وأيضاً كذلك هم مع المجوس في باب القدر والأفعال فإنهم شركوا المجوس في تشبيه أفعال الله تعالى بأفعال الواحد من الآدميين ووضعوا له شريعة بالقياس على أنفسهم فيوجبون عليه ويحرمون عليه من جنس ما يوجب عليهم ويحرم وهم مع هذا يخالفونه المجوس في الأصلين النور والظلمة ويردون عليهم لكن هم مع مخالفتهم المجوس

والصابئين في كثير من الأصول فقد شركوهم في كثير من الأصول وخرجوا من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه هؤلاء من الضلال ومعهم من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه المسلمين من الحق وإن كان بعضه مع هؤلاء وبعضه هو من الحق الذي خالفوا فيه هؤلاء والمعتزلة الذين جمعوا التجهم والقدر كان مبدأ انتشارهم وظهورهم في أثناء المائة الثانية وإن كان ابتداع مذهب القدرية حدث في أثناء المائة الأولى ثم بعد ذلك تغلظ ذلك وظهر في كثير من الناس من مذهب الصابئة والمجوس ما

هو من أعظم الكفر وازداد ذلك حتى ظهرت حقائقه في القرامطة والباطنية ونحوهم من الملاحدة وحتى ظهر الشرك الصريح بعبادة غير الله تعالى وصار بعض هذه البدع المضلة يَتَلَوَّنُ بها كثير من المنتسبين في أكثر أحوالهم إلى ما عليه أهل السنة والجماعة لظهور أصحابها وانتشارها لأنهم وفيها من نصر ذلك بالحجج والجدال والسيف والقتال كما وقع في الإسلام من ذلك وقائع كثيرة يعلم بعضها من له اطلاع على ما ورخ من الحوادث في أيام الإسلام والإمام أحمد ذكر أن الجهم فر إلى نظير قول زنادقة النصارى فإن أولئك يقولون بالحلول الخاص في المسيح والجهمية يقولون بالحلول العام المطلق وهو أنه في كل

مكان لا يستقرون على قدم في ذلك فتارة يقولون هو في كل مكان وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا هو داخل العالم ولا خارجه وقد يطلقون الأول لفظاً ويريدون الثاني من جهة المعنى لنفور القلوب عن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن فساد هذا معلوم في بداية العقول فيطلقون للعامة انه بكل مكان لأن هذا إقرار بشيء من الجملة ولكن مقصود نظارهم هو النفي العام والجهم وأئمتهم كانوا يأتون بألفاظ مجملة ومقصوده بالجميع انه ليس على العرش كقوله هو على العرش كما تحت الثرى لا يختص بمكان دون مكان فإن هذا يقال لمن هو موجود في هذه الأمكنة كلها ويقال لمن ليس في شيء منها وكثير منهم من الاتحادية وغيرهم يصرحون بنقيض النفي حقيقة ويقولون إن ذاته موجودة في كل مكان بل يقولون

الرد على تأويل الغزالي الصورة بمعنى الروح من أربعة وعشرين وجها

من يقول منهم إنه عين الموجودات وأن وجودها نفس وجوده وقد يقولون إنه روح العالم والعالم صورته فإنهم في الحلول العام بمنزلة النصارى في الحلول الخاص وقد بسطنا الكلام علة أقوال هؤلاء الاتحادية منهم في غير هذا الموضع والكلام على هذا التأويل من وجوه أحدها أن من ألفاظ الحديث إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن ضرب الوجه لكون آدم مخلوقاً لأم الله خلق آدم على صورة الرحمن فلو كان المراد إبداع روحه مدبراً لجسده من غير حلول فيه

كما أن الله تعالى مدبر للعالم من غير حلول فيه لم يكن هذا متناولاً للوجه فإن الوجه من الجسد الذي تدبره الروح فيكون مشابهاً لبعض العالم الذي يدبره الله تعالى ولا يكون داخلاً في الروح التي خلقها الله تعالى على صورته وإذا كان كذلك لم يصلح أن يعلل النهي عن ضربه بعلة لا تتناوله الوجه الثاني أنه لو أريد هذا لقيل لا تغموا الآدمي أو لا تحزنوه أو لا تضيقوا صدره فإن الله خلقه على صورته فيكون النهي عن تعذيب الروح المشابهة للرب من الوجه الذي ذكره إن كان ما قاله حقًّا الوجه الثالث أن كون حقيقة الآدمي هي الروح وأنها مخلوقة على صورة الله أمر لا يختص الوجه بل يشترك فيه سائر البدن فإن الروح مدبرة لجميع البدن فتخصيص الوجه بالنهي عن ضربه وشتمه لأجل ذلك لا وجه له بل يقال إما أن يكون كون الروح مخلوقة على صورة الله موجباً للنهي عن الضرب والتقبيح لما هي مدبرة له أو لا يكون فإن كان ذلك وجب أن ينهى عن ضرب جميع أجزاء بدن الإنسان

حتى لا يجوز الضرب والتقبيح لشيء من بدن الآدمي مطلقاً وإن كان كافراً أو فاسقاً ومعلوم أن هذا في نهاية الفساد المعلوم بالاضطرار من العقل والدين وإن لم يكن ذلك موجباً للنهي لم ينه عن ضرب الوجه وهو خلاف النص والإجماع الوجه الرابع أن الحديث لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته نهى عن تقبيح الوجه وتقبيح ما يشبهه لأن الله خلق آدم على صورته فلو كلن المخلوق على الصورة إنما هو الروح لم يصح هذا التشبيه فإن الله لا يشبه وجه الإنسان وإنما يشبه روحه الوجه الخامس أن هذا التقبيح المنهي عنه لا يصلح أن يكون للوجه لعدم تناول العلة له الوجه السادس أنه لو أريد ذلك لقيل لا تقبحوا الروح أو لا تسبوها ونحو ذلك الوجه السابع أنه لا اختصاص للوجه بالنهي عن تقبيحه على هذا التقدير بل كان الواجب أن ينهى عن تقبيح جميع

أعضاء البدن أو لا ينهى عن تقبيح شيء منها لأن تعلق الروح بذلك تعلق واحد الوجه الثامن أن قوله في الحديث الآخر المتفق عليه إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً صريح في أن المخلوق على صورته طوله ستون ذراعاً وهذا نص في البدن فكيف يجوز أن يقال إن البدن ليس داخلاً في الحديث وإنما المراد الروح فقط الوجه التاسع أن اسم آدم يتناول البدن كتناوبه الروح وهذا معلوم بالاضطرار من كلام الله وكلام رسوله والعلماء كما في قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقوله وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة 35] وقوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة 37] وقوله يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف 27] وأمثال ذلك فمن زعم أن اسم آدم لا يتناول إلا الروح فقط في مثل خلق آدم ونحوه من الكلام فإن بطلان قوله معلوم بالاضطرار المنزل بين العباد وإنما يقال هذا في مثل قوله في حديث

المعراج أنه رأى في السماء آدم وإبراهيم وموسى ونحوهم فإنه في مثله يقال المذكور هي الأرواح للعلم بأن أجسادهم في قبورهم الوجه العاشر أنه لو قال قائل لفظ خلق آدم إنما يتناول البدن وأن الروح نفخت فيه بعد ذلك لكان أقرب من هذا التبديل فإنه سبحانه وتعالى قال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ

طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) [ص 71-72] وقال إبليس لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) [الحجر 33] وقال خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) [الرحمن 14-15] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة فيهم الأسود والأبيض وبين ذلك والخبيث والطيب وبين ذلك والسهل والحَزْن وبين ذلك

وهذه النصوص وأمثالها مصرحة بأنه خلق آدم من التراب ومن الطين ومعلوم أن البدن هو المخلوق من ذلك فكيف يدعي المدعي أن قوله خلق آدم إنما يتناول الروح فقط الوجه الحادي عشر أن أبا حامد يدعي في مواضع أن لفظ الخلق إنما يتناول بالروح مسألة التقدير والمساحة وهو عندهم عالم الجسام التي يسميها عالم الملك فأما الأرواح المفارقة أو المدبرة التي يسميها عالم الجبروت

والملكوت فتلك عنده عالم الأمر ليست من عالم الخلق فإذا ادعى مع ذلك أن لفظ الخلق إنما يتناول ما هو من عالم الأمر دون عالم الخلق كان هذا من أعظم التناقض ودل ذلك على فساد كلامه في هذا الباب الوجه الثاني عشر أن هذا غايته أن يكون خلقه على بعض صفاته وهي صفة التدبير للخلق من غير حلول فيه وهذا دون قول من يقول على صفة الحياة والعلم والقدرة وقد تقدم بطلان قول من حمل لفظ الصورة على هذه الصفات بما فيه كفاية وذلك كله دليل على بطلان هذا بطريق الأولى وهذه الوجوه المذكورة في الصفة كلها الوجه الثالث عشر أن إطلاق لفظ صورة الله على مجرد

كونه مدبراً للعالم من غير حلول فيه أمر لا يدل عليه اللفظ بوجه من الوجوه بل هو من جنس دعاوي القرامطة الباطنية ولا ريب أن كلام المتفلسفة في الروح مما تميل إليه القرامطة الباطنية الوجه الرابع عشر أن عند أبي حامد ومتبعيه من المتفلسفة أن الملائكة بهذه المثابة وهي التي يسمونها

العقول والنفوس فإنها عندهم مدبرة لعالم الأفلاك من غير حلول فيها فلا اختصاص لآدم بكونه مخلوقاً على صورة الله تعالى على هذا التقدير بل جميع الملائكة وما يسمونه العقول والنفوس مخلوق على صورة الله تعالى

على هذا التقدير ومن أثبت من هؤلاء ووافق على أن لهم معاداً فإنه يقول فيهم كذلك فيكون إبليس أيضاً مخلوقاً على صورة الله تعالى عندهم وينبغي أن ينهى عن تقبيح الجن والشياطين لأنهم مخلوقون على صورة الله تعالى الوجه الخامس عشر أن هذا الكلام خرج مخرج المدح والتعظيم لآدم والمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية وبالسلبية التي تتضمن صفات ثبوتية وليس فيما ذكروه إلا مجرد كونه مدبراً للبدن وكونه غير حال فيه وهذه الصفة الثانية صفة سلبية ومجرد التدبير مشترك بين جميع الحيوانات الوجه السادس عشر أن يقال إن تشبيه الرب بالعبد إما أن يكون سائغاً أو لا يكون فإن لم يكن سائغاً بطل تشبيه الله بالروح المدبرة للبدن وإن كان سائغاً فلا حاجة إلى تحريف الحديث والمقصود أنهم في تأويلهم مثبتون لنظير ما فروا منه فإنهم فروا من التشبيه ولم يتأولوه إلا على التشبيه وإن قالوا بثبوت التشبيه من وجه دون وجه كان كلام منازعيهم في النفي والإثبات أقوى من كلامهم كما تقدم لاسيما على هذا القول

الوجه السابع عشر هذا التشبيه تشبيه باطل فإن الروح محتاجة إلى البدن في تحصيل كمالاتها كما أن البدن محتاج إليها كل منهما محتاج إلى الآخر وباتفاقهما كانت الأعمال كما رواه الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب النفس والروح وغيره عن ابن عباس قال لا تزال الخصومة يوم القيامة حتى يختصم الروح والبدن فتقول الروح أنا لم أعمل شيئاً وإنما أنت عملت فأنت المستحق للعذاب ويقول البدن أنا لم أتحرك من تلقاء نفسي ولكن أنت حركتني وأمرتني فيبعث الله ملكاً يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً فقال للأعمى إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع المشي إليه

فقال الأعمى أنا أستطيع المشي لكني لا أراه فقال تعال فاحملني فحمل الأعمى المقعد وجعل يقول له تعال إلى هنا تعال إلى هنا فيأمر المقعد العمى فيفعل فعلى من يكون العقاب فقال على الاثنين فقال الملك فهذه حالكما أو نحو هذا المعنى وهذا أمر محسوس متفق عليه بين العقلاء وهؤلاء الذين يسمونها النفس الناطقة متفقون على أنها تعلقت بالبدن

لتحصيل كمالاتها وإذا كان كذلك فيلزم من هذا التشبيه أن يكون الله محتاجاً إلى العالم كما أن العالم محتاج إليه وهذا من أقبح الكفر والتمثيل فإن التشبيه إذا ساغ إنما يسوغ في صفات الكمال وهذا تشبيه لله بخلقه في صفات النقص وأيضاً فإن الروح تفارق البدن ما شاء الله من الزمان وعلى زعم المتفلسفة مفارقتها له أكثر من مقارنتها فإنها عندهم لا تقارنه بعد المفارقة أبداً فيلزم أن يكون تخلى الله عن تدبير العالم أعظم من تدبير العالم أضعاف أضعاف تدبيره له على تقدير صحة هذا التشبيه الوجه الثامن عشر أن الله رب العالم كله خالقه وبارِئُه

ومصوره وأما الروح والبدن فبمنزلة المتشاركين المتعاونين فكيف يجوز أن يقال نسبة ذات آدم التي هي روحه إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم مع أن هذا من ابعد الأمور عن المشابهة فإن كون أحدهما غير حال مع كونه مؤثراً فيه بالتدبير والتصرف ينعكس في جانب الإنسان فإن البدن على رأيهم ليس بمحل للروح وهو أيضاً مؤثر في الروح إذ كل منهما يؤثر في الآخر فما يحسه البدن ويباشره ببدنه يؤثر في الروح كنا يذكره أبو حامد في غير موضع وهو محسوس فهل العالم يؤثر في الله كتأثير البدن في الروح الوجه التاسع عشر أن كون الإنسان ليس بجسم ولا جسماني أمر ليس من المعارف الظاهرة ولا أخبر به الرسول أمته حتى يصير معروفاً عندهم بل كون الله ليس بجسم هو أيضاَ كذلك ليس من المعارف الظاهرة ولا أخبر به الرسول أمته فقوله خلق آدم على صورته إذا أراد به أن كلاًّ

منهما ليس بجسم ولا جسماني بل كل منهما غير حال فيما يدبره مع تأثيره فيه أمر لا يدل عليه اللفظ في اللغة التي خوطب بها ولا كان عند المخاطبين من المعارف ما يفهم ذلك فيكون بيان هذا المعنى بهذا اللفظ خارجاً عن قانون الخطاب ليس بحقيقة عندهم ولا مجاز إذ من شرط المجاز ظهور القرائن المثبتة للمراد وليس عند المخاطبين قرينة تبين ذلك الوجه العشرون أن هذا المعنى الذي ادعوه من كون الروح ليس بجسم ولا جسماني وأنها ليست في البدن وأن تعلقها بالبدن إنما هو تعلق التدبير فقط وأن الباري أيضاً ليس بجسم وأن تعلقه بالعالم تعلق التدبير فيقال لا يفهم إلا بعبارات مبسوطة أما أن يكون مجرد قوله خلق آدم على صورته مفهماً لهذه المعاني مبيناً لها من الرسول الذي عليه البلاغ المبين معلوم الفساد بالاضطرار الوجه الحادي والعشرون أن دعواهم أن الروح ليست في البدن خلاف ما نطقت به نصوص الكتاب والسنة وهو خلاف المحسوس الذي يحسه بنو آدم لاسيما حين الموت إذا

أحسوا بنزع الروح من جسد أحدهم وأنها تخرج من كل عضو من أعضائه وكذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط يعني الذي جاء مع الملائكة من الجنة إلى آخر الحديث كما تقدم لفظه وقال في الكافر يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه فتتفرق في أعضاءه كلها فينزعها نزع السفود من الصوف المبلول فتتقطع بها العروق والعصب وتمام الحديث قد تقدم كلما فيه وهو صريح بدخول الروح وخروجها وصعودها وهبوطها وقبضها

وإرسالها وما يشبه ذلك من الصفات التي هي عندهم لا تكون إلا لما يسمونه في اصطلاحهم جسماً فقول القائل ليست بجسم وليست في البدن مضادة لقول الرسول فكيف يجوز أن يحمل عليه ألفاظ الرسول حتى يجعل متشابه كلامه مناقضاً لمنصوصه ومحكمه الوجه الثاني والعشرون أن الله قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) في موضعين من القرآن وقال وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [السجدة 7-9] فأخبر أنه نفخ فيه من روحه فكيف يجوز أن يقال إن الروح ليست فيه فإن قيل إنما قال ذلك لأنها مدبرة له كما يقال إن الله في السماء فيقال فينبغي على قياس ذلك أن يقال إن الله في السماء والأرض وكل مكان لأنه مدبر لذلك لا يخص الإطلاق بأنه في السماء ومعلوم انه ليس في الكتاب والسنة

إطلاق القول بأن الله تعالى في العالم أو في الخلق أو في كل مكان كما فيهما إطلاق أن الروح في البدن فتمثيل أحدهما بالآخر من أعظم الفرية والكذب على الله وعلى رسوله وهي فرية جهم وأمثاله وأيضاً فأبو حامد مع متبوعيه من هؤلاء المتفلسفة الصابئين عندهم أن الله تعالى ليس في شيء من العالم أصلاً كما أنه قول أهل السنة كما أنه عند المتفلسفة وعندهم أيضاً أنه ليس فوق العالم فيمتنع عندهم أن يكون الروح في الجسد أو فوق الجسد وحينئذ فلا يصح إطلاق القول بأنها في الجسد لأن ذلك إما أن يراد به أنه حال فيه أو أنه عليه كما في قوله تعالى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 71] الوجه الثالث والعشرون أن الله تعالى قال يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] فأمرها بالرجوع إلى ربها الله وفي ذلك إثبات حركتها وإثبات الانتهاء إلى الله وكلاهما

خلاف ما يزعمه هؤلاء فيها وكذلك قوله فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 29-30] أمرها بالدخول في عباده ودخول الجنة وهذا يناقض قولهم إن النفس لا داخلة العالم ولا خارجه ولا تكون في مكان كما يزعمون ذلك في الباري تعالى وقال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر 42] فأخبر أنه يتوفاها وهو قبضها وأخذها واستيفاؤها وأخبر أن ذلك التوفي يكون حال الموت ويكون في المنام وأن المتوفاة في المنام منها ما يمسك وهي التي يقضى عليها بالموت في المنام ومنها ما يرسل فالإمساك لها والإرسال لها وتوفيها كل ذلك يتضمن نقيض ما يذكرونه من عدم اتصافها بجنس هذه الصفات الوجه الرابع والعشرون أن من جعل نسبة الروح وهو آدم عنده إلى البدن كنسبة الباري إلى العالم لزمه أن يجعل الباري

روح العالم كما قال بعضهم عن الحق تعالى أنا روح الأشياء إن تحل مني اتخذوها كدارسات الرسوم وهذا وإن كان قد يقوله يعض الحلولية والاتحادية القائلين بأنه في كل مكان فهؤلاء المتفلسفة وأبو حامد ونحوه لا يقولون هذا بل عندهم قائل هذا من أكفر الناس وهو في ذلك مصيب موافق لجماعة المسلمين وإن كان هذا القول هو شبيه بما ذكر عن الجهمية أولاً حيث قالوا إنه في كل مكان كما تقدم ذكر ذلك عن أحمد فإن فساد هذا القول من أظهر الأمور وقد قدمنا من فساده ما فيه كفاية وذلك يقتضي أن بكون الرب نفسه هو الروح التي في الجن والشياطين وفي جهنم وغيرها التي في البدن وأن يكون الرب متنعماً متعذبًا راضياً ساخطاً فرحاً مغتمًّا مسروراً حزيناً بكل ما يوجد من ذلك في أجسام العالم كما أن الروح يكون فيها

كذلك بكل ما يوجد في جسدها والاتحادية الذين يقولون هو الوجود يصفونه بذلك كله ويقولون هو موصوف بكل مدح وكل ذم وكل نعيم وكل عذاب كما قد ذكرنا افتراءهم في غير هذا الموضع ومعلوم ما في هذا القول من الكفر والضلال والسب لله والجحود له

فصل: في تأويلات أخرى للصورة كلها باطلة

فصل وللناس تأويلات أخر وكلها باطلة مثل تأويل ابن عقيل ومن وافقه أن المراد صورة الملك والتدبير بل ومن الاستيلاء على جنس الحيوان حتى طائره وسابحه ما يشبه به استيلاء الرب على العالم بالتدبير والتصريف بل وعلى سائر الأجسام الجامدة وهذا وإن كان ابن عقيل يذكره في موضع فإنه في موضع آخر يتأوله على الصورة المخلوقة كما تقدم ذلك فإن هؤلاء لا يثبت أحدهم على مقام بل هم كثيرو الاضطراب وما من شيء يقوله المؤسس وأمثاله إلا وقد يقوله ابن عقيل ونحوه في بعض الأوقات والمصنفات وإن كان قد يرجع عن ذلك كما يرجع عن غيره

قال في كفايته فصل في إضافة الصورة إليه تجوزاً وأنه مصور لكل صورة فأما ذاتاً فلا يطلق عليه إلا وتحتها معنى هو عين التخطيط والأشكال ولعله يقتضيها الحال مثل قولهم حدثني صورة أمرك يريد به حالك والذي ينفي حقيقة الصورة عنه هو الذي نفاه المشبهة عنه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلق الله آدم على صورته ورأيت ربي في أحسن صورة لا ينطبق على المثال والشكل لنص

الكتاب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] فمتى جاء خبر واحد وتواتر يثبت له صورة تعارض الكتاب والسنة وتناقض الدين والله قد حماه عن المناقضة وحرسه عن التقابل والتعارض والاختلاف فلابد من الجمع بين قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 11] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته فيكون نفي المثال نافياً للصورة التي هي التخطيط والشكل وإضافة الصورة إلى الله نفى شكل آدم إلى الله على سبيل الملك كما قال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ولم يرد به الروح الذات وكانت الفائدة في ذلك تشريفها بالإضافة إليه كتشريف بنية الكعبة بتسميته بيتاً له وإن كان لا يسكنه كذلك تشريف صورة آدم

بالإضافة إليه وإن كانت لا تشبهه قال وقوله رأيت ربي في أحسن صورة يحتمل أن يكون رآه في أحسن صورة ويحتمل أن يكون في أحسن حال من الإكرام والتبجيل قال إنما دعانا إلى ذلك لأن إطلاق الصورة عليه سبحانه تصريح بتكذيب القرآن وكفى بذلك محوجاً إلى التأويل وليس هذا مما يمكنا أن نقول فيه صورة لا كالصور لأنه عزاها إلى صورة محسوسة هي صورة آدم فلو كان على صورة الله في نفسه لكان كل آدمي على صورة الله والله سبحانه وتعالى على صورته وقد أكذب الله من قال ذلك وأطلقه عليه بقوله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وآدم شيء فلا يكون مثلاً لله تعالى وهذا لفظ ابن عقيل وهو مثل كلام المؤسس ونحوهم من الجهمية وقد تقدم الكلام على هذا

وإنما المقصود هنا الكلام على تأويله بصورة الملك والتدبير وزاد على هذا طائفة من الاتحادية وغيرهم فقالوا هو خليفة الله استخلفه بأن جعل فيه من أسمائه وصفاته ما ضاهى به الحضرة الإلهية وهؤلاء طائفتان طائفة تثبت الرب وراء العالم وتجعل الإنسان خليفة لله وطائفة أخرى لا تثبت للرب وجوداً غير العالم بل يجعلونه هو وجود العالم ويجعلون الإنسان نسخة ذلك الوجود ومختصره فهو الخليفة الجامع فيه وهم في هذا يوافقون من يقول من الفلاسفة وغيرهم أن الإنسان هو العالم الصغير كما أن العالم هو الإنسان الكبير إذ الإنسان قد اجتمع فيه ما تفرق وهذه المعاني لا يقصد النزاع فيها ولكن المردود من ذلك قول أحدهم أن قوله خلق آدم على صورته أي على صورة العالم فإن الإنسان على صورة العالم وهي صورة الله إما الصورة المخلوقة المملوكة كما يقوله من يقر بالرب المتميز

عن العالم وإما أن يجعلوا نفس العالم هو صورة الله ووجوده لا حقيقة له وراء ذلك كما يزعمه الاتحادية مثل صاحب الفصوص ومتبعيه فهذه ثلاثة تأويلات

أحدها أن يكون مدبراً مالكاً لجنسه وغير جنسه كما أن الرب مدبر للعالم فهو على صورة الملائكة الثاني أن يكون على صورة العالم لأنه نسخته ومختصره والعالم هو صورة الله المخلوقة أو المملوكة أو هو صورته الذاتية النفسية وقد قدمنا في تأويل من حمل ذلك على الصفة والصورة المعنوية أننا لا ننازع في ثبوت المعاني الصحيحة مثل كون الإنسان له من الأسماء والصفات والأفعال ما قد حملوا الحديث عليه وجعلوه بذلك فيه شبه لأسماء الحق وصفاته وأفعاله ولا لنا حاجة بالمنازعة في دلالة الحديث على ذلك إما بطريق التضمن وإما بطريق الاستلزام

بحيث يقال إنه إذا ثبت أنه على الصورة الذاتية فهو على الصورة الوصفية والاسمية والفعلية أولى وأحرى أو يقال غير ذلك وإنما المقصود هنا إبطال كل تأويل فيه تحريف الكلم عن مواضعه وإلحاد فيه ورد لما قصد بالنص فيرد ما كذبوا به من الحق لا ما قصدوا به من الحق فإن هذا شأن المحرفين لنصوص الصفات إذا حملوا الحديث على ما هو ثابت في نفس الأمر لم ننازع في ذلك المعنى الصحيح ولا في دلالة الحديث عليه إذا احتمل ذلك وقد لا نكون في هذا المقام ناظرين في دلالة الحديث عليه نفياً وإثباتاً ولكن ننازعهم في

تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته وهو ما أبطلوه وعطلوه وكذبوا به من الحق فإن خطأ النظار فيما كذبوا به ونفوه أكثر من خطئهم فيما صدقوا به وعلموه أما التأويل الأول وهو قولهم على صورة الملك فهو وإن كان فيه نوع شبهة من هذا الوجه فالكلام عليه من وجوه أحدها أن قوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته لو أريد أنه جعل ملكاً مطاعاً مدبراً كما أن الله ملك مطاع مدبر لم يناسب هذا الأمر باجتناب الوجه إذ لا اختصاص له ولأن صفة الملك لا تنافي استحقاق العقوبة الوجه الثاني قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته ذكر خلق آدم على صورته لقوله وجهاً أشبه وجهك وليس في كونه ملكاً ما يقتضي ذلك كما قال فإن الله خلق آدم ملكاً من الملوك

الوجه الثالث أنه لو أريد ذلك لم يكن فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في النهي عن الضرب والنهي عن التقبيح إذ كون آدم مخلوقاً على صفة الملك التي يتميز بها لا يخص عضواً دون عضو الوجه الرابع أن كونه ملكاً لا يوجب رفع العقوبة عنه إذا أذنب إذ لو جاز ذلك لكان ملوك بني آدم ترفه عنهم عقوبة السيئات الوجه الخامس أن كونه مخلوقاً على صورة الملك ليس هذا عامًّا في جميع بني آدم إذ منهم من يصلح للملك ومن لا يصلح أن لا يكون إلا مملوكاً بل منهم من هو أضل من البهائم كما قال تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) [الأعراف 179] وإذا كان كذلك مع أن النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه عام في جميع الآدميين وصفة الملك والسؤدد ليست عامة علم أنها ليست هي المراد بقوله على صورته الوجه السادس أن الملك ليس مختصًّا بالآدميين بل في أصناف البهائم الرئيس والمطاع والمرؤوس المطيع فما من

طائفة من البهائم والطير تجتمع كالنحل وغيرها إلا وفيها الرؤساء المطاعون وأيضاً فالملائكة كذلك كما قال تعالى في جبريل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) [التكوير 19-21] وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لآدم اختصاص بالرئاسة والملك وإن كان لبني آدم من الاختصاص ما ليس لغيرهم فالملائكة أيضاً ليست كبني آدم وأهل السنة وإن قالوا إن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة فلا يقولون إن جنس الآدميين مطلقاً أفضل من جنس الملائكة بل في بني آدم من هو شر من البهائم الوجه السابع أن الملك صفة من صفات الله وهو يعود إلى القدرة أو القدرة والعلم والحكمة فيكون ذلك داخلاً في تأويل من تأوله على الصورة المعنوية وهي صفة العلم والقدرة وقد تقدمت الوجوه المتعددة في إبطال حمله على ذلك وتلك الوجوه كلها تبطل هذا بطريق الأولى

الوجه الثامن أن تسمية ملك الله صورة الله أو تسمية تدبيره وقدرته صورته مما لا يعرف في اللغة أصلاً فحمل الحديث عليه تحريف وتبديل محض الوجه التاسع أن قوله خلق آدم على صورته يقتضي أنه كان مخلوقاً على صورته ومعلوم انه لم يخلق حينئذ ملكاً وإنما الملك حادث بعد ذلك الوجه العاشر أن آدم نفسه لم يكن بعد أن خلق ملكاً ولا مطاعاً وبعد أن حدثت له الذرية الوجه الحادي عشر قوله إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً إلى قوله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم صريح في أنه أراد صورة نفسه لا قدرته وملكه وأما قول القائل على صورته التي هي العالم فإن الإنسان مختصر العالم فلا حاجة على المنازعة في كون

الإنسان مختصر العالم ونسخة للعالم ولا في كون هذا المعنى قد يكون من لوازم خلقه على صورة الرحمن كما لا ينازع في كونه عالماً وقادراً وحيًّا وعالماً لكن هذا لا يجوز أن يكون هو مقصود الحديث لوجوه أحدها أن قوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته يقتضي أن خلقه على صورة الرحمن هي المانع من ضربه وكونه على صورة العالم لا يمنع ضربه وقتاله فإن العالم نفس مشتمل على النعيم والعذاب وعلى ما يُنعم ويُعذَّب وعلى البر والفاجر الثاني أن قوله لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته يقتضي أن شبه الوجه بالصورة هو المانع من تقبيح من أشبه الوجه ومعلوم أن العالم نفسه ليس فيه ما يشبه وجه الآدمي مخصوصاً يمنع ذمه وهو وجه يشبه وجهه الثالث أن خلقه على نسخة العالم ليس له اختصاص

بالوجه بل هو شامل لروحه كما يبين ذلك من يقوله وحينئذ فينبغي أن يكون النهي عن الضرب لسائر أعضائه ونفسه أو لا ينهى عن الضرب لشيء وكلاهما باطل الرابع أنه على هذا التقدير كان النهي عن التقبيح يقتضي أن يكون شاملاً لجميع الأعضاء والنفس الخامس أن تسمية العالم صورة الله أمر باطل لا أصل له في اللغة بل العالم مخلوق الله ومملوكه السادس أن هذا الوجه يتضمن أن إضافة الصورة إليه إضافة خلق وملك لا إضافة ذاتية وقد تقدمت الوجوه المبطلة لهذا فهي تبطل هذا التأويل السابع أن كون الإنسان مشابهاً للعالم ليس بأعظم من مشابهة بعض الناس لبعض كمشابهة الرجل لأبيه ومعلوم أن مشابهة بعض الآدميين لبعض ليس مقتضياً لذم ولا مدح ولا مانعاً من العقوبات بل هو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي الثامن أن كون الإنسان مختصرًا من العالم أن فيه المحمود

والمذموم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة منهم الخبيث والطيب وبين ذلك والسهل والحزن وبين ذلك والأسود والأبيض وبين ذلك وإذا كان كذلك فكونه مختصراً من العالم ومشبهاً له لا يوجب منع تقبيح شيء منه ولا منع ضرب شيء منه التاسع أنه من المعلوم أن أرواح بني آدم أشرف من أجسادهم ثم إن هذه الأرواح التي يسمونها النفوس الناطقة تنقسم إلى محمود ومذموم كما يقول الملك للنفس المؤمنة اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي راضية مرضية فإذا خرجت صلى عليها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض ويقول للكافرة اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك

وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فإذا خرجت لعنها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض وإذا كانت الروح قد تقبح وتشتم وتلعن وتوصف بالخبيث فالجسد أحق بذلك فلو كان مشابهة أشرف

الرد على من أوله بمعنى "خليفة الله"

ما في العالم يمنع التقبيح لوجب ألا تقبح النفس الناطقة قط فلما جاز تقبيحها ومنع الشارع من تقبيح الوجه لأن الله خلق آدم على صورته ولا فرق في ذلك بين وجه البر والفاجر علم أن المانع ليس مشابهة العالم العاشر أن قوله صورة الإنسان على صورة الرحمن يخص الصورة كما خص الوجه في تلك الأحاديث وهذا يمنع أن يكون المراد جميع أعضاء الإنسان وروحه وأما قول طائفة من هؤلاء وغيرهم أن الآدمي خليفة الله استخلفه عن نفسه فجعله يخلفه في تدبير المملكة فهو على صورته من هذا الوجه فهذا يدخل فيه معنى الملك ومعنى كونه نسخة العالم لكن فيه من الباطل ما يخصه وهو زعمهم أن الإنسان خليفة عن الله تعالى فإن هذا باطل والله تعالى لا يخلفه شيء أصلاً وإنما معنى كون آدم وداود والآدميين خلائف أنهم

يخلفون غيرهم من المخلوقات لا أنهم يخلفون الخالق كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور 55] وقال تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [يونس 13-14] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام 165] وقال تعالى في قصة نوح فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ [يونس 73] وقال تعالى وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) [الأنعام 133] وقال تعالى في خطاب هود لقومه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف 69] وفي خطاب صالح لقومه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ [الأعراف 74] وقال في خطاب موسى لقومه عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) [الأعراف 129] وقال النبي صلى الله عليه وسلم من جهز غازياً فقد غزا ومن خلفه في

أهله بخير فقد غزا وقال أو كلما نفرنا في سبيل الله خلف أحدهم وقال تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا

الْكِتَابَ [الأعراف 169] وقال تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) [فاطر 39] وقال تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة 93] وقال فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة 83] ولهذا قيل للصديق يا خليفة الله فقال لست بخليفة الله ولكن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسبي ذلك ولكن الله سبحانه يوصف بأنه خليفة وبأنه خلف من غيره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في

سفرنا هذا خيراً واخلفنا في أهلنا ويقال في الوداع خليفتي عليك الله وفي التعزية الذي ذكر الشافعي في مسنده أن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا صوت معز عزاهم بها يا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت

وذلك لأن الخليفة لا يكون إلا مع تغيب المستخلف لا مع شهوده والله شهيد على عباده لا يغيب عنه شيء مدبر للجميع فلا يستخلف من يقوم مقامه في ذلك كما يستخلف المخلوق للمخلوق بل هو الخالق لكل شيء المدبر لكل شيء فالآدميون يموتون ويغيبون فيكون من يخلفهم والله حي قيوم لا يغيب فلا يكون له من يخلفه بل هو سبحانه يخلف من يغيب أو يموت كما يكون خليفة المؤمن في أهله إذا سافر ويكون خليفة له إذا مات فيكون أولئك الذين كان المؤمن يكفيهم في هدايتهم ورزقهم ونصرهم

يبين ذلك أن الإنسان إذا آتاه الله ملكًا أو لم يؤته إما أن يكون عند الله عاملاً بطاعته وطاعة رسوله أو لا يكون فإن كان من القسم الأول كان من عباد الله كالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقال إبليس فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [ص 82-83] ونحو ذلك والعبد العامل بأمر الله هو عابد لربه متوكل عليه لم يخالف ربه في أمر من الأمور كما أن الملائكة الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ليس خالفين لله في أمر من الأمور وإن كانوا عاملين بأمره عابدين له مطيعين وهم المدبرات أمراً والمقسمات أمراً وإن كان الإنسان غير عامل بطاعة الله ورسوله بل هو عاصٍ لله ورسوله فهذا أبعد أن يكون عمله ذلك خلافة عن ربه وهو يعمل ما يبغضه الله ويكرهه وينهى عنه

فقد ظهر أنه لا وجه أن يجعل واحد من هذين خليفة عن الله لا من يعبده ولا من يطيعه ولا من يشرك به ويعصيه هذا من جهة القضاء والقدر والأمر الكوني فإن الله خالق كل شيء فهو خالق كل حي من الملائكة والإنس والجن والبهائم وخالق قدرهم وإراداتهم وأفعالهم كما أنه خالق غير الأحياء وهو وإن كان يخلق الأشياء بعضها ببعض كما يخلق النبات بالمطر ويخلق المطر بالسحاب فليس شيء من ذلك خليفته إذ هو الخالق له ولما يخلقه به فهو رب كل شيء ومليكه ولو جاز ذلك لكان كل مخلوق خليفة عن الله بل جميع ذلك مسخر بأمره مصروف بمشيئته مدبر بقدرته منظوم بحكمته والله غني عن جميع ذلك وكل ذلك فقير إليه وليس الصغير أفقر إليه من

الكبير ولا المسبب بأفقر إليه من السبب بل الجميع فقراء إليه وهو رب الجميع ومليكه وهو سبحانه ليس كمثله شيء في شيء من تدبيره كما قال سبحانه أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى 9-11] يبين ذلك أن كل من خلف غيره في شيء فإنه يكون معيناً له فيما يعجز عنه المخلوف إما لعدم علمه به وإما لعدم قدرته فالخالف شريك للمخلوف ولقوله كالأمير الذي يستخلف في الأمصار خلفاء عنه فهم كلهم فاعلون ما لا يقدر هو وحده أن يفعله وهم مشاركون له مكافئون له وهو وهم متعاونون على جملة التدبير وكل منهم ينتفع بما يعاونه الآخر عليه والله تعالى ليس كذلك بل هو الغني

مطلقاً بنفسه عن الخلق وهو الخالق لكل شيء ثم إن من رحمته أنه يأمر العبيد بما يصلحهم وينهاهم عما يفسدهم وهو الذي يعينهم على فعل المأمور وترك المحظور ولا يقدرون على فعل ذلك إلا بإعانته بل يخلق ذلك كله قال تعالى قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ 22-23] وقال تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) [الإسراء 111] وإنما يتخيل أنه خليفة عن الله ونائب عنه بمنزلة ما يعهد عن الخلفاء والنواب عن المخلوقين منهم من يكون جباراً منازعاً لله في كبريائه وعظمته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته فيكون مختالاً يتخيل في نفسه أنه عظيم كبير وأن أمره ونهيه وفعله بالنسبة إلى الله تعالى من جنس أمر الخليفة النائب عن غيره ومن جنس نهيه

وفعله وهذا شرك وكذب وضلال وكبرياء واختيال وذلك أن الخليفة عن غيره يأمر وينهى ويفعل أموراً لم يدر بها المستخلف ولم يقدر عليها ولا يكون أمر بها ونهى بل يكون أمر هذا من جنس الأمر الأول كالوكيل مع موكله وكالوصي مع الموصي وهؤلاء بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ولهذا جاءت الشريعة بذلك فجعل الفقهاء الشركة في التصرف مبنية على الوكالة وأن الشريك يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة والنيابة وأما الوصي فهو ابلغ من هذا لأنه يتصرف بعد انقطاع أمر الموصي بالموت فهذا يكون له من الاستقلال ما ليس للوكيل والشريك حتى تنازع الفقهاء في جواز توصيته فأجاز ذلك من منع توكيل الوكيل وحتى أجازوا له من التصرفات

ما لا يجوز للوكيل وهكذا خلفاء ولاة الأمور مثل خليفة الإمام الكبير ذي الإمامة الكبرى وخليفة الحاكم وخليفة إمام الصلاة وغير ذلك كل من هؤلاء يفعل من جنس ما يفعله مستخلفه وكل هذا في حق الله ممتنع واعتقاد ذلك في حق أحد هو من أعظم الشرك ومن باب اتخاذ البشر أرباباً قال تعالى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [النوبة 31] وقال تعالى مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) [آل عمران 79-80] يبين ذلك أن أعظم الخلق منزلة عند الله هم رسله والرسل إنما هم مبلغون أمره ونهيه لا يأمرون إلا بما أمر ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله

فطاعتهم طاعة الله كما قال تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء 80] لأنهم بلغوا أمر الله إلى عباده فالمطيع لهم مطيع لأمر الله لأنه فاعل ما أمره الله به وأين الرسول المبلغ أمر غيره من النائب له الخليفة عنه الذي يتصرف كما يتصرف المستخلف بينهم فرقان عظيم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فأما من يتصرف في عباد الله بمشيئته وهواه فيعطي من أحب ويمنع من أحب ويوالي من أحب ويعادي من أحب

بغير أمر الله ولا إذنه فهذا عدو لله جبار مختال من جنس فرعون الذي علا في الأرض واتخذ1 أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين فهل يكون هؤلاء نواباً عن الله أو خلفاء عنه وهم أعداؤه وعصاته كإبليس وإن كان الله هو الخالق لكل شيء فليس كل ما خلقه الله من الأعيان والأفعال يكون محبًّا له راضياً به وإن كان بمشيئته فإنه سبحانه خالق إبليس وذويه وهو يبغضهم ويلعنهم ويعاقبهم ومن قال عن نفسه أو غيره إني نائب الله أو خليفة عن الله ولم يكن أمر بما أمر الله به على ألسن رسله فقد كذب على الله واستكبر في الأرض بغير الحق كما يذكر ذلك عن طائفة من الملوك الجاهلين الظالمين بل المنافقين المشركين وإن كان إنما أمر بما أمر الله به فهو مصيب في إيجاب

طاعته إذا أمر بما أمر الله به ومصيب في معاقبة من عصى الله وإكرام من أطاعه وقوله نائب إن كان بمعنى المبلغ والرسول والمنفذ فصحيح وإن كان بمعنى أني أنوب عنه في ما لا يفعله هو ولا يقدر عليه فهذا كذب وهذا قد يقوله القدري الذي يظن أنه مستقل بفعله وأن الله لم يخلق فعله وهو مبطل في ذلك نغم لو قال نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خليفة رسول الله لكان هذا صحيحاً ولهذا لما قالوا للصديق يا خليفة الله قال لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله وحسبي ذلك فلا يطلق على أحد أنه نائب عن الله ولا خليفة عنه أصلاً بخلاف الرسول فإنه قد روي في وصف خلفاء الرسل أنهم الذين يحيون سنتهم ويعلمونها للناس ولهذا تجب طاعتهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله

ومن عصى أميري فقد عصاني وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما أمر الله به فالمطيع له مطيع لله وكذلك أميره الذي استخلفه على بعض أمته كأمراء السرايا الذي أوجب طاعته إنما أوجبها إذا كان يأمر بما أمر الرسول به كما قال صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وكما

قال لا طاعة في معصية الله فقوله من أطاع أميري قد بين أن معناه إطاعته في الطاعة وهو ما كان من الفعال التي يأمر الله ورسوله بها فيكون هذا الأمير منفذاً لذلك الأمر كما كان عمر ابن عبد العزيز يقول يا أيها الناس لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم كتابكم آخر الكتب ونبيكم آخر الأنبياء

وإنما أنا متبع ولست بمبتدع وإنما أنا منفذ ولست بقاض فقد تبين أن هذه الدعاوي في الخلافة عن الله ونحو ذلك إنما هي من دعاوي المتكبرين الجبارين المشركين الذين يريدون العلو في الأرض كفرعون وهؤلاء الاتحادية والموافقين لفرعون المدعين أنهم مضاهون لله تعالى وأنه يحتاج إلى عباده كما يحتاج عباده إليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً يبين هذا أن إيتاء الله للعبد الملكَ والسلطان والمال لا يقتضي أن ذلك إكرام منه له ومحبة بل هو ابتلاء وفتنة له وامتحان قال تعالى فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ

رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) [الفجر 15-17] وقال تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) [يونس 13-14] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) [الأنعام 165] فبين أنه جعلهم خلائف ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما يرقع درجة ذي الملك والسلطان ليبلوهم فيما آتاهم وإذا كان كذلك فمن كان منهم عاملاً بطاعة الله غير عامل بمعصيته كان من أولياء الله وعباده الصالحين ومن كان منهم عاملاً بمعصية الله مريداً للعلو في الأرض والفساد متخيلاً متكبراً جباراً كان من أعداء الله وممن سخط الله عليه ولعنه قال بعض السلف أظنه مجاهداً في قوله تعالى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) [الشعراء 130] قال هو السوط والسيف والعصا في غير طاعة الله فمن كان يضرب

ويقتل لغير طاعة الله ورسوله فإنما هو جبار من الجبارين فإن لم يتب وإلا جاءه بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً فكيف يستجيز مسلم أن يقول في مثل هذا أنه خليفة عن الله ونائب عنه وهذا يقتضي أن فرعون والنمرود ونحوهما كانوا خلفاء عن الله نواباً عنه ثم إن هؤلاء يجعلون هذا المعنى ثابتاً لكل إنسان أنه خليفة عن الله لأنه من الجنس المسلطين على غيرهم من أجناس الحيوان وعلى أنواع من التدبير ولا يفرقون بين من أطاع الله ومن عصاه بل يجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار وهذا كله

من الإشراك والجمع لما فرق الله بينه ولهذا شرع الاتحادية كل شرك في العالم ونظير هذا الإشراك الذي يجعل فيه العباد خلفاء عن الله ونواباً عنه تشبيهاً لذلك بالخلافة والنيابة عن الملوك ما يوجد في كثير من الناس المشركين من تشبيههم لمسألة الله ودعائه وعبادته بمسألة الملوك فيقول الناس لأ حدهم إذا أردت أن تأتي السلطان وتسأله فابدأ بالوسائط التي بينك وبينه كالحجاب والنواب والأعوان فإن قصدك السلطان من الباب قِلَّةِ مَعْرُوفِه وقلة تعظيم وإكرام وذلك لا يصلح لك فيأمرونه بالتواضع والإشراك بالمخلوقين وهذا من الأسباب الذي به عبدت الكواكب والملائكة والأنبياء والصالحون وقبورهم وهذا كله

من أعظم الشرك والضلال والقياس الفاسد فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير بكل شيء ليس بمنزلة الملك الذي لا يعلم إلا ما أنهي إليه ولا يسمع ولا يبصر أكثر أمور رعيته وأيضاً فإن الله على كل شيء قدير لا يحتاج أن يستعين بالأعوان على إجابة الداعي كما يحتاج الملك وأيضاً فإن الله قريب إلى عباده كما قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة 186] وهو رحيم بعباده رؤوف بهم مع أنه هو الجبار المتكبر المتعالي بالحق ليس كالملوك الجبارين المتكبرين بالباطل على بني جنسهم ومن هو مثلهم حتى لا يسمعوا كلامه ولا يرحموه وحتى يزدروا الضعيف والفقير فهذا الإشراك في ربوبية الله وإلهيته والاستكبار والاختيال الموجود في العباد كله منافٍ لدين الإسلام الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه وكلا النوعين يتضمن من تعظيم الخلق وجعلهم أنداداً لله ومن التفريط في جنب الله وتضييع حقوقه ما هو من أعظم الجهل والظلم

وأصل هذه المقالات توجد في مقالات المشركين ومن دخل في الشرك من الصابئين وأهل الكتاب وهو في الغالية من هذه الأمة كغالية الرافضة وغالية المتصوفة ونحو هؤلاء وأما الدقيق منه فهو كثير كما قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) [يوسف 106] لاسيما شرك العمل والحال وإن لم يكن العبد مشركاً في مقاله وما يقترن بذلك من الخيلاء والكبر وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وأما قول من يقول إن العالم نفسه هو وجود الله وأن الإنسان هو مظهر ذات الله الأكمل ففيما تقدم كفاية في بطلان قول من حمل الحديث على مجرد كون الإنسان

مخلوقاً على صورة الله التي هي العالم وبطلان كونه خليفة عن الله وأما ما يختص به هؤلاء من الرد عليهم وبيان كفرهم وضلالهم فهو مذكور في غير هذا الموضع بل على أصلهم يمتنع أن يكون آدم مخلوقاً على صورة الله إذ على أصلهم ليس في الوجود شيئان أحدهما خالق والآخر مخلوق بل الخالق هو المخلوق عندهم وأيضاً فإنه قال لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن تقبيح الوجه لكون آدم مخلوقاً على صورة الله وعندهم أن وجود كل موجود هو عين وجود الرب وكل تقبيح ولعن وشتم وذم في العالم فهو واقع على الرب عندهم كما يقع عليه كل مدح ودعاء وهو عندهم الداعي والمدعو له واللاعن والملعون والشاتم والمشتوم والقاتل والمقتول والناكح والمنكوح فلا يتصور عندهم أن يختص شيء بعينه بالنهي عن التقبيح لكونه على صورة الله إذ ليس في الوجود مقبح وغير مقبح إلا ما هو من صورة الله عندهم وكذلك قوله لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من

أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته جعل مجرد المشابهة لوجه الله مانعاً من الضرب وعندهم أن كل ضرب في العالم أو قتل واقع على نفس الرب وهو ضارب لنفسه بنفسه وأن العالم كله هو صورة الله الذاتية لا يعنون بها الصورة المخلوقة المملوكة بل عين وجود العالم هو عين وجود الحق ثم إن صاحب الفصوص وهو مع كونه إمامهم فهو أبعدهم عن محض الإلحاد لما يوجد في كلامه من لبس الحق بالباطل يفرق بين الوجود والثبوت فيقول إن الأشياء ثابتة بأعيانها في القدم ونفس الوجود الفائض عليها هو

وجود الحق فيوافق من يقول إن المعدوم شيء في الخارج لكن يجعل وجود الكائنات عين وجود الحق ولا يجعل وجوداً متميزاً عن المخلوقين ولهذا يضطرب فيجعله هو هو من وجه وهو غيره من وجه لأن الفرق بين الوجود والثبوت فرق باطل فجاء بعده من أتباعه مثل القُونوي ونحوه من لم يسلك هذا المسلك بل فرق بين الوجود المطلق والمعين فجعل الحق الوجود المطلق الساري في

تصريح ابن سبعين والتلمساني بالقول بوحدة الوجود

الموجودات وأما المعين فهو الخلق ومن المعلوم أنه ليس في الخارج وجود مطلق سوى الموجود المعين فهو أراد أن يفرق بين الحق والخلق فلم يفرق في الحقيقة بل اضطرب كما اضطرب أستاذه فجاء بعد هذا من أصحابه وغير أصحابه كابن سبعين وخادمهم التلمساني فعلموا فساد الفرق بين الرب والعبد فصرحوا بأنه هو الموجودات وليس ثم غير ولا سوى بوجه من

الوجوه كما قد بسطنا قولهم في غير هذا الموضع وحقيقة قولهم هو قول فرعون الجاحد لرب العالمين كما يقوله من يقوله من طواغيتهم إن قولنا هو قول فرعون لكن فرعون كان ينكر وجود الحق بالكلية وهؤلاء أقروا به قالوا هو الوجود الذي اعترف به فرعون وهو وجود المخلوقات فخالفوا فرعون في اعتقادهم وقصدهم حيث اعتقدوا أنهم مقرون بالله عابدون له من بعض الوجوه وإن كان العابد والمعبود والمقر بالله هو الله عندهم لا غيره والمقصود هنا ما يتعلق يقولهم في صورة الله كما قال صاحب الفصوص ابن عربي في فص حكمة أحدية في

كلمة هودية فهو محدود بحد كل محدود فيما يحد شيء إلا وهو حد للحق فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود فهو عين الوجود فهو على كل شيء حفيظ بذاته ولا يؤوده حفظ شيء فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير فهو الكون كله وهو الواحد الذي قام كوني بكونه ولذا قلت يغتذي فوجودي غذاؤه وبه نحن نحتذي فيه منه إن نظر ت بوجه تعوذي

وقال أيضاً في التوجيه فإن للحق في كل نطق ظهوراً فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم إلا فهم من قال إن العالم صورته وهو منه وهو الاسم الظاهر كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صورة العالم نسبة الروح المدبر للصورة فيوجد في حد الإنسان مثلاً باطنه وظاهره وكذلك كل محدود فالحق محدود بكل حد وصورة العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صوره فلذلك

يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة وهذا محال حصوله فحد الحق محال وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه في فص حكمة علوية في كلمة موسوية كذلك تدبير الحق العالم ما دبره إلا به أو بصورته فما دبره إلا به كتوقف الولد على إيجاد الوالد والمسببات على أسبابها والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلتها والمحققات على حقائقها وكل ذلك من العالم وهو تدبير الحق فيه فما دبره إلا به وأما قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به الأسماء الحسنى والصفات العلا التي تسمى الحق بها واتصف بها فما وصل إلينا من اسم تسمى به إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في

العالم فما دبر العالم أيضاً إلا بصورة العالم ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال إن الله خلق آدم

على صورته وليست صورته سوى الحضرة الإلهية فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل وجعله روحاً للعالم فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة فكما أنه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمده وكذلك ليس شيء من العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته فقال تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية 13] فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه وهو الإنسان الكامل وجهل ذلك من جهله وهو الإنسان الحيوان

الجزء السابع

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء السابع الصورة - الرؤية - الساق - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم - النفس اليد - الشخص - الغيرة - الصمد حققه د. محمد البريدي

نقل المؤلف عن الرازي الخبر الثالث من الأخبار التي يجب تأويلها عنده

فصل قال الرازي الخبر الثالث ما روى صاحب شرح السنة في كتابه في باب آخر من يخرج من النار عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه

تأويل الرازي لحديث "فيأتيهم في غير الصورة التي يعرفون"

قال فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإن بيننا وبينه علامة فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ثم قال واعلم أن الكلام على هذا الحديث من وجهين الأول أن تكون في بمعنى الباء والتقدير فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي عرفوه بها في الدنيا وذلك بأن يريهم ملكًا من الملائكة ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنهما

في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] أي بظلل من الغمام ثم إن تلك الصورة تقول أنا ربكم وكانَّ ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الآخرة وتكون الفائدة فيه تثبيت المؤمن على القول الصالح وإنما يقال الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء على الأعم والأغلب وإن كان يقع في كل واحدة منهما ما يقع في الأخرى نادرًا أما قوله صلى الله عليه وسلم إنهم يقولون إذا جاء ربنا عرفناه فيُحمَل على أن يكون المراد إذا جاء إحسان ربنا عرفناه وقوله فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها فمعناه يأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها أمارات الإحسان وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيقولون بيننا وبينه علامة فيحتمل أن تكون تلك العلامة كونه تعالى في حقيقته مخالفًا للجواهر

ذكر المؤلف لتواتر حديث الرؤية في الجملة وسرده لطرقه

والأعراض فإذا رأوا تلك الحقيقة عرفوا أنه هو الله تعالى التأويل الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة والمعنى أن يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه مالم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة الله تعالى معهم ثم يأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة على الوجه الذي اعتادوه وألفوه والكلام على ذلك أن يُقال أما هذا الخبر في الجملة فهو متواتر عند أهل اعلم بالحديث ورواته من التابعين وأتباعهم من أجلِّ الأمة قدرًا في العلم والدين وهو معروف عن عدد من الصحابة فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد مجتمعين ومن حديث أبي سعيد مفردًا وهو أيضًا في صحيح مسلم من حديث جابر وهو في المسانيد من حديث ابن

مسعود وأبي موسى وفد جمع الحافظ أبو الحسن الدارقطني

كثيرًا من طرقه في كتاب الرؤية له وهو حديث طويل في وصف ما يكون في القيامة من تجلِّي الله لعباده وخطابه لهم ومرورهم على الصراط وخروج أهل التوحيد من النار وهو مشتمل على جمل من أصول أهل السنة التي يُكذِّبُ بها طوائف من أهل الأهواء والخوارج والمعتزلة

والجهمية والقرامطة

والباطنية مثل الإتيان والرؤية والصراط وخروج أهل الكبائر من النار وغير ذلك مما يدخل في باب الإيمان بالله واليوم الآخر مما يكذب به الجهمية والخوارج ومن اتبع الطائفتين من المعتزلة ونحوهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ به مرارًا وكذلك أصحابه من بعده كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث ابن مسعود على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وبذلك تتبين فوائد جليلة وجواب على إشكالات كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى روى البخارىُّ

ومسلم في الصحيحين من حديث أبي اليمان عن شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن

يزيد الليثي أن أبي هريرة أخبرهما ومن حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن النَّاس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تُضَارُّونَ في القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال

هل تُضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئًا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله عز وجل في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من

يجيزها ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهمَّ سَلِّم سَلِّم وفي جهنم كلاليبُ مثل شوك السَّعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السَّعدان غير أنه لا يعلم قدر عِظَمِهَا إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموثوق بعمله

ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه لم يتحد لفظ البخاري في رواية إبراهيم بن سعد ولفظ مسلم مطلقًا ومنهم المجازى حتى يُنَجَّى حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكةَ أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود وفي لفظ تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد

امتحشوا فيُصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَميل السَّيل ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبلٌ بوجهه على النار وهو آخر أهل النار دخولاً الجنَّةَ فيقول أي ربِّ اصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعو الله ما شاء

أن يدعوه ثم يقول الله تعالى هل عَسَيْتَ إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره فيقول لا وعزَّتك لا أسألك غيره ويعُطي ربَّه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل على الجنَّة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي ربِّ قَدِّمْني إلى باب الجنَّة فيقول الله له ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألاَّ تسألني غير الذي أعطيت أبدًا ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول ربِّ ويدعو الله حتى يقول هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غيره ويُعطي ربَّه ما شاء من عهود ومواثيق فيقدِّمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنَّة انْفَهقَتْ له الجنة فرأى ما فيها

من الحَبَرة والسرور فيسكت ما شاء أن يسكت ثم يقول أي رَبِّ أدخلني الجنة فيقول الله ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألاَّ تسأل غير ما أعطيت ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رَبِّ لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تعالى منه فإذا ضحك منه قال له ادخل الجنَّة فإذا دخلها قال الله له تَمَنَّه فيسأل ربِّهُ ويتمنى حتى إنَّ الله ليُذكِّره من كذا وكذا حتى إذا انقطعت به الأمانيُّ قال الله ذلك لك ومثله معه قال عطاء بن يزيد الليثي وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يَرد عليه من حديثه شيئاً حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله تبارك وتعالى قال ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد الخدريُّ وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد الخدري أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله

ذلك لك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة فذلك الرجل آخر أهل الجنَّة دخولاً الجنَّة وهذا الحديث من أجلّ حديث كان عند ابن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه وأحفظهم للعلم وأتقنهم له وكان قد سمعه من سعيد بن المسيب أعلم الأمة وأجلها في زمان كبار التابعين وسمعه أيضًا من عطاء بن يزيد الليثي أحد أجلاء

التابعين عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضًا فكان يحدث به ابن شهاب الزهري عن أحدهما تارة وتارة عنهما جميعًا كما جرت عادة الزهري فإنه لسعة علمه يكون الحديث عنده عن عدد من كبار التابعين فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا وهذا معروف للزهري في مواضع كثيرة من الصحيح والبخاري رواه في الصحيح مرات لكنه رواه تارة في صفة القيامة من حديث شعيب ومن حديث معمر تامًّا لأنه موضع سياقه تامًّا ولفظ الصورة كما تقدم وكما رواه مسلم من حديث شعيب وإبراهيم بن سعد ورواه البخاري في فضل السجود من حديث شعيب أيضاً فلم يذكر ذلك لأن مقصوده في ذلك الموضع يحصل

بدون ذلك فلم يحتج إلى ذكر الألفاظ التي تروى تارة وتكتم تارة عن بعض الناس وذكره في رواية إبراهيم بن سعد قال فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون وأخرجاه أيضًا من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فهل تُضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس فيها سحاب قالوا لا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب قالوا لا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تُضارُّون في رؤية الله تبارك وتعالى

يوم القيامة إلاّ كما تُضارُّون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذِّنُ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بر وفاجر وغُبَّرات أهل الكتاب فُيدعى اليهودُ فيُقال ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيراً ابن الله فيقال كذبتم

ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيُشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار ثم يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما تخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كلن يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم الله تعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا

يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يـ سجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوّل في صورته التي رأوه فيها أول مرة

فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يُضرب الجِسْرُ على جهنم وفي رواية أخرى وهي في البخاريّ ينادي مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم حتى يبقى من كان يعبد الله من بَر وفاجر وغبَّرات من أهل الكتاب ثم يُؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب فيُقال لليهود ما كنتم تعبدون قالوا كنَّا نعبد عزيراً ابن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يُقال للنصارى ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله

فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم حتى يبقى من كان يعبد الله من بَر أو فاجر فيقال ما يحبسكم قد ذهب النَّاس فـ ـيقولون فارقناهم ونحن أحوج منَّا إليه اليوم وإنَّما سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنَّما ننتظر ربَّنا فيأتيهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون السًَّاق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً فيذهب كما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ثم يُؤتى بالجسر فيُجعل بين ظهري ْ جهنّم قلنا يا رسول الله وما الجسر قال مَدْحضةٌ مَزلّةٌ عليه

خطاطيف وكلاليب وحَسَكَة مُفَلْطَحَة لها شويكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السَّعدان المؤمن عليها كالطرْف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب فناج مُسَلَّم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يُسْحَب سحبًا فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبيَّن لكم من المؤمنين يومئذٍ للجبَّار وإذا رأوا أنهم قد نَجَوا في إخوانهم يقولون ربَّنا إخواننا الذين كانوا يُصلّون معنا

ويصومون معنا ويعملون معنا ويعملون معنا فيقول الله تعالى اذهبوا همن وَجَدتُم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ويُحرِّم اللهُ صورهم على النّار فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النَّار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرِجُون من عرفوا ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرجوه فيُخْرِجُونَ من عرفوا ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان فأخرجوه فيُخْرِجُونَ من عرفوا قال أبو سعيد فإن لم تُصَدِّقُوني فاقرأوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) [النساء 40] وفي الرواية الأولى ثُمَّ يُضربُ الجِسرُ على جهنّم وتحلُّ الشَّفاعة ويقولون اللهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ قيل يا رسول الله وما الجِسْرُ قال دَحْضٌ مَزِلَّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يُقال لها السَّعدان فيَمُرُّ

المؤمنون كطرْف العين وكالبرق وكالرّيح وكالطير وكأجاويد الخيل والرّكاب فناجٍ مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنَّم حتى إذا خَلَص المؤمنون من النَّار فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشدَّ مناشدة لله في استِقْصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويُصلُّون ويَحُجُّون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتُحرَّم صورهم على النَّار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربَّنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير أخرجوه فيُخرجُون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربَّنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا ثُمَّ يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال بصف دينار من خير فأخرجوه

فيُخرجُونَ خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن لقيتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرًا وكان أبو سعيد الخدري يقول إنْ لم تصدّقُوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئْتُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) [النساء 40] فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيُخرجُ منها أقوامًا من النار لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حُممًا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنَّة يقُال له نهر

الحياة فيخرجون كما تخرجُ الحِبَّةُ في حَميل السَّيل ألا ترونها تكون في الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشَّمس أصَيْفِر وأخَيْضِر وما يكون منها إلى الظِّل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنَّة يقولون هؤلاء عتقاءُ الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدَّمُوه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا

ولفظ الرواية الأخرى قال أبو سعيد فإن لم تُصدِّقُوني فاقرأوا إن شئتم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) [النساء 40] فيشفع النَّبِيُّون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبَّار بَقِيَتْ شفاعتي فيقبضُ قبضة من النَّار فـ يخرج أقوامًا قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنَّة يُقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّةُ في حَميل السَّيل قد رأيتموها إلى جانب الصَّخْرة وإلى جانب الشَّجَرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر وما كان إلى الظل كان أبيض فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيُجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنَّة فيقول أهل الجنَّة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهُم الجنَّة بغير عمل عملوه ولا خير قدَّموُه فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه قال أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدقُّ من الشَّعرة وأحدُّ من السَّيف فقد ذكر في حديث أبي سعيد أربعة أصناف

الناس أربعة أصناف يوم القيامة

الصنف الأول المشركون فهم يتَّبِعُون ما كانوا يعبدون من آلهة الصنف الثاني غُبَّرات أهل الكتاب الذين أصل دينهم عبادة الله وحده لكنهم ابتدعوا الشرك فعبدوا العُزَيْر والمسيح ولهذا يجعل الله هؤلاء في كتابه صنفًا غير المشركين كقوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) [البينة 1] وهو مع ذلك يصفهم بما ابتدعوه من الشرك كما في قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) [التوبة الآيتان 30-31] والصنف الثالث المنافقون الذين كانوا يعبدون الله رياءً وسمعةً الصنف الرابع المؤمنون الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له وذكر أنه بعد أن يذهب المشركون مع آلهتهم وكفار أهل الكتاب إلى النار ولم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بر وفاجر

أتاهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أخرى في الصحيح أتاهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرَّة وفي لفظ في الصحيح أتاهم رب العالمين في أدني صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أخرى في الصحيح أتاهم الجَبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وأنه يمتحنهم فيقول أنا ربكُم وانه لا يكلمه إلا الأنبياء وأنَّه حينئذ يَكشِف عن ساق فيسجد له المؤمنون دون المنافقين ثُمَّ يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة والثانية التي امتحنهم فيها فأنكروه وهي أدنى من التي رأوه فيها أول مرة والمرة التي كشف لهم عن ساقٍ حتى سجدوا له والرابعة حين يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرَّة وهذا تفسير ما في حديث أبي هريرة المتقدم مع أبي سعيد حيث قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي

حديث جابر في الرؤية

يعرفون وأنَّ التي يعرفون هي التي يُكشف فيها عن ساقٍ فيسجدون له ثُمَّ يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في صورته التي رأوه فيها أوَّل مرة فيتَّبِعُونَه حِينَئِذٍ وفي صحيح مسلم عن ابن جريج عن أبي الزبير أنَّه سَمِعَ جابرًا يُسأل عن الوُرود فقال نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أي واحد ذلك فوق الناس قال

فتُدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأوَّل فالأوّل ثُمَّ يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول من تنظرون فيقولون ننظر ربَّنَا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلَّى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتَّبِعُونَه ويُعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورًا ثم يتَّبِعُونَه وعلى جسر جهنَّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ثُمَّ يُطْفَأ نور المنافقين ثُمَّ ينجو المؤمنون فتنجو أوَّلُ زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا لا يُحاسبون ثُمَّ الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثُمَّ كذلك ثُمَّ تَحُلُّ الشَّفّاعة ويشفعون حتى يخرج من النَّار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بِفنَاء الجنَّة ويجعل أهل الجنَّة يَرُشُّون عليهم الماء

حديث أبي هريرة في الرؤية

حتى يَنْبُتُوا نبات الشَّيء في السَّيل ويذهب حُرَاقُهُ ثُمَّ يسأل حتى تُجعلَ له الدنيا وعشرة أمثالها معها ورَوَى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عيينة ثنا سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالوا يا رسول الله هل نرى ربَّنَا يوم القيامة قال ها تُضارُّونَ في رؤية الشَّمسِ في الظَّهيرة ليست في سحابة قالوا لا قال فهل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فو الذي نفسي بيده لا تُضارُّون في رؤية ربِّكم إلاَّ كما تُضارُّون في رؤية أحدهما

طرق أخرى ووجوه لحديث الرؤية

قال فيَلْقَى العبدَ فيقول أي فُلْ ألمْ أكْرِمْك وأُسَوِّدْكَ وأُزَوِّجْك وأُسَخِّر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب قال فيقول أفظننت أنك مُلاقِيَّ قال فيقول فإنِّي أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثَّاني فيقول أي قُلْ ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول له أفظننت انَّك مُلاقِيَّ فيقول لا

فيقول فإنِّي أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثَّالث فيقول له مثل ذلك فيقول أي رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصلَّيتُ وصُمتُ وتصَدَّقت ويُثني بخير ما استطاع فيقول ههنا إذًا قال ثم يقال له الآن نبعثُ شاهدنا عليك ويتفكَّرُ في نفسه من ذا الذي يشهدُ عليَّ فيختم على فيه ويُقال لِفَخذِه ولحمه وعظامه انْطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك لِيُعْذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يَسْخَط اللهُ عليه وروى أبوداود في سننه بعض هذا الحديث وهو

الإخبار بالرؤية في الرد على الجهمية وهذا الحديث محفوظ من حديث سفيان بن عيينة عن سهيل وليس في الصحيح لابن عيينة عن سهيل غير هذا الحديث ولكنَّ مسلمًا روى منه الطرف الذي احتاج إليه وهو أوَّله وترك رواية باقيه لأنَّها في الطرق المقدمة التي هي أشرف من هذه الطَّريق من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد ومن حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد ولأن رواية أولئك لتلك الطرق أتم وتمام الحديث قد رواه النسائي كما رواه أحمد وابن

خزيمة قال ثُمَّ يُنادي منادٍ ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع الشيطان والصليب وأولياؤهم على جهنَّم وبقينا أيها المؤمنون فيأتينا ربنا فيقول على ما هؤلاء فنقول نحن عباد الله المؤمنون آمنَّا بربنا ولم نشرك به شيئًا وهو ربنا تبارك وتعالى وهو يأتينا وهو يثبتنا وهذا مقامنا حتى يأتينا ربنا فيقول أنا ربكم فانطلقوا فننطلق حتى نأتي الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف عند ذلك تحلُّ الشَّفاعة أي اللهم سَلِّم اللهم سَلِّم فإذا جاوزوا الجسر فكل من انفق زوجًا من المال في سبيل الله مما يملك فتكلمه خزنة الجنَّة تقول يا عبد الله يا مسلم هذا خير فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إنَّ هذا عبد

لاتوى عليه يدع بابًا ويلج آخر فضرب كتفه وقال إنِّي لأرجو أن تكون منهم قال ابن خزيمة حدثنا محمّد بن منصور الجوَّاز قال ثنا سفيان قال ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه وحفظته أنا وروح بن القاسم وردده علينا مرتين أو ثلاثة وذكر الحديث قال ابن خزيمة حدثنا محمّد بن ميمون المكّي قال ثنا

سفيان فذكر الحديث بطوله وقال سمعت محمّد بن ميمون يقول سُئِل سفيان عن تفسير حديث سهيل بن أبي صالح ترأس وتربع فقال كان الرَّجل إذا كلن رأس القوم كان له المرباع وهو الرّبع وقال قال النبي لعديّ بن حاتم حين قال يا رسول الله إني على دين قال أنا أعلم بدينك منك إنَّك تَسْتَحِل المرباع ولا يَحِلُّ لك وهذا الحديث صريح في لقاء الكفَّار والمنافقين لله وخطابه لهم كما ذكر القرآن في غير موضع وكما جاء هذا

في عِدَّة أحاديث صحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد وعديّ ين حاتم رضي الله عنهم وغيرهم وفيه أن هذا يكون قبل أن يُنادي ذلك المنادي لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فإن هذا هو محاسبة العباد فإذا حُوسِبوا أمروا بأن يتبعوا آلهتهم ويتجلّى الرَّب لعباده المؤمنين ويتبعونه ويُنصَبُ الجسر على ظهر جهنّم فيعبر عليه المتقون ويذر الظالمين فيها جثيًّا ومعلوم أن المؤمنين لَقوهُ في تلك الحال قبل مناداة المنادي باتّباع كل أمّة ما كانت تعبُد وهذا هو والله أعلم الرُّؤية المذكورة في حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما حيث قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرَّة وفي صورته التي يعرفون وهي تلك الصورة التي رأوه فيها لمَّا لَقوه وخاطبهم قبل المناداة

وذلك كان عامًّا للعباد كما يدلُّ عليه سائر الأحاديث وبعد هذا حُجِب الكفَّار كما دلَّ عليه القرآن وقد جاء ذلك مبيَّنًا في حديث أبي رزين وابن مسعود كالحديث المحفوظ عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه ابن خزيمة وغيره عن عبد الله بن عُكَيْم قال سمعت عبد الله بن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث فقال والله إنْ منكم من أحدٍ إلاّ سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر أو قال ليلته يقول يا ابن آدم ما غرّك ابن آدم ما غرّك ابن آدم ما عَمِلت فيما عَلِمْت ابن آدم ماذا أجبت المرسلين وأمَّا حديث أبي رزين فهو مشهور في السنن والمسانيد لكنَّ أهل السنن يختّصِرُون من الحديث ما يناسب السُّنن على

عادتهم فروى أبوداود وابن ماجه عن أبي رزين العقيليّ قال قلت يا رسول الله أكلُّنا يرى ربَّه مخليًّا به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال فإنَّما هو خلق من خلق الله تعالى فالله أعظم وقد رُوِي مبسوطًا من وجه آخر كما رواه أبوبكر بن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنَّه لا يحتج إلاّ بما ثبت من الأحاديث ورواه

من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن قال ثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري ثُمَّ السَّمعيّ عن دلهم بن الأسود بن عبد الله عن أبيه عن عمّه لَقِيط بن

عامر وهو أبورزين العقيلي أنَّه خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق قال فقدمنا المدينة لانسلاخ رجب فصلّينا معه صلاة الغداة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا فقال أيها الناس إنِّي قد خبّأت لكم صوتي مذ أربعة أيام إلاّ لأسمعكم هل من امرئ بعثه قومه فقالوا اعْلمْ لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّه أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو تلهيه الضلالة ألا إني مسئول هل بلّغت ألا اسمعوا تعيشوا ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا اجلسوا فجلس النّاس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصرُه قلت يا رسول الله إنّي سائلك عن حاجتي فلا تعجلنّ عليّ فقال سل عمّا شئت قلت يا رسول الله

هل عندك من علم الغيب فضحك لعمر الله وهز رأسه وعلم أنّي ابتغي سقطه فقال ضنَّ ربُّك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمُهنُّ إلاّ الله وأشار بيده ما هن يا رسول الله قال علم المَنيَّة قد علم متى منيَّةُ أحدكم ولا تعلمونه وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزْلين مشفقين فيظلُّ يضحك قد علم أنَّ غوثكم قريب قال لقيط فقلت يا رسول الله لن نعدم من رب يضحك خيرًا وعلم ما في غدٍ قد علم ما أنت طاعم غدًا ولا تعلمه وعلم يوم السَّاعة قال وأحسبه ذكر ما في الأرحام قال قلت يا رسول الله علِّمنا مما تُعلِّم الناس وما تَعلم فإنَّا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحد من مَذْجح التي تدنو غلينا وخثعم التي توالينا

وعشيرتنا التي نحن منها قال تلبثون ما لبثتم ثُمَّ يتوفى نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم تلبثون ما لبثتم ثُمَّ تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئًا إلا مات والملائكة الذين مع ربك فخلت الأرض فأرسل السَّماء تَهْضبُ من تحت العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلاّ شقَّت القبر عنه حتى يخلفه من قِبَل رأسه فيستوي جالسًا يقول ربك مَهْيَم يقول يا ريِّ أمْسِ اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثًا بأهله قلت يا رسول الله كيف يجمعنا بعدما تُمَزِّقُنا الرّياح والبلى

والسِّباع قال أنَبّئُكَ بمثل ذلك في آلاء الله الأرض أشرفت عليها مَدَرَة بالية فقلت لاتحيا أبدًا فأرسل ربك عليها السَّماء فلم تلبث إلاّ أيَّمًا حتى أشرفت عليها فإذا هي شربة واحدة ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله والشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما في ساعة واحدة ويريانكم ولا تُضامون في رؤيتهما ولعمر

إلهك لهو على أن يراكم وترونه أقدر منهما على أن يريانكم وترونهما قلت يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه قال تُعرضون عليه بادية له صفحاتكم ولا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفةً من الماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما تُخطئ وجه واحد منكم منها قطرة فأما المؤمن فتدع وجهه مثل الرَّيْطَة البيضاء وأمَّا الكافر فَتَخْطِمُه بمثل الحمم الأسود ألا ثُمَّ ينصرف نبيُّكم صلى الله عليه وسلم فيمُرُّ على أثره الصالحون أو قال ينصرف على

أثره الصالحون قال فيسلكون جِسْرًا من النَّار يطأ أحدكم الجمرة فيقول حس فيقول ربك أو أنه قال فتطلعون على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أظمأ ناهلة والله رأيتها قط فلعمر إلهك ما يبسط يده أو قال يسقط واحد منكم إلاّ وقع عليها قدح يطهّره من الطوف والبول والأذى وتخلص الشمس والقمر أو قال تحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدًا فقلت يا رسول الله فبم نبصر يومئذٍ قال مثل بصرك ساعتك هذه وذلك في يوم أشرقت الأرض وواجهت الجبال قال قلت يا رسول الله فبم نجازى من سيئاتنا وحسناتنا قال صلى الله عليه وسلم الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها

أو يغفر قلت يا رسول الله فما الجنَّة وما النَّار قال لعمر إلهك إنَّ للجنة لثمانية أبواب ما منهنَّ بابان إلاَّ وبينهما مسيرة الراكب سبعين عامًا وإنَّ للنَّار سبعة أبواب ما منهنَّ بابان إلاَّ بينهما مسيرة الراكب سبعين عامًا فلت يا رسول الله ما يطلع من الجنَّة قال أنهار من عسلٍ مصفَّى أنهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار كأس مالها صداع ولا ندامة وماء غير آسن وبفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهَّرة قلت يا رسول الله أوَ لَنَا فيهنَّ أزواج مُصْلَحَات قال صالحات للصالحين تلذُّون بهنَّ مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أن لا توالد

قلت يا رسول الله هذا أقصى ما نحن بالغون ومنهون إليه فلم يجبهُ النبي صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله علام أبايعك قال فبسط النبيُّ صلى الله عليه وسلم يده فقال على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشركين وأنَّ الله لا تُشرك به إلهًا غيره فقلت وإنَّ لنا ما بين المشرق والمغرب فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وبسط أصابعه وظنَّ أنِّي مشترط شيئًا لا يعطينيه فقلت نحل منها حيث شئنا ولا يَجْنِ امرؤ إلاّ على نفسه قال ذلك لك حل منها حيث شئت ولا تجن إلاّ على نفسك فبايعناه ثم انصرفنا فقال ها إنَّ ذَين ها إنَّ ذَيْن

ثلاثًا لمن يقرئني حديثًا لأنهم من أتقى النَّاس لله في الأولى والآخرة فقال كعب بن الخُداريّة أحد بني أبي بكر بن كلاب من هم يا رسول الله قال بنو المنتفق أهل ذلك منهم قال فأقبلت عليه فقلت يا رسول الله هل لأحد ممن مضى منَّا في جاهليته من خير فقال رجلٌ من عرض قريش والله إن أباك المنتفق في النَّار فكأنه وقع حرٌّ بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ثُمَّ نظرت فإذا الأخرى أجمل فقلت وأهلك يا رسول الله قال وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت عليه من قبر قرشيّ أو عامريّ مشرك فقل أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسوؤك تُجرُّ على وجهك وبطنك في النار قلت فما فعل

ذلك بهم يا رسول الله وكانوا على عمل لا يحسنون إلاّ إياه وكانوا يحسبونهم مُصلحين قال ذلك بأنَّ الله بعث في آخر كل سبع أمم نبيًّا فمن أطاع بنيه كان من المهتدين ومن عصى نبيه كان من الضالين

أقوال العلماء في رؤية الله في موقف يوم القيامة

فهذا الحديث ونحوه يدلُّ على أنَّ جميع القيام من قبورهم يرون ربهم في أوّل الأمر كلهم يراه مخليًّا به فيسأله ويخاطبه كما تقدَّم ثُمَّ بعد ذلك ينادي المنادي فيراه المسلمون بمن معهم من المنافقين ثم بعد ذلك يتميَّزُ المؤمنون وهم الذين يرونه رؤية تنعُّم ويحجب عنه الكافرون بعد ذلك إذ الرؤية في عرصات القيامة ليست من النَّعيم والثَّواب وذهب ابن خزيمة وطائفة إلى أنَّه لا يراه إلاَّ المؤمنون والمنافقون وذهبت طائفة أخرى إلى أنَّ الكفَّار لا يرونه بحال وقد تكلمنا على هذه المسألة في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان ما في الأحاديث المشهورة من قوله صلى الله عليه وسلم فيرونه في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول وأن تلك هي هذه المرَّة التي تجلَّى فيها لفصل القضاء بين عباده فخاطبهم وحاسبهم ثم بعد ذلك جزاهم فأمر أن يتبع كل قوم معبودهم وروى ابن خزيمة أيضًا في التوحيد من حديث الداروردي

حدثني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله النَّاس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع إليهم ربٌّ العالمين فيقول ألا لينبع كل أناس ما كانوا يعبدون فيمثَّل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصوير تصويره ولصاحب النَّار ناره فيتَّبعون ما كانوا ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون فيطَّلع عليهم ربُّ العالمين فيقول ألا تتبعون النَّاس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربُّنَا وهذا مكاننا حتى نرى ربَّنَا وهو يأمرهم ويثبتهم ثم يتوارى ثم يطلع فيقول ألا تتبعون الناس ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم قالوا وهل نراه يا رسول الله قال وهل تتمارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم لا تتمارون في رؤيته تلك الساعة ثمَّ يتوارى ثم يطّلع عليهم فيعرفهم بنفسه

ثم يقول أنا ربّكُم فاتَّبعون فيقوم المسلمون ويضع الصراط فهم على مثل جياد الخيل والرّكاب وقولهم عليه سلّم سلّم وذكر باقي الحديث وأمَّا حديث ابن مسعود فذكر الخلال في كتاب السُّنة قال أنا أبوبكر المروذي قال ذكرت لأبي عبد الله حديث

محمد بن سلمة الحرّانيّ عن أبي عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد قال حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال عن أبي عبيدة عن مسروق قال حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله

عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ينزل الله في ظُلل من الغمام من العرش إلى الكرسيّ فقال أبو عبد الله هذا حديث غريب لم يقع إلينا عن محمد بن سلمة قال المروذي واستحسنه قال الخلال وأخبرنا أبوبكر المروذي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحرَّاني حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد حدثني ابن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله عن مسروق بن الأجدع قال حدثنا عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجمع الله عز وجل الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قال وينزل الله تبارك وتعالى في ظُلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي مناد ياأيها الناس ألن ترضوا من ربِّكم

الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولاتشركوا به شيئًا أن يولّى كل إنسان منكم ما كان يتولاّه ويعبده في الدنيا أليس ذلك عدلاً من ربكم قالوا بلى قال فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا قال فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون فمنهم من ينطلق إلى الشمس ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ذلك مما كانوا يعبدون قال ويُمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويُمثل لمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير ويبقى مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وأمَّته قال فيتمثل الرَّبُّ جل وعز فيأتيهم فيقول لهم ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إنَّ لنا إلهًا ما رأيناه بعد فيقول وهل تعرفونه إن رأيتموه فيقولون نعم بيننا وبينه علامة إذا رأيناه عرفناه قال فيقول ما هي قال فيقولون يكشف عن ساقه قال فعند

ذلك يكشف عن ساقه قال فيخرُّ من كان بظهره طبق ويبقى قوم ظهورهم كأنَّها صياصي البقر يريدون السُّجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ثم يقول ارفعوا رؤوسكم قال فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه ومنهم من يُعطى نوره أصغر من ذلك ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيمينه ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلاً يُعطى نوره على إبهام قدمه فيُضيء مرة ويطفئ أخرى فإذا أضاء قدر قدمه مشى وإذا أطفئ قام قال والرَّبُّ تبارك وتعالى أمامهم حتى يمر في النَّار يبقى أثره كحدِّ السيف دحض مزلة ويقول مُرُّوا فيمرُّون على قدر نورهم منهم من يمرُّ كطرف العين

ومنهم من يمرُّ كالبرق ومنهم من يمرُّ كالسَّحاب ومنهم من يمرُّ كانقضاض الكوكب ومنهم من يمرُّ كشدِّ الفرس ومنهم من يمرُّ كشدِّ الرجل حتى يمر الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على يديه ووجهه ورجليه تخرُّ يدٌ وتعلق يدٌ وتخرُّ رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النَّار قال فلا يزال كذلك حتى يخلص فإذا خلص وقف عليها ثم قال الحمد لله لقد أعطاني الله عز وجل ما لم يعط أحدًا إذ نجَّانِي منها بعد إذ رأيتها قال فينطلق به إلى غدير عند باب الجنَّة فيغتسل قال فيعود إليه ريح أهل الجنَّة وألوانهم قال ورأى ما في الجنَّة من خلال الباب قال فيقول رب أدخلني الجنة قال فيقول الله عز وجل أتسأل الجنَّة وقد نجيتك من النار قال فيقول ربِّ اجعل بيني وبينها حجابًا لا أسمع حسيسها قال فيدخل الجنَّة قال

فيرى أو يرفع له منزلاً أما ذلك كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول رب أعطني ذلك المنزل قال فيقول اللهُ عز وجل لعلك إن أعطيته تسأل غيره فيقول لا وعزَّتك لا أسألك غيره وأي منزل يكون أحسن منه قال فيعطيه قال فينزله قال ورأى أمام ذلك منزلاً آخر كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول ربِّ أعطني ذلك المنزل فيقول اللهُ عز وجل فلعلَّك إن أعطيته تسأل غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غيره وأيّ منزل أحسن من هذا قال فيعطاه فينزله قال فيرى أو يرفع له أمام ذلك المنزل منزلاً آخر كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول رب أعطني ذلك المنزل فيقول الله عز وجل فاعلَّك إن أعطيته لا تسأل غيره فيقول لا وعزَّتك وأيّ منزل أحسن منه قال فيعطاه فينزله قال ثم

يسكت قال فيقول الله عز وجل مالك لا تسأل قال فيقول رب لقد سألت حتى استحييت وأقسمت لك حتى استحييت فيقول اللهُ عز وجل له ألن ترضى إن أعطيتك مثل الدنيا منذ يوم خلقتها إلى أن أفنيتها وعشرة أضعافها قال فيقول أتستهزئ بي وأنت رب العالمين قال فيضحك الرَّبُّ تبارك وتعالى من قوله قال فرأيت عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه9 حين بلغ هذا المكان من الحديث ضحك قال فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن قد سمعتك تحدث بهذا الحديث مرارًا كلما بلغت هذا المكان من الحديث ضحكت فقال إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّثُ هذا الحديث مرارًا كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى يبدو آخر أضراسه قال فيقول الرب تبارك وتعالى لا ولكني على ذلك قادر سل فيقول ربِّ

ألحقني بالنَّاس فيقول الحق بالنَّاس فينطلقُ يرفل في الجنَّة حتى إذا دانا من النَّاس رفع له قصر من درة فيخرُّ ساجدًا فيقال له ارفع رأسك قال فيقول رأيت ربِّي أو تراءى لي ربِّي عز وجل قال فيقال إنما هو منزل من منازلك قال فيلقى رجلاً فيتهيأ للسجود فيقال له مه مالك فيقول أنت ملك من الملائكة فيقول إنما أنا خازن من خزَّانك عبد من عبيدك تحت يديَّ ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه قال فينطلق أماه حتى يفتح له القصر قال وهو درَّةٌ مجوَّفة سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها فتستقبله جوهرة خضراء مبطَّنة بحمراء فيها سبعون بابًا كل باب يفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى

في كل جوهرة سُرر وأزواج ووصائف وأدناهنَّ حوراء عيناء عليها سبعون حلَّة يُرى مخ ساقها من وراء جلدها كبدها مرآته وإذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفًا عمَّا كانت عليه من قبل وإذا أعرضت عنه إعراضة ازداد في عينها سبعين ضعفًا عمَّا كان عليه من قبل فيقول لها والله لقد ازددتِ في عيني سبعين ضعفًا وتقول له وأنت والله لقد ازددت في عيني سبعين ضعفًا قال فيقال له أشرف فيشرف قال فيقال له ولك ملك مسير مائة عام ينفذه بصرك فقال عمر رضي الله عنه ألا تسمع إلى ما يحدثنا به ابن

أم عبد يا كعب عن أدنى أهل الجنَّة منزلاً فكيف أعلاهم قال كعب يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إن الله تعالى كان خلق لنفسه دارًا وجعل ما شاء فيها من الأزواج والثمرات والأشربة ثم أطبقها فلم يرها أحد من لا جبريل ولا غيره من الملائكة ثم قرأ كعب فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة 17] قال وخلق دون ذلك جنتين فزينهما بما شاء وأراهما من شاء من خلقه ثم قال من كان كتابه في عليين نزل تلك الدار التي لم يرها أحد حتى إن الرجل من أهل عليين ليَخْرج يسير في ملكه فما تبقى خيمة من خيام الجنَّة إلاَّ دخلها ضوء من ضوء وجهه ويستبشرون بريحه ويقولون واها لهذه الرِّيح الطَّيبة هذا رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويحك

يا كعب إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها فقال كعب والذي نفسي بيده إن لجهنَّم يوم القيامة لزفرة ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا يخر لركبتيه حتى عن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام يقول رب نفسي نفسي حتى لو كان لك عمل سبعين نبيًّا إلى عملك لظننت أنك لن تنجو

وقد روى ابن خزيمة هذا الحديث في كتاب ذكر نعيم الآخرة وأحال عليه في كتاب التوحيد وهذا الحديث المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قد روى أهل الصحاح كثيرًا منه عن ابن مسعود من وجوه أخرى ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آخر من يدخل الجنَّة رجل يمشي مرَّة ويكبو مرَّة وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها

التفت إليها فقال تبارك الذي نجَّاني منك لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول يا رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الله عز وجل يا ابن آدم لعلِّي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول لا يا رب ويعاهده ألاَّ يسأله غيرها قال وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظلُّ ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي لأحسن من الأولى فيقول أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها فيقول ياابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأل غيرها وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لاصبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة أخرى عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين فيقول أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها فيقول ياابن آدم ألم تعاهدني ألاَّ تسألني غيرها قال بلى ياربّ هذه لا أسألك

غيرها وربُّه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لاصبر له عليه فيدنيه منها فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنَّة فيقول أي رب أدخلنيها فيقول ياابن آدم ما يصريني منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها قال يارب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين فضحك ابن مسعود فقال ألا تسألوني مما أضحك قالوا مما تضحك قال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا مما تضحك يا رسول الله قال من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزئ مني وأنت رب العالمين فيقول إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر وفي الصحيحين من حديث إبراهيم النَّخعي عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني

مناقشة المؤلف للرازي في تأويله لحديث الصورة بأنها صورة الملك

لأعلم آخر أهل النَّار دخولاً الجنَّة رجل يخرج من النار حبوًا فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يارب وجدتها ملأى فيقول الله عز وجل اذهب فادخل الجنَّة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا فيقول أتسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه وكان يقول ذلك أدنى أهل الجنة منزلة والكلام على ماذكره من وجوه أحدها أن من تأمل سياق هذه الأحاديث وما اتفقت عليه من المعاني وسياقها وما فيها من الإخبار بأن الله يأمر كل من عبد غيره أن يتبع معبوده فيمثله له أنه إذا تميَّز الموحدون من غيرهم امتحنهم هل يعبدون غير الإله الذي رأوه أولاً فلما

تثبَّتهم بالقول الثابت تجلَّى لهم في الصورة التي يعرفون فيسجدون له ولما رفعوا رؤوسهم من السجود وجدوه قد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة ثم إنهم يتبعونه بعد ذلك حتى يمروا على الصراط علم بالاضطرار أن الذي يأتيهم في هذه الصورة هو رب العالمين نفسه لا ملك من الملائكة ولا مجرد بعض آياته ومن صرف مثل هذه الأحاديث وهذه الألفاظ الصريحة المنصوصة إلى مَلك من الملائكة أو مجيء شيء من عذاب الله أو إحسان الله فإنه مع جحده لما يعلم بالاضطرار من هذه الألفاظ قد فتح من باب القرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه ما لا يمكن سدُّه إذ لايمكن بيان المخبر عنه بأعظم من هذا البيان التَّام فمن جعل هذا محتملاً لم يمكن قط أن يخبر أحدٌ أحدًا بشيء من الألفاظ المبينة لمراده قطعًا وهذا كله من أعظم السفسطة وجحد

الحسيَّات والضروريات التي لا يستحقُّ جاحدها مناظرة ولهذا كان السلف ينهون عن مجادلة أمثال هؤلاء

السوفسطائية القرامطة الوجه الثاني أن قوله تكون في بمعنى الباء والتقدير فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي عرفوها في الدنيا وذلك بأن يريهم ملكًا من الملائكة ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] يُقال أولاً هذا تبديل للُّغة وقلب لها فإن الباء في مثل قولك جئت بهذا تكون لتعدية الفعل ولهذا يقول النُّحاة إن أسباب التعدية ثلاثة الهمزة والتضعيف والباء تقول أتاه مال ثم تعديه فتقول آتاه مالاً وتقول أتاه به وتقول جاء به وتقول أجاءه إلى كذا وتقول علم هذا وعلمته هذا ومن المعلوم أن فعل أتى وجاء تستعمل تارة لازمًا وتارة متعدِّيًا فالأول كقوله تعالى وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف 58] ونحوه والثاني كقوله تعالى وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [يونس 22] وقوله أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ [الشعراء 165] وقوله

لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد 23] على قراءة القصر وعلى قراءة المدِّ فيكون متعدِّيًا إلى مفعولين والعائد محذوف على هذه القراءة وقوله وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم 34] وقوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود 3] ونحوه وقوله آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف 96] وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة 43] فهذا الفعل المتعدي إذا عدي بالهمزة كان المعنى بمنزلة أعطى والتقدير أن الأول جعل الثاني آتيًا فإذا قيل ويؤت كل ذي فضل فضله آتوني زبر الحديد كان التقدير أن يجعل الفضل آتيا وزبر الحديد آتية كما في قوله أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء 80] فإذا دخل وخرج يتعدى إلى الظرف والمصدر فإذا دخلته الهمزة صار الفاعل مفعولاً به والمعنى داخلاً مدخل صدق واجعلني خارجًا مخرج صدق وإذا عدي هذا المتعدي بالباء اقتضى أن الإتيان ألصق بذلك المجرور فإذا قيل أتاهم بهذا أي جعل إتيانهم لاصقًا بذلك المأتي

به فيكون قد أتاهم ضرورة وأما كون نفس الفاعل هنا جاء بنفسه أو لا يجب أنه جاء كما في قوله فَأَتَاهُمُ اللَّهُ [الحشر 2] فهذا فيه تفصيل فإن من الناس من يسوي بين أخرجه وأخرج به والصواب الفرق والمقصود هنا أن المجرور بالباء في مثل هذا يدل اللفظ دلالة صريحة على انه ألصق به الإتيان والمجيء كالذي جعله غيره آتيًا وجائيًا كما في قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف 83] إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ [هود 33] فأتاهم الله بعذاب وقوله فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل 37] وليس في مثل هذا النَّظم إشعار بأنَّ المأتي به ظرف للفعل إلى الفاعل ولا أن الفاعل فوقه أو في جوفه أو غير ذلك من المعاني التي يدل عليها لفظ الباء فأما لفظ فيه فله خاصة يدلُّ عليها لا تحصل بحرف الباء فَجَعْلُهُ بمعنى الباء تحريف لكلم عن مواضعه وتبديل للغة إذا جاء في صورة حسنة أو حال حسن أو ثياب حسنة أو طائفة

من الناس أو مركب من المراكب ونحو ذلك فلابد وأن يكون المأتي فيه مما يصلح أن يُسمى في اصطلاح النُّحاة ظرفًا لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يكون مأتيًّا به والذي يبين هذا أن المواضع التي جاءت بحرف الإلصاق في القرآن والحديث لا يصلح أن تستعمل بحرف الظرف إلا حيث يكون الظرف مقصودًا فلا يصلح أن يُقال عسى الله أن يأتيني فيهم جميعًا إنما يأتيكم فيه الله أن يصيبكم الله في عذاب من عنده أما قوله فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ [النمل 37] وإذا قيل لنأتينَّهم في جنود فإنه يصلح إن كان هو الذاهب في الجنود فإن الجنود تكون محدقة به ومثل هذا المعنى يعبر عنه بـ في أما إذا أرسل الجنود ولم يذهب بنفسه فلا يصلح أن يُقال فلنأتينهم في جنود وإنما يُقال لنأتينَّهم بجنود وهذا من مشهور اللغة التي يعرفها عامة العلماء بها وإذا كان كذلك فهذا التأويل فيه مع تحريف الحديث تحريف القرآن فإن قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] لا يصلح أن يراد أنَّه هو يرسل ذلك ولا يأتي كما تقدم

وأما نقلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أتى بظلل من الغمام بمعنى أنه يرسلها ولا يجيء هو فهذا كذب على ابن عباس ولم يذكروا له إسنادًا وقد روي عن ابن عباس من وجوه أنَّ الله نفسه يجيء كما رواه عثمان بن سعيد قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حمَّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن

مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) [الفرقان 25] قال ينزل أهل السماء الدُّنيا وهم أكثر من أهل الأرض ومن الجن والإنس فيقول أهل الأرض أفيكم ربنا فيقولون لا وسيأتي ثم تشقق السماء الثانية وساقه إلى السماء السابعة قال فيقولون أفيكم ربنا فيقولون لا وسيأتي ثم يأتي الرب تبارك وتعالى في الكروبيين وهم أكثر من أهل السموات والأرض

قال وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن عوف عن أبي المنهال عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء الدنيا على أهلها فنشروا على وجه الأرض فإذا أهل السماء الدنيا أكثر من جميع أهل الأرض فإذا رآهم أهل الأرض فزعوا وقالوا أفيكم

ربنا فيقولون ليس فينا وهو آت قال ثم يقبض أهل السماء الثانية وساق إلى السماء السابعة قال فلأهل السماء السابعة وحدهم أكثر من أهل ست سموات ومن جميع أهل الأرض بالضِّعف قال ويجيء الله تعالى فيهم والأمم جثيًّا صفوف قال فينادي منادٍ ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك في تفسير إتيان الله تعالى إذ ليس هذا موضعه الوجه الثالث أن قوله فيأتي الله في صورته التي يعرفون وقوله فيأتيهم الله في صورة غير صورته وقوله أتاهم ربُّ العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي صورة غير صورته التي رأوه فيها أول

مرة ونحو ذلك لو احتمل أن يكون بمعنى فيأتيهم بصورة فقد تقدم أن لفظ الصورة المضاف إلى شيء هو من باب الإضافة النفسية لا الخلقية كما تقدم بيانه لأن الإضافة الخلقية تكون قيما هو قائم بنفسه كما في قوله ناقة الله بيت الله أرض الله ونحو ذلك مما فيه دلالة على أنه منفصل عن المضاف إليه ولكن هو يحسن به وأما الصفات مثل العلم والقدرة ونحو ذلك فإذا أضيف كانت إضافته إضافة نفسية إذا لم يتبين خلاف ذلك إذ لم يُعلم أن هذه الأمور تقوم بنفسها والصورة هي قائمة بذي الصورة فليست من الأعيان المنفصلة عن المضاف إليه حتى تجعل بمعنى الملك فلا يمكن أن تكون صورة الله التي يأتي فيها مخلوقًا منفصلاً عنه يبعثه وهو لا يأتي الوجه الرابع أنه قد قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا وفي لفظ أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم ومعلوم أن أحدًا من الملائكة لا يقول للخلق أنا ربكم بل لا يدَّعي هذه الدعوى إلا كافر بالله

تعالى كفرعون والدجال والشيطان بل الملائكة عباد مطيعون للَّه تعالى لا يدعون الربوبية ولا الألوهية كما قال تعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) [الأنبياء 29] ولا يأمر الله أحدًا من الخلق أن يقول لجميع العباد أنا ربكم فإنه تعالى لا يأمر بالشرك ومن زعم أن الله يأمر بهذا فهو مفتر على الله وإن كان الملك يقوله امتحانًا فهذا لا يصلح كما لا يصلح أن يقول أحد من الأنبياء والمرسلين للناس أنا ربكم على سبيل الامتحان وأمَّا ما ذكره من امتحان النَّاس في عرصات القيامة فلا ننكره فإنَّ المحنة إنَّما تنقطع بدخول دار الجزاء الجنة أو النار فأمَّا عَرَصَات القيامة فإنَّ المحنة في هذا وفي أمره لهم بالسجود وفيما ورد من تكليف من لم يكلَّف في الدنيا من الأطفال والمجانين كما أنَّهم يُمتَحَنُونَ في قبورهم بمسألة منكر

ونكير لكن المحنة من الملَك أن يقول للعبد من ربُّكَ ومن نبيُّكَ الوجه الخامس أنَّه لو كان الممتحن لهم في الآخرة ملكاً من الملائكة لقال لهم من ربُّكم وما تعبدون ولقال لهم هلا تذهبون مع ربِّكم إذ من الممكن أن يُظهر لهم صورة ويقول لهم ملَكٌ هلاَّ تذهبون مع هذه الصُّورة كما أنَّه في أوَّل الحديث قال فأذَّن مؤذّنٌ ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلو كان

المخاطب لهم عن الله لقال لهم ما يصلح له كما في نظائر ذلك ولكن من شأن الجهميَّة أنَّهم يجعلون المخاطب للعباد بدعوى الربوبيَّة غير الله كما قالوا إنَّ الخطاب الذي سمعه موسى بقوله إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه 12] كان قائما بمخلوق كالشجرة وكما قال في قوله من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له إنه يقول هذا ملك من الملائكة وكما زعم هذا المؤَسسُ في قوله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] إن ربه ملك من الملائكة وهذا كُلُّه من الكفر والإلحاد الوجه السادس أنه قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وهذا نص في أنهم رأوا الله قبل هذا الخطاب في صورة غير هذه الصورة فلو كان المخاطب لهم ملكا لكان المرئي قبل ذلك هو الملك لا الله والحديث نص في أنهم رأوا الله قبل هذه المرة

الوجه السابع أنه قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه وفي الحديث الآخر حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها وفي رواية إنا سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أتلهم الله رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها فيقال ماذا تنتظرون فيقولون فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد فيقول أنا ربكم فيقولون لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه

إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كُلَّما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وهذا صريح بأن الذي أتاهم وقال أنا ربكم هو الذي أراهم العلامة حتى عرفوه فسجدوا له بعد ذلك وعرفوا أنه رب العالمين ولو كان القائل أنا ربكم ملكًا لكان الملك هو الذي اعترفوا آخرًا أنه رب العالمين وهو الذي سجدوا له وهذا من أعظم الكفر والضلال الوجه الثامن أن قوله فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وأنه يبدي العلامة التي ذكرها فيسجدون له صريح بأن الذي يسجدون له قد جاء في الصورة التي يعرفون ويتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة وذلك صريح بأن الله هو الآتي في الصورة التي عرفوه فيها وسجدوا له لما عرفوه الوجه التاسع قوله يحتمل أن يكون المراد إذا جاء إحسان ربنا عرفناه وقوله فيأتيهم الله في الصورة التي

يعرفون معناه فيأتيهم الله بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان فيقال له هذا أولاً باطل فإن المراد إذا كان المعرفة بآياته فهو يظهر آيات العقاب تارة وآيات الإحسان تارة وهو الخالق لكل شيء وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكره في صورة النجم فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) [النجم 55] وكذلك لما ذكر آياته في سورة الرحمن وقال تعالى إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا [النمل الآيات 91-93] وقال تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت 53] وإذا كانت معرفة الله بالآيات ليست موقوفة على الإحسان بطل هذا الوجه العاشر أن يُقال فلم لم يظهر لهم بعد ذلك شيئًا من الإحسان غير تجلِّيه هو فلو كان المراد إحسانه لوجب أن لا يعرفوه حتى يخلق شيئًا من نعمه في العرصَة قبل معرفتهم له وسجودهم له ولما عرفوه وسجدوا له قبل أن يخلق شيئًا من ذلك عُلِمَ أنَّه ليس المراد فإذا جاء إحسان ربنا عرفناه

الوجه الحادي عشر أن يُقال حَملُ قوله فيأتيهم في صورته التي يعرفون على إحداثه بعض المخلوقات باطل من الوجوه المتقدمة في قوله فيأتيهم الله في صورة أي بصورة هي ملك من الملائكة الوجه الثاني عشر أنَّه قد تقدم انه إذا قال أولا أنا ربكم فيقولون لا نشرك بالله شيئا أو نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربُّنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود إلى آخره فقد صرح بأن الآية التي عرفوه بها وهم قد ذكروا في تأويل ذلك أن المراد به إظهار الشدَّة يوم القيامة فيكون تأويلهم لذلك بأن الآية التي يعرفونه بها حتى يسجدوا له هي الإحسان كلامًا متناقضًا متهافتًا حيث جعلوا ما يتوقف معرفته به هو الإحسان وجعلوه هناك الشدَّة والعذاب الوجه الثالث عشر أنه قد أخبر أن هذه العلامة هي الكشف عن ساقه وسيأتي الكلام على هذا في موضعه وذلك يبطل أن يكون المراد فإذا جاء إحسان ربنا أو فيأتيهم بما يعرفون أنه إحسان

الوجه الرابع عشر أن في حديث جابر الذي في الصحيح ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك فيقولون من تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقلون حتَّى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتبعونه وهذا صريح في أن الذي أتاهم والذي تجلى لهم هو ربهم وأنهم عرفوه لما تجلى لهم يضحك وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على تمام ذلك الوجه الخامس عشر أن جميع ألفاظ الحديث صريحة في أن الذي جاء وأتى وقال أنا ربكم هو الذي رأوه فسجدوا له فاقتضى ذلك أن يكون المتجلي المسجود له هو الآتي الجائي فلو كان الذي أتى إنما هو ملك أو بعض النعم المخلوقة لم يصح ذلك ولهذا كان الإمام أحمد يحتج بإثبات المجيء والإتيان في مسألة الرؤية فذكر الخلال في كتابه السنة عن أبي طالب قال وقول الله عز وجل هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] فمن قال إن الله لا يرى فقد كفر فبين أن هذه

الآيات تدل على أنه يأتي ويجيء وذلك يقتضي الرؤية كما صرحت به الأحاديث المفسرة لكتاب الله عز وجل الوجه السادس عشر أنه في حديث ابن مسعود فرَّق بين إتيان الرب نفسه وإتيان سائر المعبودات وذلك يفسِّر ما ورد في بقية الأحاديث حيث قال ثم ينادي مناد يا أيها النَّاس ألن ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولاه ويعبده في الدنيا أليس ذلك عدلاً من ربكم قالوا بلى قال فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا قال فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون فمنهم من ينطلق إلى الشمس ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون قال ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويتمثل لمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير قال فيتمثل لهم الرَّبُّ فيأتيهم فيقول ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فيقول وهل تعرفونه إن رأيتموه فيقولون نعم بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناه قال فيقول ما هي فيقولون يكشف عن ساقه قال فعند ذلك يكشف عن ساقه قال فيخر من كان

بظهره طبق ويبقى قوم ظهروهم كأنهم صياصي البقر قلما ذكر أولئك المعبودات ذكر أنه يمثل أشباهها وأن المعبود من الأنبياء تأتي شياطينهم مع أنهم قد اتبعوها وذكر أن الرب لما امتحن العباد هو الذي يمثل لهم وهو الذي أظهر لهم العلامة التي عرفوه بها حتى سجدوا فلو كان الآتي هو ملك من ملائكة الله أو شيء من مخلوقاته لكان بيان هذا أولى من بيان أولئك إنما جاءت أشباههم إذ في هذا من المحذور ما ليس في ذلك بل هذا التفريق بين هذا وهذا دليل واضح أن الذي أتاهم هو رب العالمين الذي تمثل لهم في الصورة والذي اتبعه أولئك هو أشباه المعبودات وشياطين الأنبياء وذلك لأن الأنبياء لم يأمر بعبادتهم إلا الشياطين والجمادات لم تقصد أن تعبد فلا فرق عند عابديها بينها وبين أشباهها والله سبحانه هو الذي أمر الخلق بعبادته وهو نفسه هو الذي عَبَدهُ المؤمنون فلا يصلح أن يأتيهم غير من يتبعونه غيره الوجه السابع عشر أنه قد أخبر أنه بعد إتيانه إياهم في الصورة التي يعرفون وإظهار الآية التي عرفوه بها وسجود

المؤمنين له دون المنافقين اتبعوه حتى مروا على الصراط كما بين ذلك في حديث أبي هريرة وجابر وابن مسعود فلو كان الذي جاء في هذه المرة الثانية هو بعض النعم لكانوا قد اتبعوا تلك النعمة المخلوقة فلا يكونون اتبعوا الرب الذي عبدوه وهو خلاف نصوص الأحاديث وخلاف العدل الذي أخبر به في الحديث وذلك لأن العبادة مستلزمة كمال المحبة للمعبود وكمال التعظيم له فإن المعبود هو الذي يقصد وَيُحَبُّ لذاته والمرء مع من أحب وهذه حقيقة العدل أن يكون الإنسان مع المحبوب الذي يحبه محبة كاملة بحيث يحبه لذاته وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون المؤمنون متبعون لغير الله والذي جاءهم هو الذي اتبعوه فهو الله وهو الذي جاءهم في الصورة التي عرفوه فيها ولا ريب أن عند الجهمية يمتنع أن يكونوا متبعين لله كما يمتنع أن يكون هو الآتي وكما يمتنع أن يكون قد أتاهم في صورة وكما يمتنع أن يتجلى لهم ضاحكًا وكما يمتنع أن يكشف عن ساقه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق أو ما يقوله هؤلاء الجهمية إذ هما متناقضان غاية التناقض ومن عرف ماجاء به

الرسول صلى الله عليه وسلم ثم وافقهم فلا ريب أنه منافق الوجه الثامن عشر قوله في العلامة يحتمل أن تكون العلامة كونه تعالى في حقيقته مخالفًا للجواهر والأعراض يُقال له قد صرح في حديث جابر فيتجلى لهم ضاحكًا ومع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة التي أخبر بها بذلك يمتنع أن يكون هو ماذكره هؤلاء الوجه التاسع عشر أن كونه مخالفًا للجواهر الأعراض ما ينافي إتيانه في الصورة أولاً وآخرًا فلو كان ذلك هو العلامة لامتنع أن ينكروه ثم يعرفوه لاسيما وهو قد قال إن الصورة التي أتاهم فيها ثانية وهو ما يحدثه من إحسانه وذلك أمر لا يتعرض بحقيقة بل تلم المخلوقات مع قوله أنا ربكم مثل الملك مع قوله أنا ربكم لكن الملك حيٌّ وتلك النِّعم ليست حية ولكن يجوز إنطاق الجامدات الوجه العشرون أن عرصة القيامة لاسيما قبل جواز الصراط ليس هو محل الجزاء بالإنعام والإحسان وإنما هو مقام الامتحان فتفسير إتيان الله في الصورة التي يعرفون بالإحسان

مناقض لذلك الوجه الحادي والعشرون أنه قال فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيسجدون له فإن كانت تلك العلامة كونه مخالفًا للجواهر والأجسام لزم أن يكون في نفسه على صورة يخالف الجواهر والأجسام ويدل على ذلك دليلاً مستقلاً أنَّه قال في حديث أبي هريرة فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وقال في حديث أبي سعيد فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه إلى آخره فجعل الصُّورة التي يعرفون هي الصورة التي ظهرت بالعلامة وهي التي يسجدون لها الوجه الثاني والعشرون أن هذه المعرفة حصلت برؤيتهم ومعلوم أنَّ كون الشيء مخالفًا لغيره إذا عرف بالرؤية إنما يفيد أنَّه مخالف لما رؤي فأما مالم ير فقد تشترك أشياء في كونها مخالفة لما رؤي فيجوز أن يكون المتجلِّي لهم أشياء ليست مثل ما رأوه من الجواهر والأجسام وإن كانت مخلوقات أيضًا فإن قيل المراد أنَّه ليس بجوهر ولا جسم قيل هذا أمر

رد المؤلف على الرازي في تأويله حديث الصورة والرؤية بالصفة

عدمي والأمور العدمية لا في العقل ولا في الحس فظهر أنَّ هذا فاسد وأما التأويل الثاني وهو أن يكون المراد من الصورة الصفة والمعنى أن يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه ما لم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة الله تعالى ثم يأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة على الوجه الذي اعتادوه وألفوه فهذا أفسد من الذي قبله وأكثر الوجوه التي أبطل بها ذلك يبطل بها هذا ولهذا خصائص ويظهر ذلك بوجوه أحدها أن تفسير الصُّورة بمجرد الصفة فاسد كما قدمناه وبينا أنَّه حيث دل لفظ الصُّورة على صفة قائمة بالموصوف أو على صفة قائمة بالذهن واللسان فلابد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية وإن دلَّ على الصورة الذهنيَّة

الوجه الثاني أن إظهار الشدة في تسمية ذلك صفة كإظهار النعمة وكإظهار الملك إذ جميع ذلك عبارة عن خلق شيء من الأجسام وإظهاره فتسمية هذا صفة هون ما تقدم من الملك والإحسان تحكُّم باطل الوجه الثالث أن الناس ما زالوا يألفون أنَّ الله تعالى يبتليهم بالسراء والضراء فدعوى أن أحدهما مألوف دون الآخر باطل الوجه الرابع أن الله إذا أظهر عذابه وشدته لم يجز الامتناع من السجود له في هذه الحال ولا يجوز إنكار ربوبيته حتى يقول الأنبياء والمؤمنون نعوذ بالله منك وينكرون أن يكون هو ربهم الوجه الخامس أن السجود في حال إظهار الشدة أولى من السجود في حال إظهار النعمة ولهذا كانت الصلاة عند إظهار الآيات مثل الكسوف والخسوف مشروعـ ـة باتفاق المسلمين وهي أطول الصلوات وأكثرها قدرًا وصفة

وأما النعمة ففي سجود الشكر نزاع وأيضًا فإن الجنة لا سجود فيها وهي دار النعيم فكيف يُقال إنهم امتنعوا عن السجود له عند الشدة ولم يسجدوا له إلا عند النعمة الوجه السادس أن هذه الحال قبل مرورهم على الصراط وقبل ظهور المؤمن من المنافق وإنما يكون النَّعيم والعذاب والشدة والكرامة بعد ذلك إذا مروا على الصراط وتميز السعداء من الأشقياء الوجه السابع أنَّه قد أخبر في الحديث أنَّ المشركين الذين عبدوا مع الله إلهًا آخر ومن أشرك بالله من أهل الكتاب قد صاروا إلى العذاب وبعد ذلك يأتي المسلمين ربُّهم في غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها فلم يظهر الشدة والبطش والعذاب

إلاَّ للكفار من المشركين وأهل الكتاب دون المسلمين الوجه الثامن أن في نفس الأحاديث أنه إذا سجد له المسلمون لم يتمكن من السجود إلا المؤمنون الذين كانوا يسجدون في الدنيا من تلقاء أنفسهم وأما المنافقون فلا يستطيعون السجود وفي أحاديث أخر أنهم بعد هذا يعطون الأنوار على قدر أعمالهم المنافقون والمؤمنون وإن كانت أنوار المنافقين تطفأ بعد ذلك ثم يمرون على الصراط فناج مسلَّم وهو الذي ينجو بلا أذى وناج مخدوش وهو الذي يصيبه من لفحها ومكدوش في نار جهنم وهم المعذبون فلم يكن العذاب والشدة إلا بعد هذا كله حين المرور على الصراط فكيف يقال إنّ إتيانه أولاً في غير صورته التي يعرفون هو إتيان عذابه وبأسه ولم يأت منه شيء الوجه التاسع أن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساقه بأنه إظهار الشدة وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون يكشف لهم عن ساقه فيسجدون له فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته كان هذا من

التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة الوجه العاشر أنه ليس فيما ذكروه إلا أنه يجيء بعض مخلوقاته إما التي تسر وإما التي تضر ومن المعلوم أن الله لا يوصف بنفس المخلوقات بل بكونها ليست صفات له أظهر من كونها ليسـ ـت صورة له فقول القائل يأتيهم الله في صورته التي يعرفون أو التي لا يعرفون أي صفته التي يعرفون أو التي لا يعرفون ثم تأويل ذلك بمجيء بعض ما يخلقه من الضراء والسراء من أفسد الكلام فإن النعم والنقم ليست من صفات الله التي يوصف بها وإنما يوصف بأنه يخلقها ويحدثها ويفعلها فلا يصح أن يكون مجيئها مجيء الله في صفته الوجه الحادي عشر أن الناس تنازعوا في نفس الخلق والإحداث والتكوين هل هو من صفات الله تعالى أم لا وهذا المؤسس وأصحابه مع المعتزلة يقولون إن الخلق هو المخلوق ليس ذلك صفة لله بحال فإذا كان نفس التكوين ليس من صفاته عندهم فكيف يكون المخلوق المكون من

صفاته وأما جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام فيقولون إن الفعل نفسه والخلق من صفاته ولكن المخلوق ليس من صفاته فإذا قيل إن الله تعالى يأتي في صفته امتنع على قول أولئك أن يراد الأفعال وأما على قول هؤلاء فيكون الله في نفس ما يقوم به من الفعل لا إتيان المفعول المجرد وذلك لأن الصفة إما أن يراد بها القول لفظه ومعناه وإما أن يراد بها المعاني القائمة بالموصوف وعلى التقديرين فالمخلوقات ليست داخلة في صفات الله تعالى الوجه الثاني عشر أنه لو كان اللفظ فيأتيهم الله في صورة عظيمة أو في صفة عظيمة كما يقال جاء الملك في صورة عظيمة ودخل المدينة على صفة عظيمة ونحو ذلك وادعوا مع ذلك أن الصورة والصفة هي المخلوق لم يكن في الإحالة كما ادعوه في ألفاظ النصوص لأن قوله في صورة وفي صفة نكرة مثبتة لم يعين صاحبها فأما إذا قيل في صورته التي يعرفون وصورته لا يعرفون وفي صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وقيل عن الصورة بمعنى

الصفة كان ذلك صفة له فيمتنع أن يكون عائدًا إلى غيره كما أنهم لما تأولوا في قوله خلق آدم على صورته أي على صفته كانت الصفة لله ما يوصف به من كونه عليمًا قديرًا أو مدبِّرًا أو مَلِكًا أو نحو ذلك لم يكن مجرد صفة المخلوق بهذا الحديث قيل خلق الله آدم على صورته الوجه الثالث عشر أنه لو قيل ذلك منكَّرًا لقيل فيأتيهم في صورةٍ أو صفة لوجب أن يكون هو الآتي وأن يكون موصوفًا بما يعود إليه من حكم ذلك كما في قولهم جاء المَلِكُ في صورة عظيمة أو صفة عظيمة فإن هذا اللفظ لا يقتضي أن الجائي مجرد مفعوله بل لابد أن يكون هو الجائي في صورة أو صفة عظيمة فكيف إذا كان النص فيأتيهم الله في صورته التي رأوه فيها أول مرة مع ما تقدم من الألفاظ الوجه الرابع عشر أن هذه الألفاظ كلها مصرِّحةٌ بأن الله تعالى هو الآتي وهي في ذلك موافقة لدلالة القُرآن مفسرة له حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأحاديث بأنهم يرون ربَّهم كما

يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر صحوًا ليس دونه سحاب جوابًا لهم لمَّا سألوه هل نرى ريَّنا يوم القيامة وخبر مبتدأ فإنه كان يُحدّثُهم بهذا الحديث مرَّات متعددة ثم وصف هذه الرؤية فأخبر أنه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد وأخبر باتباع المشركين لما كانوا يعبدونه ثم قال وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعم أنت ربُّنا فيتبعونه وفي الحديث الآخر يقال لهم هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في الصورة التي رأوه فيها أول مرة وفي الحديث الآخر ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك فيقول من تنتظرون فيقولون ننتظر ربَّنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلَّى لهم يضحك قال فينطلق بهم و

يتَّبعونه وفي الآخر قال يجمع الله الأوَّلين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قال وينزل اللهُ في ظُلَلٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي منادٍ وإذا كانت الأحاديث مصرِّحةً بمجيء الربِّ نفسه تصريحًا يعلمه الخاص والعام ويزيل كل شبهة علم أن هذه التحريفات تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم لا تصدرُ إلاّ من جاهل بما أخبر ب هاو منافق ليس بمؤمن فاما من آمن به وعلم ما جاء به فلا يكون إلاّ مصدِّقًا بمضمونها الوجه الخامس عشر أنَّ مضمون أقاويل الجهمية أنه يُعبد غير الله في الدنيا والآخرة وهذا من جملة شركهم فإنهم دخلوا في الشرك من وجوه منها إثباتهم خصائص الربوبية لغير الله حتى جعلوه يدعي الربوبية ويحاسب العباد ويسجدون له ومن الناس من يذكر لهذا الخبر تأويلاً فمن أعظمها كفرًا وضلالاً تأويل الاتحادية والحلولية الذين يقولون إنَّ الله تعالى هو الوجود أو يقولون إنَّه حال في الوجود أو ظاهر فيه ويزعمون أن المخلوقات كلها مظاهر الرب ومتجلياته بمعنى

أن ذاته هي الظاهرة في المخلوقات ويحتجُّون على ذلك بهذا الحديث فهم مع تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته يجعلون الخاص عامًّا في مثل هذا الحديث وفي مثل قوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ومثل قوله لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله

تأويل الاتحادية وبيان كفرهم والرد عليهم

وذلك كقول صاحب الفصوص في تمام الكلام الذي

ذكرناه عنه في الفصّ الهودي بعد قوله فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبِّر له فهو الإنسان الكبير فهو الكون كله وهو الواحد الذي قام كوني بكونه ولذا قلت يتغذي فوجودي غذاؤه وبه نحن نحتذي فبه منه عن نظرت بوجه تعوّذي ثم قال ولهذا الكرب تنفس فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صورة العالم التي قلنا هي ظاهر الحقّ إذ هو الظاهر وهو باطنها إذ هو الباطن وهو الأول إذ كان ولا هي وهو الآخر إذ كان عينها عند ظهروها فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول وهو بكل شيء عليم لأنه بنفسه عليم فلمَّا أوجد الصُّور في النفس وظهر سلطان النَّسب المعبَّر عنها بالأسماء صحّ

النّسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى فقال اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردُّكم إلى انتسابكم إليَّ أين المتقون أين الذين اتخذوا اللهَ وقاية فكان الحقُّ ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع وقد يكون المتَّقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هويَّة الحقّ قوى العبد فجعل مسمَّى العبد وقاية لمسمَّى الحق على الشهود حتى يتميَّز العالِمُ من غير العالِم هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر أية 9] وهم النّاظرون في لبّ الشّيء الذي هو المطلوب من الشيء فما سبق مقصِّرٌ مجدًّا كذلك لا يماثل له أجير عبدًا وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه والعبد وقاية للحق بوجه فقل في الكون ما شئت إن شئت قلت هو الخلق وإن شئت قلت هو الحق وإن شئت قلت هو الحق الخلق وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك

المراتب ولولا التحديد ما أخبرت به الرسل بتحوُّل الحق في الصُّور ولا وصفـ ـته بخلع الصُّور عن نفسه فلا تنظر العين إلاَّ إليه ولا يقع الحكم إلاَّ عليه فنحن له وبه في يديه وفي كل حال فإنَّا لديه لهذا ينكَّر ويعرَّف وينزَّه ويوصف فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف ومن لم ير الحقَّ منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل وبالجملة فلابد لكل شخص من عقيدة في ربِّه يرجع بها إليه ويطلبه فيها فإذا تجلَّى له الحق فيها عرفه وأقرَّ به وإن تجلَّى له في غيرها أنكره وتعوَّذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر وهو عند نفسه أنَّه قد تأدَّب معه فلا يعتقد معتقد إلهًا إلاَّ بما جعل من نفسه فالإله في الاعتقادات بالجعل فما رأوا إلاَّ نفوسهم وما جعلوا فيها فانظر مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين

مراتبهم في الرؤية يوم القيامة وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك فإيَّاك أن تتقيَّد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه فكن في نفسك هيولياً لصور المعتقدات كلها فإنَّ الله تعالى أوسع وأعظم أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وماذكر أينًا من أين وذكر أنَّ ثَمَّ وجه الله ووجه الشيء حقيقته فنبَّه بهذا قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لايدري العبد في أيّ نفس يقبض فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور ثم إنَّ العبد مع علمه بهذا يلزم في الصُّور الظاهرة والحال المقيدة التوجّه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله تعالى فيقبلته حال صلاته وهو بعض مراتب وجه الحق من فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فشطر المسجد الحرام منها ففيه وجه الله ولكن لاتقل هو هنا فقط

بل قف عندما أدركت والزم الأدب في استقبال شطر المسجد الحرام وألزم الأدب عدم حصر الوجه في تلك الأينيَّة الخاصة بل هي من جملة أينيَّات ما تولى متول إليها فقد بان لك عن الله أنه في أينيَّة كل وجهة وما ثم إلا الاعتقادات فالكل مصيب وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضيٌّ عنه وإن شقي زمانًا ما في الدَّار الآخرة فقد مرض وتألَّم أهل العناية مع علمنا بأنَّهم سعداء أهل حق في الحياة الدنيا فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمَّى جهنَّم ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عند وجدان ذلك الألم أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان

فهذا بعض كلامهم في باب الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وهو اقرب شيء إلى كلام القرامطة الباطنية لكنَّ هؤلاء دخلوا من باب التصوُّف والتحقيق والكشوف وأولئك دخلوا من التشيُّع وموالاة أهل البيت ومالهم من علوم الأسرار وكلاهما من اكفر خلق الله وأعظمهم نفاقًا وزندقة

وتبديلاً لدين الإسلام وتحريفًا للكلم عن مواضعه وليس المقصود هنا وصف أنواع كفرهم ولكن المقصود الإخبار بأنهم جعلوا ما أخبرت به الرُّسل من أنَّ الله يجيء يوم القيامة في صورة أصلاً في أنَّ كل صورة في العالم فاللهُ هو الآتي فيها وانَّه الظَّاهر في صورة الموجودات بل هو عينها وقال ابن عربي أيضًا في حكمة إيناسية في كلمة إلياسية بعد أن ادَّعى أن المؤثِّر وإن كان الحق والمؤثر فيه هو العالم فالمؤثر فيه واحد من جهة الحقيقة ثم قال ومن ذلك قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قال الله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ الآية [البقرة 186] إذ لا يكون مجيبًا إلاّ إذا كان من يدعوه وإن كان عين الداعي عين المجيب فلا خلاف في اختلاف الصُّور فهما صورتان بلا شك وتلك الصُّور كلها كالأعضاء لزيد فمعلوم أنَّ ويدًا حقيقة واحدة شخصيَّة وأنَّ يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه فهو الكثير

الواحد الكثير بالصُّور الواحد بالعين وكالإنسان واحد بالعين بلا شكّ ولا شك أنَّ عَمْرًا ماهو زيد ولا خالد ولا جعفر وأنَّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودًا فهو وإن كان واحدًا بالعين فهو كثير بالصُّور والأشخاص وقد علمت قطعًا إن كنت مؤمنًا أنَّ الحقَّ عينه يتجلَّى يوم القيامة في صورة فيعرف ثم يتحوَّل في صورة فينكر ثم يتحوَّل عنها في صورة فيعرف وهو هو المتجلّي ليس غيره في كل صورة ومعلوم أنَّ هذه الصُّورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عَرَفَه فأقرَّ به وإذا اتفق أن يرى فيها نعتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصُّور

كثيرة في عين الرائي وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة مع كون المرآة لها أثر في الصُّورة بوجه وما لها أثر بوجه وكلامهم وإن اشتمل على أنواع عظيمة من الشرك الأكبر والكفر الأعظم فهم في هذا الحديث ضلوا من وجوه أحدها أنهم جعلوا إتيان الله يوم القيامة عباده في الصُّور غير الصُّور التي يعرفونها ثم في الصُّور التي يعرفونها هو من جنس جميع الصور الموجودة في الدنيا والآخرة حيث اعتقدوا أنه الظَّاهر في كل صورة حتَّى صور الكلاب والخنازير كما حدَّثني من كلن مع رجلين من طواغيتهم مرَّا بكلب ميت أجرب فقال أحدهما للآخر وهذا أيضًا ذاتي فقال وهل ثم شيء يخرج منها

وكمل سمعت وأنا صغير رجلاً كان من شياطينهم ولم يكن إذ ذلك أنه منهم ولا يعرف مذهبهم بل كان يتكلَّم في أمور وكان له ذكاء وكان من كلامه أنَّه حكى عن شيخ عظَّمَهُ أنه قال لرجل يقول يا حي يا قيُّوم ويكرر ذلك ويلهج به كما يحصل لمن غلبه الذكر والدعاء لمن غلب عليه ذلك فقال له لافرق بين قولك يا حي أو يا حجر فإن الحاء في الاسمين وكلاهما يوجب حركة النفس وقوَّتها وكلامًا من هذا النوع بَعُدَ عهدي عنه لكن علمت فيما بعد أنَّ مقصوده أنه ما ثَمَّ سوى الوجود فالحجر وغير الحجر سواء والمقصود بهذا الذكر أنَّ النفس يحصل لها بذلك حركة وتقوى بذلك كما يقوى البدن بمعالجة الأعمال لا أنَّ هناك ما يدعوه هو الحي القيُّوم غير هذا العالم الثاني أنَّه في حديث القيامة قد أخبر أنَّه يأتي المسلمين بعد ذهاب الكفّار من المشركين وأهل الكتاب مع آلهتهم وعلى قول هؤلاء يأتي في تلك الآلهة التي عبدها المشركون وهم الكفار من المشركين وأهل الكتاب العابدون لها وهو عندهم

العجل الذي عبد أصحاب العجل كما قال إمامهم إمام الضلالة صاحب الفصوص في الفص النُّوحي ومكروا مكرًا كبَّارًا لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية أدعو إلى الله فهذا عين المكر على بصيرة فنبّه أنَّ الأمر له كلُّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم فجاء المحمَّدي وعلم أن الدعوة إلى الله ماهي من حيث هويَّته وإنَّما هي حيث أسماؤه فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) [مريم 85] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم فعرفنا أنَّ العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين فقالوا في مكرهم وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) [نوح 23] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ماتركوا من هؤلاء فإنَّ للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله من المحمَّديين وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 23] أي حكم العالم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأنَّ

التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقُوى المعنوية في الصُّورة الروحانيَّة فما عُبد غير الله في كل معبود فالأدنى من تخيَّل فيه الألوهيَّة فلولا هذا التخيُّل ما عبد الحجر ولا غيره ولهذا قال قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد 33] فلو سمّوهم لسموهم حجارة وشجرًا وكوكبًا ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلهًا ما كانوا يقولون الله ولا الإله الأعلى ما تخيل بل قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يُقتصر فالأدنى صاحب التخيل يقول مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] والأعلى العالم يقول فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج 34] حيث ظهر وبشَّر المخبتين الذين خبت نارُ طبيعتهم فقالوا إلهًا ولم يقولوا طبيعة وقال في الفص الهاروني وقد ذكر قِصَّة العجل قال فكان موسى عليه السَّلام أعلم بالأمر من هارون لأنَّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه أنَّ الله قد قضى

ألاَّ يُعْبَدَ إلاّ إيَّاه وما حكم الله بشيء إلاّ وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لمَّا وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء فكان موسى يربِّي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن ولذا لما قال له هارون ما قال رجع إلى السَّامري فقال له قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) [طه 95] يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص إلى أن قال فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سُلِّط موسى عليه السلام حكمةً من الله ظاهرة في الوجود ليُعْبَدَ في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلاَّ بعد ما تلبَّست عند

عابدها بالألوهية ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد إمَّا عبادة تألُّه وإمَّا عبادة تسخير فلابد من ذلك لمن عقل وما عبد شيء من العالم إلاَّ بعد التلبُّس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ولذلك تَسَمَّى الحقّ لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثَّر الدرجات في عين واحد فإنه قضى ألاَّ يعبد إلاَّ إيَّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيًّا عُبِدَ فيها وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية 23] وهو أعظم معبود فإنَّه لا يعبد شيء إلاَّ به ولا يعبد هو إلا بذاته وفيه أقول وحقّ الهوى إن الهوى سبب الهوى ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله كيف تمم في حق من عبد هواه واتخذه إلهاً فقال وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية 23]

والضلالة الحيرة وذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلاَّ هواه بانقياده لطاعته فيما يأمـ ـره به من عبادة من عبده الأشخاص حتَّى إن عبادته لله كانت عن هوى أيضًا لأنه لو لم يقع له في ذلك الجانب المقدس هوى وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتخذها إلها ما اتخذها إلاَّ بالهوى والعابد لا يزال تحت سلطان هواه ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين وكل عابد من امرئ ما يكفّر من يعبد سواه والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى بل لأحدية الهوى فإنه عين واحدة في كل عابد فأضله الله أي حيَّره على علم بأن كل عابد ماعبد إلا هواه

ولا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف قال والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يُعبد فيه ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك الوجه الثالث أنه قد أخبر أنه إذا تجلَّى لهم يوم القيامة في الصُّورة التي يعرفون سجد له المؤمنون كلهم وتبقى ظهور المنافقين الذين كانوا يسجدون له في الدنيا رياء وسمعة كالطبق وعلى زعم هؤلاء المشركين الملحدين المنافقين الذين كانوا يسجدون له في الدنيا المسجود له والمؤمنون والمنافقون وجميع تلك الصُّور صورة له لا فرق أصلاً الوجه الرابع أنه قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنَّه قال لن تروا ربكم حتى تموتوا وفي الأحاديث المتقدمة أن

المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا كما روى الخلال عن حنبل قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول إن الله لا يرى في الدنيا والآخرة مُثْبَتٌ في القرآن وفي السنة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وعلى زعم هؤلاء فهو دائما يُرى في الدنيا ولا يمكن أن

يُرى في الآخرة إلاَّ كما رئي في الدنيا لا يُرى إلاَّ في صورة الموجودات كما قال صاحب الفصوص في الفص الشّيِثي فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدًا إلا عن تجلٍّ إلهي والتجلي من الذات لا يكون أبدًا إلا بصورة استعداد المتجلَّى له غير ذلك لا يكون فإذًا المُتَجلَّى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحقَّ ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك انك ما رأيت الصُّور أي صورتك إلا فيها فأبرز الله ذلك مثالاً نصبه لتجليه الذاتي ليعلم المتجلّى له أنه مارآه وماثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلّي من هذا واجهد في نفسك عندما ترى الصُّورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدًا البتة حتى عن بعض من أدرك مثل هذا في صورة المرآة ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة وهذا أعظم ما قَدَر عليه من العلم والأمر كما قلناه وذهبنا إليه وقد بينا هذا في

الفتوحات المكية وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تُتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلاً وما بعده إلاَّ العدم المحض ومثل هذا كثير في كلامه يصرح بأنه لا يمكن أن يُرى ألاَّ كما يُرى في الدنيا وقد صرَّح بأنه ما بعد وجود المخلوقات إلا العدم المحض فصرح بعدم الخالق الذي خلق المخلوقات وإذا كان هذا قولهم فمن المعلوم أن الأحاديث المتقدمة في تجليه في الصورة وغيرها من أحاديث الرؤية كلها تبين أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر وتلك الرؤية تكون خاصة في أمكنة وأوقات خاصة إذا تجلى لهم وقد صرحت النصوص النبوية أنهم لا يرونه في الدنيا وهذا

كله من أبين الأشياء في أن احتجاجهم بحديث الصورة ونحوه من أعظم الاستهزاء بآيات الله لما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم من المناقضة والمعاداة كيف وهو عندهم هو كل راء وكل مرئي فكيف يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم موافقًا لهم الوجه الخامس أن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف وعند هؤلاء هو كل آت في الدنيا والآخرة وأما أهل الاتحاد والحلول الخاص كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو عليّ أو بعض المشائخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع فقد يتأولون أيضًا هذا الحديث كما تأوَّله

أهل الاتحاد والحلول المطلق لكونه قال فيأتيهم الله في صورة لكن يُقال لهم لفظ الصورة في هذا الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يُسمَّى المخلوق بها على وجه التقييد وإذا أطلقت على الله مختصة به مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك فهل يجوز لأحد أن يزعم أن الله يحل أو يتحد ببعض الأشخاص كما يزعمه من يتأول هذه الأسماء والصفات له أم يُعلم أنَّ ذلك من أفسد الأمور المعلومة بالضرورة وموضع الكلام على هذا هو الكلام على حديث الدجال فإن الدجال أعظم فتنة تكون وهو يدعي الإلهية ويظهر على يديه الخوارق وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه إنه

أعور إن ربكم ليس بأعور وقال واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذا المؤسس طعن في هذا الحديث قال لأنه لا يحتاج إلى نفي الإلهية عن الدجال إلى هذا الدليل ولو علم هذا ما في الأرض من الضلال عند أهل الاتحاد المطلق والمعين لم يقل مثل هذا فليت يرى المؤمن العالم كيف صار الحق الذي جاءت به الرسل تارة تقابله طائفة بالتكذيب وتارة يقابلونه بتمثيل غيره به والتسوية بينهما كما أن المشركين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل والمرتدون صدَّقُوا برسالة مسيلمة ونحوه من

الكذابين وجعلوهم مثل رسل الله كذلك الكفار تارة يجحدون الصانع وما يستحقه من أسمائه وصفاته وتارة يجعلونه له أندادًا وأمثالاً وأكفاءً ويعدلون بربهم فهؤلاء في جحود المستكبرين وهؤلاء في لبس المشركين وكل من الاستكبار والشرك ضد الإسلام وإن كانا متلازمين كما قد بينا هذا كله في غير هذا الموضع

فصل: تأويل بعض أهل الحديث لحديث الصورة بأنه تغير في أعين الرائين والرد عليهم

فصل وأقرب ما يكون عليه إتيان الله في صورة بعد صورة وإن كان تأويلاً باطلاً أيضًا ما ذكره بعض أهل الحديث مثل أبي عاصم النبيل وعثمان بن سعيد الدارمي فإنه يروى عن أبي عاصم النبيل أنه كان يقول ذلك تغير يقع في عيون الرائين كنحو ما يُخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة وقال عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي

وأما إنكارك أيها المريسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة في غير صورته فيقولون نعوذ بالله منك ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها فيعرفونه فيتبعونه فزعمت أيها المريسي أن من أقر بهذا فهو مشرك يقال لهم أليس قد عرفتم ربكم في الدنيا فكيف جهلتموه عند العيان وشككتم فيه قال عثمان بن سعيد فيقال لك أيها المريسي قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية الزهري حدثنا نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن

النبي صلى الله عليه وسلم كأنك تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولـ ـهمن جودة إسناده فاحذر ألا يكون قذفك بالشرك أن يقع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذنبنا إن كان الله سلب عقلك حتى جهلت معناه ويحك إن هذا ليس بشك ولا ارتياب منهم ولو أن الله تجلى لهم أول مرة في صورته التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا لاعترفوا بما عرفوا ولم ينفروا ولكنه يُرِي نفسه في أعينهم لقدرته ولطف ربوبيته في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا ليمتحن بذلك إيمانهم ثانية في الآخرة كما امتحن في الدنيا ليثبتهم أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك فإذا مثل في أعينهم غيرُ ما عرفوا من الصفة نفروا وأنكروا إيمانًا منهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا فلما رأى أنهم لا يعرفون إلا التي امتحن الله قلوبهم تجلى لهم في الصورة التي عرفهم في

الدنيا فآمنوا به وصدقوا وماتوا ونشروا عليه من غير أن يتحول الله من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم بقدرته ليس هذا أيها المريسي بشك منهم في معبودهم بل هو زيادة يقين وإيمان به مرتين كما قال ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لهم يوم القيامة أتعرفون ربكم فيقولون نعم إنه إذا تعرف إلينا عرفناه يقولون لانُقر بالربوبية إلى لمن استشعرته قلوبنا بصفاته التي أنبأنا بها في الدنيا فحينئذ يتجلى لهم في صورته المعروفة عندهم فيزدادون به عند رؤيته إيمانًا ويقينًا بربوبيته اغتباطًا وطمأنينة وليس هذا من باب الشك على ما ذهبت إليه بل هو يقين بعد يقين وإيمان بعد إيمان ولكن الشك والريبة كلها ما ادعيت أيها المريسي في تفسير الرؤية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم يوم القيامة لا تُضامُّون في رؤيته فادعيت

أن رؤيتهم تلك أنَّهم يعلمون يومئذ أن لهم ربا لايعتريهم في ذلك شك كأنهم في دعواك أيها المريسي لم يعلموا في الدنيا أنَّه ربهم حتى يستيقنوا به في الآخرة فهذا التفسير إلى الشك أقرب مما ادعيت في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشك والشرك لا بل هو الكفر لأن الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم يعلمون يومئذ أن الله ربهم ألا ترى أنه يقول أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) [السجدة 12] فالشك في الله هذا الذي تأولته أنت في الرؤية لا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك إن الله لا تتغير صورته ولا تتبدل ولكن يمثل في أعينهم يومئذ أولم تقرأ كتاب الله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال 44] وهو الفعال لما يشاء كما مثل جبريل عليه السلام مع عظم صورته وجلالة خلقه في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وكما مثله لمريم بشرًا

سويًّا وهو ملك كريم في صورة الملائكة وكما شبه في أعين اليهود أن قالوا إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ [النساء 157] فقال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157] وما عملك أيها المريسي بهذا وما أشبهه غير أنه وردت عليك آثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بحلقك ونقضت عليك مذهبك فالتمست الراحة منها بهذه المغاليط والأضاليل التي لا يعرفها أحد من أهل العلم والبصر بالعربية وأنت منها في شغل كلما غالطت بشيء أخذ بحلقك شيء آخر يخنقك حتى تلتمس له أغلوطة أخرى ولئن جزعت من هذه الآثار فدفعتها بالمغاليط مالك راحة فيما يصدقها من كتاب الله عز وجل الذي لاتقدر على دفعه وكيف تقدر على دفع هذه الآثار وقد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظها بلسان عربي مبين ناقضة لمذهبك وتفاسيرك وقد تداولتها أيدي

المؤمنين وتناسخوها يؤديها الأول إلى الآخر والشاهد إلى الغائب إلى أن تقوم الساعة ليقرعوا بها رؤوس الجهمية ويهشموا بها أنوفهم وينبذ تأويلك في حش أبيك ويكسر في حلقك كما كسر في حلوق من كان فوقك من الولاة والقضاة الذين كانوا من فوقك مثل ابن أبي دؤاد وعبد الرحمن وشعيب

بعده وغسان وابن أبي رباح المفتري على القرآن فإن كنت تدفع هذه الآثار بجهلك فما تصنع في القُرآن وكيف تحتال له وهو من أوله إلى آخره ناقض لمذهبك ومكذب لدعواك حتى بلغني عنك من غير رواية لمعارض أنك قلت ماشيء أنقض لدعوانا من القُرآن غير أنه لا سبيل لدفعه إلاَّ مكابرة بالتأويل وهذا أيضًا باطل من وجوه أحدها أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي لفظ في أدنى صورة من التي رأوه فيها وهذا يفسر قوله في حديث

أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون هي التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا وليس الأمر كذلك لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا ولفظ الرؤية صريح في ذلك وقد بينا أنه في غير حديث مما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة الوجه الثاني أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة ولم يروه في الدنيا في صورة فإن ما وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب لهم صورة يعرفونها ولهذا جاء في حديث آخر أنه ليس كمثله شيء فلو كانوا أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك فعلم أنهم لم يطيقوا وصف الصورة التي رأوه فيها أول مرة وقد قال النبي في سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن

ينعتها من حسنها فالله أعظم من أن يستطيع أحد أن ينعت صورته وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر ومع هذا فقد قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالخالق أولى أن يكونوا لا يطيقون معرفة صفاته كلها الوجه الثالث أن في حديث أبي سعيد فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقوله لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم

مخالفة لهذا النص الوجه الرابع أن في حديث ابن مسعود وأبي هريرة من طريق العلاء أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون وفي لفظ أشباه ما كانوا يعبدون ثم قال يبقى محمد وأمته فيتمثل لهم الرَّب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول مالكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فقد أخبر أن الله تعالى هو الذي تمثل لهم ولم يقل مُثِّل لهم كما قال في معبودات المشركين وأهل الكتاب الوجه الخامس أن في عدة أحاديث كحديث أبي سعيد وابن مسعود قال هل بينكم وبينه علامة فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجدون له وهذا يبين أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف وكذلك في حديث

جابر قال فيتجلى لنا يضحك ومعلوم أنه وإن وصف في الدنيا بالضحك فذاك لا يعرف صورته بغير المعاينة الوجه السادس أن تمثيله ذلك بقوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال 44] وبقوله شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157] لا يناسب تشبيهه بمجيء جبريل في صورة دحية والبشر وذلك أن اليهود غلطوا في الذي رأوه فلم يكن هو المسيح ولكن ألقى شبهه عليه والذي رأته مريم ومحمد صلى الله عليه وسلم هو جبريل نفسه ولكن في صورة آدمي فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم يره هو وإنما ألقي شبهه على غيره وأما التقليل والتكثير في أعينهم بالمقدار ليس هو في نفس المرئي ولكن هو صفة المرئي

الوجه السابع أن هذا المعنى إذا قصد كان مقيدًا بالرائي لا بالمرئي مثل قوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال 44] فقيد ذلك بأعين الرائين يقال كان هذا في عين فلان رجلاً فظهر امرأة وكان كبيرًا فظهر صغيرًا ونحو ذلك لا يقال جاء فلان في صورة كذا ثم تحول في صورة كذا ويكون التصوير في عين الرائي فقط هذا لا يُقال في مثل هذا أصلا فإن قيل فما الفرق بين ماجاء في الحديث وبين القول الذي نقله الأشعري وغيره في مقالات أهل الكلام عن البكرية وأتباع بكر لن أخت عبد الواحد لما ذكر اختلافهم في الرؤية

فقال وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُرى فيها ويكلم خلقه منها قيل هؤلاء عندهم أن الله نفسه لايُرى ولا يكلم عباده ولكن يخلق صورة فيُرى فيها ويكلم خلقه فيها ومعلوم أن هذا ليس هو معنى الحديث وذلك أن هؤلاء لما رأوا بقياس عقولهم أنه لا يرى ورأوا النصوص قد جاءت برؤيته اختلفوا في ذلك على أقوال قال الأشعري وقال قائلون منهم ضرار بن عمرو وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذا فندركه بها وندرك ما هو بتلك الحاسة

قلت وهذا في رؤيته نظير ما يقوله طائفة من الكلابية والأشعرية أن كلامه لا يسمع بهذه الحاسة ولكن يخلق في العبد لطيفة أو يقولون حاسة أخرى يسمع بها كلامه وهذا قول من يجوز منهم سماع كلامه وآخرون منهم لا يُجوِّزون سماع كلامه كما أن في أولئك من لا يُجوِّز رؤيته بحال

قال الأشعري وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُرى فيها ويُكلِّم خلقه فيها وقال الحسين النجار إنه يجوز أن الله تعالى يحول العين إلى القلب ويجعل لنا قوة العلم فيعلم بها ويكون العلم رؤية له أي علمًا له وقد ذهب إلى نحو هذه التأويلات طائفة من الصِّفاتيَّة من الأشعرية المتأخرين ونحوهم كما يُذكر في موضعه

فصل: نقل المؤلف الخبر الرابع والخامس من الأخبار التي يجب تأويلها عنده

فصل قال الرازي في تأسيسه الخبر الرابع ماروي عنه عليه السلام أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة قال واعلم أن قوله عليه السلام في أحسن صورة يحتمل أن يكون من صفات الرائي كما يقال دخلت على الأمير على أحسن هيئة أي وأنا كنت على أحسن هيئة ويحتمل أن يكون ذلك من صفات المرئي فإن كان ذلك من صفات الرائي كان قوله على أحسن صورة عائدًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وجهان الأول أن يكون المراد من الصورة نفس الصورة فيكون المعنى أن الله تعالى زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه وذلك يكون سببًا لمزيد من الإكرام في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة ويكون المعنى الإخبار عن حسن حاله عند الله وأنه أنعم عليه بوجوه عظيمة من الإنعام كما كان وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث يتلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم وقد يكون بخلافه فعرَّفنا

الرسول صلى الله عليه وسلم أن حالته كانت من القسم الأول وإما إن كان عائدًا إلى المرئي ففيه وجوه الأول أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة وذلك جائز لأن الرؤيا من تصرفات الخيال فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة وذلك أنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يُقال في العرف المعتاد إني رأيته على أحسن صورة كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة الثالث لعله عليه السلام لما رآه اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ماكان مطلعًا عليه من قبل الخبر الخامس ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما بين السماء والأرض ثم قال يامحمد قلت لبيك وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت يارب

لا أدرى فقال في أداء الكفارات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على الكراهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال واعلم أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة قد تقدم تأويله وأما قوله وضع يده بين كتفي ففيه وجهان الأول المراد به المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها الثاني أن يكون المراد من اليد النعمة يقال لفلان يد بيضاء ويقال إن أيادي فلان كثيرة وأما قوله بين كتفي فإن صح فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة وقد روى بين كنفي والمراد ما يقال أنا في كنف فلان وفي ظل إنعامه وأما قوله فوجدت بردها فيحتمل أن المعنى برد النعمة

مناقشة المؤلف للرازي في تأويله حديث "رأيت ربي في أحسن صورة"

وروحها وراحتها من قولهم عيش بارد إذا كان رغدًا والذي يدل على أنَّ المراد كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فعلمت ما بين المشرق والمغرب وما ذلك إلا لأن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف وفي بعض الروايات فوجدت برد أنامله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والكلام على ذلك أن يقال هذان الحديثان لم يذكر لهما إسنادًا أعني الإسناد الذي يليق بكتابه وهو أن يعزو الحديث إلى كتاب من كتب الحديث ليعرف أصله وكأنه نقلها من كتاب تأويل الأخبار لأبي بكر بن فورك فإنه هو الذي يعتمده في كثير مما يذكره من أخبار الصفات وتأويلها وأبوبكر بن فورك جمع في كتابه من تأويلات

بشر المريسي ومن بعده ما يناسب كتابه لكنه لم يكن من الجهمية المماثلين لبشر بل هو يثبت من الصفات ما لا يثبته بشر وكان قد سبقه أبوالحسن بن مهدي الطبري إلى كتاب لطيف في التأويل وطريقته أجود من طريقة أبي بكر بن فورك وأول مكن بلغنا أنه توسع في هذه التأويلات هو بشر المريسي وإن كان قبله وفي ومنه له شركاء في بعضها وتلقى

الرازي يجمع بدعتين هما: التكذيب بالأخبار، والتأويل لها

ذلك عنهم طائفة من الجهمية المعتزلة وغيرهم وأما كثير من أئمة الجهمية المعتزلة وغيرهم فيكذب بهذه الأحاديث كأحاديث الرؤية المتقدمة ونحوها ويرون أن التصديق بها مع التأويل لها من باب التلاعب وجحد الضرورة ولا ريب أن هؤلاء في إبطالهم لتأويلها مع ما هي عليه من الألفاظ الصريحة أقرب من المتأولين لها ولكن هؤلاء في التصديق بها وترك التكذيب بها أقرب من أولئك وهم دائمًا يتقاسمون البدعة فيكون هؤلاء من وجه دون هؤلاء وهؤلاء من وجه دون هؤلاء ولذلك نظائر في مسألة القرآن والرؤية والصفات وغير ذلك كما نبهنا على بعضه في هذا الكتاب وسنتكلم إن شاء الله تعالى على تثبيتهما حيث تكلم الرازي على الأخبار فإن الرازي هو في الحقيقة يجمع البدعتين فلا يتبع الحق لا في إسنادها ولا في دلائلها بل

نقل المؤلف من كتاب ابن خزيمة الآثار في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج

لا يفعل ذلك في دلالة القرآن ولهذا كانت طريقته صدًّا عن سبيل الله ومنعًا للناس من اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يثبت إلا بالنقل وبدلالة الألفاظ وهو دائمًا يطعن في الطريقتين وقد تكلمنا على كلامه في دلالة الألفاظ في غير هذا الموضع أيضًا ونحن نذكر إن شاء الله هذين الحديثين وإسنادهما ولفظهما لكن هذان الخبران متعلقان برؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه لتضمنهما ذلك وهذا قد جاءت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحاديث يستدل بها على الإثبات والنفي ولهذا تنازع السلف في هذه المسألة ولم يتنازعوا في رؤية الله تعالى في الآخرة كما سيأتي ذلك في كلام الإمام أحمد رحمه الله قال الإمام أبوبكر بن خزيمة باب ذكر أخبار رويت عن عائشة في إنكارها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المنية بالنبي صلى الله عليه وسلم

إذ أهل قبلتنا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى من شاهدنا من العلماء من أهل عصرنا لم يختلفوا ولم يرتابوا ولم يشكوا أن جميع المؤمنين يرون خالفهم يوم القيامة عيانًا وإنما اختلف العلماء هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل قبل نزول المنية بالنبي صلى الله عليه وسلم لا أنهم قد اختلفوا في رؤية المؤمنين خالقهم يوم القيامة فتفهموا المسألتين لا تغالطوا فاصدوا عن سواء السبيل ونحن نذكر من ذلك ما يسره الله تعالى والذي عليه أكثر أهل السنة والحديث إثبات رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه لكن اختلفوا هل يقال رآه بعين رأسه أو يقال رآه بقلبه أو يقال رآه ولا يقال بعينه ولا بقلبه على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن أحمد على ما ذكر ذلك القاضي أبويعلى وغيره ولهذا جمع طائفة بين أقوال السلف في ذلك

نقل المؤلف أقوال العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج

فالرواية الواحدة عن أحمد وهي قول طائفة أنه يقال رآه ولايقال بعينه ولابقلبه كما في مسائل الأثرم قال سمعت أبا عبد الله قال له رجل عن حسن الأشيب قال لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى قال فأنكره إنسان عليه فقال لم لا تقول رآه ولا تقول بعينه ولا بقلبه كما جاء في الحديث أنه رآه قال رجل فاستحسن ذلك الأشيب قال أبو عبد الله هذا حسن قال وسمعت أبا عبد الله قال فأما من قال إنه لا يرى في الآخرة فهو جهمي

وأما من تكلم في رؤية الدنيا فقال عكرمة رآه وقال الحسن رآه وقال سعيد بن جبير لا أقول رآه ولا لم يره وقالت عائشة من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد كذب قال الأثرم قلت لأبي عبد الله إلى أي شيء تذهب من هذا فقال قال العمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه

مرتين وحديث الأثرم حدثنا محمد بن الصباح حدثنا هشيم ثنا منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن

أبي ذر قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه وروى الخلال حدثنا محمد بن الهيثم حدثنا عمرو بن عون أنا هشيم عن منصور عن الحكم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] قال رآه بقلبه

ولم يره بعينه وقال ابن خزيمة حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا هشيم أنا منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال رآه بقلبه ولم يره بعينه فجواب الإمام أحمد يقتضي أنه استحسن كلام من أطلق القول بأنه رآه ولم يقيده بعينه ولابقلبه ولكن لايقتضي أنه منع من التقييد بأحدهما بدليل أن الأثرم لما سأله إلى أي شيء تذهب في هذا ذكر الرواية المقيدة بالقلب ولكن من أصحاب أحمد من جعل هذا رواية عنه أنه يطلق الرؤية ولا يقيد بأحدهما لكن فرق بين السكوت والتقييد وبين المنع من التقييد فإن كان أحد يظن أن أحمد منع من التقييد فليس كذلك وإن قال إنه استحسن الإطلاق فهذا حسن وحينئذ فلا يكون روايتين بل رواية واحدة تضمنت جواز الإطلاق والتقييد

بالقلب لكن لم ير إطلاق نفي الرؤية لأن نفيها يشعر بنفي الأمرين جميعًا وإن كان من النفاة من لا ينفي إلا رؤية العين وهذا الذي أجاب به أحمد من حديث ابن عباس الذي رواه مسلم في صحيحه عن زياد بن الحصين عن أبي العالية البرَّاء عن ابن عباس مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 11 , 13] قال رآه بفؤاده مرتين وروى مسلم في صحيحه أيضًا عن عبد الملك عن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال رآه

بقلبه يعني قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] وأما حديث أبي ذر فقد رواه مسلم في صحيحه عن قتادة عن عبد الله بن شقيق العقيلي عن أبي ذر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نور أنَّى أراه وأما ما يرويه بعض العامة انابا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره فهو كذب باتفاق أهل العلم ولم يكن عند عائشة في هذا حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما

تكلمت في ذلك بالرأي والتأويل لا بحديث كان عندها وسيأتي أن أبا عبد الله رد قول عائشة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي وسنبين إن شاء الله اتفاق المرفوع في ذلك فإن كان أبو ذر عنى هذا ومع هذا فقد رووا عنه بذلك الإسناد الآخر الجيد عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال رأى محمد ربه بقلبه دل ذلك على أن ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينف رؤية القلب التي أثبتها بل إما أن يكون دل عليها أو لم يدل على عدمها وأبو ذر أحق من رجع إليه في هذه المسألة لأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها وهو من أجلّ الصحابة رضي الله عنهم فلهذا اعتمد الإمام أحمد على ما رواه عنه وعن ابن عباس والأثرم من أعلم أصحاب أبي عبد الله وأذكاهم وأعرفهم بالحديث والفقه وحديث أبي ذر المرفوع قد تنازعوا فيه هل مقتضاه إثبات الرؤية أو نفيها فلذلك لم يحتج به أحمد قال أبو بكر بن خزيمة وقد روي عن أبي ذر خبر قد اختلف علماؤنا في تأويله لأنه روي بلفظ يحتمل النفي

والإثبات جميعًا وذكر الحديث ثم قال وقوله نور أنَّى أراه يحتمل معنيين أحدهما أي كيف أراه وهو نور والمعنى الثاني رأيته وإني رأيته وهو نور فهو نور لا تدركه الأبصار إدراك ماتدرك الأبصار من المخلوقين كما قال عكرمة يعني عن ابن عباس إن الله إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء قال والدليل على صحة هذا التأويل الثاني أن إمام أهل زمانه في العلم والأخبار محمد بن بشار بندار حدثنا بهذا الخبر قال حدثنا معاذ بن هشام حدثني

أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال عن أي شيء كنت تسأله فقال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال أبو ذر قد سألته فقال رأيت نورًا وهذه الطريق التي ذكرناها هي من رواية هشام الدستوائي عن قتادة واللفظ الأول هو من طريق يزيد بن إبراهيم التستري عن قتادة وبعضهم يقول نور بالرفع

ورواه ابن خزيمة من غير وجه بالنصب قال ابن خزيمة ويجوز أن يكون معنى خبر أبي ذر رأيت نورًا فلو كان معنى قول أبي ذر من رواية يزيد بن إبراهيم التستري أنّي أراه على نفي معنى الرؤية فمعنى الخبر أنه نفى رؤية الرب لأن أبا ذر قد ثبت عنه أنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه بقلبه حدثنا أحمد بن منيع غير مرة قال ثنا هشيم أنا منصور وهو ابن زاذان عن الحكم ين يزيد الرشك عن أبي ذر في قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] قال رآه بقلبه يعني النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا أبو هاشم

زيادة بن أيوب قال حدثنا هشيم فذكر بإسناده عن أبي ذر قال رآه بقلبه ولم يره بعينه وكذلك نقل حنبل عن الإمام أحمد كما رواه عنه الخلال قال قلت لأبي عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه قال رؤيا حلم رآه بقلبه وكان أبو عبد الله تارة يحكي تنازع السلف في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا كما روى الخلال عن جعفر بن محمد حدثني أبو عبد الله قال قرأت على أبي قرة الزبيدي عن أبي جريج

أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه مرتين قلت يا أبا عبد الله عائشة تقول لم يره وأظن أني قلت له وأبو ذر قال قد اختلفوا في رؤية الدنيا ولم يختلف في رؤية الآخرة إلا هؤلاء الجهمية قلت تعيب على من يكفرهم قال لا قلت فيكفرون قال نعم وذكر الخلال هذه المسألة والجواب عنها في موضع آخر من السنة وقال فذكر مثل مسألة حبيش سواء وقد ذكر قبل ذلك مسألة حبيش

وهذه الرواية يحتمل أنه إنما حكى الاختلاف في رؤية العين لأنها هي التي تتظاهر الجهمية بإنكارها وهو ظاهر حديث عائشة وأبي ذر المرفوع ويحتمل أنه حكى الخلاف في رؤية القلب أيضًا لأن حديث ابن عباس الذي عارضه السائل بقول عائشة إنما فيه رؤية القلب ويحتمل أنه حكى الخلاف مطلقًا لتقابل الروايات بالإثبات والنفي يؤيد ذلك أن الخلال جعل الجواب هنا كالجواب في مسألة حبيش بن سندي فروى الخلال عن حبيش بن سندي أن أبا عبد الله سئل عن حديث ابن عباس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقال بعضهم يقول بقلبه فقيل له أيما أثبت عندك فقال في رؤية الدنيا قد اختلفوا فيها وأما في رؤية الآخرة فلم يختلف فيها إلا هؤلاء الجهمية قيل له تعيب على من يكفرهم قال لا قيل فيكفرون قال نعم ففي هذا الجواب أنهم سألوه عما يروى عن ابن عباس من إطلاق الرؤية فقال بعض الرواة يقيدها بالقلب ولما سئل أيما أثبت عندك لم يجزم بأحد الطرفين لكن ذكر أن السلف تنازعوا في ذلك ولم يتنازعوا في رؤية الآخرة فيحتمل

أنهم تنازعوا هل رآه بقلبه أم لا ويحتمل أنهم تنازعوا في إثبات الرؤية مطلقًا ومقيدًا وفي إطلاق نفيها ولكن استقر أمره على إثبات ماورد في ذلك من الأحاديث الثابتة والرد على من نفى موجبها قال الخلال أنا أبو بكر المروذي قال قرأت على أبي عبد الله وأبنا عبد الله بن أحمد قال قرأت على أبي قرة الزبيدي عن ابن جريح قال أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين زاد عبد الله بن أحمد ثنا نصر بن علي قال حدثنا أشعث بن عبد الله حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن

الحارث عن كعب قال إن الله تعالى قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهنا وسلم فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين أخبرنا المروذي عن أبي عبد الله عن وكي عثنا عباد الناجي سمعت عكرمة يقول نعم رأى محمد صلى الله عليه وسلم

ربه حتى انقطع نفسه وأخبرنا المروذي عن أبي عبد الله عن يزيد بن عباد قال سألت الحسن وعكرمة عن قول الله تعالى وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) [النجم 1] قالا إذا غاب فذكر الحديث ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) [النجم 8] قال الحسن هو ربي فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) [النجم 9] فقلت ياأبا سعيد هل شاهده قال نعم فقرأها حتى بلغ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] فتلكأ الحسن وقال رأى عظمة ربه ورأى أشياء فقال عكرمة ما تريد قال أريد أن تبين لي فقال قد رآه ثم رآه

قال القاضي أبو يعلى وقد اختلفت الروايات عن أحمد في إثبات رؤيته في ليلة المعراج قروى أبوبكر المروذي وذكر ما تقدم من قوله فبأي شيء يدفع قول عائشة إلى قوله ما اعتراضه في هذا الموضع يُسلَّم الخبر ثم قال وظاهر هذا من كلامه إثبات الرؤية في ليلة المعراج قال وهذه الرواية اختيار أبي بكر النجاد وذكر أنه حكى القاضي أبو علي عن أبي بكر بن سليمان النجاد أنه قال رأى محمد ربه إحدى عشرة مرة منها بالسنَّة تسع مرات ليلة المعراج حين كان يتردد بين موسى وبين ربه عز وجل يسأل أن يخفف عن

أمته الصلاة فنقض خمسًا وأربعين صلاة في تسع مقامات ومرتين بالكتاب قال القاضي ونقل حنبل قال قلت لأبي عبد الله رأى ربه قال رؤيا حلم رآه بقلبه قال القاضي وهذا يقتضي نفي الرؤية في تلك الليلة قال ونقل الأثرم عن أحمد أنه حكى له قول رجل يقول رآه ولا أقول بعينه ولا بقلبه فقال أبو عبد الله هذا حسن قال وظاهر هذا إطلاق الرؤية من غير تفسير بعين أو قلب قال القاضي والرواية الأولى أصح قلت ليس كلام أحمد مختلفاً فإن رواية الأثرم قد ذكرنا لفظها وأنه استحسن الإطلاق فإنه قد

ذهب إلى أنه رآه بقلبه وهذا موافق لنقل حنبل والمروذي نقل الرواية مطلقًا وفي الأحاديث التي رواها التقييد برؤية القلب ورؤية المنام ولم أجد في كلام أحمد تصريحًا برؤية عين ولا نفي الرؤية مطلقًا وأيضًا فاعتقاد أن نفي رؤية العين يقتضي إطلاق نفي الرؤية كما ذكر القاضي ليس هو مقتضى ما ذكره أحمد وغيره من العلماء وهذا الذي قالـ ـه الإمام أحمد من إثبات رؤية القلب هو الذي ثبت عن الصحابة كأبي ذر وابن عباس وقد روي ذلك بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً كما رواه أبوالقاسم الطبراني في كتاب السنة حدثنا الحسين بن إسحاق

التستري حدثنا الحماني حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك عز وجل قال رأيته بفؤادي ولم أره بعيني وهذا وإن كان مرسلاً فهو معضود لما ثبت عن الصحابة من الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤيته ربه كأبي ذر ومن الذين نقلوا عنه أنه قال رأيت ربي كابن عباس

الجمع بين حديث ابن عباس في إثبات الرؤية وحديث عائشة في نفيها

وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفصيل وقد صرح أبوذر بمثل هذا فقال رآه بقلبه ولم يره بعينه بهذا يمكن الجمع بين قول ابن عباس وعائشة كما سنذكره إن شاء الله تعالى وقد قال أبوذر رآه بقلبه ولم يره بعينه قال الخلال أخبرنا أبوبكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله إنهم يقولون إن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية فبأي شيء يدفع قول عائشة قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي وقول النبي صلى الله عليه وسلم

أكبر من قولها وقال قلت لأبي عبد الله إن رجلاً قال أنا أقول إن الله يُرى في الآخرة ولا أقول إن محمدًا رأى ربه في الدنيا وقد أنكر عليه قوم واعتزلوا أن يصلوا خلفه وهو غمام فغضب وقال أهل أن يجفى ما اعتراضه في هذا الموضع يسلم الخبر كما جاء قال الخلال أخبرنا أبوبكر المروذي قال قرأت على أبي عبد الله إبراهيم بن الحكم حدثني أبي عن عكرمة قال سألت ابن عباس عل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه قال نعم رآه دون ستر من لؤلؤ قال المروذي قرأته عليه بطوله فصححه وقد روى أبوبكر بن أبي داود في كتاب السنة من

جملة كتاب السنن هذا الخبر عن عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قال كيف رآه قال في صورة فقلت أنا لابن عباس أليس هو يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وقد روى أبوبكر بن خزيمة الرؤية عن ابن عباس من هذا الوجه فقال حدثنا محمد بن يحيى حدثنا يزيد بن أبي حكيم العدني حدثنا الحكم بن أبان سمعت عكرمة يقول سمعت ابن عباس وسئل هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه قال نعم قال فقلت لابن عباس أليس الله يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره

إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء قال محمد بن يحيى امتنع عليّ إبراهيم بن الحكم في هذا الحديث فخار الله لي أحلى منه يعني أن يزيد بن أبي حكيم أحلى من إبراهيم بن الحكم أي أنه أوثق منه قال محمد بن يحيى قال لي ابنه يعني ابن إبراهيم بن الحكم تعال حتى نحدثك قلم أذهب فحدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال ثنا موسى بن عبد العزيز القنباري حدثني الحكم يعني ابن أبان قال حدثني عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قلت أنا لابن عباس أليس يقول الرب عز وجل لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ

الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك وكانت كلمته لي ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء فهذا التفسير من ابن عباس يقتضي أنه رآه بالبصيرة فإنما يرى إذا ما لم يَتَجَلَّ بنوره الذي هو نوره هذا مشروح في غير هذا الموضع ولـ ـهذا فقد قال إنه تفسير لحديث أبي ذر وأن المنفي فيه قولان كالمنفي في قول ابن عباس هذا وأنه كما قيل في قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أنك ترى السماء ولا تدركها فلذلك قيل وإذا حدقت فيها عشي بصرك وإنما أنكر أحمد على من نفى أحاديث رؤيته في الدنيا مطلقًا لأن من الجهمية طوائف يقولون إن الله لايجوز أن يرى بالأبصار ولا بالقلوب أصلاً وطوائف يقولون إنه لايجوز أن يرى في المنام أيضًا وهؤلاء يجحدون كل ما فيه إثبات أن

أقوال المعتزلة في الرؤية

محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ره عز وجل سواء كان بفؤاده أو في منامه أو غير ذلك وهؤلاء الجهمية ضلال باتفاق أهل السنة ولهذا كان أحمد ينكر على هؤلاء ردهم ما في ذلك من الأخبار التي تلقاها العلماء بالقبول كما سنذكره إن شاء الله تعالى وإذا كانوا يمنعون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده أو في منامه قهم لرؤية غيره أجحد وأجحد وقد ذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم ذلك عن طوائف من الجهمية حتى إن من المعتزلة من يقول يجوز أن يرى بالقلوب بمعنى العلم ومنهم من ينكر ذلك كما نقل ذلك الأشعري في المقالات فقال أجمعت المعتزلة على أن الله لايرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبوالهذيل وأكثر المعتزلة نرى الله بقلوبنا بمعنى أنَّا نعلمه بقلوبنا وأنكر هشام الفوطي وعماد بن سليمان

ذلك وهؤلاء النفاة يسمون مثبتة الرؤية مجسمة ويجمعون في نقل مقالات المثبتة بين الحق والباطل كما نقل الأشعري عنهم ما نقله من كتب المعتزلة فقال واختلفوا في رؤية الله بالأبصار فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول وإذا رأوا إنسانًا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك حكي ذلك عن بعض أصحاب معتمر وكهمس

وحكى عن أصحاب عبد الواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله سبحانه يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقال قائلون إنا نرى الله في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رَقَية بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء الآخرة أربعين سنة وامتنع كثير من القول أنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة فقد حكي هذا القول بإطلاق النفي في الدنيا معارضًا لتلك

الأقوال المشتملة على الباطل مثل كونه يرى بالأبصار في الطرقات وعلى الحق مثل كونه يرى في المنام ولهذا جمع طائفة بين قول عائشة وابن عباس كما ذكره رزين بن معاوية في تفسيره فقال وأما ما روي عن عائشة وابن عباس من الاختلاف في أمر الرؤية فإنما دخل الأمر في ذلك على بعض الروايتين من حيث إطلاقهما اللفظ فظنوا بهما الاختلاف ولم يكونا ليختلفا في مثل هذا الأصل الجليل من أصول الدين وقد روى غير أولئك الرواة عنهما لفظهما مقيدًا فزال الإشكال والمقيد يبين المجمل فروي عن ابن عباس في بعض الروايات رأى ربه بفؤاده وهو تفسير قوله رآه مطلقًا قال وقد روي عن عائشة أنها قالت يا أهل العراق إنكم تقولون أقوالاً يخالفها كتاب الله عز وجل وتزعمون أن محمدًا

رأى ربه ببصره وقد قال لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وإنما رآه بفؤاده وذلك قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] وإنما رأى ببصره الحجاب واستدلت على ذلك بقوله تعالى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 17-18] قال فاتفق عنهما الروايتان قول ابن عباس وقول عائشة وثبت من قوليهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى ربه بفؤاده وقال وهذا مما لانكير فيه ولا شبهة قلت وأما الأخبار المطلقة عن ابن عباس وأنس وغيرهما من الصحابة والتابعين فكثيرة أيضًا كما رواه ابن خزيمة حدثنا عبد الوهاب بن الحكم الوراق الشيخ الصالح حدثنا هاشم بن القاسم عن قيس بن

الربيع عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة واصطفى موسى بالكلام ومحمدًا بالرؤية حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عاصم عن الشعبي عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز المقوم

قال حدثنا أبوبحر البكراوي عن شعبة عن قتادة عن أنس ابن مالك قال رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه حدثني عمي إسماعيل بن خزيمة حدثنا عبد الرزاق أنبأنا المعتمر بن سليمان عن

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام

المبارك بن فضالة قال كان الحسن يحلف بالله لقد رأى محمد ربه وقال أبوبكر الخلال أنا محمد بن علي الوراق قال ثنا إبراهيم بن هانئ ثنا احمد بن عيسى وقال له أحمد بن حنبل حدثهم به في منزل عمه ثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي

هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في المنام في صورة شاب موفَّر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب قال

الخلال أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا عبد الله بن وهب فذكره بإسناده عن أم الطفيل أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا رجلاه من خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب ورواه أبوبكر عبد العزيز حدثنا محمد بن سليمان قال حدثنا

أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب حدثنا عمي عبد الله بن وهب فذكره بإسناده عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس قال الخلال أبوبكر المروذي قال قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه فذكر الحديث قلت

إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي وقال المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله فشاذان كيف هو قال ثقة وجعل يثبته وقال في هذا يشنع به علينا قلت أفليس العلماء تلقته بالقبول قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق وقال يزيد بن حازم رواه حماد بن

زيد أن عكرمة سأل عن شيء من التفسير فأجابه قتادة أبنا المروذي حدثني عبد الصمد بن يحيى الدهقان سمعت شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت ربي قال حدث به فقد حدث به العلماء قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء

ورواه أبو الحافظ أبوالحسن الدارقطني فقال حدثنا عبد الله بن جعفر بن خشيش حدثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا أسود ابن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه عز وجل شابًّا أمرد جعدًا قططا في حلة خضراء ورواه القطيعي والطبراني قالا حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله

صلى اله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء وأما الحديث الذي فيه اختصام الملأ الأعلى فيما رواه الخلال وابن خزيمة وغيرهما من وجوه مشهورة عن الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت أنت أعلم يارب قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت

لا أدري يارب قال فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماء والأرض قال وقرأ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) [الأنعام 75] قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت في الكفارات يارب قال قلت وما هن قلت المشي إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على المكاره قال فقال لي من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات طيب الكلام وأن تقوم بالليل والناس نيام وقال قل اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب عليَّ وتغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني إليك غير مفتون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن فوالذي نفسي بيده إنهن لحق

وقال أبوبكر بن خزيمة روى الوليد حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثنا خالد بن اللجلاج حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت أي ربي مرتين فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات والأرض ثم تلا وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) [الأنعام 75] قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت في الكفارات يارب قال وما هن قلت المشي إلى

الجماعات والجلوس في المساجد وانتظار الصلوات وإسباغ الوضوء على المكاره فقال من فعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات إطعام الطعام وطيب الكلام وأن تقوم بالليل والناس نيام وقال اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب علي وتغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن فوالذي نفسي بيده إنهن لحق قال ابن خزيمة حدثنا أبو قدامة وعبد الله ابن محمد الزهري ومحمد بن ميمون المكي قالوا حدثنا الوليد بن مسلم قال الإمام أبو بكر بن خزيمة قوله في هذا الخبر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمٌ لأن عبد الرحمن بن

عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة وإنما رواه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحسبه أيضًا سمعه من الصحابي لأن يحيى بن أبي كثير رواه عن زيد بن سلام عن عبد الرحمن الحضرمي عن مالك بن يخامر عن معاذ وقال قال يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

كذلك ثنا أبو موسى محمد بن المثني حدثني أبو عامر عبد الملك بن عمرو حدثنا زهير وهو ابن محمد عن يزيد قال أبو موسى وهو يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله قال ابن خزيمة وجاء قتادة بلون آخر فروى معاذ بن هاشم حدثني أبي عن

قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حدثناه بندار وأبو موسى قالا حدثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت يا رب لا أدري قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردهما بين ثديي فعلمت ما بين المشرق والمغرب فقال يا محمد قلت لبيك رب وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت يارب في الكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء في المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فمن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه هذا حديث أبي موسى وقال بندار قال أتاني ربي في أحسن صورة وقال قلت في الدرجات والكفارات وقال انتظار الصلاة بعد

الصلاة لم يقل الصلوات قال ورواه معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه من طريق معمر ثم قال أبو بكر رواية يزيد وعبد الرحمن ابن يزيد بن جابر أسبه بالصواب حين قالا عن عبد الرحمن بن عائش من رواية من قال عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنه قد روى عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي وهو ابن عائش إن شاء الله تعالى حدثنا مالك بن يخامر السكسكي أن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما صلى دعا بصوته على مصافكم

كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في مصلاي حتى استثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال يامحمد فقلت لبيك يارب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا أدري قالها ثلاثًا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال يامحمد فقلت لبيك قال يامحمد قلت لبيك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت في الكفارات قال وما هن قلت مشي على الأقدام إلى الجماعات وجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات قال ثم فيم قال قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة بالليل والناس نيام قال سل فقلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وان تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب مَن

أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها حق فتعلموها وادرسوها حدثنا أبوموسى قال حدثنا معاذ بن هانئ حدثنا جهضم بن عبد الله القيسى قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي قال أبوموسى وهو ابن عائش الحديث على ما أمليته قلت هذه الطريق أتم الطرق إسنادًا ومتنًا وفيها بيان أصل الحديث فإن غيره رواه عن ابن عائش عن

رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حق فإن الرجل معاذ لكن لم يذكروا الواسطة بينهما وهو مالك بن يخامر وهو من أكابر أصحاب معاذ والأخصاء به ورواه الآخر عن ابن عائش مرسلاً لكن غلطه في ذكر لفظ السماع وهذه رواية أهل الشام بهذا الحديث وهم به أعرف لأن نخرجه من عندهم وأخذه أبوقلابة وكان قد قدم الشام من هذا الشيخ خالد بن اللجلاج لكن وقع تصحيف في اسم ابن عائش بابن عباس فحدَّث به البصريين أسنده عنه تارة وأرساه أخرى ولم يتجاوز به ذلك لأن خالد بن اللجلاج لم يكن يستوفي إسناده بل تارة يذكره عن ابن عياش عن النبي صلى الله عليه وسلم وتارة عنه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن زيد بن سلاّم لما رواه عن ابن عائش أسنده واستوفاه لأنه كان مكتوبًا عنده فهذه الروايات يصدق بعضه بعضًا إذ قد رواه عن كل

شخص أكثر من واحد لكن بمجموع الطرق انكشف ما وقع في بعضها من غلط في بعض طريقه قال أبوبكر بن خزيمة وروى معاوية بن صالح عن أبي يحيى وهو عندي سليم بن عامر عن أبي يزيد عن أبي سلام الحبشي أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

النبي صلى الله عليه وسلم أخّر صلاة الصبح حتى أسفر فقال إنما تأخرت عنكم أن ربي قال يامحمد هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري يارب فرددها مرتين أو ثلاثًا ثم حسست بالكف بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي ثم تجلى لي كل شيء وعرفت قال قلت نعم يارب يختصمون في الكفارات والدرجات والكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء في الكريهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة والدرجات إطعام الطعام وبذل السلام والقيام بالليل والناس نيام ثم قال يا محمد اشفع تشفع وسل تعط قال فقلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني وأنا غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحبًّا يبلغني حبك حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال ثنا

عمي قال حدثنا معاوية قال أبوبكر لست أعرف أبا يزيد هذا بعدالة ولا جرح قال وروى شيخ من الكوفيين يقال له سعيد بن سويد القرشي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل هذه القصة بطولها فيشبَّه بخبر يحيى بن أبي كثير ثنا محمد بن أبي سعيد بن سويد القرشي كوفي

قال حدثني أبي قال أبوبكر بن خزيمة وهذا الشيخ سعيد بن سويد لست أعرفه بعدالة ولا جرح وعبد الرحمن بن إسحاق هذا هو أبوشيبة الكوفي ضعيف الحديث الذي روى عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم أخبارًا منكرة وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ بن جبل مات معاذ في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام قال ابن خزيمة فليس يثبت من هذه الأخبار شيء م عند ذكر عبد الرحمن بن عائش بالعلل التي ذكرناها لهذه الأسانيد ولعل من لم يتبحر العلم يحسب أن خبر بن يحيى بن

أبي كثير عن زيد بن سلام ثابت لأنه قيل في الخبر عن زيد أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي ويحيى بن أبي كثير أحد المدلسين لم يخبر أنه سمع هذا من زيد بن سلام قد سمعت الدارمي أحمد بن سعيد يقول حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي عن حسين المعلم قال لما قدم علينا عبد الله بن بريدة بعث إليَّ مطر

الوراق احمل الصحيفة والدواة وتعال فحملت الصحيفة والدواة فأتيناه فأخرج إلينا كتاب أبي سلام فقلنا سمعتَ هذا من أبي سلام قال لا قلنا فمن رجل سمعه من أبي سلام قال لا فقلنا له تُحدث بأحاديث مثل هذه لم تسمعها من الرجل ولا من رجل سمعها منه فقال أترى رجلاً جاء بصحيفة ودواة كتب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه كذبًا هذا معنى الحكاية قال أبوبكر كتب عني مسلم بن الحجاج هذه الحكاية قلت هذا الاختلاف قد ذكره قبل ذلك الإمام أحمد أيضًا فذكر أبوبكر الأثرم في كتاب العلل قال سألت

أحمد عن حديث فيه عبد الرحمن بن عائش الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة فقال يضطرب في إسناده لأن معمرًا رواه عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه معاذ بن هاشم عن أبيه عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يوسف بن عطية عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم

ورواه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يزيد بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن أبي كثير فقال عن ابن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه فمن الناس من جعل عن أحمد في تثبيت هذه الأحاديث روايتين كما يذكر التنازع في ثبوتها عن غيره من العلماء قال القاضي أبويعلى في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وظاهر هذا الكلام من أحمد التوقف في طريقه لأجل الاختلاف فيه ولكن ليس هذا مما يوجب تضعيف الحديث على طريقة الفقهاء قال ورأيت في مسائل مُهنَّا بن يحيى

الشامي قال سألته يعني أحمد عن حديث رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربَّه في المنام في صورة شاب موفَّر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب فحول وجهه عني وقال هذا حديث منكر وقال ولايعرف هذا رجل مجهول يعني مروان بن عثمان قال القاضي أبويعلى فظاهر هذا التضعيف من أحمد لحديث أم الطفيل قال رأيت بخط أبي بكر الكبشي قال

عبد العزيز سمعت الخلال يقول إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره ولأن الجهمية تنكره قال ورأيت بخط ابن حبيب جوابات مسائل لأبي بكر عبد العزيز قال حديث أم الطفيل فيه وهاءٌ ونحن قائلون به قال القاضي وظاهر رواية إبراهيم بن هانئ يدل على صحته لأن أحمد قال لأحمد بن عيسى في منزل عمه حدِّثهم به ولا يجوز أن يأمره أن يحدثهم بحديث يعتقد ضعفه لاسيما فيما يتعلق بالصفات قال وقد صححه أبوزرعة الدمشقي فيما

سمعه من أبي محمد الخلال وأبي طالب العشاري وأبي بكر بن بشر عن علي بن عمر الحافظ وهو الدارقطني فيما خرجه في آخر كتاب الرؤية قال حدثنا محمد بن إسماعيل الفارسي حدثنا أبوزرعة الدمشقي حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث بن سعيد ابن أبي هلال أن مروان بن عثمان أخبره عن عمارة بن عامر

عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة قدماه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب قال أبوزرعة كل هؤلاء الرجال معروفون لهم أنساب قوية بالمدينة فأما مروان فهو مروان بن عثمان ابن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري وأما عمارة فهو ابن عامر بن عمرو بن حزم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بن الحارث وسعيد ابن أبي هلال فلا يُشك فيهما وحسبك بعبد الله بن وهب محدثًّا في دينه وفضله قال القاضي فظاهر الكلام من أبي زرعة إثباتًا لرجال حديث أم الطفيل وتعريفًا لهم وبيانًا عن عدالتهم قال وهو ظاهر ما عليه أصحابنا لأن أبا بكر الخلال ذكر حديث أم الطفيل في سننه ولم يتعرض للطعن عليه وأخرج إليَّ أبوإسحاق البرمكي جزءًا فيه حكايات عن

أبي الحسن بن بشار رواية ابنه أبي حفص عن أبيه أحمد بن إبراهيم قال سألت الشيخ يعني أبا الحسن بن بشار عن حديث أم الطفيل وحديث لبن عباس في الرؤية فقال صحيح فعارض رجل وقال هذه الأحاديث لاتذكر في مثل هذا الوقت فقال له الشيخ فَيَدْرُسُ الإسلام فسكت فقد حكم بصحة الحديث قال وقد يجوز أنه لم يقع لأحمد معرفة مروان بن عثمان في حال ما سأله مهنَّا ثم وقع

له معرفة نسبه فيما بعد قال وكتب إليَّ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني بجزء فيه حديث لبن عباس في الرؤية من طرق وكلام أصحاب الحديث عليه فقال أخبرنا الحسين بن على بن سلمة الهمداني ومحمد بن على بن معدي وغيرهم قالوا حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك وحدثنا احمد بن محمد بن عبد الله ابن إسحاق واللفظ له قال حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد حدثني أبي

قال حدثنا الأسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء قال وأبلغت أن الطبراني قال حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في الرؤية صحيح وقال من زعم أني رجعت عن هذا الحديث بعدما حدثت به فقد كذب وقال هذا حديث رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من التابعين عن ابن عباس وجماعة من تابعي التابعين عن عكرمة وجماعة من الثقات عن حماد بن سلمة قال وقال أبي رحمه الله روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس

عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أسماءهم بطولها وأخبرنا محمد بن عبيد الله الأنصاري سمعت أبا الحسن عبيد الله بن محمد بن معدان يقول سمعت سليمان بن أحمد يقول سمعت ابن صدقة الحافظ يقول من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق وأخبرنا محمد بن سليمان قال سمعت بندار بن أبي إسحاق يقول سمعت علي بن محمد بن أبان يقول سمعت البراذعي يقول سمعت أبا زرعة الرازي يقول

من أنكر حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عيه وسلم رأيت ربي عز وجل فهو معتزلي وسمعت علي بن أحمد بن مهران المديني قال حضرت أبا عبد الله بن مهدي وحضر عندنا جماعة فتذاكروا حديث عكرمة وأنكره بعضهم وكنت قد حفظته فحدثت به بطوله فقام إلى أبو عبد الله وقبل رأسي ودعا لي قال وحدثنا محمد بن محمد بن الحسن قال حدثنا أحمد بن محمد اللخمي سمت محمد بن علي ابن جعفر البغدادي قال سمعت أحمد بن محمد بن

هانئ الأثرم يقول سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي الحديث فقال أحمد بن حنبل هذا الحديث رواه الكبر عن الكبر عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن شك في شيء أو في شيء منه فهو جهمي لاتقبل شهادته ولا يسلم عليه ولا يعاد في مرضه قلت في هذه الرواية عن أحمد نظر وأنبأنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسحاق حدثنا محمد ابن يعقوب حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال رأيت أبي يصحح هذه الأحاديث ويذهب إليها وجمعها وحدثناها وروى بإسناده عن

عبد الوهاب الوراق قال سمعت أسود بن سالم يقول في هذه الأحاديث التي جاءت في الرؤية قال نحلف عليها بالطلاق والعتاق أنها حق قلت قد جعل أحمد حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس الذي فيه في صورة شاب أمرد له وفرة هو الحديث المشهور عن ابن عائش الذي أرسله وأسنده الذي فيه وضع الكف بين كتفيه عن معاذ وفيه التصريح بأنه كان في المنام بالمدينة فإن معاذًا لم يصل خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة وحديث أم الطفيل المتقدم أيضًا يصرح بأنه كان في المنام وحديث ثوبان مثل حديث معاذ فيه أنه تأخر عن صلاة الصبح وثوبان لم يصل خلفه إلا بالمدينة مع أن السياقين سواء وهذه الأحاديث كلها ترجع إلى هذه الأحاديث الأربعة حديث أم الطفيل وحديث ابن عائش عن معاذ وحديث

ثوبان وحديث ابن عباس وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أن أصلها حديث واحد وإن كان لم يذكر حديث ثوبان إما أنه لم يبلغه أو بلغه وذلك حديث قائم بنفسه وكلها فيها ما يُبَيِّن أن ذلك كان في المنام وأنه كان بالمدينة إلا حديث عكرمة عن ابن عباس وقد جعل أحمد أصلهما واحدًا وكذلك قال العلماء قال القاضي أبو يعلى بعد أن ذكر حديث ابن عباس بطرقه وألفاظه مفتتحًا له بحديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة وذكر حديث الحكم بن أبان عن عكرمة وذكر حديث أم الطفيل ثم قال واعلم أنها رؤيا منام لأن أم الطفيل قد صرحت بذلك في خبرها وحديث ابن عباس أكثر ألفاظه مطلقة قال وقد نقل في بعضها صريح بذكر المنام فيما حدثنا أبو القاسم عبد العزيز قال أخبرني أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك في الإجازة

قال وقرأته على أبي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ربي الليلة في أحسن صورة يعني في المنام فقال لي يامحمد أتدري فيم يختصم الملأ العلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي وقد قال القاضي في آخر كتابه في فصل جمل الصفات التي ذكرها وما روي في حديث أم الطفيل وابن عباس من الصفات التي رآه عليها في ليلة الإسراء فقوله هنا ليلة الإسراء تناقض منه فإنه قد نص أن الإسراء كان يقظة وأن الرؤية التي كانت في ليلة الإسراء غير هذه الرؤية التي في المنام وأيضًا فهذا الحديث الذي احتج به هو في الحقيقة

حديث معاذ كما تقدم من كلام ابن خزيمة وإنما وهم فيه أبو قلابة فقال ابن عباس وإنما هو ابن عائش وليس هذا هو حديث قتادة عن عكرمة فإن ذلك ليس فيه هذا لكن أحمد قد جعل الجميع حديثًا واحدًا في الأصل ولا ريب أن قتادة كان عنده هذا عن عكرمة يطابق لفظهما لفظ حديث أم الطفيل وإن كان فيه زيادات وهو حديث الحكم بن أبان عن عكرمة رواه ابن خزيمة محتجًّا به فقال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق

ورواه أبو بكر الخلال في السنة حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن ابن يحيى بن كثير العنبري حدثني أبي حدثنا هارون بن محمد عن محمد بن إسحاق ورواه ابن بطة في الإبانة

قال حدثنا أحمد بن محمد الباغندي حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد الله بن أبي

سلمة أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعث إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما فسأله هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه فأرسل إليه عبد الله بن عباس أن نعم فرد عليه عبد الله بن عمر رسوله أن كيف رآه فأرسل إليه أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة ملك في صورة رجل وملك في صورة ثور وملك في صورة نسر وملك في صورة أسد زاد ابن بطة بالإسناد عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة

عن عكرمة عن ابن عباس قال أُنشِد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أمية ابن أبي الصلت رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق وهذا أيضًا رواه ابن

خزيمة محتجا به من غير وجه في مسألة العرش وحملته وروى الدارقطني هذه الألفاظ من طرق فقوله في روضة خضراء دونه فراش من ذهب مثل قوله في حديث أم إلى الطفيل قدماه في الخضر على وجهه فراش من ذهب وقوله في لفظ حديث أم الطفيل في صورة شاب ذي وفرة وهذا يناسب قوله في حديث ابن عباس شابا جعدا قططا لكن في هذا زيادة الأمرد والحلة الخضراء وفي حديث أم الطفيل زيادة في رجليه نعلان من ذهب وفي حديث ابن عباس الآخر على كرسي من ذهب وأما ذكر الحملة الأربعة فهؤلاء في أحاديث أخر في اليقظة فهذا مما يحتج به لما ذكره أحمد من أن حديث عكرمة عن ابن عباس أصله أصل حديث أم الطفيل والله أعلم بحقيقة ذلك فإن أحاديث ابن عباس المشهورة عنه في أنه رآه بفؤاده مرتين إنما كان ذلك بمكة فإنه ذكره في تفسير صورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء وما روته أم الطفيل ومعاذ إنما هو

بالمدينة فحديث عكرمة عن ابن عباس يشبه ألفاظ حديث أم الطفيل يؤيد ذلك أن الأسانيد المتواترة عن ابن عباس إنما فيها إخبار أنه رآه بفؤاده وأنه قال ذلك في تفسير القرآن فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بلفظه عن رؤية ليلة المعراج لم نحتج إلى ذلك ولكان هذا هو الذي يعتمد عليه دون ما تأوله من القرآن ولهذا لم يثبت الإمام أحمد رحمه الله إلا ما ثبت عن ابن عباس مهن رؤيته بفؤاده ومن رواية هذه الأحاديث التي جاءت على الوجه التي جاءت عليها وذلك يدفع قول من أطلق نفي الرؤية ولا يدفع قول من نفى رؤية البصر كما جمع بينهما وقد يقال إن حديث عكرمة عن ابن عباس هو تفسيره للرؤية التي بفؤاده التي كانت بمكة لكن هذه الزيادات التي في حديث عكرمة لا تؤخذ بمجرد تأويل القرآن بل يحتاج إلى توقيف وكذلك الزيادة التي في حديث مسألة ابن عمر لابن عباس

وقد تبين بما ذكرناه أن الحديث الذي فيه أتاني ربي في أحسن صورة ووضع يده بين كتفي إنما كان في المنام بالمدينة ولم يكن ذلك ليلة المعراج كما يظنه كثير من الناس وكنت مرة بمجلس فيه طوائف من أصناف العلماء في مجلس ابتداء تدريس لشيخ الحنفية وجرى ذلك هذا الحديث فظنوا أنه كان ليلة المعراج فقلت هذا لم يكن ليلة المعراج فإن هذا كان بالمدينة كما جاء مصرحًا به والمعراج إنما كان بمكة كما قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 1] وهذا مما تواترت به الأحاديث واتفق عليه أهل العلم أن المعراج الذي ذكره الله تعالى في القرآن والذي فيه فرض الصلوات الخمس إنما كان بمكة ولم يكن بعد الهجرة ونفس ما في الحديث بين ذلك فإنه ذكر فيه اختصام الملأ الأعلى في المشي على الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وهذا إنما شرع في المدينة إذ لم تشرع الجمعة بمكة وهذا مما لم يَرْتَبْ فيه العلماء وإنما وقع ذلك في أحاديث ابن عباس الثابتة عنه كحديث عكرمة ونحوه لأن ابن عباس قد ثبت عنه أنه كان يثبت في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربع بفؤاده في مكة كما ذكر ذلك

في تفسير صورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء قال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب النقض على المريسي ومتبعيه قال وروى المعارض عن شاذان عن حماد بن سلمة بن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت على ربي في جنة عدن شابًّا جعداً في ثوبين أخضرين قال وليس هذا من الحديث الذي يجب على العلماء نشره وإذاعته في أيدي الصبيان فإن كان منكرًا عند المعارض فكيف يستنكره مرة ثم يثبته أخرى فيفسره تفسيرًا أنكر من الحديث والله أعلم بهذا الحديث وبعلّته غير أني أستنكره جدًّا لأنه يعارضه حديث أبي ذر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أني أراه ويعارضه قول عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وتلت لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ

الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فهذا هو الوجه عندنا فيه والتأويل والله أعلم لا ما ادعيت أيها المعارض أن تفسيره إني دخلت على ربي في جنة عدن كقول الناس أتيناك ربنا شعثًا غبرًا من كل فج عميق لتغفر لنا ذنوبنا هذا تفسير محال لا يشبه ما شبهت لأن في روايتك أنه قال رأيته شابًّا جعدًا في ثوبين أخضرين ويقول أولئك أتيناك ربنا شعثًا غبرًا أي قصدنا إليك نرجو عفوك ومغفرتك ولم يقولوا أتيناك فرأيناك شابًّا جعدًا في ثوبين أخضرين لتغفر لنا هؤلاء قصدوا الثواب والمغفرة ولم يصفوا الذي قصدوا إليه بما في حديثك من الحلية والكسوة والمعاينة فلفظ هذا الحديث بخلاف ما فسرت وتفسيرك أنكر من نفس الحديث فافهم واقصر عن شبه هذا الحديث فإن الخطأ كفر وأرى الصواب فيه مصروفًا عنك ومن الأحاديث أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم قالها العلماء ورووها ولم يفسروها ومن فسرها برأيه اتهموه فقد كتب إلى

علي بن خشرم أن وكيعًا سئل عن حديث عبد الله بن عمرو الجنة مطوية معلقة بقرون الشمس فقال وكيع

هذا حديث مشهور وقد روى فيه يروي فإن سألوا عن تفسيره لم يفسر لهم ويتهم من ينكره وينازعه فيه والجهمية تنكره فلو اقتديت أيها المعارض في مثل هذه الأحاديث الصعبة المشكلة المعاني بوكيع كان أسلم لك من أن تنكره مرة ثم تثبته أخرى ثم تفسره تفسيرًا لاينقاس في أثر ولا قياس عن حزب المريسي والثلجي ونظرائهم ثم لا حاجة لمن بين ظهريك من الناس إلى مثل هذه الأحاديث ثم فسرته تفسيرًا أوحش من الأول فقلت يحتمل أن يكون هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت على ربي في جنة عدن شابًّا جعدًا وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شابًّا في الجنة من أولياء الله وافاه رسوله في جنة عدن فقال دخلت على ربي فقد ادعى المعارض على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرًا عظيمًا أنه دخل الجنة فرأى شابًّا من أولياء الله

فقال رأيت ربي ثم قال بعدما فسر هذه التفاسير المقلوبة قال ويحتمل أن يكون هذا من الأحاديث التي وضعتها الزنادقة فدسوها في كتب المحدثين فيقال لهذا المعارض الأحمق الذي تتلعب به الشياطين وأي زنديق استمكن من كتب المحدثين مثل حماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان وشعبة ومالك ووكيع ونظرائهم فيدسوا مناكير الحديث في كتبهم وقد كان أكثر هؤلاء أصحاب حفظ ومن كان منهم من أصحاب الكتب كانوا لا يكادون يُطلعون على كتبهم أهل الثقة عندهم فكيف

الزنادقة وأي زنديق كان يجترئ أن يتراءى لأمثالهم ويزاحمهم في مجالسهم فكيف يفتعلون عليهم الأحاديث ويدسونها في كتبهم أرأيتك أيها الجاهل إن كان الحديث من وضع الزنادقة فلم تلتمس له الوجوه والمخارج من التأويل والتفسير كأنك تصوبه وتثبته أفلا قلت أولاً إن هذا من وضع الزنادقة فتستريح وتريح من العناء والاشتغال بتفسيره ولاتدعي في تفسيره على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة فرأى شابًّا من أولياء الله تعالى فقال هذا ربي غير أنك خلطت على نفسك فوقعت في تشويش وتخليط لاتجد لنفسك مفزعا إلا بهذه التخاليط ولن تجدي عنك شيئًا عند أهل العلم والمعرفة وكلمات لأكثرت من هذا وشبهه وازددت به فضيحة لأن أحسن حجج الباطل تركه والرجوع عنه قال وروى المعارض أيضًا عن عبد الله بن صالح عن

معاوية بن صالح عن أبي يحيى عن أبي يزيد عن أبي سلام عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ربي في أحسن صورة فقال يامحمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت لا علم لي يارب فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري فتجلى لي ما بين السماء والأرض فادعى المعارض أن هذا يحتمل أن يأتي ربي من خلقه بأحسن صورة فأتتني تلك الصورة وهي غير الله والله فيها مدبر فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري يعني تلك الصورة التي هي من خلقه والأنامل لتلك الصورة منسوبة إلى الله على معنى أن الخلق كله لله

فيقال لهذا المعارض كم تدحض في بولك وترتطم فيما ليس لك به علم أرأيتك إذا ادعيت أن هذه كانت صورة من خلق الله سوى الله أتته فقال هل تدري يامحمد فيما يختصم الملأ الأعلى أفتتاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاب صورة غير الله فقال لها يارب لا أدري فدعاها ربًّا دون الله أم أتته صورة مخلوقة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أتأني ربي إن هذا لكفر عظيم ادعيته على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت صورة تضع أناملها وكفها في كتف النبي صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض غير الله ففي دعواك ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقر بالربوبية لصورة مخلوقة غير الله لأن في روايتك أن الصورة قالت له هل تدري يامحمد فقال لها لا يارب وهل يمكن أن تكون صورة مخلوقة قالت له هل تدري يامحمد فقال لها لا يارب وهل ممكن أن تكون صورة مخلوقة تضع أناملها في كتف

نبي مثل محمد صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض أمور لم يكن يعرفها قبل أن تضع تلك الصورة كفها بين كتفيه ويحك لا يمكن هذا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل ولا يمكن هذا غير الله فكم تجلب على نفسك من الجهل والخطأ وتتقلد من تفاسير الأحاديث الصعبة ما لم يرزقك الله معرفتها ولا تأمن من أن يجرك ذلك إلى الكفر كالذي تأولت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صورة مخلوقة كلمته فأجابها محمد صلى الله عليه وسلم يارب أم لله صورة لم يعرفها فقال أتاني ربي لما أن الله في تلك الصورة مدبر ففي دعواك يجوز لك كلما رأيت كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا قلت هذا ربي لما أن الله مدبر في صورهم في دعواك وجاز لفرعون أن يقول فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) [النازعات 24] لما أن الله مدبر في صورته بزعمك وهذا أبطل باطل لا ينجع إلا في أجهل جاهل

ويلك إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبت إليه لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر إنه لم ير ربه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تروا ربكم حتى تموتوا وقالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] ويعنون أبصار أهل الدنيا وإنما هذه الرؤيا كانت في المنام وفي المنام يمكن رؤية الله تعالى على كل حال وفي كل صورة وكذلك روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صليت ماشاء الله من الليل ثم وضعت جنبي فأتاني ربي في أحسن صورة فحين وجد هذا لمعاذ كذلك صرفت الروايات التي فيها إلى معاذ فهذا تأويل هذا الحديث عند أهل العلم لا ما ذهبت إليه

أحاديث "رأيت ربي" إنما كانت في المنام

من الجنون والخرافات فزعمت أن الله بعث إلى النبي صورة في اليقظة كلمته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يارب غير أني أظنك لو دريت أنه يخرجك تأويلك إلى مثل هذه الضلالات لأمسكت عن كثير منها غير أنك تكلمت على حد الحوار أمناً من الجواب غارًا أن ينتقد عليك فعثمان بن سعيد قد ذكر ما ذكر عن العلماء أن هذا كان في المنام بالمدينة لم يكن يقظة مع تثبيته لهذه الأحاديث ولم يجعل ذلك الحديث في مكة لأنه كان بالمدينة في المنام إذ قد ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بفؤاده مرتين ويذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] وهذا إنما كان بمكة فحديث عكرمة ومسألة ابن عمر إما أن يكون من جنس حديث معاذ أم الطفيل كما تدل

مناقشة الأقوال في الرؤية

عليه رواية الأثرم عن أحمد وإما أن يكون من غير هذا الجنس مثل الرؤية التي أخبر ابن عباس أنها كانت بمكة وهذا قول طوائف من العلماء أيضًا وهذا لا يقوله من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه وإنما يقوله من يقول إنه إنما رآه بفؤاده والروايات الثابتة عن ابن عباس في رؤية محمد ربه إما مقيدة بالفؤاد وبالقلب كما روى ذلك مسلم في صحيحه وذهب إليه أحمد في رواية الأثرم وإما مطلقة ولم أجد في أحاديث عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بعينه إلا من طريق شاذة من رواية ضعيف لا يحتج بها منفردًا يناقضها من ذلك الوجه ما هو أثبت منها فكيف إذا خالف الروايات المشهورة كما رواه الخلال أنبأنا محمد بن عبد الله بن سليمان

الحضرمي حدثنا جمهور بن منصور حدثنا إسماعيل بن مجالد حدثنا مجالد عن الشعبي أن عبد الله بن عباس كان يقول إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده قوله مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) [النجم 17] مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] فسمع كعب الحبر قول ابن عباس فقال أشهد أن في التوراة إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فرآه محمد مرتين ولم يكلمه وكلمه موسى مرتين ولم يره وكان ابن عباس يقول التي في إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) [التكوير 1] إنما عنى بها جبريل إن محمدًا رآه كما رآه في صورته عند الله قد سد الأفق وبه عن

مجالد عن الشعبي عن علي أنه كان يقول كما قال ابن عباس فهذه الروايات لو كانت محفوظة عن مجالد لم تكن وحدها حجة فكيف وليست محفوظة عنه وقد خولف قال ابن خزيمة حدثني عمي قال حدثنا عبد الرزاق أبنا ابن عيينة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث قال اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس إنا بنوهاشم نزعم أو نقول إن محمدًا رأى ربه مرتين قال فكبر كعب حتى جاوبته الجبال فقال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه وكلمه موسى قال مجالد قال الشعبي فأخبرني مسروق أنه قال لعائشة أي أمتاه هل رأى محمد ربه قط قالت إنك لتقول قولاً إنه ليقف منه

شعري قال قلت رويدًا قال فقرأت عليها وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) إلى قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) [النجم 1-9] فقالت أين يذهب بك إنما رأى جبريل في صورته من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ومن حدثك أنه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى آخر السورة [لقمان 34] قال عبد الرزاق فذكرت هذا الحديث لمعمر فقال ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس قال أبو بكر بن خزيمة لو كنت ممن استحل الاحتجاج بخلاف أصلي واحتججت بمثل مجالد لاحتججت أن بني هاشم قاطبة قد خالفوا عائشة رضي الله عنها في هذه المسألة وأنهم جميعًا كانوا يثبتون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه مرتين فاتفاق بني هاشم عند من يجيز الاحتجاج بمثل مجالد أولى من انفراد عائشة بقول لم يتابعها عليه أحد من أصحاب

محمد يُعلم ولا امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا المبايعات قلت هذه الرواية الثابتة عن مجالد من رواية ابن عيينة عنه ليس فيها إلا أنه رآه مرتين كرواية غير مجالد وقول كعب في هذه الرواية إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه وكلمه موسى وذكر ذلك تصديقًا لقول ابن عباس دليل على أن هذه هي رؤية الفؤاد كما جاء مصرحًا به يبين ذلك أن الذي حضر كلام ابن عباس وكلام كعب ورواه لمجالد وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل أحد رجال بني هاشم وأعيانهم كان يقول ذلك كما رواه الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل

قال حدثنا حماد عن سالم أبي عبد الله عن عبد الله بن الحارث بن نوفل في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم تره عيناه وهذه الرواية من رواية ابن عيينة الإمام عن مجالد وقد بين فيها أيضًا أن الشعبي سمع ذلك من عبد الله بن الحارث فتبين أن الرواية الأولى مع ضعف رواتها مرسلة وأن هذه الرواية عن كعب كما رواه ابن خزيمة حدثنا هارون ين إسحاق حدثنا

عبده عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن كعب قال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين وكذلك ما رواه أبو حفص بن شاهين وذكره القاضي أبو يعلى عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بعينيه مرتين فهذا لم يذكر إسناده ولم يذكره

المعتمدون كابن خزيمة والخلال ونحوهما ممن جمع الآثار في هذا الباب بل قد روى الخلال حديثين من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده دون عينيه وذلك يعارض هذا يبين ذلك أن الروايات المحفوظة عن عكرمة والشعبي إما مقيدة بالفؤاد وإما مطلقة كما روى ابن خزيمة قال حدثنا الحسن ابن محمد الزعفراني قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل بن زكريا عن عاصم عن الشعبي عن

عكرمة جميعًا عن ابن عباس قال رأى محمد ربه ورواه بعضهم عن الشعبي وعكرمة جميعًا عن ابن عباس قال ابن خزيمة حدثنا عمي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] قال رآه بقلبه وقال الخلال حدثنا إبراهيم

التيمي حدثنا آدم قال حدثنا المبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) رأى محمد ربه بفؤاده وبه حدثنا المبارك عن الحسن مثله فإن قيل فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا

الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس والشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم وفي رواية عنه ليس برؤيا منام قيل ليس في هذا الخبر أنه رأى بعينه إلا ما أراه الله إياه والقرآن قد صرح بأنه أراه من آياته ما أراه لقوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء 1] وقال في النجم لَقَدْ

رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] يدل على ذلك أن الله أخبر أنه ما جعل هذه الرؤيا إلا فتنة للناس وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بها كان ذلك محنة لهم منهم من صدقه ومنهم من كذبه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه تلك الليلة وقد قال الإمام أبو بكر بن خزيمة بعد أن أثبت رؤية محمد ربع بقول ابن عباس وأبي ذر وأنس قال وقد اختلف عن ابن عباس في تأويل قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فروى بعضهم عنه أنه كان يقول رآه بفؤاده وذكر إسناده ثم قال احتج بعض أصحابنا بهذا الخبر أن ابن عباس وأبا ذر كانا يتأولان هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده لقوله تعالى بعد ذكر ما بينا فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 10-11] وتأول

قوله تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) إلى قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 8-10] أن النبي صلى الله عليه وسلم دنا من خالقه قاب قوسين أو أدنى وأن الله أوحى إلى النبي ما أوحى وأن فؤاد النبي لم يكذب ما رآى يَعنون رؤيته خالقه جل وهلا قال أبوبكر وليس هذا التأويل الذي تأولوه لهذه الآية بالبين وفيه نظر لأن الله تعالى إنما أخبر في هذه الآية أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يُعلم الله في هذه الآية أنه رأى ربه عز وجل وآيات ربنا ليس هو ربنا قال واحتج آخرون من أصحابنا في الرؤية بحديث ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به

قال وليس الخبر أيضًا بالبين إن ابن عباس أراد بقوله رؤيا عين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه فأما خبر قتادة والحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وخبر عبد الله بن أبي سلمة عن ابن عباس فبين واضح أن ابن عباس كان يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه يعني حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والتكليم لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم

وقد احتج أبو إسماعيل الأنصاري الهروي شيخ الإسلام في كتاب الأربعين فقال باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج بعينيه رؤية يقظة واحتج بحديث ابن عباس هذا مع أنه رواه بأسانيد أكثرها من كتاب ابن خزيمة ولا حجة فيه على ذلك كما تقدم والقاضي أبو يعلى ذكر ما تقدم نقله عنه أنه قال اختلفت الرواية عن أحمد في رؤية محمد ربه هل رآه بعينه أو بفؤاده أو يقال رآه ولا يُقيد على ثلاث روايات قلت وقد ذكرنا ألفاظ أحمد التي ذكرها وسقناها بتمامها وتبين بذلك أن كلام أحمد ليس بمختلف بل كلام

أحمد نظير كلام ابن عباس رضي الله عنهما تارة يُقيد الرؤية بالقلب وتارة يطلقها ثم قال القاضي والرواية الأولى أصح وأنه رآه في تلك الليلة بعينيه وهذه مسألة وقعت في عصر الصحابة فكان ابن عباس وأنس وغيرهما يثبتون رؤيته في ليلة المعراج وكانت عائشة تنكر رؤيته بعينه في تلك الليلة قال والدلالة على إثبات رؤيته تعالى قوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] فوجه الدلالة أنه تعالى قسَّم تكليمه لخلقه على ثلاثة أوجه أحدها بإنفاذ الرسل وهو كلامع لسائر الأنبياء والمكلفين والثاني من وراء حجاب وهو تكليمه لموسى وهذا الكلام بلا واسطة لأنه لو كان بواسطة دخل تحت القسم الأول الذي ذكرنا وهو إنفاذ الرسل والثالث من غير رسول ولا حجاب وهو كلامه لنبينا في ليلة الإسراء إذ لو كان من وراء حجاب أو كان رسولاً دخل تحت القسمين ولم يكن للتقسيم فائدة فثبت أنه كان كلامه له عن رؤية

قلت هذه الحجة أخذها القاضي أبو يعلى من أبي الحسن الأشعري ونحوه فإنهم احتجوا بها على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذه حجة داحضة فإن هذا خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون في تفسير الآية الكريمة وأيضًا فإن الله أخبر بأنه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ على هذه الوجوه الثلاثة فلو كان المراد بذلك أنه يكلم تارة مع المعاينة وتارة مع الاحتجاب وتارة بالمراسلة لم يكن لهذا الحصر معنى ولم يكن فرق بين الله تعالى وبين غيره في ذلك ولم يكن نفى بهذا الحصر شيئًا فإن المكلم من البشر إمَّا أن يعاينه المخاطب أو لا يعاينه وإذا لم يعاينه فإما أن يخاطبه بنفسه أو رسوله فلو كان المراد ما ذكر لزم هذه المحاذير وأيضًا فإن وقوله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى 51] دليل على أن القسم الأول هو الوحي الذي يحيه إلى قلوب الأنبياء بخلاف التكليم من وراء حجاب فإنه يكون بصوت مسموع كما خاطب موسى عليه السلام فمن سوّى بين تكليم الوحي وتكليمه من وراء حجاب فجعل الجميع

بصوت حتى جعل الأول تقترن به الرؤية فهو بمنزلة من سوّى بينهما حتى جعل الجميع بلا صوت وأيضًا فإن تكليمه وحيًا دون تكليمه لموسى عليه السلام من وراء حجاب كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فلو كان ذلك معاينة لكان أرفع منه وهذا لم يقله أحد من السلف ومن زعم ذلك من أهل الإثبات فهو نظير من زعم ذلك من الجهمية الاتحادية وغيرهم ممن يزعم أن الله تعالى يخاطبهم وحيًا في قلوبهم أعظم مما خاطب موسى بن عمران من وراء حجاب الحروف والأصوات والشجرة ونحو ذلك وكل هذا باطل وتحريف وعائشة احتجت بهذه الآية على منع رؤية محمد ربه ولم يقل

لها أحد إن الآية تثبت رؤية محمد بل احتاجوا إلى الجواب ثم قال القاضي ويدل عليه قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] أي كلمه بما كلمه بلا واسطة ولا ترجمان مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] فالظاهر يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الله تعالى بعيني رأسه ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لم يكذب فؤاده ما رآه بعيني رأسه وهذا قد احتج به غير القاضي لكن يقال قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] لم يذكر المرئي وقد قال بعده لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] وحديث ابن مسعود وعائشة في الصحيحين يخبرُ فيه برؤية جبريل قال القاضي ويدل عليه ما حدثناه أبو القاسم عبد العزيز

حدثنا على بن عمر بن على أبو الحسن التمار حدثنا أبو بكر عمر بن أحمد بن أبي نعمر الصفّار حدثنا يوسف بن أحمد ابن حرب بن الحكم الأشعري البصري حدثنا روح بن عبادة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) قال رأيت ربي عز وجل مشافهة لاشك فيه وفي قوله عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) قال رأيته عند سدرة المنتهى حتى تبين له نور وجهه قلت هذا الحديث كذب موضع على رسول الله

صلى الله عليه وسلم بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والقاضي لم يعلم أنه موضوع ورواه له أبو القاسم الأزجي فيما خرجه في الصفات وأبو القاسم ثقة لكن الكذب فيه ممن فوقه ولم يحدث بهذا روح بن عبادة ولا أبو الزبير أصلاً وأهل الحديث يعلمون ذلك ولا يصلح أن يكون هذا اللفظ من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المشافهة إنما تُقال في المخاطبة لا في الرؤية فيقال يخاطبه مشافهة كما قال من قال من السلف كلم موسى تكليمًا أي مشافهة لايقال في الرؤية مشافهة فإن المشافهة في الأصل مفاعلة من الشفة التي هي فينا محل الكلام وأما الرؤية فيقال فيها مواجهة ومعاينة فيشتق لها من الوجه والعين الذي تكون به الرؤية وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود في تفسير هذه الآية غير هذا ففي صحيح مسلم عن مسروق قال كنت متكئًا عند عائشة

رضي الله عنها فقالت ياأبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئًا فجلست فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رآه منهبطًا من السماء عظم خلقه ما بين السماء والأرض الحديث وفي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود في قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح

ثم قال القاضي وروى أبو بكر الخلال عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال وهي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وهذا الحديث صحيح رواه البخاري وغيره كما تقدم لكنه لا يدل على رؤية الرّب تعالى ولهذا لم يذكره الخلال في أحاديث رؤية محمد ربَّه إنما ذكره قبل ذلك في أحاديث الإسراء فإنَّه قال تفريع ما ردّت الجهمية الضُّلال من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فضائل ذكر الإسراء والرؤية وغير ذلك ثم قال ذكر الإسراء أخبرنا المرّوذي قال قلت لأبي عبد الله فحكى عن موسى عن عقبة أنه قال إنَّ أحاديث الإسراء منام فقال أبوعبد الله هذا كلام الجهمية وجمع أحاديث

الإسراء وأعطانيها وقال منام الأنبياء وحي وقرأ عليه سفيان قال عمرو سمعت عبيد بن عمير يقول رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني حمدويه الهمداني حدثنا محمد بن أبي عبد الله الهمداني حدثنا أبوبكر بن موسى عن يعقوب بن يختان قال سألت يعني أبا عبد الله عن

المعراج فقال رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني عليّ بن عيسى أنَّ حنبلاً حدثهم قال سمعت أبا عبد الله وسألته فقال الجنَّة والنَّار قد خلقتا وفي هذا حجة أن رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي العين وليس حلمهم كسائر الأحلام قال الخلال أخبرنا الحسن بن أحمد الكرماني حدثنا أبوبكر قال حدثنا أبوأسامة عن

سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف 4] قال كانت الرؤيا فيهم وحيًا حدثنا الحسن بن سلام حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن سماك عن سعيد عن ابن عباس في قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا قال كانت رؤيا وحياً أخبرنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن

عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وذِكرُ الخلاّل لهذا مع هذه الأحاديث قد يقال إنما ذكره لقول أحمد رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي عين وليس حلمهم كسائر الأحلام وإن قوله رأي عين لاينفي أن يكون في المنام لأنَّ في الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه ولهذا كان لا يتوضأ إذا نام

وكذلك فعل أبوبكر بن أبي عاصم في كتاب السنة له فإنه قال باب ما ذكر في رؤية نبينا ربه تبارك وتعالى في منامه ثم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي أنها عنده رؤية عين وأنها في المنام ثمَّ روى حديث سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت رؤيا الأنبياء وحيًا وروى عن مصعب بن سعد عن

معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق قال الخلال حدثنا المرّوذي قال قُرئ على أبي عبد الله عبد الله بن الوليد حدثنا سفيان في قوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 1] قال أسري به من شِعب أبي طالب ثم روى الخلال من

غير وجه عن سعيد عن قتادة عن أنس قال لمّا أُتيَ النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق استصعب عليه فقال له جبريل ما ركبك آدميّ أكرم على الله تعالى منه فارفضّ عرقًا وأقرّ ثم روى الخلال حديث أبي عمرو وعن أبي سعيد قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فقلنا حدثنا بليلة أسري بك فقال أُتِيتُ بدابَّةٍ هي أشبه الدوابّ بالبغل غير

أنها مضطربة الأذنين يقال لها البراق وهو الذي يُحمَلُ عليه الأنبياء وهو يضع حافره حيث يبلغ طرفه وحُملتُ عليه من مسجد الحرام متوجهًا إلى المسجد الأقصى قال الخلال وذكر الحديث فهذا جملة ما ذكره الخلال ومقصوده به تثبيت الإسراء وأنَّه حق وأنَّه من صغّر أمره بقوله هو منام وجعله بذلك من جنس منامات الناس فهو جهميٌّ ضالٌّ ثم قال الخلال بعد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم رأيتُ ربي فذكر أحاديث الرؤية ولم يذكر فيها حديث ابن عباس المتقدم في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فدل الخلال بذلك على أنَّ حديث ابن عباس هذا لم يقصد به نفس رؤية محمد ربه وإنما هو ما رآه ليلة المعراج مطلقًا فالمطلق يحتمل رؤية محمدٍ ربه لكن فرق بين ما يحتمله اللفظ وبين ما يدلّ عليه

وقول الإمام أحمد هذا قول الجهمية لأنّ أحاديث المعراج تدلُّ على أنَّ الله فوق وغير ذلك مما تنكره الجهمية ويدفعون ذلك بأنَّ أحاديث المعراج منام فقال أحمد منام الأنبياء وحي وذلك يفيد أن ماذكر فيه منها أنه في المنام كحديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس وكذلك لو قدر أن جميعها منام فإن ذلك لا يوجب أن يُشبه برؤيا غير النبي صلى الله عليه وسلم لأن رؤياه وحي وهو تنام عينه ولاينام قلبه كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث شريك فإن لفظه الذي في الصحيح عن أنس قال ليلة أسري برسول الله

صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو فقال أوسطهم هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولاينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولاتنام قلوبهم وإذا كان كذلك كان هذا بمنزلة المغمض العين إذا تجلى لقلبه حقائق الأسباب وعرج بروحه إلى السماء وعاينت الأمور فهذا ليس من جنس منامات الناس وهو يقظة لا منام قال القاضي وروى أبوالقاسم عبيد الله بن أحمد بن

عثمان فيما خرجه من أحاديث الصفات بإسناده عن ابن عباس قال كانت الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين قلت وهذا صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدم قال وروى أبو حفص بن شاهين في سننه بإسناده عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بفؤاده مرتين وهو الذي اتبعه أحمد واحتج به عن ابن عباس كما تقدم

وأما هذا التقييد فمن وضع بعض المتأخرين قال القاضي وروى أبو حفص بإسناده عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بفؤاده مرتين وروى أيضًا بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بقلبه قال القاضي وهذا الاختلاف عنه ليس براجع إلى ليلة المعراج وإنما هو راجع إلى رؤيته في المنام في غير تلك الليلة رآه بقلبه على ما نبينه فيما بعد قلت هذه الألفاظ المتأخرة ثابتة في الصحيح عن ابن عباس وهو ذكرها في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] ولم يقل ابن عباس إن الرؤية بفؤاده كانت في المنام بل تكون في اليقظة

ثم قال القاضي وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة لأن قول ابن عباس يطابق قول النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة ولأنه مثبت والمثبت أولى من النافي ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلاّ عن توقيف إذ لا مجال للقياس في ذلك قلت أما ترجيحه قول ابن عباس بأنه مثبت وبأن ذلك لا يقال إلاّ عن توقيف فهو من الترجيح القديم الذي يحتج به مثبت رؤية محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة وسائر أهل الحديث ولا ريب أن المثبت أولى من النافي فـ يـ ما كان من باب الرواية كما قدم الناس رواية بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت على قول أسامة

إنه لم يصل وقد قالوا هذا لا يقال بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فيكون من باب الرواية لكن قد يقال ونفي ذلك أيضًا لايؤخذ بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فإن كون رؤية محمد ربه وقعت أو لم تقع هو من الأخبار التي لا تُعلم بمجرد القياس وعائشة رضي الله عنها لما نفت ذلك لم تستند مع استعظام ذلك أن تكون في الدنيا إلاّ إلى ما تأولت من الآيتين وابن عباس ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فكلامه أيضًا كان في تأويل القرآن وأما الأحاديث التي رواها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي فقد ذكر القاضي ذلك لما ذكر تلك الأحاديث وأما ما احتج به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة فإنه لم يعتمد في ذلك إلاّ على الحديث الذي ذكر هذا كله في الكلام عليه وهو

الحديث الذي سنذكره إن شاء الله مما رواه الخلال عن أبي ثعلبة عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قال فوضه يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ العلى وذكر الخبر قال القاضي أعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصول أحدها في إثبات ليلة الإسراء وصحتها والثاني في إثبات رؤيته لله تعالى تلك الليلة والثالث في وضع الكف بين كتفيه الرابع في إطلاق تسمية الصورة عليه والخامس قوله لا أدري لما سأله فيم يختصم الملأ الأعلى ثم تكلم على ذلك قلت الإسراء وإن كان حقًّا ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم قد جاءت بها آثار ثابتة وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه بالمدينة

في المنام لكن هذا الحديث بهذا اللفظ المذكور في ليلة الإسراء من الموضوعات المكذوبات كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وإنما ذكر أن ربه أتاه في المنام وقال له هذا ووضع يده بين كتفيه بالمدينة في منامه ولهذا لم يحتج أحد من علماء الحديث بهذا بل رووه للاحتجاج ولم يثبتـ ـه أحد في الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث كما بيناه فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلاّ قول ابن عباس وآية النجم وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه فأبلغ مايقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين لوجوه أحدها أن يقال هذا المفهوم من مطلق الرؤية والثاني لأن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه

فد أعظم على الله الفرية وتأولت قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا [الشورى 51] وذلك إنما ينفي رؤية العين فعلم أنها فهمت من قول من قال إن محمدًا رأى ربه رؤية العين الثالث أن في حديث عكرمة أليس يقول الرب تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لايدركه شيء ومعلوم أن هذه الآية إنما يعارض بها من يثبت رؤية العين ولأن الجواب بقول ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء يقتضي أن الإدراك يحصل في غير هذه الحال وان ما أخبر به من رؤيته هو من هذا الإدراك الذي هو رؤية البصر وأن البصر أدركه لكن لم يدركه في نوره الذي هو نوره الذي إذا تجلى فيه لم يدركه شيء وفي هذا الخبر من رواية ابن أبي داود أنه سُئل ابن

عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قال وكيف رآه قال في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ كأن قدميه في خضرة فقلت أنا لابن عباس أليس في قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وهذا يدل على أنه رآه وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم فيقتضي أنها رؤية عين كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء الوجه الرابع أن في حديث عبد الله بن أبي سلمة أن عبد الله بن عمر أرسل إلى عبد الله بن عباس يسأله هل رأى محمد ربه فأرسل إليه عبد الله بن عباس أي نعم فرد عليه

عبد الله بن عمر رسوله أن كيف رآه فأرسل إليه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب تحمله أربعة من الملائكة كما تقدم وكون حملة العرش على هذه الصورة أربعة هو كذلك الوجه الخامس أنه ذكر أن الله اصطفى محمدًا بالرؤية كما اصطفى موسى بالتكليم ومن المعلوم أن رؤية القلب مشتركة لا تختص بـ محمد كما أن الإيحاء لا يختص بـ موسى ولا بد أن يثبت لمحمد من الرؤية على حديث ابن عباس مالم يثبت لغيره كما ثبت لموسى من التكليم كذلك وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال

باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت وذكر اختصاص الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية كما خص إبراهيم عليه السلام بالخُلَّة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعًا وكما خص نبيه موسى بالكلام خصوصية خصه الله بها من بين جميع الرسل وخص الله كل واحد منهم بفضيلة وبدرجة سنية كرمًا منه وجودًا كما أخبرنا عز وجل في محكم تنزيله في قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة 253] ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم

والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب وذكر احتجاج بعض أصحابه بما روي عن أبي ذر وابن عباس في تفسير قوله في سورة النجم واحتجاج بعضهم بقول ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] أنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال وليس الخبر بالبين أيضًا إن ابن عباس أراد بقوله رؤيا عين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربع بعينه لست أستحل أن أحتج

بالتمويه ولا أستجيز أن أموه على مقتبسي العلم فأما خبر قتادة والحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وخبر عبد الله بن أبي سلمة عن ابن عباس فبين واضح أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق وأنها تفيد رؤية العين لله التي ينزل عليها قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] ويدل على ذلك حديث حماد ابن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي وحديث الحكم عن عكرمة في حكم المرفوع أيضًا لأنه ذكر خبر الرؤية على وجه لا يعلم بالرأي ولا بتأويل القرآن وكذلك حديث ابن أبي سلمة عن ابن عباس أخبر فيه بأمور لاتُعلم من تفسير القرآن وعلى هذا فيكون خبر عكرمة عن ابن عباس ونحوه روية عين كما يذهب إلى ذلك طوائف من أهل الحديث ومع هذا فقد روي بهذا الإسناد بعينه عن عكرمة ما يبين أن

رؤية الآخرة على وجه آخر وقال في هذه الرواية ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء وروى عبد الرحمن حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة في قوله عزوجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) [القيامة 22-23] قال مسرورة فرحة إلى ربها ناظرة قال عكرمة انظر ماذا أعطى الله عبده من النور

في عينيه أن لو جعل الله جميع من خلق الله من الإنس والجن والدواب والطير وكل شيء من خلق الله فجعل نور أعينهم في عين عبد من عباده ثم كشف عن الشمس سترًا واحدًا ودونها سبعون سترًا ما قدر أن ينظر إلى الشمس والشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش والعرش جزءًا من سبعين جزءًا من نور الستر فانظر ماذا أعطى الله تعالى عبده من النور في عينيه أن النظر إلى وجه ربه الكريم عيانًا لكن قال الحافظ أبو عبد الله بن منده الوجه الرابع ما رواه الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة حدثنا فضل بن

سهل حدثنا عمرو بن طلحة القناد حدثنا أسباط عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) قال إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل فقال له رجل أليس قد قال لاتدكه الأبصار وهو يدرك الأبصار فقال له عكرمة أليس ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى وهذا مروي من وجوه أخرى فلهذا ترجم أبو بكر بن أبي عاصم باب ما ذكر في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه

فروى حديث شعبة عن قتادة عن عكرمة عن أنس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه تبارك وتعالى وروى حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس هذا وروي حديث عاصم عن الشعبي وعكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه وروى حديث عكرمة عن ابن عباس أن الله اصطفى إبراهيم بالخلة واصطفى

موسى بالكلام واصطفى محمدًا بالرؤية وروى حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس الذي فيه ذلك إذا تجلى بنوره واختصره وقال فيه كلام يعني كلامًا لم يذكره وروى من حديث عن جابر بن زيد عن عطاء بن أبي رباح عن عكرمة عن ابن عباس في قوله ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى

قال هو محمد دنا فتدلى إلى ربه عز وجل وروى حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة وروى حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن شيء قال عن أي شيء كنت تسأله قال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال سألته فقال نور أني أراه وحديث هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية

لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم إنه ذكر رؤية الله في الآخرة ثم ذكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام فعلم أن أحاديث ابن عباس عنده في اليقظة لكن لم يقل بعينيه فاحتجاج المحتج بهذه الآية وجوابه بقوله ألست ترى السماء قال بلى قال فكلها ترى دليل على أنه أثبت رؤية العين وقد يقال بل أثبت رؤية القلب ورؤية النبي بقلبه كرؤية العين كما تقدم ذكر هذا من كلام الإمام أحمد وغيره فلم يكن كلام ابن عباس مختلفًا وتكون هي رؤية يقظة بقلبه والذي يدل على الجزم بهذا الوجه أن هذه من رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس وقد روى ابن خزيمة والطبراني وغيرهما م حديث إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11]

قال رآه بقلبه قال ابن خزيمة حدثنا عمي حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل وقال الطبراني حدثنا يوسف القاضي حدثنا محمد بن كثير حدثنا إسرائيل فذكره يبين ذلك ما رواه الترمذي في جامعه في تفسير سورة والنجم فروى حديث ابن عيينة عن مجالد عن الشعبي قال لقي ابن عباس كعبًا فعرفه فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال فقال ابن عباس إنا بني هاشم

نزعم أنَّ محمدًا رأى ربه فقال كعب إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين قال مسروق فدخلت على عائشة فقلت هل رأى محمد ربه فقالت لقد قفَّ شعري مما قلت قلت رويدًا ثم قرأت لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) قالت أين يُذهب بك إنما هو جبريل من أخبرك أنَّ محمدًا رأى ربه تعالى أو كتم شيئًا مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ الآية [لقمان 34] فقد أعظم على الله الفرية ولكنه رأى جبريل لم يره على صورته إلاّ مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سدّ الأفق

قال أبو عيسى وقد روى داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الحديث وحديث داود أنص من حديث مجالد وروى الترمذي مثل ذلك عن الشيباني قال وسألت زرّ بن حبيش عن قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فـ ـقال أخبرني ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب

صحيح ثُمَّ روى الترمذي فقال حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان البصري حدثنا يحي بن كثير العنبري حدثنا سلم بن جعفر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه قلت أليس الله يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال ويحك ذاك نوره إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وقد رأى محمد ربه مرتين قال أبوعيسى هذا حديث حسن

غريب من هذا الوجه قلت وقد روى أبوبكر بن أبي عاصم هذا الحديث في كتاب السنة عن هذا الشيخ كما رواه الترمذي عنه إلى آخره قال وقد رأى محمد ربه مرتين وفيه كلام أراد ابن أبي عاصم أنَّ الحديث فيه كلام آخر وهذا هو الكلام الذي تقدمت الإشارة إليه أنه قال رآه دونه ستر من لؤلؤ كما ذكرنا فإن هذه الزيادة كانوا يروونها وتارة يتركونها كما تركها ابن خزيمة والترمذي وابن أبي عاصم وهكذا قال ابن أبي عاصم لما روى حديث شاذان فقال حدثنا

أحمد بن محمد المروذي حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي عز وجل قال ثمَّ ذكر كلامًا وقد تقدم ذكر هذا الكلام من رواية غيره وروى هذا الحديث من الوجه الآخر الذي ذكره أحمد فقال حدثنا فضل بن سهل حدثنا عفان قال حدثنا عبد الصمد بن كيسان عن

حماد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي عز وجل لم يزد ابن أبي عاصم على هذا والحديث معروف بطوله والمقصود هنا أن قول ابن عباس رآه مرتين أجاب فيه بقوله ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء لما سئل عن قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وهذا يقتضي أنَّ المرتين رؤية عين مع أنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه رآه بفؤاده مرتين ذكره أيضًا في تفسير الآية وهذا يقوي أن تكون رؤية الفؤاد عنده رؤية العين للأنبياء خصوصًا لا لغيرهم وحين عورض بهذه الآية أجاب عنها وعلى هذا فتتفق أقوال ابن عباس وهو أشبه ثم روى الترمذي حديث محمد بن عمرو عن أبي

سلمة عن ابن عباس في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) [النجم 13-15] فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 9-10] قال ابن عباس قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أبوعيسى هذا حديث حسن ثم روى حديث يزيد بن إبراهيم التستري عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذرّ لو أدركت النبي صلى الله عليه وسلم سألته فقال عما كنت تسأله قال كنت أسأله هل رأى محمد ربه فقال قد سألته فقال نُورٌ أنَّى أرَاهُ قال أبو عيسى هذا حديث حسن ثُمَّ روى من حديث

إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض قال أبوعيسى هذا حديث حسن صحيح قلت فأمَّا إثباته الرؤية بسورة والنجم فقد نوزع فيه

أيضًا وأما أبوذر فقد تقدم قوله رآه بفؤاده ولم يره بعينه وأمَّا أنس بن مالك فقد روى من حديث شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه ورواه ابن خزيمة فقال حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز المقوم حدثنا أبو بحر البكراوي عبد الرحمن بن عثمان عن شعبة وكذلك رواه ابن أبي عاصم حدثنا عمرو بن عيسى الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن محمدًا قد رأى ربه تبارك وتعالى وكذلك رواه الطبراني فقال حدثنا زكريا السَّاجي حدثنا عمرو بن عيسى

الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه فمداره على أبي بحر عن شعبة وفي مفرده نظر يحتمل أن يكون اشتبه عليه ذلك ببعض أحاديث قتادة في هذا الباب فإنه روى عن عكرمة وغيره ذكر الرؤية وإلاَّ فانفراده من بين أصحاب شعبة ريبة تُوجبُ نظرًا وقد روى الطبراني في السنة في باب رؤية محمد ربه في قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا

الحارث بن عبيد أبوقدامة الإيادي عن أبي عمران الجَوني عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت النور الأعظم ولط دوني الحجاب رفرفة الدُّر والياقوت فأوحى الله إليَّ ما شاء أن يوحي قال حدثنا يوسف القاضي حدثنا المقدمي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس وأبي ذر في

قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] قالا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإن قيل فقد روى الخلال حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا أبو داود المباركي حدثنا حماد بن دليل عن سفيان بن سعيد عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب

أو عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كنت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا أدري قال فوضع يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في المسرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال وما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلاة بالليل والناس نيام قال

قل قلت وما أقول قال قل اللهم إني أسألك عملاً بالحسنات وترك المنكرات وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم فاقبضني إليك غير مفتون وقد ذكر القاضي أبو يعلى هذا الحديث في كتاب إبطال التأويل أو ل ما ذكر من أحاديث هذا الجنس الذي فيه رؤيته في أحسن صورة وأثبت ذلك يقظة وتكلم عليه كما تكلم على غيره من الأخبار فأبطل التأويل إذ المتأولون كالمريسي وذويه وابن فورك ونحوه يجعلون هذا في اليقظة ويتأولونه كما

الرواية بزيادة "ليلة أسري بي" كذب موضوعة ومن أبطل الباطل

فعله المؤسس قيل هذا الحديث كذب موضوع على هذا الوجه بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث ولهذا لم يذكره الإمام أحمد فيما ذكره من أخبار هذا الباب ولا أحد من أصحابه الذين أخذوا عنه لا فيما يصححون ولا فيما عللوه وكذلك ابن خزيمة لم يذكره لا فيما صححه ولا فيما علله ولا رووه الأئمة الذين جمعوا في كتب السنة أحاديث الباب كابن أبي عاصم والطبراني وابن منده وغيرهم لأنه من الموضوعات التي لا يجوز ذكرها لمن علم بها إلاّ أن يبين أنها موضوعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وهذا الحديث من أبطل الباطل عن سفيان الثوري

والحسن بن صالح بن حي لم يأت به عنهما أحد من أصحابهما مع كثرتهم واشتهارهم وأيضًا فأحاديث المعراج قد رواها أهل الصحيح من حديث مالك بن صعصعة وأبي ذر وأنس وابن عباس وأبي حبة الأنصاري ورواه أهل السنن والمسانيد من وجوه

إبطال المؤلف لهذه الرواية من جهة المعنى

أخرى وليس في شيء منها هذا مع توفر الهمم والدواعي على ضبط ذلك لو كان له أصل وهذا التأويل يوجب العلم ببطلان هذا وأيضًا فقوله فيه نقل الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة والمعراج كان بمكة وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس ولم تكن جمعة فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن أول جمعة كانت في الإسلام بعد جمعة بالمدينة جمعت بالبحرين بجواثاء قرية من قرى البحرين وهذا من العلم المتواتر الذي لا يتنازع فيه أهل العلم وأما ما يوجد في كتب

أخرى ويوجد عند كثير من الشيوخ والعامة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في بعض سكك المدينة أو خارج مكة أو أنه ينزل عشية عرفة فيعانق المشاة ويصافح الركبان ونحو هذه الأحاديث التي فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربع في اليقظة في الأرض فكلها من أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم فليعلم ذلك والخلال روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه من وجه آخر هو الصواب لأنه جمع الطرق فقال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله

ابن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك ربي وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وذكر الحديث قال الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا حماد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ففي هذه الرواية من رواية مؤمل عن حماد بن دليل عن الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم جعله مرسلاً وجعله مثل

رواية أخرى منكرة

حديث أبي هريرة وحديث أبي هريرة يوافق سائر الأحاديث أن ذلك كان في المنام كما ذكره في هذه الراوية ولكن إنما اعتقد صحة هذا من لم يكن له بالحديث وألفاظه وروايته خيرة تامة من جنس الفقهاء وأهل الكلام والصوفية ونحوهم فلهذا ذكروه من بين متأول ومن بين راد للتأويل ثم المثبتة تزيد في الأحاديث لفظًا ومعنى فيثبتون بعض الأحاديث الموضوعة صفات ويجعلون بعض الظواهر صفات ولا يكون كذلك والنافية تنقض الأحاديث لفظًا ومعنًى فيكذبون بالحق ويحرفون الكلم عن مواضعه ومن هذا ما رواه الخلال حدثنا عمرو بن إسحق حدثنا أبو مسلم الحضرمي حدثنا أبو معاوية وهب بن عمرو الأحموسي عن أبي عبد الرحمن عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أسري بي إلى السماء فرأيت الرحمن

الأعلى بقلبي في خلق شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت إلهي أن يكرمني برؤيته فإذا هو كأنه عروس حين كُشفت عن حجلته مستويًا على عرشه في وقاره وعزه ومجده وعُلوِّه ولم يؤذن لي في غير ذلك من صفته لكم سبحانه في جلاله وكريم فعاله في مكانه العلي نوره المتعالي وهذه الألفاظ ينكر أهل المعرفة بالحديث أن تكون من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا الحديث يبين أن حديث عكرمة المشهور كان بفؤاده كما في هذا ويشبه هذا ما رواه الخلال أيضًا قال حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العبدي حدثنا أبي حدثنا سفيان عن جويبر عن

الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به قال انتهيت على نهر من نور لهب النار قال فجعلت أهال قال وجعل جبريل يقول يامحمد ادع الله بالتثبيت والتأييد قال فجعلت أدعو بالتثبيت والتأييد فذكر أنها دون العرش حتى انتهيت إلى العرش وأمسك جبريل عني قال فلما انتهينا إلى الله ألقيت على الوسنة قال وعاينت بقلبي جلاله قال فكان ابن عباس يقول رآه بفؤاده ولم تر هـ عيناه ولكن قد يكون أصل الحديث أنهما حدثا عن ابن عباس محفوظًا وزيد فيه زيادات كما جرت به عادة كثير من هؤلاء

تعقيبات المؤلف على بعض الروايات

المصنفين فيكون هذا موافقا لأن حديث قتادة والحكم عن عكرمة وحديث سلمة بن عمرو أنه كان ليلة المعراج وأما رواية الترمذي للأحاديث المتقدمة فالصواب أنها ثابتة كما عليه أئمة الحديث ولذلك احتج بها أحمد وقال يقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي فأنكر على من رد موجبها وقد ثبت حديث عكرمة عن ابن عباس وهو أسدُّها وذكر أن العلماء تلقته بالقبول وقال حدث به فقد حَدَّثَ به العلماء فأما قوله في رواية الأثرم يُضطربُ في إسناده وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه فهذا كلام صحيح فإنهم اضطربوا في إسناده بلا ريب لكن بم يقل إن هذا يوجب ضعف متنه ولا قال إن متنه غير ثابت بل مثل هذا الاضطراب يوجد في أحاديث كثيرة وهي ثابتة وهذه الطرق مع ما فيها من الاضطراب لمن يتدبر الحديث ويحسن معرفته يدل دلالة واضحة على أن الحديث محفوظ

صحيح الأصل لاريب في ذلك بل قد يوجب له القطع بذلك كما نبهنا عليه أولاً فإنه قد ثبت أنه حدث به عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وأخبره يزيد بن يزيد وأبو قلابة والأوزاعي عن خالد بن اللجلاج وكل هؤلاء ممن الثقات المشاهير وهذا يثبت رواية خالد له لكن أحدهم قال عن ابن عباس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن ابن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي ثبوت إحدى الروايتين دون الأخرى إذ لم يختلفا في متنه وإنما اختلفا في صفة الإسناد فقد يقال الثانية أصح لأن ابن عائش ليس ممن اتفق على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن إحدى الروايتين فيها زيادة والزيادة من الثقة مقبولة وقد يقال الأولى أصح لأن رواتها عن خالد أكثر وقد

رواه كذلك الأوزاعي وغيره كما سيأتي إن شاء الله والأشبه أن الاضطراب في هذه الرواية وقع من خالد نفسه وأنه كان لا يذكر في أكثر الروايات إلاّ ابن عائش ولهذا لم يذكر أبو قلابة عنه إلاَّ ما يشتبه بابن عائش وبالجملة فأيّ الروايتين كانت هي المحفوظة صحَّ الحديث إذ تعارضهما إمَّا أن يوجب صحَّة إحداهما أو يوجب الجمع بينهما وعلى كل تقدير فالحديث محفوظ فأمَّا طرحهما جميعًا فإنَّما يكون إذا تعارض متنان متناقضان وكذلك قول أبي قلابة عن ابن عباس إمّا أن يكون محفوظًا أو مُصَحَّفًا وعلى التقديرين لا يقدح في متن الحديث بل يؤيده ويثبته سواء كان محفوظًا أو مُصحَّفًا ورواية يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم عن ابن عائش لاتخالف رواية خالد بن اللجلاج عنه بل توافقه وتعضده لأنّ رواية خالد تدلُّ على أنه كان لا يستوفي إسناده بل تارة يرسله وتارة يذكر الصاحب فهذه الرواية ذكرت ما ذكروه واستوفت الإسناد والمتن وأمّا ما ذكره ابن خزيمة

من كون يحيى مُدلِّسًا لم يذكر السَّماع فهذا لا يضرُّ هنا لأنّ غاية ما فيه أن يكون أخذه من كتاب زيد بن سلاَّم كما حُكي عنه أنَّه كان يُحدّث من كتاب أبي سلاّم إما لمعرفته بخطّه وإمَّا لأن الذي أعطاه قال له هذا خطه وهذا ممّا يزيد الحديث قوة حيث كان مكتوبًا ولهذا كان إسناده ومتنه تامًّا في هذه الطريق بحمله دون الأخرى والاحتجاج بالكتاب في مثل هذا جائز كالاحتجاج بصحيفة عمرو بن حزم وصحيفة عبد الله بن عمرو التي رواها عمرو بن شعيب كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم

يكتب كتبه إلى النواحي فتقوم الحجة بذلك وإن لم يكن هذا حجة فمن المعلوم أن هذا الطريق يبيِّن أن الحديث عن ابن عائش إذ مثل هذه الطريق إذا ضُمت إلى طريق خالد بن اللجلاج كان أقل أحوال الحديث أن يكون حسنًا إذ رُوي من طريقين مختلفين ليس فيهما متهم بالكذب بل هذا يُوجب العلم عند كثير من الناس ولهذا كان الأئمة يكتبون الشواهد والاعتبارات ما لايُحتج به منفردًا والذي ذكر ابن خزيمة من أنه لم يثبت طريق معين من هذه الطرق هذا فيه نزاع بين أهل الحديث لكن إذا ضُمت بعضها إلى بعض صدَّق بعضها بعضًا فهذا مـ ـما لا يتنازعون فيه لكن ابن خزيمة جرى على عادته أنه لا يحتج إلا ب إسنادٍ يكون وحده ثابتًا فإنَّه كثيرًا ما يُدخل في الباب الذي يحتجُّ له من الشواهد والاعتبارات أشياء فلا يحتج بها فما قاله لا ينافي ما اتفق عليه أهل العلم فثبت

صحَّة الاحتجاج به من طريقين أحدهما من جمع الطرق لكن ابن خزيمة لم يسلك هذا والثاني من جهة ثبوت الاحتجاج بالكتاب لكن ابن خزيمة لم يذهب إلى هذا ومما يؤيد هذا أنَّ المتن نفسه قد رُوي من وجوه أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ثوبان الذي تقدم ذكره وقد رواه الخلال أيضًا وروي من حديث ابن عمر قال الخلال حدثنا محمَّد بن عوف حدثنا أبواليمان حدثنا أبومهدي عن أبي الزهراية عن

أبي شجرة عن ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تلبَّث عن أصحابه في صلاة الصبح حتى تراءى له قرن الشمس أن يطلع ثم خرج عليهم فصلى صلاة الصبح فلمَّا فرغ قال اثبتوا على مقاعدكم ثم أقبل عليهم يقول لهم هل تدرون ما حبسني عنكم قالوا الله ورسوله أعلم قال إني صليت في مصلاي ما كتب الله لي فضُرب على أذني وأتاني ربي في أحسن صورة وقال الخلال أخبرنا محمَّد بن إسماعيل حدثنا

وكيع عن عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المُليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني آتٍ في أحسن صورة فقال يا محمَّد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى يوم القيامة قلت لا فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بَردها بين ثدييّ قال فعرفت كل شيء سألني عنه قال نعم يختصمون في الدرجات والكفارات قال وما الدرجات قلت إسباغ الوضوء في السبرات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط والكفارات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام

وقد انقلب في هذا المتن الكفارات بالدرجات فإن الصواب أنَّ تلك الأعمال هي الكفارات وهذه الثانية هي الدرجات كما سبق في الروايات وقوله أتاني آت في أحسن صورة يفسره ما رواه الخلال أيضًا حدثنا أحمد بن محمَّد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منام في أحسن صورة فقال يا محمَّد قلت لبيك وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وقال مؤمل حدثنا حمَّاد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال قُرئ على محمَّد بن إبراهيم الصدري وأنا

أسمع حديثكم مؤمل حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فالأشبه أن لفظ أتاني آتٍ هو من رواية بعض الرواة بالمعنى كأنّه عَدَلَ عن لفظ ربي إمَّا خوفًا على نفسه أو على المستمع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لاريب أنَّه قال ذلك اللفظ كما تواترت به الطرق وقد روى الحافظ أبوعبد الله بن منده هذا الحديث فيما أخرجه وانتقاه من أحاديث الصفات التي لم يُضمنها الضّعاف وذكر استفاضة طرقه واتفاق علماء الشرق والغرب على تبليغه رواه من حديث أبي هريرة وثوبان وأحاديث ابن عائش فقال أخبرنا أبو خيثمة حدثنا محمَّد بن إبراهيم بن

كثير حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله لن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي عز وجل في منامي في أحسن صورة فقال لي يا محمَّد قلت لبيك وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدتُّ بردها بين ثدييّ وذكره أخبرنا عبيد الله بن جعفر البغدادي بمصر حدثنا هارون بن كامل حدّثنا أبوصالح قال حدّثنا معاوية بن صالح عن أبي يحيى وهو سليم عن أبي يزيد عن أبي سلاّم الحبشي أنه سمع ثوبان قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال إن ربي عز وجل

أتاني الليلة في أحسن صورة فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا علم لي يارب فوضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله في صدري فتخيّل لي ما بين السماء والأرض وذكر الحديث أخبرنا الحسن بن يوسف الطرائفي بمصر حدثنا إبراهيم ابن مرزوق حدثنا أبوعامر العقدي حدثنا زهير بن محمَّد عن يزيد بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب

النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللّون فقلنا له فقال مالي وأتاني ربّي الليلة في أحسن صورة الحديث قال الحافظ أبوعبد الله بن منده هكذا رواه زهير عن يزيد بن يزيد وزاد في الإسناد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الأوزاعي وعبد الرحمن بن جابر وغيرهما وعن خالد بن اللجلاج ولم يذكروا الرجل في الإسناد ثنا محمّد بن جعفر بن يوسف وخيثمة بن سليمان قلا حدثنا العبّاس بن الوليد بن مزيد

أخبرني أبي حدثنا ابن جابر والأوزاعي قالا حدثنا خالد بن اللجلاج سمعت عبد الرحمن بن عائش قال صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بمثله وقال فيه فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثدييّ فعلمت ما بين السماء والأرض ثم قرأ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام 75] قال الحافظ أبو عبد الله بن منده ورواه أبوسلاّم عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال ورُوي هذا الحديث عن عشرة من الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقلها عنهم

أئمة البلدان من أهل الشرق والغرب وكنت حين كتبت ما كتبته بمكان لا يصل إليّ فيه الكتب وكنت أعلم أن هذا الحديث في جامع الترمذيّ لكن لم يكن حاضرًا عندي فلمَّا حضر إليّ بعد ذلك وجدته قد تكلم عليه نحوًا ممَّا تكلمت وبيَّن أنه حديث صحيح وذكر عن البخاري أنه حديث صحيح وأنَّ الصواب هو حديث معاذ فروى الترمذي في التفسير في سورة ص أولاً حديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني الليلة ربّي في أحسن صورة قال أحسبه في المنام قال كذا في الحديث فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثدييّ أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي

على الأقدام إلى الجمعات والجماعات وإسباغ الوضوء في المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمّه قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي هذا الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله وقال إني نعست فاستثقلت نومًا فرأبت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى ثم قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هانئ اليشكري حدثنا جهضم بن عبد الله

عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعًا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوَّز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا على مصافكم كم أنتم ثم لنفتل إلينا ثم قال أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قُدِّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن

صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثًا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد قلت لبيك ري قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات قال ما هن قلت مشي الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات قال ثم فيم قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام قال سَلْ قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرِّب إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

إنها حق فادرسوها ثم تعلموها قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقال هذا أصح من حديث الوليد بن الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وهذا غير محفوظ هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن ابن عائش قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى بشر ابن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا

الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت أبا بكر بن أبي عاصم روى هذا الحديث في كتاب السنة من طرق أخرى بعد أن قال باب ما ذكر من رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ربه في منامه وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ عن عبد الملك بن ميسرة عن مصعب بن سعد عن معاذ

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق ثم قال باب فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثنا سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تجلى لي في أحسن صورة فسألني فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت رب لا علم لي قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو وضعها بين

ثديي حتى وجدت بردها بين كتفي فما سألني عن شيء إلا علمته قال وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن ليث عن أبي سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تراءى لي ربي في أحسن صورة ثم ذكر

الحديث حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم وصدقة بن خالد فالا حدثنا ابن جابر قال مر بنا خالد بن اللجلاج فدعاه مكحول فقال له يا أبا إبراهيم حَدِّثنا حديث عبد الرحمن بن عائش قال سمعت عبد الرحمن بن عائش يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة حدثنا يحيى بن عثمان بن كثير حدثنا

زيد بن يحيى حدثنا ابن ثوبان حدثنا أبي عن مكحول وابن أبي زائدة عن ابن عائش الحضرمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة وذكر حديث أبي قلابة عن خالد عن ابن عباس وحديث

ثوبان قال وفي هذه الأخبار وضع يده بين كتفي والحافظ أبو القاسم الطبراني ذكر في كتاب السنة في باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه أحاديث ابن عباس ونحوها ثم ذكر الحديث وقدم فيه طريق معاذ الذي هو أصحها وأكملها ورواه من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير فقال حدثنا محمد بن محمد التمار البصري قال حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي

حدثنا موسى بن خلف العمي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاَّم عن جده ممطور عن عبد الرحمن السكسكي عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع فلما صلى بنا الغداة قال إني صليت الليلة ما قُضي لي ووضعت جنبي في المسجد فأتاني ربي عز وجل في أحسن صورة فقال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب قالها ثلاثًا قلت لا يارب قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في صدري فتجلى لي كل شيء وعرفته فقلت في الكفارات قال فما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام فقال صدقت فما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في

السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الأقدام إلى الجمعات قال صدقت سل يا محمد قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بين عبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق ثم ذكر حديث معاوية ابن أبي صالح عن أبي يحيى عن أبي يزيد عن أبي سلام الأسود عن ثوبان قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عد صلاة الصبح فقال إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة وذكر الحديث قال أبو القاسم أظنه الذي

روى عنه معاوية بن صالح هذا الحديث هو سليم بن عامر وأبو زيد هو زيد بن سلاَّم ثم ذكر حديث جابر بن سمرة كما ذكره ابن أبي عاصم فقال حدثنا عبيد الله بن همام قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وساقها باللفظ المتقدم إلاَّ أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها على ثديي فما سألني عن شيء إلاَّ علمته ولم يشك ثم ذكر حديث قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس وحديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ثم ذكر طريقًا ثالثًا لحديث أبي قلابة وسماه عبد الله بن عائش فقال حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا معاوية بن عمران الجرمي

حدثنا أنيس بن سوار الجرمي عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج أن عبد الله بن عائش حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا مستبشرًا على أصحابه يعرفون السرور في وجهه فقال لهم أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك رب وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم يارب في الكفارات والكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإبلاغ الوضوء أماكنه على المكروهات قال صدقت يامحمد فمن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته مثل يوم ولدته أمه وإذا صليت يامحمد فقل اللهم إني أسألك فعل الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب على وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني وأنا غير مفتون والدرجات الصوم وطيب الكلام والصلاة بالليل والناس نيام فتسميته في هذه الرواية عبد الله بن عائش دليل على

الاضطراب ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد من رواية الأوزاعي والوليد بن مسلم كلاهما عنه ثم ذكر حديث أبي أمامة فقال حدثنا محمد بن إسحاق بن راهوية حدثنا أبي حدثنا جرير عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ثم ذكر حديث يوسف بن عطية الصفار عن قتادة عن

أنس وهو وهم فإن يوسف ضعيف والثقات عن قتادة ذكروه عن أبي قلابة ثم ذكر حديث أبي هريرة الذي رواه الخلال فقال حدثنا محمد بن غيلان حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن

صورة ثم ذكر مثله وأما حديث أم الطفيل فإنكار أحمد له لكونه لم يعرف بعض رواته لا يمنع أن يكون عرفه بعد ذلك ومع هذا فأمره بتحديثه به لكون معناه موافقًا لسائر الأحاديث كحديث معاذ وابن عباس وغيرهما وهذا معنى قول الخلال إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره ولأن الجهمية تنكر ألفاظه التي قد رويت في غيره ثابتة فروي ليبين أن الذي أنكروه تظاهرت به الأخبار واستفاضت وكذلك قول أبي بكر عبد العزيز فيه وهاء ونحن قائلون به أي لأجل ما ثبت من موافقته لغيره الذي هو ثابت لا أنه يقال بالواهي من غير حجة فإن ضعف إسناد الحديث لا يمنع أن يكون متنه ومعناه حقًّا ولا يمنع أيضًا أن يكون له من الشواهد والمتابعات ما يبين صحته ومعنى الضعيف عندهم أنا لم نعلم أن رواية عدل أو لم نعلم أنه ضابط فعدم علمنا بأحد

فصل: إثبات المؤلف لحديث "رأيت ربي في أحسن صورة" وتوضيحه

هذين يمنع الحكم بصحته لا يعنون بضعفه أنا نعلم أنه باطل فإن هذا هو الموضوع وهو الذي يعلمون أنه كذب مختلق فإذا كان الضعيف في اصطلاحهم عائدًا إلى عدم العلم فإنه يطلب له اليقين والتثبيت فإذا جاء من الشواهد بالأخبار الأخر ى وغيرها ما يوافقه صار ذلك موجبًا للعلم بأن روايه صدق فيه وحفظه والله تعالى أعلم فصل إذا عرف أن الحديث الذي فيه رأيت ربي وأتاني ربي في أحسن صورة وقال فيم يختصم الملأ الأعلى وفيه فوضع يده بين كتفي إنما كان في المدينة وكان في المنام وهو حديث ثابت ظهر خطأ طائفتين طائفة تعتقد أنه كان في اليقظة ليلة المعراج وتجعله من الصفات التي تقررها أو تحرفها فنتكلم على ما ذكره المؤسس

مناقشة المؤلف للرازي في تأويله الأول لحديث "رأيت ربي" من وجوه

قوله يحتمل أن يكون ذلك من صفات الرائي كما يقال دخلت على الأمير في أحسن هيئة أي وأنا كنت على أحسن هيئة فهذا باطل لوجوه احدها أن لفظه في أتم طرقه إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في مصلاي حتى استثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقوله فإذا أنا بربي في أحسن صورة صريح في أن الذي كان في أحسن صورة هو ربه الوجه الثاني أن في اللفظ الآخر أتاني ربي الليلة في أحسن صورة الوجه الثالث أن النائم إذا أخبر بأنه رأى غيره في أحسن صورة لم يكن مقصوده الإخبار بصورة نفسه الرابع أن قول القائل رأيت فلانًا في أحسن صورة إنما يتعلق الطرف فيه بالمرئي لا بالرائي كما لو قال رأيت فلانًا

راكبًا أو قاعدًا أو في حال حسنة ونحو ذلك أو في أحسن صورة لأن من لغتهم أن ما يصلح للفاعل والمفعول لا يجوز فيه ترك الترتيب إلاَّ إذا أمن اللبس فلا يقولون ضرب موسى عيسى إلاَّ إذا كان الأول هو الضارب ويقول أكل الكمثرى موسى يقدمون المفعول لظهور المعنى بالرتبة فقول القائل في أحسن صورة وفي حال حسنة ونحو ذلك لا يجوز تعليقه إلا بما هو الأقرب إليه فإذا كان المفعول هو المتأخر وهو الأقرب إليه تعلق به وإذا أريد تعليقه بالفاعل أخر أو أعيد ذكره مثل أن يقال جئته وأنا في أحسن صورة أو لم يأت الأمير إلاَّ وأنا في أحسن صورة ونحو ذلك وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول القائل دخلت على الأمير في أحسن هيئة فإن دخوله على الأمير يُشعر بأنه كان هو المتحول المتنقل والأمير يتجمل للقائه ألا ترى أنه لو قال رأيت الأمير في أحسن هيئة أو في أحسن صورة لم يكن المفهوم منه إلاَّ أن الأمير هم الذي في أحسن هيئة وأحسن صورة فيُعطى كل لفظ تركيبه وحقه لا يقاس هذا بهذا مع اختلاف تعيينها الخامس أن قوله في الوجه الأول يكون المعنى أن الله زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه

يقال له مما عده العلماء من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء ثم رجع وأصبح كبائت لم يتغير كما حصل لموسى عليه والسلام حين كلَّمه الله فإنه كان يتبرقع وكذلك لما خرج عليهم إلى صلاة الفجر بالمدينة وأخبرهم بما رأى لم ينقل أحد أنه تغيرت صورته حتى صارت أحسن الصور أكثر ما في بعض الطرق أنه خرج وهو طيب النفس مشرق اللون ومعلوم أن هذا ليس بأحسن الصور السادس أن تلك الزيادة في صورته إن قيل بقيت عليه فهذا كذب ظاهر فإن صورته لم تخالف اختلافًا خارجًا عن العادة وإن قيل كانت حين الرؤية وزالت بزوالها فمن المعلوم أن الذي يزاد إكرامه بتزيين صورته إن لم يره العباد في الصورة الحسنة المجمَّلة وإلا فهو في نفسه لا يحصل له

مناقشة المؤلف للرازي في قوله: "المراد بالصورة الصفة" من وجوه

انتفاع بمجرد جمال صورته الذي لا يراه أحد فأي إكرام في هذا الوجه السابع أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة لو عاد إلى الرائي لوجب أن يكون حين الرؤية كان في أحسن صورة والحديث يدل على أنه لفرحه وسروره بالرؤية أشرق لونه وطابت نفسه فيكون ذلك بعد الرؤية فامتنع أن يكون قوله هذا حجة فبطل قولهم الوجه الثامن أن لفظه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللون فقلنا ماله فقال مالي وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة فهذا صريح بأن إتيان ربه له في أحسن صورة ليس هو طيب نفسه وإشراق لونه الوجه التاسع قوله في الوجه الثاني أن المراد من الصورة الصفة ويكون المراد الإخبار عن حسن حاله عند الله وأنه أنعم عليه بوجوه كثيرة عظيمة من الإنعام باطل من وجوه

أحدها أن النعم المخلوقة للعبد المنفصلة عنه لا تكون صفة له بحال فإن الموصوف لا يوصف إلاَّ بما قام به من الصفات لا بشيء لا يقوم به بحال وقد تقدم تقرير هذا ولو جاز هذا لجاز وصف الله بجميع الموجودات وأن يكون جميعها صفات لله ولجاز وصف العبد بكل ما يملكه الله تعالى إياه الثاني أن لفظ الصورة لا يقال إلاَّ على ما هو قائم بذي الصورة فأما الأمور المنفصلة عنه التي لا تقوم به فلا تكون صورة له كما تقدم الثالث أنه لو أريد بالصورة الصفة لكان جمال صورته وحسنها أولى بأن يكون معنى هذا الوجه دون أن يكون هذا المعنى هو معنى لفظ الصورة وتكون النعم المنفصلة معنى لفظ الصورة الرابع قوله وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث

يتلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم وقد يكون بخلافه فعرفنا الرسول أن حاله كان من القسم الأول يقال له الإكرام والتعظيم هو من فعل الله تعالى فهو بأن يكون صفة له أولى من أن يكون صفة للكريم المعظم فإما أن يكون صفة لهما أو للمُكْرَم أما جعله صفة للمُكْرَم فقط فباطل وذلك لأن الإكرام إن كان أمرًا قائمًا بذات المكرم فهو الوجه الأول وإن كان منفصلاً عنه فمن المعلوم أن كونه صفة لله أولى لأن الله فعله والله يوصف بنفس الفعل الذي هو الخلق والتكوين عند عامة أهل الإثبات وإن خالف في ذلك الجهمية من المعتزلة ومن تبعهم من متكلمة الصفاتية ونحوهم وكذلك التلقي بالإكرام هو فعل المرئي فهو أحق بالوصف به من الرائي فتبين بطلان أن يكون قوله في أحسن صورة

إلى المرئي فقط فإن قيل يجوز أن يكون قوله في أحسن صورة عائدًا إلى الرؤية نفسها فيكون متعلقًا بالمصدر لا بالفاعل ولا بالمفعول والتقدير رأيته رؤية هي في أحسن صورة أي صفة قيل هذا لو صح لكان هو معنى الوجه الأول لأن الرؤية صفة للرائي فصفتها صفته فيكون المعنى رأيت ربي وأنا في أحسن صورة وأيضًا فالصورة إنما يوصف بها ما قام بنفسه فأمَّا الرؤية ونحوها فيحتاج وصفها بالصورة إلى نقل ذلك من لغة العرب بل لا يوصف بها في لغتهم إلاَّ بعض الأمور القائمة بنفسها كما تقدم م قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما أن الصورة لا تكون إلاَّ إذا كان له وجه فـ قوله صلى الله عليه وسلم من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ

لا يتناول إلاَّ ذلك الخامس أن حديث أم الطفيل نص في أن الصورة كانت للمرئي حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في صورة شاب موفر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل رأيت ربي في أحسن صورة وسكت بل لم يقل ذلك إلاَّ موصولاً بما يبين صفة الرؤية كما تقدمت ألفاظ الحديث بذلك فهذا الذي ذكره المؤسس ومن نقل كتبه كابن فورك مـ ـمن جعله حديثًا مفردًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي في أحسن

صورة ثم يتأولون ذلك أمر لا أصل له أما قول الرازي إن كان عائدًا إلى المرئي ففيه وجوه الأول أن يكون رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة وذلك جائز لأن الرؤيا من تصرفات الخيال فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة فيقال له قد بينا أن ألفاظ الحديث صريحة في أن هذه الرؤية كانت في المنام فيكون هذا الوجه هو المقطوع به وما سواه باطل ولكن لا يكون ذلك من باب التأويل بل الحديث على ظاهره فيكون ظاهر أنه رآه في المنام وهذا حق لا يحتاج إلى تأويل وهذا مقصودنا فإنهم يدعون احتياج هذه الأحاديث إلى تأويل يخالف ظاهرها لأن ظاهرها عندهم ضلال وكفر وهو غالطون تارة فيما يدعون أنه ظاهرها وليس كذلك كما يدعون أن ظاهر هذا الحديث أنه رآه في اليقظة كذلك دعواهم أن ظاهرها الذي هو ظاهرها الحق يحتاج إلى تأويل وهذا الذي أثبته الرازي من جواز رؤية الله في المنام

هو الحق الذي عليه عامة أهل الإثبات وإن نازع فيه من نازع من الجهمية لكن في هذا الباب للنفاة وأهل الإثبات غلط كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى مثل جعل بعض النفاة للرؤية عقائد غير مطابقة وتخيلات باطلة فهي كالرؤية بالعين المحققة الموجودة في الخارج قوله في الوجه الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة وذلك لأنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يقال في العرف المعتاد إني رأيته في أحسن صورة كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة فيقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه تقدم في ألفاظ الحديث أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا

الثاني أن ما يخلقه الله من الإكرام والإنعام ليس صفة له فأن لا يكون صورة له أولى ومن المعلوم أن نعمة الله على عباده لا تحصى ولا يوصف بها وإن وصف بأنه خلقها وأنعم بها وأحسن بها الثالث أنه لو أريد بذلك النعم كان من المعلوم أن ما ينعمه الله به عليه بعد ذلك أحسن صورة وقد قال رأيته في أحسن صورة الرابع قوله كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة يقال له هذا إن كان كلامًا عربيًّا فالصورة قائمة بالمتصور ليست قائمة بغيره فليس ذلك نظير قوله رأيته في أحسن صورة إذا جعلت الصورة للمرئي وجعلتها نعمًا مخلوقة منفصلة عنه الخامس أنه إذا جعل قوله أحسن صورة للمرئي

وجعله من مفعولاته كان المعنى أن ما أنعم الله به على محمد تلك الساعة هو أحسن صورة لله وهذا باطل قطعًا السادس أن هذا التأويل من جنس التأويل الذي رده الدارمي على متبع المريسي حيث قال يحتمل أن تكون هذه صورة مخلوقة أتى الله فيها لا مدبر لها فكلاهما مشتركان في الفساد من جهة جعل الصورة مخلوقة مملوكة ولكل من التأويل وجوه تختص به تدل على فساده وقول الرازي الوجه الثالث لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ما كلن مطلعًا عليه قبل ذلك يقال له هذا عليه وجوه أحدها أن هذه ليست أمورًا ثبوتية عندك قائمة بالله فإن الجلال والعزة تعيده إلى الصفات السلبية وهي أمور

عدمية لا ترى والعظمة تعيده إلى ما يخلقه من المخلوقات العظيمة ورؤية المخلوقات ليست رؤيته الثاني أنه قال رأيته في أحسن صورة وجعلت ذلك من صفات الله أي على أحسن صفة لزم أن يُرى على غير أحسن صفة ولزم أن تكون له في ذاته حالات حال يكون فيها على أحسن صفة وحال لا يكون فيها كذلك وهذا كله عندك ممتنع لأن ذلك يستلزم قيام الحوادث بذاته وتحوله الثالث أنه لو كان المراد به صفته لزم أن يكون قد رأى أحسن صفاته ومن المعلوم أن رؤيته له في الدار الآخرة أكمل لو كان قد رآها في الدنيا أحسن صفاته الرابع أن هذا يستلزم أنه عَلِمَ حقيقة الرب المختصة بل يكون قد رآها ورؤيتها أبلغ من علمها والمؤسس دائما يقرر خلاف ذلك هو وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك وغير ذلك

وأما قول الرازي في الخبر الذي رواه عن ابن عباس قوله رأيت ربي في أحسن صورة إلى آخره وقد تقدم أن رواية هذا عن ابن عباس غلط وإنما هو حديث ابن عائش وغيره وأحاديث ابن عباس المحفوظة عنه لها ألفاظ أخر وهذا هو حديث أبي قلابة رواه عنه معمر عن أيوب وقتادة فقوله واعلم أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة قد تقدم تأويله يقال له ليس فيما تقدم ما يقرب من الحق إلا قوله يحتمل أن يكون عائدًا إلى المرئي وتكون رؤيا منام فهذا الاحتمال قريب إلى الحق لأن الحق أنه كان رؤيا منام لكن هو جوز ذلك ولم يجزم به وتسميته هذا تأويلاً غلط لأنه تفسير مبين في الحديث وإن كان قد لا يُروى في لفظ حديث ابن عباس الذي ذكره فهو مفسر في ألفاظ جمهور الرواة للحديث ومن المعلوم أن الحديث الواحد إذا رواه أحد بلفظ مختصر ورواه جماعات فزادوا فيه ألفاظًا تفسِّر ذلك الغلط وتبينه كان ما رووه مفسرًا ومبينًا لما رواه هذا لو كانت رواية ابن عباس

محفوظة فكيف وقد وقع فيها ما وقع قال الرازي وأما قوله وضع يده بين كتفي ففيه وجهان أحدهما المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها يقال له هذا معلوم الفساد بالضرورة الواضحة من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري فعلمت ما في السموات والأرض كان هذا اللفظ نصًّا صريحًا في معناه فكيف يمكن إحالته الثاني أن التعبير عن الاهتمام والاعتناء بمثل هذا اللفظ معلوم البطلان في اللغة حقيقة أو مجازًا وأين قولهم لفلان يد بهذه الصنعة من قول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي أو على صدري الثالث أن من قال إنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها نعم يعبر باليد عن القدرة فيقال

لفلان في هذا يد وأنا صاحب يد في هذا أي قادر عليه أما أنه كامل القدرة فلابد له من لفظ يدل عليه ويقولون ما لفلا نبها يد أي ماله به طاقة لا قبل كما قيل جعلت لعراف اليمامة حُكْمَهُ وَعراف حجر إن هما شفياني فما تركا من رقية يعلمانها ولا سلوة إلاَّ وقد سقياني وقالا شفاك الله والله مالنا بما شملت منك الضلوع يدان

الرازي وأمثاله من المتأولين يقطعون الحديث

الرابع هب أنـ[ـه] له يد بهذا أو فيه بمعنى أنه كامل فيه أو يراد هو قادر عليه فأي دلالة في هذا على أن قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري إنما يدل على الاعتناء والاهتمام بحاله؟ الخامس أنه لو كان المقول فوضع يده فقط وقال إن هذا من جنس قولهم يدي معكم أو يدي في هذا الأمر ونحو ذلك مما يدل على أنه قائم فيه فاعل له لم يظهر فساده كما يظهر الفساد في تأويل قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي. الوجه السادس أن هؤلاء يعمدون إلى ألفاظ الحديث يقطعونها ويفرقون بينها ثم يتأولون كل قطعة بما يمكن وما لا يكمن. ومن المعلوم أن الكلام المتصل بعضه ببعض يفسر بعضه بعضًا ويدل آخره على معنى أوله وأوله لا يتم معناه إلا بآخره كما يقال الكلام بآخره وهذا كثيرًا ما يفعله هذا المؤسس وأمثاله وهم في مثل ذلك كما يحكى عن بعض متأخرة الزنادقة

مناقشة المؤلف للرازي بتأويله لحديث "فوضع يديه بين كتفي"

المنافقين أنه قيل له ألا تصلي فقال إن الله يقول {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقيل له ألا تتمها {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } [الماعون 5] فقال العاقل يكتفي بكلمة. وأنشد بعض هؤلاء: ما قال ربك ويل للألى شربوا ... بل قال ربك ويل للمصلينا قوله الوجه الثاني أن يكون المراد من اليد النعمة يقال لفلان يد بيضاء ويقال إن أيادي فلان لكثيرة. الوجه الأول فيقال له هذا من نمط الذي قبله فإن قوله القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري أو بين ثديي صريح في وضع اليد التي هي اليد لا تحتمل النعمة بوجه من الوجوه. الثاني أن التعبير عن النعمة بمثل هذا اللفظ معلوم الفساد

مناقشة المؤلف للرازي بتأويله بعض الروايات "فوجدت برد أنامله"

بالضرورة من اللغة حقيقة ومجازًا. الثالث أن اليد إذا عُبِّر بها عن النعمة كان معها من القرائن ما يبين ذلك كسائر ألفاظ المجاز كما أنه إذا قال أياديك علينا كثيرة مع كون هذا في سياق المدح وأن ليس في كون ذات يده فوقه شيء من المدح وأنه ليس له أياد كثيرة وغير ذلك مما يبين أن المخاطبين قصدوا أن نعمتك وإحسانك قد استولى علينا واستعلى علينا ولهذا كان هذا المعنى ظاهرًا في مثل هذا الخطاب وإن سمِّي مجازًا فأين هذا من قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي؟! الرابع أنه لو قيل فأسبغ على أياديه ونحو ذلك لكان لقوله وجه أما حتى وجدت برد أنامله بين كتفي فهل هذا يحتمل أن يكون المراد مجرد إنعامه؟ الخامس أن النعمة التي أنعم بها عليه إما أن تكون جوهرًا

قائمًا بنفسه أو عرضًا أما الجوهر فوضعه على كتفيه تثقيل له والله قد أنعم عليه بوضع الوزر عنه فكيف يضع عليه ما يثقله؟ وإن كان عرضًا فلا بد أن يكسب ذلك المحل صفة لأن العرض إذا قام بمحل عاد حكمه إليه فيقتضي اتصاف كتفيه [بوصف] لا يوجد لبقية الأعضاء. هذا إن قيل إن الموضوع على جسمه الذي بين كتفيه فإن قيل إنه بينهما فوق فيقال أي شيء من النعم قام بالهواء الذي فوق ظهره [فـ]ـكان بعده عنه أعظم من بعد المتصل به وحمل اللفظ على مثل هذا المعنى من التلاعب بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. السادس أي شيء هذا الذي هو [من] الجواهر

والأعراض المخلوقة إذا وضع بين كتفيه ملاصقًا أو غير ملاصق كان من نعم الله العظيمة السابع أن لفظ وضع يده لا يعرف استعمالها في مجرد النعمة مفردًا فكيف مع هذا التركيب قال الرازي وأما قوله بين كتفي فإن صح فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة فالكلام عليه من وجوه أحدها أن هذا كسائر ألفاظ الحديث فلا معنى لتخصيصه بالتعليق دون سائر ألفاظ الحديث وإن قال لفظ اليد ثابت في القرآن والأحاديث المتواترة يقال له لكن ليس في ذلك لفظ وضع يده بهذا اللفظ في هذا الحديث الوجه الثاني أنه قد تقدم أن هذا اللفظ ثابت في هذا الحديث وأن ذلك كان في المنام الثالث قوله فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة يقال له لا ريب أن في ذلك الحديث

فتجلى لي ما بين السماء والأرض ولا ريب أن هذا من آثار هذا الوضع فإنه من الموجود في الشاهد أن الإنسان يضع صدره أو يده على صدر الإنسان أو على ظهره فيجد في قلبه من الآثار بحسب ما يناسب حاله وحال الواضع كما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب قال كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتُها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن قراءتهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقًا فكأني أنظر إلى الله فرقًا

فقال إني أرسل إلي لأن لأقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوِّن على أمتي فرد إليَّ أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رَدَدتُّكَهَا مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي فهنا كان الضرب بيده على صدره لزجره وإخراج ما في قلبه من الشك وقد كانت يده المباركة يضعها في الماء فيفور الماء من بين أصابعه

وفي الصحيحين في حديث بدء الوحي لما جاءه جبريل فقال اقرأ قال قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني والغط شبيه الخنق وهو مماسة له فرؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في المنام وأنه قال له فيم يختصم الملأ الأعلى أي

يختصمون فقال لا أدري ثم وضع يده بين كتفيه حتى وجد برد أنامله على صدره ليُعلمه هو ما لم يعلم ولهذا قال تجلى لي عقيبها ما بين السماء والأرض فالتجلي والعلم أثر وضع يده بين كتفيه لا أنه هو نفس ما بين الكتفين ولا أنه نفس وضع اليد الرابع أن تسمية ما بين الكتفين باللطف والرحمة لا يدل عليه اللفظ لا حقيقة ولا مجازًا الخامس أنه إما أن يقول إن وصول اللطف والرحمة إلى قلبه هو معنى قوله بين كتفي أو معنى قوله فوضع يده بين كتفي فإن كان الأول فاللفظ المفرد المجرد كيف يدلّ على معنى الجملة وما وجه ذلك وإن كان الثاني فيكون هذا تأويل قوله فوضع يده بين كتفي ويكون ما تقدم من الوجهين في تأويل فوضع يده باطلين لأن هذا يكون هو معنى الجملة وأما قوله وقد روي بين كنفي فعليه وجوه أحدها أن هذا تصحيف وهو كذب محض إما عمدًا

وإما خطأ فإن أهل العلم بالحديث متفقون على رواية بين كتفي بالتاء وللجهمية من هذا الجنس أمثال يحرفون فيها ألفاظ النصوص تارة ومعانيها أخرى كقول بعضهم وكلَّمَ اللهَ موسى وكرواية بعضهم يُنزَّل ربنا وأمثال ذلك الثاني قوله والمراد ما يقال وأنا في كنف فلان وفي ظل إنعامه فيقال له فالرسول هو في إنعام الله أم الله في إنعامه وليس الحديث أنه قال فجعلني في كنفه بل قال هو وضع يده بين كتفي فيكون المعنى على تفسيرك وضع يده من نعمي أو في ظل إنعامي ومعلوم أن هذا قلب لـ ـلحقيقة فإن العبد في نعمة ربه ليس الرب في نعمة عبده الثالث أنه قد فسر اليد بالنعمة فإذا جعل

كنفي العبد إنعامه فإن المعنى أنه وضع نعمة الله في إنعام العبد وهذا من أظهر الباطل الرابع إن الكنف يقال مفردًا وهذا ليس بمفرد وإذا روي بالتثنية كنفي كان خلاف اللغة فإن الكنف يُفرد ولا يُثنى في مثل ذلك وإن روي كنفي مفردًا يقال به فلفظ بين لا يضاف إلا إلى ما فيه معنى العدد وهو لم يقل بين كنفي بل قال بين كتفي الخامس أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري أو بين ثديي وهذا صريح في المقصود فقول القائل في كنفي حتى وجدت برد أنامله في صدري من أظهر التناقض السادس أنه يقال فلان في كنف فلان لكن لا يقال هو بين كنفه أو كنفيه وأما قوله فوجدت بردها فيحتمل أن المعنى برد النعمة

وروحها وراحتها من قولهم عيش بارد إذا كان رغدًا يقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي وفي لفظ في صدري ومعلوم أن الضمير إنما يعود إلى مذكور ولم يتقدم إلاَّ اليد فعلم أن الضمير عائد إليها الثاني أن تأويل اليد بالنعمة قد تقدم إبطاله فلا يصح عود الضمير إليها الثالث أنه لو كان المراد النعمة فالنعمة شاملة لظاهره وباطنه كما قال تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان 20] فتكون موضوعة في ظهره وصدره ويكون أثرها كذلك أما تخصيص النعمة بظهره وتخصيص بردها بصدره أو بين ثدييه فظاهر البطلان

الرابع أن في أخبار أخر حتى وجدت برد أنامله على صدري وهذا تصريح في أن الذي وجد برده هو اليد الموضوعة على ظهره وأما قوله في بعض الروايات فوجدت برد أنامله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإنه قال فيما بعد الفصل الثالث والعشرون في الأنملة هذه اللفظة غير واردة في القرآن ولكنّها واردة في الخبر وهو ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وضع يده على كتفيّ فوجدت برد أنامله فعلمت ما كان وما يكون وقال التأويل أن يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان والمراد اصرف عنايتك إليه فقوله وضع يده على كتفيّ معناه صرف العناية إليّ وقوله فوجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية فإنّ العرب تعبِّر عن وجدان الراحة واللّذة بوجدان البرد وإذا أرادوا الدعاء قالوا برّد الله

تلك الديار فيقال أمّا ما ذكره من تأويل وضع اليد بصرف العناية فقد تقدّم بيان فساده وما استشهد به من أنه يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان أي اصرف عنايتك إليه فهذا كلام باطل لم يقل بمثل هذا المعنى أحدٌ يُحتج به في اللغة بل هذا من باب الافتراء المحض على اللغة العربية ويمكن أن يتكلّم بمثل ذلك بعض المولدين والأعاجم لكن مثل كلام هؤلاء لا يجوز أن يُحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يُحمل كلامه على اللغة التي كانت يُخاطب بها وليس في تلك اللغة أن يقال ضع يدك على رأسه بمعنى اصرف عنايتك إليه وأيضًا فالعناية هي مشيئة الله وتلك صفة قائمة به فإذا كانت تلك الصفة قديمة لازمة للموصوف كيف تصرف إلى شيء بل إذا كانت تصرف على هذا التقدير فالمراد بها بعض المخلوقات وقد تقدم الكلام على هذا

وأيضًا فقوله وجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية يقال له أثر تلك العناية كان حاصلاً على ظهره وفي فؤاده وصدره فتخصيص أثر العناية بالصدر لا يجوز إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه فكان يجب أن يبين أن أثر تلك العناية متعلق بما يعمُّ أو بأشرف الأعضاء وما بين الثديين كذلك بخلاف ما إذا أقر الحديث على وجهه فإنه إذا وضعت الكف على ظهره نَفَذَ بردها إلى الناحية الأخرى وهو الصدر ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضًا فقول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نص لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء أمر يُعلم بطلانه بالضرورة من اللغة وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية

وقوله والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فَعَلِمت ما بين المشرق والمغرب وما ذلك إلاَّ لأ ن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف يقال له الحديث يدل على أن هذه المعرفة كانت من آثار الوضع المذكور وهذا حق لكن لا يدل على أن الوضع ليس له معنى إلاَّ مجرد هذا التعريف وهذا ظاهر معروف بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء حيث قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها وفي رواية برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب فذكر وضع يده بين كتفيه وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين ثدييه وهذا معنى ثان وهو وجود هذا البرد عن شيء مخصوص في محل مخصوص وعقب ذلك

بأثر الوضع الموجود وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر فصل إذا تبين أن هذا كان في المنام فرؤية الله تعالى في المنام جائزة بلا نزاع بين أهل الإثبات وإنما أنكرها طائفة من الجهمية وكأنهم جعلوا ذلك باطلاً وإلاَّ فما يمكنهم إنكار وقوع ذلك

فصل: في نقل المؤلف عن الرازي أن مما يجب تأويله لفظ الشخص والغيرة

فصل قال الرازي الفصل الثاني في لفظ الشخص هذا اللفظ ما ورد في القرآن لكنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا شخص أحب إليه الغيرة من الله وفي هذا الخبر لفظان يجب تأويلهما الأول الشخص والمراد منه الذات المعينة والحقيقة والمخصوصة لأن الجسم الذي له شخص وحجمية يلزم أن يكون واحدًا فإطلاق اسم الشخصية على الوحدة إطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر والثاني لفظ الغيرة ومعناه الزجر لأن الغيرة حالة نفسانية مقتضية للزجر والمنع فكنى بالسبب عن المسبب ها هنا

تعقيب المؤلف على كلام الرازي

أما هذا اللفظ فقد جاء في الصحيح في بعض طرق حديث المغيرة بن شعبة وترجم البخاري عليه في كتاب التوحيد وترجم بعده على قوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام 19] فسمى الله تعالى نفسه شيئًا فقال باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص أغير من الله حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك بن

عمير عن ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف وهو غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني

ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة قال البخاري وقال عبيد بن عمرو عن عبد الملك

نزاع أهل الحديث في إطلاق اسم الشخص على الله

لا شخص أغير من الله وقد جاء لفظ الشخص في حديث آخر أصح من هذا وهو حديث أبي رزين العقيلي الذي قدمناه في أحاديث إتيانه يوم القيامة سبحانه وتعالى قال فيه لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء من مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونها في ساعة واحدة ويريانكم ولا تضامون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه منهما على أن يريانكم وترونهما قال قلت يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه قال تعرضون عليه بادية له صفحاتكم وذكر الحديث وقد تنازع أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم في إطلاق اسم الشخص عليه قال القاضي أبو يعلى فغير ممتنع إطلاقها عليه لأنه ليس في ذلك ما يمثل صفاته

ولا يخرجها عما يستحقه لأن الغيرة هي الكراهة للشيء وذلك جائز في صفاته قال تعالى وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة 46] قال وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه ووجهه أن قوله لا شخص نفي من إثبات وذلك يقتضي الجنس كقوله لا رجل أكرم من زيد يقتضي أن زيدًا يقع اسم رجل كذلك قوله لا شخص أغير من الله يقتضي أنه يقع عليه هذا الاسم قال وقد ذكر أبو الحسن الدارقطني في كتاب الرؤية ما يشهد لهذا القول وذكر حديث لقيط بن عامر المتقدم وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله قال وقد ذكر أحمد هذا الحديث في الجزء الأول من مسند الكوفيين فقال عبد الله

يعني ابن أحمد رحمه الله قال عبيد الله القواريري ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث قوله لا شخص أحب إليه المدحة من الله قال القاضي ويحتمل أن يمنع من إطلاق ذلك عليه لأن لفظ الخبر ليس بصريح فيه لأن معناه لا أحد أغير من الله لأنه قد روي ذلك في لفظ آخر فاستعمل لفظ الشخص في موضع أحد ويكون هذا استثناء من غير جنسه ونوعه كقوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء 157] وليس الظن من نوع العلم وأما تأويل الشخص إذا ثبت إطلاقه بالذات المعينة

والحقيقة المخصوصة فهذا باطل في لغة العرب التي خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته إنما يوجد مثل هذا في عرف المنطقيين ونحوهم إذا قالوا هذا ينحصر نوعه في شخصه أو لا ينحصر نوعه في شخصه وقالوا الجنس ينقسم إلى أنواعه والنوع ينقسم إلى أشخاصه ونحو ذلك مما هو لفظ الشخص فيه بإزاء لفظ الواحد بالعين وأصل ذلك والله أعلم أن التقسيم لما كان واردًا على ما ظهر وهو الإنسان وكل واحد من الأناسي يسمى شخصًا نقلوا هذا بالعرف الخاص إلى ما هو

من مسماه اللغوي فقالوا لكل واحد من أفراد أي نوع كان شخصًا حتى يسمون السواد المعين والبياض المعين شخصًا من أشخاص نوعه ويقولون واجب الوجود انحصر نوعه في شخصه كما يقولون مثل ذلك في الشمس وكل ما ليس له مثل وهذا مثل نقلهم ونقل المتكلمين للفظ الجوهر إلى أعم من مسماه اللغوي وكذلك لفظ الجسم وغيره لكن معرفة اللغات والعرف الذي يخاطب بها كل مخاطب من أهم ما ينبغي

الاعتناء به في فهم كلام المتكلمين وتفسيره وتأويله ومعرفة المراد به فإن اللغة الواحدة تشتمل على لغة أصلية وعلى أنواع من الاصطلاحات الطارئة الخاصة والعامة فمن اعتاد المخاطبة ببعض تلك الاصطلاحات يعتقد أن ذلك الاصطلاح هو اصطلاح أهل اللغة نفسها فيحمل عليه كلام أهلها فيقع في هذا غلط عظيم وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء فعلينا أن نعرف لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخاطب بها خصوصًا فإنها هي الطريق إلى معرفة كلامه ومعناه حتى أن بين لغة قريش وغيرهم فروقًا من لم يعرفها فقد يغلط في ذلك وإذا كان كذلك فلا يعرف في لغة النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا غيرها من لغات العرب أنهم يسمون كل ذات حقيقة معينة شخصًا كما هو العرف الخاص لبعض الناس كما تقدم بل هذا معلوم الفساد بالضرورة من لغتهم إذ هذا يقتضي أن يسموا كل معين بحكم شخصًا حتى يسموا كل عرض معين من الطعوم والألوان والأراييح خصًا وهذا باطل قطعًا

وأما توجيه ذلك بأن الجسم الذي له شخص وحجمية يلزم أن يكون واحدًا فإطلاق اسم الشخص على الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر فهذا باطل من وجوه أحدها أن الشخص الذي له حجمية ليس واحدًا عندهم بل مركب إذ كل جسم مركب وقد قال هذا المؤسس في أول هذا الكتاب قوله أحد يدل على نفي الجسمية لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحدٌ مبالغة في الواحدية فكان قوله أحدٌ منافيًا للجسمانية وهذا المعنى تقدم غير مرة فإذا كان الشخص والحجمية يستلزم نفي الوحدة عندهم كيف يصح

أن يقال هو يلزم أن يكون واحدًا الوجه الثاني هب أنه لا يستلزم الوحدة بناء على أن لغة العرب تسمي الواحد من الأجسام واحدًا وهذا هو الصواب لكن من أين يلزم أن يكون قولهم شخص وحجم يلزم لأن يكون واحدًا فأحسن أحواله أنه لا يستلزم ثبوت الوحدة ولا نفيها بل قد يقال هذا الشخص للشخص المرئي مع ما عليه من الثياب وما له من الأعضاء الوجه الثالث أن لفظ شخص مفرد جمعه أشخاص وشخوص وهذا يراد به الواحد بالعين ويراد به الجنس كسائر نظائره ومثل لفظ إنسان وفرس ونحو ذلك وإرادة الجنس بهذا أظهر من إرادة الواحد بالعين بدليل أنه إذا دخل عليه حرف النفي مثل ما في قولك ما عندي شخص وما عندي إنسان كان الظاهر من معناه أنه نافٍ للجنس ويجوز أن يراد به نفي الواحد فيقول ما عندي شخص بل شخصان إلاَّ أن يدخل عليه ما يختص بالجنس مثل لا النافية للجنس ومثل من في قولك لا شخص عندي أو ما عندي من شخص فهنا يجب إرادة الجنس وإذا كان كذلك فقول القائل

إن الجسم الذي له شخص يلزم أن يكون واحدًا كلام باطل الوجه الرابع أن يقال كونه واحدًا بالعين ليس داخلاً في مسماه في أصل اللغة فاللفظ لا يوجب العدد ولا ينفيه لكن ما زاد على الواحد منفي بالأصل وقد ينفي بالقرينة اللفظية والحالية كقولهم شخص واحد وقولهم جاءني شخص فقال لي كذا وكذا كما تقول ركبت فرسًا والفرس يتناول عنانه فيكون التركيب دليلاً على الوحدة العينية لا مسمى اللفظ وعلى هذا قولهم ما جاءني رجل بل رجلان فإن قوله بل رجلان قرينة لفظية دليل على دخول الوحدة العينية في مسمى رجل الوجه الخامس أن دلالة هذا اللفظ على الوحدة سواء دل بالوضع أو بالقرينة كدلالة سائر الألفاظ التي تشبهه مثل لفظ إنسان وحيوان وفرس وثور وحمار وقائم وقاعد ونحو ذلك فإن كان دلالة هذه الألفاظ على الوحدة تسوغ إطلاق الاسم على الوحدة لزم جواز إطلاق جميع هذه الأسماء

وما أشبهها على كل حقيقة وذات معيَّنة فيسمى كل شيء وكل جوهر أو عرض بكل واحد من هذه الأسماء كما يسميه المنطقيون شخصًا وعلى هذا فيجوز تسمية الله بكل واحد من هذه الأسماء ولا يكون المراد إلا الذات المعينة والحقيقة المخصوصة حتى يقال لا إنسان أو لا فرس أو لا ثور أو لا كذا أغير من كذا يعني الله هذا لازم قولهم وفساد هذا يُغني عن الإطناب وأيضًا فكان هذا التأويل لو كان صحيحًا كان استعماله في لفظ الصورة حتى يقال كل حقيقة عينة تسمى صورة من هذا الجنس وحينئذ فيلزمهم تسمية كل شيء باسم كل شيء إذ كل شيء له وحدة ويلزم ذاته فإذا جاز لجل ذلك أن يجعل اسمه اسمًا لمطلق الواحد حتى يقال لكل ذات معينة وحقيقة مخصوصة ولا يكفي في اللزوم أنهم هم يستعملون ذلك بل يلزم أنه يجوز لكل من سمع كلام غيره أن يحمل ما فيه من الأسماء على هذا كل شيء إذا قام عنده دليل على نفي إرادة المسمى وهذا كله أقبح السفسطة والقرمطة وهو يجمع من الإشراك بالله في جواز تسميته بكل اسم للخلق وجعل

كل شيء له شبيهًا ونظيرًا من الإلحاد في أسمائه وآياته ما لا يحصيه إلاَّ الله إذ هذا من أفسد قياس يكون في اللغة فإنهم كما أفسدوا القياس في المعاني المعقولة حتى قاسوا الله بكل موجود وبكل معدوم كما تقدم بيانه كذلك أفسدوا القياس في الألفاظ المسموعة حتى لزمهم أن يجعلوا كل اسم لمسمى يصلح أن يكون لغيره وأن يسمى الله تعالى بكل اسم من أسماء المخلوقات الوجه السادس أن يقال هب أن لفظ الشخص يلزمه أن يكون واحدًا فهل إطلاق الملزوم على لازمه أمر مطرد أم هو سائغ في بعض الأشياء فإن جعل ذلك مطردًا لزمه من المحال ما يضيق عنه هذا المجال حتى يلزمه أن يسمي كل صفة لازمة للإنسان والفرس والشجرة والسماء والأرض باسم الموصوف بل ويلزمه ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الوجه السابع هب أنه يطلق الملزوم على لازمه فاللازم هو الوحدة كما قلت فإطلاق اسم الشخصية على

الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر وأنت تجعل المسمى هنا الذات المخصوصة والحقيقة المعينة وتلك ليست هي الوحدة بل هي شيء قائم بنفسه متميز عن غيره فإن قيل فقد ذكرتم أن من اصطلاح بعض الناس تسمية كل فرد من أفراد النوع شخصًا قيل نحن ذكرنا وجه ذلك بالاستعمال لما كان لفظ الشخص مقولاً على الإنسان وما يشبهه وقالوا الإنسان نوع تحته أشخاص أي أعيان هي أشخاص ولم يكن مقصودهم نفس الشخصية بل مطلق كونه واحدًا نقلوا ذلك إلى أعم منه كما في نظائره لم يجعل وجهه التلازم المذكور الوجه الثامن أنه يقال هب أن لفظ الشخص في لغة العرب يطلق على كل ذات معينة وحقيقة مخصوصة وهو كل ما كان واحدًا لكن لم قلت إن الحديث محمول عليه مع أنه خلاف الظاهر فإن قلت لأن لفظ الحقيقة أن يكون جسمًا وذلك منتف فعنه جوابان أحدهما أن هذا وارد عليك في كل ما يسمى به الله من السماء والصفات فإن مسماه في اللغة لا يكون إلا جسمًا

أو عرضًا فعليك إذًا أن تتأول جميع الأسماء والصفات وأنت لا تقول بذلك ولا يمكن القول به كما تقدم فإن المتأول لابد أن يفر من شيء إلى شيء فإذا كان المحذور في الثاني كالمحذور في الأول امتنع ذلك فتبين أن التأويل باطل قطعًا الثاني أنا قد قدمنا أن جميع ما يذكر من هذه الأدلة التي تنفي الجسم على اصطلاحهم فإنها أدلة باطلة لا تصلح لمعارضة دليل ظني ولا قطعي الوجه التاسع أن إراد ة المعنى المجازي باللفظ لا يسوغ إلاَّ مع القرينة الصارفة عن معنى اللفظ الحقيقي إلى المجازي ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا وخاطب أبو رزين بهذا ولم يُظهر أحدهما قرينة تنفي ذلك بل سياق الأحاديث يؤيد المعنى الحقيقي الوجه العاشر أن في حديث أبي رزين كيف يا رسول الله

فصل: مناقشة المؤلف للرازي في تأويله للغيرة وسياق الأدلة في ذلك

وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض فوصفه بأنه واحد بعد قوله وهو شخص فلو كان لفظ الشخص لم يرد به إلاَّ مجرد كونه واحدًا كما زعم المتأول لكان هذا تكريرًا فصل وأما تأويله للفظ الغيرة فنقول هذا مما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ربه به ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أحد أغير من الله تعالى من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك

مدح نفسه وفي رواية لمسلم وليس أحد أحب إليه المعذرة من الله ولذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك وعدنا بالجنة

وفي الصحيح عن أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا شيء أغير من الله عز وجل وفي الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته فلم يصفه صلى الله عليه وسلم بمطلق الغيرة بل بين أنه لا أحد أغير منه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير من المؤمنين وقد قدمنا غير مرة أن الله لا يُساوى في شيء من صفاته وأسمائه بل ما كان من صفات الكمال فهو أكمل فيه وما كان من سلب النقائص فهو أنزه منه إذ لهُ المثل الأعلى سبحانه وتعالى فوصفه بأنه أغير من العباد وأنه لا أغير منه

كوصفه بأنه أرحم الراحمين وأنه أرحم بعبده من الوالدة بولدها وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود والله لله عليك أقدر منك على هذا وكذلك العلم كقوله تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم 32] وكذلك الكلام كقوله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ

حَدِيثًا (87) [المساء 87] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر 23] وقول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق الكلام كلام الله ووصفه في حديث ابن مسعود والمغيرة بأنه لا أحد أحب إليه المدح من الله وكذلك قوله لا أحد أحب إليه العذر من الله فإن الغيرة هي من باب البغض والغضب وبإزاء ذلك المحبة والرضا فأخبر بغاية كماله في الطرفين حيث وصفه بأنه لا يبغض أحدٌ المحارم كبغضه ولا يحب أحدٌ الممادح كحبه والممادح لا تكون إلا على ما هو حسن يستحق صاحبه الحمد وهو ضد القبيح الذي يغار منه

وكذلك جاء حمده والثناء عليه الذي لا يحبه أحد كحبه إياه في الصلوات التي هي أفضل الأعمال وكان ما يغار منه هو ما حرمه كالفواحش فهذا محبته للمأمورات وهذا بغضه للمحذورات وأحدهما ينافي الآخر كما قال تعالى إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت 45] وقال في ذم من بدل هذا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم 59] والعذر أن يُعذر المعذور فلا يذم ولا يلام على ما فعل قال من أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين فأحب أن يكون معذورًا على عقوبة من عصاه لأنه أقام حجته عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل كما أحب أن يكون محمودًا ممدوحًا على ما أحسن به وأولاه من وعدهم إياهم بالجنة وكما حمد نفسه فالأول عدله وهذا فضله فهذان متعلقان بأفعاله كلها ذكرا في مقابلة ما يبغضه ويغار منه فانتظم الحديث في الطرفين كليهما وأما قوله في تأويل الغيرة معناه الزجر لأن الغيرة

حالة نفسانية مقتضية للزجر والمنع فكني بالسبب عن المسبب ههنا فالكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال لا ريب أن الغيرة تستلزم المنع والزجر مما يغار منه وكذلك الغضب والبغض ونحو ذلك من الصفات كما أن الحب والرضا يتضمن اقتضاء المحبوب المرضي وطلبه والأمر به لكن كون الصفة تستلزم فعلاً من الأفعال أو كون اللفظ يتضمن ذلك لا يقتضي أن يكون الثابت مجرد اللازم دون الملزوم الوجه الثاني أن هذه الصفات كلها والأحوال كالغيرة والغضب والبغض والمقت والسخط والحب والرضا والإرادة وغير ذلك هي مستلزمة لأمور أخرى من أقوال وأفعال فهل تحتمل على تلك اللوازم ويبقى الملازم أم يثبتان جميعًا أم يفرق بين البعض والبعض فإن قيل بالأول لزم ثبوت المراد بالإرادة وأن تكون إرادة الله هي المخلوقات ولزم أيضًا

وجود محبوب مرضي بلا محبة ولا رضا بل يلزم وجود مخلوق بلا خلق وهذا كله مما يقوله الجهمية من المعتزلة ونحوهم فإنهم لا يثبتون خلقًا ولا حبًّا ولا رضًا ولا سخطًا ولا غير ذلك سوى المفعولات التي هي من لوازم هذه الأمور في الشاهد ولهم في الإرادة نزاع كله باطل فإن منهم من نفاها كما نفى سائر هذه الأمور ومنهم من جعلها صفة حادثة بلا إرادة قائمة في غير محل وكلا هذين القولين معلوم الفساد بالضرورة ثم الكلابية والأشعرية ونحوهم من الصفاتية قد يوافقون هؤلاء في بعض الأمور كقولهم الخلق هو المخلوقات وكرد من رد منهم هذه الصفات إلى الإرادة فإن هؤلاء يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما لزمهم فيما ردوه وطرد هذه المقالات التي يثبتون فيها الأثر بدون مؤثره هو ثبوت الوجود بدون الخالق له وذلك

تعطيل الصانع وهذا هو في الحقيقة قول جهم وإن كان متناقضًا في ذلك يجمع في مقالاته بين ما يقتضي ثبوته وما يقتضي عدمه فالمقصود هنا مقالته السالبة التي خالف فيها أهل الإسلام فإن مضمونها تعطيل الصانع تعالى ولهذا تجد كل شيء من فروع هذه المقالة متى قسته وطردته استلزم عدم الصانع أو التناقض بالجمع بين الإثبات والنفي في الشيء الواحد أو نفي الإيجاب والامتناع في المتماثلين وإلاَّ فما من شيء يقرون به إلاَّ لزمهم فيه نظير ما أنكروه فيما نفوه الوجه الثالث قوله الغيرة حالة نفسانية قيل له وجميع الصفات هي لنا أحوال نفسانية كالحب والبغض والرضا والغضب وكالإرادة فإنها أيضًا حالة نفسانية وهي مقتضية للزجر تارة وللطلب أخرى لا فرق أصلاً بين بينهما في الشاهد الوجه الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتعجبون من غيرة سعد

والله لأنا أغير منه والله أغير مني وهذا ترتيب للغيرة ثلاث مراتب وجعل كل غيرة أقوى من الأخرى فلو كان قوله والله أغير منى ليس المراد منه الغيرة بل مجرد المنع وقوله أنا أغير منه يراد به العزة لكان هذا شاذًّا في الكلام وهو أيضًا تلبيس على المخاطب بلا قرينة تبين المراد الوجه الخامس أن تأويله ذلك بالزجر والمنع يقال له الزجر والمنع إما أن تفسره بالكلام أو بغير ذلك من نحوه وعلى كل حال فيقال لك زجر الله ومنعه الذي هو كلامه مثلاً هو من جنس زجرنا ومنعنا وكلامنا أم ليس كذلك فبأي شيء قال في ذلك لزمه مثله في الغيرة فإنه إذا ثبت له زجرًا ومنعًا ولنا زجر ومنع ولم يكن ذلك ممتنعًا فهلا أثبت له غيرة ولنا غيرة ولا يكون ذلك ممتنعًا مع أنه مقتضى النص وكل ما ذكره من ذلك من مشابهة ومخالفة يقال في الآخر مثله لا فرق بينهما أصلاً الوجه السادس أن الزجر والمنع الذي هو الكلام إما أن تفسره بمجرد اللفظ أو بمجرد المعنى أو بمجموعهما

وإذا فسرته بمجرد اللفظ فلابد من إثبات معنى يكون معنى الفظ وإلاَّ فاللفظ بلا معنى هذيان وإن كان هناك معنى هو مدلول لفظ الزجر والمنع فذاك المعنى لابد أن يكون من جنس البغض والكراهة ونحو ذلك فإن لفظ الزجر إن لم يتضمن ذلك لم يعقل منه النهي بحال وإذا كان كذلك فهذا الذي هو مدلول لفظ الزجر مستلزم لمعنى الغيرة الذي هو البغض والمقت والكراهة لما يغار منه فيكون المسبب الذي أوَّل به لفظ الغيرة مستلزمًا للسبب بحيث يمتنع وجوده بدونه وإذا لزم من نفي الغيرة إثباتها علم أن نفيها محال الوجه السابع أنه قال لا أحد أغير من الله وقال الله أغير مني وصيغة أفعل التفضيل توجب الاشتراك في معنى اللفظ مع رجحان المفضل أو اختصاص المفضل بمعنى اللفظ ولا يجوز اختصاص المفضول بمعنى اللفظ وهذا يوجب أن يكون الله موصوفًا بالغيرة على كل تقدير ثم يقال التفضيل بصيغة أفعل ليس في مجرد اللفظ ولا يجوز أن يكون للفظ معنيان واللفظ يقال عليهما بالاشتراك اللفظي

أو بالحقيقة والمجاز بل يجب أن يكون اللفظ دالاًّ عليهما بالتواطؤ أو التشكيك الذي هو نوع من المتواطئ فلا يقال هذا أجسم من هذا ويكون المراد بهما كثافة أحدهما وكبر قدر الآخر بل يكون اللفظ دالاًّ على المعنيين بالتواطؤ الوجه الثامن أنه قال لا أحد أغير من الله كما قال لا أحد أحب إليه المدح من الله ولا أحد أحب إليه العذر من

الله فلفظ أغير كلفظ أحب كلاهما في هذه الأحاديث وما يقال في الغيرة يقال في المحبة ما هو مثله أو أعظم منه فإن المحبة المشهودة في الآدميين كالعشق ونحوه أعظم من كثير من الغيرة فلا يجوز والحال هذه تأويل الغيرة دون المحبة والمحبة ثابتة بالقرآن في غير موضع وبالأحاديث المتواترة وسنتكلم إن شاء الله على تأويلها الوجه التاسع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة الصحيح إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه فأخبر بذلك خبرًا مبتدأ مجردًا ولم يقيد ذلك بما يخالف إطلاقه فلو كان المراد بذلك خلاف مدلوله لم يجز وكذلك قوله لا أحد أغير من الله الوجه العاشر أنه لو كان المراد بقوله إن الله يغار أن الله يزجر ويمنع لم يكن في التعبير عن هذا المعنى بهذا اللفظ والإخبار به فائدة ل كان إلى التلبيس أقرب منه إلى البيان لأن كل مسلم يعلم أن الله ينهى ويزجر ويحرم فلو لم يكن لقوله إن الله يغار معنى إلا أنه ينهى ويزجر كان قد عرفهم

بالأمر الواضح الجلي الذي يعلمونه بلفظ مشكل فيه تلبيس عليهم وهذا لا يفعله إلاَّ من يكون من اجهل الناس وأظلمهم ولا ينسب هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ منافق زنديق أو من يكون عظيم الجهل لا يدري لوازم قوله الوجه الحادي عشر أنه قال ما أحد أغير من الله من أجل ذلك حرن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وفي اللفظ الآخر من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وهذا نص صريح في إثبات السبب الذي هو الغيرة والمسبب الذي هو المنع والزجر وأنه من أجل غيرته التي هي السبب كان هذا المسبب الذي هو التحريم فجعل معنى الغيرة هو معنى التحريم الذي هو المنع والزجر تكذيب صريح للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الحقيقة قول الجهمية لكن منهم من يعلم بذلك فيكون منافقًا ومنهم جُهال لا يعلمون أنهم مكذبون له الوجه الثاني عشر أنه قال لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ومن اجل ذلك وعد الله بالجنة ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين

والمبشرين كما قال ولا أحد أغير من الله ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فجعل محبته للعذر سببًا لإرسال النذر ومحبته للمدح سببًا لمدح نفسه ولوعده عباده بالجنة وهذا يقرر أن المحبة والغيرة هي السبب في الأقوال المذكورة ليست هي نفس الأقوال التي هي الوعد والإرسال والمدح والنهي

فصل: في نقل المؤلف عن الرازي تأويل "النفس"

فصل قال الرازي الفصل الثالث في لفظة النفس احتجوا على إطلاق هذا اللفظ بالقرآن والأخبار أما القرآن فقوله تعالى في حق موسى عليه السلام وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] وقال حاكيًا عن عيسى عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وقال تعالى في صفة أهل الثواب كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقال تعالى في تخويف العصاة وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28-30] وأما الأخبار فكثيرة الخبر الأول ما روى أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه

والخبر الثاني قوله صلى الله عليه وسلم سبحان الله بحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه الخبر الثالث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو عنده إن رحمتي سبقت غضبي قال واعلم أن النفس جاء في اللغة على وجوه أحدها البدن قال الله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] ويقول القائل كيف أنت في نفسك أي كيف أنت في بدنك وثانيها الدم يقال هذا حيوان له نفس سائلة أي دم سائل ويقال للمرأة عند الولادة إنها نفست بخروج الدم منها عقيب الولادة وثالثها الروح قال الله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ

مَوْتِهَا [الزمر 42] ورابعها العقل قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام 60] وذلك لأن الأحوال بأسرها باقية حالة النوم إلا العقل فإنه هو الذي يختلف الحال فيه عند النوم واليقظة وخامسها ذات الشيء وعينه وقد قال تعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) [البقرة 9] فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة 54] وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 101] إذا عرفت هذا فنقول لفظ النفس في حق الله تعالى ليس إلاَّ الذات والحقيقة فقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة فإن الإنسان إذا قال جعلت هذه الدار لنفسي وعمرتها لنفسي فهم منه المبالغة وقوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 116]

المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وكذلك القول في بقية الآيات وأما قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن رب العزة فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فالمراد أنه إن ذكرني بحيث لا يطلع عليه أحد غيره ذكرته بإنعامي وإحساني من غير أن يطلع عليه أحد من عبيدي لأن الذكر في النفس عبارة عن الكلام الخفي والذكر الكامن في النفس وذلك على الله تعالى محال وأما قوله سبحان الله زنة عرشه ورضاء نفسه فالمراد ما يرتضيه الله لنفسه ولذاته أي تسبيحًا يليق به وأما قوله صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا على نفسه فالمراد به كتب كتابًا وأوجب العمل به والمراد من قوله على نفسه التأكيد والمبالغة في الوجوب واللزوم فثبت أن المراد بالنفس في هذه المواضع هو الذات وأن الغرض من ذكر هذا اللفظ المبالغة والتأكيد

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الرازي في تأويل النفس

فيقال اعلم أن كلامه في هذا الفصل وإن كان فيه من لبس الحق بالباطل ما فيه فهو أقرب ما ذكره وذلك أنه جعل المراد بالنفس هو الذات وهذا هو الصواب فإن طائفة من متأخري أهل الإثبات جعلوا النفس في هذه النصوص صفة لله زائدة على ذاته لما سمعوا إدخال المتقدمين لها في ذكر الصفات ولم يكن مقصود المتقدمين ذلك وإنما قصدهم الرد على من ينكر ذلك من الجهمية وزعموا أن ذلك هو ظاهر النصوص وليس الأمر كذلك وقد صرح أئمة السنة بأن المراد بالنفس هو الذات وكلامهم كله على ذلك كما في كلام الإمام احمد فيما خرجه من الرد على الجهمية قال ثم إن الجهمي ادعى أمرًا آخر فقال أخبرونا عن القرآن هو شيء قلنا نعم هو شيء قال إن الله خالق كل شيء فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة وقد أقررتم انه شيء فلعمري لقد ادعى أمرًا أمكنه فيه الدعوى ولبس على

الناس بما ادعى فقلنا إن الله تبارك وتعالى لم يُسم كلامه في القرآن شيئا إنما سمى شيئا الذي كان بقوله ألم تسمع إلى قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل 40] فالشيء ليس هو قوله إنما الشيء الذي كان بقوله وقال في آية أخرى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس 82] فالشيء هو أمره إنما الشيء الذي كان بأمره قال ومن الأعلام والدلالات أنه لا يعني بكلامه مع الأشياء المخلوقة قول الله جل ثناؤه للريح التي أرسلها على عاد تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف 25] وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها منازلهم ومساكنهم

والجبال التي كانت بحضرتهم قد أتت عليها تلك الريح ولم تدمرها وقد قال تعالى إنها تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف الآية 25] فكذلك إذا قال اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة وقال تعالى لملكة سبأ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 23] وقد ملك سليمان شيء لم تؤته فكذلك إذا قال خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا يعني به كلامه مع الأشياء المخلوقة

وقال الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] وقال وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28-30] وقال تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقال عيسى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وقال كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] فقد عرف من عقل عن الله تعالى أنه لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت وقد ذكر الله كل نفس فكذلك إذا قال خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة ففي هذا دلالة وبيان لمن عقل عن الله عز وجل وهذا من كلامه يبين أن مسمى لفظ النفس عنده هي ذات الله تعالى أخبر أنها لا تدخل في عموم قوله تعالى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كما لم يدخل في عموم قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ

ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة آل عمران 185] مع إخبار أن له نفسًا كما تلاه من الآيات ومعلوم أن قوله كُلُّ نَفْسٍ ليس المراد به صفة من صفات الإنسان بل المراد به هو نفسه فعلم أن قوله تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ونظائر ذلك ليس هو صفة للرب بل هو الرب نفسه وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في أثناء كلامه بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلمًا إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق كلامًا ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علمًا فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورًا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله من هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين

زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر وهذه ألفاظ صريحة في أن مسمى النفس هو ما يقوم به الصفات وهو مسمى الله وليس مسمى النفس صفة من الصفات وكذلك قال ويقال للجهمي إذا قال إن الله معنا بعظمة نفسه إلى أن قال وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم فقل له حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل لابد له من واحد منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه

فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء وإن قال خالقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة وكذلك قال زعمت الجهمية أن الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق فقلنا قبل أن يخلق هذا الاسم ما كان اسمه قالوا لم يكن له اسم فقلنا وكذلك قبل أن يخلق العلم كان جاهلاً لا يعلم حتى خلق لنفسه علمًا وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورًا وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة فعلم الخبيث أن الله قد فضحه وأبدى عورته حين زعم أن الله جل

ثناؤه في القرآن إنما هو اسم مخلوق وقال عثمان بن سعيد الدارمي ثم عاد المعارض إلى أسماء الله تعالى ثانية فادعى أنها محدثة كلها لأن السماء هي الألفاظ ولا يكون لفظ إلا من لافظ إلاَّ أن في معانيها ما هي قديمة ومنها حديثة وقد فسرنا للمعارض تفسير أسماء الله تعالى في صدر كتابنا هذا واحتججنا عليه بما تقوم به الحُجة من الكتاب والسنة فلم نُحب إعادتها ها هنا ليطول به الكتاب غير أن قوله هي لفظ اللافظ يعني أنه من ابتداع المخلوقين وألفاظهم ل أن الله تعالى لا يلفظ بشيء في دعواهم ولكن وصفه بها المخلوقون وكلما حدث لله تعالى فعل في دعواه أعاره العباد اسم ذلك الفعل يعني أنه لما خلق سمَّوه خالقًا وحين رزق سمَّوه رازقًا وحين خلق الخلق

فملكهم سمَّوه مالكًا وحين فعل الشيء سمَّوه فاعلاً وكذلك قال منها حديثة ومنها قديمة فأما قبل الخلق فبزعمهم لم يكن لله اسم وكان كالشيء المجهول الذي لا يُعرف ولا يُدرى ما هو حتى خلق فأحدثوا أسماءه ولم يعرفُ الله في دعواهم لنفسه أسماء حتى خلق الخلق فأعاروه هذه الأسماء من غير أن يتكلم الله بشيء منها فيقول أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص 30] وأنا الرحمن الرحيم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) [البقرة 160] فنفوا كل ذلك عن الله تعالى مع نفي الكلام عنه حتى ادعى جهم أن راس محنته نفي الكلام عن الله فقال متى نفينا عنه الكلام فقد نفينا عنه جميع الصفات من النفس واليدين والوجه والسمع والبصر لأن الكلام لا يكون إلاَّ لذي نفس ووجه ويد وسمع وبصر ولا يثبت كلام لمتكلم إلاَّ من قد اجتمعت فيه هذه الصفات وكذب جهم وأتباعه فيما نفوا عنه من الكلام وصدقوا فيما ادعوا أنه لا يثبت الكلام

إلاَّ لمن اجتمعت فيه هذه الصفات فقد اجتمعت في الله على رغم أعداء الله وإن جزعوا منه بلا تكييف ولا تمثيل وهو الذي أخبر عنه بأسمائه في محكم كتابه المنزل على رسوله ووصف بها نفسه وقوله ووصفه غير مخلوق على رغم الجهمية غير أن الوصف من الله على لونين أما ما وصف به نفسه فالوصف والموصوف غير مخلوق وأما ما وصف به خلقه من السموات والأرض والجبال والشجر والجن والإنس والأنعام وسائر الخلائق فالوصف منه غير مخلوق والموصوفات مخلوقات

كلها قال وادعى المعارض أيضًا أن الله تعالى لا يوصف بالضمير والضمير منفي عن الله وليس هذا من كلام المعارض وهي كلمة خبيثة قديمة من كلام جهم عارض جهم بها قول الله تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] يدفع بذلك أن يكون الله سبق له علم في نفسه بشيء من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم فتلطف بذكر الضمير ليكون أستر له عند الجهال فرد على جهم بعض العلماء قوله هذا وقال له كفرت بها يا عدو الله من ثلاثة أوجه أنك نفيت عن الله العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق وأعمالهم والوجه الثاني أنك استجهلت المسيح صلى الله عليه وسلم أنه وصف ربه بما لا يوصف به بأن له خفايا علم في نفسه إذ يقول له وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116]

والوجه الثالث أنك طعنت به على محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاء به مصدقًا بعيسى فأفحم جهمًا قال وقول جهم لا يوصف الله بالضمير يقول لم يعلم الله في نفسه شيئًا من الخلق قبل حدوثهم وحدوث أعمالهم وهذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق والناقض عليه بذلك قول الله تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] فذكر المسيح أن لله علمًا سابقًا في نفسه يعلمه الله ولا يعلمه هو وقال الله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28-30] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله الخلق كتب في كتابه بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي

وأسند حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه

قال فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخفي ذكر العبد في نفسه إذا أخفى ذكره ويعلنه إذا أعلن هو ذكره ففرق بين علم الظاهر والباطن والجهر والخفي فإذا اجتمع قول الله وقول الرسولين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم فمن يكترث لقول جهم والمريسي وأصحابهما فنفس الله هو الله والنفس تجمع الصفات كلها فإذا نُفيت النفس نُفيت الصفات وإذا نُفيت الصفات كان لا شيء قال وحدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن زيد بن جبير سمعت أبا البختري قال لا يقولن

أحدكم اللهم أدخلني مستقر رحمتك فإن مستقر رحمته نفسه قال فقد أخبر أبو البختري أن رحمة الله في نفسه وكذلك قال الله تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه 15] فحدثنا ابن نمير حدثنا محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح الحنفي أكاد أخفيها

قال من نفسي فأي مسلم سمع بما أخبر الله به عن نفسه في كتابه وما أخبر عنه الرسول ثم يلتفت إلى أقاويلهم إلاَّ كل شقيٍّ غويٍّ إلى أن قال ونحن قد عرفنا بحمد الله تعالى من لغات العرب هذه المجازات التي اتخذتموها دلسة وأغلوطة على الجهال تنفون بها عن الله حقائق الصفات بعلل المجازات غير أنا نقول لا نحكم للأغرب من كلام العرب على الأغلب لكن تُصرف معانيها إلى الأغلب من كلام العرب حتى يأتوا ببرهان أنّه عُني بها الأغرب وهذا هو

المذهب الذي هو الإنصاف والعدل أقرب لا أن تُعترض صفات الله المعروفة المقبولة عند أهل البصر فتصرف معانيها بعلة المجازات إلى ما هو أنكر ويرد على الله بداحض الحجج وبالتي هي أعوج وكذلك ظاهر القرآن وجميع ألفاظ الروايات تصرف معانيها إلى العموم حتى يأتي متأول ببرهان يبين أنها أريد بها الخصوص لأن الله تعالى قال وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [النحل 103] فأثبته عند العلماء أعمه وأشد استفاضة عند العرب فمن ادخل منها الخاص على العام كان من الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهو يريد أن يتبع فيها غير سبيل المؤمنين فمراد جهم من قوله لا يوصف الله تعالى بالضمير يقول لا يوصف بسابق علم في نفسه والله تعالى يكذبه بذلك ثم رسوله إذ يقول سبق علم الله في خلقه فهم صائرون على ذلك ثم أسند حديثًا عن العلاء بن

عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جف القلم على علم الله

وأسند عن القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء يكون قل فهل جرى القلم إلاَّ بسابق علم الله في نفسه قبل حدوث

الخلق وأعمالهم والله ما درى القلم بماذا يجري حتى أجراه الله بعلمه وعلمه ما يكتب مما يكون قبل أن يكون وقال النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله مقادير أهل السموات والأرض قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة فهل كتب ذلك إلاَّ بما علم فما موضع كتابه هذا عن لم يكن علمه في دعواهم وأسند الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحُبليّ عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال والأحاديث عن

النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان بسابق علم الله كثيرة تطول عن ذكرناها وفيما ذكرنا من ذلك ما يبطل دعوى جهم في أغلوطته التي توهم على الله تعالى في الضمير قلت فهذا الكلام عن عثمان بن سعيد يبين أن مُسمى النفس عند السلف وهو الذات كما قال فنفس الله هو الله والنفس تجمع الصفات كلها فإذا نفيت النفس نفيت الصفات وكذلك قوله فأخبر أبو البختري أن رحمة الله في نفسه لأن الصفة قائمة بالموصوف فهذا ونحوه يبين مرادهم وأنهم قصدوا رد ما أنكرته الجهمية من ذكر إثبات مسمى النفس لله وقيام العلم بها كما يذكر عن ثمامة بن أشرس أنه قال ثلاثة من

الأنبياء مشبهة موسى حيث قال إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الأعراف 155] وعيسى حيث قال تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] ومحمد حيث قال ينزل ربنا كل ليلة وبذلك يتبين ما ذكره عثمان بن سعيد حيث قال حتى ادعى جهم أن رأس محنته نفي الكلام فقال متى نفينا عنه الكلام فقد نفينا عنه جميع الصفات من النفس واليدين والوجه والسمع والبصر لأن الكلام لا يثبت إلاَّ لذي نفس ووجه ويد وسمع وبصر وقال عثمان كذبوا فيما نفوا عن الله من الكلام وصدقوا فيما ادعوا أنه لا يثبت الكلام إلاَّ لمن اجتمعت فيه هذه الصفات وقد اجتمعت في الله عز وجل على رغم أنفسهم فإدخاله النفس هنا في الصفات وقوله إن الكلام

لا يثبت إلاَّ لذي نفس ووجه ويد وسمع وبصر قد يشعر ظاهره أن مسمى النفس صفة لصاحبها لأنه أضافها إليه وقرنها بالوجه واليد وليس كذلك فإن إضافتها إليه كإضافتها في قوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وفي قوله رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقد قال بعد هذا فنفس الله هي نفس الله والنفس تجمع جميع الصفات كلها فإذا نفيت النفس نفيت الصفات فهذا يبين أنه أراد الذات التي تقوم بها الصفات كالعلم القديم كما ذكره فينبغي أن يكون لله نفس ويكون فيها علم كما قال تعالى تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [المائدة 116] فقوله إن الكلام لا يثبت إلا لذي نفس يشبه قوله إلاَّ لذي حقيقة وماهية ونحو ذلك لكن لفظ النفس والله أعلم يقتضي

حياة المسمى بها وقيامه بنفسه بخلاف لفظ حقيقته وماهيته وذاته فمسمى لفظ النفس أخص وهي التي جاء بها الكتاب والسنة ولم يجئ فيهما ذكر لفظ حقيقته ونحو ذلك في أسماء الله ولا لفظ ذات في الأحاديث الثابتة وكذلك قال أبو بكر بن خزيمة باب ذكر البيان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات النفس لله عز وجل على مثل موافقة التنزيل وذكر قوله فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وقوله سبحان الله رضا نفسه وقوله كتب في كتابه

على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي وفي رواية أخرى لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي قال أبو بكر فالله أثبت في كتابه أن له نفسًا وكذلك قد بين على لسان نبيه أن له نفسًا كما أثبت في كتابه قال وكفرت الجهمية بهذه الآي وهذه السنن وزعم بعض جهلتهم أن الله إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه وزعم أن نفسه غيره كما خلقه غيره قال وهذا لا يتوهمه ذو لُبٍّ وعلم فضلاً عن أن يتكلم به قد أحكم الله في مجمل تنزيله أنه كتب على نفسه الرحمة أفيتوهم مسلم أن الله كتب على غيره الرحمة وحذر الله العباد

نفسه أفيحل لمسلم أن يقول إن الله حذر العباد غيره أو يتأول قوله لكليمه وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] فيقول معناه واصطنعتك لغيري من المخلوقين أو يقول أراد روح الله بقوله وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] أراد ولا أعلم ما في غيرك هذا لا يتوهمه مسلم ولا يقوله إلاَّ معطل كافر فهذا أيضًا يبيّن أنهم قصدوا الرد على الجهميَّة حيث منعوا ثبوت النفس لله حتى جعلوا مسامها غيره حتى ذكر القاضي أبويعلى في بعض تأويلاتهم قول بعضهم في قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أنَّ نفسك ترجع إلى نفس عيسى وأضاف نفسه إلى الله من طريق الملك والخلق فيكون معناه لا أعلم ما في ملكك مما خلقته إلاَّ ما أعلمتني وهذا لأنَّ مسمّى النفس أخصّ من مسمّى الذات والعين والحقيقة والماهيَّة ونحو ذلك فإنَّها لا تقال إلاَّ لما هو

حيّ كما في مثل قوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] لو كان معنى كل ذات وكل حقيقة لدخل في ذلك الجمادات وكذلك يستلزم أن يكون لها قول وعمل وأن تكون قائمة بذاتها قائمة بها الصّفات فلمّا كان اسم النفس مستلزمًا لإثبات ما تنكره الجهميّة من الصفات أنكروه فردّ عليهم السلف والأئمة ذلك ولم يقصدوا بالرد أنَّ نفس الله صفة ليست هي ذاته كما ذهب إليه طائفة من المتأخرين فهذا القول ضعيف وإن كان قول الجهمية أضعف منه قال القاضي أبويعلى في كتاب إبطال التأويل في هذا الخبر من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي اعلم بأنَّ الله يوصف بأنَّ له نفسًا وقد أومأ إليه أحمد فيما خرّجه من الرد على الجهمية فقال إذا أردت أن تعلم أن الجهميّ كاذب على الله تعالى حين زعم أنَّه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس كان الله ولا شيء فيقول

نعم فقل له حين خلق الشيء أخلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه فإنّه يصير إلى ثلاثة أقاويل لابد له من واحد منها إن زعم أنَّ الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنَّه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنَّه دخل في كل مكانٍ وحشٍ قذر رديء وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السُّنَّة قال وهذا من كلام أحمد يدلُّ على إثبات النفس لأنَّه جعل ذلك حجة عليهم ولو لم يعتقد ذلك لم يحتج به وقد أخبر الله تعالى بذلك في آي من كتابه مثل قوله تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] ولأنَّه ليس في

إثبات النفس ما يحيل صفاته ولا يخرجها عمّا تستحقه لأنّا لا نثبت نفسًا منفوسة مجسَّمة مركّبة ذات روح ولا نثبت نفسًا بمعنى الدّم على ما تقوله العرب له نفس سائلة وليست له نفس سائلة ويريدون بذلك الدم لأنَّه سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك بل نثبت نفسًا هي صفة زائدة على الذات كما أثبتنا له حياة وبقاءً فقلنا هو حيّ بحياة وباق ببقاء وإن لم تكن حياته وبقاؤه عرضين كحياتنا وبقائنا كذلك في النفس قال فإن قيل فأثبتوا له روحًا لأنَّه قد وصف روحه بذلك فقال تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر 29] قيل لا نثبت له ذلك لأنَّ السمع لم يرد بذلك على وجه الصفة للذات وقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص 72] المراد به أمره لقيام الدليل على أنَّ صفات ذاته لا تحلُّ المحدثات ويفارق هذا إثبات الـ ـنفس لأنَّه ليس في إثباتها ما يحيل صفاتها ولا يخرجهـ ـا عما يستحقه وقال بعد ذلك

ولا يجوز إثبات روح وقد قال أحمد فيما خرّجه في الردّ على الزنادقة في قوله تعالى وَرُوحٌ مِنْهُ فقال تفسير روح الله إنّما معناها أنَّه روح بكلمة الله تعالى خلقها الله كما يقال عبد الله وسماء الله وأرض الله قلت أمَّا ما ذكره من كلام أحمد فإنَّه موافق لألفاظ النصوص وقد قدمنا هذا وغيره من كلام أحمد وكله يدلُّ على أنَّ نفس الله هو الله وذاته لا صفة قائمة به وهكذا اللفظ الذي استشهد به على ذلك فإنَّ أحمد قال فقل له خلق الخلق في نفسه أو خارجًا من نفسه ثم بيَّن أنَّه إن قال خلقهم في نفسه كفر لأنّه جعل الأشياء الخبيثة كالشياطين في نفس الله وإن قال خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم كفر حيث جعله قد دخل في الأمكنة الخبيثة التي يعلم بالفطرة الضرورية تنزيه الله تعالى عنها وإن قال خلقهم خارجًا من

نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهذا صريح في أنَّ نفسه هي هو وهي ذاته لا صفة لذاته لأنّه لو كان المراد خلقهم في صفته أو خارجًا عن صفته لم تكن القسمة حاصرة إذ قد يخلقهم في المحل الذي هو فيه وأيضًا إن قال خلقهم في نفسه كفر وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء فهذا يبين أنَّ الخالق هو نفسه الذي قدر أنه خلقهم خارجًا عنه ثم دخل هو فيهم ولو أريد خلقهم خارجًا عن صفة من صفاته لكان المقدّر دخول تلك الصفة فيهم بعد ذلك لا دخوله هو وكذلك قوله وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة أي أن العالم مباين لذات الله تعالى وقد مر تقرير كلام أحمد في موضعه وأن حجته هذه النظرية من أحسن الحجج المعلومة ببديهة العقل

مناقشة المؤلف للطائفة التي تقول: إن النفس صفة زائدة على الذات

ولا يستقيم هذا الكلام إلا إذا كان معنى نفسه هو ذاته وهو ظاهر الكلام بل نصه لا يفهم منه غير ذلك وحينئذ فنتكلم مع الطائفتين أمَّا قوله من جعلها صفة فالنزاع معه لفظي فإنا لا ننازعه أنَّ هذا الاسم يستلزم ثبوت صفة زائدة على مسمّى الذات كالحياة والفعل ولكن المسمّى هو الذات الموصوفة بذلك لا نفس الصّفة فأمَّا جعل لفظ النفس اسمًا لنفس الصّفة فيقال هذا قول بلا دليل أصلاً لأنّه ليس ظاهر الخطاب فضلاً عن أن يكون نصه مقتضيًا أنها صفة ليست هي الله ومن زعم أنَّ هذا ظاهر النصوص فهو مبطل في ذلك كما أنَّ من زعم أنَّ ظاهرها يجب تأويله فهو مبطل في ذلك وقد قدمنا أنَّ كثيرًا من الناس يغلطون في دعواهم على النصوص أنَّ ظاهرها

كذا سواء أقرّوه أو صرفوه فإنّه لا يكون ذلك ظاهر النص وكل من سمع هذا الخطاب ابتداء فإنَّه يفهم منه ابتداءً أنَّه هو نفسه لا أنَّها صفة له الوجه الثاني أنه قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] فكما أنَّه لا يكتبها على غيره فلا يكتبها على صفة من صفاته إنما يكتبها على نفسه الوجع الثالث أنَّه قال سبحان الله رضاء نفسه وصفات الله لا يكون لها رضا إنَّما الرضا له نفسه هو الذي يرضى ويسخط الوجه الرابع قوله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28] فكما أنَّه لا يحذر بعض مخلوقاته لا يحذر صفاته كالحياة ونحوها بل هو نفسه هو الذي يخاف ويرجى ويُتَّقى ويُعبَد وهم لا يمكنهم أن يقولوا نفسه هي صفة الغضب ونحو ذلك دو ن غيرها بل يجهلونـ ـها نظير الحياة والبقاء

كما ذكروه وهذه الصفة تتعلّق بالرضا والغضب ومعلوم أنَّ الله لا يحذّر عباده حياته وبقاءه ونحو ذلك ولا بنفي ذلك الوجه الخامس قوله لموسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] إنَّما اصطنعه لذاته لا لصفة له كالحياة والبقاء كما لم يصطنعه لشيء من خلقه الوجه السادس قول المسيح عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] فقد وصف النفس بأنَّ فيها علمًا والعلم وسائر الصفات إنَّما تقوم بالله نفسه لا تقوم بصفة كالحياة ونحوها الوجه السابع قوله ما في نفسي فإنَّ المراد به هو نفسه ليس المراد به صفة من صفاته إذ علمه لا يقوم إلاّ به نفسه وذاته وعينه لا تقوم بصفة من صفاته ولا أعلم ما في نفسك فإنَّ لفظهما سواء وقد خرج على وجه المقابلة

بعض الاعتراضات الواردة على هذه المناقشة والرد عليها

الوجه الثامن قوله إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فإنَّ الذكر قول وكلام وسواء أريد الذكر الكامن أو اللفظ فإنَّه على التقديرين لا يقوم إلاَّ بالذاكر نفسه وعينه لا يقوم بصفة من صفاته فعلم أنَّ ذكر الله في الله نفسه وذكر العبد لله في نفسه الوجه التاسع قوله إن ذكرني في نفسه إذا كان المراد به هو نفسه وذاته فكذلك الآخر الوجه العاشر قوله في الحديث الصحيح لمَّا قضى الله الخلق كتب بيده على نفسه إنَّ رحمتي تغلب غضبي فهو لا يكتب على صفة له كالحياة والبقاء وإنَّما يكتب على نفسه فإن قالوا إن جاز حمل النفس على الذات جاز حمل الحياة والبقاء على الذات فيقال ذات حيَّة ذات باقية وقد أجمعنا ومُثبتو الصفات على انَّه حيّ بحياة باقٍ ببقاء كذلك جاز أن يكون ذات بنفس والجواب أنَّ مسمّى الحياة والبقاء وهو الصِّفة وأمَّا

مسمّى النفس هو الموصوف نفسه وليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله لفظ النفس يراد به صفة موصوف لا في ذكر الخالق ولا في ذكر المخلوق كما قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر 42] وقال كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] وقال إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف 53] وقال وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) [القيامة 2] وقال يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) [الفجر 27] وقال فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة 54] وقال لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور 12] وأضعاف ذلك في الحديث ليس المراد به أنَّ نفس الشيء صفة له فمن حمل قوله على نفسه أنَّه صفة من صفاته فقد حمل على غير لغة العرب التي أنزل الله بها كتابه وهذا خلاف نص القرآن وظاهره فضلاً عن أن يقال هو ظاهره وأيضاً فإنَّهم يؤكِّدون بها فيقولون رأيت زيدًا عينه نعم يوجد في كلام بعض المولَّدين

ما يشبه أن يكون لفظ النفس صفة كما يقولون فلان له نفس وفلانٌ ليس له نفس واترك نفسك وتعال ونفسك وحجابك ونحو ذلك فإنَّ مقصودهم الصفات المذمومة كالأهواء المتّبعة من الشهوة والغضب ونحو ذلك وهذا ليس من اللّغة التي يجوز حَمل كلام الله ورسوله عليها إذ مثل هذا لا يوجد إلا في كلام المتأخرين وذلك والله أعلم أنَّ هذا مثل قولهم فلان له يد وله لسان أي يد باطشة ولسان ناطق فيطلقون اسم الذات ويريدون به الصّفة المشهورة فيها فقول القائل اترك نفسك أو له نفس ونحو ذلك يريد به الذات على الصّفة المخصوصة وهي الصفة المذمومة كما يقال أمسك لسانك واكفف يدك أو له لسان وله يد وهذا يستعملونه في النفي كما يستعملونه في الإثبات فينفون الشيء لانتفاء الصفة المشهورة فيه كما يقال فلان ليس له

لسان أي لا يحسن أن يتكلم ولا يد له في هذا أو هو عاجز عن عمل هذا كما يقولون فلان ليس بإنسان لانتفاء الصّفات المعروفة في الإنسان عنه وهكذا لفظ النفس قد يقولون لا نفس له لانتفاء الهوى والغضب وقد يجعلون ذلك حمدًا إذا انتفى المذموم منه وقد يذمونه بذلك إذا انتفى فيه الجهة المحمودة فيقال ليس له نفس بهذا الاعتبار وإذا كان كذلك فمعلوم أنَّ مثل هذا في الإثبات إنَّما يراد به إثبات الذات الموصوفة بصفات النّفس لا يراد به مجرّد صفة فعلم أنَّ اسم النَّفس إنَّما هو اسم لذات الشيء الموصوفة قالوا قوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] المراد به الله الذي له النَّفس فكذلك قولكم وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28, 30] المراد به الله الذي له النَّفس فيقال لهم هذا لو كان صحيحًا لكان تأويلاً وهو من أضعف التأويلات فكيف تبطلون التأويل بمثل هذا التأويل وأيضًا فإنَّ اللفظ لا يحتمل ذلك في لغة العرب بوجه من الوجوه وأيضًا فإنَّ ذلك عدول عن مدلول اللفظ ومقتضاه بغير موجب

أصلاً وذلك من تحريف الكلم عن مواضعه وأمَّا لفظ الحياة والبقاء فلا يجوز أن يراد بها الذات الحيَّة لأنَّ ذلك صفة والذات هي الموصوف فمن اعتقد أنَّ مسمّى النَّفس في الخالق والمخلوق صفة وعرض لا موصوف وجوهر وجعل مسمّى لفظها من جنس مسمّى لفظ الحياة والبقاء فقد غلط على اللغة وغلط على القرآن والحديث قالوا وهذا يؤدّي إلى جواز القول بأنَّ الله نفس وأنَّه يجوز أن يدعى فيقال يا نفس اغفر لنا وقد أجمعت الأمّة على منع ذلك والجواب من وجوه أحدها أنَّ هذا منقوض عليهم بلفظ ذات وموصوف وقائم بنفسه وحقيقة وبائن من خلقه ونحو ذلك فإنَّه إن جاز أن يقال يا ذات يا موصوف يا قائمًا بنفسه يا حقيقة يا بائنًا من خلقه اغفر لنا جاز أن يقال يا نفس وإلاَّ فلا الثاني أنَّ الله إنَّما يُدعى بأسمائه الحسنى وهي الأسماء التي تدل عليه نفسه وتبين من أوصافه ما فيه حمد وثناء عليه فأمَّا الألفاظ التي لا تدل إلاَّ على مطلق الوجود ونحوه فلا يُدعى بها كما انَّه سبحانه لا يُدعى بالأسماء الدالة على خلقه للضرر

إلاَّ مقرونًا بالأسماء التي تدلُّ على خلقه للنفع فلا يقال يا ضارُّ ولا يا مانع إلاّ مقرونًا بيا نافع ويا هادي ويا معطي فإنَّ الاقتران يقتضي عموم القدرة والخلق والحكمة وهذا من أسمائه الحسني بخلاف إفراد أحدهما الثالث أنَّ هذا يرد عليهم فيما ادّعوه فإنّهم جعلوا له نفسًا هي صفة فينبغي أن يقال ياذا نفس اغفر لنا فإن قيل الإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه فلا يكون هو نفسه المضافة إليه قيل لا نزاع بين أهل اللغة أنه يقال رأيت زيدًا نفسه وعينه وهذا هو زيد نفسه وعينه ونحو ذلك والمغايرة في مثل هذا هو أنَّ مسمى لفظ النفس والعين اعمّ من المضاف إليه فإنَّ النَّفس والعين لغيره أيضًا فإذا أُضيف ذلك إليه خصصه بالإضافة والمغايرة تارة تكون في الذات وتارة في الصِّفات في باب العطف كقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) [الأعلى 2-4] فكذا في باب الإضافة ومن هذا الباب قولهم ثوب خز وخاتم فضة

ونحو ذلك وإن كان المضاف هو خز أو هو فضَّة لكان مسمّى كل منهما أعمّ من مسمّى الآخر وإنّما اختصا بالإضافة فكذلك قول القائل نفسي فيه اسمان مظهر وهو هذه النفس ومضمر وهو الياء ومن المعلوم أنّ الأسماء المضمرة لا تدلُّ على شيء من صفات المسمّى إلاّ كونه متكلمًا أو مخاطبًا أو غائبًا ونحو ذلك فالياء تدلُّ على أنه هو المتكلم كما أنَّ الهاء في قوله بعته تدل على أنَّه الغائب وهذا المعنى مغاير لمسمى النّفس وأمَّا لفظ النفس فهو يقتضي من الصِّفات كالحياة والفعل ونحو ذلك ما ليس في الأسماء المضمرة لكن لا يختص بذلك مضاف إليه دون آخر وإذا أُضيف ذلك إلى مضمر كان في لفظه من عموم المعاني ما ليس في المظهر والمضمر إذ المُضمر يدل على ذلك باللزوم وفي المضمر من خصوص كونه متكلمًا وغائبًا ما ليس في المظهر وبالإضافة اختص المضاف بالمضاف إليه فامتنع أن يكون المسمّى نفسًا غير نفسه وأيضًا فذكر لفظ النَّفس يدلُّ على ثبوت الحكم للمسمى نفسه لا لأحد منسوب إليه فإذا قيل كلمه الآمر نفسه منع أن يكون الكلام بواسطة ترجمان أو رسول وإذا قيل أنا

بنفسي جئت إليك منع أن يكون أرسل إليه رسولاً فقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] فيه ما ليس في قوله اصطنعتك إليّ إذ الأشياء تضاف إلى الله تعالى على وجوه متنوعة فقوله لنفسي يوجب أنَّه جعله خاصًّا له ومن المواضع ما لا يصلح فيها إلاّ هذا اللفظ كما في قوله ذكرته في نفسي فإنَّه لو قال ذكرته فيّ لم يكن من الكلام المعروف بخلاف ذكرته في نفسي وأيضًا ففي هذا من الدلالة على عدم الجهر ما ليس في غيره وأمّا من نفى خاصيّتها ولم يثبت إلاّ عموم مسمّى الذات فقد تقدّم أنَّ لفظ النَّفس لا يقال إلاَّ لحيّ ذي مقال وفعال لا يقال لمن ليس كذلك فكان في هذا اللفظ من المعاني ما ليس في غيره فلا يجوز نفي ذلك وهذه المادة ن ف س في لغة العرب تعطي الفعل والحياة وَسَمَّوا الدم نفسًا لأنّه مادة حياة الأجسام الحيوانيَّة وهو حامل البخار الذي هو الروح الحيواني ففيه الحياة والحركة ولهذا أمر بسفحه من الحيوان وحرم

مناقشة المؤلف للرازي بقوله إن النفس يراد بها البدن

أكله لأنّه يولّد على آكله البغي والاعتداء في القوة النفسانية وكذلك الهواء الداخل والخارج سمّوه نفسًا لما فيه من الحياة والحركة وكذلك المتفلسفة يفرّقون بين العقل والنفس بأنَّ العقل مجرّد عن المادة وعلائقها والنَّفس تتعلّق بالجسم تَعَلُّق التدبير والتصريف وأما قول المؤسس إن النَّفس في اللغة يراد بها مجرّد البدن فهذا لا أصل له وقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] لم يُرد به كل بدن فإن البدن الخالي عن الروح لا يذوق الموت بل النفس هنا يراد بها الروح كقوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر 42] وأما قوله يراد بها العقل كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 60] وأحوال النائم باقية إلا العقل فهذا سهو منه فإنَّ قوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 60] ليس فيه

مناقشة المؤلف للرازي بقوله إن النفس يراد بها ذات الشيء وعينه

لفظ النّفس وإنَّما لفظ النفس في الآية الأولى وهي قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر 42] فالآية التي احتج بها على أنَّ مسمّى النّفس هي مُسمّى الروح هي الآية التي ذكر فيها توفّي الأنفس وذلك يقتضي أنَّ المتوفّى بالموت والنوم هو النّفس التي هي الروح وأنَّ النّائم تُتوفى روحه لكن توفِّيًا دون الموت بحيث تمسك وترسل وأمَّا التعبير بلفظ النّفس عن العقل فهذا ليس من لغة العرب أصلاّ وأما قوله يراد بها ذات الشيء وعينه كقوله تعالى وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة 9] وقوله فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة 54] وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 101] فلا يراد بها ذات كل شيء وعين كل شيء اللَّهم إلاّ أن يكون في التوكيد فإذا قالوا الأنفس والنفوس لم يفهم منه ما لا حياة له ولا فعل كالجمادات ولهذا قال النّبي صلى الله عليه وسلم ما من نفس منفوسة إلاّ وقد كتب الله مكانها من الجنّة والنّار

وأما قوله تعالى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فهو نظير قوله لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [النور 12] وقوله ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة 85] وقوله وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات 11] أي يقتل بعضكم يعضًا وسمّى الجميع نفسًا أي لا يقتل إلاّ من هو منكم لا يكون من غيركم لأن المتفقين في مقصود الحياة والفعل يكونـ ـون كالشيء الواحد قوله لفظ النّفس في حق الله تعالى ليس إلاّ الذات والحقيقة

يقال له أتريد أنّ معنى اللفظ مطلق ذات ما وحقيقة ما أم ذات وحقيقة قائمة بنفسها مستلزمة للحياة والفعل ونحو ذلك أمَّا الأول فممنوع والثاني فمسلَّم وبهذا يتبيّن أنَّ أهل الوسط يثبتون ما أثبته الطائفتان من الحق ويجمعون بين قوليهما فإنَّ هؤلاء أثبتوا من مُسمّى اللفظ مطلق الذات وأولئك أثبتوا الصّفة الخاصة وأهل الوسط أثبتوا الأمرين فإنَّ اللفظ دالّ على الذات وعلى خصوص الصفة قوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة فإن الإنسان إذا قال جعلت هذه الدار لنفسي فُهم منه المبالغة يقال له التأكيد يقتضي ثبوت المعنى المؤكّد فما المعنى المؤكّد الذي أكّد بهذا الكلام هذا لم يثبته ولم يبين هل التوكيد بذكر لفظ النّفس أم بالإضافة إلى الله تعالى وقد قال غيره

كابن فورك اصطنعتك لنفسي لذاتي أو لرسالتي والآية تقتضي أنّه اصطنع موسى لنفسه واصطنع افتعل من صنع أي صنعه لنفسه فيكون خالصًا له مخلصًا له الدين كما قال تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) [مريم 51] ويشبهه قول أم مريم إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران 35] لكن هناك الله هو الذي اصطنعه لنفسه فإنَّ من كان في عمله وسعيه شيء لغير الله يكون كالذي فيه شركاء متشاكسون بخلاف الذي يكون كله لله وقد تضمّن ذلك أنَّه يحبّه كما قال قبل هذه الكلمة وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه 39-40] إلى قوله ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 40-41] وجاء في حديث أبي هريرة الذي فيه تحاج آدم وموسى قال آدم لموسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته واصطنعك لنفسه وأنزل عليك التّوراة قال نعم ومعلوم أنَّ الأنبياء وسائر عباد الله هم درجات

عند الله في عبوديتهم لله وإخلاصهم له ومحلته لهم وقربهم منه فاصطناع الله موسى لنفسه له من الخصوص ما لا يشركه فيه من موسى أفضل منه وإن كان الجميع عباد الله المخلصين له الدين وقد قال القاضي تأويل قوله تعالى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] معناه لذاتي ورسالتي لا يصحّ لأنّه لا فائدة للتخصيص بموسى لأن غيره من الأنبياء اصطنعه لذاته ورسالته فوجب أن يكون لتخصيص النفس هنا فائدة فيقول له منازعوه وكذلك لو كانت النفس صفة لم يكن

مناقشة المؤلف للرازي في تفسيره لقوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك}

موسى مخصوصًا بالاصطناع لها فإن الاصطناع لله أعظم من الاصطناع لصفة من صفاته وأيضًا فالعباد لا يصطنعهم الله لصفة من الصفات وإنَّما يصطنعهم الله له نفسه وأما قول المؤسس تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك فلا ريب أنَّ هذا المعنى داخل في الآية لكن تفسيرها بمجرد هذه العبارة ليس بسديد فإنَّ معلوم الله ومعلوم عيسى ليس واحدًا منهما في النفس وإنَّما الذي في النفس العلم المطابق للمعلوم وأيضًا فسواء كان الذي في النّفس العلم أو المعلوم فـ ـكون المراد تعلم ما أعلم أو علمي ولا أعلم ما تعلم أو علمك لا ينافي أن يكون لله نفسًا كما نطقت به الآية كما أنَّ لعيسى عليه السلام نفسًا فإنَّ الآية صريحة في ذلك وهي دالة على ذلك المعنى ودلالة اللفظ على بعض المعاني لا يمنع دلالته على غيره

مناقشة المؤلف لما ذكره ابن فورك أن النفس بمعنى الغيب

وكذلك ما ذكره آخرون كابن فورك أنَّ المعنى تعلم ما في نفسي أي في غيبي ولا أعلم ما في نفسك أي في غيبك يقال لهم إن جُعل لفظ النفس بمعنى الغيب فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله وأسمائه وأن أُريد أنّك تعلم ما أغيبه في نفسي ولا اعلم ما تُغيبه

في نفسك فهذا صحيح لكنّه تطويل بلا فائدة والآية أوضح من هذا وأيضًا فـ ـقول القائل تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك لفظ مجمل فإنَّ غيب الشخص ما غاب عن غيره وإن كان بعض الناس قد شهده فإنّا نؤمن بالغيب الذي هو غيب عنَّا وإن كان من ذلك ما هو مشهود لغيرنا وأمَّا ما في نفسي فلا يعلمه غيره وأيضًا لفظ الغيب هو في الأصل مصدر ولكن يُراد به الغائب فالغيب الغائب فإذا قيل غيبي وغيبك أي غائبي وغائبك فينبغي أن يقال تعلم غائبي ولا أعلم غائبك أي حاجة إلى أن يقال تعلم ما في غائبي ولا اعلم ما في غائبك كيف يصح أن يقول عيسى لربّه تعلم ما في غيبي أو غائبي وأيُّ شيء يغيّبه عيسى عن الله وهو على كل شيء شهيد ولفظ الغيب إذا خوطب به مخاطب لابد أن يكون غائبًا عنه وأيضًا فغيب الله الذي غيّبه عن عباده الذي لا يعلمه العباد

هو المعلوم نفسه فأيّ شيء هو الذي في الغائب غيره وهذا من قديم تأويل الجهمية ذكره عبد العزيز الكناني في الرد على الزنادقة والجهمية قال في باب ما يسأل عنه الجهمية يقال له تقول إنَّ لله وجهًا وله نفس وله يد فيقول نعم ولكن معنى قولي وجه الله أي هو الله ومعنى قولي نفس الله أريد به غيب الله ومعنى يد الله

نعمة الله وتكلّم على ما ذكروه في الوجه قال وأمّا قوله في نفس الله هي غيبه فكأنّه لم يقرأ القرآن ولم يسمع الله عز وجل يقول وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 30] وقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] يليق أن يكون هذا ويحذّركم الله غيبه أو كتب ربّكم على غيبه الرحمة وقوله لموسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) [طه 41] أي لغيبي وأما قول المؤسس وكذلك القول في بقيَّة الآيات فلم يفصله لكن قال من تأوّل ذلك كابن فورك في قوله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 30]

وقالوا تأويل عقوبته فيقال لهم تحذير العباد نفسه كأمره لهم بخوفه فإن قال القائل إنّ تحذير الله نفسه يتضمّن تحذير عقوبته فهذا حقٌّ وإن قال لا معنى لذلك إلاّ تحذير عقوبته من غير أن يحذر نفسه فهذا تحريف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك

فلمّا استعاذ بصفاته ذكر الرضا والسخط والمعافاة والعقوبة ثم ذكر النفس فقال وأعوذ بك منك فالاستعاذة من عقوبته هي معنى من ثلاث معان فكيف يقال لا محذور ولا مستعاذ منه إلاّ العقوبة وقد قال تعالى لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران 28] وفي الجملة فتحذير الله نفسه بمنزلة الأمر بالخوف منه والأمر بتقواه ومن المعلوم أنَّ الله تعالى نفسه هو الذي يُخاف وعقوبته مما يخاف منه وهو الذي يُتقى وعقابه يُتّقى بتقواه وهو الذي يحذر عقابه فنفي تعلق التحذير

بها باطل يُذكر إن شاء الله تعالى بطرق في موضعه وأما قول المؤسس وحكايته عن ربّ العزّة قوله فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فالمراد به إن ذكرني بحيث لا يطّلع عليه غيره ذكرته بإنعامي وإحساني من غير أن يطّلع عليه أحدٌ من عبيدي لأنّ الذّكر في النفس عبارة عن الكلام الخفيّ والذكر الكامن وذلك على الله تعالى محال يقال له لا نُسلّم أنّ هذا على الله تعالى محال ولم تذكر على ذلك حجة وهذا والله أعلم هو معنى ما ذكره الأئمة عن الجهم أنه قال لا يوصف الله بالضمير والضمير عن الله منفيّ فإنَّ الضمير ما يُضمر فيه الشيء أي يخفى أي لا يُوصف بما فيه شيء خفيّ لكن الجهم أوسع إنكارًا من هذا المؤسس وذويه وإنّما أنكر الجهمية هذا لأن الله عندهم لا يتكلم ولا يَذكر ولا يقوم به ذكر وإنما الكلام المضاف إليه عندهم ما يخلقه في الهواء وهذا إنّما يصلح إذا خلقه

لمن سمعه من الملائكة والبشر فإذا كان الذكر في نفسه لم يسمعه وهذا الحديث نصٌ صريح في إبطال مذهبهم وأمَّا الكلابية والأشعرية فإنّهم لا ينكرون أن يقوم بذاته ذكر هو الكلام النفساني لكن لا يجوز عندهم التفريق بين الإعلان والإسرار فإنَّ المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية ولا يكون منه شيء في نفس الربّ وشيء من الملائكة عندهم أكثر ما يقوله بعضهم أنَّه قد يسمع الملائكة ما يسمعهم إيّاه فيكون التخصيص في خلق الإدراك للملائكة والحديث نصٌ في الفرق بين ذكره في نفسه وبين ذكره في الملأ بفرق يرجع إلى نفسه لا إلى خلق إدراك الملائكة فالحديث نص في إبطال قول هؤلاء أيضًا والحديث مستفيض في الصحيح وله طرق منها في الصحيح حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم وإن تقرّب إليّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً وذكر العبد ربه في نفسه نوعان أحدهما في نفسه من غير حروف يسمعها هو الثاني ذكر بلفظ خفي يسمعه هو دون غيره قال تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف 205] وذكر العبد في نفسه يتناول القسمين جميعًا ولهذا قال المؤسس إن الذكر في نفسه عبارة عن الكلام الخفيّ والذكر الكامن في النفس وذلك على الله محال

فصل: تأويل الرازي للفظ الصمد

فصل قال المؤسس الفصل الرابع في لفظ الصمد قال الله تعالى اللَّهُ الصَّمَدُ [سورة الإخلاص آية 2] وذكر بعضهم في تفسير الصمد أنه الجسم الذي لا جوف له ومنه قول من يقول لسدادة القارورة الصِّماد وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة قال ابن قتيبة وعلى هذا التفسير الدال مبدلة من التاء وقال بعضهم الصمد هو الأملس من الحجر الذي

لا يقبل الغبار ولا يدخل فيه شيء ور يخرج منه شيء قال واحتج قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في إثبات أنه تعالى جسم وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحدًا ينافي كونه جسمًا فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام الغليظة وتعالى الله عن ذلك قال والجواب عنه من وجهين الأول أن الصمد فعل بمعنى مفعول من صمد إليه أي قصد والمعنى أنه المصمود إليه في الحوائج قال الشاعر ألا بكر الناعي بخيري بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

والذي يدل على صحة هذا الوجه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية قالوا ما الصمد فـ ـفال النبي صلى الله عليه وسلم السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج قال أبو الليث يقال صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده الوجه الثاني من الجواب أنا سلمنا أن الصمد في

تعقيب المؤلف على ما نقله عن الرازي في تفسير الصمد

أصل اللغة المصمت الذي لا يدخل فيه شيء ولا ينفصل عنه شيء إلاّ أنا نقول قد دللنا على أنه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى فوجب حمل هذا اللفظ على مجازه وذلك لأن الجسم الذي يكون هذا شانه مبرأ عن الانفصال والتباين والتأثر عن الغير وهو سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان فكان المراد من الصمد في حقه تعالى هو هذا المعنى وبالله التوفيق والكلام على هذا من وجوه الأول أنه قد ذكر في القسم الأول من هذا الكتاب وهو الأدلة الدالة على نفي الجسم والحيز لما ادعى أن هذه السورة حجة له على نفي الجسمية والجهة أن هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى

جعلها جوابًا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة يعني لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماهية ربه ونعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فانزل الله تعالى هذه السورة قال وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً ثم إنه في القسم الثاني الذي جعله في تأويل المتشابهات من الآي والأخبار ذكرها من المتشابه الذي قد تأوله وذلك يقتضي أنه لا يجوز الاستدلال بها في باب صفات الله تعالى لن الاستدلال لا يجوز بالمتشابه بل يجب عنده إما تأويله وإما

تفويضه وهذا تناقض بين فيقال له لا يخلو إما أن تكون السورة محكمة أو متشابهة فإن كان الأول بطل ما ذكرته من التأويل هنا وبطل دعواك أنها من المتشابه وإن كان الثاني بطل ما ذكرته هناك من الاستدلال بها على مذهبك والتحقيق أن ما ذكره لنفسه في الموضعين باطل وما ذكره عليه حق فإن السورة محكمة لا ريب فيها كما ذكره أولاً وهي دالة على نقيض مذهبه ولا ريب في ذلك كما ذكروه ولكن يعلم أن هؤلاء القوم كما قال الله تعالى لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) [الذاريات 8-9] مختلفون في الكتاب ويحتجون به إذا ظنوا أنه لهم ويردونه إذا كان عليهم قد جعلوا

القرآن عضين يقول بعضهم لبعض اذهبوا إلى القرآن والحديث إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا , يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) [النساء 60-61] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) [النور 47] وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) [النور 48] وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) [النور 49] يستمسكون بالمتشابه من القول ويدعون المحكم يتركون النصوص المحكمة من الكتاب والسنة التي لا ريب في معناها ويدعون اتباع القرآن والحديث بما يدعونه من الافتراء على معانيه وهذا من أعظم اتباع المتشابه فإن قيل إنما ذكرها في المتشابه لأجل أحد القولين وهو تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له وهو لا يختار إلاَّ التفسير الأخير وهو أنه السيد المصمود إليه في الحوائج فيقال إن كان القولان متعارضين وأحدهما هو الصحيح

تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له

فكان الواجب ذكر القول الآخر من باب المعارضة ثم الجواب عنه لا تكون السورة بذلك محكمة ومتشابهة جميعًا حتى تذكر في القسمين الوجه الثاني أن هذا التفسير ثابت عن الصحابة والتابعين وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أثبت مما ذكره قال الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة باب نسبة الرب تبارك اسمه حدثنا أبو كامل الفضيل بن حسين حدثنا أبو سعد الخراساني حدثنا أبو جعفر الرازي عن

الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن أبي كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 1-4] قال فالصمد الذي لم يلد ولم يولد ولا يولد له لأنه ليس شيء يلد إلاَّ يولد ولا يولد إلاَّ سيموت وليس شيء يموت إلاَّ يورث وإن الله لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوًا أحد قال ليس له شبيه ولا مثل ولا عديل

حدثنا محمد بن مُصفى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه أن عبد الله بن سلام قال لأحبار يهود إني أريد أن

أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عهدًا قال فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنت عبد الله بن سلام قال قلت نعم قال قلت فانعت لنا ربك قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 1-4] قال وقرأ بها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت ابن سلام لم ير النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يره إلاَّ بالمدينة وقال لما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب

قال ابن أبي عاصم حدثنا أبو الربيع حدثنا هشيم حدثنا أبو إسحاق الكوفي عن مجاهد عن ابن عباس قال الصمد الذي لا جوف له

حدثنا ابن حساب حدثنا ابن ثور عن معمر عن عكرمة قال الذي لا جوف له حدثنا نصر بن علي حدثنا أبي عن شعبة عن أبي رجاء عن عكرمة مثله

حدثنا نصر بن علي حدثنا يزيد بن زريع عن أبي رجاء عن عكرمة مثله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غُندر عن شعبة عن أبي رجاء عن عكرمة قال الذي لا يخرج منه شيء حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن عُلية عن أبي رجاء عن عكرمة قال الذي لا يخرج منه شيء

حدثنا أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان وحدثنا أبو موسى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال الصمد الذي لا جوف له وبالإسناد عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد

قال الصمد الذي لا جوف له وحدثنا أبو بكر حدثنا ابن أخي إدريس عن أبيه عن عطية وعن ليث عن مجاهد قالا الصمد الذي ليس له جوف وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أحمد وحدثنا المقدمي حدثنا ابن أبي الوزير عن محمد بن

مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن جبير قال الصمد الذي لا جوف له وحدثنا نصر بن علي حدثنا أبي حدثنا محمد بن مسلم عن سعيد بن جبير مثله حدثنا ابن أبي عمر حدثنا مروان هو ابن معاوية

عن صالح بن مسعود عن الضحاك بن مزاحم في قوله الصمد الذي لا جوف له حدثنا أبو موسى حدثنا عبد الله بن داود عن مستقيم بن عبد الملك عن سعيد بن المسيب قال الصمد الذي ليس له حشو ة حدثنا أبو موسى حدثنا إسحاق بن منصور عن

عبد السلام عن عطاء عن ميسرة قال الصمد المصمت حدثنا أبو موسى حدثنا يحيى بن سعيد وابن مهدي حدثنا المقدمي حدثنا بشر بن المفضل وابن مهدي عن الربيع بن مسلم عن الحسن قال الصمد الذي ليس له

بأجوف وحدثنا نصر بن علي حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن الحسن قال الصمد الباقي بعد فناء خلقه وهو قول قتادة وحدثنا ابن حساب حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن قال الصمد الدائم وقال عبد الرزاق في تفسيره أخبرنا معمر عن قتادة

أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك فلم يدر ما يرد عليهم فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) أخبرنا معمر عن الحسن في قوله الصمد قال الدائم قال معمر وقال عكرمة هو الذي لا جوف له قال عبد الرزاق أخبرنا قيس بن ربيع عن مجاهد عن عاصم

عن شقيق بن سلمة وقال ابن أبي عاصم حدثنا أبو بكر أخبرنا يحيى بن سعيد وعيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال الصمد الذي لا يأكل الطعام حدثنا أبو موسى حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن الشعبي مثله أخبرنا أبو الربيع حدثنا هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرت أن الصمد الذي لا يأكل الطعام

ولا يشرب الشراب حدثنا المقدمي حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح قال الذي ليس له أمعاء حدثنا أبو بكر ثنا وكيع عن أبي معشر عن

محمد بن كعب القرظي قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وقال حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا أبي حدثنا الحسين بن واقد حدثنا عاصم بن بهدلة عن شقيق عن عبد الله بن مسعود قال الصمد السيد الذي قد انتهى سؤدده إلا أن هذا محفوظ عن شقيق

وهو أبو وائل من قوله هكذا رواه عامة الناس ويمكن أنه قد سمعه من ابن مسعود عن كان الحسين سمع هذا من عاصم قبل اختلاطه فإن هذا فيه نظر حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال الصمد الذي قد انتهى

سؤدده حدثنا محمد بن ثعلبة ثنا ابن سواء عن سعيد عن أبي معشر عن إبراهيم قال الصمد الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم وروى الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني صاحب المعاجم في كتاب السنة له وقد رواه بعد أن ذكر الآثار في الرؤية

وفي الاستواء على العرش ثم أخذ في الصفات فافتتح بتفسير هذه السورة فقال باب من صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا محمد بن ميسر أبو سعيد الصاغاني حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال جاء المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد لأنه ليس شيء يولد إلاَّ سيموت وليس أحد يموت إلاَّ يورث والله تعالى لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوًا أحد لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء قلت هذا الحديث قد تقدم أيضًا في كتاب السنة لابن أبي عاصم وهو مشهور عن أبي سعد هذا ورواه عنه الناس

وقد رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه الترمذي في جامعه قال حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو سعد هو الصاغاني عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلاَّ وسيموت ولا شيء يموت إلا سيورث وإن الله لا يموت ولا يورث ولم يكن له كفوًا أحد قال لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء قال الترمذي حدثنا عبد الرحمن بن حُميد حدثنا

عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا انسب لنا ربك قال فأتاه جبريل عليه السلام بهذه السورة قل هو الله أحد فذكر نحوه ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب وهذا أصح من حديث أبي سعد وأبو سعد اسمه محمد بن ميسر وأبو جعفر الرازي اسمه عيسى وأبو العالية اسمه رفيع وكان مولى أعتقته امرأة سائبة ثم قال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي

حدثنا سُريج بن يونس حدثنا إسماعيل بن مجالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال قالوا يا رسول الله انسب لنا ربك فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) وقال الطبراني حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا الفريابي

حدثنا قيس بن الربيع عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق بن سلمة قال قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ إلى آخرها قال الطبراني لم يجاوز به الفريابي وغيره شقيق بن سلمة ووصله عبيد بن إسحاق العطار عن قيس عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله حدثنا الهيثم بن خلف الدوري حدثنا أبو أسامة عبيد الله

ابن أسامة حدثنا عبيد بن إسحاق العطار حدثنا قيس بن الربيع عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله حدثنا الحزامي حدثنا عبد الرحمن بن عثمان الطرائفي حدثنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل شيء نسبة ونسبة الله قل هو الله أحد الله الصمد والصمد ليس بأجوف وهذا في إسناده الوازع بن نافع قال الطبراني حدثنا حفص عن عمر الرقي حدثنا

محمد بن عمر الرومي حدثنا عبيد الله بن سعيد أبو مسلم قائد الأعمش عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه رفعه قال الصمد الذي لا جوف له حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا

أبو نعيم حدثنا سلمة بن سابور عن عطية عن ابن عباس قال الصمد الذي لا جوف له حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني أبو الربيع الزهراني حدثنا هشيم حدثنا أبو إسحاق الكوفي عن مجاهد عن ابن عباس مثله وأبو إسحاق الكوفي قد وثقه الطبراني كما سيجيء حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا الفريابي حدثنا

سفيان عن منصور عن مجاهد قال الصمد المصمت الذي لا جوف له حدثنا علي بن المبارك الصنعاني حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج عن مجاهد الله الصمد قال مُصمت لا جوف له حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا الحماني قال حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد الصمد

المصمت الذي لا جوف له حدثنا عبد الرحمن بن مسلم الرازي حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الله بن إدريس عن ليث عن مجاهد في قوله الصمد قال الذي ليس له جوف حدثنا أبو خليفة حدثنا ابن حساب وحدثنا

عبد الرحمن بن مسلم حدثنا سهل قال حدثنا محبوب قال الصمد الذي لا جوف له حدثنا عبد الرحمن بن مسلم حدثنا سهل حدثنا محبوب عن طلحة بن عمرو قال سمعت عطاء بن أبي رباح قال الصمد المُصمت الذي لا جوف له حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا أبو نعيم عن سلمة بن نبيط حدثنا الضحاك بن مزاحم قال الصمد

الذي ليس بأجوف حدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا أبو مالك الجنبي وعلي بن غراب قالا حدثنا جويبر عن الضحاك الله الصمد قال الذي لا جوف له حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا الحماني حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال قالت اليهود

يا محمد صف لنا ربك فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد قالوا أما الأحد فقد عرفناه فما الصمد قال الذي لا جوف له حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا الحماني حدثنا محمد ابن ربيعة الكلابي حدثنا مستقيم بن عبد الملك عن سعيد ابن المسيب قال الصمد الذي لا حشوة له حدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا الحكم بن ظهير عن يحيى بن المختار عن الحسن الصمد قال الذي ليس له جوف

حدثنا الحضرمي حدثنا عثمان ابن أبي شيبة حدثنا يحيى ابن آدم عن مندل بن علي عن أبي روق عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله الصمد الذي ليس له أحشاء حدثنا الحضرمي حدثنا طاهر بن أبي أحمد الزبيري

حدثنا أبي حدثنا بن مسلم الطائفي عن إبراهيم ابن ميسرة قال أرسلت إلى سعيد بن جبير أسأله عن الصمد قال الذي لا جوف له حدثنا الحضرمي حدثنا ابن نُمير حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن السدي الصمد الذي لا جوف له

حدثنا الحسين بن واقد عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود قال الصمد الذي قد انتهى سؤدده حدثنا الحسين حدثنا الحماني حدثنا هشيم عن أبي إسحاق الكوفي عن عكرمة قال الصمد الذي ليس فوقه أحد وأنشدني في ذلك شعرًا قال أبو القاسم الطبراني أبو إسحاق الكوفي هذا ليس بالسبيعي واسمه هارون وهو ثقة روى عنه حماد بن زيد وهشيم حدثنا ابن أبي مريم حدثنا الفريابي قال

حدثنا سفيان حدثنا الحضرمي حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس ووكيع وأبو أسامة حدثنا الحسين حدثنا الحماني حدثنا حفص بن غياث وأبو معاوية وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة حدثنا سهل حدثنا علي بن مسهر ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة كلهم عن

الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة في قوله الصمد قال السيد الذي قد انتهى سؤدده حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني إبراهيم بن الحجاج حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل السيد الذي لا شيء أسود منه حدثنا محمد بن عثمان حدثنا عمي أبو بكر وحدثنا الحضرمي حدثنا عثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا عبد الله ابن إدريس عن شعبة عن أبي رجاء عن عكرمة الصمد

الذي لا يخرج منه شيء حدثنا الحضرمي حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة وحدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا ابن أبي زائدة كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي الصمد الذي لا يأكل الطعام حدثنا داود بن محمد بن صالح المروزي حدثنا العباس بن الوليد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن

أبي عروبة قال كان الحسن وقتادة يقولان الصمد الباقي بعد فناء خلقه حدثنا الحضرمي حدثنا الحسين بن يزيد الطحان حدثنا إسحاق بن منصور السلولي عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال الصمد الباقي بعد خلقه حدثنا أبو خليفة حدثنا ابن حساب أخبرنا محمد بن ثور عن معمر عن الحسن قال الصمد الدائم

حدثنا عبد الرحمن حدثنا سهل حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن الحسن قال الصمد الذي لم يلد ولم يولد حدثنا الحضرمي حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب في قوله الصمد قال لو سكت عنها لتمحض فيها رجال قالوا ما صمد فأخبرهم أن الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد حدثنا زكريا الساجي حدثنا أحمد بن إسحاق

الأهوازي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا الحكم بن ظهير عن معمر عن الحسن عن أبي بن كعب قال الصمد الذي لم يخرج منه شيء ولم يخرج من شيء الذي لم يلد ولم يولد وحدثنا بكر بن سهل حدثنا عبد الغني بن موسى عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وعن

مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال الصمد الذي يُصمد إليه في الحوائج قلت هذا تفسير عن ابن عباس بهذا الإسناد يرويه الطبراني بهذا الإسناد وهو عن هذا الشيخ وهو ضيف ولكن يستأنس به قال الطبراني وهذه الصفات كلها صفات ربنا جل جلاله ليس يُخالف شيء منها هو المصمت الذي لا جوف له وهو الذي يصمد إليه في الحوائج وهو السيد الذي قد انتهى سؤدده وهو الذي لا يأكل الطعام وهو الباقي بعد خلقه وقال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا

تعقيب المؤلف على الطبراني على الآثار التي رواها

منجاب حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن عطية ابن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال لو أن الخلائق منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفًّا واحدًا ما أحاطوا بالله عز وجل أبدًا قلت ويدل على ما ذكره الطبراني من جمع الصمد لهذه المعاني أن من سلف الأمة من قال هذا وهذا ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في تفسير معاني أسمائه كالرحمن والجبار والإله وغير ذلك وقد قررنا في غير هذا الموضع أن عامة تفاسير السلف ليست متباينة بل تارة يصفون الشيء الواحد بصفات متنوعة وتارة يذكر كل منهم من المفسر نوعًا أو شخصًا

نقل المؤلف في تفسير الصمد من كتاب الأسماء والصفات للبيهقي

على سبيل المثال لتعريف السائل بمنزلة الترجمان الذي يقال له ما الخبز فيشير إلى شيء معين على سبيل التمثيل وقال أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات في تفسير اسمه الصمد قال الحليمي ومعناه المصمود إليه بالحوائج أي المقصود بها وقد يقال ذلك على

معنى أنَّه المستحق لأن يقصد بها ثم لا يبطل هذا الاستحقاق ولا تزول هذه الصفة بذهاب من يذهب عن الحق ويُصد عن السبيل لأنه إذا كان هو الخالق والمدبر لما خلق لا خالق غيره ولا مدبر سواه فالذهاب عن قصده بالحاجة وهي في الحقيقة واقعة إليه ولا قاضي لها غيره جهل وحمق والجهل بالله تعالى جَده كفر ثم روى البيهقي من التفسير المسند عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس

وقد ذكر هذا عنه كثير من المفسرين وغيرهم كمحمد بن جرير الطبري في قوله الصمد قال السيد الذي كَمُل في سؤدده والشريف الذي كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته والحليم الذي قد كمل في حلمه والغني الذي قد كمل في غناه والجبار الذي قد كمل في جبروته والعالم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله عز وجل هذه صفته لا تنبغي إلاَّ له ليس له كفو وليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهار

ثم روى البيهقي حديث الأعمش عن شقيق في قوله عز وجل الصمد قال هو السيد الذي انتهى سؤدده وروى عن الحاكم عن الأصم عن الصغاني حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن سابور عن عطية عن ابن عباس قال الصمد الذي لا جوف له قال وروينا هذا القول عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي والضحاك وغيرهم وروي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه يشك راويه في رفعه

قلت قد تقدم رواية الطبراني له مرفوعًا من غير شك من طريق آخر وروي أيضًا بالإسناد قال محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا محمد بن بكار حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب في قول الله عز وجل الله الصمد قال لو سكت لتبخص لها رجال فقالوا ما صمد فأخبرهم أن الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد قال وروينا عن عكرمة في تفسير الصمد قريبًا من هذا ثم روى من حديث شعبة عن أبي رجاء أن

الحسن قال الصمد الذي لا يخرج منه شيء ومن حديث هشيم أنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرت انه الذي لا يأكل ولا يشرب ومن حديث سعيد عن قتادة عن الحسن قال الصمد الباقي بعد خلقه قال وقال أبو سليمان يعني الخطابي فيما أخبرت عنه الصمد السيد الذي يُصمد إليه في الأمور

تفسير الصمد ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم

ويقصد في الحوائج والنوازل وأصل الصَّمْد القصد يقال للرجل اصمد صمد فلان أي اقصد قصده قلت المقصود الآن ذكر أقوال السّلف في معنى الصّمد وأمّا ما يدَّعيه طائفة من المتأخرين من أنّ الاشتقاق إنّما يشهد لقول من قال إنّه السّيد فسنبين أنّ هذا من أفسد الأقوال بل شهادة اللّغة والاشتقاق لذلك القول الذي قاله جمهور الصحابة والتابعين أقوى وإن كان ذلك كله حقًّا والاسم يتناول ذلك كله واللّغة والاشتقاق يشهد له الوجه الثالث أنّ هذا التفسير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يتبين بوجهين أحدهما من نقل الخاصة عنه كما تقدّم الثاني أنّه من المعلوم أنّ هذه السورة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرُ للمسلمين فضلها وأنَّها تعدل ثلث القرآن حتّى أمرهم أن

يجتمعوا وقال اجتمعوا لأقرأ عليكم ثلث القرآن قلمّا اجتمعوا قرأها عليهم وهي سورة يتعلمها الصغير والكبير والحرّ والعبد والرجل والمرأة وقد سنّ لهم أن تقرأ في ركعتي الفجر والطواف وكان بعض أصحابه يقرأ بها دائمًا في الصّلاة مع السورة فقال سَلوه لِمَ يفعل ذلك فقال إنّي أحبّها لأنّها صفة الرحمن فقال أخبروه أنَّ الله يحبّه

وهذا كله ممّا يوجب توفّر الهمم والدواعي على معرفة معنى الصّمد وهذا أمر يجده النّاس من نفوسهم فإنَّه إذا قرأها الإنسان مرّة بعد مرة اشتاق إلى معرفة معنى ما يقول والنفس تتألم بأن تتكلم بشيء لا تفهمه فالمقتضى لمعرفة هذا الاسم كان فيهم موجودًا قويًّا عامًّا متكررًا والمانع من ذلك منتفٍ وأنَّه لا مانع لهم من المسألة عن هذا الاسم ويتوكّد هذا بشيئين أحدهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا علّم أصحابه القرآن علمهم ما فيه من العلم والعمل كما قال أبو عبد الرحمن السُّلمي حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنَّهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتّى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل قالوا

فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا الثاني أنّه قد روي من غير وجه أن المشركين وأهل الكتاب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن نعت ربه فأنزل الله هذه السورة وقال إنّها نسب الرحمن وصفته فلابد أن يكون في الجواب بيان معنى هذا الاسم للكفّار من المشركين وأهل الكتاب فإنّه لا يحصل الجواب لهم بذلك إلا بلفظ يعرف معناه فكيف يكون علم المؤمنين بذلك وهذا كله يدل دلالة قطعيَّة يقينيَّة أنَّ معنى هذا الاسم كان معروفًا عند الصحابة وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بيّن لهم من ذلك ما يشكل عليهم وأفادهم ما يحتاجون إليه من معرفة معنى هذا الاسم كيف وهذا كله من بيان القرآن الذي

يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يجب عليه بيان لفظه ومعناه وإذا كان كذلك وقد حصل عندهم معرفة معناه من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم فحكم التابعين مع الصحابة كذلك فإنّ الهمم والدواعي من علماء التابعين متوفرة على مسألة الصحابة عن معنى هذا الاسم هذا معلوم بالعادة المطّردة فإذا كان قد تواتر عن أئمة التابعين مع ما نقل عن الصحابة وعن النّبي صلى الله عليه وسلم وإنّما اشتهر عندنا نقل ذلك بالإسناد عمّن نقله العلماء عنه لأنّ العلم كان يقلُّ في المتأخرين وكان أحدهم يسأل من يتّفق له من التابعين فصاروا ينقلون ذلك نقلاً خاصًّا كما ورد مثل ذلك فيما كان معلومًا عند الصحابة كلهم كمغازي النَّبي صلى الله عليه وسلم وصفة صلاته الظاهرة وحجه ونحو ذلك حتّى تنازع بعض الناس في مثل جهره بالبسملة وقنوته ومن المعلوم أنَّ هذا كان يمتنع فيه النّزاع على عهد أبي بكر وعمر لأنَّ الصحابة الذين عاينوا ذلك كانوا موجودين ولهذا يستدل بفعل أبي بكر وعمر على أنَّ ذلك هو كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم للعلم بأنَّ الصحابة لم يتّفقوا على تغيير سنَّته الوجه الرابع أنّ تفسير الصمد بأنّه الذي لا جوف له مع كونه هو أشهر التفاسير في هذا الاسم الحسن العظيم عن

الصحابة والتابعين وقد روي تفسيره مرفوعًا وإن كان لا منافاة بين هذا المعنى وبين سائر المعاني التي ذكرها الصحابة والتابعون في معنى هذا الاسم فإنّ الاسم ينتظم ذلك كله فاللفظ يدل عليه دلالة ظاهرة باللّغة العربيّة الفصيحة التي نزل بها القرآن ومن المشهور من كلامهم المقابلة بين الأجوف والصّمد كما يقابلون بين الأجوف والمصمت مثل قول يحيى بن أبي كثير الآدميّون جُوف والملائكة صُمد ولا يحتاج إلى تقرير هذا في اللغة أنْ تجعل الدال مُنقلبة عن التّاء وإن كان المعنى على القلب مناسبًا بل الدّال والتاء حرفان متقاربان في المخرج فيتقارب معناهما كذلك وهذا من باب الاشتقاق الكبير وهو اشتراك الكلمتين في أكثر الحروف وتقاربهما في باقيه

كما يقال في مثل خرر وغرر وأزر حيث اشتركت في حروف الحلق وكذلك الدال والتاء من حروف اللسان متقاربان في المخرج ولهذا يُدغم أحدهما في الآخر بعد قلبه إليه إذا سكن أحدهما كما في مثل قوله ولا أنا عابد ما عبدتم فإنّ لفظهما عبتم وكذلك لفظ عبدتّه ووجدتّه ومجدتّه ونظائره كثيرة وهذا اللفظ في جميع تصاريفه يقتضي معنى الجمع والضّم المنافي للتفرّق كما يقال صِمْدة المال وصِماد القارورة ودلالة اللّغة العربيّة على هذا المعنى المشهور عن أكثر الصحابة والتابعين أظهر من دلالتها على غيره بخلاف ما إذا ادعى غير ذلك طائفة من المتأخرين حتى الذين فسّروه بأنه السّيد ذكروا هذا المعنى قال القرطبي شارح أسماء الله

الحسنى صاحب التفسير معناه المصمود إليه بالحوائج أي المقصود بها يقال صَمَدَه يصمده صمدًا أي قَصَدَه والصّمد السيد لأنّه يصمد إليه في الحوائج وأصله الاجتماع من قولهم تصمد الشيءُ إذا اجتمع قال طرفة وإن يلتق الحيّ الجميع تلاقني إلى ذروة البيت الرفيع المصمَّد

وبيت مصمّد بالتشديد أي مقصود والصمد بإسكان الميم المكان المرتفع الغليظ قال أبو النّجم يغادر الصّمد كظهر الأجزل وبناء مصمد أي معلَّى والمصمد لغة في المصمت الذي لا جوف له قاله الجوهريّ ومنه قول الشاعر شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

ومن هذا تسمية الرجل صمدًا كما قال أوس بن حجر ألا بَكَّر الناعي بخيريْ بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وقال آخر سيروا جميعًا بنصف اللّيل واعتمدوا ولا رهينة إلاّ سيدٌ صمد وقال آخر علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت الواحد الصمد

يجب إثبات المتيقن وحذف المشكوك فيه

الوجه الخامس قوله إنّ الصمد فعل بمعنى مفعول من صمد إليه أي قصده يقال له صيغه فعل في الصّفات قد لا تكون بمعنى المفعول بل تكوون بمعنى الفاعل كقولهم أحدٌ وبطل فَلِم قلت إنّ فعل هنا بمعنى مفعول وهلاّ تكون بمعنى الفاعل وهو الصامد المتصمّد في نفسه وإن كان ذلك يستلزم أن يكون مقصودًا لغيره وهذا أرجح لوجوه أحدها أنّه قرين لاسم الواحد فإنّه قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) [الإخلاص 1-2] ومن المعلوم أنَّ الأحد بمعنى الواحد المتوحّد فكون الصّمد بمعنى الصّامد المتصّمد أظهر في المناسبة والعدل والقياس والاعتبار الثاني أنَّ الفاعل هو الأصل فإنّه لابد لكل فعل وصفة من فاعل فكل صفة تستلزم فاعلاً في الجملة وأمَّا المفعول فقد يكون وقد لا يكون وإذا كان كذلك علم أنَّ هذه الصّفة لها فاعل ولم يعلم أن لها مفعولاً فيجب إثبات المتيقّن وحذف المشكوك

فيه حتّى يدلّ عليه دليل الثالث أن المشركين وأهل الكتاب سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّه وماهيَّته وجنسه فقالوا ممّ هو ومن أيّ جنس هو أمن ذهب أم من نحاس هو أممن صفر أم من حديد أم من فضة وهل يأكل ويشرب وممن ورث الدنيا ولمن يورثها فأنزل الله هذه السورة وهي نسبة الله خاصّة ومعلوم أنّ كونه بمعنى أنَّه مقصود إنما يدل على كونه بحيث يسأل ويُدعى وذلك يقتضي ثبوت ربوبيّته وإلهيته وليس فيه جواب عن مسألتهم التي هي سؤال عن صفته في نفسه فأما إذا قيل إنّه الصّمد الذي لا جوف له كان فيذلك جواب عن أنَّه في نفسه صمد لا يخرج من شيء ولا يخرج منه

تفسير الصمد بأنه الذي يصمد إليه في الحوائج لا ينافي تفسيره بما لا جوف له

شيء ولا يتفرّق وهو مع ذلك أحد لا نظير له فكان في ذلك دلالة على صفـ ـتـ ـه الثبوتيّة وهي الصّمدية وعلى عدم النظير المانع أن يكون له والد أو ولد كما أنَّ الأحد يمنع أن يكون هـ ما يماثله من اصل أو فرع أو نظير فكان هذا المعنى جوابًا لمسألتهم أنَّه ليس هو من شيء ولا يخرج منه شيء ولا هو من جنس شيء الوجه السادس أنّ كون الصّمد يصمد إليه في الحوائج هو حق أيضًا وهو مقرر للتفسير الأوّل ودالٌّ عليه فلا ينافي أن يكون هو في نفسه مجتمعًا لا جوف له بل كونه في نفسه كذلك هو الموجب لاحتياج الناس إليه فإنّ الحاجة إلي الشيء فرع اتصافه في نفسه بما يوجب قضاءه للحوائج فلا يكون الأثر منافيًا للمؤثّر ولا يكون الملزوم منافيًا للاَّزم بل الأثر اللازم

دليل على المؤثّر الملزوم للأثر والصّمد أكمل من أن يطلق على السيد ولهذا قال ابن عباس هو السّيد الكامل في سؤدده ألا ترى أنَّ الشاعر قال فأنت السّيد الصمد وقال بالسّيد الصّمد فلو كان مرادفًا له لكان تكريرًا وأمَّا الحديث الذي رواه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قلم يذكر إسناده وهو باطل لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن رُوي عن ابن عباس ولفظ السّيد أيضًا يدلّ على الجمع كما يدلّ عليه لفظ الصّمد يقال السّواد اللّون الجامع للبصر والبياض اللّون المفرِّق له والحليم سُمّي سيدًا لأنَّه مجتمع

النّفس لا يجزع فيتفرق عند الغضب وذلك ضعف وخور ولهذا يروى فلما رآه أجوف علم أنّه خَلق لا يتمالك ويقال لم أتمالك أن فعلت كذا أي ما ملكت نفسي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة إنَّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب والجوف متفرّق لا يتمالك فلا يثبت ولا يستقرّ في نفسه فضلاً عن أن يكون مقصودًا لغيره يصمدون صمده كما قيل في اسم القيّوم إنّه القائم بنفسه المقيم لغيره فكون المسمّى بالصمد صمدًا لغيره فرع كونه صمدًا في نفسه ويدلّ على ذلك أنّهم يُسمّون بالصّمد الحليم المجتمع

تفسيرهم للصمد بمعنى يصمد إليه العباد أوقعهم في التناقض

وإن لم يجتمع إليه النّاس كما قال طرفة يزعون الجهل في مجلسهم وهمو أيضًا ذوو الحلم الصّمد الوجه السابع أن يقال سلمنا أنّ الصّمد هو ما يصمد إليه العباد في أنفسهم أي يقصدون إليه كما يقال اصمد صمد هذا الأمر أي اقصد قصده فالقصد هو الدعاء والمسألة والطّلب وذلك إنّما يكون بقلوب النّاس وبواطنهم وبأيديهم ووجوههم وغير ذلك من أعضائهم الظاهرة وذلك يمتنع إلاَّ فيمن يكون بجهة منهم فمن لا يعرفون أين هو ولا يعرفونه في جهة يمتنع على قلوبهم وجوارحهم المختلفة قصده فيمتنع كونه صمدًا ولهذا كان الدّاعون والقاصدون لله من الأمم المختلفة يجدون في قلوبهم علمًا ضروريًّا بتوجههم إلى العلو كما تقدّم تقرير هذا وإذا كان

كذلك فهو قدّر أنّه لا يمكن أن يكون في العلو إلاّ ما هو جسم وذكر أنّ ذلك معلوم بالضرورة فيكون هذا التفسير يدلّ على أنّ الله تعالى هو الذي يسمّونه جسمًا بهذين العلمين الضروريين أحدهما العلم الضروري بأنّ العباد إذا قصدوا الله ودَعوه وتوجّهوا بقلوبهم وظاهرهم إلى العلوّ ويمتنع أن يقصدوا ما لا يكون في العلو ولا في غيره ولا يكون داخل العالم ولا خارجه الثاني العلم الضروري بأنّ ما كان فوق العالم فإنّه يكون ذاهبًا في الجهة ويكون بائنًا عن العالم ويكون قائمًا بنفسه وهذا هو المعنى الذي يسمّونه جسمًا وهذا تقرير ليس للمنازع فيه حيلة وهو مبنيّ على مقدمتين ضروريتين أحدهما لا ينازع هو فيها وإن نازع فيها كثير من

الصفاتيّة والثانية وهو ينازع فيها لكن لا ينازع فيها جماهير البريّة والنزاع في الضروريات غير مقبول الوجه الثامن أنّه أجاب بوجهين أحدهما منع تفسير الصّمد بأنّه الذي لا جوف له بل هو السّيد المصمود إليه ودعوى وجوب حمل الآية على المجاز وقد بينا أنَّ ذلك التفسير لا يمكن النّزاع فيه وأنّ التفسير الآخر يدلّ على صحة التفسير الأول ويدل على مذهب المنازع أيضًا وأمّا حمل الآية على المجاز فيقال له هذا لا يجوز لأنّ الآية نزلت جوابًا عن مسألة المشركين وأهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم عن صفة ربه فيجب ألا يجعلها من صنف المتشابه

تتمة لمناقشة المؤلف تفسير الرازي للصمد

الوجه التاسع أن يقال له ليس للمتكلم أن يريد باللفظ ما ليس هو حقيقة اللفظ ومسمّاه بل هو مجاز إلاّ بقرينة تبيّن المراد وإلاَّ فالتكلم بالمجاز بدون القرينة ممتنع باتّفاق النّاس وهو بمنزلة أن يراد باللفظ ما لم يوضع له في اللّغة كما لو أراد بلفظ السّماء الأرض وبلفظ الشمس البحر ونحو ذلك ومن المعلوم أنّ الله ورسوله لم يقرن بهذا الخطاب قط قرينة لا متّصلة ولا منفصلة تصرف النّاس عن اعتقاد مدلول هذه السورة ولا قال أحدٌ من سلف الأمّة وأئمتها أنَّ اسم الصّمد في حق الله ليس على ظاهره ولا أنكم لا تعتقدون من اسم الصمد وظاهره بل تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه السورة وقوله إنها تعدل ثلث القرآن وغير ذلك يقرر مضمونها ويثبت معناها ومدلولها الوجه العاشر أنّ ما ذكره من الأدلة العقلية الّتي تجعلها قرينة صارفة لظاهر اسم الصّمد إمّا أن تكون حقًّا أو باطلاً

فإن كانت باطلاً لم يصحّ أن يصرف اسم الله عز وجل عن مقتضاه ومعناه وإن كانت حقًّا فلا ريب أنها خفيّة وأنّها مشتبهة وأنّ فيها نزاعًا بين الآدمييّن وأنّها لا تُعلم إلاَّ بنظر طويل وبحث كثير ومن المعلوم أنَّ المتكلم بالكلام الذي له معنى ظاهر لا يجوز أن يُريد خلاف ظاهره لمثل هذه الدلالة لاسيّما في حق الرسول الذي بلّغ البلاغ المبين الوجه الحادي عشر أنّه لا ريب أنّ الله قد أمر بتلاوة هذه السورة لجميع العباد ورغَّبهم في تكـ ـر ير تلاوتها في الصّلاة وخارج الصلاة حتّى إن تلاوتها وقراءتها من أعظم شعائر الإسلام وأظهرها عند الخاص والعام فإن كان معناها الظاهر باطلاً وضلالاً كيف يجوز الإمساك عن بيان مثل ذلك وترك العباد في هذه المهالك وقد قال الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة 115]

الوجه الثاني عشر أنّه مع الأمر بقراءتها وتكرير ذلك في الصلاة وخارج الصلاة ومع تعظيم فضيلتها واشتهار ذلك في العامة والخاصّة هل يجوز أن يكون ظاهرها ضلالاً ومحالاً وكفرًا ولا يتكلم بذلك أحدٌ من سلف الأمّة في التوحيد وصفات الربّ المعبود سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا الوجه الثالث عشر أن ما ذكره من الدلالة العقلية لم تظهر في الأمة إلاَّ بعد انقراض عصر الصّحابة وأكاب التابعين بل وأئمتهم أي من زمن بشر المريسي ولمّا أظهر مقالته كفّره أئمة الإسلام كفّره سفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وعباد بن العوّام وعليّ بن عاصم ويحيى بن

سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وأبو النّضر هاشم بن القاسم وشبابة بن سوار والأسود بن عامر ويزيد بن هارون وبشر بن الوليد ومحمد بن

يوسف بن الطّباع وسليمان بن حسّان الشّامي ومحمّد ويعلى ابنا عبيد الطنافسيان وعبد الرزاق بن همّام وأبو قتادة الحرّاني وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون

ومحمد بن يوسف الفريابي وأبو نعيم الفضل بن دُكين وعبد الله بن مسلمة القعنبيّ وبشر بن الحارث ومحمّد بن مصعب وأبو البختري وهب بن وهب قاضي بغداد ويحيى بن يحيى النيسابوري وعبد الله بن الزبير

الحميديّ وعليّ بن المديني وعبد السّلام بن صالح الهرويّ والحسن بن عليّ الحلواني وغير هؤلاء فكيف يجوز أن يكون الصارف لكلام الله عن ظاهره ما لم يظهر في الإسلام إلاّ من جهة من أحدث ذلك فكفّره أئمة الإسلام

الوجه الرابع عشر قوله سلّمنا أنَّ الصّمد في أصل اللغة المصمت الذي لا يدخل فيه شيء غيره ولا ينفصل عنه شيء إلاّ أنّا نقول قد دللنا على أنَّه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله يقال له قد تقدّم الكلام على جميع ما ذكرته وتبيّن لكل عاقل فهم ما ذكرناه أنّ الذي ذكرته من الباطل الذي يُعلم بطلانه بالعقل الصريح وبيّنا أنَّ العقل يدلُّ على خلاف قوله وقد أحال على ما تقدّم فأحلنا على ما ذكرنا هناك الوجه الخامس عشر أن يقال كل ما هو قائم بنفسه مباين لغيره فإما أن يكون أجوف أو يكون صمدًا مصمتًا كما أنه إما أن يكون عالمًا وإما أن يكون جاهلاً وإمّا أن يكون سميعًا بصيرًا وإمّا أن يكون أصمّ أعمى وهذا قد تقدم تقريره والعقل الصريح يعلم أنّه لا يمكن خلو الموجود القائم بنفسه عن هذين الوصفين الوجه السادس عشر أنّ الشيء القائم بنفسه إمّا أن يكون بحيث يقبل التفريق والتفكيك أو يكون بحيث لا يقبل ذلك فإن كان الثَّاني فهو الصّمد الحقيقي وإن كان الأول فليس هو صمدًا حقيقيًّا وإن قيل له صمد باعتبار أنَّه غير متفرق ولا يمكن

تفريقه إلاَّ بكلفة ولهذا قال سبحانه الله الصمد بصيغة الحصر أي هو الصّمد في الحقيقة وغيره وإن سمّي صمدًا فليس ذلك الوصف كاملاً فيه وقال الله أحد ولم يقل الأحد ومعلوم أنّ وصفه بالاسم المعرفة أبلغ من الاسم النكرة فكيف يجوز أن يقال الصمديّة له مجازًا والأحدية له حقيقة الوجه السابع عشر أنّ الله تعالى ذكر في هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن فنفى بهما عنه التركيب الذي هو التجسيم المنتفي عنه ونفى عنه التمثيل الذي هو التشبيه المنفي عنه فكانت هذه السّورة أحسن البيان فيما يجب نفيه عن الله تعالى من التشبيه والتجسيم وقد قدّمنا غير مرة أنّ لفظ التشبيه فيه إجمال كثير وأنّه ما من طائفة إلاّ وتجعل من أثبت شيئًا مُشَبِّهًا وذلك أنّ كل موجودين فلابد أن يكون بينهما نوع مشابهة ولو من بعض الوجوه البعيدة ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود ولهذا ذكر هذا المؤسس إجماع المسلمين إجماع المسلمين على ثبوت مثل

هذا التشبيه وبينَّا الفرق بين لفظ الكفؤ والمثل ولفظ الشَّبه فهو سبحانه أخبر أنَّه أحد وأنَّه لم يكن له كفوًا أحد فكان هذا أيضًا محكمًا في تنزيهه عن المثيل بعبارة تامّة حيث لم يكن شيء من الموجودات مكافئًا له بوجه من الوجوه كما بيناه فيما مضى وأنَّه يجب نفي المثل والكفؤ عنه من كل وجه وأنَّ هذا هو معنى الأحد إذ لو أريد بالأحد ما لا يماثله من جميع الوجوه لكان عامّة المخلوقات تسمّى أحدًا ولم يكن في هذا فائدة لأنّ أحدًا لا يعتقد أنّ لله مثلاً من جميع الوجوه بل الأحد الذي لا كفؤ له من جميع الوجوه ولا يلزم نفي المشابهة من بعض الوجوه كالوجود والعلم والقدرة والحياة وغير ذلك وكذلك التركيب والتجسيم يجب تنزيهه

عن أن يكون مركبًا مجسمًا ركَّبه مركِّب أو أن يكون بحيث يقبل التفريق والتفصيل واسمه الصّمد ينفي هذا عنه وأمَّا ما يسميه بعضهم تركيبًا وهو ثبوت المعاني المتميّزة في أنفسها فهذا أمرٌ لابد منه لكل موجود فنفيه نفي للوجود ولواجب الوجود فكان اسمه الصّمد مستلزمًا ثبوت هذا المعنى الذي هو الاجتماع نافيًا ذلك المعنى الذي هو التركيب والتجسيم المنفيّ عنه فكان صحّة معنى هذه السورة معلومًا بالعقل الصريح ولولا أنا قدّمنا أصل هذا الكلام في الحجج العقليّة لبسطناه هنا وقد بسطناه أيضًا في جواب المعارضات المصرية الوجه الثامن عشر قوله فوجب حمل هذا اللفظ على مجازه وذلك لأنّ الجسم الذي يكون هذا شأنه مبرأ عن الانفصال والتباين عن الغير وهو سبحانه وتعالى واجب

الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان فكان المراد من الصّمد في حقه تعالى هو هذا المعنى يقال له مجاز الذي حملته عليه إمَّا أن يكون هو معنى واجب الوجود أو يكون مقتضاه الذي ذكرته من أنَّه غير قابل للزيادة والنقصان فإن كان معنى الصّمد هو معنى واجب الوجود كان هذا التفسير مخالفًا لإجماع المسلمين وإجماع أهل اللّغة وأهل التفسير فإنّ اسم الصّمد وإن استلزم وجوب وجوده بنفسه لكن ليس معناه مجرّد وجوده بنفسه ولا هذا معنى مما كان يجهله السائلون من المشركين وأهل الكتاب ولا هو ممّا فيه نزاع بين أهل الأرض ف‘نَّ الخلائق متفقون على ثبوت وجود وإن الوجود لا يمكن أن يكون كله مفتقرًا إلى غيره بل لابد من وجود غير مفتقر إلى غيره ولكن قد يقول المبطلون هو أصول للعالم ونحو ذلك كما يقوله الجاحدون المعطّلون الذين يُظهرون جحود

رب العالمين كفرعون وذويه وغالية القرامطة الباطنية وبالجملة فمعنى ربّ العالمين أبلغ من معنى واجب الوجود فإنّ كونه رب العالمين يقتضي ربوبيته للعالمين ويستلزم قيامه بنفسه وإن قال بل معنى الصمد هو الذي لا يقبل الزيادة والنقصان وهذا هو الذي يدل عليه كلامه وهو الذي أراده والله أعلم قيل له الزيادة والنقصان من عوارض الكم فقولك هو غير قابل للزيادة والنقصان يحتمل شيئين أحدهما أن تكون ذاته بحيث لا يعقل زيادتها ونقصانها الثاني أن تكون زيادتها ونقصانها ممتنعًا عليها وأي المعنيين قُصد به أمكن أن يقال في كونه لا جوف له أو لا يقبل التفرق والانفصال مثل ذلك إذا هذا يحتمل معنيين

أحدهما أن تكون ذاته لا يعقل أن يكون لها جوف ولا يعقل وصفها بالتفرق والاجتماع والاتصال والانفصال والثاني أن يقال التفرق والانفصال ممتنع عليها فإذا كان الذي جعلته مجازًا في هذا الاسم الشريف يلزمك فيه ما لزمك في مسماه الحقيقي الذي فسره به الصحابة والتابعون وهو حقيقة في اللغة كان عُدولك عن هذا إلى هذا الذي ركبت فيه أنواعًا من المحاذير لغير فائدة قط بمنزلة الذي يركب البحار والمفاوز والقفار لقصد التجارة ثم ذهب فباع ذهبه بمثله في الزنة والوصف أو بما هو دونه أو بمنزلة المستجير من الرمضاء بالنار ومعلوم أن هذا ليس من فعل أهل العقل والدين مع ما فيه من الكذب والافتراء على رب العالمين يوضح هذا الوجه التاسع عشر وهو أنه لا فرق بين قول القائل الصمد الذي لا يدخل فيه غيره ولا يخرج منه غيره وبين قوله

الذي لا يزيد ولا ينقص فإنه إن اعتبر بمجرد السلب أمكنه ذلك في الموضعين وإن اعتبر بامتناع المسلوب بأن يقول هو الذي لا يمكن أن يدخل فيه غيره أو يخرج منه غيره كان بمنزلة أن يقول لا يقبل الزيادة والنقصان سواء فسر عدم الإمكان بعدم إمكان تصور ذلك في الموصوف أو بامتناع ذلك في الموصوف كقول منازعيهم الوجه العشرون أنه قد يقال دخول الشيء في غيره زيادة فيه وخروج بعضه منه نقص منه فهذا نوع من الزيادة والنقصان فإذا وصفه بأنه غير قابل للزيادة والنقصان كان قد دخل في ذلك غير قابل لهذه الزيادة ولهذا النقصان فإذا قيل المصمت الذي لا يدخل أو لا يمكن أن يدخل فيه شيء غيره ولا ينفصل عنه شيء وقيل إنه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى كان هذا تناقضًا ظاهرًا لأن امتناع الجنس عليه يستلزم سلب أنواعه فكيف يقال إنه موصوف بعدم قبول الزيادة والنقصان أو بعدم الزيادة والنقصان ولا يكون موصوفًا بعدم قبول هذه الزيادة وهذا النقص أو بعدم ذلك

الوجه الحادي والعشرون أنه قد يقال دخول شيء فيه وخروج شيء منه هو نفس الزيادة والنقصان إذ الدخول أعم من أن يكون دخولاً في جوفه أو جوانبه فالزائد دخل فيه شيء من غيره والناقص خرج منه بعضه فإذا كان أحدهما هو الآخر فوصفه بالسلب أو الامتناع لأحدهما دون الآخر تناقض ظاهر فإن كان هذا حقيقة للصمد كان الآخر حقيقته وإن كان هذا مجازه كان الآخر مجازه يقال دخل في أرض هؤلاء من أرض هؤلاء وقد دخلوا في حد جيرانهم وقد أدخلوا في حد أرضهم بعض أرض جيرانهم ونحو ذلك مما فيه وصف الزيادة من الجوانب بلفظ الدخول الوجه الثاني والعشرون إن الذي قاله السلف إن الصمد هو الذي لا جوف له هذا أخص من كونه لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء فإن الشيء قد يكون مصمتًا ومع هذا يمكن أن يدخل فيه شيء غيره ويخرج منه شيء من جوانبه

أو من الصفات القائمة به فإن الأجسام الصُّمد المصمتة كالحجارة يمكن أن تزاد بصفات تقوم بها ويمكن أن تنقص صفاتها وإن لم يكن لها جوف الوجه الثالث والعشرون قوله وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان إما أن يعني به أن ذاته لا تقبل أن يزاد فيها وينقص منها أو يعني به أنها لا توصف بنفي الزيادة والنقصان عنها كما لا يوصف بثبوتها وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما في الوصف بعدم النهاية لما قال له المنازع ألستم تقولون إنه غير متناهٍ في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا أو رده عليه في حجته في أنه لو كان فوق العرش لكان متناهيًا من جميع

الجوانب أو بعضها أو غير متناهٍ وكل ذلك محال فقال قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناهٍ على وجهين أحدهما أنه غير مختص بحيز وجهة ومتى كان كذلك امتنع أن يكون لها طرف أو نهاية وحدٌّ والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد وقال فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول وقد تقدم الكلام على ما ذكره وبينا أن ما قاله لا يوصف به إلاَّ المعدوم والمقصود هنا أن قوله يقتضي كونه غير قابل للزيادة والنقصان يفسر بهذين الوجهين فإما أن يعني أن ذاته لا تقبل أن

يُزاد فيها ويُنقص منها وأما أن يعني به أن ذاته لا توصف بنفي الزيادة والنقص ولا بثبوت ذلك وتوجيه ذلك أن يقال إما أن تكون ذاته لها قدر وحد وإذا امتنع ذلك امتنع أن يوصف بنفي الزيادة والنقص كما يمتنع أن يوصف ثبوت ذلك إذ الوصف بثبوت ذلك ونفيه إنما يكون عما له قدر فإن أراد به لا تزيد ولا تنقص وهذا هو قول منازعيه الذين يسميهم المجسمة بعينه وإن أراد أن ذاته لا توصف بنفي ذلك كما لا توصف بثبوته فيقال له قولك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان إنما يدل على المعنى الأول فإنك لم تقل هو موصوف بالمقدار والحد الذي يلزمه أحد النقيضين بثبوت الزيادة والنقص وبعدم ذلك أو بإمكان ذلك واستحالته بل قلت يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان فنفيت عنه قبول ثبوت هذين الأمرين ولم تنف عنه إمكان النقيضين من ثبوت ذلك ونفيه بخلاف ما ذكرته في

نفي النهاية فإنك نفيت ما يستلزم الوصف بالنهاية وعدمها وإذا كان كذلك كان ظاهر القول أن معنى هذا اللفظ أن له قدرًا خاصًّا لكنه لا يقبل الزيادة والنقصان وهذا تصريح قول منازعيه الذين سماهم مجسمة وذلك مع دلالته على التناقض فإنه يقتضي أن يكون هذا المعنى لازمًا لهذا الاسم بطريق المجاز كما هو لازم له بطريق الحقيقة وأنه لا يمكن رفع دلالة هذا الاسم على هذا المعنى الوجه الرابع والعشرون أن كونه غير قابل للزيادة والنقصان إن لم يكن ظاهره إثبات القدر مع نفي الزيادة والنقصان فأحسن أحواله أن يكون مجملا محتملا لهذا ولنفي القدر المستلزم عدم اتصافه بالنقيضين وإذا كان ما فسر به الاسم مجملا يحتمل قوله وقول منازعيه وقد ذكر أنه المجاز الذي يمكن حمل هذا الاسم عليه عُلم أن الاسم لا ينفي قول منازعيه على تقدير حمله على المجاز بل يحتمله مع أن حقيقته ظاهرة فيه وإذا كان قول منازعيه هو حقيقة اللفظ ومجاز اللفظ يحتملـ ـه كما يحتمل قول المدعي كان دلالة الاسم على قول منازعيه هو الذي يجب حمله عليه

الوجه الخامس والعشرون أن يقال هب أنك صرحت بأن مجاز الاسم هو كونه لا قدر له وإذا لم يكن له قدر فلا يجوز وصفه بالزيادة والنقص ولا يجوز وصفه بعدم الزيادة والنقص فإن كون الشيء يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص فرع كونه ذا قدر فما لا قدر له لا يقبل الوصف بالزيادة والنقصان ولا الوصف بأنه لا يزيد ولا ينقص كالمعدوم لا يقال فيه إنه يزيد وينقص ولا يقال فيه إنه لا يزيد ولا ينقص وقد بسطنا هذا في الوصف بالنهاية وعدمها وإذا كان كذلك فعدم قبول الوصف بثبوت ذلك ونفيه لا يكون صفة إلاَّ للمعدوم لا يكون صفة للموجود كما بينا هذا فيما تقدم فإن المعدوم لا يقبل الاتصاف بالصفات المتقابلة فلا يقال فيه عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا يزيد ولا ينقص ولا لا يزيد ولا لا ينقص

فأما كون الشيء غير موصوف بالزيادة والنقصان ولا بعدم ذلك وهو موجود وليس بذي قدر فهذا لا يعقل ومما يوضح هذا أنه ينبغي الفرق بين قولنا هذا لا يوصف بأنه يزيد وينقص ولا بأنه لا يزيد ولا ينقص فأمَّا الأول فلا يقال إلاَّ فيما له قدر يُعقل أن يزيد وأن ينقص فأما ما لا قدر له فلا تعقل فيه الزيادة والنقص حتى يُنفى ذلك عنه يبين هذا أن الحكم على الشيء فرع تصوره فكما لا يمكن نفيه حتى يُتصور فإذا قيل هذا يقبل الزيادة والنقص أو لا يقبل ذلك أو هذا يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص كان الحكم بالثبوت أو النفي فرع تصور الزيادة والنقص فيه فيمتنع نفي ذلك عنه أو نفي قبول ذلك له إلاَّ بمعنى أن حقيقته يعقل بثبوت هذا الوصف لها نفيًا أو إثباتًا وكون حقيقته بحيث لا يعقل ثبوت الوصف لها إثباتا

أو نفيًا إنما ينطبق على المعدوم الوجه السادس والعشرون أن ما ذكره مضمونه أن معنى الصمد هو الذي لا يقبل الزيادة والنقصان وهذا تفسير ما علمنا أن أحدًا فسر به الصمد الوجه السابع والعشرون قوله وذلك لأن الجسم الذي يكون هذا شأنه مبرأ عن الانفصال والتباين عن الغير وهو سبحانه واجب الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون غير قابل للزيادة والنقصان يقال له نفي الزيادة والنقص عنه ليس بأعظم من نفي الانفصال والتباين عن الغير إذ كل ما يُقال في هذا يقال في هذا الوجه الثامن والعشرون قوله وهو سبحانه واجب الوجود لذاته وذلك يقتضي أن يكون غير قابل للزيادة والنقصان يقال له اقتضاؤه لهذا كاقتضائه لعدم الانفصال ولعدم الدخول والخروج ولا فرق

الوجه التاسع والعشرون انه لم يذكر دليلاً على أن وجوب الوجود ينافي قبول الزيادة والنقصان بل أبدله شاهدًا من حججه العقلية الوجه الثلاثون قوله واحتج قوم من المشبهة بهذه الآية في إثبات أنه تعالى جسم وهذا باطل لأنا قد بينا أن كون أحدًا ينافي كونه جسمًا فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ولأن الصمد بهذا التفسير صفة للأجسام الغليظة وتعالى الله عن ذلك يقال له هذا من باب المعارضة لم تنف دلالتهم ولكن ادعيت أن ذلك معارض بما في السورة من نفي ذلك ولم تبين أن هذه الصمدية منتفية عنه والشيء لا يجوز نفي دلالته لمجرد دعوى المعارضة إلاَّ إذا تبين أن دلالة المعارضة أقوى وأنت لم تبين هذا

الوجه الحادي والثلاثون أن يقال قد تقدم أن الاسم الأحد أو الصمد لا يدل على ما ادعاه بوجه من الوجوه حتى ظهر بطلان ما قاله بطريق الضرورة المعلومة من لغة العرب وتفسير القرآن فبطلت المعارضة الوجه الثاني والثلاثون هب أن ما ذكرته دال على ما ذكروه دال فينبغي النظر في الدلالتين إذ هو يقولون السورة دلت على ثبوت قولنا فينتفي قولك وأنت تعكس ذلك فإذا صحت الدلالتان فإنه ينبغي الترجيح ومن المعلوم أن تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له هو مما تواتر نقله عن الصحابة والتابعين وشهدت له اللغة وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما كون الجسم لا يوصف بأنه أحد أو واحد فأمر لم يقله أحد يُعتمد عليه بل نص القرآن ينفيه كما ذكرناه فيما تقدم مثل قوله تعالى وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة 266]

وقوله وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل 76] وإذا كان كذلك كان دلالة المنازع ثابتة بتفسير السلف ودلالة اللغة وبهذين الطريقين يثبت التفسير وتفسيره لم يقله أحد من المفسرين ولا من أهل اللغة بل لغة القرآن وغيره صريحة في نفي تلك الدلالة الوجع الثالث والثلاثون قوله لأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام الغليظة يقال له الوصف بكون الشيء صمدًا ومصمتًا لا يوجب غلظه ولا رقته فإن من الأشياء الرقيقة ما يكون مصمتًا مثل بعض الزجاج والبلور وغير ذلك الوجه الرابع والثلاثون أن كون اللفظ يدل على الغلظ في اللغة لا يمنع دخوله في أسماء الله تعالى فإنه قال تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) [الذاريات 58] فسمى نفسه المتين والمتين في دلالته على الغلظ أقوى من الصمد الوجه الخامس والثلاثون قوله وتعالى الله عن

ذلك فلا ريب أنه يتعالى عن أن يكون مثلاً للأجسام الغليظة كما أنه يتعالى عن مماثلة الأجسام الرقيقة فتخصيص أحدهما بتعالي الله عنه يقتضي أنه غير متعالٍ عن الآخر وأن له في ذلك اختصاصًا وهذا باطل الوجه السادس والثلاثون إن الأجسام الغليظة أقوى وأصلب من الأجسام الرقيقة وهي أقرب إلى صفة الكمال فتنزيه الرب عن الأكمل دون الأنقص قلب للحق الوجه السابع والثلاثون أن وصفه بأنه متين وأنه صمد وإن تضمن معنى الغلظ والقوة فإنه يثبت لله تعالى على الوجه الذي يليق به لا يثبت له ما يختص بالمخلوق في سائر أسمائه وصفاته مثل الرحيم والصبور والقدير وسائر أسمائه وصفاته إذ هو في جميع أسمائه لا يتصف بما يختص بالمخلوق بل كل كمال في المخلوق فإنه يثبت له ما هو أكمل منه وكل نقص فإنه أحق بالتنزيه منه من كل مخلوق

وهذا الذي ذكره المؤسس في احتجاج المشبهة باسمه الصمد بأنه الذي لا جوف له على قولهم بأنه جسم هو من الحجج المشهورة في كلام المتقدمين والمتأخرين ونفاة الجسم ومثبتته كانوا يجعلون ذلك من حجج المثبتة كما ذكره المؤسس ثم منهم من ينفي هذا التفسير ولا يذكر في تفسير الصمد إلاَّ أنه السيد فقط كما فعل أبو حامد في شرحه

للأسماء الحسنى ومنهم من يذكر القولين ويرجح تفسيره بأنه السيد إما لاعتقاده أن ذلك هو الموافق للغة أو لنفي ذلك المعنى كما رجح الخطابي أن الصمد الذي يُصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج والنوازل وأصل الصمد القصد يقال للرجل اصمد صمد فلان أي اقصد قصده قال الخطابي وأصح ما قيل فيه ما يشهد له الاشتقاق وذكر أبو بكر ابن الأنباريّ في كتاب الزاهر أنّ هذا قول أهل اللّغة أجمعين وقال القشيريّ في شرح الأسماء هو

الصحيح قلت دعوى المدّعي أنّ هذا التفسير هو الموافق للّغة والاشتقاق دون الأوّل قالوه بمبلغ علمهم لمّا سمعوا الأبيات المنشدة والذي قالوه باطل قطعًا بل تفسير الصّمد يقتضي الاجتماع وعدم التَّفرُّق في ذاته وكونه لا جوف له أو لى باللغة والاشتقاق من كونه صمدًا في صفاته أي حليمًا أو معطيًا بحيث يُعطي النّاس حتّى يصمدوا إليه لأنّ أصل الصّمد الاجتماع كما تقدم فثبوت هذا المعنى في ذات المسمّى أولى من ثبوته في صفاته وأيضًا فإنّ كل ما يذكر من ثبوت معنى الصّمد في صفاته أو أفعاله وأفعال الخلق معه فهو مستلزم ثبوت المعنى في ذاته أيضًا وإن كان ثبوت المعنى في ذاته يستلزم ثبوت صفاته فالتلازم ثابت من الطرفين لكن جهة الذّات مُقدَّمة على غيرها ثم كيف يقال عكس غيره وهذا هو التفسير الثابت عن أئمة الصحابة والتابعين بالنقل المتواتر الذي نقله أئمة الأمّة

وهذا وإن كان قد قالوه فقد قالوه على قلة ليس قولهم في الكثرة قوّة مثل هذا فكيف يكون ما تواتر عن العالِمين بتفسير القرآن وأسماء الله تعالى العالِمين بلغة العرب أبعد في لغة العرب من ذاك هذا لا يقوله من يُقدِّر قدر السَّلف ثم كيف إذا كان هذا التفسير هو المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّا احتجاج المشبهة للجسم به فمن المشهور عند المتكلمين حتّى ذكره أبو الحسن الأشعري في مقالات مثبتة الجسم وهذا ما نقله الأشعري في كتاب المقالات فقال وقال داود الجواربيّ ومقاتل بن سليمان إنَّ الله جسم وإنّه جثَّة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع

الأئمة لا يستدلون باسم الصمد على نفي الجسم ولا على إثباته

ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره قال وحكي عن داود الجواربي أنّه كان يقول عن الباري إنّه أجوف من فيه إلى صدره ومُصمت ما سوى ذلك قال الشعري وكثير من النّاس يقولون هو مصمت ويتأولون قول الله الصمد المصمت الّذي ليس بأجوف وأمَّا الأئمة كالفُضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما كانوا إذا ذُكر لفظ الجسم وما يشبه ذلك قرأوا هذه الآية كما قال الإمام أحمد لمّا ذكر له أبو عيسى برغوث أمر الجسم فلم يجبهم أحمد على إثباته ولا إلى نفيه ثم قال اعلم أنّه أحد صمد لم يلد ولم يولد

ولم يكن له كفوًا أحد وما علمت من متقدمي أهل الكلام ولا من غيرهم من جعل تفسير الصّمد بذلك يستدل به على نفي الجسم لكن من المتأخّرين طائفة ذكرت ذلك حتّى صار تفسيره بذلك مشترك الدلالة قال الزجاجي لمّا ذكر التفسير بأنّه الذي لا جوف له قال فكأنّه ذهب إلى نفي التجسيم والتحديد عنه جل وعزّ فتكون الدال على هذا التقدير مبدلة من تاء في تقدير العربيَّة وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ الصّمد

المصمد الذي هو شيء واحد لقرب صمد من صمت فإنّ الصّمد القصد ويقال نبّه على صمات ذلك أيْ على قصده لأنّ التاء والدّال حرفا بدل يبدل كل واحد منهما من الآخر وقال ابن الحصّار الصّمد الذي لا يتبعّض وكنّى عنه المفسّرون وأهل اللّغة الّذي لا جوف له وإنّما هو معنى نفي التركيب وعدم التبعيض مطلقًا وقد تقدم أنَّ التركيب يكون باجتماع الجواهر وقد يكون باعتبار اجتماع

الجوهر والعرض فإنّه مركّب يلحقه العدد ليتميّز كل واحد منهما عن الآخر بخاصّة أو زمان والتركيب أيضًا يعتبر في الأنواع والأجناس والصمدية مُشعرة بنفي ذلك كله قلت أمّا استدلال المجسِّمة الذين يقولون إنَّ الله لحم ودم وعظم ونحو ذلك أو الذين يجعلون البارئ من جنس شيء من الأجسام المخلوقة بهذا الاسم فباطل لوجوه أحدها أنّ اللفظ لا يدل على ذلك بشيء من تفاسيره فإن كونه لا جوف له أو كونه مصمتًا أو غير ذلك لا يقتضي أن يكون من جنس شيء من المخلوقات أصلاً فضلاً عن أن يقال إنه لحم ودم وعظم كالحيوان الثاني أن الملائكة موصوفة بأنها صمد والجسام المصمتة موصوفة بأنها صُمد وليست لحمًا ودمًا فكيف يقال إن البارئ إذا وصف بأنه صمد لا جوف له يقتضي ذلك

الثالث أن سبب نزول هذه الآية سؤال من سأل عن الرب تعالى أهو من ذهب أو فضة أو من كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية بين فيها أنه ليس من جنس شيء من المخلوقات الرابع أنه أخبر في هذه السورة بأنه أحد وأنه ليس له كفوا أحد وهذا يمنع أن يكون من جنس شيء من المخلوقات الخامس أنه أخبر في السورة بأنه الصمد ولم يقل إنه صمد إذ كل ما سواه يجوز عليه التفرق والتبعيض وهو الصمد الذي لا يجوز عليه أن يتبعض ويتفرق بوجه من الوجوه وأما استدلال هؤلاء المتأخرين بذلك على نفي الجسم والحد فباطل أيضًا بل هو قلب لـ ـلدلالة فإن كون الموصوف مصمتًا لا يمنع أن يكون جسمًا أو محدودًا كسائر ما وصف بأنه صمد فإن الملائكة توصف بأنها صمد وكذلك الأجسام المصمتة فكيف يقال إن كونه صمدًا أو مصمتًا ولا جوف له ينافي أن يكون جسمًا محدودًا هذا قلب اللغة وتبديلها

وأما قول القائل إن الصمد المصمت الذي هو شيء واحد فهذا يقوله المثبت ويقوله النافي فإن كونه لا يتبعض مُجمل يراد به أنه لا ينفصل منه شيء وهو التفسير المأثور عن السلف ويراد به الذي لا يُعلم منه شيء دون شيء وهو مراد نفاة الجسم وكذلك نفي التركيب مجمل يقوله المثبت والنافي فإن التركيب يراد به التركيب المعروف في اللغة وهو أن يكون قد ركب الشيء والشيء كما قال الله تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار 8] والله عز وجل مقدس عن أن يكون ركَّبه مركِّب أو أن تكون ذاته كانت أجزاء متفرقة فاجتمعت وتركبت ويراد بالتركيب أنه لا يُعلم منه شيء دون شيء فنفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة يقولون ثبوت الوجه واليدين تركيب وهؤلاء يقولون ثبوت الوجه واليدين تركيب وعدد ومعلوم أن هذا الاسم لا ينفي هذا المعنى وإنما ينفي

الأول لأن الصمد يتضمن معنى الاجتماع وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه هو الصمد بصيغة الحصر ليبين أنه الكامل في الصمدية المستحق لها على الحقيقة والكمال دون غيره إذ كل ما سواه يقبل التفريق والتبعيض وهو سبحانه الصمد الذي يجب له ذلك ويمتنع عليه ضد ذلك من الافتراق وأما كون الصمد يتضمن معنى الاجتماع وأنه مصمت ونحو ذلك يقتضي تعدد الصفات إذ الاجتماع لا يكون إلاَّ فيما له عدد فلو لم يكن منه وله صفات تقتضي التعدد لامتنع أن يقال له صمد أو مصمت أو يكون التصمد يقتضي معنى الاجتماع فاسم الصمد بأي شيء فُسر يوجب وجود صفات واجتماعها له والدليل على ذلك أن غاية ما يفسرونه به من نفي الصفات أنه هو المصمود إليه كما قال القرطبي الخلق كلهم متوجهون إلى الله ومجتمعون بجملتهم في قضاء حوائجهم وطلبها من الله فهو الصمد على الإطلاق والقائم بسد مفاقر الخلق

فيقال كون الخلق يقصدونه ويسألونه هذا أمر حسي إذ القصد والسؤال قائم بهم فهو لا يستحق الاسم بمجرد فعل غيره بحيث لو قدر أنهم لم يسألوه لم يكن صمدًا بل لابد أن يقال هو المستحق لذلك في نفسه كما تقدم عن الحليمي وغيره وأيضًا فإن كونهم يقصدونه ويحتاجون إليه يقتضي أمرًا ثبوتيًّا في ذاته لأن الأمور العدمية تمتنع أن تكون مقصودة أو قاضية للحوائج فعلم أن كونه صمدًا بمعنى مقصود مصمود إليه يقتضي ثبوت أمور وجودية بها يستحق أن يكون صمدًا وبها أمكن أن يكون مقصودًا معطيًا وليس ذلك لـ ـمجرد موجود وإلاَّ لوجب أن يكون كل موجود هو الصمد ولا لمجرد أمر يتصف به المخلوق لأنه لو كان هو الصمد لمعنى يقوم بالمخلوق لكان المخلوق هو الصمد أيضًا وقد بينا أن قوله هو الصمد يبين أنه المستحق لهذا الاسم على الكمال والحقيقة وأيضًا فلو فرض أنه صمد وغيره

صمد فغيره لم يكن صمدًا إلاَّ بأمور وجودية أيضًا فهو أحق بأن لا يكون صمدًا إلاَّ بأمور وجودية لا عدمية إذ هو أحق بالكمال من كل موجود فعلم أن الصمدية توجب أمورًا وجودية على غاية الكمال ولهذا فسر الصمد بأنه الكامل في كل شيء كما قيل العظيم الذي كمل في عظمته والحليم الذي كمل في حلمه والغني الذي كمل في غناه والجبار الذي كمل في جبروته والعالم الذي كمل في علمه والحكيم الذي كمل في حكمته وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله تعالى هذه صفته التي لا تنبغي إلاَّ له وقد تقدم ذكر ذلك في تفسير الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ومعلوم أن هذه صفات متعددة ونفاة الصفات يسمون ذلك تركيبًا وأجزاء ويقولون إن البارئ منزه عن التركيب والأجزاء ونحو ذلك فعلم أن الاسم يدل على ثبوت ما ينفونه وكذلك من قال إنه لا يُرى بعضه دون بعض أو لا يحجب العباد عنه حُجُب ونحو ذلك لأن ذلك عنده تجسيم وتركيب

وتبعيض فهذا الاسم لا يدل على قوله بل ينفي قوله لأن قوله الصمد المصمت يقتضي الاجتماع الذي ينفيه هذا السالب وينفي جواز التفرق عليه وهذا السالب يقول لا يوصف باجتماع ولا افتراق والغير إن نفى الافتراق لم ينف الاجتماع الواجب له قال الرازي الفصل الخامس في لفظ اللقاء قال الله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة 46]

الجزء الثامن

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الأمانة العامة بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (ت 728هـ) الجزء الثامن اللقاء - النور - الحجاب - القرب - المجيء التأويل - المحكم والمتشابه حققه د. راشد بن حمد الطيار

فصل: نقل المؤلف عن الرازي تأويله اللقاء بأنه الرؤية

فصل قال الرازي الفصل الخامس في لفظ اللقاء قال الله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة 46] وقال فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ [الكهف 110] وقال بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة 10] وأما الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالوا واللقاء من

صفات الأجسام يقال التقى الجيشان إذا قرب أحدهما من الآخر في المكان قال واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه تعالى ليس بجسم وجب حمل هذا اللفظ على أحد الوجهين أحدهما أن من لقي إنساناً أدركه وأبصره فكان المراد

مناقشة المؤلف للرازي في تأويله اللقاء

من اللقاء هو الرؤية إطلاقا لاسم السبب على المسبب والثاني أن الرجل إذا حضر عند ملك ولقيه دخل هناك تحت حكمه وقهره دخولاً لا حيلة له في دفعه فكان ذلك اللقاء سبباً لظهور قدرة الملك عليه على هذا الوجه قلما ظهرت قدرته وقوته وقهره وشدة بأسه في ذلك اليوم عبَّر عن تلك الحالة باللقاء والذي يدل على صحة قولنا إن أحداً لا يقول بأن الخلائق تلاقي ذواتهم ذات الخالق على سبيل المجاورة ولما بطل حمل اللقاء على المماسة والمجاورة لم يبق إلا ما ذكرناه والله أعلم والكلام على هذا أن يقال لفظ اللقاء من أسماء الأفعال المقتضية للحركة والقرب إلى الله تعالى وفي الكتاب والسنة من هذا أنواع عديدة كلفظ المجيء في قوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 94] وقوله لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [الكهف 48] وقوله حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف 38]

وفيها قراءتان مشهورتان وقوله إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات 84] ولفظ الذهاب وهو قول إبراهيم إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) [الصافات 99] ولفظ الإتيان كما في قوله تعالى وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) [النمل 87] وقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) [مريم 93] ولفظ الرجوع كقوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة 281] وقال قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) [البقرة 156] لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) [المائدة 105] وقال كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) [الأنعام 108] وقال فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة 48] وقوله إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)

[العلق 8] وقوله يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] ولفظ الحشر كقوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام 38] وقوله وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ [الأنعام 51] ونحو ذلك مما في كتاب الله يكاد يبلغ مئين وقوله مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) [الجاثية 15] وقوله فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) [يس 83] وقوله وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [لقمان 23] ولفظ الإياب

كقوله إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) [الغاشية 25-26] ولفظ المصير كقوله وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) [التغابن 3] وقوله رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) [الممتحنة 4] وقوله اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) [الشورى 15] وهذا أيضاً كثير ولفظ الكدح وهو قوله يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) [الانشقاق 6] ولفظ الانقلاب لقوله عن السحرة لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) [الشعراء 50] وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) [العنكبوت 21] ولفظ الاستقرار وهو قوله يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ

الْمُسْتَقَرُّ (12) [القيامة 10-12] ولفظ السوق كقوله تعالى وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) [القيامة 29-30] ونحوه وقوله وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) [ق 21] لكن هنا لم يذكر اللفظ الذي يبين إلى من يساق ونحن لم نذكر من ألفاظ القرآن إلا ما صرح فيه بما هو ذهاب إلى الله ولفظ التبتل وهو قوله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) [المزمل 8] ولفظ العروج لقوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] ولفظ الرد كقوله تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الجمعة 8] وقوله عن المؤمن وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ [غافر 43] وقوله وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا

مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) [الكهف 36] وقوله ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) [الأنعام 60-62] ولفظ الانتهاء كقوله وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) [النجم 42] ولفظ الفرار كقوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات 50] ولفظ الإنابة كقوله تعالى وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر 54] وقال ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) [الشورى 10] وقوله وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان 15] ولفظ التوبة كقوله تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور 31] وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم 8] وقال وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف 15] وقوله فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) [الفرقان 71] وقوله قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد 30] ولفظ الأوب كقوله إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) [الرعد 36]

ولفظ الاستقامة كقوله تعالى فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت 6] ولفظ الهجرة قال وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) [العنكبوت 26] ولفظ الصعود كقوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] ولفظ الملجأ كقوله تعالى وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة 118] إلى أمثال ذلك كما هو في كتاب الله كافٍ مبلّغ مبين وأما ذكر لقاء الله فقد ذكره الله في القرآن في مواضع كثيرة كقوله نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) [البقرة 223] وقوله فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) [البقرة 249] وقوله قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) الآية [الأنعام 31] وقوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا

بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) [يونس 45] وقوله ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) [الأنعام 154] وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) [التوبة 75-77] وقوله إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) [يونس 7] وقوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس 15] وقوله فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف 110] وقوله قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ

[الكهف 103-105] وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت 23] وقوله وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) [الأعراف 147] وقوله مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت 5] وقوله وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) [الروم 8] وقوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب 44] وقوله أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) [فصلت 54] إذا عرف أن الإخبار بلقاء العباد لربهم مذكور في كتاب الله في قريب من عشرين موضعاً وأن ما يشبه هذا مذكور في مواضع يدخل في الناس فقد ذكر الله هذا اللفظ في حق غير الله في مواضع كقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) [الأنفال 15]

رد المؤلف على الرازي من وجوه

وقوله إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الأنفال 45] وقوله قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ [آل عمران 13] وقوله إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال 41] وقوله لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ [غافر 15-16] من هذا الباب على أكثر الأقوال وقد أخبر الله بلقاء يوم القيامة في قوله فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) [الطور 45] وقوله فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) [الزخرف 83] [المعارج 42] وإذا كان كذلك فالكلام على ما ذكره من وجوه أحدها أن الذي ذكره المؤسس عن منازعيه أنهم قالوا اللقاء من صفات الأجسام يقال التقى الجيشان إذا قرب أحدهما من الآخر في المكان لم يذكر عنه جواباً فإن قوله اعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه تعالى ليس بجسم وجب حمل اللفظ على أحد وجهين تسليم لهم أن

اللفظ يدل على التجسيم وأن هذه النصوص المذكورة في القرآن تدل على أن الله جسم وإذا سلّم لهم هذه الدلالة فلم يذكر ما يعارضها لأن ما ذكره هو وغيره من الأدلة قد تقدم بيان حالها بحيث يظهر كل من فهمها أنها ليست بأدلة ألبتة وأن الحجج العقلية التي حكوها عن منازعيهم في الإثبات أقوى من حججهم المذكورة على النفي وحينئذ فيكون ما سلّمه من دلالة القرآن على قول منازعيه سليماً عن المعارض الوجه الثاني أن يقال تأويل هذه النصوص لكون ظاهرها التجسيم لا يجوز فإن قول القائل هذا من صفات الأجسام وارد في كل اسم وصفة لله تعالى مثل كونه موجوداً وقائماً بنفسه وموصوفاً ومبايناً لغيره ومثل كونه حيًّا عالماً قديراً سميعاً وبصيراً ورؤوفاً ورحيماً فإن هذا جميعه لا يعترف الناس انه يسمى ويوصف به إلا الجسم فإن كان مثل هذا موجباً لصرف الأسماء والصفات عن ظاهرها وجب أن يُصرف الجميع ومن المعلوم أنه إذا صرف شيء منها فلابد أن يصرف إلى معنى آخر يعبر عنه بلفظ آخر وذلك اللفظ الثاني يردُ عليه مثل ما ورد على الأول فإنه لا يعرف إطلاقه إلا على

الجسم وإذا كان كذلك علم أن جميع هذه التأويلات باطلة لأنه يلزم من رفعها إثباتها وما استلزم عدمه وجوده كان عدمه ممتنعاً وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وكل دين أن هذا باطل وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة العقلية أن هذا باطل فإن كل من أقر بموجود لابد أن يعلم منه معنىً يعبر عنه بلفظ وقد قدمنا أن الغالية من الملاحدة الذين لا يسمونه باسم لابد

أن يعثروا بما يلزمهم فيه أعظم مما فروا منه فإن نفس الإقرار بالوجود الواجب يستلزم وهذا لازم في نفس الوجود وبهذا يظهر أن الحق هو ترك هذه التأويلات مطلقاً وأن الإقرار ببعضها دون بعض تحكم وتناقض الوجه الثالث أن يقال إذا كانت هذه الأمور جميعها لا يعرف أنه يسمى ويوصف بها إلا الجسم فأحد الأمرين لازم وإما أن يكون ثبوت ما يسمونه جسماً هو الحق في نفس الأمر وإن كان السلف والأئمة لم ينطقوا بلفظ الجسم لكن نطقوا بالألفاظ التي هي صريحة في المعنى الذي يسميه هؤلاء جسماً وإما أن يكون جميع هذه الأسماء والصفات وإن كانت لا تقال إلا على جسم فإنها تقال لله عز وجل وليس بجسم وبهذا نجيب كل من أثبت شيئاً من هذه الصفات لمن نفاها فنقول إذا اتفقنا على أنه حي عليم قدير وليس

بجسم فكذلك يكون عالماً بعلم وقادراً بقدرة ولا يكون جسماً وقد قدمنا أن لفظ الجسم لفظ مجمل وان كل واحد من إطلاق القول بإثباته أو نفيه عنه بدعة لا يؤثر عن أحد من السلف والأئمة ولا لذلك أصل في الكتاب وأن الواجب أحد أمرين إما ترك إطلاق هذا الاسم نفياً وإثباتاً وإما التفصيل وهو أن يقال إن أريد بالجسم كذا وكذا فهذا المعنى حق وإن كنا لا نسميه بهذا الاسم لما فيه من الإجمال والاشتراك والإبهام والإيهام والبدعة وإن أريد بالجسم كذا وكذا فهذا المعنى باطل ولا يحتاج أن ينفى مثل هذا اللفظ المجمل بل ينفى بالألفاظ الناصة كما دل على ذلك الكتاب والسنة الوجه الرابع أنه مازال الصفاتية نفاة الجسم ومثبتوه

نقل المؤلف من الإبانة للأشعري إثبات العلو

يستدلون بهذه الآيات ونحوها على أن الله تعالى فوق العرش ليس هو في الخلق بحيث يصح أن يؤتى إليه ويوقف عنده كما استدل بذلك أبو الحسن الأشعري في مسألة

العرش فقال وقال الله تعالى ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام 94] كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً جل عما يقوله الذين لم يثبتوا له في وصفه حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم

تعقيب المؤلف على ما نقله من كتاب الإبانة

على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل فاحتجاجه بهذه الآيات على أن الله عز وجل فوق العرش صريح في أن الله نفسه هو الذي رُدُّوا إليه وهو الذي جاءوا إليه فرادى ووقفوا عليه ونكسوا رءوسهم عنده كما دل القرآن على ذلك فلو كان الله بنفسه لا يجوز أن يلقى ولا يؤتى ولا يوقف عليه لم تصح هذه الدلالة بالنصوص المشتملة على ذكر إتيان الله عز وجل ومجيئه ونزوله وكذلك استدلال الأشعري على أنه على العرش قال ومما يذكر لكم أن الله عز وجل مستو على عرشه دون

الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله

ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له حتى يطلع الفجر رواه نافع عن جبير ابن مطعم عن أبيه

وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي ثلث الليل نزل الله إلى السماء الدنيا فيقول من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه من ذا الذي يسترزقني أرزقه حتى ينفجر الصبح

قال وروى رفاعة الجهني قال قفلنا مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد أو قال بقديد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إذا مضى ثلث الليل أو ثلثا الليل نزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيقول من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يستغفرني فأغفر له من ذا الذي يسألني فأعطيه حتى ينفجر الفجر

قال وقد قال عز وجل يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان 59] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] وكل هذا يدل على أنه في السماء مستو على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه وهذا

الاستدلال قال الأشعري قال الله سبحانه تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وقال عز وجل هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [القرة 210] وقال سبحانه وتعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 8-10] واستدلاله بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يقتضي أن الله عنده هو الذي يأتي ويجيء إذ لولا ذلك لم يصح الدليل كما تقدم قال وقال سبحانه وتعالى يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال سبحانه وتعالى وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال وأجمعت الأمة على أن الله تعالى رفع عيسى إلى السماء فهذه دلالة الأشعري وهو من أكبر أئمة المتكلمين الصفاتية تصرح بأنه كان يثبت أن الله نفسه تأتيه عباده ويأتي عباده مع قوله بأنه ليس بجسم وكذلك أبو محمد عبد الله

لبن سعيد بن كلاب قبله وغيرهما فإذا كان هؤلاء يقررون هذا التقرير فكيف بمن لا ينفي الجسم ولا يثبته أو بمن يثبته وهذا الاستدلال منه ومن غيره من علماء الأمة وسلفها بهذه الأحاديث على أن الله فوق يبين أن نزول الرب عندهم ليس مجرد نزول شيء من مخلوقاته مثل ملائكته أو نعمته أو رحمته ونحو ذلك إذ لو كان المراد بهذا الحديث عندهم هو نزول بعض المخلوقات لم يصح الاحتجاج به على أنه فوق العرش فإن ذلك يكون كإنزال المطر وخلق الحيوان وذلك منا لا يستدل به على مسألة العرش كما يستدل بقوله ينزل ربنا فلما استدلوا بقوله ينزل ربنا علم أنهم كانوا

يقولون إن الله هو الذي ينزل لتستقيم الدلالة ولهذا كل من أنكر أن الله فوق العرش لا يمنع أن الله ينزل ذلك الوقت بعض المخلوقات الوجه الخامس أن يقال إن هذه الآيات المذكورة في اللقاء من قرأها علم بالاضطرار أن مضمونها إخبار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن العبد يلقى الله اللقاء الذي هو اللقاء كما أن سائر النصوص تخبر بما هو من جنس ذلك وإذا كان هذا معلوماً بالاضطرار من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم فيقال إن كان ذلك مستلزماً لأن الملقي جسم كان ذلك حجة قاطعة في إثبات جسم وليس في نفي ذلك حجة تعارض هذا لا سمعية ولا عقلية أما الحجج الشرعية فظاهرة لم يدّع أحد من العقلاء أن الكتاب والسنة دلالتهما على نفي الجسم أظهر من دلالتهما على ثبوته بل عامة الفضلاء المنصفين يعلمون أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الله تعالى ليس بجسم وجميع الطوائف من نفاة الجسم ومثبتته متفقون على أن ظواهر الكتاب والسنة تدل على إثبات الجسم وإنما ينازعون

في كون الدلالة محتملة التأويل أم لا فعلم اتفاق الطوائف على أن الأدلة الشرعية الثبوتية لا تدل على قول نفاة الجسم بل إنما تدل على قول المثبتين سواء قيل إن تلك الدلالة مقررة أو مصروفة وإنما يدعي النفاة دلالة الأدلة العقلية على النفي وقد تقدم ما ذكره النفاة من حجتهم وحجة منازعيهم أظهر لكل ذي فهم أنهم اقرب إلى المعقول وأن حجتهم أثبت في النظر والقياس العقلي وإذا كان كذلك فإذا قيل إن مدلول هذه النصوص مستلزمة للجسم فلازم الحق حق وكان الواجب حينئذ إثبات الملزوم ولازمه لا نفي اللازم ثم نفي

ملزومه كما يفعله من يجعل أقيسته النافية هي الأصل مع ما يبين منازعوه من فسادها واضطرابها وردها بـ ما علم بالاضطرار وبالأقيسة العقلية ويجعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وأئمتها تبعاً لها فلا يقبل حكمه ولا شهادته فيما يخالفها وهؤلاء أسوأ حالا من هذا الوجه ممن ادعى أن مسيلمة مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من جنسه فإن أولئك لا يظهرون أنهم يتركون أوامر محمد صلى الله عليه وسلم لأمر مسيلمة وإن كان كذلك لازمًا لهم وهؤلاء يصرحون بهذا وقد بينا أنهم أن أقيستهم من باب الإشراك وجعل الأنداد لله عز وجل والعدل به

فصار أصل قولهم شركاً وردة ظاهرة ونفاقا أعني من الجهة التي يخالفون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كانوا من جهة أخرى مؤمنين به مقرين بما جاء به ولكنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض ومنهم من يعلم ذلك فيكون منافقاً محضاً ومنهم جهال اشتبه الأمر عليهم وإن كانوا فضلاء فهؤلاء فيهم إيمان وقد يغفر للمخطئ سيئة المجتهد وفي متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال عبد الله بن المبارك ولا أقول بقول الجهم إن له قولاً يضارع قول الشرك أحياناً وقال إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن

نحكي كلام الجهمية الوجه السادس قوله والذي يدل على صحة قولنا إن أحداً لا يقول إن الخلائق تلاقي ذواتهم ذات الله على سبيل المجاورة ولما بطل حمل اللقاء على المماسة والمجاورة ولم يبق إلا ما ذكرناه

يقال له إما أن تعني بذلك المماسة والاتصال أو تعني به المواجهة أو المقاربة فإن عنيت الثاني فلا نزاع بين القائلين إن الله تعالى على العرش وأن ذوات العباد تقرب من ذات الله عز وجل تارة وتبعد أخرى ومن المعلوم أن إحدى الذاتين إذا قربت من الأخرى صارت الأخرى منها قريبة وإنما نازع بعضهم في أن ذات الله عز وجل نفسها هل تدنو من العباد مع أن جمهورهم يثبتون ذلك وهذه الأقوال المحفوظة عن سلف الأمة وأئمتها وهي مذهب جماهير أهل الحديث وأئمة الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الكلام وإن عنيت بالملاقاة على سبيل المجاورة ومماسة إحدى الذاتين للأخرى ففيه جوابان أحدهما أن هذا لا يشترط في معنى لفظ اللقاء قال تعالى إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) [الأنفال 15] ومعلوم أن هذا يكون بدون تباين الذوات وقال تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال 45] وقال تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران 13]

ومن المعلوم أن أكثر الفئتين لم تمس أحدهما أحداً من الأخرى وإن كان قد تقع المماسة بين بعضهم ومثله قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال 41] وقوله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال 44] وقد سماهما ملتقيين حين الترائي قبل التواصل ومن هذا قول متى ما تلقني فردين ترجف روانف أليتيك وتسطتارا

فإنه لا يعني به إلا المواجهة والمقاربة وقد قال تعالى وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا [الفرقان 75] وليس التحية والسلام مما تمس الإنسان وإن كان كذلك وهؤلاء متفقون على صحة هذا المعنى بين العبد وربه بطل ما ذكره من اتفاق الخلائق الجواب الثاني أنه لو قدر أن المراد بالملاقاة في اللغة المماسة فليس هذا المعنى مما اتفق على نفيه بل أكثر الصفاتية يجوزون أن الله يمس المخلوقات وتمسه كما يجوزون أن يراها وتراه بل هذا مذهب أئمة الأشعرية أيضاً وقد ذكره هو عنهم في مسألة الإدراكات الخمسة وقد تقدم ذكر ذلك

قال في مسألة الرؤية قوله يعني المعترضين هذا الدليل يقتضي صحة تعلق إدراك اللمس بالله قلنا إن إخواننا التزموا ذلك ولا طريق إلا ذلك وقال أيضًا في حجة المخالف الرابعة شبهة الأجناس وهي أن المرئيات في الشاهد أجناس مخصوصة وهي الجواهر والألوان والحركات والسكنات والافتراق والاجتماع ولا يخرج من هذه الأجناس ما هو منها ولا يدخل فيها ما ليس منها فلا يصح أن ترى إلا ما كان من جنسها كما أن المسموعات لما كانت في الشاهد جنساً واحداً مخصوصاً وهو الصوت وكما لا يجوز أن يسمع ما ليس

بصوت فكذا لا يجوز أن يرى ما ليس من هذه الأجناس قال وربما قالوا ابتداء لو جاز تعلق الرؤية بالباري تعالى فَلِمَ لا يجوز أن تتعلق به سائر الإدراكات حتى يكون مسموعاً مشموماً مذوقاً ملموساً ولما بطل ذلك بضرورة العقل فكذلك ها هنا ثم قال في الجواب وأما التزام اللمس والشم والذوق والسمع فقد التزمه أصحابنا وفي نسخة بعض أصحابنا وذلك بالحقيقة لازم على م اعتمد في هذه المسألة على الوجوه العقلية فأما من اعتمد على الوجوه السمعية فله أن يقول لما دلت الدلالة السمعية على كونه مرئيًّا قلت به ولم تقم الدلالة علو كونه مذوقاً

ملموساً مشموماً فلا يلزمني أن أقول به وقال أيضا في مسألة إثبات أن الله عز وجل سميع بصير بعد أن ذكر الطريقة العقلية وذكر الأسئلة عليها قال فيها ثم لئن سلمنا أن هذا الكلام يدل على كون الباري سميعاً بصيراً لكنه يقتضي اتصافه بإدراك الشم والذوق واللمس قال وللأصحاب اضطراب فيه وقياس قولهم يوجب القول بإثباته على ما هو مذهب القاضي وإمام الحرمين وغيرهما

ثم قال الفصل الخامس عشر في أنه تعالى هل هو موصوف بإدراك الشم واللمس والذوق أثبت القاضي والإمام هذه الإدراكات الثلاثة لله تعالى وزعموا أن لله عز وجل خمس إدراكات وزعمت المعتزلة البصرية أن كون الله تعالى حيّا يقتضي إدراك هذه الأمور بشرط حضورها فأما أبو القاسم بن سهلوية فإنه نفى كونه تعالى مدركا للألم واللذة وأما الأستاذ أبو إسحاق

منا فإنه نفى عن الله تعالى هذه الإدراكات والأول مذهب القاضي والإمام والدليل على ذلك ما ذكرناه في باب السمع والبصر فإذا كان هو وأئمة مشايخه يقولون إن الله تعالى يدرك الأجسام باللمس لم يصح أن ينفي مماسته للأجسام وهذا هو المفهوم من اللقاء على سبيل المجاورة ولكن دعواه اتفاق الخلائق على عدم قول ذلك مثل قول المعتزلة الذين ناظرهم في ذلك معلوم بالضرورة ثم إنه لم يقبل ذلك منهم وأثبته والحكم بينهم له موضع غير هذا وإنما الغرض نفي ما ادعاه حتى لمذهبه بل إذا كان قد ذكر عن المعتزلة البصريين أن كون الله عز وجل حيًّا يقتضي إدراك هذه الأمور بشرط حضورها يعنون إدراك اللمس وما معه فكيف بغيرهم والمعتزلة

البصرية أقرب إلى الإثبات من البغداديين والأشعري كان في أول أمره منهم من أصحاب أبي علي الجبائي شيخهم في وقته ولعل هذا البحث القياسي إنما أخذه الأشعري عنهم فإذا كان هؤلاء يثبتون بالقياس إدراك اللمس والشم والذوق فكيف بأصحاب الحديث والآثار فإنهم أكثر إثباتاً وإن كان النزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في ثبوت ذلك كما تنازعوا في كونه على العرش هل هو بمماسة أو بغير مماسة وملاصقة أو لا يثبت ذلك ولا ينتفي على ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد وغيرهم من الطوائف

وكذلك خلق آدم بيديه وإمساكه السموات والأرض ونحو ذلك هل يتضمن المماسة والملاصقة على هذه الأقوال الثلاثة وأما السلف وأئمة السنة المشاهير فلم أعلمهم تنازعوا في ذلك بل يقرون ذلك كما جاءت به النصوص ولكن يذكر هذا في موضعه وهذا كقول الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي قال ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها

وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله وعلى رسوله فيها حرفاً بعد حرف وشيئاً بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه وسلّم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عمة الفقهاء في كفره وهتك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذين سمعوا بذكره فروى المعارض عن بشر المريسي قراءة منه بزعمه وبزعم أن بشراً قال له اِرْوِهِ عني أنه قال في قوله الله تعالى لإبليس مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فادعى أن بشراً قال يعني

الله عز وجل بذلك أني وليت خلقه وقوله بيديّ تأكيد للخلق لا أنه خلقه بيده قال فيقال لهذا المريسي الجاهل بالله بآياته فهل علمت شيئاً مما خلق الله ولي خلق ذلك غره حتى خص آدم من بينهم أنه ولي خلقه من غير مسيس

بيده فَسَمِّهِ وإلا فمن ادعى أن الله تعالى لم يل خلق آدم بيده مسيساً لم يخلق ذا روح بيديه فلذلك خصَّه به وفضَّله وشرَّف بذلك ذكره لولا ذلك ما كانت له فضيلة في ذلك على شيء من خلقه إذ كلهم بغير مسيس في دعواك وأما قولك تأكيد للخلق فلعمري إنه لتأكيد جهلت معناه فقلبته إنما هو تأكيد اليدين وتحقيقهما وتفسيرهما حتى يعلم العباد أنها تأكيد مسيس بيد لما أن الله عز وجل قد خلق كثيراً في السموات والأرض أكبر من آدم وأصغر وخلق الأنبياء والسل فكيف لم يؤكد في خلق شيء منها ما أكد في آدم إذ كان أمر المخلوقين في معنى يد الله تعالى كمعنى آدم عند المريسي فإن يك صادقاً في دعواه

فَلْيُسَم شيئاً نعرفه وإلا فإنه الجاحد لآيات الله المعطل ليدي الله قال وادعى الجاهل المريسي أيضا في تفسير التأكيد من المحال ما لا نعلم أحداً ادعاه من أهل الضلالة فقال هذا تأكيد للخلق لا لليد لقول الله تعالى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة 196] فيقال لهذا التائه الذي سلب الله عقله وأكثر جهله نعم هو تأكيد لليدين كما قلنا لا تأكيد للخلق كما أن قوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ تأكيد العدد لا تأكيد الصيام لأن العدد غير الصيام ويد الله غير آدم فأكد الله تعالى لآدم الفضيلة التي كرَّمه وشرَّفه بها وآثره على جميع عباده إذ كل عباده خلقهم بغير مسيس بيد وخلق آدم بمسيس فهذه عليك لا

لك وبسط الكلام في ذلك بسطاً ليس هذا موضعه وذكر فيما ذكره حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن عطاء بن السائب عن

ميسرة قال إن الله لم يمس من خلقه غير ثلاث خلق آدم

بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع فإن ذلك متعلق بعدة نصوص وإنما الغرض هنا بيان ما ذكره من الاتفاق الوجه السابع قوله أنه لما ثبت بالدليل أنه ليس بجسم وجب حمل هذا اللفظ على أحد وجهين أحدهما أن من لقي إنساناً أدركه وأبصره فكان المراد من اللقاء هو الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب

قلت لا ريب أن من السلف والأئمة من جعل اللقاء يتضمن الرؤية واستدلوا بآيات لقاء الله عز وجل على رؤيته ومن الناس من نازع في دلالة اللقاء على الرؤية وقد تكلمنا على ذلك في غير هذا الموضع وذكرنا دلالة الأحاديث النبوية على ذلك أيضاً لكن الذين جعلوا اللقاء يدل على الرؤية لم ينفوا معنى اللقاء ويثبتون الرؤية كما يفعله طائفة من متأخري أصحاب الأشعري مثل المؤسس وغيره فإن هذا عندهم ممتنع معلوم الامتناع بضرورة العقل كما يوافقهم على ذلك سائر العقلاء وهو أيضاً خلاف ما تواتر من السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو إثبات الرؤية بغير معاينة ومواجهة وأيضاً فلفظ اللقاء نص في المواجهة والمقاربة وإنما يقال إنه يتضمن الرؤية أو يستلزمها فهي جزء المسمى أو لازمه فكيف يصح إثبات ذلك مع نفي ما اللفظ عليه أدل وهو الأظهر من معناه

فهذا القول لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا من أهل اللغة والتفسير الوجه الثامن أن القرآن والأحاديث تصرح بأن الكفار يلاقون الله عز وجل وبأن من أنكر ذلك فهو كافر كقوله تعالى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ [الأنعام 31] وقوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) [يونس 45] وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ [التوبة 75-77] وقوله أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الكهف 105] وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت 23] وقوله وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) [الروم 8] وقوله أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) [فصلت 54] وغير ذلك كما تقدم وإذا كان كذلك فمذهبه ومذهب

أصحابه وغيرهم أن الكفار لا يرون الله عز وجل فكيف يفسر لقاؤهم لله عز وجل بأنهم يرونه وأيضاً من أنكر أنهم يرون الله عز وجل لا يكفره بل من أنكر رؤية الله تعالى لا يكفره والقرآن قد كفر من أنكر لقاء الله عز وجل فإذا فسر اللقاء بمجرد الرؤية وجب أن يجعل القرآن مخبراً بكفر من أنكر الرؤية في هذه الآيات وهو لا يقول بذلك الوجه التاسع أن تفسير اللقاء بأنه رؤية ليس فيها مواجهة ولا مقاربة تفسير للفظ ما لا يعرف في شيء من لغات العرب أصلاً ومن المعلوم أن التأويل لا يمكن إلا إذا كان اللفظ دالاً على المعنى في اللغة وهذا اللفظ لا يدل على هذا المعنى في اللغة أصلاً بل هذا المعنى إما أن يكون ممتنعاً في نفسه أو يكون بصورة كذا لا يفهمه إلا قليل من الناس ومن الأصول التي يقررها هو أن اللفظ الذي يتناوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعاً لمعنى لا يفهمه إلا آحاد الناس وإذا لم يكن

هذا اللفظ دالاً على هذا المعنى في لغتهم التي بها يتخاطبون لا حقيقة ولا مجازاً امتنع حمل اللفظ عليه الوجه العاشر أن تفسيره لذلك في الوجه الثاني بأن اللقاء هو ظهور قدرته وقهره وشدة بأسه في ذلك اليوم يقال له تفسير اللقاء بظهور قدرة الملاقي على الملاقى هو تفسير للفظ بما لا أصل له في لغة العرب أصلاً بل يعلم بالاضطرار من لغتهم أن هذا ليس معنى اللقاء في لغتهم وإن كان هذا قد يقع في بعض صور اللقاء كما قد يقع الإكرام تارة والعقوبة أخرى لكن ليس لفظ اللقاء دالاً على مجرد هذه المعاني التي يقترن وجودها بوجود المعنى المعروف من لفظ اللقاء وقد لا يقترن كما أن الرؤية قد يقترن بها المجالسة والمواكلة والإكرام أو العقوبة أو غير ذلك ثم إن لفظ الرؤية ليس معناه هذه الأمور التي قد يحصل مع مسمى الرؤية في بعض الصور الوجه الحادي عشر أنه قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)

[الأحزاب 41-44] فهنا لقاء المؤمنين ربهم اقترن به الإكرام والتحية بالسلام فامتنع أن يكون معنى الفظ ظهور القدرة والقهر والبأس لأن المؤمنين لم يظهر في لقائهم إياه إلا الرحمة والخير دون البأس والشدة ومثل هذا قوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ [البقرة 223] فإن المؤمنين لا يجب عليهم أن يعلموا أن الله يظهر لهم رحمته وكرامته الوجه الثاني عشر قوله تعالى فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف 110] فإن الرجاء لا يتعلق بالمكروه المحض فلو كان المراد باللقاء ظهور القهر والبأس لم يكن ذلك مما يرجى بل مما يخاف فكان ينبغي أن يقال فمن كان يخاف لقاء ربه ونحوه قوله إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس 7] وقوله وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [يونس 15] وقوله تعالى مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت 5]

وأما ما قاله من أن الرجاء يكون بمعنى الخوف كما في قول الشاعر إذا لسعه النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل

أي لم يخف ولم يبال فأكثر اللغويين والمفسرين على خلاف هذا قالوا ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف وكان الرجاء كذلك كقوله عز وجل لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية 14] هذه للذين لا يخافون أيام الله

وكذلك قوله تعالى لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) [نوح 13] قالوا ولا تقول رجوتك في معنى خفتك إذ لا جحد فلا يمكن حمل الرجاء فيما ذكر فهذا لا يصح في هذا الموضع الوجه الثالث عشر إن ظهور قدرة الله وقهره وبأسه كثيراً ما يظهر في الدنيا بحيث يتيقن العبد أن لا ملجأ إلا إليه ولا يكشف شدته إلا هو ولا يغني عنه دون الله شيء كما في حال ركوب البحر وهيجانه وغير ذلك من الشدائد العظيمة ومع ذلك فلا يسمى هذا قط لقاء الله تعالى فلو كان اللقاء يراد به قدرته وقهره وبأسه لكان سمى هذا لقاء الله حقيقة أو مجازاً وليس الأمر كذلك قال تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) [الشورى 32-35] الوجه الرابع عشر قوله إن الرجل إذا حضر عند ملك ولقيه دخل هناك تحت قهره وحكمه دخولاً لا حيلة له في

دفعه فكان اللقاء سبباً لظهور قدرة الملك عليه على هذا الوجه يقال له من المعلوم أن من عادة الملوك إذا أرادوا تعذيب إنسان وشدة عقوبته فإنهم يبعدونه عن حضوره عندهم أكثر مما يحضرون من يكون كذلك وأن الذين يريدون الإحسان إليهم يقربونهم إلى حضرتهم أكثر مما يبعدونهم هذا أمر معلوم باستقراء العادات وأن اقتران الكرامة بالتقريب إلى الحضرة أكثر من اقتراب الناس فكيف يجعل لفظ اللقاء دالاً على قهر الملوك دون إحسانهم الذي يقترن بلقائهم الوجه الخامس عشر إن الناس لا يسمون بأس الملوك وعذابهم لقاء لهم لا حقيقة ولا مجازاً ولكن لفظ اللقاء يدل على اللقاء المعروف وإذا كان معه عذاب سموه باسم آخر لم يجعلوه مسمىً باللقاء فما ذكره من المقال ليس شاهداً له بل عليه الوجه السادس عشر أن الملوك إذا أظهروا قدرتهم وقهرهم وبأسهم لمن لم يكن بحضرتهم لم يسم ذلك لقاءً لا حقيقة ولا مجازاً ولا يقول الملك لمن أمر بعقابه وهو

غائب عنه قد لقيني فلان ولا لقيته فعلم أن الذي ذكره افتراء على اللغة كما هو افتراء على الرحمن والقرآن الوجه السابع عشر أن المشركين ما كانوا يكذبون بأن الله يقدر عليهم قدرة ولا يمكنهم دفع ذلك عن أنفسهم والله عز وجل قد أخبر أنهم يكذّبون بلقاء الله عز وجل وجعل ذلك بعد الموت فلو كان المراد به ظهور مقدوره وبأسه لم يكونوا مكذبين بلقاء الله عز وجل

فصل: نقل المؤلف عن الرازي تأويله النور

فصل قال الرازي الفصل السادس في لفظ النور قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] وروى ابن خزيمة في كتابه عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن قال واعلم أنه لا يصح

القول بأنه هو هذا النور المحسوس بالبصر ويدل على ذلك وجوه الأول أنه تعالى لم يقل إنه نور بل قال إنه نور السموات والأرض بمعنى الضوء المحسوس ولو كان نوراً في ذاته لم يكن لهذه الإضافة فائدة الثاني أنه لو كان كونه تعالى نور السموات والأرض بمعنى الضوء المحسوس لوجب أن لا يكون في شيء من السموات والأرض ظلمة ألبتة لأنه تعالى دائم لا يزال ولا يزول الثالث لو كان تعالى نوراً بمعنى الضوء وجب أن يكون ذلك الضوء مغنياً عن ضوء الشمس والقمر والنار والحِسُّ دال على خلاف ذلك

الرابع أنه تعالى أزال هذه الشبهة بقوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور 35] أضاف النور إلى نفسه ولو كان تعالى نفس النور وذاته نور لامتنعت هذه الإضافة لأن إضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة وكذلك قوله تعالى يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور 35] الخامس أنه تعالى قال وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] فتبين بهذا أنه تعالى خالق الأنوار السادس أن النور يزول بالظلمة ولو كان تعالى عين هذا النور المحسوس لكان قابلاً للعدم وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود السابع أن الأجسام كلها متماثلة على ما سبق تقريره ثم إنها بعد تساويها في الماهية تراها مختلفة في الضوء والظلمة فوجب أن يكون الضوء عرضاً قائما بالأجسام والعرض يمتنع أن يكون إلهاً فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل النور على ما ذكروه بل معناه أنه هادي السموات والأرض أو معناه منور

مناقشة المؤلف للرازي في تأويله النور

السموات والأرض على الوجه الأكمل كما يقال فلان نور هذه البلدة إذا كان سبباً لصلاحها وقد قرأ بعضهم الله نَوَّر السموات والأرض فيقال قد تقدم الكلام على هذه الآية في أول كلامه وذكر أن الذي عليه جماهير الخلائق أن الله عز وجل نفسه نور حتى نفاة الصفات الجهمية كانوا يقولون إنه نور وأما

القول بأن الله عز وجل نفسه هو نور الشمس والقمر والنار فهذا لا يقوله مسلم ولكن قد ورد عن ابن مسعود أنه قال نور السموات من نور وجهه وهذا يتكلم عليه في موضعه ويتوهم بعض الناس أن هذه الأنوار قديمة لزعمهم أنها من نور الله عز وجل بل يقولون أن هذه النوار هي الله وهو نصب الخلاف مع من يقول ذلك ولكن يبقى كونه نوراً مطلقاً فلم يذكر إلا قولين إما أن يكون هو هذا النور المحسوس وإما ألا يكون نوراً بحال وكلا القولين باطل

بل هو نور وله نور وحجابه نور وإن لم يكن ذلك محسوساً لنا ولا حاجة في نفي كونه هذا النور المحسوس إلى ما ذكره من الأدلة ولكن ضمَّنها نفي كونه نوراً مطلقاً وذلك باطل فنتكلم على ما ذكره من الوجوه قوله في الوجه الأول لو كان نوراً في ذاته لم يكن لهذه الإضافة فائدة يقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه قيوم في نفسه ومع هذا ففي الحديث أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن الثاني أنه قد سمى القمر نوراً بقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس 5] ومع هذا يقال للقمر نور الأرض الثالث أن كل ما كان موصوفاً بصفة في نفسه ولها تعلق بالغير أنه يذكر اسمه بإضافة وبغير إضافة كما يقال عالمٌ ويقال عالمُ الدنيا قوله في الوجه الثاني لو كان كونه نور السموات والأرض يعني هذا الضوء المحسوس لوجب ألا يكون في شيء من السموات والأرض ظلمة ألبتة لأنه تعالى دائم لا يزول

يقال على هذا وجوه أحدها أن هذا بعينه يرد في تفسيرك حيث قلت منور السموات والأرض بمعنى المصلح وهادي السموات والأرض فإن ذلك يستلزم على قياس قولك ألا يكون فيهما شيء من الضلالة أو الظلم والفساد فما قلته في هذا يقال في ذلك الثاني أن كونه نوراً أو له نور لا يوجب ظهور ذلك لكل أحد فإنه يحتجب عن العباد كما سنذكره في لفظ الحجاب الثالث أن في تمام الحديث ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ومعلوم أن كونه ملكاً لا ينافي أن يكون من عباده من جعلهم ملوكاً ويكون ملكهم من ملكه لا بمعنى انه بعضه لكن بمعنى أنه بقدرته وملكه حصل ملك العبد وكذلك الرب والقيوم وكذلك إذا كان هو نور السموات والأرض لم يمنع أن يكون غيره من المخلوقات نوراً وله نور إذا كان ذلك من نوره بمعنى أنه بنوره حصل ذلك وحينئذ فهو نور السموات والأرض ولا يجب أن يزول

كل ظلمة لأنه نفسه لم يحل في المخلوقات وإنما يلزم هذا الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان كما ذكر ذلك عنهم الأئمة كالإمام أحمد وغيره فأما أهل السنة الذين يقولون إنه فوق العرش فلا يلزمهم ذلك قوله في الوجه الثالث لو كان نوراً بمعنى الضوء لوجب أن يكون ذلك الضوء مغنيا عن ضوء الشمس والقمر يقال هذا إنما يلزم أن لو كان هو أو نوره الذي هو نوره ظاهر المخلوقات فكان يغني عن هذه الأنوار أما إذا كانت هذه الأنوار حادثة عن نوره المحتجب عن العباد لم يلزم ذلك قوله الرابع أنه تعالى أزال هذه الشبهة بقوله مَثَلُ نُورِهِ [النور 35] أضاف النور إلى نفسه وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة يقال هو نور وله نور فإن اسم النور يقال للشيء القائم بنفسه كما سمى القمر نوراً ويقال للصفة القائمة بغيرها كما يقال نور الشمس والقمر وقد دل الكتاب والسنة على أنه نور وله نور وحجابه

النور فالمضاف ليس هو المضاف إليه وأيضا فإن هذا يلزمهم مثله فإنه إذا فسر نور السموات والأرض بأنه هادي أو مصلح أو منور لزم أن يقال مثل هاديه أو مصلحه أو منوره ومعلوم أن هذا باطل بل يقال مثل هدايته أو إصلاحه أو تنويره فيكون مسمى النور المضاف ليس هو مسمى النور المضاف إليه على كل تقدير فعلم أن هذا لا يصلح أن يكون دليلا على صرف الآية عن ظاهرها ولا على صحة التأويل

وأيضاً فهذا مثل اسمه السلام فقد ثبت في صحيح مسلم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ثم قال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام فأخبر أنه هو في نفسه السلام وأن منه السلام وقوله الخامس أنه تعالى قال وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ

[الأنعام 1] فبين أنه خالق الأنوار يقال له وجوه أحدها أنه إذا أخبر أنه جاعل الظلمات والنور علم أن النور المجعول هو الذي تعاقبه الظلمات فيكون هذا موضع هذا وهذا موضع هذا كما في نور النهار وظلمة الليل أما هو نفسه ونوره فذاك لا يعاقبه ظلمة تكون في محله فلا يدخل في هذا العموم الثاني أن هذا يرد عليه أيضاً فإنه فسر النور بالهادي والمصلح والمنور فإن كان قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] يعم هذا النور المذكور في قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] لزم أن يكون قد جعل نفسه وإن لم يعم نفسه لم يلزم أن يكون خالق النور المذكور في هذه الآية الثالث أنه من المعلوم أن الله عز وجل لما قال إنه خالق كل شيء وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 30] وقال كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] لم يدخل هو فيما خلق من الأشياء ولا فيما جعل من الماء من الأحياء ولا من الأنفس الذائقة للموت مع أنه قد سمي

قول الرازي: النور يزول بالظلمة، والجواب عليه

حيا ونفساً فكذلك لا يدخل في النور المجعول وإن كان هو سبحانه وتعالى نوراً قوله السادس إن النور يزول بالظلمة ولو كان تعالى هو عين هذا النور المحسوس لكان قابلاً للعدم يقال له لا يقول مسلم إنه عين هذا النور المحسوس وليس هذا ظاهر الآية كما قد بينا وقوله في الوجه السابع إن الأجسام متماثلة وهي مختلفة في الضوء والظلمة فيكون الضوء عرضاً قائماً بالأجسام يقال له لا نزاع في أن الضوء الذي هو عرض قائم بالأجسام يسمى نوراً مثل شعاع الشمس المنبسط على الأرض وكذلك ضوء القمر المنبسط على الأرض وكذلك نور النار كالسراج القائم بالجدران لكن النور يقال للعرض ويقال للجسم أيضاً فإن نفس النار تسمى نوراً فإنه إذا سُمِّي ضوء النار الذي يكون على الأرض والحيطان نوراً فالنار الخارجة من الفتيلة وهو جسم قائم بنفسه أولى أن يكون نوراً قال الله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس 5] فَسُمِّي هذا ضياء

وهذا نوراً مع العلم بأنه يقال ضياء الشمس ويقال نور القمر فعلم أن الاسم يتناول الجسم ويتناول العرض فعلم أن اسم النور في حق الخالق وحق المخلوق يقال للموصوف القائم بنفسه ويقال للصفة القائمة به ويقال لما يحصل لغيره من نوره كالأشعة المنعكسة وقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور 35] يتناول الأقسام الثلاثة فإنه أخبر أنه نور وأخبر أن له نورا وأخبر أنه كمشكاة فيها مصباح ومعلوم أن المصباح الذي في المشكاة له نور يقوم به ونور

فصل: نقل المؤلف عن الرازي تأويله الحجاب

منبسط على ما يصل إليه من الأرض والجدران فصل قال الرازي الفصل السابع في الحجاب قال الله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] قالوا والحجاب لا يعقل إلا في الأجسام وتمسكوا أيضا بأخبار كثيرة الخبر الأول ما روى صاحب شرح السنة في باب الرد على الجهمية عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ولكنه يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل

النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه قال المصنف هذا حديث أخرجه الشيخان وقوله

يخفض القسط ويرفعه أراد به أنه يراعي العدل في أعمال العباد كما قال تعالى وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) [الحجر 21] الخبر الثاني ما يروى في الكتب المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره

الخبر الثالث روي في تفسير قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] أنه تعالى يرفع الحجاب فينظرون إلى وجهه تعالى واعلم أن الكلام في الآية هو أن أصحابنا قالوا إنه لا يجوز أن يقال إنه تعالى محتجب عن الخلق ولا يجوز أن يقال إنه محجوب عنهم لأن لفظ الاحتجاب مشعر بالقوة والقدرة والحجب

يشعر بالعجز والذلة يقال احتجب السلطان عن عبيده ويقال فلان حجب عن الدخول على السلطان وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محالٌ لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين بل هذا محمول عندنا على أن الله تعالى لا يمنع وصول آثار إحسانه وفضله إلى الإنسان وأما الخبر الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم حجابه النور فاعلم أن كل شيء يفرض مؤثراً في شيء آخر فكل كمال يحصل للأثر فهو مستفاد من المؤثر لا شك أن ثبوت ذلك الكمال لذلك المؤثر أولى من ثبوته في ذلك الأثر وأقوى وأكمل ولا شك بأن معطي الكمالات بأسرها هو الحق تعالى فكان كل كمال الممكنات بالنسبة إلى كمال الله تعالى كالعدم ولا شك أن جملة الممكنات ليست إلا عالم الأجسام وعالم الأرواح ولا شك أن جملة كمالات عالم

العناصر بالنسبة إلى كمال عالم الأفلاك كالعدم ثم كمال عالم الروح بالنسبة إلى كمال كل العناصر كالعدم ثم كمال الشخص المعين بالنسبة إلى كمال هذا الروح كالعدم فيظهر هذا أن كمال الإنسان المعين

مناقشة المؤلف للرازي في تأويله الحجاب

بالنسبة إلى كمال الله تعالى أولى من أن يقال إنه كالعدم ولا شك أن روح الإنسان وحده لا تطيق قبول ذلك الكمال ولا يمكنه مطالعته بل الأرواح البشرية تضمحل في أدنى مرتبة من مراتب تلك الكمالات فهذا هو المراد بقوله لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره من خلقه والكلام على هذا أن يقال أما ذكر الحجاب في الكتاب والسنة فأضعاف ما ذكره فإنه لام يذكر من القرآن إلا قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] وقد قال تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وأيضاً فذكره لتجليه للجبل يدل على أنه كان محتجباً فتجلى وأما الأحاديث فمنها حديث أبي موسى الذي ذكره

وليس هو مما أخرجه الشيخان كما ادعاه وإنما هو من أفراد مسلم خرَّجه عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات قال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه نور في رواية النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وذكر ابن خزيمة رواية أبي معاوية عن

الأعمش عن عمرو بهذا اللفظ قال حجابه نور ورواه من طريق الثوري عن عمرو قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات وقال حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره

وكذلك رواه المسعودي عن عمرو بمثله وزاد فيه ثم قرأ أبو عبيدة أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) [النمل 8] ورواه من طريق جرير عن الأعمش وذكر أنه مثل رواية الثوري ورواه عثمان بن سعيد من طريق جرير عن الأعمش ولفظه قام فينا رسول

الله صلى الله عليه وسلم بأربع وقال حجابه النور ولو كشفها ورواه أيضا من طريق الثوري عن حكيم بن الديلم عن أبي بردة عن أبي موسى مثل لفظ الثوري عن عمرو بن مرة

وفي الصحيحين عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم في جنة عدن إلا رداء الكبرياء على وجهه وفي رواية ما بين أن ينظروا إلى ربهم في جنة عدن إلا رداء الكبرياء على وجهه رواه

ابن خزيمة وفي صحيح مسلم هن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً لم ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيّض وجوهنا ويثّقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب عن وجهه فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة وقد رواه حماد بن زيد وسليمان بن

المغيرة ومعمر عن ثابت لكن رواية حماد بن سلمة أتم إسناداً ومتناً وذلك معروف في أحاديثه عن ثابت البناني لأنه كان بينهما من الصلة ما لم يكن بينه وبين غيره وكان ثابت يقول ولا أن يصنعوا بي كما صنعوا بأبي سعيد يعني الحسن البصري لحدثتهم أحاديث موثقة فلهذا كان يختصر لبعض

الناس ويختصر عنه حماد بن سلمة أشياء لاختصاصه به ورواه ابن خزيمة وغيره عن حماد بن زيد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه تلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] أعطوا فيها ما شاءوا وما سألوا قال يقال إنه قد بقي من حقكم شيء لم تعطوه قال فيتجلى لهم تبارك وتعالى قال وتلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] الجنة وزيادة النظر إلى ربهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة بعد نظرهم إلى ربهم

ولفظ سليمان عن ثابت عن ابن أبي ليلى أنه سئل عن قول الله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قال إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة أعطوا فيها من النعيم والكرامة ينادون يا أهل الجنة إن الله قد وعدكم الزيادة قال فيكشف الحجاب فيتجلى لهم تبارك وتعالى فما ظنك بهم حيث ثقلت موازينهم وحين طارت صحفهم في أيمانهم وحين جازوا جسرهم فقطعوه وحين دخلوا الجنة فأعطوا فيها من النعيم والكرامة قال فكأن هذا لم يكن شيئاً فيما أعطوه ورواية معمر عن ثابت عن ابن أبي ليلى قال الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم

وعن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمرو بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام قال يارب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله آدم فقال أنت أبونا فقال له آدم نعم قال الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر الملائكة فسجدوا لك قال نعم قال فما حملك على أن أخرجتنا من الجنة قال له آدم من أنت قال أنا موسى قال أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه قال نعم قال أفما وجدت أن ذلك في كتاب الله قبل أن أخلق قال نعم قال فيما تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم

موسى رواه أبو داود في سننه وابن خزيمة في توحيده الذي اشترط فيه الصحة وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي

في صحيحه وغيرهم وهو على شرط الصحيح من هذا الوجه وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكن من احد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه تُرجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم

أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة وفي رواية أبي أسامة ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان

وكذلك رواه ابن خزيمة بإسناد مشهور من رجال الصحيحين عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان قال عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا يحيى الحماني حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي عن يزيد بن الهاد عن

عبد الله بن يونس سمع المقبري يحدث قال حدثني أبو هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول أيما والد جحد ولده احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين

سياق المؤلف للأحاديث وللآثار التي وردت في الحجب

قال أبو سعيد ففي هذا الحديث دليل أنه إذا احتجب من بعضهم لم يحتجب من بعض وأما الخبر الثاني الذي ذكر أنه مروي في الكتب المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره فهذا الحديث لا يوجد في شيء من دواوين الإسلام فضلاً عن أن يكون في الكتب المشهورة وقد روي في الحُجب أحاديث وآثار وإن لم تكن في

الكتب المشهورة لكنها مما رواه العلماء أهل الحديث فأما هذا الحديث فلا أصل له والأحاديث المأثورة في هذا فمثل ما رواه الخلال في كتاب السنة حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن بن يحيى

ابن كثير العنبري حدثنا أبي عن إبراهيم بن المبارك عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام وإذا في كفه كأصفأ المرايا

وأحسنها وإذا في وسطها نكتة سوداء قال فقلت يا جبريل ما هذه قال هذه الدنيا صفاؤها وحسنها قال قلت وما هذه اللمعة في وسطها قال هذه الجمعة قال قلت وما الجمعة قال يوم من أيام ربك عظيم وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الآخرة أما شرفه وفضله في الدنيا فإن الله تعالى جمع فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله تعالى فيها خيراً إلا أعطاهما إياه وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة فإن الله تعالى إذا صيَّر أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وجرت عليهم أيامهما وساعاتهما ليس بها ليل ولا نهار إلا قد علم الله مقدار ذلك وساعته فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي يبرز أو يخرج فيه أهل الجنة إلى جمعتهم نادى مناد يا أهل الجنة اخرجوا إلى يوم المزيد لا يعلم سعته وطوله وعرضه إلا الله في كثبان المسك قال فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ويخرج غلمان المؤمنين بكراسٍ من ياقوت قال فإذا وضعت لهم وأخذ القوم مجالسهم بعث الله عليهم ريحاً تدعى المثيرة تثير عليهم أثابير المسك الأبيض تدخل من تحت ثيابهم وتخرج من وجوههم وأشعارهم فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من امرأة أحدكم لو دفع إليها

كل طيب على وجه الأرض لكانت تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من تلك المرأة لو دفع إليها ذك الطيب بإذن الله قال ثم يوحي الله تعالى إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الجنة وما فيها أسفل منه بينهم وبينه الحُجب فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري فسلوني فهذا يوم المزيد قال فيجتمعون على كلمة واحدة رب رضينا عنك فارض عنا قال فيرجع الله تعالى في قوله يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي فهذا يوم المزيد فسلوني قال فيجتمعون على كلمة واحدة رب وجهك وجهك أرنا ننظر إليك قال فيكشف الله عز وجل تلك الحجب قال ويتجلى لهم قال فيغشاهم من نوره شيء لولا أنه قضى عليهم أن لا يحترقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره قال ثم يقال ارجعوا إلى منازلكم قال فيرجعون إلى منازلهم وقد خفوا على أزواجهم وخفين عليهم مما غشيهم من نوره فإذا صاروا إلى منازلهم يزداد النور وأمكن حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها قال فيقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا في صورة ورجعتم على

غيرها قال فيقولن ذلك بأن الله عز وجل تجلى لنا فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم قال فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه وذلك قول الله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة 17]

وأصل هذا الحديث في تقدير يوم الجمعة في الآخرة مشهور من طرق من حديث أبي هريرة وحديث سوق الجنة

وحديث أنس وحديث ابن مسعود موقوفاً وقال الخلال حدثنا عبد الواحد بن شعيب حدثنا عبد العزيز بن موسى البهراني حدثنا مسند بن محمد عن عبد الله التميمي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجب الله عن خلقه بسبعين ألف حجاب هواء وريح وماء وظلمة ونور ثم قرأ قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري

حدثنا مؤمل قال حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله تبارك وتعالى عن خلقه بأربعة نار وماء ونور وظلمة

حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا زيد بن الحباب العكلي عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه في قوله تعالى فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قال طوله خمسمائة سنة فإذا أراد الله أمراً في الأرض من وحي أو شيء دُلي بين عنق إسرافيل فنظر فيه فيوحي إلى جبريل عليه السلام وبينه وبينه حجب وبين الله وبين خلقه سبعون حجاباً نور وظلمة وماء

ونار وبرق يلمع وإسرافيل لا يرفع طرفه حدثنا الحسن بن حميد البلخي حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثني أبي حدثني ابن أبي

ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل يناجيه إذا انشق فأقبل جبريل يدنو من الأرض ويدنو بعضه من بعض ويتماثل فإذا ملك فقلت أردت عن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن

المسألة فمن هذا يا جبريل قال هذا إسرافيل خلقه الله عز وجل يوم خلقه بين يديه صافاً قدميه لا يرفع طرفه بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نوراً ما منها نور كاد يدنو منه إلا احترق وبين يديه لوح فإذا أذن الله في شيء في السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح حتى يضرب جبينه فينظر فيه فإذا كان من عملي أخبرني به وإن كان من عمل ميكائيل أخبره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به قال قلت يا جبريل على أي شيء أنت قال أنا على الريح والجنود قلت على أي شيء ميكائيل قال على النبات والقطر قلت وعلى أي شيء ملك الموت قال على قبض الأنفس وما هبط إلى الأرض منذ خلقه الله عز وجل إلى يومه هذا وما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة وما الذي رأيت مني إلا خوفاً من قيام الساعة

فمثل هذه الأحاديث وإن كان لا يحتج بآحادها أئمة الحديث فهي ونحوها المأثور دون ما ذكره وروى الخلال وغيره وهو مشهور عن سفيان الثوري عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله تبارك وتعالى عن خلقه بأربعة نار وماء ونور وظلمة ورواه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على

الجهمية حدثنا محبوب بن الحسن الأنطاكي حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان عن عبيد المكتب عن

مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله من خلقه بأربعة بنار وظلمة ونور وماء وروى أبو بكر النجاد في سننه بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال والذي نفسي بيده إن دون الله يوم القيامة سبعون ألف حجاب إن منها حجاباً من ظلمة ما ينفذها شيء وإن منها حجاباً من نور ما يستطيعه شيء وإن منها حجاباً لا يسمعه شيء لا يربط الله

على قلبه إلا انخلع فؤاده

وقال عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة حدثنا حماد وهو ابن سلمة أنا أبو عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل هل رأيت ربك فانتفض جبريل وقال يا محمد إن بيني وبينه سبعين حجاباً من نور لو دنوت من أدناها حجاباً لاحترقت

مناقشة المؤلف لما ذكره الرازي من الكلام على قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}

إذا عرفت النصوص فالكلام على ما ذكره من وجوه الأول قوله واعلم أن الكلام في الآية هو أن أصحابنا قالوا يجوز أن يقال إنه محتجب عن الخلق ولا يجوز أن يقال إنه محجوب عنهم الوجه الأول يقال له الآية التي ذكرتها ليس فيها ذكر أن الله محتجب ولا محجوب وإنما فيها أن الكفار محجوبون عن الله وإن أردت الآية التي في الشورى وَرَاءِ حِجَابٍ فتلك لم تذكرها ولم تذكر أن كونهم محجوبين يقتضي أنه تعالى محتجب حتى يتم الكلام وإن كان فيه ما فيه الوجه الثاني أن هذا قول طائفة من أصحابه وإلا فآخرون منهم كأبي بكر بن فورك وغيره يقولون لا يجوز أن يكون الله محتجباً ولا محجوباً بحجاب وقالوا الحجاب

راجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه بحجاب يخلقه فيهم وهو عدم الإدراك في أبصارهم قالوا لأن ما ستر بالحجاب فالحجاب أكبر منه ويكون متناهياً محاذياً جائزاً عليه المماسة ومنه قوله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] فجعل الكفار محجوبين عن رؤيته لما خلق فيهم من الحجاب والحجاب الذي خلقه فيهم هم عدم الإدراك في أبصارهم قالوا ومن هذا أنه لم يضف الحجاب إلى الله بل أطلق ذكر الحجاب ويبين صحة هذا ما روي عن علي أنه أمر بقصاب وهو يقول لا والذي احتجب

بسبعة أطباق فقال علي ويحك يا قصاب إن الله لا يحتجب عن خلقه وفي لفظ إن الله لا يحتجب عن خلقه بشيء ولكن حجب خلقه عنه ومن حجة هؤلاء أنه إذا جاز أن يقال هو محتجب جاز أن يقال هو محجوب أي هو حجب نفسه لم يحجبه غيره وقوله الحجب يشعر بالعجز والذل إنما ذاك إذا حجبه غيره كما في المثال الذي ذكره من قولهم فلان حجب عن الدخول على السلطان أما لو قيل إن السلطان قد حجب نفسه

أو وكّل من يحجبه أو جعل حاجباً يحجبه لم يكن ذلك مشعراً بالذلة والعجز بل بالقوة ولهذا يسمون الذي يحجبهم من الناس حاجباً ويقولون إنه يحجب الأمير وسُمي حاجب العين حاجباً لأنه يحجب العين وأما الشعري نفسه فذكر ما يوافق أهل الإثبات أنه سبحانه وتعالى محتجب بالعرش والسموات فقال في مسألة العرش ومن دعاء المسلمين جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل أنهم يقولون يا ساكن العرش ومن حلفهم لا والذي احتجب بالعرش وسبع سماوات الوجه الثالث قوله الحجاب محمول عندنا على أن

يخلق الله تعالى في العين رؤية متعلقة به وهذا تفسير أصحابه الذين يقولون بإثبات الرؤية وينفون الحجاب والمقابلة ونحو ذلك وهذا باطل بالضرورة فإن كون الله تعالى لا يخلق في العين رؤية أمرُ عدمي لا يحتاج إلى إحداث فعل بل هو مثل أن الله تعالى لا يخلق للجسم طعماً أو لوناً أو ريحاً أو حركة أو حياة أو غير ذلك من الأمور العدمية فقول القائل فهم محجوبون عنه بحجاب يخلقه فيهم وهو عدمُ الإدراك في أبصارهم كلام باطل لأن العدم لا يخلق الوجه الرابع أنه قال في الحديث الصحيح حجابه النور وفي الرواية الأخرى النار ومعلوم أن عدم الرؤية لا يسمى نوراً ولا ناراً لا حقيقة ولا مجازاً بل إذا سُمّي ظلمة كان فيه مناسبة الوجه الخامس أنه قال في الحديث فيكشف الحجاب فينظرون إليه وكشف الشيء إزالته أو رفعه وهذا لا يوصف به المعدوم فإن المعدوم لا يُزال ولا يرفع وإنما يزال ويرفع الموجود ومنه وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام 17] وقوله وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل 62] وقوله فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ [الأنعام 41]

الوجه السادس أنه قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فجعل النظر متعقباً لكشف الحجاب وعندهم أن الحجاب هو عدم خلق الرؤية أو ضده خلق الرؤية فيكون زوال ذلك العدم هو عين الرؤية لا يكون شيئاً يتعقب الحجاب الوجه السابع أنه قال حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه ولو كان الحجاب عدم خلق الرؤية لم يكن كَشفُ ذلك وهو خلق الرؤية في العبد يحرق شيئاً من الأشياء فإن المؤمنين إذا رأوا ربّهم في عرصات القيامة ثم رأوه في الجنة مرة بعد مرة لا يُحْرَقُ شيء الوجه الثامن أن في الصحيحين وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فأثبت رداء الكبرياء على وجهه وعلى قول هؤلاء ما بينهم وبين أن

ينظروا إليه إلا زوال ذلك العدم بخلق الرؤية في أعينهم ومعلوم أن عدم خلق الرؤية فيهم ليس هو رداء الكبرياء ولا هو على وجه الله عز وجل ولا هو في جنة عدن ولا هو شيء أصلا حتى يوصف بشيء من صفات الموجود الوجه التاسع أن تسمية مجرد عدم الرؤية مع صحة الحاسة وزوال المانع حجاباً أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً ولهذا لا يقال إن الإنسان محجوب عن رؤية ما يعجز عنه مع صحة حاسته وزوال المانع وكالأشياء البعيدة ولكن يقال في الأعمى هو محجوبُ البصر لأن في عينه ما يحجب النور أن يظهر في العين ولكن هؤلاء قوم وافقوا المؤمنين على أن رؤية الله عز وجل جائزة ووافقوا الكفار أعداء الرسل من المشركين والصابئين على ما يوجب أن الله عز وجل لا يرى كما وافقهم الجهمية كالمعتزلة ونحوهم ثم أثبتوا رؤيةً يُعلم بضرورة العقل بطلانها وجحدوا حقيقة ما جاء به السمع فصاروا منافقين مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل صاروا جاحدين لصريح المعقول باتفاق الطوائف جاحدين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم والإيمان

الوجه العاشر قوله حقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محال لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين يقال له هذا بعينه وارد في كل ما يضاف إلى الله عز وجل من أسمائه وصفاته فإن تلك الأسماء والصفات لا تعرف إلا للأجسام وصفات الأجسام كما تقدم التنبيه على ذلك الوجه الحادى عشر أن الرؤية أيضا لا تعقل إلا لجسم ولا يعقل إثبات الرؤية إلا لجسم فإثبات كون الرب مرئيّا ورائياً مع نفي الجسم ليس بأولى من إثبات كونه محجوباً ومحتجباً مع نفي الجسم فإن كان الجمع بين هذا الإثبات والنفي حقّا هو حق في الموضعين وإن كان باطلاً في الموضعين ومن قال إني أعقل الرؤية بغير جسم ولا أعقل

الحجاب إلا لجسم فهو جاحد لما يعلمه العقلاء بالاضطرار الوجه الثاني عشر أن الحجاب مانع من الرؤية بلا نزاع ومعلوم أن المانع من الشيء لا يكون عين عدمه فإن مجرد عدم الشيء ليس مانعاً من وجوده إذ المانع لا يعقل مانعاً إلا عند وجود المقتضي لوجود الشيء والعدم ليس بشيء أصلاً حتى يكون مانعاً ولو كان عدم الشيء مانعاً من وجوده لما وجد شيء من المحدثات لأن عدمها سابق على وجودها فعلم أنه لابد أن يكون الحجاب المانع من الرؤية شيئاً غير عدم خلق الرؤية فإن كان ذلك محالاً لم يكن للرؤية مانع أصلاً فكان يجب رؤية الله عز وجل عند صحة البصر وسلامته لأن المقتضي موجود والمانع مفقود كما في رؤية سائر الأشياء الوجه الثالث عشر أنّا إذا عرضنا على العقل أن الإنسان يرى شيئاً لا يقابله بوجه من الوجوه وأنه لا مانع من رؤيته قط إلا مجرد عدم القوة في العين وعرضنا على العقل أن ذلك لا يبعد أن يكون محجوباً لم يحكم العقل بذلك لأن ما أثبت رؤيته أبعد من المعقول من نفي الحجاب عنه والعقل لا يثبت الأخفى

البعيد دون القريب من ذلك أن الناس تنازعوا في عدم الإدراك الذي هو الرؤية والسمع هل هو مستلزم لوجود ضدّ له أم يكفي عدم وجوده فهل يجب أن يقال إن الأعمى والأصم قام بهما ضد وجودِ السمع والبصر أو لم يقم بهما السمع والبصر أم معناهما عدم السمع والبصر فإن لم يكن الواجب إلا مجرد عدم الإدراك فالعدم لا يكون حجاباً وإن قيل بل هما أمران وجوديان معتادان للإدراك كما يقوله من أهل الإثبات فمعلوم أن الضدين لا يجتمعان لكن ليس تسمية البصر والرؤية حجاباً لامتناع مجامعته الصمم والعمى بأولى من تسمية الصمم والعمى حجاباً لامتناع مجامعته للرؤية والسمع وكذلك لا يقال إن أحدهما هو المانع من الآخر بل يمتنع اجتماعهما نعم إذا كان أحدهما قائماً بالمحل فهل يقال إنه يمتنع الضد الطارئ أن يزيله أو يزول بنفسه حتى يحدث الطارئ هذا فيه نزاع أيضاً من القائلين ببقاء الأعراض ونفاة ذلك والمقصود أنه مع التقدير لا يسمى ذلك حجاباً

الوجه الرابع عشر أنه لو كان الحجاب لغير جسم بطل ما ذكروه وإن كان لا يكون لجسم فقد تقدم أنه ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي الجسم وأن إطلاق القول بأن الله عز وجل ليس بجسم ولا جوهر بدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها بل ذلك أعظم ابتداعاً من القول بأنه جسم وجوهر وإذا كان هذا النفي بدعةً باطلةً لم يكن ذلك معارضاً لما ثبت بالكتاب والسنة وهذه الكلمة هي قول الجهمية المُعَطلِة لما جاء به الكتاب والسنة ولما عُلم بضرورة العقل والنظر المُعَطلِة في الحقيقة للرب المعبود ومعرفته وعبادته هي أساس الشر والردة والنفاق وإن كانت قد نفقت على طوائف من أهل الإيمان لم يعلموا ما قصدوا بها الذين

ابتدعوها أفسدوا بها فطرة الله عز وجل التي فطر العباد عليها وكتابه الذي أنزل على رسوله وصدوا بها عن سبيل الله عز وجل وهي لهؤلاء كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لأولئك وهي من السماء التي سموها هم وآباؤهم وما أنزل الله بها من سلطان فإن الله تعالى لم ينزل في شيء من كتبه ولا قال أحد من رسله ولا من ورثتهم أن الله عز وجل ليس بجسم ولا جوهر وإنما الكلام مأخوذ عن المشركين ومن وافقهم من مبدّلة الصابئة وأهل الكتاب ثم إنه اشتبه على من ضل به من أهل الملل الوجه الخامس عشر أن من تأمل نصوص الكتاب وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة والتابعين علم بالضرورة علماً يقيناً لا يستريبُ فيه أن لله عز وجل حجاباً وحجبا منفصلة عن العبد يكشفها إذا شاء فيتجلى وإذا شاء لم يكشفها وإذا كان الحجاب هو الجسم المتوسط بين جسمين فلازم الحق حق لا يمكن أن يُدفع ما علم بالاضطرار من دين المرسلين بمثل نفي هذا الكلام الذي قد تبين أن نفيه من فاسد الكلام وأن الحجة لمثبتيه أقوى منها لنافيه في الفطرة والشرعة والنظر والخِصَام

الوجه السادس عشر أن الله تعالى قد قال وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى 51] ومعلوم أن هذا التكليم هو مثل تكليمه لموسى كما جاء في الحديث المتقدم أنت موسى الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه وهذا التكليم أرفع درجة من تكليمه بالوحي أو إرسال رسول باتفاق المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة فإن كان الحجاب هو عدم خلق الرؤية كان المعنى أن الله عز وجل كلمه مع عدم رؤيته ومعلوم أن عدم الرؤية قدر مشترك في جميع هذه الأنواع وأن ذلك ليس مما يفضل به موسى وإذا لم

يكن التكليم من وراء حجاب لا يفيد إلا هذا المعنى كان ما ثبت لموسى دون ما ثبت لغيره من الرسل وهذا معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام لاسيما إذا قرن بذلك في أن تكليمه هو خلق إدراك المعنى القائم فيه فيكون لموسى من التكليم ما لا يحصيه إلا رب السماء ولهذا يدّعي طوائف من الجهمية أنه يحصل لهم من التكليم مثل ما حصل لموسى ومنهم من يدّعي أنه يحصل لهم أرفع من ذلك الوجه السابع عشر أنه قال أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى 51] أي من خلف حجاب والعدم المحض ليس له خلف لا أمام فعلم أنه حجاب موجود يكون له وراء الوجه الثامن عشر أنه لو صرح بالمعنى الذي ذكروه فقال أو من وراء عدم خلق الرؤية لكان هذا من الكلام الذي يُعلم جنون صاحبه أو هو كلام لا حقيقة له ولا يَحمل كلام الله عز وجل على ذلك إلا زنديق منافق متلاعب بالقرآن والإسلام أو جاهل فيحكم عليه بالجهل بما يخرج منه من الكلام

الوجه التاسع عشر أنه عز وجل قال في حق الكفار كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] فخص الحجاب بأنه يومئذٍ فلو كان هو عدم خلق الرؤية لكانوا ما داموا محجوبين الوجه العشرون أنه تعالى خصّهم بذلك دون المؤمنين وجعل ذلك مما يعذبهم به فلو كان هو عدم خلق الرؤية لكان المؤمنون في الدنيا محجوبين معذبين بهذا الحجاب الذي حجب به الكفار في الآخرة فعلم أن ذلك حجاب خاص يحجب الله عز وجل به الكفار حين يتجلى للأبرار الوجه الحادي والعشرون أن الله عز وجل قال في قصة موسى وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف 143] فأخبر سبحانه أنه تجلى للجبل وأنه لما تجلى له جعله دكًّا فتجليه له إما أن يكون مجرد خلق الرؤية فيه كما يقولون إن ذلك هو تجليه لسائر من يراه أو يكون تجليه هو رفع الحجاب حتى ظهر للجبل فإن كان التجلي هو خلق الرؤية كان قد أخبر أن الجبل أطاق رؤيته وأن الجبل رأى الله وإذا كان كذلك لم

يجب أن يصير دكًّا إذا ورد عليه ما يعجز عن مقاومته فإذا كان التجلي ليس هو إلا أن جعل رائياً فمعلوم أنه يكون قادراً على ما جُعل فاعلاً له فلا يكون دكًّا ولو كان كذلك لكان العبارة المناسبة أن يقال فلما رأى الجبلُ ربَّه جعله دكًّا فلما دلّ القرآن مع ما ورد به الحديث في تفسير هذه الآية أن التجلي هو ظهوره وأنه مع ذلك قد لا يطيق المتجلي له رؤيته لعجزه وأن التجلي ليس هو خلق الرؤية فيه عُلم أنه قد يتجلى لمن يراه ولمن لا يراه وأن التجلي ليس هو خلق الرؤية فيه عند الاحتجاب فعلم أن هناك حجاباً خارجاً عن الإنسان وأن التجلي يكون برفع كل الحجاب الوجه الثاني والعشرون قوله والحجاب عند من ينكر الرؤية محمول على أنه منع وصول آثار إحسانه إليهم فيقال لو كان الحجاب منع الإحسان لكان من كلمه الله من وراء حجاب كما كلم موسى وهو التكليم الذي فضله الله به على سائر العباد منعاً من الإحسان فيكون الذي ناداه الله وقربه نجيا أو اصطفاه على الناس برسالاته وكلامه ممنوعاً من الإحسان إليه وهذا من أفسد ما يكون في بداهة

العقول وهو من أبلغ التحريف وقلب الحقائق والإلحاد في آيات الخالق ومعلوم أن هذا ما قالوه إلا في قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين 15] لم يقولوا في هذه الآية لكن الحجاب مذكور في الآيتين

الوجه الثالث والعشرون أن هذا حمل للفظ على ما لا تحتمله اللغة بوجه من الوجوه وهو تبديل اللغة كما أنه تبديل للقرآن وتحريف له الوجه الرابع والعشرون أن ألفاظ الحديث صريحة في الحجاب المانع من الرؤية كقوله صلى الله عليه وسلم فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وفي رواية فيتجلى لهم ولا يجوز تفسير النظر هنا بالإحسان لقوله فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولأن اقتران كشف الحجاب بالنظر صريح في الرؤية وكذلك قول وما بين قوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن هذا صريح في أنه حجاب مانع من النظر لا من الإحسان الوجه الخامس والعشرون قوله حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه والنور والنار لا تختص بمنع الإحسان وذلك الحجاب

لو كشف لم يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه بل عندهم إذا كشفه حصلت الرحمة والإحسان إلى المحجوبين الذين كانوا محجوبين أي ممنوعين من الإحسان الوجه السادس والعشرون أن إحسان الله عز وجل إلى عباده لا يمنعه شيء أصلاً كما قال تعالى مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر 2] وقال تعالى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس 107] وذلك أنه إن أحسن إلى العبد امتنع أن يكون الإحسان ممنوعاً وإن لم يحسن فليس هناك شيء يكون ممنوعاً فأحد الأمرين لازم إما وجود إحسانه ونعمته فلا مانع له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت وإما عدم وجوده فذلك يكون لأنه لم يشأه لا يكون لوجود مانع الوجه السابع والعشرون أنه عز وجل قال كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ

رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) [المطففين 15-16] فجعل الحجب قبل دخول النار وذلك لا يكون إلا في عرصة القيامة أو ما قبل ذلك ومعلوم أن الله عز وجل لم يخلق في عَرصة القيامة إحساناً موجوداً حجب الكفار عنه فإن العرصة ليست محل ثواب ولا عقاب وإذا لم يكن هناك نعيم موجود يصح منعهم عنه عُلم أن الحجب عن نفسه الوجه الثامن والعشرون أن ما ذكره من الخبر الثاني الذي قال إنه مروي في الكتب المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره ثم إنه فسره بذلك التفسير العجيب الذي لم يدل عليه اللفظ لا حقيقة ولا مجازاً هو من جنس ما فعله في كتابه الكبير الذي سماه المطالب العالية وجمع فيه من مباحث الفلاسفة والمتكلمين وذكر فيه كتاباً مفرداً في تفسير المعراج فرواه بسياق لا يعرف في شيء من كتب الحديث وفسره بتفسير الصابئين

والمنجمين وهذه الأمور تلقاها من زنادقة الفلاسفة الجهال بالمعقول والمنقول وهي عندهم من أسرار الحقائق كما يدعي ذلك القرامطة ونحوهم من الداخلين في هؤلاء وذلك أن

هذا الحديث في أن لله عز وجل سبعين حجاباً من نور

وكون الفاعل أكمل من المفعول والأعلى أكمل من الأدنى ليس في ذلك ما يدل عليه لفظ سبعين حجاباً من نور الوجه التاسع والعشرون أن هذه المخلوقات لا تسمى عنده حجاباً فإن الأجسام لا تحجب الله بل هي آيات ودلالات على الرب الوجه الثلاثون أم كشف الحجاب زواله ورفعه فيكون المعنى لو كُشفت هذه المخلوقات أي رفعت وزالت ومعلوم أن رفعه لا يحصل به فائدة عنده فإن الله عز وجل لا يُرى إذا رفعت ولا يزداد العلم به بل تنقص آياته فيكون العلم به بوجودها أكمل وأتم الوجه الحادي والثلاثون قوله كمال الأدنى بالنسبة إلى الأعلى كالعدم أمر لا حقيقة له إذ كون الشيء دون غيره ولو كان بأي مرتبة كان لا يوجب أن يكون مثل المعدوم بل له حظه من الوجود ومعلوم أن الله عز وجا قد كرّم بني آدم بأنواع الكرامات التي تمنعهم عن مشابهة المعدومات الوجه الثاني والثلاثون أن الذي يقال إن الإنسان عاجز عن إدراك ربه والإحاطة به غاية العجز وهذا حق لكن قوله لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره لا يدل

على هذا المعنى أصلاً فتفسير هذا بهذا من باب التحكم بل تفسير جهال الرافضة للإمام المبين بأنه علي بن أبي طالب

أشبه من هذا لأن عليًّا يسمى إماماً وكذلك تفسيرهم لللؤلؤ والمرجان بالحسن والحسين فيه من المناسبة أكثر من هذا حيث قتل هذا وسم

هذا الوجه الثالث والثلاثون أن كشف هذه الحجب إما أن يعني به وجودها فهي موجودة ولم يحصل هذا أو يراد به عدمها فإذا عدمت لم تكن معرفة الله بذاتها إلا دون معرفة الله عز وجَل مع وجودها وكذلك رؤيته على أصله إذ ليس للرؤية تعلق بوجود هذه ولا عدمها عنده وإذا كان كذلك علم أن تفسير قوله لو كشف هذه الحجب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه لا يصح على التقديرين الوجه الرابع والثلاثون أنه قال لأحرقت كل شيء أدركه بصره لم يخص بذلك الإنسان العاجز عن مطالعة تلك الكمالات الوجه الخامس والثلاثون أن قوله في الحديث الصحيح حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه قد بينوا السبحات في لغة العرب قال

الخلال في كتاب السنة سألت ثعلباً عنها وقد رواه ابن بطة في كتاب

الإبانة عن أبي بكر عنه قال سألت ثعلباً عن قول

النبي صلى الله عليه وسلم لأحرقت سبحات وجهه فقال السُبحات يعني من ابن آدم الموضع الذي يسجد عليه وهذا الذي قال ثعلب معروف يقول أحدهم أما ترى إلى سبحات وجهه يعني إلى نور هذا الموضع وكأنه والله أعلم سمى ذلك سبحات لأن الصلاة تسمى تسبيحاً ويسمون صلاة التطوع سُبْحة لغة مشهورة لأن العبد يجمع فيه بين كمال القول والفعل وهو حال السجود الذي يكون العبد فيه أقرب ما يكون من ربه إذ أفضل أقوال الصلاة القراءة لكن نهي عنها في الركوع والسجود وأفضل أفعالها السجود وذكره التسبيح والسُّبْحة ما يسبح به كما يسمى النظام الذي فيه خرز يسبح به سبحة وسبحات وجهه ما يُسبح به وقال القاضي أبو يعلى فأما قوله كل شيء أدركه بصره من

خلقه معناه أن نور وجهه يحرق ما يدركه من خلقه وذكر قول ثعلب وهذا يطابق معنى الحديث حيث أخبر أن حجابه النار أو النور وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه الذي حجابها النور أو النار ما أدركه بصره من خلقه قال نور سبحاته تحرق ما أدركه بصره من خلقه وقد تقدم أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود كان إذا روى هذا الحديث عن أبي موسى يقرأ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) [النمل 8] الوجه السادس والثلاثون أنه قد تقدم من حديث عدي بن حاتم قوله مامنكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له وهذا يقتضي أنه يمكن أن يكون له حجاب يحجبه كما يمكن أن يكون له ترجمان يترجم له وقد صرح القرآن بأن التكليم يكون من وراء حجاب وعلى رأي المؤسس وذويه لا يمكن أن يكون بينه وبين عباده حاجب ولا ترجمان إذ

تكليمه هو خلقٌ لإدراك المعنى القائم بنفسه وهذا لا يتصور أن يكون فيه ترجمان ورؤيته هي خلق الرؤية في العين وذلك لا يتصور أن يكون له حجاب وأيضا فنفيه للحاجب والترجمان في تكليمه ذلك اليوم دليل على أن المر في الدنيا ليس كذلك وعند المؤسس لا فرق بين الدنيا والآخرة بل إذا فهم أحدهما المعنى القائم بذاته يُعَدُّ كلمه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان الوجه السابع والثلاثون أن قول القائل إن الله لا يُحجب أو لا يحتجب لفظ مجمل كقوله إن الله لا يغيب فإن هذا يراد به أن لا يحتجب أن يشهد خلقه ويراهم كما أنه لا يغيب عن أن يشهدهم ويراهم وهذا حق فإن الله لا يحجبه شيء عن علمه وبصره ولا يتوراى منه شيء الوجه الثامن والثلاثون ما احتج به الأشعري في مسألة العرش حيث قال ومن دعاء المسلمين جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون

يا ساكن العرش ومن حلفهم لا والذي احتجب بالعرش وسبع سموات قال قال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم ممن ليس من جنس البشر لكان أبعد من الشبهة وأدخل في الشك على من سمع الآية أن يقول ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً وترك

أجناساً لم يعمهم بالآية فيدل ما ذكرناه على أنه خصَّ البشر دون غيرهم فهذا الأشعري أثبت بذلك أن الحجاب قد يكون خاصًّا لبعض المخلوقات دون بعض وذلك يدل على ثبوت الحجاب المنفصل عن المخلوقات إذ الحجاب الذي هو عدم خلق الرؤية لا يختص بنوع دون نوع واستدل بذلك على أن الله بائن من خلقه فوق العرش إذ لا يمكن أن يكون بعض المخلوقين محجوبين عنه إلا على هذا القول دون من ينكر ذلك ويقول إنه بذاته في كل مكان أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن نسبة جميع الخلق إليه واحدة في ثبوت هذا الحجاب ونفيه وقوله لو كشفها عن وجهه معناه لو كشف رحمته عن النار لأحرقت سُبحات وجهه أي أحرقت محاسنَ

تعقيب المؤلف على من قال: إن الضمير في قوله "سبحات وجهه" يعود إلى المخلوق

وجه المحجوب عنه بالنار فالهاء عائدة على المحجوب لا إلى الله عز وجل ومثل هذا يقال في الخبر الذي رواه أُبيّ لأحرقت سبحات وجه العبد كل ما أدركه بصره فتكون السبحات محرقة لما أدركه العبد فيقال هذا من أبطل الباطل من وجوه أحدها أن هذا تحريف للفظ الحديث وهو أبلغ من تحريف معناه فإن لفظ الحديث حجابه النار أو النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره وهذا التحريف نظير قراءة من قرأ من الجهمية وكلم الله موسى تكليما وجعل موسى هو المُكلّم الذي كلم الله عز وجل الوجه الثاني أنه قال حجابه النور أو النار لو كشفها لم يقل لو كشف عنها وكشف الشيء إزالته ورفعه والكشف عنه إظهاره كما قال في الحديث الآخر فيكشف الحجاب فينظرون إليه ولو أراد ذلك المعنى بها لقال لكشف عنها الوجه الثالث أنه قال حجابه نور والضمير عائد إلى الله

لا إلى العبد لأن العبد لم يجر له ذكر فإنه قال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعملُ النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وعلى ما ذكره لا يكون الضمير إلا إلى العبد كما صرحوا بذلك الوجه الرابع أنه لا يصح عود الضمير إلى العبد عندهم لأنه لا يحجبه لا نور ولا نار أصلاً وإنما الحجاب عدم خلق الرؤية أو ما يمنع الإحسان الوجه الخامس أنه لو فرض أن هناك نور أو نار أو ما مثل بذلك وأنه يحرق العبد لأحرقه كله لم يكن الإحراق مختصًّا بسبحات وجهه الوجه السادس انه قال لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره من خلقه فلو كانت السبحات مُحَرقة وكانت منصوبة وكانت النار هي المُحرِقةُ لكان قوله بعد ذلك كل ما أدركه كلامٌ باطلٌ ولو كان المُحرِق كل ما أدركه بصره لم تكن النار محرقة فيمتنع أن يكون الفاعل النار وكل ما أدركه بصره وجعل المُحْرقِ أحدَهما يمنع أن يكون الآخر فاعلاً لفظاً ومعنى

وعلى قول الرازي جعل المُحرِق هو كل ما أدركه بصره من خلقه وعلى قول ابن فورك جعل المُحرِق هو النار والحديث نصٌّ في إبطال الاثنين جميعاً الوجه السابع أن كل ما أدركه بصر العبد يمتنع أن يحرق سبحات وجهه فإنه لا يزال يدرك أشياء وهي لا تحرقه ولو أريد احتراق قلبه وفناؤه عن المشاهدة لم يكن المذكور هو الوجه بل قال لأحرق قلبه ونحو ذلك قالوا لا يجوز أن يكون الله محتجباً ولا محجوباً بالحجاب لأن ما ستر بالحجاب فالحجاب أكبر منه ويكون متناهياً محاذياً جائزاً عليه المماسة فقال القاضي اعلم أنه ممتنع إطلاق حجاب هو نور من دون الله على وجه الإحاطة والحد والمحاذاة كما أجزنا رؤيته لا على وجه الإحاطة والجهة

والمقابلة وإن كنا لا نجد في الشاهد ذلك وكما قال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] فأثبت الوقوف عليه قال وما ذكروه غلطٌ لأنا لما بينا أنا نثبت حجاباً لا يفضي إلى التناهي والمحاذاة والمماسة كما أثبتنا رؤيته لا على وجه التناهي والمحاذاة وهذا الذي قاله القاضي من نفي التناهي والمماسة والمحاذاة فيه نزاع مشهور وقد رجع هو إلى إثبات الحد كما تقدم حكاية قوله والتحقيق أن قولهم ما ستره الحجاب فالحجاب أكبرُ منه ليس بسديد سواء كان الحجاب يحجب الشيء عن أن يراه غيره أو يحجب أن يرى غيره والحجاب في حق الله

لا يصح إلا بالمعنى الثاني فإن الله عز وجل لا يحجبه شيء عن أن يرى عباده ويشهدهم وإنما يحجب العباد عن أن يروه وأن يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه والعبد يصح في حقه الحجاب بالمعنيين ومع هذا فلا يشترط أن يكون الحجاب أكبر فإن الشيء الصغير إذا وضع قريباً من عينه حجبه أن يرى شيئاً من الأشياء والشيء الكبير إذا كان بعيداً من الرائي حجبه ما هو أصغر منه بكثير كما يحجب الشمس سحابةٌ وإن كانت الشمس بقدرها مرات لا يعلمها إلا الله تعالى والإنسان يكون محجوباً عن رؤية السماء بسقف بيته بحيث إذا زال عاين السماء وهي بقدر السقف أضعافاً مضاعفة وذلك أن الحجاب كلما قرب إلى الرائي كان أصغر من البعيد عنه لأنه على قدره يكون لا على قدر ما يحجب العبد عن رؤيته فحجب الرب الذي يحجب العباد عن مشاهدته أو أن يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه من أين يجب أن يكون أكبر منه قالوا لا يصح أن يكون المحدث ولا القديم محجوباً بشيء من سواتر الأجسام المغطية الكثيفة المحيطة وإنما

يقال لهذه الأجسام الساترة أنها حجاب عن رؤية المحدث لما رآه من أجل أن المنع من الرؤية يحدث عنده وعلى هذا ما يقوله من أن الباري لا نراه في الدنيا لأنَّا في حجاب على طريق المجاز وإنما المانع من رؤيته ما يحدثه من المنع وإنما كان كذلك لأن المانع من معرفة الشيء أو رؤيته ومعاينة ما يمنع من وجود معرفته ومعاينته وما يمنع من ذلك فهو الذي يضاد وجوده وذلك لا يصح إلا في العرضين المتضادين المتعاقبين ولا يصح أن يكون الجسم منعاً ولا مانعاً من عرض أصلا لأنه لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تنافٍ وقد أجاب القاضي عن هذا بأن هذا لا يمنع من إطلاق اسم الحجاب على القديم سبحانه كما لا يمنع من إطلاقه على غيره وإن كان هذا المعنى الذي ذكره موجوداً فيه والتحقيق أن هذا الكلام من أغاليط هؤلاء المتكلمين

وذلك أن تسمية الأجسام الساترة حجباً أمرٌ معلومٌ بالاضطرار من اللغة مُتفق عليه بين أهلها ومنه تسمية حاجب الأمير حاجباً وحاجب العين حاجباً فمنع كون الجسم حاجباً ومحجوباً جحد لما يُعلم بالضرورة من اللغة وأيضا فلفظ الحَجْب والسِّتْر متقاربان فقوله إنما يقال لهذه الأجسام الساترة إنها حجاب لِكَذا إثبات لكونها ساترة فكيف يثبت أنها ساترة ويمنع أنها حاجبة وأيضا فالعلم أن الأجسام تحجب الإنسان أن يرى ما وراءها هو من العلوم الحسية فإن الحجاب الحائل بين العبد وبين المرئي يمنع رؤيته وأما قوله المانع من رؤية الشيء ما يحدث من المنع خلاف ما تقدم من أن الحجاب عنده عَدمُ خَلْق الرؤية وهذا أمر عدمي لا يحتاج فيه إلى وجود ضد وجودي منع الرؤية وهذا ظاهر فإن السمع والبصر أمران وجوديان عنده ثم يقال وإذا قام بالعين مانع من الرؤية فذلك لا يمنع أن يكون الجسم مانعاً وأن يكون ذلك الجسم المانع الحاجب سبباً لهذا العرض المانع بل ذلك لا يمنع أن يكون باسم

الحجب والمنع أحق لأنه حدث عنه والحجب المانع ليس هذا المنع والحجب وقوله إنما المانع من رؤيته ما يحدثه من المنع ليس هذا الحصر صحيحاً بل الأجسام الساترة مانعة وإن قدّر أن تكون العين قد حصل فيها مانع كالعمى ألا ترى أن الجفن نفسه جسمٌ فإذا أطبقه العبد منع العين أن ترى وإن قام بالعين مانع فالمانع ليس سبباً للمنع وقوله المانع من الرؤية ما يمنع وجودها وما يمنع ذلك فهو الذي يضاد وجودها فيقال له لفظ التضاد في اللغة أعم من لفظ التضاد في اصطلاح المتكلمين وبهذه اللغة جاء القرآن قال الله تعالى وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) [مريم 81-82] وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضادَّ الله في أمره

وأما تخصيص الضدين بأنهما العرضان اللذان لا يجتمعان في محل واحد فهذا عرف اصطلاحي للمتكلمين وإذا كان التضاد في اللغة أعم من ذلك بحيث قد يكون الجسم يضاد الجسم ويضاد العرض لم يجز حمل كلام الله ورسوله

على اصطلاحهم الحادث هذا لو كان الشارع نطق بلفظ الضد وإنما جاء بلفظ الحجاب والحجاب يتضمن المعنى لكان هذا الذي فعلوه مغلطة نشأت من جهة اشتراك اللفظ وذلك أنهم قالوا الحجاب مانع والمانع من الشيء ما يضاده وهذا كله صحيح باللغة العربية وهو مسلَّم على هذه اللغة ثم قالوا والتضاد لا يصح إلا في العرضين المتعاقبين ولا يصح أن يكون الجسم منعاً ولا مانعاً من عرضٍ أصلاً لأنه لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تناف وتضاد وهذه مغلطة فإنه يقال التضاد والمنع والتنافي الذي

لا يصح إلا بين عرضين لا يكون بين جسم وعرض وهو المنع من اجتماعهما في محل واحد أو هو المنع من اجتماعهما في الوجود وإن كان في محلين فإن قال الأول فذاك التضاد والمنع والتنافي الخاص الاصطلاحي ولم يدع أحد أن لفظ الحجاب في اللغة موضوع بإزاء هذا المعنى الخاص فإنه من المعلوم أن الجسم يقبل الأعراض لا يمتنع لعموم كونه جسماً أن تقوم به الأعراض وإن كان قد يمتنع لخصوص ذاته من قيام بعض الأعراض به وإن قال بل مطلق المنع والتضاد ولو في محلين لا يصح أن يكون بين جسم وعرض قيل هذا غير مسلَّم ولا هو صحيح فإن منع كثير من الأجسام لكثير من الأعراض كالشمّ والذوق واللمس أمرٌ محسوس غاية ما يقال إن مطلق الجسم لا ينافي مطلق العرض فإنه يمكن قيامه به لكن فَرْق بين عموم النفي ونفي العموم ففرق بين نفي الإمكان والصحة من جهة خاصة وبين نفي ذلك مطلقاً

فقول القائل لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تنافٍ وتضاد إن أراد به أن لا يصح فهذا خلاف للمحسوس بل أظهر ما للإنسان لباسه الذي يقيه الحر والبرد وهما عرضان قال تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النحل 81] وقاية الحر منعه ودفعه وإن أراد أن الجسم من جهة كونه جسماً لا يمنع وجود العرض فهذا حق لكن نفي المنع من جهة كونه جسماً لا يقتضي انتفاء المنع من جهة كونه جسماً لاسيما وقد بينَّا أن الأجسام ليست متماثلة

وأن مسمى الجسم إنما هو القائم بنفسه أو المقدر أو صفة المقدر فيكون المعنى أن الأمور القائمة بأنفسها لا تمنع من جهة المقدار قيام الصفات بها إذ لا منافاة بين المقدار والصفة وهذا حق لكن قد تكون المنافاة من جهة خصوص ذات القدر كما أن العرض من حيث هو عرض لا يمنع مجامعة العرض كاجتماع اللون والطعم والرائحة في محل واحد وإنما تقع المنافاة في بعض الأعراض كاللونين والطعمين فلا فرق في الحقيقة بين تنافي الأجسام وتنافي الجسم والعرض إذ المنافاة والمضادة تختص ببعض هذه الأقسام الثلاثة دون بعض بحسب خصوص ذات المتضادين وفي الجملة فلفظ المانع والتنافي والتضاد ونحو ذلك لها في اللغة التي يتخاطب بها الناس معنى أعم مما لها في اصطلاح هؤلاء وأيضا فإنهم كثيراً ما يَغْلَطون في أحكام الأجسام

والأعراض كاعتقاد بعضهم تماثلها أو امتناع بقاء الأعراض وغير ذلك مما ليس هذا مَوضعَه فإذا سمع هذه الكلمات من لا يكون عارفاً حقيقة معانيها يحسب أنها من القضايا المقبولات بمنزلة الأخبار الصحيحة والأحكام المجمع عليها بين المسلمين ولا يعلم أن النزاع بين الناس فيها عظيم وغلط هؤلاء فيها جسيم وأنه عند الاستفصال ينكشف الحال

فصل: نقل المؤلف تأويله لقرب الرب تعالى الوارد في النصوص

فصل قال الرازي الفصل الثامن في القرب قال سبحانه وتعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وروى الأستاذ ابن فورك رحمه الله في كتابه

المتشابهات عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يدنو المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع الجبار كنفه عليه فيقر بذنوبه فيقول أعرف ثلاث مرات فيقول تعالى إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ [هود 18] قال واعلم أن المراد من قربه ودنوه قرب رحمته

مناقشة المؤلف للرازي في تأويله القرب

ودنوها من العبد وأما قوله فيضع الجبار كنفه عليه فهو أيضا مستفاد من قرب الرحمة يقال أنا في كنف فلان أي في إنعامه وأما ما رواه بعضهم فيضع الجبار كتفه فاتفقوا على أنه تصحيف والرواة ضبطوها بالنون ثم إن صحت الرواية فهي محمولة على التقريب بالرحمة والغفران والله أعلم والكلام على هذا أن يقال أما الخبر الأول فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الثاني فهو أيضاً من أشهر الأحاديث الصحاح أخرجه في الصحيحين عن صفوان بن محرز المازني قال بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل فقال يا أبا

عبد الرحمن أو يا ابن عمر كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا فيقول أعرف ربي أعرف ربي مرتين فيقول سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ [هود 18] وفي لفظ إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا وتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره ورأى في نفسه أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) [هود 18] ولفظ الحديث بالنون وأما ما ذكره في رواية بعضهم كتفه فهذا تصحيف باتفاق أهل العلم كما ذكره ومثل هذا لا يحتاج إلى تفسير فأما إذا علم أن اللفظ كذب

على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم من حدّث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين

ولا يجوز تفسير ما علم أنه كذب بتقدير ثبوته ولاسيما في مثل هذا الباب فإنه جعل للكذب معنىً صحيحاً وهذا التقدير منتف فيكون المعلق عليه منتفياً وهو إثبات معنى صحيح له وقد بينا فيما تقدم أن التأويل بيان مراد المتكلم ليس هو بيان ما يحتمله اللفظ في اللغة وإذا كان كذلك فمن الممتنع أن يقال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ كذا مع العلم بأنه لم يقل ذلك اللفظ فإن إثبات إرادته مع العلم بانتفائها جمع بين النقيضين وسواء احتمل ذلك في اللغة أو لم يحتمله فإن هذا لا يوجب إرادة النبي صلى الله عليه وسلم للمعنى بلفظ قد علمنا أنه لم يقله ولكن العلم بالموضوع المختلق وبالصحيح الثابت هو من بيان أهل العلم بالحديث والسنة وأما هذا المؤسس وأمثاله فلا يميزون بين هذين حتى قد يكذّبوا بالأحاديث التي يعلم أهلُ العلم أنها صدق ويصدّقوا أو يجوزوا صدق الأحاديث التي يُعلم أنها كذب إذا عرف هذا فهذان الحديثان مع الآية تضمنا شيئين

أحدهما تقرب العبد إلى ربه ودنوه إليه والثاني تقرب الرب إلى عبده وتقرب الرب إلى عبده نوعان أحدهما هو من لوازم تقرب العبد إليه فإنه من المعلوم أن الشيئين إذا تقرب أحدهما إلى الآخر كان من لوازم هذا قرب الآخر إليه إذ القرب من الأمور الإضافية من الجانبين فيمتنع أن يقرب أحدهما من الآخر إلا والآخر قد قرب إليه لكن لا يستلزم هذا أن يكون المُتقَرب إليه قد وجد منه فعل بنفسه يقرب منه بل يكون قربه هو القرب الذي حصل بفعل المقترب كالشيء المتحرك المتقرب إلى الشيء الساكن فإنه كلما تقرب إليه قرب الساكن إليه من غير حركة منه فهذا النوع من قرب الرب إلى عبده هو تبع لقرب العبد إلى الله فمن أثبت قرب ذات الله إلى العبد بهذا الاعتبار وإلا فلا وأما النوع الثاني من تقرب الرب إلى العبد فهو تقربه بفعلٍ يقوم بنفسه كما ورد لفظ المجيء والإتيان والنزول وغير ذلك فالكلام على هذا التقرب يؤخر إلى حيث يذكر ذلك وتكلم هنا في القرب الأول فكل من قال إن الله فوق العرش قال إنه يمكن التقرب إليه وأما من قال إنه ليس فوق

العرش قال إنه في كل مكان بذاته أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه فعلى قولهم يمتنع التقرب إليه وهؤلاء منهم من يقول إنه جسم ومنهم من يقول ليس بجسم كما تقدم ذكر ذلك عنهم وقد اعترف بالتقرب إليه نفسه من أقرّ بأنه فوق السموات ممن قال إنه ليس بجسم وممن قال إنه جسم وممن لم يقل واحداً من القولين لا أثبَتَ الجسم ولا نفاه فتبين أن إثبات التقرب إليه ونفيه ليس من لوازم القول بالجسم بل المثبت له والنافي منهم من يقول يتقرب إليه نفسه ومنهم من يقول لا يُتقرب إليه نفسه ومن يقول لا يتقرب إليه نفسه والتقرب إليه اسم جنس وتحته أنواع من أثبت نوعاً من تلك الأنواع فقد أثبت التقرب إليه بشيء وكذلك من أثبت أنه يصعد إليه نفسه بشيء أو يرتفع إليه بشيء وكذلك من ذهب إلى أنه تذهب إليه نفسه بشيء أو تأتيه نفسه بشيء أو تقف عليه نفسه ونحو ذلك فقد أثبت أنه يتقرب إليه بشيء وأما من

الآيات التي يستدل بها من يقول: إنه يتقرب إلى الله

أثبت أنه هو يجيء ويأتي ويتقرب فإنه يثبت التقرب إليه بطريق الأولى وكل من استدل على أنه فوق العرش بالنصوص المتضمنة لذكر العلو إليه مثل قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] وقوله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقوله تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وغير ذلك فإنه يقول إنه يتقرب إليه وكذلك من أثبت أنه يقف عليه شيء أو يجيئه شيء أو أن عبده يلقاه أو يكون بينه وبين خلقه حجاب ونحو ذلك فإنه يقول إنه يتقرب إليه وفي القرآن مما فيه وصف ذهاب بعض الأشياء إليه نفسه أو صعودها إليه أو نزولها من عنده وما يشبه ذلك نحو خمسمائة آية أو أكثر وكل ذلك يدل على جواز التقرب إليه قال تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة 281] وقال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ

[البقرة 223] وقد تقدم كثير من الآيات التي فيها ذكر لقاء العبد ربه وكل ذلك يستلزم التقرب إليه ومن نفى أحدهما نفى الآخر ومن أثبت أحدهما أثبت الآخر وهذا يتأولهما النافي على لقاء مخلوق التقرب من مخلوق وقد قال تعالى الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) [البقرة 156] وقال تعالى فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة 54] وقال تعالى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ [الأنعام 164] وقال تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران 28] وقال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) [المائدة 96] وقال تعالى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) [الأنعام 164] وقال تعالى إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر 7] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) [الأنعام 60] وقال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] وقال

كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) [الأنعام 108] وقال تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 61-62] وقال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام 30] وقال تعالى وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 51] وقال تعالى عن السحرة قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) [الأعراف 125] وقال تعالى وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة 118] وقال شعيب عليه السلام وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود 88] وقال تعالى وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 123] وقال تعالى وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) [يونس 46] وقال تعالى إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) [يونس 23] وقال تعالى قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف 108] وقال تعالى وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 6] وقال تعالى وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ

مُسْتَقِيمٍ (87) [الأنعام 87] وقال تعالى وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد 30] وقال تعالى وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) [الكهف 48] وقال تعالى وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت 50] وقال تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) [مريم 93 إلى 95] وقال تعالى وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) [مريم 58] وقال تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) [مريم 85] وقال وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) [المؤمنون 79] وقال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) [المؤمنون 60] وقال تعالى وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور 39] وقال تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور 31] وقال تعالى فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) [الفرقان 71] وقال تعالى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) [الفرقان 57]

وقال تعالى عن السحرة قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) [الشعراء 50] وقال تعالى وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) [النمل 87] وقال تعالى وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) [القصص 38-39] وقال تعالى وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) إلى قوله كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) [القصص 87-88] وقال تعالى فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [لقمان 15] وقال تعالى فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) [العنكبوت 17] وقال تعالى مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) [الروم 31] وقال تعالى دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم 33] وقال تعالى وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [لقمان 15] وقال تعالى وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ

الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [لقمان 22-23] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سبأ 31] وقال المؤمن وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) [يس 22] وقال تعالى وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) [يس 32] وقال تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) [يس 51] وقال تعالى عن إبراهيم إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات 84] وقال

تعالى وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) [الصافات 99] وقال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت 33] وقال تعالى فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) [فصلت 6] وقال تعالى وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) [الزخرف 36] إلى قوله حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) [الزخرف 38] وقال تعالى مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) [الجاثية 15] وقال تعالى وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) [الأحقاف 15] وقال تعالى لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق 28] وقال تعالى مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق 33] وقال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات 50] وقال تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) [النجم 42] وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات 40] وقال تعالى رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) [الممتحنة 4] وقال المسيح عليه السلام مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [الصف 14] وقال تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ

بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) [الجمعة 8] وقال تعالى تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم 8] وقال تعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) [المزمل 8] وقال تعالى فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) [المزمل 19] وقال تعالى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) [النازعات 18-19] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) [الانشقاق 6] وقال تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) [الغاشية 25-26] وقال تعالى يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر 27-30] ومثل هذا في كتاب الله كثير لا يستقصى إلا بكلفة شديدة وأما لفظ القرب إلى الله تعالى فقد قال تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) [النساء 172] وقال تعالى فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) [الواقعة 88-89] وقال تعالى كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) [المطففين 18-21] وقال تعالى

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) [المائدة 35] وقال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء 57] وقال تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] وقال تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] وقال تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) [ص 25] في قصة داود وسليمان عليهما السلام وقال هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران163] وأما في الأحاديث النبوية فكثير وكلام السلف والأئمة وجميع المسلمين من ذكر القرب إلى الله تعالى وما يقرّب إلى الله ونحو ذلك هذا لا يحصيه إلا الله تعالى إذا عرف هذا فقوله في هذا الحديث يدنو المؤمن من ربه أو أن الله يدني المؤمن أو يؤتي بالمؤمن يوم القيامة فيدنيه الله منه ليس فيه إلا تقريبه وإدناؤه إلى الله تعالى وهذا له نظائر لا يحصيها إلا الله وقد تقدم ذكر بعضها وبعضها يحُصّل العلم الضروري بدلالة النصوص على الدنو إلى الله –تعالى والقرب إليه والنصوص الدالة على ذلك أضعاف

النصوص الدالة على الصعود إلى الله تعالى فإن الصعود إلى الله تعالى نوع من القرب وكما أن دلالات النصوص على ذلك من أعظم المتواترات فالعلم بها أيضاً مستقرٌ في فطرِ المسلمين عامتهم وخاصتهم كما استقر في فطرهم أن الله فوق كلهم مقرون بأن العبد قد يتقرب إلى الله وأن العباد منهم المقرب وهو الذي يقربه الله عز وجل إليه ومنهم الملعون الذي يبعده الله عز وجل عنه وكلهم يسمون الطاعات قربات ويقولون إنا نتقرب بها إلى الله وليس فيهم من ينكر بفطرته التقرب إلى الله إلا من غُيرت فطرته بنوع من التجهم والتعطيل كما أنه ليس منهم من ينكر رفع يديه إلى الله تعالى إلا من غيرت فطرته بنوع من التجهم والتعطيل وكل واحد من هذين الأصلين يستلزم الآخر فإنه إذا كان فوق العرش أمكن القرب وكان علوه دليلاً على إمكان القرب منه وإذا ثبت أنه يمكن القرب منه ثبت أنه حيث يمكن القرب منه

ولهذا يحتجون بكل من الأصلين فإن أبا محمد عبد الله بن كلاب وأصحابه وأبا الحسن الأشعري وأئمة أصحابه لا ينازعون في أن الله تعالى فوق العرش وفي أنه يمكن التقرب إليه نفسه وهم يستدلون بأحدهما على الآخر وإن قالوا مع ذلك إنه ليس بجسم وإن كان بينهم وبين غيرهم نزاع في أن قولهم متناقض أو غير متناقض ولهذا كان كثير من متأخري أصحابه ينكرون أنه فوق العرش ويوافقون المعتزلة في نفي ذلك أن ثبوته يستلزم التجسيم قال أبو الحسن الأشعري في مسألة العرش ومما يؤكد لكم أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية من قوله ينزل ربنا كل ليلة وقد تقدم ذكر

لفظه إلى أن قال وقد قال سبحانه وتعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال سبحانه يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه وتعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [فصلت 11] وقال تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) [الفرقان 59] وقال تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] قال وكل هذا يدل على أنه في السماء مستو على عرشه والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه جل وعلا منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه وقال سبحانه وتعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] وقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقال سبحانه ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ

الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) إلى قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 8-18] إلى أن قال وقال سبحانه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء 157] وقال سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى صلى الله عليه وسلم إلى السماء وهذا كله تصريح بأن الرفع والصعود إلى الله نفسه وقال أيضاً وقال الله تعالى ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ

الْحَقِّ [الأنعام 162] وقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال تعالى وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48] قال وكل هذا يدل على أنه ليس في خلقِِهِ ولا خَلْقُهُ فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيراً جلَّ عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك

زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل قال وروت العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي رب العالمين حتى يسأله عن ثلاث وروت العلماء أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله قالت في السماء وأومأت بيدها إلى فوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أعتقها فإنها مؤمنة قال وهذا يدل على أن

الله على عرشه فوق السماء وقد أثبت أبو الحسن الأشعري ما هو أبلغ من ذلك من قرب الله تعالى إلى خلقه وحكاه عن أهل السنة والجماعة فقال في كتاب المقالات في حكاية قول جملة أصحاب

الحديث وأهل السنة قال جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة وذكر ما نقلناه عنه قبل هذا وفيه ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] ثم قال وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول قال في الإبانة وجملة قولنا أنَّا نقر بالله تبارك وتعالى وذكر نحواً مما ذكره في المقالات إلى أن قال ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء كما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وكما قال ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) [النجم 8-9] وله كلام غير هذا وهو صريح في أن قربه إلى خلقه عنده من الصفات الفعلية حيث قال كيف يشاء والقرب بالعلم والقدرة لا يجوز تعليقه بالمشيئة لأن علمه وقدرته من لوازم ذاته فهذا من اتفاق عامة الصفاتية

على إثبات قرب الخلق إلى الله عز وجل وقربهم إليهم وهذا الذي قاله الأشعري وحكاه عن أهل السنة تلقاه عن زكريا بن يحيى الساجي وغيره من أئمة البصريين وهذا اللفظ الذي ذكره في القرب محفوظ عن حماد بن زيد إمام أهل السنة في عصر مالك

والثوري والأوزاعي قال الخلال في كتاب السنة أنا جعفر بن محمد الفريابي حدثنا أحمد بن محمد المقري حدثنا سليمان بن

حرب قال سأل بشر بن السرى حماد بن زيد فقال يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء ينزل الله إلى السماء يتجول من مكان إلى مكان فسكت حماد ثم قال هو في مكان يقرب من خلقه كيف يشاء وهذا يذكر في موضعه وأما حديث إدنائه إليه ووضع كنفه عليه فهو أظهر من هذا ولم ينازع أحد من الصفاتية المتقدمين أصلاً كما لم ينازعوا

في أن الله تعالى فوق العرش وقد نص الأئمة على إقراره قال الخلال في كتاب السنة باب يضع كنفه على عبده تبارك وتعالى أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال قلت لأبي عبد الله ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن الله يدني العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه قال هكذا يقول يدنيه ويضع كنفه عليه كما قال ويقول له أتعرف ذنب كذا قال الخلال أنبأنا إبراهيم الحربي قال قوله فيضع عليه

كنفه يقول ناحيته قال إبراهيم أخبرني أبو نصر عن الأصمعي يقال أنا في كنف بني فلان أي في ناحيتهم وأنا في ظلك أي قربك قال إبراهيم وأنبأنا عمرو عن أبيه قال كنف جانب وأنشدنا وأرحب له كنفا قال

وأنشدني أبو عبد الله النحوي بأكناف الحجاز هوى دفين يؤرقني إذا هدت العيون والكلام على ما ذكره من التأويل فمن وجوه أحدها أنه قال واعلم أن المراد من قربه ودنوه قرب رحمته ودنوها من العبد فيقال له هذا التأويل لا يصح في قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] ومعلوم أن هذا يتناول المؤمن والكافر لا يقرب من رحمته وإنما قد يتأول هذا على العلم كما قد يذكر في موضعه الثاني أن هذا التأويل إنما يجيء في قرب الرب من العبد كقوله تعالى من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً فأما تقرب العبد فيقال فيه قرب العبد من الرحمة لا يقال قرب رحمته ودنوها من العبد ولكن خلط أحدهما بالآخر وهذا لا يستقيم

الثالث يقال قوله من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً إما أن يراد بكل واحد من القربين قرب رحمته ودنوها من العبد أو يراد بأحدهما غير ذلك والأول ممتنع لأن أحد التقربين لو كان هو الآخر لكان جزاء العمل هو العمل وهذا باطل فلابد أن يكون أحدهما غير المعنى الذي ذكره ولأنه قال من تقرب إليَّ شبرا تقربت منه ذراعاً فجعل الثاني ضعف الأول فيمتنع أن يكون إياه الرابع أن قرب الرحمة ودنوها من العبد ليس من فعله ومقدوره وإنما هو من فعل الله فلا يصح أن يفسر به تقرب العبد بل الذي يفسر به القرب إنما يفسر به قرب الله تعالى الخامس أنه قال في أول هذا القسم في أدلة المتأولين الخامس قوله وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق 19] فإن هذا القرب ليس إلا بالطاعة والعبودية فقد فسر قرب العبد بطاعته وعبوديته فعلم أن تفسيره بخلاف ذلك متناقض

السادس أنه قال يدنو المؤمن من ربه تعالى يوم القيامة فيضع عليه كنفه وهو لم يذكر إلا قوله اعلم أن المراد من قربه ودنوه قرب رحمته ودنوها وهذا ليس بتفسير لهذا الحديث لأنه جعل القربين شيئاً واحداً وهذا تخليط كما تقدم لكن هو لم يستوف التأويل المعروف عن الجهمية قالوا نحمل على أنه يقربه من رحمته وإثابته وتعطفه ولطفه وهذا سائغ في اللغة والمراد به المنزلة وعلو الدرجة فهذا التأويل الذي ذكروه وإن كان باطلاً لكنه هو الذي يمكن المتأول أن يقوله في هذا الحديث بخلاف ما ذكره ونحن نبين بطلانه فنقول الوجه السابع أن ما يدني إليه العبد من الرحمة والإيمان وغير ذلك إما أن تكون أعيانا قائمة بأنفسها أو صفات قائمة بغيرها فإن كانت صفات فمعلوم أن القرب إلى الصفة لا يكون إلا بالقرب إلى الموصوف نفسه فلا يمكن أن يقرب العبد إلى ما يقوم بالله من رحمة وإيمان إلا إذا قرب من نفسه فأما قربه من صفته القائمة به دون قربه من نفسه فظاهر البطلان والفساد ولهذا لم يقله أحد من العباد بل الذي يحيل القرب إلى نفسه

هو القرب إلى صفاته ابتداء حاله إن كان يثبت له صفة وإن أراد بما يتقرب العبد إليه عيناً قائمة بنفسها غير الله عز وجل فذلك خلق من خلق الله تعالى ومن المعلوم أن قوله يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا يقول أعرف رب وقوله إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه كل ذلك ألفاظ صريحة يعلم من سمعها بالاضطرار أن الذي يدنيه منه ويضع عليه ويقرره بذنوبه ويغفرها له الله عز وجل لا أحد من خلقه فكيف يجوز أن يقال لا يدنو العبد من ربه وإنما يدنو من بعض مخلوقاته وهل ذلك إلا بمثابة أن يقال إن الذي يقرره بذنوبه هو بعض مخلوقاته كما تقول الجهمية القائلون بأن الله عز وجل لا يقوم به كلام وإنما الكلام يقوم ببعض مخلوقاته فهذا مثل هذا وكلاهما بمنزلة أن يقال إن الله عز وجل لا يغفر له وإنما يغفر له بعض مخلوقاته وهذا يؤول إلى ما يقوله من يقوله من الصابئة المتفلسفة وغيرهم إن العباد لا يرجعون إلى الله عز وجل وإنما منتهاهم هو العقل الفعال ونحو ذلك مما يدعون لها الملائكة فيجعلون ذلك هو رب العباد الذي إليه يرجعون كما يزعمون أنه هو ربهم المدبر لهذا العالم

وهذا كله مما يعلم بالاضطرار أنه خلاف ما أخبرت به الرسل وأنه شرك صريح في اتخاذ غير الله إلهاً وربًّا وأقوال الجهمية تستلزم هذا ولهذا قال من قال من أئمة السلف من قال إن قوله لموسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه 12] مخلوق كافر لأنه جعل هذا الكلام قائما بمخلوق يلزم أن يكون هو الرب وكذلك سائر تأويلاتهم من هذا الجنس

الوجه الثامن أن يقال هذا الدنو ووضع الكنف والمخاطبة يكون وقت السؤال والعبد خائف غير آمن ولا ظهر له أنه يغفر له ويرحمه كما في لفظ الحديث الصحيح إن الله يدني المؤمن فيضع كنفه عليه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فإذا كان العبد حين هذا الدنو من الله والمخاطبة والتقرير بذنوبه يرى أنه قد هلك قبل أن يذكر له الرب أنه غفر له امتنع أن يكون ما ذكره من دنوه من الله هو الدنو من رحمته وأمانه وتعطفه الوجه التاسع أن الرحمة والعطف والأمان إن كانت صفات لله تعالى كان القرب إليها قرباً إلى الموصوف كما تقدم وإن كانت أعياناً قائمة بنفسها مخلوقة لله تعالى فمن المعلوم أنه حين الحساب في عرصات القيامة لا يكون هناك أجسام مخلوقة يرحم بها العباد فإن ذلك إنما يكون في الجنة وإذا لم يكن في عرصة الحساب أجسام مخلوقة من الرحمة أعدها الله

عز وجل لعباده ولكن هو يحكم بالعفو والمغفرة ثم ينقلبون إلى دار الرحمة امتنع أن يكون أحد حال المحاسبة مقرباً إلى أجسام هي رحمة قبل أن يؤذن لهم في دخول الجنة الوجه العاشر أن يقال من المعلوم أن الله عز وجل أخبر في كتابه بأصناف ما ينعم به على عباده من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن وقد أجمل ما لم يفصله في قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ

[السجدة 17] وهذه الأمور يباشرها المؤمن مباشرة لا يكون جزاؤه مجرد قربه منها دون مباشرتها بل ذلك يكون حسرة وعذابا فدعوى الإكرام بمجرد التقريب من هذه الأمور دون مباشرتها كلام باطل لا حقيقة له الوجه الحادي عسر أن المؤمن مازال في رحمة الله في الدنيا والآخرة فكيف يجوز تخصيص حال السؤال بقربه من رحمته دون ما قبل ذلك وما بعده الوجه الثاني عشر أن يقال هو مازال مباشراً لما يرحمه الله به قبل وبعد فأي فائدة في أن يوصف بالقرب من شيء مازال مباشراً له لا ينفصل عنه الوجه الثالث عشر أنه في العرصة يظهر له من الأهوال والشدة ما يكون أعظم عليه وأشد لرعبه وألمه من كل ما كان قبل ذلك وبعده فكيف يجوز تخصيص أشد الأحوال عليه بأنه تقرب فيه مما يرحم به مع أن ما قبلها وما بعدها كان ما يرحمه به إليه أقرب وهو له أعظم مباشرة ونيلا الوجه الرابع عشر أن هذا الذي ذكره لا ريب أنه من

باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه حيث قال قوله فيدنيه منه أي من رحمته وأمانه وتعطفه ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أن هذا لا يجوز عندهم إلا إذا كان قد اقترن بالكلام ما يبين المضاف والمحذوف إذ لا يقولون جاء زيد يعنون ابنه أو غلامه أو رسوله إلا بقرينة ومن المعلوم أن الحديث نص في أن الله تعالى هو الذي يدنيه من نفسه فضلاً عن أن يقال إن هناك قرينة تبين أنه إنما أدناه ن بعض الأمور المضافة إلى الله تعالى ولهذا لا يسمع أحد هذا الكلام فيفهم أن الله تعالى يدنيه من شيء آخر ولا يخطر هذا ببال المستمع فكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد هذا الوجه الخامس عشر أن قوله فيدنيه منه فيضع عليه كنفه ثم يقرره بذنوبه جمع بين الإدناء ووضع الكنف عليه قرينة في أنه هو الذي يدنيه إليه ويضع كنفه عليه ويستره من الناس كما جاء ذلك في ألفاظ الحديث الوجه السادس عشر أنه من المعلوم أن هذا الحديث هو من جنس مادل عليه القرآن من وقوف العباد على ربهم وخطابه لهم ومن المعلوم بالاضطرار من رسالات الرسل ودين الإسلام أن هذا إنما يكون يوم القيامة وأن أحوال العباد مع الله عز وجل يوم القيامة بخلاف أحوالهم في الدنيا

وعلى رأي المنازعين الجهمية وفروعهم لا فرق بين الدنيا والآخرة فإن اله نفسه لا يقربون إليه لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا يقفون عليه ولا يرجعون إليه وإنما ذلك كلهم مصيرهم إلى بعض مخلوقاته ومقدوراته وهذا ثابت في الدنيا والآخرة وكذلك خطابهم لهم معناه عند الجهمية المحضة أنه يخلق كلاماً في بعض مخلوقاته يكلمهم وعند فروعهم يخلق في العباد إدراكاً يفهمون به المعنى القائم بالذات لا أنه يخاطبهم بكلام يسمعونه إذ ذاك ومعلوم أن خلق الفهم والإدراك لا فرق فيه بين الدنيا والآخرة وحينئذ فهذا الذي أخبر به في هذا الحديث وغيره يكون عندهم في الدنيا كما يكون في الآخرة فيدنو العبد المؤمن من الله تعالى في الدنيا ويضع عليه كنفه ويقرره بذنوبه ويقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم وذاك عندهم إما سماع صوت في بعض المخلوقات أو إلهام يقع في النفس وكل من تدبر القرآن والحديث علم بالاضطرار أن هذا الذي يقولونه ليس هو الذي

أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن قولهم فيه هو من التكذيب ببعض الإيمان بالله واليوم الآخر وهذا أمر عظيم ضاهوا به ما يقولونه الصابئة الفلاسفة والقرامطة الباطنية ونحوهم من لا يشك مؤمن في أنهم يكذبون بآيات الله ولقائه وأنهم ممن قيل فيه فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) [الأنعام 150] وهذا قد صرح به من أئمة الجهمية طوائف كالاتحادية وغيرهم ولهذا ينكرون المسير إلى الله عز وجل

والدعوة إليه أو يتأولونه بالطريق المستقيم إليه وذلك يظهر بالوجه السابع عشر وهو أن ابن عربي صاحب

الفصوص قال في الكلمة النوحية وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) [نوح 22] لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ادعو الله فهذا عين المكر على بصيرة فنبه أن الأمر كله له فأجابوه مكراً كما دعاهم مكراً فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسماؤه فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) [مريم 85] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين فقالوا في مكرهم لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) [نوح 23] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله من المحمديين وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 23] أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي

صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود فالأدنى من تخيل فيه الألوهية فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره ولهذا قال قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد 33] فلو سموهم لسموهم حجراً وشجراً وكوكباً ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلهاً ما كانوا يقولون الله ولا الإله والأعلى ما تخيل بل قالوا هذا مجلى إلا هي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر والأدنى صاحب التخيل يقول مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] والأعلى العالم يقول فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج 34] الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح 24] أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ

[نوح 24] لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب فهم أول الثلاثة فقدم على المقتصد والسابق إِلَّا ضَلَالًا (24) [نوح 24] إلا حيرة المحمديين زدني فيك تحيرا كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة 20] فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه وصاحب الحركة الدورية لابد له فيلزمه من ولا غاية فيحكم عليه إلى قلة الوجود الأتم وهو المؤتى وجوامع الكلم والحكم مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة فَأُدْخِلُوا نَارًا في عين الماء في المحمديين وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) [التكوير 6] سجرت التنور إذا أوقدته فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) [نوح 25] فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد فلو أخرجهم إلى السيف سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة وإن كان الكل لله

وبالله بل هو الله فيقال لهم هذه الأمور التي تضمنها هذا الكلام وهو لازم الجهمية الذين يقولون إن الله عز وجل ليس فوق العرش بل هو في كل مكان من أن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه في النهاية كما هو في البداية من أن صاحب السلوك إلى الله بالطريق المستقيم مائل خارج عن المقصود صاحب خيال إليه غايته فله من وإلى يسير من شيء إلى شيء والحائر الذي يدور ولا يبرح ولا يذهب إلى شيء غير ما هو فيه فله الوجود الأتم وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم وأن الدعوة إلى الله ليست إلى هويته بل إلى نسب وإضافات إليه هي التي جعلها هذا أسماء فإن هؤلاء الاتحادية وإن كانوا جهمية فلهم فروع أقوال انفردوا بها عن غيرهم من الجهمية ولكن نذكر ما يلزم غيرهم

من الجهمية فهذه المقالات ونحوها لا تخلو إما أن يقال هي حق وهي معنى القرآن كما ذكره هذا أو لا أما الأول فإنه من أظهر الأمور كفراً وضلالاً وتحريفاً واتحاداً وتعطيلاً فكل من فيه أدنى إيمان وعَلِمَ وفَهِمَ مقصودهم يعلم علماً ضروريًّا أن الذي قالوه هو من أعظم الأقوال منافاة لما جاءت به الرسل وان الله أمر أن يسأل أن يهدينا الصراط المستقيم ومدح الصراط المستقيم في غير موضع وذم الحائر كما في قوله تعالى قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ [الأنعام 71] وأن الله بعث الرسل بالدعوة إليه نفسه وأن ذلك ليس بمكر بالعباد بل هدى لهم وأنه ليس المدعو في ابتداء إجابة الرسل كما يكون إذا انتهى إلى ربه أو لاقاه وأن من عبد الأصنام أو شيئا م المخلوقات فهو كافر مشرك باتفاق الرسل كما قال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) [الزخرف 45] وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء 25] وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 36]

وعلى قول الاتحادية ما ثم طاغوت إذ كل معبود فعابده إنما عبد الله عندهم ومن المعلوم بأعظم الضرورات أن عُبّاد يغوث ويعوق ونسرا وسائر الأوثان لم يكونوا عابدين لله وكانوا مشركين أعداءً لله لم يكونوا من أولياء الله وهذا وأمثاله كثير وليس هذا موضع بسطه فهؤلاء الجهمية النفاة إما أن يوافقوا هؤلاء أو ى فإن وافقوهم كان كفرهم أظهر من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب وكان جحدهم للمعارف الكثيرة الضرورية أعظم من جحد السوفسطائية

وإن خالفوهم وهو قولهم قيل لهم إذا قلتم إن الله لا يتقرب إليه نفسه أحد ولا يدعى إليه نفسه أحد وليس بين العبد وبينه نفسه طريق مستقيم ولا مستدير وأنه لا يذهب إليه نفسه أحد وإنما ذلك كله عندكم يعود إلى بعض مقدوراته ومخلوقاته مثل ما يخلقه مما يرحم به العباد فإليها يذهب وإليها يسير فإذا قلتم هذا لم يكن لكم طريق إلى إفساد قول أولئك الاتحادية إذ قولكم من جنس قولهم إلا أنهم توسعوا في ذلك فجعلوا كل من دعا إلى شيء أو وصل إليه أو سلك إليه فإنما دعا إلى الله ووصل إليه وسلك إليه وأنتم تخصون ذلك ببعض المخلوقات دون بعض فالفرق بينكم وبينهم فرق ما بين العموم إلى الخصوص ومشابهتكم لهم أقرب من مشابهة النصارى لهم ولهذا كان يقول صاحب الفصوص إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا إذ عنده أن جميع

الموجودات هي بمنزلة ما يقوله النصارى في المسيح عليه السلام

فصل: نقل المؤلف عن الرازي قوله: هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به

فصل قالوا أبو عبد الله الرازي القسم الثالث في تقرير مذهب السلف وفيه فصول الفصل الأول في أنه هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به اعلم أن كثيراً من الفقهاء والمحدثين والصوفية يجوّزون ذلك والمتكلمون ينكرونه قلت قول القائل ما لا سبيل لنا إلى العلم به كلامٌ مجملٌ قد يراد به ما لا سبيل لبعض الناس إلى معرفته أو يراد به ما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ثم قد يراد به أنه لا سبيل لأحد إلى فهم معناه ومعرفة شيء من المراد به بل قد يكون مثل الأعجمي الذي حفظ حروف القرآن ولا يدري

ما هو وإذا خاطبته بعربية القرآن لم يفهم عنك ولم يخاطبك إلا بلسانه وقد يراد به أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة الخبر الواقع في الخارج كيف هو ومتى يقع أو كم مقداره فإن لفظ التأويل له عدة معان كما سنذكره إن شاء الله تعالى والذين جوّزوا ذلك عمدتهم قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] وسنبين أنه ليس المراد بهذا أنه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله بل هذا القول خطأ وما ذكره من حجج المتكلمين يبطل هذا القول لكن لا يدل على أن التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح والتأويلات التي لا يعلم بها مرادُ المتكلم هو التأويل المذكور في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران 7] على القراءة الأخرى بل إن هؤلاء المتكلمين لا يعلمون تأويله الذي هو تفسيره ومعرفة المراد به فإن الراسخين في العلم الذين

يعلمون هذا التأويل قد عرفوه بعينه لم يترددوا ويقولوا يجوز كذا ويجوز كذا فمن قال إن القرآن يجوز أن يشتمل على ما لا سبيل لبعض الناس إلى العلم به فقد أصاب وذلك لعجزه لا عن نقص في دلالة القرآن فكثير من الناس لا سبيل له إلى أن يعلم كثيراً من العلوم كالطب والنجوم والتفسير والحديث وإن كان غيره يعلم ذلك وإن أراد أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة تفسيره فقد غلط وإن قال لا سبيل لأحد إلى معرفة حقيقته وكيفيته وهيئته ونحو ذلك فقد أصاب وما ذكر من حجج المتكلمين يدل على أنه ليس فيه ما يمتنع معرفة تفسيره ومعناه والمراد به الذي هو الصواب وعلى هذا عامة السلف فإنهم لا يقولون إن في القرآن ما لا يعلم الرسول معناه وتفسيره وما عنى الله تعالى به ولا جبريل الذي جاء به ولا أحد من المؤمنين بل فيه ما لا يعلم عاقبته وما يؤول إليه إلا الله تعالى وبسط هذا له موضع

فصل: قال الرازي: احتجوا بالآيات والأخبار والمعقول

آخر فصل قال الرازي احتجوا بالآيات والأخبار والمعقول أما الآيات فكثيرة وقد ذكر منها أربع عشرة آية أحدها قوله تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) [محمد 24] أمر الناس بالتدبر في القرآن ولو كان القرآن غير مفهوم فكيف يأمرنا بالتدبر فيه الثاني قوله تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء 82] فكيف يأمرنا بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع

أنه غير مفهوم للخلق الثالث قوله تعالى وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء 192-195] ولو لم يكن مفهوماً فكيف يمكن أن يكون الرسول منذراً به وأيضاً قوله بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء 195] يدل على أنه نازل بلغة العرب وإذا كان كذلك وجب أن يكون معلوماً الرابع قوله تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 83] والاستنباط منه لا يكون إلا بعد الإحاطة بمعناه قلت هذا الـ مذكور في قوله تعالى وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 83] ليس المراد به القرآن

الخامس قوله تعالى تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل 89] ونظيرهما وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف 111] وأما قوله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 38] فهو بعد قوله تعالى وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [الأنعام 38] ولهذا قال أكثر العلماء إن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ وهذا الكلام يقتضي أنه بين لا يقتضي أن كل ما فيه مفهوم فقد يقال إن فيه هذا وفيه هذا لكل يقال لما قصد به بيان كل شيء فبيانه نفسه وفهم معناه مقدم على غيره

قال السادس قوله تعالى هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة 2] وما لا يكون معلوماً لا يكون هديّ السابع قوله تعالى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ [القمر 5] وقوله تعالى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) [يونس 57] وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم الثامن قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) [المائدة 15] ولا يكون مبينا إلا أن يكون معلوماً التاسع قوله تعالى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) [العنكبوت 51] فكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم العاشر قوله تعالى هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم 52] فكيف يكون بلاغاً وكيف يقع الإنذار به وهو غير معلوم وقوله في آخر الآية وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

[إبراهيم 52] وإنما يكون كذلك أن لو كان معلوماً الحادي عشر قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) [النساء 174] فكيف يكون برهاناً ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم الثاني عشر قوله تعالى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) [طه 123-124] فكيف يمكن اتباعه تارة والإعراض عنه أخرى مع أنه غير معلوم الثالث عشر قوله تعالى إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) [الإسراء 9] فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم للبشر الرابع عشر قوله تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة 285] والطاعة لا تكون إلا بعد العلم فوجب كون القرآن مفهوماً قلت وفي القرآن مواضع أخرى تدل على هذا المعنى

الأول مثل قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل 44] فإنه يدل على أنه يبين للناس جميع ما نُزّل إليهم فيكون جميع المنزل مبيناً عنه يمكن معرفته وفهمه وقوله تعالى وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل 44] يدل على ذلك فإن التفكر طريق إلى العلم ما لا يمكن العلم به لايؤمر بالتفكير فيه الثاني قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق 10-11] وما لا يفهم ولا يعلم معناه لا يخرج أحداً من ظلمة إلى نور ومثله قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) [الحديد 9] الثالث قوله تعالى الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم 1] فأخبر أنه أنزل إليه الكتاب لهذا الإخراج

والإخراج من الظلمات إلى النور لا يكون إلا بما يفهم ويعلم معناه وما لا يفهم لا يحصل به خروج من الظلمة إلى النور الرابع قوله تعالى يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون 68] وإنما يمكن تدبر القول إذا أمكن معرفته وفهمه الخامس قوله تعالى الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف 1-2] وإنما يكون مبيناً سواء أريد مبيناً في نفسه أو أنه مبين لغيره إذا كان مما يمكن معرفته وفهمه ومعرفة معناه السادس قوله تعالى وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) [الأعراف 203] السابع قوله تعالى هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) [الأعراف 203] وقوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام 104] والبصائر جمع بصيرة بمعنى الحجج

والبرهان والبيان واحدتها بصيرة وقال الزجاج معنى البصائر ظهور الشيء وبيانه وقال الجوهري البصيرة الحجة والاستبصار في الشيء قوله تعالى بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) [القيامة 14] ولا حجة ولا برهان ولا بيان ولا ظاهر إلا إذا أمكن فهم معرفته وما لا يمكن أحداً من الخلق فهمه يمتنع أن يكون كذلك الثامن قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) [يونس 42] وقوله تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة 171] وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) [محمد 16] وقوله تعالى وَلَا تَكُونُوا

كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) [الأنفال 21] وهذا كله ذم لمن سمع الكلام ولم يفهم معناه ولم يفهمه وإنما يستحق الذم إذا كان الكلام مما يمكن فهمه وفقهه وما لا يكون كذلك لم يستحق به الذم التاسع قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 23] وقوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف 3] وإنما يكون أحسن الحديث وأحسن القصص إذا كان مما يفقه ويعقل وما كان يمتنع فهم معناه كان ما يفهم ويعلم أحسن وأنفع منه العاشر قوله تعالى وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) [القمر 17] في غير موضع قال بعض السلف هل من طالب علم فيعان عليه

وإنما يكون متيسراً للذكر إذا أمكن فهمه ليذكر معناه ويذكّر الناس بما ذُكّر به وما لا يفقه من الكلام ولا يمكن فقهه لا يمكن أن يتذكر به أحد وليس مذكراً فضلاً عن أن يكون متيسراً للذكر الحادي عشر قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 4] فجعل الرسول بلسان قومه ليبين لهم ما أرسل به ومعلوم أنه لو خاطبهم بلسان آخر وترجمه لهم لحصل المقصود فـ ـكان ذلك أتم في النعمة فكيف يخاطبهم بكلام لا هو يفهم معناه ولا هم يفهمونه ولا يمكن أحداً فهمه وهل الإرسال بمثل هذا إلا من أعظم المعائب التي يجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً عنها فإنها لا تليق بآحاد الناس سبحانه وتعالى الثاني عشر قوله تعالى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) [النحل 35] وقوله تعالى وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا

وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) [النور 54] ومعلوم أن البلاغ المبين لا يحصل بكلام لا يمكن أحداً فهمه بل لا يمكن فهمه للرسول ولا للمرسل إليه تعالى الله عن مثل ذلك الثالث عشر قوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [البقرة 213] ومعلوم أن حكم الله بالكتاب أو حكم الكتاب بين المختلفين لا يمكن إلا إذا عرفوا ما حكم به من الكتاب وما تضمنه الكتاب من الحكم وذلك إنما يمكن إذا كان مما يمكن فهم معناه وتصور المراد به دون ما يمتنع ذلك منه الرابع عشر قوله تعالى تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل 63-64] وبيان ذلك بالكتاب إنما يكون إذا كان فهم الكتاب ممكناً فأما إذا تعذر فهمه فيمتنع أن يحصل به بيان ما اختلف فيه الناس الخامس عشر قوله تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) [آل عمران 101] ومعلوم أن تلاوة آيات الله إنما

تكون مانعة من الكفر إذا تبين بها الإيمان من الكفر والحق من الباطل وهذا إنما يكون بالكلام إذا كان مما يمكن فهمه ومعرفته دون ما يتعذر ذلك فيه السادس عشر قوله تعالى المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف 1-3] وقوله تعالى اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام 106] ومعلوم أن اتباع ما أمرهم الله تعالى من الكتاب والحكمة إنما يمكن بعد فهمه وتصور معناه وما كان من الكلام لا يمكن أحداً فهمه لم يمكن اتباعه بل كان الذي يسمعه كالذي لا يسمع إلا دعاء ونداء وإنما الاتباع لمعاني الكلام السابع عشر قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت 44] قال المفسرون لو جعله قرآنا أعجميًّا لأنكروا ذلك وقالوا هلا بينت آياته بلغة العرب لنفهمه أقرآن عجمي ورسول عربي فقد بيّن سبحانه وتعالى أنه لو جعله أعجميًّا لأنكروه فجعله عربيًّا ليفهم معناه وليندفع مثل هذا القول ومعلوم أنه لو كان أعجميًّا لأمكنهم التوصل إلى فهمه بأن يترجم لهم مترجم إما أن يسمعه من الرسول ويترجمه أو يحفظوه هم أعجميًّا ثم يترجمه لهم كما أن من العجم من يحفظ القرآن عربيًّا ولا يفهم ويترجم له وأما إذا كان عربيًّا لا يمكن أحداً أن يفهمهم إلا الرسول

ولا المرسل إليهم فإنكار هذا أعظم من إنكار كونه أعجميًّا وإذا كان الله تعالى قد بين أنه لا يفعل الأول فهم أن لا يفعل هذا أولى وأحرى الثامن عشر قوله تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) [ص 29] ومعلوم أن تدبر آياته وتذكر أولي الألباب إنما يكون مع إمكان فهمه ومعرفة معناه وأما بدون ذلك فهو متعذر التاسع عشر أن القرآن آيات والآية هي العلامة والدلالة وإنما تكون علامة ودلالة إذا دلت على شيء وأعلمت به وما كان دليلاً ومعلماً وعلامة فإنه يمكن أن يستدل به ويستعلم به ما دل عليه وما لم يمكن ذلك فليس بدلالة ولا كلام فما لا يمكن أن يفهم منه معنى ولا يستدل به عليه فليس في آيات الله ولا يكون في كلامه الذي أنزله العشرون قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي

بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [المائدة 15-16] وإنما يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام إذا فهموه وما لم يفهم من الكلام لا يهدى به إلى شيء لاسيما إذا كان لا يفهمه أحد الحادي والعشرون قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى 52-53] ومعلوم أن الروح الذي أوحاه من الكتاب والإيمان ما يهتدي به من يهتدي من عباده إلا إذا علموا ذلك فإذا كان الكتاب لا يفهم لم يهتد أحد بكلام ولا يفهمه أحد وكذلك قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى 52] فإن هدايته إلى ذلك بالكلام الذي سمع منه فإذا كان ما يبلغه هو من الكتاب والسنة لا يفهمه لا هو ولا غيره ولا سبيل لأحد إلى فهمه لم يمكن أن يهدي به أحداً إلى صراط مستقيم الثاني والعشرون قوله تعالى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ

لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود 1] وما لا يمكن فهمه لم يحكم ولم يفصل الثالث والعشرون قوله تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس 1] وقال تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) [النمل 1] وقال تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر 1] وقال تعالى الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) [لقمان 1-2] وقال تعالى ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) [آل عمران 58] والحكيم فعيل سواء كان بمعنى الفاعل وهو الحاكم أو بمعنى المفعول وهو المحكم فلا يكون حاكما ولا محكماً إلا إذا كان له معنى يمكن فهمه ومعرفته وإلا فاللفظ الذي لا يمكن أحداً فهم معناه ليس بمحكم ولا حاكم ولا محكّم الرابع والعشرون قوله تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران 61] والذي جاءه هو القرآن وإنما يكون علماً إذا كان متضمناً للعلم فيعلم به ما بين فيه واللفظ الذي لا يمكن أحداً فهم معناه ليس بعلم ولا يدل على علم

وليس من العلم بسبيل وإذا كان لا يعلم معناه إلا أنه كامن من علمه الذي استأثر به لم يكن علماً لغيره ولم يكن قد جاء غيره علماً ولا علم أحد به علما الخامس والعشرون قوله تعالى لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] بين أنه أنزل القرآن بعلمه أي متضمناً لعلم فيه يراد فيه علم ليس المراد بذلك وهو يعلم فإن كل الموجودات يعلمها والمقصود مدح القرآن وبيان اشتماله على علم الله تعالى وإذا كان كذلك دل على أن ما فيه من العلم لم يستأثر الله تعالى به بل أنزله إلى عباده وعلمهم إياه وهو من علمه الذي قال فيه وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة 255] وهذا لا يكون إلا إذا أمكن فهم معناه وإلا فاللفظ الذي لا يمكن فهم معناه لا علم فيه لأحد ومثل هذا قوله تعالى فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [هود 14] السادس والعشرون قوله تعالى وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) [طه 133] أي بيان ما في الصحف الأولى وإنما يكون بياناً لما في الصحف إذ بين ذلك ودلّ عليه وعرّف به وهذا إنما يكون بالكلام الذي

يمكن فهمه ومعرفته ومعرفة معناه وما كان ذلك ممتنعاً فيه لم تكن فيه بينة ولا بيان ولا للصحف ولا لغيرها ومثل هذه الأدلة في القرآن كثيرة يطول تتبعها وهذه أربعون وجهاً منها وعند التأمل هي أكثر من ذلك والوجه الواحد يتضمن وجهاً أو وجوهاً والآيات المتماثلة جعلت وجها وكل منها دليل مستقل فتكون الدلائل المذكورة أكثر من مائة دليل وما لم يذكر كثيراً أيضاً

فصل: نقل المؤلف عن الرازي استدلاله بالأخبار على أنه ليس في القرآن ما لا سبيل إلى العلم به

فصل قال الرازي أما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي وكيف يمكن

التمسك به وهو غير معلوم

تعقيب المؤلف على الرازي

قلت لفظ الحديث في صحيح مسلم عن جابر أنه قال في خطبة يوم عرفة وإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله لم يذكر فيه لا عترتي ولا سنتي وكذلك في صحيح البخاري عن ابن أبي أوفى قيل له هل وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا فقيل له كيف لم يوص وقد كتب على الناس الوصية قال وصى بكتاب الله وكذلك في صحيح البخاري أن عمر خطب الناس من الغد من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم فاعتصموا به تهتدوا بما

هدى الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأما السنة فالقرآن قد أوصى باتباعها في غير موضع يذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في نحو من أربعين موضعاً وذكر إنزال الحكمة في القرآن في خمسة مواضع والذي نزل مع القرآن

هو السنة وأما لفظ العترة ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدي يدعى خمًّا بين مكة والمدينة وقال إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وحض عليه وقال عترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ففيه أنه أمر باتباع القرآن وأنه وصى الأمة بأهل بيته وأما قوله ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله وعترتي فقد رواه الترمذي وضعفه أحمد

وغيره وقوله كتاب الله وروي في حديث ضعيف قال وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله تعالى ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن دعا إليه بعدي دعا إلى هدى وإلى صراط مستقيم

قلت وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره ورواه أبو نعيم من طرق وفيه ولا تلتبس به الألسن وليس في رواية الترمذي ومن خاصم به فلج

نقل المؤلف عن الرازي استدلاله بالمعقول على أن القرآن لا يكون فيه ما لا سبيل إلى العلم به

فصل قال وأما المعقول فمن وجوه الأول أنه لو ورد في القرآن ما لا سبيل لنا إلى العلم به لكانت المخاطبة تجري مجرى مخاطبة العربي بالزنجية وهو غير جائز قلت بل هو أقبح من ذلك لأن العربي أو غيره إذا خوطب بغير لسانه أمكن أن يترجم له ذلك الخطاب بلسانه فيتوصل إلى فهم معناه وأما إذا خوطب بلسانه بكلام لا سبيل لأحد إلى فهم معناه فهذا أقبح من مخاطبة العربي بالعجمية قال الوجه الثاني أن المقصود من الكلام للإفهام ولو لم يكن مفهوماً لكان عبثاً قلت بل هذا أقبح من العبث فإن الإنسان قد يعبث بأفعال يستريح بها ويلهو بها وأما خطاب الناس بكلام لا سبيل لأحد إلى معرفة معناه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء ألبتة بل هو مثل

مستقبح باتفاق العقلاء والله تعالى وراء تنزيهه عن مثل ذلك ولكن هذا الوجه والذي قبله لا يصح من مثل هذا الرازي الاحتجاج بمثلها فإنه وأصحابه ينصرون قول الجهمية المجبرة الذين لا ينزهون الرب عن فعل ممكن بل يجوزون عليه فعل كل مقدور ومن المقدور أن يخلق أصواتا مؤلفة من جنس الكلام ولا يكون لها معنى أو يكون لها معنى لا يعلمه غيره والرازي ذكر في محصوله مسألة الأحكام أن يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا خلافاً للحشوية ثم احتج بأن ذلك عبث والله تعالى منزه عن ذلك وهذا النقل والاستدلال ضعيفان فإنا لا نعلم أحداً من الطوائف قال إن الله تعالى يجوز أن يتكلم بكلام لا يعني به شيئاً وإنما قال من قال إنه

لا يفهم الناس معناه وإن كان قد عنى به هو معنى فهذا القول الذي حكاه عن الحشوية لا يعرف به قائل معين يحكى عنه وسواء عرف أو لم يعرف فالحجة التي ذكرها ضعيفة على أصله فإن النزاع إنما هو في الكلام المؤلف من الحروف وهذا عنده مخلوق وهو يجوز أن يخلق كل شيء لا لحكمة وإن كان هذا مما يعده العقلاء عبثاً فعنده لا ينزه مثل ذلك فكانت الحجة ضعيفة على أصله ولكن العبث على الله ممتنع وأصله المنفي لذلك باطل كما قد بسط في موضعه

فصل قال الرازي الوجه الثالث أن التحدي وقع بالقرآن وما لم يكن معلوماً لا يجوز التحدي به قال فهذا مجموع كلام المتكلمين وبالله التوفيق فيقال هذه الحجج كما أنها دالة على فساد قول من قال إن في القرآن ما لا سبيل لأحد إلى فهمه بل معرفة معناه ممتنع فهي أيضاً دالة على فساد قول هؤلاء المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها فهي حجة على فساد قول الطائفتين وذلك أن هؤلاء النفاة يقولون إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أن يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن ولم يدل عليه القرآن ودلالة الخطاب المعروفة لا تفيد اليقين وهو كون الرب ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يحجب

نقل المؤلف عن الرازي ما ذكره في (حكمة إنزال المتشابه) ، والتعقيب عليه

العباد عنه شيء ولا عنده شيء دون شيء بل جميع الأشياء سواء ولا يحتجب عنهم بشيء وأنواع ذلك فمن المعلوم أن القرآن لم يدل على شيء من ذلك ولا بينه بل إنما دل على نقيضه وهو إثبات الصفات وأنها تدل على أنه يقرب من غيره ويدنو إليهم ويقرب العبد منه ويدنو إليه وعلى أنه عال على جميع الأشياء فوقها وأنه ينزل منه كلامه وتنزل الملائكة من عنده وتعرج إليه وأمثال ذلك وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر وغيرهم يقول بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول وسيأتي كلامهم في حكمة إنزال هذه الآيات وقد ذكر فيها خمسة وجوه الأول تضعيف الوصول إلى الحق ليعظم الأجر ومعلوم

أن هذا يناقض كونه بياناً وشفاءً وهدى وكونه قد جعله عربيًّا ليعقل ويسره للذكر وغير ذلك مما وصف به في كونه سهلاً لمعرفة الحق وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونحو ذلك والثالث أنه إذا لم يمكن بيان المقصود افتقر الناس إلى

الأدلة العقلية فيعرف الحق بالعقل ومعلوم أن هذا يناقض ما وصف به ثم إنه على هذا التقدير الذي يدعيه هؤلاء كان أن لا ينزل القرآن ولا يرسل الرسول أصلح للخلق فإن الهدى إنما حصل لهم بعقل لم يحتاجوا فيه إلى الكتاب والرسول لكن الكتاب والرسول عندهم عارض هذا العقل ولهذا قالوا يقدم العقل وما جاء به الرسول إما أن يعرض عنه وإما أن يوضع له محامل يحمل عليها وعلى التقدير فالكتاب والرسول ما حصل بهما بيان وهدى وعلم بل كان عندهم سبباً لضد ذلك وإنما حصل العلم بأصول الدين والتوحيد عندهم معقول يخالف ما جاء به الرسول لم يدل الرسول عليه ولا أرشد إليه وهذا في غاية المناقضة لما احتجوا به من هذه الآيات وكذلك الوجه الرابع وهو أن التأويل يفتقر إلى تحصيل علوم كثيرة والهدى ما حصل بالقرآن لكن بهذه العلوم وضعت له محامل لئلا يضل به الناس وهؤلاء لا يقصدون بتأويل الكلام المتكلم معرفة مراده بل يقصدون بيان ما يحمله اللفظ كيف أمكن ليحمل عليه وإن

لم يعلم ولا يظن أنه أراده بل قد يعلم قطعاً أنه لم يرده ولهذا قالوا إذا اختلف الصحابة على قولين جاز لمن بعدهم إحداث تأويل ثالث بخلاف الأحكام فإنهم لا يجوزون إذا اختلفوا على قولين إحداث ثالث لأن اتفاق الأمة على قولين إجماع على فساد ما عداهما وهذا بعينه وارد في التأويل فإنه إذا قالت طائفة معنى الآية المراد كذا وقالت طائفة معناها كذا فمن قال معناها ليس واحدا منهما بل أمر ثالث فقد خالف إجماعهم وقال إن الطائفتين مخطئون فإن قيل هؤلاء لا يقولون أريد بل يقولون يجوز أن يكون المراد قيل كلام الصحابة لم يكن بالاحتمال والتجويز وبتقدير أن يكون كذلك فالاحتمالات إن كان أحدهما مراداً فلم يجمع على ضلال وإن كان المراد هو الاحتمال الثالث المحدث بعدهم فلم يكن فيهما من عرف مراد الله تعالى بل الطائفتان جوزت أن تريد غير ما أراد الله تعالى وما أراده لم يجوزه وهذا من أعظم الضلال وأما الخامس الذي جعل السبب الأقوى وهو

مخاطبتهم بالتخيل فهو قول الملاحدة كما قد بسط في مواضع إذ المقصود هنا أن ما احتج به المتكلمون النفاة على أن القرآن قد بين الحق وهدى الخلق وأنه ليس فيه ما لا يفهم وهو حجة عليهم فإنه على قولهم لا بين الحق ولا هدى الخلق ولا سيما تأويلاتهم لم تدل عليه ألبتة بل دل على نقيضها كما قد بين وبتقدير أن يقال دل عليها بطريق التأويل فالحق إنما عرف بالمعقول الذي ذكره لا معقول دل عليه القرآن وهذا هو الذي أوجب صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى خلافه عندهم فلم يكن في القرآن دلالة على هذا المعنى بل دل على نقيض الحق عندهم لكن قدمت دلالة العقل على دلالته وأولئك الذين قالوا إن فيه ما لا سبيل لأحد إلى فهمه بل هم أيضا منعوا دلالته على الحق وهدايته للخلق وزعموا أن الرسول لم يكن يعرف ما يقرؤه ويبلغه وعلى قولهم فأحاديث الصفات التي قالها كان يقولها وهو لا يدري

معنى ما يقول فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وعلى الوجه الخامس الأقوى كان يقول ذلك ليفهم منه معنى وهو يعلم أن ذلك المعنى باطل فقصد بالخلق أن يفهموا الباطل الذي هو نقيض الحق وأخبر بالحقائق على خلاف ما هي عليه وحقيقة ذلك أنه كذب كذباً يعلم أنه كذب ليعتقد الناس ذلك الكذب والاعتقاد الباطل فينتفعوا به وعلى قول المجهلة الذين يقولون لم يكن يعرف معنى ما يقول ويذكره من آيات الصفات وأحاديثها فكلامه عندهم يجب أن لا خير من خطابهم بذلك لأنه على التقديرين لم يفهمهم حقًّا ولا خاطبهم بما يعلم به حق ولكن إذا كان الكلام أعجميًّا لا يترجم لهم لم يضلوا به كما لم يهتدوا به وأما إذا كان عربيًّا وظاهره الباطل على زعم هؤلاء فإن الناس يفهمون ظاهره فيضلون به فلم يكتفوا به فهو على زعمهم من كونه هو لم يكن يفهم معناه فبخطاب الناس به فهموا منه ما هو كفر وضلال لاسيما ولم ينقل أحد عنه أنه نهى الناس عن اعتقاد

ظاهره وما دل عليه ولا نبههم على دليل عقلي يعرفون به الحق فعلى زعمهم لم يبين الحق لا بديل سمعي ولا بدليل عقلي ولوازم أقوال هؤلاء التي تبين بطلان قولهم كثيرة وكما أن قولهم يستلزم الكفر بالكتاب والرسول وما دل عليه من الأدلة العقلية وما أخبر به من الأدلة السمعية فهو أيضاً في غاية الفساد والبطلان من جهة العقل وهم أنفسهم معترفون في غير موضع بفساد أقوالهم النافية وتناقضها وقد ذكرنا من أقوال الرازي وغيره من ذلك ما تبين به ذلك فهم يشهدون أن عقلياتهم التي عارضوا بها الرسول باطلة والسلف والخلف يشهدون بأن الكلام الذي عارضوا به الكتاب والسنة باطل وأن هؤلاء لم يعرفوا الله وهي عند التأمل والنظر التام فيها تبيين بطلانها وأن القوم ليس عندهم على ما قالوه من النفي لا دليل عقلي ولا سمعي بل هم من جنس أعداء الرسل الذين قالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) [الملك 10] ومن جنس الذين قال فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج 46]

ومن جنس من قيل فيه أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) [الفرقان 44] وبسط هذا له موضع آخر ولكن المقصود هنا التنبيه على أن هذه الأدلة التي احتج بها المتكلمون أدلة صحيحة ولا ريب في صحتها وهي تدل على فساد قولهم وقل الآخرين من وجوه كثيرة

فصل: نقل المؤلف عن الرازي أدلة المخالفين للمتكلمين من القرآن والسنة والعقل

فصل قال الرازي واحتج مخالفوهم بالآية والخبر والمعقول أما الآية فمن وجهين الأول قوله تعالى في صفة المتشابهات وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] والوقف ههنا لازم وسيأتي دليله إن شاء الله تعالى والثاني الحروف المقطعة المذكورة في أوائل السور وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله

وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان منها ما نعرف وجه الحكمة فيه على الجملة بعقولنا كالصلاة والزكاة والصيام فإن الصلاة تواضع وتضرع للخالق والزكاة إحسان إلى المحتاجين والصوم قهر النفس ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كأفعال الحج فإنا لا نعرف وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الحكيم تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن بالنوع الثاني

لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرفه بعقله من وجه المصلحة فيه وأما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم فإنه لما لم يعرف فيه وجه المصلحة ألبتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم فإذا كان الأمر كذلك كان في الأفعال فلم لا يجوز أن الأمر كذلك في الأقوال وهو أن القرآن الذي أنزله الله تعالى علينا وأمرنا به وبتعظيمه وقراءته ينقسم إلى قسمين منه ما يعرف معناه

ونحيط بفحواه ومنه ما لا نعرف معناه ألبتة ويكون المقصود من إنزاله والتكليف بقراءته وتعظيمه ظهور كمال العبودية والانقياد لأوامر الله تعالى بل هاهنا فائدة أخرى وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط له سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود مع جزمه بأن المتكلم بذلك الكلام أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبداً ومتفكراً فيه أبداً ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يقال إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له فيتعبد الله تعالى بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة قال فهذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب

وبالله التوفيق قلت ذكر القولين ولم يرجح أحدهما ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك وكذلك لما ذكر بعد هذا تقرير قول من جزم بالتأويل فإنه هنا ذكر الخلاف في جواز ورود ما أمكن فهم معناه وهناك ذكر قول من أوجب وقوع ذلك وجزم بالتأويل وقد ذكر حجة كل قوم ولم يذكر لهم جواباً عن حجة الآخرين فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة عنده وأما في تفسيره فرجح المعنى في التأويل كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه وكما رجحه أبو حامد في آخر أقواله قال في تفسيره فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح هو المراد أبداً لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون ترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل

على تأويل وذلك الترجيح لا يكون إلا بالدلالة اللفظية وأنها ظنية كما بينا لاسيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر ومثل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال قال فلهذا التحقيق ذهبنا إلى أن بعد إقامة الدلالة العقلية على أن حمل اللفظ على ظاهره محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل قال فهذا منتهى ما جعلنا في هذا الباب قلت وسبب هذه الحيرة والتوقف أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين والذي حكاه عن السلف

قول باطل والقول الذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين كما سيأتي الكلام عليه وأما هنا فإنما ذكر النزاع في جواز اشتمال القرآن على ما لا يمكن علمه وقد بينا أن هذا يراد به اشتماله على لفظ لا يمكن أحداً معرفة معناه بل يكون كاللفظ العجمي عند العرب والصواب أن هذا لا يجوز ولا يعرف عن أحد من السلف تجويز هذا وإنما قال كثير منهم إن الوقف على قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ولكن لم يريدوا هذا المعنى كما سنذكره إن شاء الله تعالى ويراد به أنه لا يمكن بعض الناس فهمه وهذا موجود فما كل أحد يمكنه العلم بكل ما يمكن غيره العلم به لا من معاني القرآن ولا من الحديث ولا من الفقه ولا من العربية ولا الطب ولا الحساب ولا سائر علوم بني آدم ويراد به أن لبعضه تأويلاً يؤول إليه لا يعرف الحقيقة ذلك التأويل إلا الله عز وجل والصواب أنه كذلك ولم ينازع أحد من السلف في مثل ذلك أيضاً كما سنبينه في لفظ التأويل

وإذا كان كذلك فما ذكره من الوجوه تدل على المعنى الأول وأنه لابد لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكن فهمه ولكن أصحاب التأويلات الفاسدة والتفسيرات المحرفة يدّعون أن ذلك المعنى هو معنى الآية وهم في ذلك مخطئون وإذا كان كذلك فالجواب عما ذكره من حجتين من حجج من جوز ذلاك أن يقال أما قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فهذه الآية فيها قراءتان وقولان مشهوران ونحن نسلم قراءة من قرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عنى به المتكلم وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطِب إفهام المخاطَب إياه وهو سبحانه وتعالى لم يقل وما يعلم معناه إلا الله ولا قال وما يعلم تفسيره إلا الله ولا قال وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله ولا ما دل عليه إلا الله بل قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ولفظ التأويل له في القرآن معنى وفي عرف كثير من السلف وأهل

التفسير معنى وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى وبسبب تعدد الاصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراكٌ غلط بسببه كثير من الناس في فهم القرآن وغيره وهذه المعاني الثلاثة الموجودة في كلام الناس وقد يذكر بعضهم فيها معنيين ومنهم من يذكر الثلاثة مفرقة بل كثير من أهل التفسير يذكرون في أول تفسيرهم المعنيين ثم يذكرون المعنى الثالث في موضع آخر كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره

نقل المؤلف عن ابن الجوزي الخلاف في معنى التأويل والتفسير

فقال فصل اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى أم يختلفان فذهب قوم يميلون إلى العربية أنهما بمعنى قال

وهذا قول جمهور المفسرين من المتقدمين وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما فقالوا التفسير إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التجلي والتأويل نقل الكلام عن وضعه إلى ما لا يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ فهو مأخوذ من قولك آل الشيء إلى كذا أي صار إليه ثم قال في آية آل عمران قال وفي التأويل وجهان أحدهما أنه التفسير والثاني أنه العاقبة المنتظرة والراسخ الثابت فهل يعلم الراسخون تأويله أم لا فيه قولان أحدهما أنهم لا يعلمونه وأنهم آمنوا به وقد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ ويقول الراسخون في العلم آمنا به وإلى

هذا المعنى ذهب ابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس وعروة بن الزبير وقتادة وعمر بن عبد العزيز

والفراء وأبو عبيد وثعلب وابن الأنباري والجمهور قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله وفي قراءة أبيّ وابن عباس ويقول الراسخون قال وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها كقوله تعالى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي [الأعراف 187] وقوله تعالى

وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) [الفرقان 38] فنزل الله المجمل ليؤمن به المؤمن فيسعد به ويكفر به الكافر ليشقى قال الثاني أنهم يعلمون فهم داخلون في الاستثناء وقد روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أنا ممن يعلم تأويله وهذا قول مجاهد والربيع واختاره ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي

تعقيب المؤلف على ما نقله عن ابن الجوزي

قلت هذان القولان مرتبان على القولين في معنى التفسير فمن قال تأويله هو تفسيره فالراسخون يعلمون تفسيره ومن قال تأويله عاقبته المنتظرة فهذا لا يعلمه إلا الله ولم يذكر أبو الفرج في الآية القول الذي ذكره في أول كتابه وهو أن التأويل نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ قد أحسن حيث لم يذكر هذا المعنى في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فإن أحداً من السلف لم يذكر هذا المعنى في هذه الآية وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين ولكن السلف لهم قراءتان وقولان منهم من قال التأويل لا يعلمه إلا الله وهؤلاء لم يريدوا بذلك تفسيره بل فسروا القرآن كله كابن الأنباري والفراء وغيرهما وتكلموا على مشكله بل أرادوا ما استأثر الله بعلمه بما يؤول إليه والعلماء يعلمون تأويله وهو التفسير ولا منافاة بين القراءتين والقولين ولم يقل أحد من السلف إن المتشابه كله مصروف عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره وان ذلك المصروف إليه لا يعلمه إلا الله بل هذا باطل من وجوه كثيرة كما بسط في موضعه

نقل المؤلف عن البغوي الفرق بين التأويل والتفسير، وتعقيب المؤلف عليه

وكذلك كثير من المفسرين غير ابن الجوزي يذكرون في أول كتبهم الفرق بين التأويل والتفسير ثم يذكرون في الآية التأويل بمعنى لا يعلمه إلا الله كما ذكر ذلك الثعلبي والبغوي وغيرهما قالوا واللفظ للبغوي قال قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك في حق من قال من قبل نفسه شيئاً من غير علم فأما التأويل وهو صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لأهل العلم وأما التفسير وهو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها

فلا يجوز إلا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل واصل التفسير من التفسرة وهي الدليل من الماء الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض كذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصتها واشتقاق التأويل من الأول وهو الرجوع يقال أولته أي صرفته فانصرف وذكر من طريق إسحاق بن راهوية حدثنا جرير بن عبد الحميد

عن المغيرة عن واصل بن حبان عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع

وروي لكل حرف حد ولكل حد مطلع قال واختلفوا في تأويله قيل الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله وقيل الظهر ما حدث عن أقوام أنهم

عصوا فعوقبوا فهو في الظاهر خبر وفي الباطن عظة وتحذير أن يفعل أحد مثل ما فعلوا فيحل به ما حل بهم وقيل معنى الظهر والبطن التلاوة والفهم يقول لكل آية ظاهر وهو أن يقرأها كما أنزلت قال الله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) [المزمل 4] وباطن وهو التدبر والتفكر قال الله تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص 29] ثم التلاوة تكون بالعلم والحفظ والدرس والفهم يكون بصدق النية وتعظيم الحرمة وطيب الطعمة وقوله صلى الله عليه وسلم لكل حرف حد أراد حدت في التلاوة والتفسير لا يجاوز ففي التلاوة لا يجاوز المصحف

وفي التفسير لا يجاوز المسموع وقوله صلى الله عليه وسلم لكل حد مطلع أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ويقال المطلع الفهم وقد يفتح الله على المتدبر والمتفكر في التأويل والمعاني ما لا يفتحه على غيره وفوق كل ذي علم عليم فقد جعل هؤلاء الفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير يُعْلَمُ بالنقل والسماع والتأويل ما يفهم من الآية بالاستنباط منها بحيث يكون ذلك المعنى موافقاً لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة وما كان كذلك يجب أن يكون كظاهرها وهذا قول رابع في معنى التأويل وفي قول الله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] قالوا واللفظ للبغوي وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ تفسيره وعلمه دليله سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) [الكهف 78] وقيل ابتغاء عاقبته وطلب أخذ اجل هذه

الأمة من حساب الجمل دليل قوله تعالى ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبته قلت هذان القولان هما القولان اللذان ذكرهما ابن الجوزي فالتأويل بمعنى صرف الآية إلى خلاف ظاهرها لم يذكر أحد من هؤلاء المفسرين أنه مراد من قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وهو كما قالوا لم ينقل عن أحد من السلف وإنما فهمه بعض المتأخرين لأنه كان في اصطلاحهم لفظ التأويل يراد به هذا فظنوا أن هذا هو التأويل في لغة القرآن وهؤلاء يلزمهم أن لا يكون شيء من المتشابه أريد به ما هو

نص أو ظاهر فيه بل كله أريد به خلاف مادل عليه لفظه وهذا القول كما لم يذكره هؤلاء المفسرون ولا جمهور المفسرين فما رأيته منقولاً عن أحد من السلف الذين فسروا الآية بما نقل عن السلف لم يذكر هذا القول لأنه غير مأثور عنهم ولا هو موافق للغة القرآن ولا للغة العرب مطلقا ولا هو صحيح من جهة المعنى كما قد بسط في موضعه وأما ما ذكروه من أن التفسير مأخوذ من التفسرة وهو الماء الذي ينظر فيه الطبيب ليستدل به فمثل هذا قد يقوله بعض الناس يجعلون اللفظ المشهور من لفظ أخفى منه وهذا إذا أريد به التناسب فهو قريب وأما إذا أريد به أن ذلك هو الأصل لهذا فهو غلط بل الأمر بالعكس فإن لفظ الفسر والتفسير مشهور من كلامهم وهو البيان والإيضاح قال أهل اللغة واللفظ للجوهري الفسر البيان وقد فسرت الشيء أفسره بالكسر فسرا والتفسير مثله واستفسرته كذا أي سألته أن يفسره لي قال والفسر نظر الطبيب إلى الماء وكذلك التفسرة قال وأظنه

تعقيب المؤلف على الجوهري في معنى التفسير لغة

مولداً قلت وهذا اللفظ الذي جاء في القرآن في قوله تعالى وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) [الفرقان 33] قالوا أحسن بيانا وتفصيلا والتفسير البيان والكشف وهو تفعيل من الفسر وهو كشف ما غطي قوله تعالى وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) [الفرقان 33] فإن المطلوب من الكلام شيئان أن يكون حقًّا لا باطلاً فإن الباطل يمقت وإن زخرف وأن يكون الكلام مبرهناً مبيناً قد قام دليله وهو التفسير الذي يوضحه تصوراً وتصديقاً فبيّن المراد بالكلام وبين الدليل على صحته حتى تبين أنه حق ولا يحسن أن يقال هنا وأحسن تأويلا لأن هذا دل عليه قوله تعالى بالحق والتأويل يتعلق بالمعنى المدلول عليه وأما التفسير فإنه يتعلق بما يدل على المراد والذين نظروا في الاشتقاق الأوسط قالوا ومنه السفْر والأسفار وأسْفَرتِ المرأةُ عن وجهها وأسفروا بالفجر والسفر أيضا بياض النهار والسفرة الكتبة والسافر الكاتب والسِّفْر الكتاب لأنه يبين ويوضح ما فيه من الكلام ويدل عليه ومنه قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) [عبس 38-39] قالوا نيرة بادٍ ضوؤها وسرورها يعلو وَوُجُوهٌ

يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) [عبس 40] قيل غبار وقيل سواد قيل هو من العبوس والهم كما ترى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار والقترة قيل هو السواد قال الزجاج يعلوها سواد كالدخان وقيل القترة هي غبارٌ والغبرة الأولى هي العبوس وهذا قول أبي عبيدة قال القترة هي الغبار ومنه قوله تعالى تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) [عبس 41] ومنه قترة الجيش وعلى قول الزجاج وغيره أنه مأخوذ من الغبار وهو الدخان والقتار ريح الشواء وقد قتر اللحم إذا ارتفع قَتاره والقتار أيضا دخان العود وقترة الجيش شبيهة بهذا وهذا أصحُّ فإن القترة أبلغ من الغبرة قال تعالى وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ [يونس 26] قال الزجاج القترة الغبرة التي معها سواد وقال أبو عبيدة هو الغبار

والأول قول المفسرين فعن ابن عباس سواد الوجوه من الكآبة وعن عطاء دخان جهنم وعن مجاهد والمعنى الثاني للتأويل هو الذي جاء به القرآن في غير موضع كقوله تعالى وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف 52-53] فهذا تأويل منتظر يجيء وله وقت مستقبل لم يجئ بعد ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه قوله تعالى أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 65] فقال إنها كائنة ولم يأت

تأويلها بعد ورواه غير واحد وهو في جزء ابن عرفة المشهور رواه عنه ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا

إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ

أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 65] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنها كائنة ولم تأت بعد وعن العوفي عن ابن عباس تأويله تصديق ما وعدوا به في القرآن وعن السدي تأويله عواقبه مثل وقعة بدر وما وعد فيه من موعد وقال الربيع بن أنس لا يزال يجيء يوم الحساب

وقال قتادة هل ينظرون إلا تأويله أي عاقبته وعنه أيضاً تأويله ثوابه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه عن أصبغ ابن الفرج يوم يأتي تأويله قال تحقيقه وقرأ قوله تعالى هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف 100] قال هذا تحقيقها وقرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7]

وقال معاوية بن قرة تأويله الجزاء في الآخرة رواه ابن أبي حاتم وغيره ومنه قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 38-39] فلا عرفوا الخبر ولا المخبر به وإحاطتهم بعلمه هو معرفة معناه وتأويله هو ما أخبر بوقوعه من الوعد والوعيد في الدنيا والآخرة هذا أصح القولين وقيل لمَّا يأتهم علم تأويله قال أبو الفرج بن الجوزي في قوله تعالى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 39] قولان أحدهما تصديق ما وعدوا به من الوعيد والثاني لم يكن معهم علم بتأويله قاله

ترجيح المؤلف واختياره في معنى التفسير والتأويل

الزجاج قلت وكذلك قال طائفة منهم البغوي وهذا لفظه قال تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] يعني القرآن كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي عاقبة ما وعدهم الله تعالى أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة يريد أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم قلت الصواب هو القول الأول وهو أنه لم يأتهم نفس تأويله أي لم يأت بعد تأويله الذي أخبر به فيه لم يُرِد أنهم لم يعلموا تأويله فإن هذا المعنى هو الذي نفاه بما لم يحيطوا بعلمه ويدل على أنه قال وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وقال هناك لم يحيطوا ولمَّا يُنْفَى بها ما ينتظر وقوعه ويقرب وقوعه فدل على أن تأويله سيأتيهم كقوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 1] ولهذا قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) [يونس 39] لأن عاقبة هؤلاء إذا أتاهم تأويله مثل عاقبة أولئك ومنه قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ

[فصلت 53] وقوله تعالى بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] أي لم يحيطوا بعلم القرآن أي بما فيه من العلم ولا بالعالم وقيل ولم يحيطوا بعلم التكذيب به لأنهم كانوا في شك وهو ضعيف وقال تعالى في موضع أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا [النمل 84] أي لم يحط علمكم بها فإنما يجعل العلم محيطاً بالمعلوم وتارة يجعل العالم محيطاً بالعلم كقوله تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة 255] والعلم يضاف إلى العالم تارة وإلى المعلوم أخرى وهذا يؤيد أن قوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] أي لم يحيطوا بمعرفته فعلمهم لم يحط به والعلم الذي فيه هو من ذلك فلم يحيطوا بشيء من هذا العلم وهذه الآية توجب أن الإنسان لا يكذب إلا بخبر يعلم ويعرف أنه كذب والخبر المجهول يسكت عنه كقولهِ تعالى إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) [الحجرات 6] فلا يكذب به ولا يقفوه ويتبعه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما حدثنا أهل الكتاب

وقد قال تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء 59] وقال يعقوب ليوسف وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 6] وقال الفَتَيَان ليوسف نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) [يوسف 36] قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [يوسف 37] وقال الملأ للملك أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) [يوسف 44] وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) [يوسف 45] وقال يوسف يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف 100] إلى قوله رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 101]

فلفظ التأويل في جميع موارده ما يؤول إليه الشيء وهو عاقبته وتأويل الكلام ما يؤول إليه والكلام إما أمر وإما نهي وإما خبر فتأويل الخبر هو نفيس الشيء المخبر به وتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به والإنسان قد يعلم تفسير الكلام ومعناه ولا يعلم تأويله فإن التأويل يفتقر إلى معرفة ماهيته الموجودة في الخارج والتمييز بينها وبين غيرها وليس كمن فَهِمَ الكلامَ وتفسيرَه عَلِمَ ذلك كالذي يعرف أسماء أمكنة الحج وأفعاله وقد قرأ القرآن والحديث وكلام العلماء في ذلك لكنه لم يعرف عين البيت وعين الصفا والمروة وعين عرفة والمشعر الحرام ونحو ذلك مما لا يعرفه الإنسان إلا بالمشاهدة ولكن قد يعرف بالعلم ولهذا قال أبو عبيدة لما ذكر تنازع الفقهاء وبعض أهل اللغة في اشتمال الصماء قال والفقهاء أعلم بالتأويل

وهذا هو التفسير الذي يعلمه العلماء وهو أخص من التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها وذلك أن أهل العلم بتأويل الأمر والنهي والحلال والحرام مثل الذي يعرف عين المأمور به والمنهي عنه والمحرم ولهذا يفتون ويحكمون في الأمور المعينة مثل الذي يعرف أن هذه الجهة جهة الكعبة وأن هذا اللباس مما يجوز أو لا يجوز لبسه وأن هذا المكان هو الميقات الذي يحرم منه كما يعرف الطبيب أعيان الأمراض والأدوية وبمنزلة الأرض المحدودة والشخص المسمى ونحوهما فالشهود قد يشهدون على قول المقر وعلى شاهد آخر وهم إنما يشهدون بما يعلمون ولكن لا يعرفون عين المسمى الموصوف والذين يعرفون مسميات تلك الحدود يعرفون نفس الأرض المحدودة ونفس الشخص الذي اسمه فلان بن فلان والشاهد إذا عاين المشهود عليه وشخصه فهذا بمنزلة التأويل بخلاف ما إذا شهد على مسمى موصوف ولم يعينه فإنه وإن كان كلامه مفهوماً لكن لم يدل على العين ويجوز أن يسمي غير المشهود عليه بذلك الاسم ولهذا أكثر الناس يعرف من تفسير القرآن ما يعرف ويعرف معنى الإيلاء والظهار والمتعة والخلع ونحو ذلك بل ويعرف أقوال العلماء فيها ولا يقدم على التعيين خوف الغلط

بالمعرفة بمطابقة ما في الخارج كذلك الكلام هو معرفة بالتأويل وهو أخص من التفسير وكثير من الفقهاء يعرف تأويل الآية والحديث غير المراد وإن لم يمكنه بيان دلالة اللفظ ولا يعرف عين المراد ومثل هذا موجود في الطب وغيره من العلوم وإذا تبين هذا فالقرآن وكل كلام إما خبر وإما إنشاء كالطلب فما أخبر به فتأويله نفس المخبر به والله تعالى قد أخبر عن نفسه بما ذكر من أسمائه وصفاته فتأويل ذلك هو الرب نفسه تعالى وتقدس بصفاته وهو سبحانه لا يعلم ما هو إلا هو لهذا كان السلف كربيعة ومالك وابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهم يذكرون أنه مصروف

معاني الأسماء والصفات وإن لم يعلم كيفيته كقول ربيعة ومالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وفي كلام بعضهم يا من لا يعلم كيف هو إلا هو ونحو ذلك وهذا مذهب السلف والجمهور أن للرب سبحانه وتعالى حقيقة لا يعلمها البشر وفد يسمونها ماهية ومائية

وكيفية ولهذا قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ولا يتفكرون في ماهية ذاته وقال الشيخ أبو علي بن أبي موسى والشيخ أبو الفرج الشيرازي المقدسي وغيرهما لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال وطائفة من المتكلمين يدعون أنهم عرفوه حق المعرفة وليس له حقيقة وراء ما عرفوه كما يقول ذلك كثير من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم وهؤلاء يقولون ليس له حقيقة ولا ماهية ولا كيفية وراء ما عرفوه وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع وذكر النزاع بين ضرار بن عمرو وغيره وما قال

في ذلك القاضي أبو بكر وغيره والمقصود هنا معرفة مسمى التأويل في القرآن واللغة التي نزل بها القرآن وإذا عرف ذلك فإذا قيل التأويل لا يعلمه إلا الله بمعنى أن ما وعد به من الثواب والعقاب لا يعلم قدره ولا صفته إلا هو ولا يعلم وقته إلا هو فهذا حق قال تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 17] وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

وإذا قال عن صفات الرب كالاستواء وغيره كما قال ربيعة ومالك وغيرهما إن الاستواء معلوم والكيف مجهول لنا غير مجهول له وهو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله بخلاف معنى الاستواء فإن هذا معلوم وهو من تفسير اللفظ والسلف تكلموا في معنى الاستواء الذي قال ربيعة ومالك وغيرهما أنه معلوم وقد ذكرت ألفاظهم في غير هذا الموضع وقد قال بعضهم مذهب السلف أو إجماعهم منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية كما ذكر أبو الفرج الجوزي في تفسيره فقال قال الخليل بن

أحمد العرش السرير وكل سرير للملك يسمى عرشاً قال واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام قال أمية بن أبي الصلت مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا س وسوَّى فوق السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العيـ ـن يرى دونه الملائك صورا

وقال كعب إن السموات في العرش كقنديل معلق بين السماء والأرض قال وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية وقد شذّ قوم فقالوا العرش بمعنى المُلْك وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود 7] أتراه كان الملك على الماء وقال بعضهم استوى بمعنى استولى واستدل بقول الشاعر قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق

قال وهذا منكر عند أهل اللغة قال ابن الأعرابي لا نعلم استوى بمعنى استولى ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية قال وإنما يقول استولى فلان على كذا إذا كان بعيداً منه غير متمكن منه ثم تمكن والله عز وجل لم يزل مستوليا على الأشياء وهذا البيت لا يعرف قائله كذا قال

ابن فارس اللغوي ولو صح فلا حجة فيه لما بينا مِن استيلاء من لم يكن مستوليا فنعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة وقائل هذا القول إن إجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية إن أراد به أنهم لا ينفون ما دلت عليه وما ذكر فيها بتأويلات النفاة مثل قولهم العرش والملك أو استوى بمعنى استولى ونحو ذلك فهم ينكرونه فهذا صحيح وإن أراد أن السلف لم يكونوا يعلمون معنى الاستواء ولا فسروه فهذا باطل خلاف المنقول المتواتر عنهم مثل قول ربيعة ومالك لما قيل لهم الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)

[طه 5] كيف استوى فقال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة وذكر البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد لما ذكر الاستواء قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع فسوى خلقهن وقال مجاهد استوى على العرش علا على العرش وهذا مما رواه أهل التفسير فروى ابن أبي حاتم وغيره بالإسناد المعروف عن أبي العالية في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] قال ارتفع قال

وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله وفي قوله تعالى فَسَوَّاهُنَّ [البقرة 29] قال سوى خلقهن وأعاد ذلك في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وروي عن قتادة أنه قال استوى على العرش في اليوم السابع قال وروي عن محمد بن إسحاق مثل ذلك قلت وكذلك رواه الشافعي في مسنده في فضل يوم

الجمعة أنه اليوم الذي استوى الله فيه على العرش وقال البغوي في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف ثم ارتفع إلى السماء وقال البغوي أيضاً في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] قال الكلبي ومقاتل استقر وقال أبو عبيدة صعد

وذكر غيره عن الخليل بن أحمد مثل قول أبي عبيدة أنه بمعنى صعد وارتفع وذكر شاهده من كلام العرب وذكروا عن ابن عباس أنه قال استوى استقر وكذلك قال ابن قتيبة وغيره وقد زعم بعضهم أن معنى قولهم الاستواء معلوم أن مجيء لفظ الاستواء في القرآن معلوم وهذا باطل فإن كونه في القرآن أمر ظاهر يعرفه جميع الناس لا يسأل عنه ولكن السائل لما قال كيف استوى سأل عن الكيفية فبينوا له أن الكيفية لا نعلمها نحن ولكن نعلم معنى الاستواء فدل على ثبوت كيفية في نفس الأمر غير معلومة لنا وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما ولو قدّر أن الكيفية منتفية فلا تنُفى الكيفية عن معدوم فلو لم يكن أن ثمّ استواء ثابت في نفس الأمر لم يجز نفي الكيفية عنه ولو كان المراد الاستيلاء ونحوه لم يحتج أن يقال في ذلك والكيف مجهول أو معلوم وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان لفظ التأويل وأن معناه في القرآن وكلام من يتكلم بلغة القرآن غير معناه عند الذين اصطلحوا على

أن جعلوه اسما للمعنى المرجوح في اللفظ ولم يجعلوا معناه المنصوص الظاهر داخلاً في مسمى التأويل فقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ هو تأويل ما أخبر به هذا التأويل لا يخالف ظاهر اللفظ ولا نصه بل تأويل مطابق لظاهر اللفظ الذي أخبر الله تعالى به فخبر الله عز وجل عما وعد به وأوعد به دل ظاهره على معنى وتأويل الكلام ذلك المعنى الموجود في الخارج وإذا قيل الراسخون في العلم يعلمون تأويله فمعناه أنهم يفهمون ما أخبر به عن التأويل ويتصورون معنى الكلام وهو معرفة تفسيره فهم يفهمون الخبر عن التأويل ويعلمون حقيقة التأويل وإن لم يعلموا كيفيته وكميته ووقته وقد يعلمون بعض ذلك دون بعض كما تعلم الملائكة من حيث الجملة ثم نقول وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر 31] فهو معلوم من وجه دون وجه فإذا قيل يعلمون التأويل فهم يعلمون ما دلهم عليه الخطاب وما أفهمهم إياه كما قال مالك الاستواء معلوم وأما ما وراء ذلك فهو من التأويل الذي لا يعلمونه كمثل كيفية الاستواء التي قال فيها والكيف مجهول ومما يبين معنى التأويل في كلام الصحابة الذين يتكلمون

بلغة القرآن حديث ابن مسعود رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] قال كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس حتى ثار كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر فقال آخر إلى جنبه عليك نفسك فإن الله تعالى

يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] قال فسمعها ابن مسعود فقال مه لم يحن تأويل هذه الآية بعد إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه ما وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من أمر الساعة ومنه آي يقع تأويلهن عند الحساب على ما ذكر من أمر الحساب والجنة والنار فما رأيت قلوبكم واحدة وأهواءكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية وروي من حديث عبد الله بن مغفل عن

مكحول أن رجلاً سأله عن قول الله تعالى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال إن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت وعن كعب قال إذا هديت فأدى ذلك للغضب فحينئذ تأويل هذه الآية وهذه الآية من آيات الأمر والنهي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم

يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فقوله تعالى لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] فمن الاهتداء القيام بما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا قال الصدّيق أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها وإنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده

فالصديق أنكر على من ظن أنها تسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن ذلك واجب بحسب الاستطاعة قال أبو عبيد خاف الصديق رضي الله عنه أن يتأول الناس الآية على غير تأويلها فتدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأعلمهم أنها ليست كذلك وابن مسعود وأولئك بينوا أن في زمانهم يمكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان لاجتماع القلوب ووجود الأعوان على ذلك وأنه عند التفرق والاختلاف وعجز الإنسان عن الإنكار باليد واللسان والمقصود أنهم سموا نفس المراد بالآية تأويلاً لها بل الإمساك عما يعجز عنه من الإنكار فإنه من تأويل قوله صلى الله عليه وسلم عليك نفسك ولا يضرك من ضل إذا اهتديت وأما تفسيرها وفهم معناها فقد كان موجوداً في زمانهم وهذا التأويل لا يعجز

عنه أحد ولا يسقط عن أحد ويتبعه الإنكار بالقلب وهو أضعف الإيمان بخلاف ذلك وما قاله ابن مسعود قد جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الخشني قال أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمراً لابد منه فعليك نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن فهو كقبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وروي خمسين منكم أي مثل ذلك العمل إذا عمل به في زمان

الصحابة لأن العمال كثيرة وكان متيسراً فإذا عمل به في ذلك الزمان ضوعف أجر عمله

وأما مجموع عمل السابقين فلا يقدر أحد على فعله كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو أنفق لأحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه وإذا عرف معنى لفظ التأويل ظهر فساد احتجاج هؤلاء بقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فإن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ليس هو أن لا يفهم أحد شيئاً من اللفظ بل يفهمونه وإن كان تأويله لا يعلمه إلا الله وعامة السلف الذين كانوا يَفْصِلون الآية ويقفون عند قوله تعالى إِلَّا اللَّهُ فسروا التأويل بغير ما يفهم من لفظ

الآية ومنهم غير واحد يقول إنهم يعلمون تأويله بمعنى آخر كما تقدم عن مجاهد والضحاك وقال السدي وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ عواقبه يجيء الناسخ منه فينسخ المنسوخ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ قال تحقيقه وعن عباد بن منصور سألت الحسن عن قوله

تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فقال تأويله القضاء به يوم القيامة وقد تقدمت رواية الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله

وعن محمد بن إسحاق مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فيهن حجة الرب تعالى وعصمة العباد ودفع الخصومة والباطل ليس بهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قال لم يفصّل فيهن القول كما فصله في المحكمات يتشابه في عقول الرجال ويتخالها التأويل فابتلاء الله تعالى فيها العباد كابتلائهم في الحلال والحرام وفي رواية عنه قال متشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران 7] أي ما تحرف منه ومتصرف ابتغاء الفتنة إلى اللبس وابتغاء تأويله وما تأولوا وزينوا من الضلالة ليجيء لهم الذي في أيديهم من البدعة ليكون لهم به حجة على من

خالفهم للتصريف والتحريف الذي ابتلوا به بمثل الأهواء وزيغ القلوب والتنكيب عن الحق الذي أحدثوا من البدعة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي ما يعلم ما صرفوا وتأولوا إلا الله الذي يعلم سرائر العباد وأعمالهم وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قال لم يكن معرفتهم إياه أن يفقهوه على الشك ولكنهم خلصت الأعمال منهم ونفذ علمهم أن عرفوا الله بعدله لم يكن ليختلف شيء مما جاء به فردوا المتشابه على المحكم وقالوا كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فكيف يكون فيه اختلاف وإنما جاء يصدق بعضه بعضا وفي الرواية الأخرى قال ثم ردوا تأويل المتشابه

على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويلا واحدا فاتسق بقولهم الكتاب وصدّق بعضه بعضاً فنفذت به الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر يقول الله تعالى وَمَا يَذَّكَّرُ أي في مثل هذا إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ فهو في رواية ابن إدريس عنه لما قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ

إِلَّا اللَّهُ فسر التأويل مما تأولوه من الباطل فيه وفي رواية سلمة عنه جعل الراسخين في العلم يعلمون من تأويل المتشابه وأنهم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكم الذي لا تأويل لأحد فيه إلا تأويلاً واحدا فابن إسحاق ذكر مثل قول ابن عباس والضحاك وغيرهم الذين يقولون بالقراءتين يقولون له تأويل لا يعلمه إلا الله وتأويل يعلمه الراسخون وكذلك عامة أهل العربية الذين قالوا وما يعلم تأويله إلا الله كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن

الأنباري هم يتكلمون في متشابه القرآن كله وفي تفسير معناه ليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها فيجب أن يكون التأويل الذي اختص الله به عندهم غير ما تكلموا فيه من تفسير الآيات المتشابهة وقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] قد يقال فيه إن المنفي هو عموم السلب لا سلب العموم أي ما يعلم جميع التأويل إلا الله وأما بعضه فيعلمه الراسخون كما قال ابن عباس وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب فقول الجمهور هو القراءة الصحيحة وهو أنه لا يعلم غير الله جميع التأويل كقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر 31] أي مجموعهم وإلا فكثير من الناس يعلم بعض جمود ربنا

وبكل حال تفسير معناه ليس داخلاً في التأويل الذي اختص الله به سواء سُمّي تأويلاً أو لم يسم وأما احتجاجهم بالحروف المقطعة فعنه أجوبة أحدها أن هذه ليست كلاماً منظوماً فلا يدخل في مسمى الآيات وعامة الناس أهل مكة والمدينة والبصرة لا يعدون ذلك آية ولكنِ الكوفيون يعدونها آية وبكل حال فهي أسماء حروف يُنْطقُ بها غير معربة مثل ما ينطق بألف با تا وبأسماء العدد واحد اثنان ثلاثة والذي يتبين به المعنى بعد العقد والتركيب بتقدير أن لا يكون لهذه معنى يفهم ولا يلزم أن لا يكون للكلام المؤلف المنظوم الذي هو جملة اسمية أو فعلية معنى يفهم ولكن على هذا التقدير يكون قد أنزلت هذه الحروف بحكم آخر غير الخطاب الجواب الثاني أن السلف قد تكلموا في معانيها وكلامهم في ذلك كثير مشهور عن ابن عباس وغيره وبسطه هنا فتارة يقولون كل حرف يدل على اسم من أسماء الله تعالى

وتارة يجعلون كل حرف من لفظ والمجموع جملة كما روى أبو الضحى عن ابن عباس الم إني أنا الله أعلم وتارة يجعلون اسم الله من عدة حروف كقول من قال الر وحم ون هو اسم الرحمن ومنهم من قال تدل على أسمائه وصفاته مثل آلائه ونعمائه ومنهم من قال هي أسماء القرآن

ومنهم من قال فواتح يُفْتَتحُ بها القرآن ومنهم من يجعلها تدل على ذلك كله كما رواه الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الحروف الثلاثة من التسعة والعشرين أحرف دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم وقال عيسى ابن مريم وعجب فقال وأعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح اسم الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله فالألف ستة واللام ثلاثون والميم أربعون

وعن مقاتل بن حيان في قوله تعالى وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قال يعني فيما بلغنا الم والمص والمر والر فهؤلاء الأربع المتشابهات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود يتبعون ما تشابه منه ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قال ابتغاء ما يكون وكم يكون قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كم يكون إِلَّا اللَّهُ الجواب الثالث أن يقال نحن نسلم أن كثيراً من الناس

أو أكثرهم لا يعرفون معنى كثير من القرآن فإذا قيل إن أكثر الناس لا يعرفون معنى حروف الهجاء التي في أوائل السور فهذا صحيح لا نزاع فيه وإن قيل إن أحداً من الناس لا يعرف ذلك وأن الرسول نفسه لم يكن يعرف ذلك فمن أين لهم هذا فهذا النفي لابد به من دليل

فصل: جواب المؤلف عن استدلال الرازي بالخبر

فصل وأما الحديث الذي احتجوا به وهو قوله صلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله فإذا أمكروا لم ينكره إلا أهل الغرة بالله فهذا حجة عليهم إن كان صحيحاً فإن هذا ليس له إسناد تقوم به الحجة بل قد رواه أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه الفاروق بإسناد فيه من

لا يعرف وأبو إسماعيل هو وشيخه يحيى بن عمار وغيرهم يحملون ذلك على أحاديث الصفات الدالة على إثبات الصفات

لله تعالى وأبو حامد يحمل ذلك على ما يذكره في الكتب المضنون بها ونحو ذلك من أقوال الباطنية الملاحدة لكنه رجع عن ذلك في آخر عمره فهذا الحديث إن لم يكن صحيحاً فلا حجة فيه وإن كان صحيحا بتقدير صحته ففيه أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله فهذا يدل على أن من الناس من يعلم هذا العلم ليس مما استأثر الله به ولكن بعض الناس ينكره فإن كان تأويل المتشابه من هذا كما ادعوه فقد ثبت أن العلماء بالله يعلمون تأويل المتشابه وبطل قولهم وإن لم يكن منه بطلت حجتهم فعللا التقديرين بطل استدلالهم بهذا الحديث ولا ريب أن من العلم ما لا تقبله عقول كثيرة كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله

وقد ذكره البخاري في صحيحه وترجمه باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا وذكر حديث معاذ بن جبل لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله ألا أخبر الناس قال إذاً يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً وأما ما ذكره من قياس الأقوال على الأفعال وأن فيها ما هو بعيد

لا يعقل معناه فجوابه من وجوه أحدها أن الأعمال المأمور بها ينتفع بها العامل ويحصل بها المقصود وإن لم يعرف حكمها وأما الأقوال التي يخاطب بها الناس فإن لم يكن معرفة معناها لم ينتفع بها الناس الثاني أنه يجوز أمر الناس بأعمال ينتفعون بها وإن لم يعرفوا حكمتها كما يأمر المؤدب والوالد والطبيب وأما مخاطبة الناس بكلام لا سبيل لهم إلى فهمه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء وقوله إن الطاعة فيما لم تعرف حكمته أتم ممنوع بل ما عرفت حكمته التي يحبها الله تعالى لأجل تلك الحكمة التي يحبها الله تعالى فهذا أتم لأن الذي ذكروه متوجه فيما إذا كانت الحكمة غرضا دنيويًّا مثل حفظ الأموال

والأنفس وقهر العدو ونحو ذلك فهنا قد لا يفعله إلا لذلك الغرض الدنيوي وهذا مذموم ولكن الحكمة المتعلقة بالخالق وأنه يحب الفعل ويرضاه يعرفها أهل العلم والإيمان وأما القدرية المجبرة والنافية فلا يعرفونها كما قد بسط في موضعه ومعلوم أنه إذا صلى وسجد لما في السجود من الخضوع لله والتقرب إليه لم يكن رمي الجمار أفضل من هذا وكذلك إذا تصدق ليحسن إلى الخلق ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يريد منهم جزاء ولا شكورا وأما قوله إن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب فهذا ممنوع ولكن هذا يختلف باختلاف المعاني فإن كان ذلك المعنى مما لا يعظمه القلب سقط وقعه عن القلب وإن كان المعنى مما يعظمه القلب كان تعظيمه للكلام إذا فهم معناه بحسب عظم ذلك المعنى ولهذا كل من كان للقرآن أفهم

ولمعانيه أعرف كان أشد تعظيماً له من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل كتاب سيبويه في النحو إذا فهمه الإنسان كان لسيبويه في قلبه من الحرمة ما لم يكن قبل ذلك والله تعالى قد أمر العباد بتدبر القرآن والتفكير فيه وتفهمه فكيف يقال إنهم إذا فعلوا ذلك سقط وقعه عن قلوبهم مع أن الأمر بخلاف ذلك وكلما تصور العبد ما في القرآن من الخبر عن الله تعالى وملائكته وأنبيائه وأعدائه وثوابه وعقابه حصل لهم من التعظيم والمحبة والخشية ما لا يعلمه إلا الله قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال 2] أفترى الإيمان يزداد بمجرد لفظ لا يفقه معناه وإذا فقه معناه لا يزداد الإيمان بذلك وقال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت 44] فلو كان الهدى والشفاء يحصل بمجرد اللفظ الذي لا يفقه معناه لحصل به إذا كان أعجميا بطريق الأولى بل الهدى

والشفاء إذا فهم معناه أتم وأكمل بلا ريب وقد قال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) [محمد 16] فذم الذين لا يعلمون ما قال ووصف الآخرين بأنهم أوتوا العلم وقد قال تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر 9] وأما قوله إنه إذا لم يقف على المقصود مع معرفته بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبدا ومتفكرا فيه أبدا يقال هذا صحيح إذا كان يرجو فهمه وكان فهمه ممكنا عنده أما إذا جزم بأن أحداً من الخلق لا يفهمه صار ذلك مأيوسا منه فر يلتفت قلبه إلى ما يطمع فيه ولا يتفكر فيه بل تبقى همته مصروفة إلى لفظ دون معناه واللفظ تابع

للمعنى فإذا لم يكن ثم معنى يطلب يبقى مجرد لفظ فأفضى به إلى ما يفسد القلب من التشدق والتفيهق وقسوة القلب وغفلته عن الله قوله ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يقال إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة كبيرة عظيمة له فيقال هذا إنما يكون فيما إذا كان فهمه ممكناً أما إذا جزم العبد بأنه لا سبيل لأحد إلى فهمه فلا يلتفت ذهنه إلى المعنى ولا يشتغل به خاطره ولا يشتغل سره بذكر الله تعالى والتفكير في كلامه من هذه الجهة وإنما يتفكر في كلامه إذا رجا فَهْمه أو فَهِمه وطلب زيادة الفَهْم فأما الكلام الذي يجزم بأنه لا يفهمه أحد فلا يتفكر فيه واشتغال السر بذكر الله تعالى هو بحسب معرفة العبد فإذا كان باب المعرفة مسدودا لم يشتغل السر إلا باللفظ المجرد والقلب لا يزكو بذلك ولا يصلح به ولا يعبد الله ويحبه بمجرد لفظ لا يعرف أحد معناه ولهذا يوجد الذين قد يئسوا من معرفة المعنى قد أعرضوا بقلوبهم عن ذلك لا يذكرونه ولا يتفكرون فيه كإعراض

الإنسان عما يجده مكتوباً بغير الخط الذي يعرفه فإنه لما لم يعرف المكتوب فإنه يجعل الورق غلافاً لغيره ووقاية له كما يفعل الناس في الرقوق التي لا يدرون ما كتب فيها وقد يكون فيها من الكلام ما لو عرفوه لم يفعلوا به ذلك كالكتب المعربة وعدم فهم اللفظ كعدم فهم الخط كلاهما يسقط حرمة الكلام من القلب بخلاف ما إذا كان فهمه ممكنا فإنه إذا اعتقد عظمته تعلقت همته بطلب فهمه واشتغل بذكر ربه والتفكر في كلامه فانتفع بذلك ولهذا يفكر الإنسان فيما أشكل عليه فتكون فكرته فيه سبباً لجمع همته وإقباله على الله تعالى وعلى عبادته واشتغاله بذلك عما تهواه الأنفس ومن الأهواء الرديئة ثم إذا فهم بعض الحق وجد فيه حلاوة وذلك يدعوه إلى طلب الباقي قال تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) [محمد 24] وقال كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) [ص 29] وقال تعالى أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) [الرعد 19] فإن كون الكلام حقًّا أو باطلاً هو

فصل: نقل المؤلف عن الرازي قوله: القرآن محكم ومتشابه، وتعقيبه عليه

متعلق بمعانيه لا بألفاظه الدالة على معانيه فأما اللفظ الذي لا يعرف له معنى فلا يقال فيه حق ولا باطل فصل قال الرازي الفصل الثاني في وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه اعلم أن كتاب الله دل على أنه بكليته محكم ودل على أنه بكليته متشابه ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه أما الذي يدل على أنه بكليته محكم فقوله تعالى الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود 1] وقوله الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس 1] فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه حقًّا في ألفاظه وكونه حقا في معانيه فكل كلام سوى القرآن فالقرآن أفضل منه في لفظه ومعناه وأن أحداً من

الخلق لا يقدر أن يأتي بكلام يساوي القرآن في لفظه ومعناه والعرب تقول في البناء الوثيق والعهد الوثيق الذي لا يمكن حله إنه محكم فهذا معنى وصف كل القرآن بأنه محكم وأما الذي يدل على أنه كله متشابه فهو قوله تعالى كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر 23] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والفصاحة ويصدق بعضه بعضاً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء 82] أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ولتفاوت نسق الكلام في الجزالة والفصاحة وأما الذي يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه فهو قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7]

قلت هذا الذي ذكر من أن القرآن كله محكم وأنه كله متشابه قد ذكره عامة العلماء والقرآن دل على ذلك كما ذكره وقالوا في قوله تعالى مُتَشَابِهًا ما ذكره أنه متشابه في المعاني والألفاظ قال كثير من المفسرين كالثعلبي والبغوي مثل ما قال متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً وقال أبو الفرج بن الجوزي في المتشابه قولان أحدهما أشبه بعضه بعضاً في الآي والحروف فالآية تشبه الآية والكلمة تشبه الكلمة والحرف يشبه الحرف والثاني أن بعضه يصدق بعضا فليس فيه اختلاف ولا تناقض وتفسير المتشابه بأنه يصدق بعضه بعضاً

معروف عن عامة العلماء وأما القول الأول فهو مأثور عن قتادة قال الآية تشبه الآية والحروف تشبه الحروف ولفظ الحرف في اللغة يراد به الاسم لقوله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف فلعل قتادة أراد الآية المنظومة والاسم المفرد يشبه بعضه بعضا في اللفظ والمعنى كما قال غيره فالتشابه في المعنى ينفي التضاد والتناقض المعبر عنه

بالاختلاف في قوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء 82] وذلك في الأوامر والنواهي والأخبار فيأمر بالشيء الحسن وما يماثله وينهي عن الشيء السيئ وعما يماثله لا يتناقض فيحكم بين المثلين بحكمين مختلفين وكذلك المدح والذم يمدح الشيء وما يماثله ويذم الشيء ويذم ما يماثله وكذلك في الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وكلام المخلوقين لا يخلو عن نوع من التناقض والاختلاف والتشابه في الألفاظ تناسبها وائتلافها واعتدالها وأنه كله كذلك بخلاف كلام المخلوقين فإنه يكون بعضه على طريقة في الحسن وباقيه يخالف ذلك فلا يكون آخره كأوله وهذا كالبناء والخياطة إذا كان متناسبا يشبه بعضه بعضاً فهو بخلاف ما يكون بعضه لا يشاكل بعضا وأما المثاني فهو جمع مثنى والتثنية يراد بها التقسيم

فقد فسر المثاني بأنه الذي يستوفى فيه الأقسام فيذكر فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام والحلال والحرام لا يذكر أحد القسمين دون الآخر فهو يستوفى الأقسام كما أن المتشابه هو الأمثال وفسر بأنه هو الذي يكون فيه القصص والحجج والأمر والنهي لما في ذلك من الحكمة والبيان ولأن في كل موضع من المعاني النافعة مثلا ليس في الموضع الآخر بمنزلة الشيء الواحد الذي له أسماء متعددة وكل اسم يدل على صفة ومن ذلك أسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء كتابه فتثنية الخبر والأمر بألفاظ يختص كل لفظ بمعنى بمنزلة تثنية الأسماء للمسمى الواحد الذي يختص كل اسم بمعنى وهذا يتضمن الإخبار بصفات الأشياء وإن كان الموصوف واحداً فهو تثنية وتكرير باعتبار الذات لا اعتبار الصفات وروى ابن أبي حاتم بإسناد معروف عن سعيد بن جبير

عن ابن عباس في قوله تعالى مَثَانِيَ يفسر بعضه بعضاً ويرد بعضه على بعض وعن الحسن قال ثنى الله فيه القضاء تكون السورة فيها آية وفي الأخرى آية تشبهها وكذلك قال عكرمة ثنى الله فيها القضاء وعن الضحاك قال ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى فابن عباس جعل المثاني من جنس المتشابه وهي النظائر

فصل: نقل المؤلف عن الرازي تفسير المحكم في اللغة، والتعقيب عليه

التي يفسر بعضها بعضاً وعلى القول الآخر تكون المثاني هي الوجوه وهي الأنواع كالوعد والوعيد والأمر والنهي فصل قال الرازي ولابد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ثم من تفسيرها في عرف الشريعة أما المحكم في اللغة فالعرب تقول حكمت وأحكمت وحكّمت بمعنى رددت ومنعت والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحَكْمَة اللجام تمنع الفرس عن الاضطراب وفي حديث النخعي أحكم اليتيم كما تحكم

ولدك أي امنعه من الفساد وقوله أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم وبناء محكم أي وثيق يمنع من يعترض له وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع الموصوف بها عما

لا ينبغي قلت هذا الذي قاله قد قاله جماعة كما قيل مثل ذلك في الحد أن معناه المنع وقد يقال الحكم هو الفصل بين الشيئين بالحق وكذلك الحد هو الفصل بين الشيئين والمنع جزء مسماه فالمنع بعض معنى الفصل فإن الفصل بين الشيئين يتضمن منع كل منها من الآخر وإلا فليس كل من منع غيره من شيء قيل إنه أحكمه حتى يكون منعاً بحق وحتى يكون ممنوعاً من شيء دون شيء والحكم هو الفاصل ويقال يوم الفصل وحكم فيصل واحكم بيننا ولا يقال امنع بيننا والحكمة هي الفصل بين الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب علماً وعملاً ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء 39] وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي السنة لأنها بينت ما يؤمر به وما ينهى عنه

نقل المؤلف عن الرازي تفسيره المتشابه في اللغة، والتعقيب عليه

قال وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال تعالى إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة 70] وقال تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] ومنه اشتبه الأمران إذا لم يفرق بينهما ويقال لأصحاب المخاريق أصحاب الشبهات وقال صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات وفي رواية مشتبهات قال فهذا

تحقيق الكلام في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة يقال هما مشتبهان وإن كان كثير من الناس يميز بينهما لكن قد يكون بعض الناس غير مميز بخلاف لفظ التماثل فإنه أخص من لفظ التشابه قال تعالى وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام 141] وفي الآية الأخرى مثلها مشتبهاً وغير متشابه قيل بعضه متشابه وبعضه غير متشابه وقيل بل هو مشتبه في المنظر واللون وهو غير متشابه في الطعم ومعلوم أن كما تشابه ورقه ومنظره كما يشبه ورق الزيتون ورق الرمان فالناس يميزون بينهما وكذلك إذا قيل بعضه متشابه كما تشبه الشجرة الشجرة أو ورقها ورقها أو ثمرها ثمرها

وقد تكون مع التمييز بينهما إلا إذا صارا متماثلين مثل حبتي الحنطة فهذا لا تمييز بينهما وهو سبحانه وتعالى قال في القرآن إنه متشابه أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن والصدق فالتمييز حاصل مع ذلك وكذلك قوله تعالى وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة 25] والعرب تقول من أشبه أباه ما ظلم والتمييز حاصل بينه

وبين أبيه وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالولد للفراش وصاحب الفراش زمعة أبو سودة بنت زمعة أم المؤمنين قال

النبي صلى الله عليه وسلم واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه البين بعتبة وعتبة هذا هو ابن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنه فهذا شبه بيّن مع أنهم كانوا يفرقون بين هذا وبين عتبة ابن أبي وقاص وهو الذي ادعاه من فجور قال لأخيه سعد بن أبي وقاص انظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني فاختصم فيه سعد وعبد بن

زمعة صحاب الفراش سيد الأمة الذي كان يطؤها وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى رضي الله عنهما في القضاء اعرف الأشباه والنظائر وفسر الأمور برأيك فهو يعلم أن هذا يشبه هذا مع تمييزه

بينها ويقال هذا أشبه بهذا من هذا فكل منهما يشبهه وأحدهما أشبه مع التمييز بين الثلاثة وقوله تعالى كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] مع حصول التمييز بينها وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال فهذا تشبيه مع

وجود الفرق والتميز ومثل هذا كثير لكن قد يحصل الاشتباه على بعض الناس بحيث لا يميز بينهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فهذا دليل على أن بعض الناس يعلمها ويميز منها الحلال من الحرام وإن كان غيره لا يمكنه ذلك فالمشتبهات قد يعلم الفروق بينها بعض الناس دون بعض وهذا الموضع ينبغي تحقيقه فإنه سبحانه وتعالى قد وصف القرآن كله بأنه محكم في عدة آيات كقوله تعالى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود 1] وقوله تعالى الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس 1] وقوله تعالى الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) [لقمان 1-2] وقوله تعالى ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) [آل عمران 58] كما وصفه بأنه بيان وبأنه مبين في مثل قوله تعالى رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق 11] ووصفه بأنه مبين في قوله تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) [النمل 1] وقوله تعالى تِلْكَ

آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر 1] ووصفه بأنه جعله عربيًّا ليعقلوه ووصفه بأنه بصائر وبيان وهدى للناس ونحو ذلك مما تقدم ذكره وهذا يعم جميع القرآن فعلم أن الآيات التي قيل فيها وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7] هي أيضاً محكمات مبينات وهي بيان وهدى وبصائر لكن اختصت بتشابه لم يكن في المحكمات وكذلك اختصت المحكمات بأحكام أخر غير الأحكام المشتركة وأما المتشابه فإما أن يراد به أنها في نفسها متصفة بالتشابه بحيث هي متشابهة في نفس الأمر وعلى كل أحد إما أن يقال تشابهت على بعض الناس فالتشابه أمر إضافي وإذا أريد هذا المعنى الثاني فكل كلام في الوجود قد يشتبه على بعض الناس لنقص علمهم ومعرفتهم لا لنقص في نفس الكلام الذي هو في نفسه متشابه ومما يوضح هذا أن كل من لم يكن له خبرة بكلام شخص أو طائفة بما يريدونه من تلك الألفاظ إذا سمعها تشتبه عليه ولا يميز بين المراد منها وغيره بل قد يظن المراد غير

أمثلة من الآيات المحكمات التي تشتبه على كثير من الجهال وأهل الإلحاد

المراد مثل من يسمع كلام أهل المقالات والصناعات قبل أن يخبر مرادهم ومن هذا الباب أن كثيراً من الجهال وأهل الإلحاد يشتبه عليهم ما هو من الآيات المحكمات وإن كان بعض الملحدين يعرف أنه يكذب وكثير منهم التبس عليه الأمر وظن صدق ما قالوه مثل قول من يفسر مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) [الرحمن 19] بعلي وفاطمة واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين لأن اسم البحر يراد به العالم وهذا

اسم الحسن فكأن دمعه كاللؤلؤ والحسين

قيل كأن دمعه كالمرجان وفسر قوله تعالى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) [يس 12] بأنه علي لأنه إمام معصوم مبين للعلوم واعرف بعض طلبة العلم قرأ قوله تعالى وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) [الزخرف 31] وظن أنهما المكان الذي يسمى بالقريتين من أرض الشام وبعض الناس فسر ذات العماد بدمشق لما فيها من العمد ومعلوم أن هذا باطل فإن هادًا لم يكونوا بالشام بل باليمن وهودًا إنما أرسل إليهم فقد قال تعالى بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) [الفجر 6-7] قد نقلوا هذا في كتب التفسير عن عكرمة وابن المسيب وعن

القرطبي أنها الإسكندرية فإنها كثيرة العمد أيضا فهذا قد اشتبه على طائفة من العلماء مع أنه من الآيات المحكمات فإنه تعالى قال أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) [الفجر 6-7] وقد ذكر الله تعالى عاداً في موضع آخر وأنه أرسل إليهم هوداً وانه أنذر قومه بالأحقاف أحقاف الرمل وهذا كله مما علم بالتواتر أنه كان باليمن وقد صار مثل هذا يجعل أحد الأقوال في تفسير الآية مع أن الذين قالوه من علماء السلف قد يكونون أرادوا التمثيل وان دمشق والإسكندرية ذات عماد ليعرف معنى ذات العماد وإلا فلا يخفى على أدنى طلبة العلم أن عاداً كانوا باليمن وهذا كما روي عن حفصة في قوله تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [النحل 112] أنها

المدينة وهي جعلت المعنى موجوداً فيها وكذلك قالت طائفة من العلماء في قوله تعالى كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد 43] وقوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف 10] ونحو ذلك أنه عبد الله بن سلام أو هو ونحوه ممن أسلم بالمدينة وهذا مما أحكمه الله فإن هذه الآية نزلت بمكة قبل أن يعرف ابن سلام فضلاً عن أن يسلم ولأنه قال على مثله وأراد شهادة أهل الكتاب على مثل

القرآن وهو شهادتهم بما تواتر عنهم من أن الرسل كانوا رجالاً وأنهم دعوا إلى التوحيد وأخبروا بالمعاد فإن المشركين كانوا ينازعون في هذا وهذا وأهل الكتاب ينقلون بالتواتر عن الرسل المتقدمين ما يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم ويكذب المشركين وهذا غير الشهادة المختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد ظن طائفة أن العرش هو الملك مع أن الله تعالى قد أحكم ذلك وبين العرش وأنه مغاير للسموات والأرض في غير موضع كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود 7] وقوله قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) [المؤمنون 86] بعد قوله تعالى قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا [المؤمنون 84] وقوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر 7] وقوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] ووصف العرش بأنه عظيم وأنه كريم وأنه مجيد إلى أمثال ذلك من الدلائل المبينة للمراد وأنه ليس هو الملك

وطائفة اشتبه عليها ففسروا الكرسي بالعلم مع أن هذا لا يعرف في اللغة البتة والله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علما فلا يختص علمه بالسموات والأرض والمقصود بيان عظمة الرب سبحانه وهو بكل شيء عليم ويعلم ما كان وما يكون فليس في تخصيص علمه بالسموات والأرض مدح ولا لهذا نظير في القرآن فالرب لا يذكر اختصاص علمه بذلك قط وهذا وإن كان من رواية جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فالثابت عن ابن عباس من رواية الثوري عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير خلاف هذا

وقال الكرسي موضع القدمين وتنازع الناس في الكرسي هل هو العرش أو دون العرش

الاشتباه الإضافي ليس له ضابط

أقرب من هذا فإن هذا له اتساع في اللغة وأما تسمية العلم كرسيّا فهذا لا يعرف في اللغة ولكن بعضهم تكلف له من قولهم كراس والكرَّاس غير الكرسي فإن قُدِّر أن يسمى الكرسي كرّاساً فهو الكتاب فيكون التقدير وسع كتابه السموات والأرض وهذا أبعد من لفظ العلم فإن كتابه ما فرط فيه من شيء وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) [يس 12] والاشتباه الإضافي ليس له ضابط أصلاً فهو من جنس الاعتقادات الفاسدة والخواطر البالية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله وقال الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق كذا فيقول الله حتى يقول من خلق

أمثلة للاعتقادات الفاسدة في التأويل

الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله وحده أو قال فليستعذ بالله وينته في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا الله خلق كل شيء فمن خلق الله قال أبو هريرة قد سألني اثنان وهذا الثالث وكذلك اشتباه معنى الكلام فقد ذهبت الملاحدة الإسماعيلية ونحوهم إلى تأويل الصلاة والصيام والحج

بأن الصلاة معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج هو السفر إلى شيوخهم المقدسين وهذا وإن كان بعضهم يعلم أنه متعمد للكذب في ذلك فكثير من عوامهم راج ذبك عليهم وظنوه حقًّا وانه من العلوم الباطنة المكتومة التي لا يعرفها إلا الخواص وان هذا من المحكم ومعلوم أن قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 97] وقوله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة 158] هو البيت الذي بمكة وان الحج هو الحج المعروف وكذلك الصيام قد بين أنه صوم شهر رمضان وشهر رمضان هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وصيامه الصيام المعروف وعند طائفة كبيرة من النصيرية أن رمضان اسم لعدد من شيوخهم وهم يعتقدون ذلك وطائفة ظنت قوله تعالى وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) [الطور 44] هو شخص من الغلاة زعم أنه

ينزل من السماء وآخرون ظنوا أن قوله تعالى وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل 82] أن الدابة اسم لعالم ينطق بالحكمة وادعى ذلك غير واحد وطائفة ظنوا أن موسى والسحرة صدّقوا فرعون في قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) [النازعات 24] وأن موسى رضي بعبادة العجل وأقرهم على ذلك وأنكر على هارون كونه أنكر عليهم وقالوا إن قوله تعالى مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا

نَارًا [نوح 25] أن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وأن أهل النار لا يتألمون في النار بل العذاب مشتق من العذوبة فيجدونه عذباً وإن عاداً لما جاءتهم الريح التي فيها العذاب أحسنوا ظنهم فكان فيها روحهم وفيها ما يستعذبونه وأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) [البقرة 6] المراد به خواص أولياء الله الذين أسروا علم الحقيقة فسواء عليهم أأنذرتهم بالشريعة أم لم تنذرهم لا يؤمنون بها لأنهم قد عرفوا الحقيقة فلم يقبلوا ما يخالفها وهذه التفاسير وأعظم منها موجودة في كتبٍ يُعظَّمُ مصنفوها ويُجعلون أفضل من الأنبياء ويجعلون معرفة هذه التأويلات للقرآن هي من خواص علم أولياء الله تعالى ومعلوم أن الآيات التي اشتبهت عليهم قد أحكمها الله غاية الإحكام وبين مراده الذي عرفه الخاص والعام قال تعالى فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج 46] وقال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ

وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) [الجاثية 23] وقال وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام 111] وكذلك طائفة تأولت الشمس والقمر والكواكب بأن المراد بها ما بيّنه بعض الفلاسفة من العقل والنفس وطائفة تأولت جبريل بأنه خيال يكون في نفس النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الله تعالى يقول إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) ثم قال وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) [التكوير 19-23] فأخبر أنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وقال إن الرسول رآه بالأفق المبين وقال في الآية الأخرى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)

[النجم 5-9] إلى قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 13-18] فهذا الخبر فيه من الإحكام والإتقان والبيان الذي يمنع أن يكون جبريل في باطن النبي ما يطول وصفه وهذا ظن كثير من الفلاسفة ومن دخل معهم ممن يدعي التحقيق والمكاشفة من الصوفية ويدعي أنه أعلم من الأنبياء ومن هؤلاء من يظن أن فرعون مات على الإيمان وأنه لا يعذب في الآخرة ومنهم من يقول إن غرقه كان ليغتسل غسل الإسلام ويحتجون بقوله تعالى فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود 98] قالوا فأوردهم وما دخل وهذه الآية اشتبهت على هؤلاء وعلى غيرهم حتى إنه لما ذهبنا إلى مصر وكان في شيوخهم من يقول هذا وصار لهم جاه سأل بعض ولاة الأمر لمن هو قاضي القضاة عن ذلك فقال ما في القرآن ما يدل على أنه كافراً

ومعلوم أن دخول فرعون النار معلوم بالاضطرار من دين المسلمين واليهود والنصارى والقرآن مملوء من الدلالات على ذلك نحوٍ من أربعين موضعا يبين عذابه في الدنيا والآخرة وأيضاً قوله فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود 98] يدل على ذلك وأيضا فإنه قال يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ [هود 98] وإذا كان هو قادمهم فما دخلوا حتى دخل قبلهم ولو قُدّر أن هذه الآية لم تدل فقد دل غيرها ومما اشتبه عليهم أنه قال أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ [غافر 46] قالوا وفرعون ليس هو من آل فرعون وهذا الاشتباه من جهلهم بلسان العرب لا من عدم إحكام آيات الله تعالى بل قد أحكمها وقول القائل آل فلان يتناول نفسه ومن يؤول إليه كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) [آل عمران 33] وقوله تعالى فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) [الحجر 61-62] وقوله تعالى إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) [القمر 34-35] وقوله

تعالى إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ [الحجر 58-60] فلوط نفسه داخل في آل لوط وكذلك قول المصلي اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وهذا اللفظ في الصحيحين وهو أصح من غيره

وقوله صلى الله عليه وسلم للحسن إن الصدقة لا تحل لآل محمد وقول عبد الله بن أبي أوفى كان القوم إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بصدقتهم دعا لهم وإن أبي أتله بصدقته فقال اللهم صلِّ على

آل أبي أوفى وذلك أن الآل ما يؤول إلى الشخص ولا يضاف هذا الاسم إلا إلى معظم يكون آيلاً وسائسا لغيره

وأول من يؤول إلى الشخص هو نفسه وقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال 41] ومعلوم أن الغنيمة ما أخذ من الكفار بالقتال ومكاسب المسلمين بالتجارة والصناعة لا تسمى غنيمة ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه يأخذون خمس مكاسب المسلمين وقد ظن بعضهم أنها غنيمة وخمسها وخص بالخمس طائفة معينة وهذا باب واسع وإذا عرف أن الاشتباه الإضافي قد يحصل لبعض الناس فالكلام وإن كان في غاية البيان والإحكام كان كل آية وإن كانت محكمة مبينة قد تشتبه على بعض الناس وعلى هذا فيكون قوله تعالى مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7] أن الآيات المحكمات لا تشتبه على أولئك بل هي أصل الكتاب الذي عرفوه بل اشتباه وأخر متشابهات عليهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند وغيره إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتهم به فكلوه إلى عالمه

فما علم الإنسان كان عليه أن يتبعه ويأتم به فهو في حقه إمام يأتم به وما جهل منه كالذي يشتبه عليه ولا يعرف معناه فإنه يكله إلى عالمه كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال أيها الناس من علم علماً فليقل به ومن لم يعلمه فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم وإن الله تعالى قال لنبيه قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) [ص 86] وهذا

التشابه لا ينفي تشابه بعض الآيات في أنفسها فلفظ إنّا ونحن فيه اشتباه لكن ذاك التشابه مقرون بالإحكام فإن الله تعالى قد أحكم ذلك وبينه قلم يكن كرر لفظاً مما يشبه لفظاً مع اختلاف تعيينهما إلا وقد بين مراده وأحكمه بحيث صار بيناً محكماً مع ما فيه من الاشتباه وذلك الاشتباه لا يمنع كونه مبيناً محكماً وإن كان الراسخون في العلم يعلمون معناه وتفسيره دون غيرهم وهذا هو التشابه المعين وأما التشابه المطلق فهذا عارض لبعض الناس لنقص

فهمهم وعلمهم والذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ولو كانوا أصحاء لابتغوا ما تبين لهم ولم يكن فيه اشتباه فعلموا به وما اشتبه عليهم إن أمكنهم أن يردوه إلى المبين لهم وإلا قالوا الله تعالى أعلم وهذا معنى قولهم يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه فإن الآيات الخبرية تتضمن عملاً محبة لله وخوفاً منه وتوكلا عليه ورجاء رحمته وخوفاً من عذابه واعتباراً بما مضى وغير ذلك من أنواع العمل وكلا النوعين التشابه العارض لبعض الناس والمعين لا يتصور أن يخلو منهما خطاب ولو كان في غاية البيان والفصاحة فلا خطاب أبين وأفصح من القرآن ولكن هذا من ضرورة نقص بني آدم فإنه ليس كل أحد يمكنه فهم كل كلام بل سبحان من يسر القرآن للذكر كما يسره للحفظ فيسر حفظه وفهمه أعظم مما يقع في نظائره وإلا فالكتابان المتقدمان التوراة والإنجيل لا يحفظان ولا يفهمان عشر عشر حفظ القرآن وفهمه وما صنفته الناس من العلوم أقل حفظاً وفهما من الكتب المنزلة فإن العناية بها أعظم وحرمتها في القلوب أعظم

وبهذا يحصل الجواب عن قول من قال لِمَ نُزِّلَ المتشابه وهذا التشابه الناشئ من نقص المستمع ونقص فهمه وعلمه وبه يحصل الجواب على ما ذكره الرازي من تقسيم المحكم والمتشابه فإنه ذكر أن كل طائفة تجعل ما تذهب إليه محكماً وما يذهب إليه مخالفوها متشابهاً ثم جعل هو المتشابه ما خالف الدليل العقلي والمحكم ما لم يخالف الدليل العقلي فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي لا صفة في الخطاب وكونه في نفسه قد أحكم وبُيِّن وفُصِّل مع أن المعارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جُوّز وقوعه في الجملة لا يخرجه عن كونه متشابهاً ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العلميات فلم يبق على قوله لهذه الآية مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران 7] معنى بحيث يرد التشابه إليها ولكن المردود إليه هو العقلي فما وافقه أو لم يخالفه فهو

المحكم وما خالفه فهو المتشابه وهذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب على رأي الملاحدة الذين يقولون إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق فخاطبهم بالتجسيم مع علمه أنه باطل وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد وقالوا خاطبهم أيضا بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر

فصل: نقل المؤلف عن الرازي تفسير المحكم والمتشابه، وتعقيبه عليه

فصل قال الرازي وأما في عرف العلماء فاعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير المحكم والمتشابه وكتب من تقدمنا مشتملة عليهما والذي عندي فيه أن اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى إما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى أو لا يكون فإن كان موضوعاً لمعنى ولم يكن محتملاً لغيره فهو النص وإن كان محتملاً لغيره ذلك المعنى فإما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر وإما أن لا يكون بل يكون احتماله لهما على السوية فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على احتماله للآخر كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً

فخرج من هذا التقسيم أن اللفظ إما أن يكون نصًّا أو ظاهراً أو مجملاً أو مؤولاً فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من النقيض والظاهر راجح غير مانع من النقيض فهذا القدر هو المسمى بالمحكم وأما المجمل والمؤول فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ غير راجحة إلا أن المجمل لا رجحان فيه بالنسبة إلى الطرف الآخر والقدر المشترك وهو عدم الرجحان بالنسبة إليه هو المسمى بالمتشابه لأن عدم الفهم حاصل فيه هذا الكلام عليه استدراكات كثيرة أحدها أنه مناقض لما فسّر به المحكم والمتشابه عقيب هذا الفصل فإنه ذكر في الفصل الذي بعده أن المتشابه

ما عارضه الدليل العقلي القاطع وما لم يعارضه دليل قاطع عقلي فهو المحكم وقال لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح إلا عند قيام الدليل القاطع أن ظاهره محال ممتنع وإذا كان كذلك فما عارضه الدليل العقلي وجب تأويله وإن قيل هو نص أو ظاهر لاسيما وهو يقول الأدلة اللفظية ليس فيها قاطع فلا نص عنده ويكون عنده متشابهاً من القسم المؤول وما لم يعارضه عقلي فهو محكم يكون إما نصًّا وإما ظاهراً وحينئذ فالمجمل الذي يحتمل المعنيين على السواء هو لا يدل على أحدهما بعينه فلا يتصور أن يعارضه العقل فيكون محكماً وقد جعله هنا من المتشابه والاحتمال المرجوح إن لم يوافقه العقلي القاطع لم يجز حمل اللفظ عليه وإن خالف أدلة سمعية أقوى منه مع كونه مرجوحاً والظاهر بضد ما ذكره هناك لا نص ولا مجمل بل إما ظاهراً وإما مؤولاً وهذا يناقض تقسيمه إلى

الأربعة الثاني أن تفسيره المحكم بالنص والظاهر والمتشابه بالمجمل والمؤول معروف م قول طائفة من أهل العلم وقد ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وأنه قال المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان والمتشابه ما احتاج إلى بيان فليس تفسيره بذلك مما اختص به لكن هو يتناقض بخلاف أولئك الثالث أنه جعل مورد التقسيم اللفظ الموضوع لمعنى إما أن يحتمل غيره أو لا يحتمل ومعلوم أن اللفظ قد يكون محتملاً في الوضع مثل أن لفظاً مشتركاً مختصًّا كلفظ سهيل والثريا إذا أريد بهما الكوكبان والزوجان من قول الشاعر

أيها المنكح الثريا سهيلاً فإن سهيلاً كثيراً ما يسمى به الرجل والثريا تسمى به المرأة وكذلك من أسماء الأعلام كلاب ومرة وكعب ولؤي وأمثال ذلك من الأعلام المنقولة وهذه مشتركة بين ما سميت به وبين ما نقلت منه وهو اشتراك لاختلاف الوضع ومثل هذا الاشتراك لا ينكره عاقل مع احتماله في الوضع

فالمستعمل له إما مستعملاً بقرينة لفظية تبين المراد مثل قولنا سهيل بن عمرو وكلاب بن مرة فإن هذا الرجل لا يحتمل الكوكب ولا الكلاب جمع كلب وقوله الثريا كواكب صغار وسهيل هو الكوكب الذي يطلع في الشمال قريباً من القطب الجنوبي نص في الكوكب لا يحتمل إلا معنى واحداً وكذلك سائر الألفاظ فيجب الفرق بين الاحتمال في نفس الوضع وبين الاحتمال في نفس استعمال المتكلم ودلالة المخاطب على المعنى المراد وفهم المخاطب واستدلاله على المراد وحكمه إياه على المراد والمقصود من

الكلام هو الدلالة في الاستعمال وإذا قدر وضع متقدم فهو وسيلة إلى ذلك وتقدمة له وحينئذ فاللفظ لا يكون غير نص ولا ظاهر لكونه في الوضع محتملاً لمعنيين وهو في الاستعمال نص في أحدهما فتبين أن ما ذكره من الأسماء والأحكام مما ذكره في الأقسام ليس كما ذكره فإنه جعل كل ما كان موضوعاً لمعنى محتمل بغيره ليس بنص والموضوع لمعنيين على سبيل البدل وهو المشترك بنص مع أنه في عامة الكلام يكون نصًّا في المراد لا يحتمل غيره كقوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 110] وقوله تعالى إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام 38] وقوله تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ [الرعد 30] وقوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة 134] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم وأمثال هذه الكلمات فيها لفظ الأمة نص في

الصنف من الناس أو من الدواب وإن كان لفظ الأمة يراد به الملة والقدوة الذي يؤتم به ويعلم الخير

في مثل قوله تعالى وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون 52] وقوله تعالى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل 120] فاللفظ في الوضع يحتمل أكثر من

معنى واحد ولكن لما ذكر في الكلام المؤلف كان اقترانه بما ذكر معه يوجب أن يكون نصًّا لا يحتمل إلا معنى واحداً وكذلك لفظ الإمام في مثل قوله تعالى وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) [الحجر 74-79] وهذا نص في أن الإمام المبين هو الطريق الواضح كما قال جمهور أهل العلم قال ابن قتيبة قيل للطريق إمام لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده وقد قال ابن الأنباري وإنما أي لوطاً وشعيباً لبطريق من الحق يؤتم به وقيل وإنهما لفي كتاب مبين وهذان القولان وإن كان كل شيء على طريق مستقيم وكل شيء أحصاه الله عز وجل في الإمام المبين وهو اللوح

المحفوظ لكن هذان القولان في تفسير هذه الآية إما مرجوحان وإما باطلان وبكل حال فاللفظ لا يحتمل الإمام من الناس بخلاف قوله تعالى لإبراهيم إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة 124] وقوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء 73] ونحو ذلك فإنه نص في ذلك لا يحتمل غيره ومثل هذا كثير يكون اللفظ إذ جرد محتملاً لمعان فإذا أكد ونطق به مع غيره يعين بعض تلك المعاني فلم يحتمل غيره فهذا نص وإن كان موضوعاً لمعنى الوجه الرابع أن يقال الكلام إما أن يدل بمجرده وهو الذي تسميه حقيقة وإما أن لا يدل إلا مع القرينة وهو المسمى المجاز وهذا لا يكون المتكلم به مريداً لمعناه إلا مع القرينة وحينئذ فاللفظ في الحال الأول لا يحتمل إلا الحقيقة وفي الثانية لا يحتمل إلا المجاز فما بقي لفظ مستعمل يحتمل معنيين في نفس الأمر الوجه الخامس قوله إن اللفظ إذا احتمل معنيين كان بالنسبة إلى كل منهما مجملاً وبالنسبة إليهما مشتركاً وحصر

الألفاظ في النص والظاهر والمجمل والمؤول فيقال له المجمل قد لا يكون مشتركاً بين معنيين بل يكون عديم الدلالة على أحدهما لقوله تعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام 141] وقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة 103] وقوله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج 77] وقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) [الحج 29] وقوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة 196] فإن لفظ السجود ليس مشتركاً بين واحدة وبين ثنتين وثلاث وأربع ولا لفظ الطواف مشتركاً بين أعداد معينة ولا لفظ الفدية مشتركاً في الصيام بين أيام معينة بل هذه الألفاظ لا تدل بمجردها على شيء معين من المقادير فهي مجملة فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم إن السجود سجدتان والطواف سبع والفدية من الصيام صيام ثلاثة أيام ونحو ذلك كان هذا تفسيراً لمجمل القرآن باتفاق العقلاء مع أن المجمل ليس بمشترك الوجه السادس قوله إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر وإما أن لا يكون بل هو يحتملهما على السوية

فيقال له هذا التساوي والترجيح متى يكون إما أن يكون في الوضع وإما أن يكون في الاستعمال فأما كونه في الوضع فلو كان حقًّا لم يقترن به شيء إذ المقصود دلالة اللفظ على المعنى وهذا إنما يكون باستعماله فيه لا بمجرد وضع متقدم فكيف وتقدير وضع غير الاستعمال مما لم يقم عليه دليل وأيضاً فالوضع لكل منهما إما أن يكون مع التجريد وإما أن يكون مع التقييد والأول ممتنع إلا من واضعين وحينئذ فالمخاطب إن كان قد عرف منه أنه لا يتكلم إلا بوضعه الذي هو لغته وعادته فإنه لا يحتمل إلا ذلك المعنى وإن كان يتكلم بهذا تارة وبهذا تارة صار من القسم الثاني وهو أنه لا يكون موضعاً لأحدهم إلا مع التقييد المعين له ومع التقييد لا يدل على غيره فلم يبق للفظ المستعمل حال

يحتمل فيها معنيين على السواء الوجه السابع أن احتمال المعنيين إما أن يكون بالنسبة إلى عناية المتكلم وإرادته وإما أن يكون بالنسبة إلى فهم المستمع وتصوره والأول باطل فإن المتكلم الذي عنى باللفظ معنى لا يكون ذلك المعنى وغيره بالنسبة إليه سواء بل ولا يحتمل اللفظ بالنسبة إليه إلا ما عناه وأراده به لا يحتمل غير ذلك وإن كان بالنسبة إلى المستمع فهذا قد يكون لقصوره وعجزه ونقصه عن فهم اللفظ وأما إن اقترن به ما يدل على مراد المتكلم فلا يكون كلام المتكلم يحتمل معنيين لا على التساوي ولا على الترجيح وإذا كان كذلك فهذا ممكن بل واقع في جميع الألفاظ وكل خطاب قد يكون المستمع لنقصه لم يفهم المراد بل هو وغيره محتمل على السواء أو أحدهما راجحاً وعلى هذا فبقي كونه نصًّا

وظاهراً ومجملاً ومؤولاً بالنسبة إلى شخص دون شخص فمن عرف المراد جازماً به لا يحتمل غيره عنده فهو عنده نص ومن ظهر له معنى وجوَّز غيره فهو عنده ظاهر ومن كان هو وغيره عنده سواء في الاحتمال فهو مجمل عنده ومن كان المراد عنده هو الاحتمال المرجوح فهو عنده مؤول فهذه تقسيمات بالنسبة إلى فهم المستمعين ليس تقسيمات للفظ بالنسبة إلى عناية المتكلم ولا دلالة المستمع وعلى هذا فكل كلام عنى به صاحبه معنى صحيحاً ودل عليه فهو محكم وإن كان متشابهاً عند من لم يعرف دلالته ولا يكون هذا التقسيم صفة لازمة للكلام بل يجب أن يكون بعضه لا يكون إلا محكماً وبعضه لا يكون إلا متشابهاً الوجه الثامن أنه إذا كان المتشابه هو المجمل والمشترك وكلاهما لا يفهم منه المراد ولا يدل عليه لم يكن واحد منهما بياناً ولا هدى ولا مبيناً ولا يعلم أنه المراد وقد

تقدم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى وبيان ومبين ونحو ذلك من الأسماء فدل على أنه ليس فيه هذا الذي جعله متشابهاً وهو المجمل والمشترك والمؤول بخلاف المجمل الذي يدل على جنس الحكم دون قدره أو وصفه فإن ذلك دل على ما أريد به فهو هدى وبيان له ولكن ثم أمور أخرى لم يدل عليها وليس كل لفظ يدل على كل شيء بخلاف المشترك الذي لا يدل على المراد فإنه لا يحصل به هدى وبيان وما ذكر يدل على أنه ليس في القرآن لفظ يحتمل معنيين على السواء لم يبين المراد به ولا لفظ يحتمل المراد به احتمالا مرجوحاً ولم يبين المراد به بل لابد أن يقترن به ما يبين المراد فيصير المراد هو الذي يدل عليه اللفظ مع تلك القرينة ولا يكون حينئذ مرجوحاً بل ظاهراً أو مقطوعاً به

فإن قيل القرينة هي الدليل العقلي الدال على امتناع إرادة المعنى الباطل قيل أولاً هذا لا يدل على معنى اللفظ المراد به وإنما دل إن دل على امتناع إرادة معنى آخر والدلالة على نفي غير المراد ليست هي الدلالة على المراد فقد يعلم بأدلة عقلية وسمعية انه لم يرد معنيين وإن لم يعلم مراده واللفظ الذي تكلم به لابد أن يدل على المراد إما بمجرده وإما مع القرينة فإن لم يدل لم يكن من الكلام المستعمل إذ لابد من مغنى أريد به وحينئذ فإذا كان المجمل والمتشابه كلاهما لا يدل على المراد ولا يفهم منه لم يكونا من أقسام الكلام ولاسيما ولهم قولان أحدهما أن معنى المتشابه غير معلوم فلا يكون اللفظ قد دل على المراد والثاني أنه يحتمل أموراً متعددة ولا يجزم بواحد منها والمراد على هذا التقدير غير معلوم فدل على أنه لم يدل القرآن على مراد الرب سبحانه وتعالى لا بنفسه ولا مع قرينة وهذا القول من جنس قول من يقول لا معنى له أو له معنى لا يمكن العلم به وقد عرف فساد هذا وهو من جنس أقوال الملحدين

لا المؤمنين الموحدين وهؤلاء وإن قالوا إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله فهم عند أنفسهم ليسوا من الراسخين في العلم لا يعلمون المراد ولا يجزمون به بل إما أن لا يعلموه ولا يظنوه وإما أن يظنوه أحد معانٍ متعددة وليس ذلك علماً به ولا ظنًّا بعينه وغايتهم أن يعينوا معنى يظنونه ويرجحونه أو لا يعرفون غيره وهذا ظن ليس بعلم فعلى كل تقدير لم يعلموا تأويله فلم يكونوا من الراسخين وكيف يكونون من الراسخين والراسخ الثابت يقال رسخ رسوخاً إذا ثبت وهذه صفة من يثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وهؤلاء أهل شك وريب واضطراب

لا أصحاب رسوخ وثبات ويقين بل قد يدعون اليقين بنقيض وليس عندهم فيه إلا الشك والحيرة أعظم من حيرتهم في معاني القرآن كما صرحوا بذلك وكما هو مبسوط في موضعه الوجه التاسع أنه إذا كان المجمل والمؤول كل منهما لم يدل على المراد ولم يفهم منه المراد بل هما مشتركان في عدم الفهم للقدر المشترك وهو هذا العدم تشابها فيقال له لا تشابه هنا إلا التشابه الإضافي وهو كون المستمع اشتبه الأمر عليه فلم يعرف المراد لا أن هنا لفظين تشابها وإنما يكون اللفظان المتشابهان إذا كان اللفظ يستعمل تارة في معنى وتارة في معنى آخر وإن كان مع القرينة فهذا تشابه فيكون القدر المشترك هو أن اللفظ يستعمل في المراد وفي غير المراد الذي لم يظهر منه المراد ليس القدر المشترك عدم الرجحان وهو المسمى بالمتشابه بل التشابه أمر ثبوتي وهو كون كل منهما يستعمل في المراد وفي غير المراد فقد اشتبه

دلالته على المراد بدلالته على غير المراد لا أن هذا العدم هو الاشتباه وقد قيل أو قاله في موضع آخر إن ذلك يسمى متشابهاً إما بأن الذي لا يعلم يكون النفي عنده مشابهاً للإثبات في الذهن وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم فأطلق لفظ التشابه على ما لم يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فيقال النفي لا يشتبه بالإثبات إلا لاشتباه دليل هذا بدليل هذا وإذا عدم دليل كل منهما حصل في النفس شك والاشتباه أخص من الشك فليس كل من شك يكون هناك ما اشتبه عليه وإنما يكون الاشتباه إذا وجد ما بينهما تشابه وكذلك عدم العلم لا يسمى عدم كل علم تشابهاً ومن لم يتصور المسألة ولم يعرفها هو جاهل بها ولا يقال اشتبه عليه ومن لم يسمع الكلام لم يعرف مراد المتكلم ودلالة الكلام ولا يقال اشتبه عليه فإن الاشتباه أخص وإنما يكون الاشتباه عند وجود قدر مشترك حصل بسببه الاشتباه كمن رأى شيئاً من بعيد واشتبه عليه هل هو حيوان أو غيره ومن رأي شيئاً في السماء واشتبه عليه هل هو الهلال أو غيره وأمثال ذلك والله تعالى أعلم

فصل: نقل المؤلف قول الرازي: إن الذهن يتوقف في اللفظ إذا كان له مفهومان

فصب قال الرازي واعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فهو هنا يتوقف الذهن مثل القرء بالنسبة إلى الحيض والطهر وإنما الصعب المشكل أن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المفهومين ومرجوحا في الآخر ثم إن الراجح يكون باطلاً والمرجوح حقًّا مثاله في القرآن قوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء 16] فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا ومحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف 28] ردًّا على الكفار فيما حكى عنهم وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا

تعقيبات المؤلف واستدراكاته على الرازي من وجوه

[الأعراف 28] وكذلك قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 67] قال وظاهر النسيان ما كان ضد العلم ومرجوحه الترك في قوله تعالى فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر 19] ومحكمه قوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) [مريم 64] وقوله تعالى لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) [طه 52] قال فهذا تلخيص الكلام في تفسير المحكم والمتشابه وبالله التوفيق وعلى هذا استدراكات أحدها قوله إن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فهنا يتوقف الذهن فيقال استواء المفهومين إن كان مع إرادتهما فاللفظ علم شامل وإن كان مع إرادة أحدهما فالاستواء إما أن يكون لاستواء دليلهما بحيث لا يختص المراد بما يدل عليه بل يكون الدليل على المراد وغير المراد سواء وإما أن يكون الاستواء في ذهن المستمع لكونه لم يعرف رجحان دليل المراد وهكذا توقف

الإنسان في سائر العلوم ومعرفة الأحكام الشرعية إنما يكون لانتفاء الدليل المرجح للحق في نفس الأمر فتكون الأدلة متكافئة في نفس الأمر ويكون على كل واحد منهما دليل وإما أن يكون التكافؤ في ذهن الناظر لكونه لم يعرف الدليل الراجح لعجزه عن معرفته أو تفريطه وتركه النظر والبحث التام فإن كان التساوي لهذا المعنى وهو قصور الناظر أو تقصيره فهذا موجود في كل كلام وفي كل دليل ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر بالنسبة إلى المفهومين على السواء بل اللفظ دل على أحدهما دون الآخر لكن المستمع الناظر لم يعرف دلالته وحينئذ فعلى هذا التقدير القرآن كله محكم قد بين المراد به وإنما الاشتباه في بعض الآيات لنقص فهم الناظر وقد أخبر الله تعالى أنه أحكم آياته وأنها مبينة وأنها هدى وأنها نور وهذا إنما يكون إذا كانت مبينة لما أراده وعناه وأما إذا كان لا فرق فيها بين المراد وغيره لا يدل على واحد

منهما لم تكن مبينة ولا هادية ولا محكمة ولا نوراً وهذا كلفظ القرء الذي مَثّل به إن قيل إنه يستعمل في الحيض وفي الطهر ففي الآية ما يبين المراد من وجوه متعددة والأمة متفقة على هذا لم يقل أحد منهم بتكافؤ دليل هذا وهذا بل منهم من رجح دليل هذا ومنهم من رجح دليل هذا فاتفقوا على أن الشارع نصب الدليل المبين للمراد لكن إحدى الطائفتين عرفته والأخرى لم تعرفه وظنت الآخر هو المراد وهذا لا يكون إلا لدليل صحيح فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على الحق المراد لكن يكون الدليل الصحيح خفي عنها إما عجزاً وإما تفريطاً فظنت ما ليس بدليل دليلاً وإن قال بل التوقف والاستواء في نفس الأمر لانتفاء الدلالة على أحدهما في نفس الأمر أو لتكافؤ الدليلين يقال هذا ممنوع فَلِمَ قلت إن الأمر كذلك ومعلوم أن توقف الذهن قد يكون لقصوره أو لتقصيره وقد يكون لعدم

بيان الدليل وعدم بيان المتكلم لمراده فلِمَ أحلت عدم العلم لنقص بيان القرآن دون أن تحيله على نقص فهم الأذهان مع أن الله تعالى وصفه بأنه مبين ومحكم وهدىً ونور وغير ذلك من الأسماء التي تدل على أنه تعالى قد بين به المراد ودل به العباد وهدى به إلى الرشاد وأيضا فنحن قد رأينا أكثر الناس يتوقفون في فهم آية أو يفهمون منها خف ما دلت عليه لقصورهم أو تقصيرهم كما يصيبهم ذلك في الأدلة العقلية وفي كلام العلماء فهذا ضرب من الاشتباه واقع كثيراً وأما وجود آية اشتبه فيها المراد بغيره ولم يبينوا فيها ذلك البتة فهذا مما يمتنع وجوده ولم يقدر أحد أن يقيم دليلا على وجوده بل كل ما ادعاه إن ذكرنا أنه قد بين المراد به اندفع السؤال وإن عجزنا عن ذلك أمكن أن يكون من القسم المشتبه وعدم معرفة المراد لقصورنا لا لقصور في بيان الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قيل وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم

وكما قيل عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ بأن لا تفهم البقر

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه وروى الزهري عن أنس أنه سمع

عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية قوله تعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) [عبس 24] ثم قال كل هذا قد عرفناه فما الأبّ ثم رقص عصا كانت بيده فقال هذا من باب التكلف وما عليك أن لا تدري ما الأبّ ثم قال اتبعوا ما بُيّن لكم في هذا الكتاب وما لا فدعوه فقوله اتبعوا ما بُيّن لكم أي ما تبين لكم وإلا فالله تعالى قد بينه كله لكن قد يخفي لعض ما فيه على بعض الناس وعمر خفي عليه الأبّ كما خفي عليه الكلالة

وقد عرفه غيره من الصحابة ومن بعدهم كما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال الأبّ ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس وفي رواية عكرمة عنه قال الأبّ الحشيش

للبهائم وكذلك عن سعيد بن جبير وأبي مالك ومجاهد قالوا الأبّ الكلأ قال مجاهد الفاكهة ما يأكل الناس وعن عطاء قال كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أبّ وعن الضحاك كل شيء أنبتت الأرض سوى الفاكهة وذكره غيره عن عكرمة قال الفاكهة ما يأكل الناس والأبّ ما يأكل البهائم ومثله عن قتادة قال الفاكهة لكم

نقل المؤلف عن ابن الجوزي الأقوال في تفسير {وأبا} ، وتعقيبه عليه

والأبّ لأنعامكم وهذا قول اللغويين قاطبة قالوا الأبّ المرعى قال الجوهري وغيره الأبّ المرعى وقال الزجاج هو جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية وعلى قول الضحاك قد يقال إنه يدخل فيه سائر النبات غير الفاكهة وبعضهم يقول ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس والأنعام والأول هو المعروف عند جمهور السلف وأهل اللغة فإن قيل ذكر أبو الفرج فيه قولين أحدهما ما ترعاه البهائم قاله ابن عباس وعكرمة واللغويون والثاني أنه الثمار الرطبة رواه الوالبي عن ابن عباس

قيل هذا عند غيره غلط فإن ابن أبي حاتم ذكر هذا في تفسير الفاكهة فذكر عن الوالبي عن ابن عباس وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) [عبس 31] يقول الثمار الرطبة فجعل هذا تفسير الفاكهة وهذا هو الصواب فإنه الثمار الرطبة وأما كون الأبّ هو الثمار الرطبة فهذا غلط لم يقله أحدٌ ولأجل هذا قال مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) [عبس 32] وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا التمثيل بأن خفاء بعض معاني القرآن على بعض أكابر العلماء لا يمنع أن يكون غيره قد عرفه كما يقع مثل ذلك في الحديث والفقه وقد يخفى على بعض الأكابر من الصحابة ومن بعدهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الأحكام ما يعلمه من دونهم ولهذا رجع أبو بكر وعمر وغيرهما إلى من دونهم من الصحابة في معرفة أحاديث سمعوها من الرسول وهم لم يسمعوها منه

وإذا كان كذلك لم يكن لأحد الجزم بأن ما توقف فيه ذهنه وأذهان من هم أعلم منه فلم يفهموه أن ذلك لنقص في البيان أو لكونه لم يذكر ما يدل على المراد بل كل ذلك قد يكون لنقص علم المستمع الوجه الثاني قوله إنما الصعب المشكل أن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المفهومين ومرجوحا في الآخر ثم إن المرجوح يكون حقّا والراجح باطلاً يقال رجحان أحدهما في أصل الوضع إنما يكون إذا كان مجرداً عن القرينة كما يترجح عند الإطلاق لفظ الأسد والحمار والبحر والسيف أن المراد هو السبع والبهيمة والماء والحديد وأما إذا قيل عن خالد إنه سيف سلّه الله عز وجل على المشركين كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك

وكما قال كعب بن زهير في قصيدته المشهورة بانت سعاد التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال فيها إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول

وقيل في أبي قتادة إنه أَسَدٌ من أُسْدِ الله كما قال فيه أبو بكر لا تعمد إلى أَسد من أُسد الله يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه

وقال في الفرس إنه بحر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس أبي طلحة إن وجدناه لبحراً فهنا لم يفهم أحد أن المراد الماء ولا الحديد ولا السبع وإذا كان كذلك فكلام

الحكيم من الناس الذي أراد به الإفهام لابد إذا أراد غير معناه عند الإطلاق من أن يأتي بقرينة تبين بعض المراد أو قرينة تبين المراد ويصير اللفظ بها ظاهراً بل نصًّا لا يحتمل المعنى الآخر فلا يكون المعنى الآخر الذي لم يرده المتكلم راجحاً بل ولا يحتمله اللفظ وهذا هو الموجود في عامة كلام العلماء فكيف بكلام رب العالمين فالمعنى الذي أراده هو الذي جعل اللفظ دالا عليه والمعنى الذي لم يرده لا يدل عليه كلامه بل قد يكون فيه ما ينفيه وهذا كلفظ البشارة فإنه عند الإطلاق يراد به الإخبار بما يسر كقوله تعالى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة 213] ونحو ذلك ومع التقييد يراد به الإخبار بما يسوء فيقال فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران 21] وكذلك الإيمان إذا أطلق فهو الإيمان بالله وإذا قيد بـ غير ذلك كقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ

الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء 51] لم يحتمل هذا اللفظ الإيمان بالله ومثل هذا كثير الوجه الثالث أن ما ذكره مبني على أن ثم وضعا للألفاظ غير الاستعمال الموجود في الكلام وهذا قد يمكن ادعاؤه في بعض الأسماء كأسماء الأعلام وأما الألفاظ الموجودة في كلام العرب التي نزل بها القرآن من ادعى أن جماعة من العرب وضعوها لأصناف قبل أن يستعملوها فيها احتاج إلى نقل ذلك ولا سبيل إليه ولو كان هذا موجودا لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ولم يدّع أن اللغات كلها اصطلاحية بهذا الاعتبار إلا أبو هاشم الجبائي وما علمت أحداً قال هذا القول قبله وبسط هذا له موضع آخر الوجه الرابع الكلام على ما ميّل بع فإنه قال مثاله في القرآن قوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء 16] فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن

الأمر في القرآن نوعان: أمر تكليف وأمر تكوين

يفسقوا ومحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف 28] فيقال هب أن ظاهره أنهم أمروا بالفسق لكن قد عرف أن الأمر في القرآن نوعان أمر تكليف كالأمر بالشرائع التي بعث بها الأنبياء وأمر تكوين كقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس 82] وقوله تعالى وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) [الأحزاب 38] أي مأموره وقوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 1] أي مأموره أمر التكوين الذي قدره وقضاه من إظهار الإيمان والثواب والعقاب ونصر المؤمنين وعقوبة الكافرين ومنه قوله تعالى وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) [القمر 50] ونحو هذا وإذا كان الأمر نوعان فهنا إنما أراد أمر التكوين والآي نفسها وما اتصل بها قبلها وبعدها تدل على الواقع كدلالة غيرها من القرآن فإنه قال قيل هذه الآية وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ

رَسُولًا (15) [الإسراء 13-15] فدل بهذه الآيات على أن من عمل صالحاً فلنفسه عمل ومن عمل شيئاً فعليه وانه لا يعاقب إلا بذنبه لا يحمل عليه ذنب غيره ولا يعذب حتى يبعث إليه الرسول وهذا المعنى مذكور في القرآن في غير موضع أنه لا يعذب أحداً ولا يهلكه إلا بذنبه وبعد إرسال الرسول إليه كقوله تعالى وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) [الشعراء 208-209] وقوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) [الشورى 30] وقوله تعالى وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء 79] وقوله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم 41] وقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) [القصص 59] ومثل هذا كثير وقد قال تعالى في هذه السورة وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) [الإسراء 58] فلما ذكر ما تقدم من الآيات أن كل عامل يلزمه عمله خيراً كان أو شرًّا وان هداه لنفسه وضلاله عليها وأنه لا يحمل

عليه ذنب غيره ولا يعذب حتى يبعث إليه الرسول ذكر بعد هذا انه إنما اقتضت حكمته ومشيئته إهلاك قرية كيف يفعل أنه لا يعذبهم بغير ذنوبهم كما أخبر بذلك فقال تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء 16] فقد أخبر أن هذا الأمر إنما يكون إذا أراد هلاكهم وما شاء الله عز وجل كان فلابد من وقوع هلاكهم والهلاك إنما يكون بالذنوب وأمر التكليف الذي هو الأمر بالحسنات والنهي عن السيئات لا يستلزم وقوع المعصية بل قد يأمرهم فيطيعون فلا يستحقون العذاب بخلاف أمر التكوين كما قال تعالى فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) [الشمس 8] وكما قال تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) [مريم 83] وقال تعالى فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف 5] وقال تعالى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 110] وقال تعالى وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) [الأنعام 125] وفي الحديث إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بالصدق فإن

الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل لا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً فالمترفون من أهل القرى الذين قال فيهم الله عز وجل وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) [هود 116] وقال في أصحاب المشأمة إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) [الواقعة 45-46]

يعاقبون على ذلك بأن يجعل في قلوبهم دواعي إلى الفسق الذي يستحقون به العذاب فهذا أمر المترفين بأن يفسقوا فيها وحينئذ يحق عليهم القول فيدمرها تدميراً فقوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً [الإسراء 16] دل على أن هذا الأمر أريد به إهلاكهم وأمر التكليف ليس كذلك وقوله تعالى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا دل على أنه ليس أمراً عاماً وأمر التكليف ليس كذلك فالأمر بالإيمان والعمل الصالح عام لا يختص بالمترفين على أن مقصود الآية إنا لا نهلكهم إلا بذنوبهم كما قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء 15] فإذا أردنا إهلاكهم لم نهلكهم إلا بذنب بل يلهمهم فجورهم فيستحقون بذلك العذاب فقد تبين في نفس الآية أنه لم يرد أمر التكليف والتشريع الذي أرسل به الرسل فإنه لا يأمر أحداً بفسق ولا معصية وقد دل القرآن في غير موضع على أنه إنما يأمر بالأعمال الحسنة لا يأمر بالشر بل ينهى عن أنواع الشر وما يسمى فسقاً ويذم ذلك ويتوعد عليه كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل 90]

وقال تعالى وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات 11] وقال تعالى أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) إلى قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة 18-20] وقال تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) [الكهف 50] وقال تعالى وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام 120] وقال تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة 2] وقال تعالى إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) [المجادلة 9] ومثل هذا كثير وقد بسط الكلام على هذه الآية ونحوها في غير هذا الموضع وبين أن لفظ الأمر والإرادة والإذن والحكم والقضاء والكتاب والكلمات والتحريم والبعث والإرسال وغير ذلك ينقسم إلى ديني وكوني شرعي وقدري فالرب تعالى له الخلق والأمر وعلينا أن نؤمن بدينه وبشرعه ونؤمن بقضائه وقدره فلفظ الإرادة يكون بمعنى المحبة والرضى لما شرعه وبمعنى المشيئة لما يخلقه

والأول هو كقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 185] وقوله مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة 6] وقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء 26] وقوله إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب 33] والثاني كقول نوح عليه السلام وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود 34] وقوله فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام 125] وأمثال ذلك ولفظ الإذن الشرعي كقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) [الأحزاب 45-46] وقال تعالى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) [الحشر 5] وأما الإذن الكوني المحض فقوله تعالى وَمَا هُمْ

بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 102] والحكم الديني كقوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) [المائدة 1] والحكم الكوني كقوله يعقوب عليه السلام وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) [يوسف 67] والقضاء بمعنى الشرع كقوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 23] وبمعنى الخلق كقوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت 12] والبعث الديني كـ قوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة 2] والكوني كـ قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء 5] والإرسال الديني كقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) [الفتح 8] وقوله إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ

جواب المؤلف عن استدلال الرازي بالآية {نسوا الله فنسيهم}

رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [المزمل 15] والكوني وقوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) [مريم 83] وبسط هذا له موضع آخر وأما الآية الأخرى فقوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 67] وقوله تعالى قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) [طه 126] وقوله تعالى وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية 34] لا يقتضي أنه لا يعلم أحوالهم بل الأمر كما قال السلف أنهم نسوا في الخير دون الشر كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس نَسُوا اللَّهَ تركوا أنفسهم فَنَسِيَهُمْ يقول تركهم من كرامته وثوابه وفي تفسير

سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال نسوا من كل خير ولم ينسوا من الشر وهو كما قالوا فإنه من المعلوم أنهم إذا عذبوا فهو الخالق لعذابهم وبمشيئته يكون والمشيئة مستلزمة للعلم فلا يشاء إلا ما علمه بل قدر ذلك وكتبه قبل أن يكون وهو عالم به وبكل شيء بعدما يكون كما أخبر في غير موضع أنه يعلم أحوال العبد واستعمال النسيان في مثل ذلك لا يستلزم عدم العلم

يقول القائل لمن أعطى الناس أو مدحهم أو أكرمهم أو ولاهم نسيتني فلم تفعل ما فعلت بفلان ولا يكون غافلاً بل يكون ذاكراً له لكن تركه على عمد لأنه لا يستحق ذلك ويقال لمن عاقب غيره فجعله في السجن ونحوه نسيت فلانا وهو يخطر بقلبه ويشعر به لكنه لا يذكره بخير كما يذكره غيره فإن النسيان ضد الذكر كما قال تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف 24] ويقال إذا نسي ذكره أتذكر كذا أم نسيته والذكر المطلوب من الغير لا يراد به مطلق الذكر بل يراد به تذكره بخير ثناءً عليه وإما إحسانا إليه وقد يراد بلفظ الذكر الذكر بالشر والذم كقوله تعالى وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) [الأنبياء 36] أي يذكر آلهتكم بالذم والعيب وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الذي يستحقه وهو الذكر بالمدح والثناء هُمْ كَافِرُونَ

وهذا يعرف بما يقرن باللفظ فإذا ذكر من يبغض الشخص ويعاديه وقيل هو يذكره علم أنه يذكره بالشر وإذا ذكر من يحبه ويواليه وقيل إنه يذكره علم أنه يذكره بالخير وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبغض آلهتهم قلما قالوا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء 36] عرف أن المراد ذكرها بالشر ولما ذمهم على أنهم كافرون بذكر الرحمن علم أن المراد ما يستحقه من الذكر كما قال عز وجل وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر 45] وقال وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) [الإسراء 46] والذين نسوا الله قد كان يخطر بقلوبهم ويشعرون به ويدعونه عند الضرورة وإذا سئلوا من خلقهم قالوا الله عز وجل لكنهم لم يذكروه الذكر الذي يستحقه فلم يذكروا كتابه المنزل وأمره ونهيه وخبره كما قال تعالى في الآية الأخرى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) [طه 124-126] فالآيات كما أتته ولم يذكرها بل أعرض عنها وإن كان شاعراً بها فكان الجزاء من جنس العمل لا يذكر بما

يذكر به المؤمنون من الجزاء بالحسنى بل ينسى فلا يذكر هذا الذكر وإن كان معلوماً لله لا يجوز أن يكون مجهولاً له وهو كما قال قتادة نُسوا من الخير لم ينسوا من الشر ومما يبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم فهذا الذكر هو جزاء ذكره وهو عالم به سواء ذكره أو لم يذكره ومن لم يذكر الله بل أعرض عن ذكره فإن الله

تعالى يعرض عن ذكره بالخير وهذا نسيان له من الخير فتبين أن لفظ النسيان المضاف إلى الله لا يدل على عدم العلم ألبتة وهذا كلفظ الرؤية والسمع فإن السمع متعلق بالأقوال والقول خبر وطلب والمطلوب من سمع الخبر صدقه ومن سمع الطلب إيجابة الطالب فلهذا يعبر بالسمع عن التصديق والإجابة كقول المصلي سمع الله لمن حمده أي أجاب دعاه ولو أريد السمع المجرد أو السمع مع نقص المسموع فهو يسمع لمن حمده ولمن لم يحمده كما قال تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران 181] وقال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] وقال الملك للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك

وقد قال الخليل إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) [إبراهيم 39] فهذا كقوله سمع الله لمن حمد أي أجاب دعاه فإنه يجيب الداعي كما قال تعالى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) [سبأ 50] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً وقال تعالى في ذم قوم

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة 42] وقال سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [المائدة 41] أي مطيعين لهم يستجيبون لهم كما قال تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] أي مطيعون لهم ويقال فلان ما سمع كلام فلان إذا كان لا يصدقه فيما يخبر به ولا يطيعه فيما يأمر ويشير وهو يسمع كلام فلان إذا كان يصدقه ويقبل منه ما يشير به وكذلك الرؤية فالنظر يراد به نظر المحبة أو الرحمة والعطف ومنه قوله تعالى وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران 77] إذ كان المحبوب والمرحوم ينظر إليه والبغيض يعرض عنه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان

وملك كذاب وعائل مستكبر وقد قال الله تعالى للمنافقين وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة 105] وقال تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) [يونس 14] وهو يعم عمل الخير والشر وكل موضع من هذه المواضع فمع اللفظ ما يدل على المراد به ولا يستوي هذا وهذا وكذلك لفظ النسيان وغيره والنسيان المناقض للعلم قد أخبر في غير موضع بما يوجب تنزيهه عنه مثل قوله عز وجل وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) [مريم 64] وفي قوله تعالى فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) [طه 52] بل في نفس الصورة التي قال فيها وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) [طه 126] قال تعالى لَا يَضِلُّ رَبِّي

وَلَا يَنْسَى (52) [طه 52] فإنه أخبر أنه يوم القيامة يحاسب العباد بأعمالهم ويثيبهم بها على وجه التفصيل وهو قد أحصاها وهم نسوها قال تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) [المجادلة 6] وهو مع ذلك قد أمر الملائكة بكتب أعمالهم وهو سبحانه وتعالى الذي أنطق الأعضاء وجعلها تخبر بما كان فمن جعل الأعضاء عالمة شاهدة بما مضى كيف لا يكون هو عالم بما مضى شاهد به وهو سبحانه وتعالى لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء

فصل: قول الرازي في الطريق الذي يعرف به كون الآية محكمة أو متشابهة

فصل قال الرازي الفصل الثالث في الطريق الذي يعرف به كون الآية محكمة أو متشابهة اعلم أن هذا موضع عظيم وذلك لأن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات الموافقة لمذهب خصمه متشابهة فالمعتزلة تقول إن قول الله تعالى فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 29] محكمة وقوله تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] متشابهة والسني يقلب القضية في هذا الباب والأمثلة كثيرة فلابد هاهنا من قانون أصلي يرجع إليه في هذا الباب

فنقول إذا كان لفظ الآية والخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل وإلا لخرج الكلام عن أن يكون مفيداً وخرج القرآن عن أن يكون حجة ثم ذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيًّا أو عقليّا وأما القسم الأول فنقول هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما لإبقاء الآخر بأولى من العكس اللهم إلا أن يقال أحد الدليلين قاطع والآخر ظاهر فالقاطع راجح على الظاهر أو يقال كل واحد منهما وإن كان ظاهراً إلا أن أحدهما أقوى إلا أنا نقول أما الأول فباطل لأن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها

موقوفة على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وعلى عدم الاشتراك والمجاز والتخصيص والإضمار وعلى عدم المعارض العقلي والنقلي وكل واحدة من هذه المقدمات مظنونة والموقوف على المظنون أولى أن يكون ظنيّا فثبت أن شيئاً م الدلائل اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيًُّا وأما الآخر وهو أن يقال أحد الدليلين الظاهرين أقوى من الآخر إلا أنه على هذا التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الآخر مقدمة ظنية والظنون لا يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره

محال ممتنع فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما أشعر به ظاهره ثم عند هذا المقام من جوز التأويل عدل إليه ومن لم يجوزه فوّض علمه إلى الله تعالى وبالله التوفيق وقال في تفسيره في تتمة هذا الفصل فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وبترجيح تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلالة اللفظية وأنها ظنية كما بينا لاسيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في

تعقيب المؤلف على الرازي وبيان ما في كلامه من التناقض

غاية الضعف ومثل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال قال فلهذا التحقيق المتين ذهبنا إلى أن بعد إقامة الدلائل العقلية على أن حمل اللفظ على ظاهره محال ولا يجوز الخوض في تعيين التأويل فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب فيقال في هذا الفصل من التناقض والفساد والإلحاد ما الله تعالى أعلم به ولكن ننبه على بعضه فإن ما ذكره في هذا الفصل هو عمدة لأهل الإلحاد وذلك بوجوه الأول أن ما ذكره من أن كل أهل مذهب يجعلون

ما وافق قولهم محكماً وما وافق قول خصمهم متشابهاً إنما هو لاعتقادهم أن الدليل العقلي يدل على قولهم دون قول خصمهم لا لاعتقادهم أن في نفس الآيات ما يبين الاشتباه عما احتجوا به دون ما احتج به منازعوهم فإن الاشتباه العارض حاصل من الجميع إذ قد اشتبهت هذه الآيات على قوم وهذه على قوم وأما الاشتباه العام اللازم الذي يرجع إلى دلالة اللفظ فهذا يشترك الناس في العلم به لا يكون هذا متشابهاً عند طائفة محكماً عند طائفة وبالعكس وإذا كانت كل طائفة تجعل قولها محكماً لأنه هو الموافق للدليل العقلي عندهم فهذا هو القول الذي فرّق به بين المحكم والمتشابه لأن كل طائفة تدعي أن العقل معها ويكون الذي أنكره هو الذي قرره

يبين ذلك الوجه الثاني وهو أن يقال معلوم أن كل طائفة من الطوائف المنازعين في مسائل الأصول مثل الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والمتفلسفة وغيرهم تدعي كل طائفة أن العقل يدل على صحة قولها وأن ذلك أدلة قطعية

وهذا موجود في كتبهم وكلامهم ويعرفه من له أدنى معرفة في هذا الشأن وإذا كان كذلك فما ذكره من الفرقان لا يزيل ما ذكره من النزاع بل ما ذكره من المقرر بما أنكره من أن كل طائفة تجعل المحكم ما وافقها والمتشابه ما وافق خصمها وقد رأينا الكتب المصنفة في ذلك ففي كتب القدرية النافية من المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة دعوى أن الأدلة العقلية توجب أن العبد هو المحدث لفعله وقد يدعون على ذلك العلم الضروري كما ادعاه أبو الحسين ثم إثبات الصانع عندهم مبني على هذا فإنه به يعلم افتقار الفعل إلى الفاعل ومن لم يعلم هذا لم يعلم افتقار الفعل إلى الفاعل وكذلك ما يثبتونه من التعديل والتجوير وهو مبني عندهم على ما يقولون إنه معلوم بالاضطرار من مسائل التحسين والتقبيح فما وافق هذا عندهم فهو محكم وما خالفه فهو متشابه

والقدرية المجبرة أتباع الجهم بن صفوان يقولون بل المعلوم بصريح العقل أن الله خلق كل شيء وأنه لا يجوز أن يكون غير الله محدثاً لشيء وأن الحسن والقبح إنما يعقل في حق من ينتفع بشيء ويتضرر بشيء والرب تعالى منزه عن ذلك فيجوز عليه فعل كل شيء وهذا عندهم هو الأصل المعلوم بصريح العقل وما وافقه محكم وما خالفه متشابه والرازي يعتمد في تفسيره على هذا في الجواب عما يحتج به المنازعون من الآيات الكثيرة التي يحتج بها القاضي عبد الجبار وغيره فيجيب بمسألة الداعي والعلم وهو أن الله

خلق داعي العبد فيكون خالقاً لفعله وأنه يعلم ما سيكون فيمتنع خلاف المعلوم وعلى هذا تبطل حجة المعتزلة لأن عندهم يمتنع التكليف بالممتنع وما هو من فعل الغير وحقيقة الأمر أن هذا الجواب جدلي التزامي ليس بجواب علمي فإن عامة أهل السنة يقرون بهذا وهو أن الله خالق أفعال العباد ويقولون مع هذا إن الله يخلق بحكمة ولسبب وأنه منزه عن أن يعاقب أحداً بلا ذنب وغير ذلك من الظلم ويقولون إن الأفعال مشتملة على صفات كانت لأجلها حسنة وسيئة كما هو مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن ما ذكره من القانون يدعيه كل طائفة فهو حجة لما أنكره عليهم لا رافع لما أنكره الوجه الثالث قوله إذا كان لفظ الآية أو الخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل

وإلا لخرج الكلام عن أن يكون مفيداً ولخرج القرآن عن أن يكون حجة فيقال له إن هذا اللازم هو لازم لك بل هو حقيقة قولك فإن الحجة عندك إنما هو الدليل العقلي والقرآن إنْ وافقه فالاعتماد عليه لا على القرآن وإن خالفه أخذت به لا بالقرآن والقرآن لا يستفاد به ما دل عليه ولا يحتج به بل إما أن يعرض عنه فلا ينظر بحال وإما أن يجتهد في رفع دلالته بالاحتمالات لا في تقرير دلالته فالقرآن على قولك ليس بحجة ولا يفيد في هذا الباب وإنما يحتج به عندك في المسائل الظنية الفروعية وتلك يجوز فيها العدول عن ظاهر إلى ظاهر أرجح منه بالإجماع وأنت قد قررت هنا أنه لا يجوز العدول عن ظاهر مرجوح إلى ما هو أرجح منه فلم يبق عندك في هذا للقرآن في هذا الباب

حرمة أصلا ولا فيه فائدة ولا هو حجة فبطل احتجاجك الوجه الرابع أنك قد صرحت في كتابك في نهاية العقول وغيره أن الاستدلال بالقرآن والأدلة السمعية في مسائل الأصول لا يجوز بحال لأن الاحتجاج بها موقوف على نفي المعارض العقلي وهذا النفي لا يمكن العلم به فلا يعلم شرط الاستدلال بها فكل ظاهر يحتج به يقال فيه هذا المعنى غير معلوم لتوقفه على انتفاء المعارض العقلي الوجه الخامس أنك قد صرحت هنا وفي غير هذا الموضع أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يفيد العلم وحينئذ فالظاهر سواء عارضه دليل عقلي أو لم يعارضه لا يحصل به علم عندك وإذا أقر الظاهر فإنما يفيد عندك الظن والظن لا يجوز الاحتجاج به في الأصول فكل آية دلت على مسألة أصولية لا يجوز الاحتجاج بها عندك بل يجب أن يكون من المتشابه وعلى هذا فليس القرآن في هذا الباب منقسماً عندك إلى محكم ومتشابه ومع هذا

فإنه مناقض لما تقرره فهو مخالف لصريح القرآن والسنة والإجماع وهو باطل عقلاً وشرعاً الوجه السادس أنك قد قدمت أن المحكم نوعان نص وظاهر وأن النص ما يكون موضوعاً لمعنى لا يحتمل غيره وهنا قد جعلت الألفاظ ليس فيها شيء من ذلك بل ما من لفظ إلا ويحتمل معنى آخر وأن نفي المعنى الآخر لا يكون إلا ظنا فغايتها أن تكون ظاهرة فإن قلت النص ما ظن أنه لا يحتمل إلا معنى والظاهر ما يحتمل معنيين وظن رجحان أحدهما فيقال لك وهذا كله لا يجوز عندك التمسك به في هذه المسائل فلا يكون محكماً بل متشابهاً وهذا مناقض بقولك ولإجماع الأمة الوجه السابع أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن من الكتاب آيات محكمات هن الأصل الذي يُبْنَى عليه ويستدل به ويتبع والمتشابه يرد إليه وعلى هذا علماء المسلمين يقولون المحكم هو الأصل والمتشابه يرد إليه وأنت جعلت الأصل هو

ما زعمته من العقل وجعلت القرآن كله محكمه ومتشابهه يرد إليه فما خالفه كان متشابهاً فلم يبق في القرآن محكم يرد إليه المتشابه ولا هو أم الكتاب وأصله الوجه الثامن أنه على قولك لا سبيل لأحد إلى أن يعرف شيئا من القرآن محكما فإن ذلك يمكن إذا علم انتفاء المعارض العقلي وهذا النفي غير معلوم فلا يجزم بأن شيئاً منه محكم فإن قلت أنا أقول إن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع قيل وأنت تقول إن حمله على ظاهره لا يجب إلا إذا قام الدليل العقلي على أن ظاهره حق وما لم يعضده دليل عقلي لم يجزم بثبوته كما لا يجزم بنفيه إلا إذا نفاه الدليل العقلي فالمعتمد عندك في الجزم بالنفي والإثبات على الدليل العقلي والقرآن عديم التأثير لا يجزم بنفي ما نفاه ولا بإثبات ما أثبته وهذه حال من لا يؤمن بالله وبكتابه وحال من لا يؤمن بما أنزل

الله تعالى من الكتاب ولا بما أرسل من الرسل الوجه التاسع قولك إنه لا يترك الدليل السمعي لدليل أرجح منه لأن الترجيح لا يكون إلا ظنا والظن لا يجوز التعويل عليه في المسائل العقلية القطعية فيقال لك فرق بين رجحان الاعتقاد واعتقاد الرجحان فأنت قد ذكرت هذا الفرق كما ذكره أبو الحسين البصري وغيره واعتقاد الرجحان قد يكون علماً فإذا اعتقد أن هذا الظاهر أرجح من هذا الظاهر فهذا يكون معلوماً مستيقناً وكذلك يجب العمل بهذا الراجح ويكن العامل عاملاً بعلم لا بظن وحينئذ فإذا تعارض ظاهران وقد علم رجحان أحدهما جزمنا بأن إرادة الله لذلك الشيء أرجح وكان هذا الجزم علماً فلمَ لا يجوز ذلك وإن لم يجزم بوجود المراد وهذا الجزم ينتفع به نفعاً عظيماً

الوجه العاشر هب أنا لا نجزم بشيء بل نرجح إرادة أحدهما على الآخر فإذا قلنا إرادة هذا أرجح وغلب على الظن أن هذا هو المراد كما في كثير من الآيات والأحاديث التي تنازع الناس في تفسيرها فغلب على الظن رجحان أحد الأقوال فِلمَ لا يجوز هذا وما المانع منه وليس هذا تعويلا على الظن في مسألة عقلية قطعية بل في مسألة سمعية غير قطعية فإن التقدير أن هذا لم يخالف دليلاً قطعيا بل العقل يجوز إرادة هذا وإرادة هذا والسمع قد رجّح أحدهما ترجيحا ظنيا فِلمَ لا يجوز مثل هذا الترجيح وهذا هو الظاهر الذي هو أحد مسمى المحكم عندك الوجه الحادي عشر أن من الناس من يقول مسائل الأصول لا يجوز التمسك فيها إلا بأدلة يقينية لا ظنية هذا على وجهين فإن كان مما أمرنا فيها باليقين كاليقين بالوحدانية والإيمان بالرسول والإيمان باليوم الآخر مما أمرنا فيه باليقين لم يمكن إثباتها إلا بأدلة يقينية وأما ما لا يجب علينا فيه

اليقين كتفاصيل الثواب والعقاب ومعاني بعض الأسماء والصفات فهذه إذا لم يكن فيها دليل قطعي يدل على أحد الطرفين كان القول مما يترجح من الأدلة أن هذا هو الظاهر الراجح قولاً عدلاً مستقيماً بل كان خيراً من الجهل المحض وأيضا فمن الناس من لا يقدر على العلم في جميع ما يتنازع فيه الناس وفي دقيق المسائل فإذا تكلم بحسب طاقته واجتهاده فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها الوجه الثاني عشر أنه إذا لم يجز القول بالظن الراجح فالقول بالجهل والكذب والقول الباطل أولى أنه لا يجوز فإن هذا لا يجوز بالإجماع وما يذكرونه مما يسمونه أدلة عقلية على نفي ما دل عليه القرآن والسنة من الصفات إنما هي أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علماً ولا ظنًّا بل جهلاً مركباً كما بينا هذا في غير موضع كما وصف الله تعالى حال الكفار بقوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] الوجه الثالث عشر قوله إذا كان لفظ الآية والخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل ولا يكون لفظيًّا فيقال هذا قرع وقوع هذا فِلمَ قلت إن الأخبار يعارضها

دليل عقلي قطعي وقد بسطنا هذا في مواضع وبينا أن هذا غير واقع بل لابد أن يبين الله مراده حتى يحصل بكلامه الهدى والبيان وتقوم به الحجة فما كان ظاهراً غير مراد بينه بآية أخرى كما في الخاص والعام فأما أن يكون دالاً على غير الحق وهو لم يبين الحق الذي أراده فهذا غير واقع بل غير الله إذا تكلم بكلام ولم يبين مراده بكلامه كان معيباً مذموماً فرب العالمين أولى بتنزيهه عن كل عيب وذم وعن أن يتكلم بكلام ولم يبين به مراده بل يظهر منه غير ما أراده والذي أراده لا يدل عليه ألبتة كما يزعمه هؤلاء المعطلة الملحدون الوجه الرابع عشر قوله ليس ترك ظاهر أحدهما لإبقاء الآخر بأولى من العكس فيقال له أحدهما مفسر للآخر مبين للمراد به ليس معارضاً له إلا عند من لا يفهم كقوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ

تُقَاتِهِ [آل عمران 102] وقوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن 16] فإن قوله مَا اسْتَطَعْتُمْ مفسر لقوله حَقَّ تُقَاتِهِ ورافع لظن من يظن أن الله أمر الناس بحق تقاته الذي لا يستطيعونه وهذا هو الذي أراده من قال من المتقدمين أن هذه ناسخة لتلك أرادوا أنها ناسخة للظن الفاسد من معناها ولم يريدوا أن الله أمر الناس بما لا يستطيعونه من تقواه ثم نسخ ذلك ولكن رقع ما يظن أن الآية دالة عليه يسمونه نسخاً فإنه من إلقاء الشيطان وقد قال تعالى فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) [الحج 52] ولكن من الناس من لم يعرف مرادهم بلفظ النسخ وعادتهم واصطلاحهم فيه فيظن أنهم أرادوا به معناه الخاص فيكون قد أمروا بما لا يستطيعه العباد وهذا لم يقع في الشريعة قط ولا عرف أن السلف رحمهم الله تعالى فهموا هذا من الآية وهكذا إذا كانت إحدى الآيتين دلت على المعنى دلالة راجحة فإنها تقضي على

الدلالة المرجوحة وتفسرها الوجه الخامس عشر قوله إن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية قد أبطلناه عي مواضع ونحن ننبه هنا على بطلانه فنقول هذا القول من أعظم السفسطة وهو من أعظم أنواع السفسطة التي في الوجود ولهذا لم يعرف هذا القول عن طائفة معروفة من طوائف بني آدم لا المسلمين ولا غيرهم لظهور فساده فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق وأن بني آدم يتخاطبون ويكلم بعضهم بعضاً ويفهم بعضهم مراد بعض علماً ضروريًّا أعظم من علمهم بالعلوم النظرية والنطق للإنسان أظهر صفات الإنسان التي تميز بينه وبين البهائم ولظهور ذلك قوله تعالى فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) [الذاريات 23] ولهذا يقول من يقول في الإنسان إنه الحيوان الناطق ثم البهائم يفهم بعضها

مراد بعض بأصوات تصوتها وقد تسمى منطقاً لها كما قال سليمان عليه السلام يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل 16] وقد ذكر سبحانه وتعالى قول النملة أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) [النمل 18] فالنملة قالت للنمل قولاً يتضمن أمراً وتحذيراً وسليمان عليه السلام فهم ما قالته فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) [النمل 19] وهو أيضاً خاطب الهدهد وخاطبه بما حكاه الله حيث قال الهدهد له أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) [النمل 22-28] بل هو سبحانه وتعالى ينطق الجماد بأصوات يفهمها من يفهمها من الآدميين كما قال تعالى عن داود عليه السلام يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ 10] وقال تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) [ص 18]

والحصى قد سبح في كف النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وكان

أبو الدرداء وسلمان الفارسي يسمعان تسبيح القدر وقال

النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن وهذا باب واسع فهو سبحانه لعموم هدايته هدى مخلوقاته وجعل بعضها يفهم عن بعض مراده بما ألهمه الله من نطق أو غيره وهذا لبسطه موضع آخر ولكن المقصود هنا أن دلالة الأدلة القطعية القولية على مراد المتكلم ومعرفة المستمع بمراده وفهمه لكلامه هو ما يعرفه جميع بني آدم علماً ضروريًّا قبل علمهم بالأدلة العقلية المجردة فالطفل إذا صار فيه تمييز

علم مراد أبيه وأمه بما يخاطبانه به وفهمه لمراد الأم أسبق إليه من العلم بالأدلة العقلية النظرية فإن هذا مما يعلم به مراد المتكلم اضطرارا ولا يتوقف قهم الصغير لكلام مربيه أبيه وأمه وغيرهما لا على نقل اللغة والنحو والتصريف ولا على نفي المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والنقل والمعارض العقلي والسمعي بل يعلم مرادهم بكلامهم اضطراراً لا يشك فيه ثم سائر بني آدم يخاطب بعضهم بعضاً ويفهم مرادهم من غير احتياج إلى شيء من تلك المقدمات ويكتبون الكتب إلى الغائب الذي لا يراهم ولا يرى حركاتهم فيعلمون مراد الكاتب اضطراراً في أكثر ما يكتبه وإن كان بعض ذلك قد يظن أو لا يفهم لكن الأغلب أنهم يعلمون مراده اضطراراً وهذا موجود

في مكاتبة العامة والخاصة ومن يخاطبهم فإذا كان الخط الدال على اللفظ يعلم به المراد اضطراراً في أكثر ما يكتب فاللفظ الذي هو أقرب إلى المعنى المراد أولى أن يعلم به المراد اضطرارا ثم إذا كان هذا البيان والدلالة موجوداً في كلام العامة الذين لا يعدون من أهل العلم فأهل العلم أولى بأن يبينوا مرادهم وأن يفهم مرادهم من خطابهم وإذا كان هذا في العلماء الذين ليسوا بأنبياء فالأنبياء أولى إذا كلموا الخلق وخاطبوهم أن يبينوا مرادهم وبأن يفهم الناس ما بينوه بكلامهم ثم رب العالمين أولى أن يكون كلامه أحسن الكلام وأتمه بياناً وقد قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 4] فهو إنما أرسل الرسل بلسان قومهم الذين خاطبوهم أولا ليبن الرسول ما أراده وما أوحاه الله إليه من الرسالة فكيف يجوز أن يقال إنهم لم يبينوا المراد وأن أقوالهم لم تدل على مرادهم فلم يبينوا ما أوحي إليهم بياناً قاطعاً لأنهم بينوه بلفظهم وهذا يقول إن شيئا من الأدلة

اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيًّا مع أن هذا القول كما تقدم لا يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم لا من المسلمين ولا من غيرهم ولا عن عالم معروف إذ كان هذا القول في غاية السفسطة وجحد الحقائق وإنما الذي يقوله بعض الناس هو القدح في بعض الأدلة اللفظية والسمعية كما قد يقدحون في بعض ... الأدلة العقلية أما القدح في الجنس فهذا لا يعرف في جنس المتكلمين عن طائفة من الآدميين ولكن هذا الرجل كثير السفسطة والتشكيك فهو من أعظم المتكلمين سفسطة وتشكيكاً وهذا من جملة سفسطته لا يعرف من جنس المتكلمين من هو أعظم تقريراً للشكوك والشبهات الباطلة وأضعف جواباً عنها منه وتقريره لما يقدح في جنس الأدلة القولية النطقية الدالة على مراد المتكلم هو من هذا الباب بل هذه الأدلة الدالة

على مراد المتكلم هي أبين وأظهر عند جميع بني آدم من جنس الأدلة العقلية المجردة ولهذا تجد كل أمة يرجعون إلى قول قائل مقبول القول عندهم هم أقل اختلافا في معرفة مراده من الذين يرجعون إلى مجرد الأدلة العقلية المجردة ولهذا كان غير أهل الكتاب من أصناف المشركين من فلاسفة الهند واليونان والعرب وغيرهم أعظم اختلافا فيما يدعونه من الأدلة العقلية من اختلاف أهل الكتاب في مراد الأنبياء ثم أهل الحديث والسنة الذين يرجعون إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع رجوعهم إلى القرآن أقل اختلافا من غير أهل العلم بذلك ومن يرد أخباراً صحيحة لزعمه أنها أخبار آحاد لا تفيد العلم أو يقبل أخباراً ضعيفة أو موضوعة يظنها صحيحة فهؤلاء أكثر اختلافا من أهل المعرفة بالحديث لأنهم إذا كانوا أعرف بالحديث فالحديث يدلهم على مراد الرسول فيكون الاختلاف بينهم أقل من أولئك وأمة محمد وإن

كانوا قد اختلفوا في أشياء فهذا من لوازم النشأة الإنسانية فالشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني كما قال تعالى وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) [الأحزاب 72] لم يخلص أحد من البشر عن ذلك لكن من كان أفضل وأكمل كانت معرفته بالحق أكمل وعمله به أكمل وأمة محمد أكمل في معرفته والعمل به فهم أفضل الأمم ثم أهل السنة وأهل المعرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمعانيه والمتبعون لذلك هم أكمل علماً وعملاً من غيرهم فهم أعلم الناس يقيناً ومعرفة لاتباعهم الرسول ومعرفتهم بكلامه وعلمهم بذلك ونطقهم به بخلاف ما زعمه هؤلاء من أن الأدلة النطقية لا يمكن أن يقطع فيها بمراد المتكلم وأيضا فقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالحق وأنصح الخلق للخلق وأكمل الناس بياناً وعبادة ودلالة على الحق وإذا اجتمع العلم والقدرة والإرادة وجب وجود المطلوب فكيف يكون أعظم الناس معرفة وبياناً ودلالة لم يعرف مراده مع أن

الناس قد عرفوا مراد جميع من تكلم في العلوم وقطعوا بمرادهم في أكثر ما قالوه والمظنون والمشكوك فيه قليل مغمور بالنسبة إلى المعلوم المقطوع به فالفقهاء يعرفون مراد أئمتهم المصنفين للكتب وكذلك النحاة والأطباء وكذلك المصنفون في علوم الحديث والتفسير وغير ذلك فإذا كان هؤلاء قد بينوا مرادهم مع أن البيان غير واجب عليهم فكيف لا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم مراده مع أن الله تعالى قد أوجب عليه البلاغ المبين وقد بسط الكلام على فساد هذا الأصل الذي هو من أعظم السفسطة عقلاً ومن أعظم الإلحاد في كلام الله تعالى شرعاً وصاحبه جحد نعمة الله عز وجل في تعليمه البيان والقرآن وقال تعالى الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) [الرحمن 1-4] في

ما زعمه من أن بيان الإنسان وكلامه ونطقه لا يعلم به مراده والقرآن الذي علمه الله تعالى لعباده وتكلم به لا يُعلم به مراده وهذا جحد لنعمة القرآن والبيان وقد تقدم ما ذكرناه من الآيات على أن القرآن لا يجوز أن يشتمل على ما لا يعلم منه المراد وأن الله تعالى سماه بياناً وهدى ونورا وأمر بتدبره والتفكر فيه وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه بينه وعرف بمعناه وإذا كان هذا يدل على فساد قول من يقول إن بعضه لا يعلم منه المراد فمن قال إن شيئا من الدلائل السمعية لا يعلم بها المراد ولا يحتج بها في المسائل العلمية هو أولى بالفساد من قول أولئك من وجوه كثيرة وقد ذم الله تعالى في غير موضع من لم يفهم كلامه وجعلهم من الكفار والمنافقين كقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ

قول الرازي: إن الدليل اللفظي لا يكون قطعيا، والرد عليه من وجوه

عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) [محمد 16] وقال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام 25] وقال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) [يونس 42] وما ذكره الرازي من أنه موقوف على عشر مقدمات ظنية والموقوف على الظن أولى أن يكون ظنيًّا وهو نقل اللغة والنحو والتصريف وعلى عدم المجاز والنقل والاشتراك والإضمار والتخصيص وعدم المعارض العقلي والسمعي دعوى باطلة من وجوه أحدها أن العلم بمراد المتكلم من عادته وحاله وداعيته وقصده أمر معلوم عنده بالاضطرار كما قصده بالأفعال الاختيارية مثل أكله وشربه ولباسه وركوبه وغير ذلك من أفعاله فكما أنه إذا أكل وشرب وإن كان الأكل والشرب يحصل باختياره فإنه يعلم أنه أكل وشرب ليشبع وأنه يشبع بالأكل والشرب وإن كان قد يقع أحيانا خلاف ذلك وكذلك يعلم دلالة أصواته الدالة بالطبع وإن كانت باختياره وبغير اختياره مثل النفخ والنحنحة والعطاس

والقهقهة وغير ذلك فكيف بأحواله الدالة بقصده واختياره التي قد علم من حاله أنه يقصد به الإفهام والبيان فالعلم بمراده بهذه أظهر وأقوى وإذا جُوّز أن يكون أراد غير ما دل على إرادته فإن تلك الأفعال والأحوال قد يقصد بها غير ما يدل عليه في العادة فقد يبكي الرجل محالا حتى يظهر حزنه وهو كاذب كما جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف 18] الوجه الثاني أن الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم إما شاهد له قد سمع كلامه وإما غائب بلغه كلامه فالمشاهدون له قد بين لهم مراده مع القول بتعيين ما أراده فلما أمرهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج بين لهم مسمى هذه الألفاظ ولم يحوجهم في ذلك إلى أن يعرفوا مسمى هذه الألفاظ من كلام غيره فلم يحتاجوا إلى نقل لغة غيره ولا نفي احتمالات ولا نفي معارض بل علموا مراده بهذه الألفاظ لما بينه لهم مع القول معرفة ضرورية ونقلوا ذلك إلى من بعدهم نقلا يفيد اليقين

والعلم أعظم من اليقين والعلم بنفس ألفاظه فحصل العلم لمن شاهده ولمن غاب عنه أعظم من ألفاظه وقد يكون في الذين شاهدوه من لم يسمع كلامه لكنه علم مراده وما أمر به وما نهى عنه ولم يسمع نفس اللفظ إما لبعده وإما لغيبته وهو إنما يسأل عما أراده ليس له غرض في نفس اللفظ فعلم المراد بالاضطرار واللفظ لا يعرفه الوجه الثالث أن علم المخاطبين بالمعنى الذي أراده المتكلم أهم عندهم من العلم بلفظه ولهذا إنما يبحثون عن ذلك وهو الذي ينقلونه عنه ويبلغونه عنه فإن الله تعالى قد حكى عن الأمم المتقدمين من الأنبياء وأتباعهم وتكذيبهم أقوالاً كثيرة ولم ينقل لفظ أحد منهم وإنما نقل معنى كلامه باللغة العربية وبنظم القرآن المخالف لسائر نظم الكلام مع أن أولئك تكلموا بغير العربية وبغير نظم القرآن

وهو الصادق فيما حكاه عنهم إذ كان المقصود هو معاني ألفاظهم لا نفس الألفاظ وكذلك الناس ينقلون مذاهب العلماء وأقوالهم بغير ألفاظهم وهم متفقون على هذا وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا فهم معناه جازت روايته بالمعنى عند الجمهور ومن منعه فإنما منعه خوفاً من تقصير المبلغ في أداء المعنى الذي أراده وأما مع العلم بالمعنى فلا ريب فيه

وقد اتفق المسلمون على أن القرآن والحديث يترجم بغير لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم وغير لغته لمن احتاج إلى ترجمته ممن لا يعرف بالعربية بل وللعربي الذي لا يعرف لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين معانيه لمن يعرف لغته ولكن ليس هو من أهل العلم بخصائص كلامه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما التفسير أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعرفه العلماء وتفسير لا يعلمه

إلا الله تعالى فعامة الأمة يعلمون معاني القرآن الظاهرة المنقولة بالتواتر من غير حاجة إلى شيء من تلك المقدمات وهو يسألون عن معاني القرآن والحديث ليفهموها ويعرفوها وإن كانوا لا يحفظون لفظ الحديث ولكن قد عرفوا معناه فيفتون به ولهذا قال أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهما معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلينا من حفظه فاهتمامهم بفهم المعنى أعظم من اهتمامهم باللفظ وإذا كان كذلك كانت معرفته ونقله أبلغ من معرفة اللفظ وإذا كان لفظ

القرآن وكثير من الحديث منقولاً بالتواتر فنقل المعنى أولى ولهذا الوجه والذي قبله إذا سمعت الأمة عوامها وخواصها قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 97] علموا أن المراد البيت الذي بمكة وأن الحج هو الأعمال المشروعة وأكثرهم لا يحفظ هذه الآية الوجه الرابع أن أهل العلم بالكتاب والحديث قد نفلوا لغة الرسول صلى الله عليه وسلم التي خاطبنا بها ولم يحتج مع ذلك إلى نقل لغة أحد غير الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يحتاج علماء الدين إلى أهل اللغة في فهم القرآن والحديث إلا في مواضع يسيرة يحتاج بعضهم إليها كألفاظ غريب القرآن والحديث والفقه ومعانيها فلا يحتاجون في ذلك إلى نقل أهل اللغة وإن احتاج إلى ذلك بعضهم أو ذكر ذلك على سبيل الاستشهاد والاعتبار كما يقوى الدليل بالدليل فكل ما احتاج المسلمون إلى نقله من لغة القرآن فهم يتبعون عندهم نقلاً معلوماً مقطوعاً به إلا مواضع قليلة خفيت على بعضهم فصارت عنده

مظنونة أو مجهولة الوجه الخامس أن قوله إنه موقوف على نفي المجاز والاشتراك والإضمار والتخصيص وقد يقول والنقل فيقال هذا تكثير للمقدمات من غير حاجة فهو كما لو قيل موقوف على نفي مجاز الزيادة والنقص والاستعارة فهذا تكثير بلا فائدة بل يكفي أن يقال على نفي احتمال آخر للفظ سواء احتمل ذلك بطريق المجاز أو الاشتراك أو الإضمار والتخصيص نوع من المجاز فإن اللفظ إما أن تكون دلالته على المعنيين سواء فهو المشترك وإما أن يكون هو بمجرده يدل على معنى وبالقرينة يدل على معنى آخر وهو المجاز وهذا على رأي من يقول إن في اللغة مجازاً وأما من نفى ذلك وقالا ما ثم إلا دلالة مطلقة أو مقيدة به فالمطلق مقيد بالإطلاق والمقيد مقيد بالقيد اللفظي كما يقول إن صيغة الأمر والنهي والعموم تدل عند تجردها على معنى الأمر والنهي والاستغراق ومع القرينة على التخصيص أو التهديد وبتجردها عن القرينة المخصصة إلى قرينة تبين المراد فإذا قيل اللفظ المجازي ما دل مع القرينة

والحقيقة ما دل بمجرده قيل إن يُعن التجريد والإطلاق من كل وجه فما في ألفاظ الكلام ما هو كذلك بل كلها مقترنة بغيرها فإن الكلام إما جملة اسمية وإما جملة فعلية وكل منهما أقل ما يأتلف من لفظين مفردين وكل منهما مقترن بالآخر ليس واحد منهما مجرداً مطلقاً عن جميع القرائن وإن عنى بالتجريد والإطلاق أن يكون مجرداً عن بعض القرائن فهذا حق وجميع الكلام يدل مع قرينة على معنى ومع عدمها وقرينة أخرى على معنى آخر حتى لفظ الإنسان فإنه يقال إنسان العين والألفاظ التي هي صريحة في الأحكام مثل لفظ الطلاق والنكاح وغيرهما قد يقترن بها ألفاظ تزيل دلالتها باتفاق المسلمين كما إذا قيل أنت طالق من وثاق فهذا لا يقع به الطلاق بالاتفاق أو قال يا دنيا غري غيري قد طلقتك ثلاثاً أو قال ودي من ودك طالق فهذا لا تطلق به الزوجة باتفاق المسلمين والكلام على مسمى الحقيقة مبسوط في مواضع أخر

والذي لابد منه أن اللفظ إذا ما دل على معنى دلالة فلابد أن ينفي احتماله لغير ذلك المعنى وإذا جاز أن يراد به ذلك المعنى الآخر النافي لهذا المعنى لم تكن دلالته قطعية لكن إذا علم المراد قطعاً علم دلالة الفظ عليه ثم ذلك المعنى الآخر إن لم يكن منافياً لهذا المعنى لم تضر دلالة اللفظ عليه إذ دل عليهما جميعاً وأما إن نافى هذه الدلالة كان ضدًّا للمعنى المراد ومعلوم أن العلم بثبوت أحد الضدين ينفي العلم بثبوت الآخر فنفس العلم بالمراد ينفي كل احتمال يناقض كل ذلك وهكذا الكلام في نفي المعارض العقلي والسمعي فإنه إذا علم المراد علم قطعاً أنه لا ينفيه دليل آخر لا سمعي ولا عقلي لأن ذلك نقيض له وإذا علم ثبوت الشيء علم انتفاء نقيضه قطعاً فحاصل كلامه ثلاث مقدمات أنه موقوف على ما يدل على المراد وعلى ما ينفي ضده ونقيضه فيقال الدال على المراد يستلزم الدلالة على ضده ونقيضه فلا يحتاج إلا إلى العلم بالمراد فقط والعلم بالمراد كثيراً ما يكون علماً اضطراريًّا كالعلم بمجرد الأخبار المتواترة فإن الإنسان إذا سمع

مخبرًا يخبر بأمر قد يحصل عنده ظن ثم يقوى بالخبر الآخر حتى يكون علمًا ضروريًّا وكذلك إذا سمع كلام المتكلم فقد يعلم مراده ابتداء وقد يظنه ثم يتكرر كلام المتكلم أو يتكرر سماعه له ولما يدل على مراده فيصير علمه بمراده ضروريّا وقد يكون العلم بالمراد استدلاليّا نظريّا وحينئذ فذلك يتوقف على مقدمة واحدة وقد يتوقف على مقدمتين وعلى أكثر أما دعوى المدعي أن كل استدلال بدليل لفظي على مراد المتكلم يتوقف على عشر مقدمات فهذا باطل قطعاً وأبطل منه أن كل مقدمة فهي ظنية بل عامة المقدمات التي يتوقف عليها فهم ومراد المتكلم وقد تكون قطعية في غالب الأمر لمن تدبر ذلك فإن قيل إذا كان المراد قد بينه المتكلم بغير ذلك اللفظ ونقل عنه متواتراً لم يكن مستفاداً من اللفظ بل يكون مستفاداً من ذلك النقل قيل لهم نقلوا المراد ونقلوا أنه هو المراد باللفظ وأن اللفظ دال عليه كما نقلوا وجوب الحج وأن وجوبه مراد بقوله

تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 97] وأنه أريد بهذا اللفظ وجوب حج البيت الذي بمكة وكذلك قوله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة 185] وقوله تعالى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة 43] ونحو ذلك فإذا سمع هذا اللفظ علم قطعاً أنه أريد به هذا المعنى كما علم أن هذا المعنى قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده فكلاهما معلوم قطعاً فلو قال قائل أنا أوجب الحج وصيام شهر رمضان فإن ذلك منقول بالتواتر لكن أقول صيام رمضان المراد به موالاة ثلاثين رجلاً وحج البيت المراد به حج بيوت العلم والحكمة والمراد به صلاة الجمعة كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار وأيضاً فإذا عُرّف ما أريد باللفظ ابتداء من لم يعرف معناه فيطلب معرفة معناه فيفسر له بالمعنى المعلوم المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا سمع اللفظ ذكره ما أمر الله تعالى به وما اخبر به فيذكر ما أوجب الله تعالى عليه وما أخبر الله تعالى به ليفعل هذا ويصدق هذا ونحن لا ننكر أن بعض الناس قد يتوقف فهمه لبعض الألفاظ على ما ذكره من المقدمات الظنية لكن المنكر دعواه العموم والغلبة فإن

غالب آيات القرآن في حق غالب الناس لا يتوقف على عشر مقدمات ظنية كما ذكره بل هذا من أظهر البهتان وإن قدر إن بعض الآيات يتوقف على هذا في حق بعض الناس فذلك لقوة جهله وبعده عن معرفة الرسول وما جاء به كمن يكون حديث عهد بالإسلام أو قد نشأ ببادية بعيدة عن دار العلم والإيمان فإنه قد لا يعرف أن الله تعالى أوجب الحج والصيام بل ولا الصلاة ولا حرم الخمر فلا يجعل هذا حكماً في حق غالب المسلمين كذلك إذا قُدر أن بعض الناس لم يحصل له علم بمعنى بعض الآيات إلا لتوقف ذلك على أدلة ظنية في حقه لم يلزم أن لا يحصل العلم بها وبغالب القرآن لغيره وإن قُدر أنه لم يحصل لم يجز أن يقال إن العلم بالمراد غير ممكن كما قال هذا القائل إن شيئاً من الأدلة اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيّا فنفي إمكان القطع عن شيء من الألفاظ وهذا أشد فساداً من أن يقال إن شيئاً من الأدلة العقلية لا يمكن أن يكون قطعيّا لأن العلم بمراد المتكلم أظهر

وأنشر وليس المراد بكون الدليل العقلي والسمعي قطعيّا إلا كونه يدل على مراد المتكلم ثم المتكلم إن كان ممن يعلم أن مراده حق وأنهم معصومون من الكذب عمداً وخطأً فيما يبلغونه ويخبرون به عن الله تعالى وهم قد أخبروا عن الله تعالى بهذا المعنى الذي أراده فحينئذ نقطع بأن هذا حق في نفس الأمر وأما إن لم يكن المتكلم كذلك بل يجوز عليه الخطأ فإنا نقطع بمراده لا لكونه صواباً وحقًّا وأيضاً فالأدلة السمعية تدل بطريقتين تارة تدل بمجرد الخبر فإن ما أخبر به الصادق المصدوق لا يكون إلا حقًّا وتارة يكون قد بين الأدلة العقلية التي تدل على ما أخبر به أو على إمكانه والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله تعالى الدالة عليه وعلى وحدانيته وعلى علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته والدالة على أمره ونهيه وإباحته ووعده ووعيده وكذلك ما يخلقه من

الآيات العيانية فإنها تدل على نفسه وخلقه وقدرته ومشيئته وتدل أيضاً على أمره ونهيه وحبه وبغضه وسخطه ورضاه كما تدل عقوباته للمكذبين للأنبياء على أمره لهم بالإيمان بالأنبياء ومحبة ذلك وعلى نهيه عن تكذيبهم وبغضه لذلك فالآيات المخلوقة العيانية تدل على قدرته وعلى شرعه لهم وعلى خلقه وعلى أمره وكذلك الآيات المنزلة المسموعة القرآنية تدل على هذا وعلى هذا وقد دل بهذه الآيات القولية على الاستدلال بتلك الآيات العيانية العقلية فإنه يدل على الدلائل العقلية والسمعية كلاهما وإذا فهمما دل عليه من الدلائل العقلية وعرفت دلالتها على المطلوب بمجرد العقل وإن لم يخبر بها النص كان هذا دليلاً عقليًّا قطعيّا وكان مستفاداً من الأدلة السمعية واللفظية لكونها هي التي دلت عليه وأرشدت إليه ونبهت عليه وإذا كان هذا موجوداً مما يستفاد من كلام المخلوقين فما يستفاد من كلام الخالق أعظم وأعلى والله تعالى أعلم

وقد تبين في غير موضع أن هؤلاء المتكلمين الجهمية والمتفلسفة الدهرية ليس معهم أدلة عقلية تعارض القرآن وتقوم مقام القرآن فما سلكوه في إثبات الصانع وصفاته طرق فاسدة لا تغني عن أدلة القرآن العقلية الدالة على ذلك فضلاً عن أن تعارضها وهذا أحد ما يبين به فساد ما يذكرونه من تقديم مثل هذه الأدلة على دلالة القرآن عقليها وخبريها ولا ريب أن طريقهم فيه من النفاق والإلحاد والجهل ما يطول وصفه ولذلك قال الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره علماء الكلام زنادقة وكان الذين يشيرون إليهم خيراً من هذا وأمثاله وكذلك قال الشافعي لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا

الإشراك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام في الأحداث وقال حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة والشافعي أشار إلى كلام حفص الفرد وأمثاله وكان على طريقة ضرار بن عمرو وأحمد أشار إلى كلام هذا وأمثاله فإنه كان أفضل من ناظر وأبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وهو من أتباع

حسين النجار وكلام أولئك خير من كلام هؤلاء الذين جمعوا إلى تعطيل أولئك إلحاد الفلاسفة مع أن أولئك لم يظهروا كل ما في قلوبهم للأئمة فالجهمية لم تكن تظهر لهم لا داخل العالم ولا خارجه وإنما أظهروا أنه في كل مكان فالأئمة استعظموا ما أظهروه فكيف ما أبطنوه والذي أبطنه أولئك هو خير من قول الملاحدة الذين جمعوا بين أقوال الجهمية والفلاسفة الدهرية وقد كان الثقة يحدث عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه لما رأى

قوله إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين لعنه على ذلك وقال هذا تعطيل الإسلام وقد بسط هذا في مواضع والمقصود هنا أن يتبين أن دعواه أن كل دليل سمعي موقوف على مقدمات ظنية دعوى باطلة معلوم فسادها بالاضطرار ولو صح هذا لكان لا يجزم أحد بمراد أحد ولكان العلم بمراد كل متكلم لا يكون إلا ظنًّا وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار وإذا كان آحاد العامة قد بين مراده بكلامه حتى يقطع بمراده فالعلماء أولى بذلك وإذا كان العلماء المصنفون في العلوم يقطع بمرادهم في أكثر ما يقولونه كما يقطع بمراد الفقهاء والأطباء والحُسّاب وغيرهم فالرسول الذي هو أكمل الخلق علماً وبياناً ونصحاً أولى أن يبين مراده ويقطع به وكلام الله تعالى أكمل من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأكمل بياناً فهو أولى

بالقطع بمراد الرب فيه من كلام كل أحد ومعاني الكلام منقولة بالتواتر معلومة بالاضطرار أعظم من ألفاظه والمسلمون كلهم يعلمون بالاضطرار أن الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس في الوضوء وبالاغتسال من الجنابة وبالتيمم وأن الله تعالى أمر بالصلاة إلى الكعبة وأمر بالحج إلى البيت الذي بمكة والطواف به والتعريف بعرفات وصوم شهر رمضان وامتناع الصائم من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك من معاني القرآن وأكثرهم لا يحفظون حروف القرآن فمعانيه التي دلت عليها هي معلومة عندهم بالاضطرار منقولة بالتواتر أعظم من العلم بألفاظه الدالة على تلك المعاني ولا يحتاجون في ذلك إلى نقل اللغة ولا نفي المعارض بل الأمر موقوف على مقدمة واحدة وهو العلم بمراد المتكلم وهذا قد يعلم اضطراراً وقد يعلم بأدلة قطعية وقد يكون ظنًّا كذلك العلم بما أخبر له الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الرب وصفاته ومن اليوم الآخر كثير منه أو أكثره معلوم عند الأمة اضطراراً نقلاً متواتراً

وإن كان أكثرهم لا يحفظون حروفه وإذا سمعوا حروفه علموا قطعاً أنها دالة على تلك المعاني المعلومة عندهم كما إذا سمعوا قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 97] علموا أن المراد بلفظ البيت البيت الذي بمكة وإذا سمعوا شهر رمضان علموا أن المراد بهذا اللفظ بالشهر التاسع الذي بين شعبان وشوال وإذا سمعوا خلق السموات والأرض علموا أن المراد بذلك أنه هو الذي أحدثهما وابتدأهما وأنشأهما لا أنهما قديمتان ملازمتان له وإذا سمعوا قوله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة 73] وقوله كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) [فاطر 9] علموا أن المراد بذلك إحياء الموتى للقيامة وإذا سمعوا قوله تعالى وتقدس إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] علموا أن ذلك معنى أنه سميع بصير وأمثال ذلك كثير الوجه السادس عشر أن هذا القول مضمونه جحد

الرسالة في الحقيقة وإن أقر بها بلسانه بل مضمونه أن ترك الناس بلا رسول يرسل إليهم خير من أن يرسل إليهم الرسول وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهتد به أحد في أصول الدين بل ضل به الناس وإنما اهتدوا بعقلهم الذي لم يحتاجوا فيه إلى الرسول وذلك أن القرآن على ما زعمه هؤلاء لا يستفاد منه علم ولا حجة بل إذا علم بالعقل شيء اعتقد ثم القرآن إن كان موافقاً لذلك أقر لكونه معلوماً بذلك الدليل الذي استنبطناه لا لكون الرسول أخبر به ولا لكونه أرشد إلى دليل عقلي يدل عليه وإن كان الظاهر مخالفاً للعقل اتبعنا العقل وكان ذلك الظاهر وجوده كعدمه إما نصًّا وإما ظاهراً فاحتاجوا إما إلى التأويل وإما إلى التفويض لئلا يضلوا وغيرهم ضل باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم مقتضياً لضلال قوم فكانت الطائفتان

بسببه في ضلال وسعر وإنما اهتدوا بعقلهم الذي لم يحتاجوا فيه إلى الرسول فهذا حقيقة قول هؤلاء الملحدين وسيأتي اعترافه بهذا وجوابه عنه بجواب الملحدين الوجه السابع عشر أن هذا وأمثاله يتناقضون فتارة يقول نحن نعلم انتفاء الظاهر لكن لا نعلم المراد وتارة يقول بل الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب العامة بما يوافق ما عندهم فلو خاطبهم ابتداء بإثبات ما ليس بجسم ولا متحيز ولا يشار إليه قالوا هذا عدم محض فوقعوا في التعطيل فكان الصلح أن يأتي بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما لزمهم وهذا كلام من يريد من العامة فهم تلك المعاني وهي باطلة في نفس الأمر عند هؤلاء وعلى هذا فقد أراد

منهم فهم الباطل الذي دل عليه بلفظه وهذه طريقة أهل التخييل الذين يقولون أرادوا أن يتخيلوا ما ينفعهم وإن لم يكن حقًّا وطريقة أهل التأويل نفي إرادة هذا المعنى والجهل بما أراد وهذا يناقض هذا وهذا وأمثاله يتناقضون فتارة يجعلونه هكذا وتارة هكذا في كلا الأمرين على الباطل وقد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يريد المعاني الباطلة أو أن يقصر في بيان ما أراده فالأول كذب وإضلال وتلبيس وإظهار ما هو كذب وإن قيل إنه لم يقصد الكذب بل الرسول كما أنه أعلم اخلق بالحق فهو أنصحهم لهم وأعظمهم رغبة في تعريفهم وتعليمهم وهداهم وهو أحسنهم بياناً وأتمهم برهانا قال تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى

المتشابه في القرآن نوعان

اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى 52-53] وقال تعالى فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) [النمل 79] وقال تعالى قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف 108] فإن قيل فإذا كان ما ذكره فاسداً لا يحصل به الفرق بل هو عزل القرآن بالكلية فما الفرق بين المحكم والمتشابه قيل المتشابه نوعان أحدهما ما يكون بسبب المستمع لقصور منه أو تقصير فهذا لا يختص بنوع من الكلام بل قد يعرض في جميع أنواعه لكن ما يكون فيه من التشابه يكون هذا فيه أقوى فإنه يبقى التشابه من الطرفين وصاحب هذا المقام هو مأمور أن يعمل بما تبين له معناه ويؤمن بما اشتبه عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه رحمهما الله تعالى وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن

أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أما وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حَجْرة إذا ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول بهذا أمرتم بهذا هلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً فما

عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتبعوا ما تبين لكم من الكتاب وما لا فدعوه وإذا كان القرآن نزل يصدق بعضه بعضاً فمن الممتنع أن يكون فيه تناقض واختلاف تضاد فمن فهم آية فآمن بها وظن أن الأخرى تناقضها فليعلم أنه مبطل في ذلك وأن معنى الأخرى يوافقها لا يخالفها وإن لم يفهم معنى الآيتين آمن بهما ووكل علمهما إلى الله تعالى وأما التشابه الذي يكون في نفس الآية فهذا لا يكون إلا مقرونا بالإحكام والبيان والهدى فإن الله تعالى قد أحكم كتابه كله وبينه وجعله هدى وأمر بتدبره لكن من الآيات ما لا اشتباه

فيه بوجه ومنها ما فيه اشتباه من بعض الوجوه وإن كان ذلك مع الإحكام والبيان مثل لفظ إنا ونحن ونحو ذلك وكل آية فقد أراد الله تعالى وتقدس بها معنى وعلى ذلك المعنى دل فلا يجوز أن تكون دلالة القرآن على ما أراده الرب تعالى وعناه وعلى غيره سواء بل هذا لا يجوز في كلام آحاد العلماء فكيف في كلام رب العالمين وإذا كان القرآن لا تناقض في دلالته فالمذهبان إن كان القرآن دل عليهما فكلاهما حق كقول من يقول إن العبد فاعل لفعله وقول من يقول إن الله تعالى هو الذي جعله فاعلاً فكلاهما حق والقرآن قد دل على هذا ولى هذا فأخبر أن العباد فاعلون وأنهم هم الذين يكفرون ويؤمنون ويعملون وقال الخليل وابنه عليهما الصلاة والسلام رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ [البقرة 128] ونحو ذلك وقال رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ

ذُرِّيَّتِي [إبراهيم 40] وأمر عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم ونحو ذلك وإن كان كلاهما باطلاً فالقرآن ينفيهما جميعا كقول من يقول إن العبد لا قدرة له ولا مشيئة ولا فعل وقول من يقول بل هو الذي يخلق فعله دون الله فالقرآن ينفي هذا وهذا بل نفس الآيات إذا كانت دالة على ما يقول فهي تدل كما يدل أمثال ذلك من الكلام والأدلة وإلا لم تدل ودلالة الكلام على المراد تعرف تارة بالضرورة وتارة بالاستدلال ويستدل على ذلك بما نقله الأئمة وبما كان يقوله السلف يفسرون به القرآن بدلالة السنة وبدلالة سائر الآيات وغير ذلك كما أن النصارى لما ادعوا أن قوله إنا ونحن تدل على قولهم إن الآلهة ثلاثة وقالوا في قوله تعالى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة 133] أن الآلهة ثلاثة كان في هذا تشابه فإن لفظ نحن يستعمل في الواحد الذي له شركاء وفي الواحد المعظم المطاع الذي له مماليك تطيعه والعطف يكون لتغاير الصفات ويكون لتغاير الذوات فهو أمر متشابه والمحكم في القرآن كقوله تعالى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة 163] وقوله تعالى وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل 51] وقوله تعالى أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ

مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام 19] وقوله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء 110] وقوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة 73] وأمثال ذلك فيرد إليه المتشابه ويعلم أن قوله إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة 133] عطف لتغاير الصفات كقوله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وكقوله تعالى رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) [الدخان 7-8] وقوله تعالى إنا ونحن لعظمة الرب تعالى وان ما سواه مخلوق مملوك له من الملائكة وغيرهم فهو أحق بنون العظمة ممن استعمل هذا اللفظ فيه من الملوك وإن كان اللفظ نفسه لا اشتباه فيه وإذا اشتبه على هذا لقصور فهمه بُيّن له ذلك بنظائره ولهذا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يسمون ما أشكل على بعض الناس حتى فهم منه غير المراد متشابهاً

كما صنف الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتاباً في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله فهو لم ينكر عليهم مسمى التأويل بل إنه أنكر أن يتأولوه على غير متأوله وهو التأويل الباطل والمراد بالتأويل التفسير وليس المراد صرفه إلى الاحتمال المرجوح وقوله فيما شكّت فيه من متشابه القرآن هو ما تشابه عليها وإن كان الله تعالى قد أحكم ذلك وبينه لكن

لقصورهم وتقصيرهم تشابه عليهم حتى شكوا فيه فهذا هذا والله تعالى أعلم الوجه الثامن عشر أن هذا القول في تأويل القرآن ومعناه يضاهي قول المشركين في تنزيل القرآن ولفظه ومعناه ولا ريب أن المقصود من الألفاظ هو المعنى فمن وافق المشركين في معاني القرآن على ما قالوه فإنما آمن بلفظ فقط فهو منافق يظهر الإسلام بلفظه به دون قلبه من جنس الذين قال الله تعالى فيهم إنهم يقولون للرسل نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون 1] قال الله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) [المنافقون 1] ومن جنس الذين قالوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ

قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) [البقرة 8-13] وإذا لقوا الآيات ونظائرها وذلك أن المشركين وكل من كذب لما كذّبوا بأن القرآن منزل من الله وكذّبوا الرسول بما جاء به حادوا واختلفوا ماذا يقولون في الكتاب والرسول وقالوا أقوالا متناقضة يظهر فسادها لكل من تأملها وآخرون منهم لما رأوا هذه الأقوال متناقضة أمسكوا عنها فلم يقولوا شيئا منها لكنهم اقتصروا على تكذيب القرآن والرسول لما زعموا أنه قام عندهم أدلة تدل على أنه ليس برسول الله ولا القرآن منزل من الله تعالى فعلموا بموجب تلك الأدلة ثم بعد ذلك قالوا فليكن أي شيء كان وليس علينا تعيين ما هو فهكذا الذين جوزوا معاني القرآن التي أرادها الله تعالى ورسوله بالكتاب والسنة صاروا في القرآن والحديث حزبين حزباً يحملون كلام الله ورسوله على معان أخر يظهر للمتأمل أن الله لم يردها ولا هي معنى كلامه وقال آخرون يكفينا أن تنفى تلك المعاني وبعد

هذا فليدل القرآن والحديث على أي شيء دل ليس علينا أن نعرف ما دل عليه فهم مشتركون في جحد المعاني التي أرادها الله تعالى ورسوله ثم ادعى بعضهم معاني أنها هي المرادة والاعتبار بين أنها ليست مرادة فالذي أراده الله تعالى ورسوله جحدوه وقالوا إن الدليل عندنا بنفيه والذي حملوا عليه كلام الله ورسوله لم يرده الله تعالى ولا رسوله فقال آخرون نحن نوافقكم على جحد ما جحدتموه من تلك المعاني وأما ما فسرتم به القرآن والحديث فقد ظهر بطلانه أيضا فنحن نعرض عن تدبر القرآن والحديث وفهم معناه ولا يضرنا بعد ذلك دلالته على أي شيء دل فهؤلاء يأمرون بالجحد لمعاني التنزيل وبالجهل البسيط في تفسير القرآن وتأويله وأولئك يأتون بالجهل المركب في التفسير والتأويل فهؤلاء كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] وأولئك كظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور 40]

وأهل العلم والإيمان الذين أوتوا القرآن والإيمان هم كما قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) [النور 35] فإن هذا النور هو نور الإيمان والقرآن جميعا كما قال تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى 52-53] وبذلك فسره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم كما روى عبد بن حميد حدثنا عبد الله بن يوسف عن أبي

جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] قال بدأ بنور نفسه فذكره ثم ذكر نور المؤمنين فقال مثل نوره أي مثل نور المؤمن قال ولذلك كان أبي يقرؤها مثل نور المؤمن قال هو عند جعل الإيمان والقرآن في صدره قال المشكاة قال صدره فيها مصباح فالمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره قال الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ قال فالزجاجة قلبه قال الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ قال فقلبه بما استنار بالقرآن والإيمان كأنه كوكب دري يقول يضيء يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ

مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ قال الشجرة الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له قلت هذا نظير الحديث المأثور من أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وهو معروف من مراسيل مكحول وقد ذكره أحمد بن حنبل وغيره وقد روي

متصلاً بإسناد فيه مقال قال لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ قال فمثله كمثل الشجرة التفت بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هو المؤمن قد أخبر أنه يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله تعالى فيها وهو بين أربع خلال عن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات قال نُورٌ عَلَى نُورٍ فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة ثم ضرب مثل الكافر فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] قال فكذلك الكافر يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيراً فلا يجده فيدخله الله النار قال وضرب الله تعالى مثلا آخر للكافر

فقال أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور 40] قال هو يتقلب في خمس من الظلمة فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمات إلى النار وهذا قد رواه عامة من صنف في التفسير كما رواه ابن أبي حاتم وروي أيضا عن السدي فيها مصباح قال المصباح النور والإيمان والقرآن قال والزجاجة هي القلب والمشكاة هي الصدر فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء فكذلك أضاء القلب فأضاء البيت فكذلك نزل النور في الصدر فأضاء به الجوف كله فلم يدخله حرام نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ قال السدي نور النار ونور الزيت حيث اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحب فكذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه وفي كلام طائفة من السلف أن النور نور القرآن وفي كلام

من يجحد معاني القرآن التي أرادها الله به

طائفة أخرى أنه نور الإيمان والنور يعمهما جميعاً كما قال تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا [الشورى 52] كما أن في كلام طائفة من السلف أنهم جعلوا هذا مثلا للنبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام الأكثرين أنه مثل لكل مؤمن والجميع صحيح فمحمد صلى الله عليه وسلم سيدهم وإمامهم وما فيه من وصف الشجرة بأنها بين الشجر هي قول طائفة وطائفة أخرى قالوا بل هي في الصحراء لا تزال الشمس عليها وهو أصفى الزيت وقيل بل هي متوسطة تطلع عليها وقت الطلوع والغروب وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن من كان يجحد معاني القرآن التي أرادها الله تعالى به فإنه لا يحصل له هذا النور لا نور القرآن ولا نور الإيمان فتلك الأنوار المعاني الشريفة ثم إذا جحدها كان في ظلمة الجحود والتعطيل ومن فسرها بغير المراد كان مثله كظلمات في بحر لجي ومن لم يعرفها ولا قال شيئا فهو كسراب بقيعة وهذا وإن كان عمومه يتناول من كذب بمعاني

القرآن التي جاءت بها الرسل كالملاحدة فمن كذب ببعضها وجحده فله نصيب من ذلك بحسب ما كذب به وجحده وإن كان له نصيب من الإيمان ببعضها من وجه آخر فقد يجتمع في الرجل شعبة إيمان وشعبة نفاق كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة

الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وكذلك أهل التكذيب بالقرآن والرسول اختلفوا فيه فقيل ساحر وقيل مجنون وقيل شاعر وقيل كاهن كما قيل في القرآن إنه سحر وإنه شعر وإنه أساطير الأولين اكتتبها وإنه إفك افتراه فجعلوا القرآن عضين قال تبارك وتعالى تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا

وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) [الفرقان 1-9] وكذلك قال تعالى وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) [الإسراء 45-48] فهم لما جحدوا الحق أرادوا أن يشبهوه ويجعلوه من جنس السحر أو الشعر أو الكذب أو غير ذلك فكانوا ضالين لا يستطيعون مع هذا الضلال سبيلاً من السبل الهادية كالتائه عن الطريق الذي

اختلاف السلف في بعض معاني القرآن

لا يستطيع معرفة وهكذا أهل الجحد لمعانيه منا قال فيهم الإمام أحمد رحمه الله فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب وقد قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) [البقرة 176] فإن قيل فقد اختلف السلف في بعض معانيه قيل السلف لم يكن فيهم من جعل عمدته في الباطن على شيء يخالف القرآن ثم القرآن إما أن يتأوله على هواه وإما أن يعرض عن معناه ويهجره كما قال تعالى عن الرسل وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)

[الفرقان 30] وهجر معانيه أعظم من هجر ألفاظه بل السلف كلهم كانوا مقرين بما تبين لهم منه وهو المحكم الذي هو أم الكتاب كذلك يشتبه على بعضهم بعضه فإما أن يعلم تفسيره ويعلم معناه الموافق لمعنى المحكم وإما أن لا يعلم لكنه يعلم أن معناه لا يناقض معنى نص المحكم فبكل حال لم يكونوا يجعلون غير الرسول صلى الله عليه وسلم معارضا له مقدما عليه آراؤهم وأهواؤهم وعقولهم ومقاييسهم وأذواقهم ولا كتابا آخر مخالفا له وأما أهل الإلحاد فيجعلون عقولهم ومقاييسهم وأذواقهم هي الأم والأصل الذي يعتمدون ثم القرآن إن وافق ذلك وإلا سلكوا فيه أحد المسلكين إما ضرب الأمثال الباطلة وإما هجره والإعراض عنه وقد اجتمعت للمكذبين للرسل من مشركي العرب وغيرهم كما أن من عارضه بكتاب آخر

لا يعرف عن أحد من السلف أنه عارض النصوص

وقدم ذلك عليه فهم من جنس اليهود والنصارى ومكذبو الرسل الذين يقدمون آراءهم على ما أنزل الله أسوأ حالاً وأضعف عقلاً وإيماناً وأشد كفراً من أهل الكتاب الذين يوجبون كتاباً آخر غير القرآن عليهم فإن هؤلاء من جنس من يحتج بنص منسوخ أو ضعيف الدلالة ولكن يظن أنه من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أو يعارض قوله بما يظن أنه معارض له من قوله وهذا مازال في الناس بخلاف من يعارض قوله بما يعلم أنه ليس من قوله وإنما هو قول غيره فهذا لم يؤمن بالرسول ولا بما جاء به ولهذا لم يُعرف عن أحد من السلف أنه عارض آية أو حديثاً إلا بما يظن أنه معنى آية أو حديث آخر سواء كان مصيباً في المعارضة أو مخطئاً فالمصيب الذي يعارض المنسوخ بالناسخ كما كان الصحابة ومن بعدهم من العلماء يقولون في قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة 184] دل على أن المقيم المطيق يخيّر بين الصيام والافتداء وهو منسوخ بقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ

فَلْيَصُمْهُ [البقرة 185] وهذا معلوم بالتواتر وإجماع الأمة أن الصيام واجب على المقيم القادر لا يخيّر بينه وبين الافتداء كما كان في أول الأمر وقد قال كثير من السلف هذه الآية ليست منسوخة وأرادوا أن فيها أحكاماً غير منسوخة كما قد يستدل بها على افتداء العاجز والمرضع والحامل لكن الحكم الأول قد اتفقوا على نسخه وقد يعارضون ما يفهم من آية بما يدل على نقيض ذلك المعنى ليبين أنه لم يفرد وقد يسمون هذا نسخاً كما عارض ابن مسعود وغيره عموم قوله تعالى في المتوفى عنها زوجها يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة 234] بأن سورة الطلاق وقد سماها سورة النساء القصرى نزلت بعد ذلك وفيها وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 4] وكان علي وابن عباس ومن اتبعهم رضي الله تعالى عنهم يقولون تعتد أبعد

الأجلين وكان عمر وابن مسعود وغيرهما يقولون إذا وضعت حلت وجاءت السنة الصحيحة بذلك في قصة سُبيعة الأسلمية لما توفي عنها زوجها سعد بن خولة عام حجة الوداع ووضعت بعده بليال وقال لها أبو السنابل بن بعكك ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعشراً فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذب أبو السنابل حللت فانكحي فاتفق

عامة العلماء على اتباع السنة وإن كان القرآن يدل على مثل ذلك لكن القرآن قد يخفى على الأكابر وأما السنة فصريحة لا تخفى على أحد بلغته وعائشة لما عارضت قوله إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه عارضت ذلك بقوله تعالى وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر 18] لم تعارضه بالمعقول وأن هذا ظلم ووافقها على

هذا كثير من العلماء وبعضهم رد الحديث كما اختاره الشافعي رحمه الله تعلى في مختلف الحديث وقال إن عائشة روت لفظين أحدهما يوافق هذا الحديث وهو قوله إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله

والثاني قوله إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها وبعضهم تأوله على ما هو ذنب للموصي والقول

الآخر وهو الصحيح وهو أنه لا منافاة بينهما وإن هذا التعذيب ليس هو حملاً لذنب لنائحة على غيرها بل ذنبها بالنياحة باق عليها ولا هو عقوبة للميت على نياحتها لكونه لم ينه عنها ونحو ذلك بل هذا من نوع الألم والأذى الذي يحصل بذلك كما يتأذى الميت بغير ذلك كما قد بسط في مواضع ولهذا قيل يعذب ولم يقل يعاقب والعذاب يقال في

مطلق الأذى كما روي إن السفر قطعة من العذاب وعارضه بعضهم بقوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) [النجم 43] كما نقل عن ابن عباس وهؤلاء يجعلون الإضحاك والإبكاء مما يفعله الرب تعالى كالإماتة والإحياء فلا ينهى عنه وهو ضعيف أيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت عنه الأحاديث بالنهي عن النياحة ونحوها من البكاء وقوله إن الله تعالى لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه

وقال ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودها بدعوى الجاهلية وقال أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة

وقال إن النائحة إذا لم تتب فإنها تلبس يوم القيامة درعاً من جرب وسربالاً من قطران وبايع النساء على أن لا ينحن وهو من تأويل قوله وَلَا يَعْصِينَكَ فِي

مَعْرُوفٍ [الممتحنة 12] وقد ذم سبحانه وتعالى الضحك ودعا إلى البكاء في هذه السورة التي قال تعالى فيها وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) [النجم 43] بقوله تعالى أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) [النجم 59-60] وكذلك لما عارضت قوله عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم

تلت قوله تعالى فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [الروم 52] ولما أنكرت رؤيته لربه تعالى تلت قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى 51] ولما ظنت أن القرآن يخالف ذلك نسبت الراوي إلى الغلط وإن كان أئمة الصحابة وجمهور علماء المسلمين على التصديق بالحديث وأنه لا منافاة بينه وبين القرآن فالمقصود أنه ليس من الصحابة من قال إن القرآن أو الخبر يخالف العقل والأدلة العقلية فالواجب أن يقول بموجب العقل والأدلة العقلية والقرآن إما أن يعرض عنه فيصير مهجوراً أو يتصور له التأويلات التي تتضمن تحريف الكلم عن مواضعه بل كلهم متفقون على تعظيم القرآن وأنه ما أول

إلا على حق وأنه هدى وبيان وشفاء وإن قصر فهم بعضهم عن بعض عرف أن ذلك من نقص فهمه وعلمه لا من نقص ما دل عليه القرآن ولا يجعلون إيمانهم بما دل عليه القرآن موقوفا على نفي المعارض بل قد تيقنوا على أنه لا يعارضه حق بل كل ما عارضه فهو باطل كشبه السوفسطائية والقرامطة التي يعارضون بها الأدلة العقلية والسمعية والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن ضرب القرآن بعضه ببعض فلا يجوز معارضة آية بآية للتصديق بمعنى إحداهما دون الأخرى بل يجب الإيمان به كله فكيف بمن عارضه بكتاب آخر فكيف بمن عارض جنس الأنبياء والكتب المنزلة من السماء بنا لم يأت به كتاب ألبتة بل كان مضاهياً الذين يجادلون في آيات الله لغير سلطان والذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فهؤلاء من جنس المكذبين للرسل المشركين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى من هذا الوجه

وأين هذا من قوله تعالى المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) [الأعراف 1-3] وإذا قال القائل الرسول صلى الله عليه وسلم إنما عرف صدقه بأدلة عقلية وأنه لابد له من الأدلة العقلية فهذا صحيح لكن تلك الأدلة العقلية التي بها يعرف صدق الرسل هي مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها القرآن على أحسن الوجوه وأكملها فالأدلة العقلية التي تستحق أن تسمى أدلة عقلية على المطالب العالية الإلهية وهي الإيمان بالرب تعالى والإيمان بكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح الذي به يسعد الناس وينجون من العذاب في الدنيا والآخرة قد دل عليه القرآن أحسن دلالة وبينه أحسن بيان بل ضرب الله في القرآن من كل مثل وجميع ما يذكره الناس في هذا الباب متكلمهم ومتفلسفهم ما كان فيه حقّا فقد جاء القرآن به وبأحسن منه على أكمل الوجوه بل ما جاءت به النبوات في التوراة والإنجيل من المطالب الإلهية جاء القرآن بها وما حرفها فكيف بالأمور التي تعرف بمجرد العقل من غير وحي من السماء في هذا الباب فإن معرفة هذه أيسر

فإذا كان القرآن قد اشتمل على معاني الكتب فكيف لا يشتمل على هذه وهذه الجملة لها تفصيل مبسوط في مواضع بل بين في مواضع أن ما سلكه أهل البدع من أهل الفلسفة والكلام لا يصلون إلى علم ويقين بل إنما غاية صاحبه الشك والضلال وهذا مما اعترفت به حذاقهم وممن اعترف به أبو عبد الله الرازي رحمه الله في غير موضع من كتبه ولفظه في بعضها لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) [طه 5] وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وأقرأ في النفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) [طه 110] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وهذا قاله في آخر عمره في آخر ما صنفه وهو كثير التناقض يقول القول ثم يرجع عنه ويقول في الآخر

قاعدة: تعارض الأدلة اليقينية ممتنع

ما يناقضه كما يوجد هذا في عامة كتبه تغمده الله برحمته وعفا عنه وسائر المؤمنين رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) [الحشر 10] وتوبته معروفة مشهورة وقد بسط هذا في مواضع وبيّن أنه يمتنع تعارض الأدلة اليقينية سواء كانت كلها عقلية أو كلها سمعية أو بعضها سمعي وبعضها عقلي فلا يجوز أن يكون أحد من الأنبياء أخبر بخلاف ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم فإن أخبار الأنبياء كلها صدق يجب الإيمان بها فكما لا يجوز أن تتناقض أخباره فلا يتناقض خبر نبي وخبر آخر وأما الأعمال والأصول الكلية فلا يختلفون بشيء منها كالأمر بتوحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له والأمر بإخلاص الدين له والأمر بالعدل وغير ذلك وكذلك النهي عن الفواحش وعن الظلم وعن الشرك

والقول على الله عز وجل بلا علم كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) [الأعراف 33] كما ذكر المأمور به في قوله تعالى قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف 29] وكما قد ذكر أصول الشرائع في آخر الأنعام وفي بني إسرائيل وغير ذلك وهذه الأمور مما اتفقت

عليها شرائع الأنبياء وأكثر المسلمين على أنها لا تقبل النسخ ولا يجوز أن يبعث نبي بخلافها ولا ينسخ منها شيء وأما الذين يجوزون على الله تعالى أن يأمر بكل شيء وينهى عن كل شيء فيجوزون النسخ في هذه وغيرها وبكل حال فلم يقع في شيء منها نسخ وإنما جاء النسخ في أمر يسير من فروع الشرائع كما قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة 48] كما شرع السبت لأهل التوراة وشرع لأهل القرآن

الجمعة وكما حرم عليهم كل ذي ظفر وشحم الثرب والكليتين وأحل لأهل القرآن جمع الطيبات وإنما حرم عليهم الخبائث ورفع الله تعالى عمن اتبعه من أهل الكتاب آصارهم والأغلال التي كانت عليهم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف 157] وكذلك الأدلة العقلية الخبرية والأدلة العقلية على حسن بعض الأشياء وقبح بعضها عند من يقول بذلك إذا كانت حقّا فإنها لا تناقض شيئاً مما جاءت به الرسل لا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا غيره ولا يجوز أن يخبر الرسل بشيء يعلم بالعقل الصريح امتناعه بل لا يجوز أن يخبروا بما لا يعلم بالعقل ثبوته فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول ويجوز أن يكون في بعض ما يخبرون به ما يعجز عقل بعض الناس

عن فهمه وتصوره فإن العقول متفاوتة وفي عظمة الرب تعالى وملكوته وآياته ومخلوقاته ما لا يستطيع الناس أو كثير منهم أن يروه في الدنيا أو يسمعوا صوته أو يتصوروه ويكفيك أن موسى عليه السلام مع عظم قدره لما تجلى ربه للجبل جعله دكّا وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) [الأعراف 143] ولكن كثير من الناس يظن بعقله أشياء ممتنعة ولا تكون ممتنعة كما يظن أشياء جائزة أو واجبة ولا تكون كذلك ولهذا عامة الطوائف بالعقليات توجب هذا أو تجوز ما يقول الآخر إنه ممتنع وكلاهما يزعم أن العقل دل على ذلك فلهذا كان من الناس من يظن أن المعقولات الصريحة تخالف ما جاء به القرآن والحديث الصحيح من إثبات معاني أسماء الله وصفاته كما يقول ذلك المعطلة الجهمية ومن يشاركهم في بعض ذلك فالذين نفوا علو الله على خلقه ونحو ذلك هم من هؤلاء والرازي في هذا الكتاب قد

العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح

يستوعب ما يحتج به طوائف النفاة من الحجج العقلية وقد تقدم بيان فساد ذلك جميعه من وجوه متعددة تبين أن جميع ما يعتمدون عليه من الحجج التي يسمونها براهين عقلية التي عارضوا بها ما جاء به القرآن والحديث باطلة وأن العقل الصريح موافق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يناقضه فالعقل الصريح لا يخالف النقل بل هو يوافقه ويعاضده ويؤيده ويكفينا أن نبين فساد ما يعارضه أما ذكر ما يوافقه من العقليات النظرية فهذا أبلغ وأحسن وقد تبين أن الفطرة العقلية الضرورية متوافقة والعقليات النظرية موافقة فالذين عارضوه هم خالفوا السمع والعقل فكانوا من جنس الذين قالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) [الملك 10]

فصل: نقل المؤلف عن الرازي مذهب السلف ومذهب المتكلمين في نصوص الصفات

فصل قال الرازي الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظاهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها وقال المتكلمون بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات والكلام على هذا من وجوه أحدها أنه لم يحك إلا قولين تحريم التأويل أو وجوبه وبقي القول بجوازه دون وجوبه وهو قول كثير من الناس ومنهم من يوجبه في حال دون حال ومنهم من يجوزه في حال دون حال ولبعض الناس دون بعض وأكثر القائلين بالتأويل هذا

مذهبهم لم يقولوا إنه واجب على الأعيان لكن قد يقولون إنه واجب على الكفاية الوجه الثاني أن مذهب السلف يعرف بنقل أقوالهم أو نقل من هو خبير بأقوالهم وما ذكره من العبارة لم ينقل عن أحد من السلف ولا نقله من يحكي إجماع السلف ونحن ذكرنا قطعة من أقوال السلف في هذا الباب وأقوال من يحكي مذاهبهم من جميع الطوائف في جواب الفتيا الحموية في الرد على الجهمية وغير ذلك ولكن ما ذكره هذا من مذهب السلف والتفويض إنما يعرض في كلام أبي حامد ونحوه ممن ليس لهم خبرة بكلام السلف رحمهم الله بل ولا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يميزون بين صحيح هذا وبين

ضعيفه ولكن ينقلون مذهب السلف بحسب اعتقادهم لا بأقوال السلف وما بينوه وقالوه في هذا الباب وأقوال السلف كثيرة مشهورة في كتب أهل الحديث والآثار الذين يرونها عنهم بالأسانيد المعروفة وكذلك في كتب التفسير وقد صنفوا في هذا الباب مصنفات كثيرة منها من يسمي مصنفه كتاب السنة ومنهم من يسميه الرد على الجهمية ومنهم من يسميه الشريعة ومنهم من يسميه الإبانة عن شريعة

الفرقة الناجية وفيها من الآثار الثابتة عن السلف التي بها تعرف مذاهبهم ما لا يحصى فمن لم تكن له معرفة بذلك مثل كثير من أهل الكلام هذا وأمثاله إذا نقلوا مذهب السلف مذهباً لا يعرفونه وعن قوم لا يعرفون ما قالوا ويضيفون إلى السلف ما هم بريئون منه ويكذب عليهم فيما ينقل عنهم كما يكذب على الرسول بتقويله ما لم يقله أو القول بلا علم وعلى القرآن بتحريف الكلم عن مواضعه وهذه حقيقة قول الملحدة وهو الافتراء على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين وقد قال تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) [الأعراف 33] وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) [الأعراف 152]

الوجه الثالث قوله عن مذهبهم إنه يجب القطع أن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها ويجب تفويض معناها إلى الله تعالى فيقال هذا الذي لا يعرف عن أحد من السلف رحمهم الله تعالى لا يعرف عن أحد منهم أنه قال يجب القطع بأن مراد الله منها غير ظاهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الرب تعالى بل المعروف عن السلف نفي تشبيهها ومماثلتها بصفات المخلوقين وإنكارهم على الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي ونزول كنزولي واستواء كاستوائي ونحو ذلك فهذا ثابت صريح عن غير واحد من السلف وأئمة السنة ولا يعرف عن أحد من السلف وأئمة الإسلام المعروفين أنه قال إن الله تعالى جسم أو جوهر أو متحيز ولا قال إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا قال هو في جهة ولا ليس في جهة فهذه الألفاظ نفياً وإثباتا لا توجد في القرآن والحديث ولا يوجد نفيها

ولا إثباتها في كلام أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين المعروفين بالإمامة في الدين كالأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وكسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم

ولا يعرف أيضاً عن أحد من السلف أنه قال إن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها فضلا عن أن يقول يجب القطع بشيء بل لفظ الظاهر مجمل فقد يراد بالظاهر ما يماثل صفات المخلوقين فهذا هو الذي نفاه السلف كما ذل الكتاب على معنى ذلك وكذلك العقل قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وقال تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 4] وقال تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) [مريم 65] فمن قال إذا استوى على العرش ك استواء الملك بحيث يكون محتاجاً إلى العرش فهذا تمثيل منكر فإن الله تعالى غني عن كل ما سواه والعرش وكل مخلوق مفتقر إلى الله تعالى من كل وجه وهو بقدرته يحمل العرش وحملته وكذلك من قال ينزل كنزول المخلوق بحيث يبقى تحت

العرش ويخلو منه العرش فهذا يقوله طائفة والسلف أنكروا ذلك كما أنكره حماد بن زيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما وقالوا إنه ينزل ولا يخلو منه العرش وهو فوق العرش وهو يقرب من خلقه كيف يشاء وكذلك من قال إنه في السماء بمعنى أن الأفلاك تحويه فمن قال إنها تحمل على الظاهر بهذا المعنى فهذا قوله قول باطل منكر عند السلف كما دل الكتاب والسنة على بطلانه وأما إذا قيل تحمل على الظاهر اللائق بجلال الله تعالى كما تحمل سائر الصفات مثل لفظ المشيئة والسمع والبصر والقدرة والعلم فإن مثبتة الصفات يحملون هذه على ظاهرها عند عامة المسلمين إلا الغلاة المنكرون للأسماء ومع هذا فليس مفهومها في حق الله تعالى مثل مفهومها في حق المخلوق بل هنا ثلاث اعتبارات أن تذكر مطلقة وأن تذكر مضافة إلى الرب وأن تذكر مضافة إلى العبد فإذا ذكرت مضافة إلى الرب مثل قوله تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة 255]

وقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) [الذاريات 58] وقوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر 7] وقوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف 156] ونحو ذلك فهنا يمتنع أن يدل على شيء من خصائص صفات المخلوقين وإذا ذكرت مضافة للعبد كقوله تعالى عن يعقوب وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف 68] وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم 54] وقوله وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 15] فهنا يمتنع أن يدخل فيها شيء من خصائص الرب تعالى وإذا ذكرت عامة مطلقة فقيل العلم ينقسم إلى علم الرب وعلم العبد والموجود ينقسم إلى القديم والحديث فاللفظ العام المطلق الذي هو مورد المعتبر به يدل على شيء من خصائص الرب تعالى ولا على خصائص العبد الوجه الرابع أن مذهب ـهم صريح في نقيض

ما ذكره وأنهم كانوا يقولون إن الله تعالى مستوٍ على العرش ويثبتون له الصفات الخبرية كما تواترت النقول عنهم بذلك بضد ما حكاه هذا وأمثاله عنهم والوجه الخامس فوله ثم يجب تفويض معناها إلى الرب تعالى لا يجوز تأويلها فيقال السلف فوضوا إلى الرب علم كيفيتها كما قال مالك وربيعة الاستواء معلوم والكيف مجهول وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم وأما فهم معناها وتفسيرها فلم يكن السلف ينكرونه ولا كانوا ينكرون التأويل بهذا المعنى وإنما أنكروا تأويلات أهل التعطيل التي هي تحريف الكلم عن مواضعه فكانوا ينكرون على من يتأول القرآن على غير تأويله كما صنف الإمام أحمد كتابه في الرد على من تأول القرآن كقوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] بمعنى أنه لا يرى

في الدنيا ولا في الآخرة وأنكروا على من تأول قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] بمعنى أنه كان فيهما وأنكروا على من تأول قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] على نفي الصفات فأنكروا التأويلات الباطلة مثل التأويلات التي ذكرها هذا وغيره فلم يكن التأويل في عرفهم هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بل كانوا يسمون التفسير تأويلاً وما يؤول إليه اللفظ تأويلاً وإن وافق ظاهره وينكرون تفسير القرآن والأحاديث بالتفسيرات الباطلة وهو التأويلات الباطلة

فصل: نقل المؤلف عن الرازي احتجاج السلف على صحة مذهبهم

فصل قال الرازي واحتج السلف على صحة مذهبهم بوجوه الأول بقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] والذي يدل على أن الوقف واجب وجوه فيقال لا ريب أن كثيراً من السلف كانوا يرون الوقف عند قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ويقول بعضهم انتهى علم الراسخين إلى أن يقولوا آمنا به همن هؤلاء

من يقول هذا ومنهم من يقول أيضاً إن الراسخين يعلمون التأويل والتأويل الذي نفي عن الراسخين غير الذي أثبت لكن ما عرف عن أحد من السلف أنه جعل هذا التأويل الذي لا يعلمه إلا الله أن تنفي دلالة الآيات والأحاديث عما دلت عليه من الصفات وإثبات تأويلات تخالف ما دلت عليه والقول بأن تلك التأويلات لا يعلمها إلا الله بل لم يعرف عن أحد من السلف أنه كان لفظ التأويل عنده صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح وإذا لم يكن هذا المعنى هو معنى لفظ التأويل عندهم فإذا قالوا لا يعلم تأويله إلا الله لم يكن هذا مرادهم كما حكاه هذا عنهم بل قد تقدم بعض أقوال السلف الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله أن التأويل عندهم هو التأويل في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف 53] وقوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 39] ومنه كيفية صفات الرب تعالى وكما قالوا الاستواء معلوم والكيف مجهول أو غير ذلك مما قالوه

وما علم أن أحداً منهم قال إن فسرت النصوص عما تدل عليه إلى معنى مرجوح من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله بل هذه التأويلات عندهم باطلة مردودة يعلم الله بطلانها لا يقال إنها حق لا يعلمه إلا الله بل نقول فيها ما قاله الله تعالى في الآلهة والأوثان وشفاعتها قال عز وجل وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) [يونس 18] وهذه التأويلات من جنس تأويلات القرامطة والملاحدة لا يقال فيها لا يعلمها إلا الله بل هي تأويلات باطلة يعلم الله أنها باطلة وقد بَيّن لعباده أنها باطلة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أن قول من قال إنه لا يعلم تأويله إلا الله يريد له السلف أن نصوص الصفات لا يفهم منها شيء بل يقطع أن مدلولها غير مراد والمراد لا يعلمه إلا الله فهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف بل أقوالهم صريحة بخلافه والله تعالى أعلم

§1/1