بيان المعاني

ملا حويش

[الجزء الأول]

[الجزء الأول] الجزء الأول من القسم المكي من تفسير القرآن العظيم المسمى بيان المعاني على مسب ترتيب النزول تأليف السيد عبد القادر ملّا حويش آل غازي العاني 1382 هـ- 1962 م مطبعة الترقي

خطبة الكتاب

[خطبة الكتاب] بسم الله الرّحمن الرّحيم «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي» أحمدك يا رب العالمين على ما أوليتني من النعم، وأشكرك يا أكرم الأكرمين على ما وفقتني لسلوك طريقك الأقوم، وأسألك يا مجيب السائلين إفاضة برّك وإحسانك، واستجديك إسبال سترك وعظيم امتنانك، وأرجو منك المعونة على ما قدمت عليه من التفسير، واللطف والعناية والتسهيل والتيسير، وأصلي وأسلم على مفتاح غيبك المكنون، وباب فتحك لأهل معرفتك المأمون، وعلى آله الذين آلوا بخير الأعمال، وأصحابه القائمين بما كان عليه من أفعال وأقوال، وأتباعه الذين صانوا دينه وشرعه المتين، فدام الاقتداء بهم وسيدوم إن شاء الله إلى يوم الدين. أما بعد فإن القرآن العظيم جمع ورتبت سوره وآياته في المصاحف التي بأيدينا طبق مراد الله تعالى بأمر من رسوله الأعظم، ودلالة من الأمين جبريل المكرم، وحينما تشاور الأصحاب رضي الله عنهم على نسخه على الوجه المذكور أراد الإمام علي كرم الله وجهه ترتيب آيه وسوره بحسب النزول، لا لأنه لم ير صحة ما أجمعوا عليه، ولا لأنه حاشاه لم يعلم أن ذلك توقيفي لا محل للاجتهاد فيه، بل أراد أن تعلم العامة تاريخ نزوله ومكانه وزمانه، وكيفية إنزاله، وأسباب تنزيله، ووقائعه وحوادثه، ومقدمه ومؤخره، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وما يسمى بناسخه ومنسوخه، بادىء الرأي، دون تكلف لمراجعة أو سؤال، ولمقاصد أخرى ستظهر

للقارىء بعد إن شاء الله. وكان مصحفه الذي نسخه على ترتيب النزول كما قاله الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله في إتقانه في بحث جمع القرآن ج 1 نقلا عن الامام ابن حجر وتخريج ابن أبي داود، ونقل مثل هذا عن محمد بن سيرين، ولهذا البحث صلة وسط المطلب العاشر الآتي. واعلم أن الخليفة عثمان رضيّ الله عنه ومن معه من الأصحاب انما لم يأخذ برأيه لأن السور والآيات كانت مرتبة ومجموعة على ما هو في المصاحف الآن، وهو أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه، وليعلم أن تفسيره على رأي الإمام علي كرم الله وجهه لا يشك أخذ بأنه كثير الفائدة عام النفع، لأن ترتيب النزول غير التلاوة، ولأن العلماء رحمهم الله لما فسروه على نمط المصاحف اضطروا لأن يشيروا لتلك الأسباب بعبارات مكررة، إذ بين ترتيبه في المصاحف وترتيبه بحسب النزول بعد يرمي للزوم التكرار بما أدى لضخامة تفاسيرهم، ومن هذا نشأ الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأخذ والرد فيما يتعلق فيهما، وقد علمت بالاستقراء أن أحدا لم يقدم تفسيره بمقتضى ما أشار إليه الإمام عليه السلام، ويكفي القارئ مؤنة تلك الاختلافات وتدوينها، ويعرفه كيفية نزوله ويوقفه على أسباب تنزيله، ويذيقه لذة معانيه وطعم اختصار مبانيه، بصورة سهلة يسرة موجزة خالية عن الرد والبدل، سالمة من الطعن والعلل، مصونة من الخطأ والزلل، فعن لي القيام بذلك، إذ لا مانع شرعي يحول دون ما هنالك، وأراني بهذا متبعا، لا مبتدعا، مؤملّا أن يكون عملي هذا سنة حسنة، فعزمت متوكلّا على الله تعالى الذي لا يخيب من رجاه، مستمدا من روحانية صفيه ومجتباه، على تفسيره على ذلك المنوال، لما رأيت فيه من الفوائد الجليلة التي ستقر بها عين القارئ إن شاء الله، مبينا أول ما نزل إلى الفترة والفترة، وسببها ومدتها وأول ما نزل بعدها، وسبب وتاريخ كل منه، ومكانه، وزمانه، وقصصه، وأخباره، وأمثاله، وأحكامه، والآيات المكررة وسبب التكرار، ونظائرها مما يناسبها باللفظ والمعنى والكلمات التي لم تكرر فيه (عدا ما كان بين صورة (ق) إلى (الحديد) وجزأي تبارك

وعمّ، لأن كثيرا من كلماتها لم تكرر لما هي عليه من السجع العجيب واللفظ الغريب) ، وما هو موافق لشرع من قبلنا منه والمخالف له، والمعمول به منه، والآيات المقيدة للمطلقة والمخصصة للعامة، وأنواع الأوامر والنواهي الواجبة والمندوبة والمخير فيها، ومعنى النسخ وحقيقته وماهيته والمراد منه، وخلاصة القصص المعقولة، والغزوات المرموقة. وتتميما للفائدة، أوردت فيه ما يناسب الآيات من الأحاديث والأخبار والأمثال بما يكفي الواعظ عن كتب كثيرة وجعلته في ثلاثة أجزاء، اثنين لما نزل في مكة المكرمة، وواحد لما نزل في المدينة المنورة، وبدأته بمقدمة تحتوي على اثني عشر مطلبا تشير إلى ما أودعته فيه من المآخذ والأصول والرموز، وختمته بخاتمة ترمي إلى ما كان فيه من الوقائع والحوادث. وحقا إن أهل هذا العصر بحاجة ماسّة إلى تفسير كذا جامع مانع جار على أسلوب حسن بسيط مختصر غزير كاف، يطلعهم على حقائق كتاب الله بصورة قد يستوي فيها الخاص والعام، وهذا غاية ما أقصده من المجيب السميع، ومنه المعونة والتوفيق إلى سواء الطريق، وسميته (بيان المعاني) وأنا الفقير إليه عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني. والله أسأل وبأنبيائه أتوسل أن ينفع به عباده، ويديم به الإفادة، ويوفقني لإكماله على الوجه الذي يرضيه راجيا ممن وقف على زلة أو عثرة أن يصلحها بكرمه، إذ ما منا إلا من ردّ وردّ عليه عدا من عصمه الله (على أنه إذا كان له رأي يخالف ما فيه أن يبينه على الهامش) ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ويثيبني عليه رضاءه ورؤيته في دار النعيم، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل. قال الإمام أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله في مقدمة نهايته المشهورة: (كل مبتدىء شيئا لم يسبق إليه، ومبتدع أمرا لم يقدّم فيه عليه فإنه يكون قليلا ثم يكثر، وصغيرا ثم يكبر. وعسى أن يصدق قوله في كتابي هذا. والله الموفق. وقد شرعت فيه صباح يوم الأربعاء أول شهر رجب الحرام سنة ألف وثلاثمائة وخمس وخمسين من هجرة سيد الأولين والآخرين، (والموافق 17 أيلول سنة 1936) وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم ومن تبعهم إلى يوم الدين.

[المقدمة]

[المقدمة] المطلب الاوّل في بيان مبادئ في التفسير اعلم وفقك الله، لما كان من الواجب صناعة على كل شارع في فن أن يبين مبادئه العشرة ليكون القارئ على بصيرة منه وهي المذكورة في قول الناظم رحمه الله: إن مبادي كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة وغاية ونسبة والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا 1- فحد علم التفسير هو علم بأصول يعرف بها معاني كلام الله تعالى بحسب الطاقة البشرية. 2- وموضوعه آيات القرآن من حيث فهم معانيها والوقوف على ما تشير إليه. 3- وثمرته معرفة ما في كتاب الله على الوجه الأكمل. 4- وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى سعادة الدارين. 5- ونسبته لبقية العلوم يكون هو أفضلها لأن شرف العلم يشرف موضوعه وناهيك بعلم موضوعه كلام الله إذ هو أصل العلوم ومعدنها. 6- وواضعه الراسخون في العلم من عهد المنزل عليه إلى يومنا هذا فما بعد. 7- واسمه علم التفسير أي الكشف عن غطاء معانيه والوقوف على ما ترمي إليه مبانيه. 8- واستمداده من آي الكتاب الجليل، لأنه يفسر بعضه بعضا ومن السنة السنية لأنها شرح له ومن كلام الفصحاء ما يكون بيانا له. 9- وحكمه الوجوب الكفائي على كل أهل بلدة. 10- ومسائله قضاياه من حيث الأمر والنهي والمواعظ والأخبار، وجاء في بعض النسخ بدل وغايته وفضله، وعلى ذلك فإن علم التفسير أفضل العلوم على الإطلاق لكونه متعلقا بكلام الله الذي لا أفضل منه البتة كيف لا وهو رب العالمين أجمعين.

المطلب الثاني فيما يحتاج إليه المفسر

المطلب الثاني فيما يحتاج إليه المفسر اعلم رعاك الله إن المفسر يحتاج إلى معرفة اثنى عشر علما على الأقل ليتسنى له القيام على أحسن وجه فيما يفسره من كتاب الله تعالى: (1) علم اللغة لمعرفة معلومات الألفاظ بحسب الوضع ومعرفة الألفاظ المشتركة كالعين وشبهها، فإن لم يكن له إلمام بها فلا يجوز له الشروع فيه. روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر، فقال: ما يعجبني إلا أن يكون واقفا عليه. وقال مجاهد: لا يحل التفسير لمن لم يكن عالما بلغات العرب. وقال مالك ينكّل أي من أقدم على تفسيره دون إلمام له بذلك. (2 و 3) علم النحو والتصريف لمعرفة أحكام الكلمات العربية من حيث الاشتقاق والإفراد والتركيب والإعراب والبناء، أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمّها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها. وفي قصة أبي الأسود الدؤلي والأعرابي الآتي ذكره في أول سورة التوبة الآتية في ج 3 بالقسم المدني ما يغني عن البيان (4) علم المنطق لما فيه من معرفة وجه الجدل والقضايا الموجبة والسالبة وغيرهما. قال الغزالي رحمه الله: من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه. (5) علم المعاني بفرعية البيان والبديع لمعرفة خواص تركيب الكلام من جهة إفادة المعنى ومعرفة خواصها ومن حيث اختلافاتها ومعرفة وجوه تحسين الكلام وهو الركن الأقوم لهذا الفن. (6) علم الحديث لمعرفة المبهم وتبيين المجمل وسبب النزول والتقييد للمطلق والتخصيص للعام المعبر عنه غالبا بالنسخ. (7) علم أصول الفقه لمعرفة الإجمال والنبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأوامر والنواهي وما يشبهها ويتفرع عنها. (8) علم الكلام لمعرفة ما يجوز على الله وما يستحيل وما يجب، والنظر في النبوات لئلا يقع المفسر في أخطاء وورطات قد يهلك فيها. (9) علم القراءات لمعرفة كيفية النطق بالقرآن وترجيح بعض الوجوه المحتملة للمعاني الأكثر رجحانا بالنسبة للقارئين بها على البعض الأقل والأضعف. (10) علم الفقه لمعرفة الأحكام الشرعية العملية فيه وبيانها في

محالها، وآراء المجتهدين فيها والأخذ بما هو الأقوى دليلا والأحوط عقيدة وتقى. (11) علم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن يشاء من عباده العالمين العاملين المتقين فيلهمهم المعرفة بأسرار كتابه، قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) وهذا كالأساس لهذا العلم ليطلع على معانيه بما يفيضه الله على قلبه وركن هذا العلم العكوف على التقوى، وملاكه العمل مع الورع قال تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» الآية 283 من البقرة في ج 3. (12) علم الاعتماد على الرأي فيما لا يهتدى إليه من كتاب أو سنة أو قول معتمد عليه، وهنا يجب السكوت لئلا يهلك لأن الأمر عظيم ليس للرأي فيه مدخل بل لا بد من الاعتماد على شيء معتبر. أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي ذر قال: قال صلّى الله عليه وآله وسلم من قال بالقرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار [أي من قال في مشكل القرآن ومتشابهه بما لا يعلم، أو من قال قولا يعلم أن الحق غيره فقد تعرض لسخط الله الذي عاقبته النار والعياذ بالله] . وفي رواية من تكلم بالقرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أي أخطأ طريق الحق إذ عليه أن يرجع إلى اللغة عند عدم الاهتداء إلى تفسير اللفظ، وإلى الأخبار عند عدم اهتدائه إلى الناسخ والمنسوخ بالمعنى المراد فيهما، وإلى صاحب الشرع عند عدم اهتدائه لبيان المعنى المراد منه، فإن لم يحصل له الاهتداء على ما غمض عليه في هذه الطرق فلا بأس بمراجعة فكرته وقدح رويّته ليستدل بما ورد على ما لم يرد، قال تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» الآية 24 في سورة محمد عليه السلام ومثلها الآية 82 التي يليها قوله جل قوله «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» الآية في سورة النساء في ج 3، وقال عز قوله «لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» الآية 29 في سورة ص الآتية. لأن التفسير على صنفين نقلي ومستنده الآيات والأحاديث والآثار وسماعي، ومستنده اللغة والإعراب والبلاغة، هذا وقد أخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس: القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه. وروي عن علي عليه السلام أنه سئل هل خصكم رسول الله بشيء؟ قال: ما عندي غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه، راجع تفسير الآية الثانية في سورة الحشر في ج 3 تجد حديث معاذ رضي الله عنه وما به كفاية في هذا البحث.

المطلب الثالث في الحاجة إلى التفسير

المطلب الثالث في الحاجة الى التفسير اعلم هداك الله. أن القرآن العظيم، نزل بلسان عربي مبين، على قوم هم أفصح الناس، الا انه لشدة فصاحته وغور معانيه، وبعد مراميه، لم يدركوا مراد الله في بعض مغازيه، فأحتاج الأصحاب وهم خلاصة ذلك العصر، الى أن يسألوا حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم عن معاني بعض آياته في زمنه، واحتاجوا لأن يسأل بعضهم بعضا عن بيان بيناته بعد وفاته، فمن باب أولى يلزم من بعدهم فهم تلك المعاني الغامضة منه، والوقوف على أحكامه، ومعرفة المراد منها، لأنه مدار السعادة الأبدية، والتمسك بالعروة الوثقى، والوصول الى الصراط المستقيم، وباب رضى رب العالمين، لأن الغرض فيه أمر عسير، لا يهتدى إليه الا بتوفيقات ربانية، وهبات رحمانية من اللطيف الخبير، وإذا كان الأصحاب رضوان الله عليهم على علو رتبتهم في مقامات الكمال، وارتفاع درجاتهم في الفصاحة واستنارة قلوبهم بإشراق مشكاة النبوة فيها، لم تعرج أفهامهم الثاقبة الى إشاراته، ولربما فهم بعضهم غير مراد الله، كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، راجع تفسير الآية (187) في البقرة في ج 3، إذ صرفهما لمعناهما المسمى فربط برجليه خيطين ليستبينهما في السحور، فما بالك يا أخي بغيرهم، وخاصة أهل هذا العصر الذي انصرف أهله بكليتهم الى علوم لا مساس لأكثرها بالدين، ولهذا مست الحاجة الى تفسير كتاب الله وانكب عليه السلف الصالح، وعكف عليه التابعون، واقتفى أثرهم العلماء، ولم ينفكوا عن الولوج في لجج معانيه والدخول في صحاري مبانيه الى ان يشاء الله، والى أن يرث الأرض ومن عليها، ولا يعلم تأويله كما أراد غيره. أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الآية (269) من البقرة أيضا، قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، واخرج ابو عبيده عن الحسن قال: ما أنزل الله آية الا وهو يحب أن

المطلب الرابع في أحوال المفسرين به ومأخذ هذا التفسير

يعلم فيم أنزلت، وما أراد بها، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية لا أعرفها الا أحزنتني، لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» الآية (43) من سورة العنكبوت ج 2، وغير هذا في هذا كثير. وقد أوجبت على نفسي الاختصار الغير مخل، كما أوجبت ترك التوسع الممل في هذا التفسير المبارك، ولهذا اكتفيت بما ذكرته، والله الملهم لمن أراد بيانه. المطلب الرابع في أحوال المفسرين به ومأخذ هذا التفسير اعلم وفقك الله ان أحوال المفسرين في التفسير مختلفة على ثلاثة أصناف: فمنهم من يقتصر في تفسيره على المنقول في الآية من أقوال من تقدمه من المفسرين وأسباب النزول وأوجه الإعراب ومعاني الحروف. ومنهم من يأخذ في وجوه الاستنباط منها، ويستعمل فكره بما آتاه الله من الفهم، ولا يشتغل في أقوال السابقين لوجودها في بطون الأوراق، ومنهم من يرى الجمع بين الأمرين والتحلي بالوصفين. وبما ان هذا أحسن الأصناف جريت عليه، واقتفيت أثر من مشى عليه الا اني قد اجتنبت التوسع الممل والاختصار المحل، إذ ان في الإطناب افراطا، وفي الإيجاز تفريطا، وكلاهما منتقد. على اني ان شاء الله سآخذ مما عليه الجمهور الموافق للنظم، والمطابق للسياق والمضاهي للسباق. واتبعت في تحرير مكية ومدنية ما هو المعتمد عليه من أقوال كثيرة مقتبسا من كتاب ابي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي وكتاب تحقيق البيان للشيخ محمد المتولي شيخ القراء بمصر، وكتاب ناظمة الزهر للامام الشاطبي، وشرحها لأبي عيد رضوان المخللاتي، وكتاب ارشاد القراء والكاتبين له أيضا، وكتب القراءات والتفسير على خلاف في بعضها. وسلكت في عد آيه طريقة الكوفيين وهي الوسطى، وخير الأمور أوساطها وهي المروية عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي كرم الله وجهه، حسبما جاء في الكتب المذكورة، وهي ست آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، أما

عند الحجازيين فست آلاف وستمائة وست عشرة، وعند البصريين أقل من الأول، والفرق باختلاف الوقف ليس الا لأن وقفات الحجازيين أكثر من وقفات البصريين وأقل من الكوفيين، وأعلم أن عدد كلماته سبع وسبعون الفا واربعمائة وخمسون كلمة، وعدد حروفه مليون وخمسة وعشرون الف حرف بالاتفاق على القول الصحيح. واعلم ان نصف القرآن على حسب ترتيب المصاحف من حيث الأجزاء جزء ألم أقل من سورة الكهف، وبحسب السور التي هي مائة واربع عشرة سورة من حيث العدد سورة الحديد، وما قيل إن مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لا يرى المعوذتين من القرآن، فهو قول عار عن الصحة، وحاشى لابن مسعود أن ينسب إليه ذلك وقد أخطأ من ذكر هذا ونسبه إليه، هذا ونصفه بحسب الآيات آية (فَأَلْقى عَصاهُ) من سورة الشعراء وبحسب الحروف النون من قوله تعالى (نُكْراً) من سورة الكهف. أما الكتب التي اعتمدت الأخذ منها ما قرأته من تفسير الخازن والنسفي والبغوي ابن محمود النخجواني وابن عباس وابي السعود الرازي وروح البيان وروح المعاني والبيضاوي والكشاف والخطيب الشربيني وفريد وجدى والجلالين وحاشيتهما للجمل والصاوي وابن كثير والجزي المسميين بالإتقان، والتسهيل والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والفتوحات الربانية للشيخ نعمة الله، وتفسير محي الدين العربي، وما لم أقرأه كالطبري والحسيني والخطيب وتفسير الأستاد رشيد رضا المنسوب للإمام محمد عبده وغيرها كثير من الكتب والرسائل التي مست الحاجة إلى مطالعتها والأخذ منها كالتشريع الإسلامي والوحي المحمدي وهدي الرسول ورسالة التوحيد لمحمد عبده ورسالة معجزات القرآن وغيرها. ومن الكتب الفقهية كالمبسوط للسرخسي والدر المختار وحاشيته لابن عابدين والطحطاوي والدرر والجوهرة والخطيب الشربيني والباجوري علي ابن قاسم وغيرها، ومن كتب الصوفية عوارف المعارف للسهروردي والبهجة السنية للشيخ الخاني ونور الهداية والعرفان للصاحب، والإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلاني واحياء العلوم للغزالي ورسالة أبي القاسم القشيري وغيرها، وكثير

مطلب الأصول المتبعة في التفسير

من الكتب الكلامية والمنطقية والأصولية واللغوية والمجلات المصرية وغيرها، حيث انتخبت منها ما لا بد منه من جواهرها وأثبت في هذا التفسير ما هو الأصح منها من الأقوال والمعاني إلى الأقوال الأخرى التي لا بد من الإشارة إليها فيه وأغفلت ما لا لزوم له. واعتمدت في الأحاديث للاستدلال على بعض الآيات كالشاهد والمثل، الكتب الصحاح الستة وموطأ مالك لأنه أعلم بأقوال صاحب المدينة من غيره غالبا، وبعض الأحاديث الشائعة المتداولة التي لم يطعن بها، وذكرت خلاصة القصص والحوادث والغزوات، وبينت ما يؤخذ به منها وما لا يؤخذ، واعتمدت في القراءات قراءة عاصم، وفي الروايات رواية حفص لأنهما المثبتتان في المصاحف، وهما أفصح وأصح وأكثر تداولا من غيرهما وأشرت إلى بعض القراءات الأخرى. مطلب الأصول المتبعة في التفسير واعلم حفظك الله أني إذا أردفت كلمة بغير أي التفسيرية أو الواو كالعطوف البيانية فهي معنى الكلمة التي قبلها، وقد أقدم بعض الكلمات المفسرة على المفسرة، واترك ما لا يحتاج للتفسير، مما هو معلوم بداهة مثل قوله تعالى (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) الآية 18 في سورة طه الآتية، إذ قال بعض المفسرين: اعتمد عليها إذا مشيت، واستند إليها إذا عيبت، واضرب بها إذا أوذيت، وكذا وكذا ومثل قوله تعالى (قالا رَبَّنا) إذ من المعلوم أنهما هارون وموسى وما شابه هذا مما لا طائل تحته واجتنبت كثيرا من أمثال هذا الحشو الذي لا حاجة اليه غير تكثير الكلام، وإذا أشرت إلى آية أو بحث فإن كان في الجزء الذي أنا فيه اكتفيت بقولي في الآية كذا في السورة المارة أو الآتية، وإلا ذكرت الجزء التي هي فيه مع عدد الآية وبيان السورة، وإذا طال الفصل بين العاطف والمعطوف عليه أو الشرط والجزاء وضعت خطا هكذا- دلالة على ذلك وقد أضع الكلمة أو الكلمات التفسيرية، أو الجمل الاعتراضية، والاستطرادية بين قوسين، لئلا تتصل بالمفسر، وكل جملة ختمتها بالأصح أو الصحيح أو المعتمد أو الأولى فهي في مقابلة أقوال لم تثبت لديّ صحتها وأرجحيتها،

وما قرنته بقيل أو قالوا أو ذكروا أو رأوا، فهو دليل على ضعفها وعدم الاعتماد عليها، وما بدأته بلا بأس فهو كناية عن خلاف الأولى وما تركه أحسن من فعله، وما بدر مني في لفظ أقول أو نقول أو شبهه في كل ما يدل على التعظيم، فهو لتعظيم العالم المنقول عنه أو لتعظيم العلم نفسه لا لنفسي، وقد يكون من قبيل التحدث بالنعمة والامتنان، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لم يتعظم بالعلم) ، وما ذكرت من أرى هذا، أو هو الأصوب أو الأحوط أن يؤخذ به فهو عبارة عن قول استحسنته من أقوال كثيرة. واعلم أن ما أقدمه من الأقوال هو المعتمد، إلا إذا صرحت بعده بأنه هو الأصح أو الصحيح أو الأحسن أو عليه الفتوى، وما ذكرته في قال بعضهم فالمراد به غالبا من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، وقد أصرح بعضا بالفرقة الضالة أو برئيسها، وما وضعته في العدد الأول للسور، فعلى حسب النزول والذي يليه بمقتضى ترتيب القرآن في المصاحف ووضعت الأرقام للآيات، وبينت سورها ومحلها، ليرجع لتفسيرها حذرا من التكرار، ولسهولة المراجعة عند الاستدلال ببعضها على بعض، ولتمييز المدني منها عن المكي، وهذا مانفث في روعي من الداعي الإلهي للاشتغال في هذا التفسير وإني مع ضعفي وعجزي واشتغالي بالحكم وقلة بضاعتي في هذا الميدان ووجودي في زمن فسد أهله وقل خيره وكثر شره، وصار الخوض في الهوى أرغب من تناول طرق الهدى لأنهم أعرضوا عن أمر الدين، وأنفوا من مرافقة الصالحين ومصاحبة الصادقين، فوصفوا السلف الصالح بالرعونة والخلف بالجحود، وهم لعمري لا يفرقون بين لام كي والجحود، فإذا تكلموا خبطوا خبط عشواء، وإذا أجابوا فعلى غير السؤال كان العطاء، يستشهدون بالأحاديث ولا يعرفون رجالها، بل ولا مبانيها، فيما يلائم أهواءهم، وبالآيات ولا يعلمون مراميها ولا معانيها مما لاتعيه أذهانهم، ويؤولون على جهل في السبب والمغزى، ومع هذا يقولون

المطلب الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول في الرأي

ما وعى الأوائل إلا قليلا من كثير، ولنا أن نأخذ من القرآن والحديث دون تأويل أو تفسير، إذ نحن رجال وهم رجال، وقد آن لنا أن نترك التقليد. وينسبون إليهم الإفراط إذا أطالوا الباع في حلبة التفسير للآيات، والتفريط إذا اقتصروا على الغايات، والجهل إذا أغفلوا شيئا ظاهر التأويل، والعناد إذا جالوا في فلسفة أسباب التنزيل، ان أتيتهم بآية قالوا مؤله، وهم يأخذون بظاهر الآيات، أو بحديث قالوا لم يثبت عند الثقات، وأين هم من معرفة التأويل والسند، وهيهات ان يميزوا بين الغث والسمين وهيهات، ويحهم جهال ويزعمون أنهم علماء، وضلال ويظنون انهم أتقياء، ومجانين ويحسبون انهم عقلاء، يناقضون أقوالهم بأفعالهم، وهي أفعى لهم، وأفعالهم بأقوالهم، وليست بأقوى لهم، أرشدنا الله وإياهم إلى الحق وهدانا إلى الرشد، ووفقنا إلى الصدق. عكفت عليه، ولولا السائق الإلهي لما وفقت اليه، إذ قد يكل مثلي عن تفسير سورة من قصار المفصّل، بل عن تأويل آية منها وأقل، ولكن ألطاف رحمانيته رغبتني، وهبات لدنية غمرتني، ونظرات محمدية أعانتني على هذا السفر العجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل وهو الحسيب. المطلب الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول في الرأي اعلم رعاك الله، ان التفسير هو كشف ما غطي لأنه مأخوذ من الفسر، وهو الكشف وبيان المعاني المعقولة من الألفاظ، فكما أن الطبيب ينظر في تفسيرته أي دليله ليكشف عن علة المريض بعد فحصه ومعرفة الداء ليصف له الدواء، كذلك المفسر ينظر في معاني الألفاظ بعد تمحيصها، ليكشف عن غوامضها ويعلم معناها وشأنها وقصتها، وهو يتوقف على النقل المسموع في معاني الألفاظ، ويلحق به الحديث الشريف، أما في غيرهما فلا يتوقف على ذلك، بل له أن يقدح فكرته لاستخراج معاني الكتب الأخرى.

أما التأويل فهو الرجوع إلى الأصل وردّ الشيء إلى الغاية فيه والمراد منه، وهذا يتوقف على الفهم الصحيح، لأن المراد منه غايته القصوى وبيان المعاني والوجوه المستنبطة الموافقة للفظ الآية، ويحتاج للوقوف على العلوم العربية ولا يتقيد بالمسموع، لهذا منع القول بالرأي في القرآن لأنه منزل من الله تعالى الذي حدّد شأن البشر فيه بقوله جل قوله (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية 7 من آل عمران ج 3، لهذا لا يجوز لأي كان تأويله ما لم يكن متضلعا بالعلوم العربية، والأحاديث النبوية كالسلف الصالح من التابعين، لأن العارفين والربانيين أيضا لا يعلمون جميع حقائقه، تأمل في قوله تعالى بعد ذلك (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وسيأتي في تفسير هذه الآية ما به كفاية، لتعذر وقوفهم على المعنى المراد فيه، راجع ما بيناه آنفا من الأحاديث في المطلب الثاني هذا. وقد روي عن عمر رضي الله عنه حينما سئل عن القرآن، قال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في القرآن (أي برأي) وقد رخص لأهل العلم بالتفسير والتأويل بما لا يخالف السنة والكتاب، لأن الصحابة رضوان الله عليهم، فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من حضرة الرسول، بل اجتهدوا فيه على قدر فهمهم، وقد دعا صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين، فكان أكثر ما نقل عنه في التفسير. هذا وان المرء مهما سمت رتبته في المعارف، وعلت درجته في الذكاء، لا يبلغ مبلغ ابن عباس، أو عمر رضي الله عنهما، إذا فلا يجوز أن يجرؤ أحد على الحوض في آيات الله إلا عن سماع وتوقيف متواترين، أما بعض أهل هذا الزمن المتزعمون فإنهم يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يفعلون. هذا وإن من المفسرين من إذا اطلعت على تفسيره شمت منه القصد بإظهار فضله واقتداره حيث أدخل فيه من الكلام ما يحتاج إلى تفسير على أن الأفاضل ليسوا بحاجة إلى إظهار فضلهم وإذا كان الغير لا يستفيد من تفسيرهم فيكونوا قد فسروا لأنفسهم عفا الله عنهم ووقانا شر أنفسنا.

المطلب السادس في فضل القرآن وحفظه وتهديد من ينساه والسفر به

المطلب السادس في فضل القرآن وحفظه وتهديد من ينساه والسفر به اعلم حرسك الله ان القرآن الكريم أفضل الكتب السماوية وان التمسك به وصول إلى منزله، والمحافظة عليه طريق النجاة، فهو العروة الوثقى والحبل المتين. فقد روى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام يوما فينا رسول الله خطيبا (بماء يدعى خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله واثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه، وإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وفي رواية: من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل وفي أخرى: كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة. وفي رواية الترمذي: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. وهذا من الأهمية بمكان، لأن حضرة الرسول في قوله هذا ينتظر نتيجة أعمال أمته في العمل بأحكام القرآن وفي مراعاتهم لأهل بيته، وانهم المسئولون عن ذلك في يوم هم أشد حاجة لشفاعته يوم لا ينفع مال ولا جاه ولا بنون. هذا واعلم أن كلام السادة الصوفية في القرآن لا يعدّ تفسيرا لغيرهم لأنه عبارة عن إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لهم في خوارق أحوالهم وهي حجاب لغيرهم، بل يحرم عليهم القول بها لعدم معرفتهم المراد منها لأن لهم كلمات استعملوها لا يعرفها إلا من هو منهم أو واقف على تفسيرها، كالمبين في عوارف المعارف للسهروردي وما يماثله من كتبهم، كما أن تفسير بعض المفسرين الذين همهم البلاغة ووجوه الإعراب بما يحتاج إلى تفسير دقيق حجاب لغيرهم أيضا لعدم وقوفهم على مرادهم منه. فقد روى ابن أبي شيبة في سنده ومحمد بن نصر وابن الأنباري في كتاب المصاحف

والحاكم في المستدرك- وصححه- والبيهقي في حديث ابن مسعود في الوعاء أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يلوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الردّ، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف. قال الحاكم هذا صحيح الاسناد ولم يخرجه البخاري ومسلم بسبب ما قيل في صالح بن عمر الذي هو في سنده وليس كذلك فإن صالحا قد خرج له مسلم وانما تركاه بسبب شيخه إبراهيم بن مسلم الحجري الذي ضعفه الجمهور، وما ضعفوه بطعن في صدقه أو حفظه وانما وجدوا له رفع عدة أحاديث إلى النبي صلّى الله عليه وسلم هي موقوفة على عبد الله بن مسعود وعلي وعمر رضي الله عنهم ولكن خرّج سفيان بن عتيبة بأنه جار ابراهيم هذا فأعطاه كتبه فصحح له المرفوع والموقوف بقوله هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عن عبد الله بن مسعود، وهذا عن عمر، وهذا عن علي، والظاهر أن هذا الحديث مما رفعه سفيان، ولذلك خرجه ابن أبي شيبة، ومن ذكرنا مرفوعا، وروي نحوه من حديث علي كرم الله وجهه، واعتمده القاضي الباقلاني في كتابة اعجاز القرآن. مطلب في حفظ القرآن والشهادات به هذا وقد حفظ القرآن عن ظهر غيب في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد من الأنصار، وأبو الدرداء من المهاجرين، وآخرون كثيرون لم أقف على أسمائهم، فهذه شهادات الرسول في حق القرآن وفضله وشهادة الله تعالى مذكورة فيه، وقد طفحت الكتب من يوم نزوله إلى الآن بفضله، وسيستمر إن شاء الله إلى آخر الدوران، أما شهادة الأجانب بفضله فقد صرفنا النظر عنها، اكتفاء بما ذكره السيد محمد فريد وجدي في مقدمة تفسيره، والطنطاوي في تفسيره، ت (2)

وعبد الحليم بدير في رسالته، والإمام محمد عبده في كتبه، ورشيد رضا في مقالاته، وما جاء في المجلات المصرية وغيرها، وما بعد شهادة الله شهادة، وتفضيل رسوله تفضيل، قال الأبو صيري: أيمدح من اثنى الإله بنفسه ... عليه فكيف المدح من بعد ينشأ واعلم ان الأجانب لم يطلعوا على مزايا القرآن، وخصال من أنزل عليه إلا بعد اختلاطهم في الإسلام في الحروب الصليبية وإعجابهم بمعاملة الإسلام لهم، وتيقنهم بأن ما كان يشوهه لهم بعض رؤسائهم ناشىء عن غلوهم، ولهذا قال ما قاله بعض أكابرهم وعلمائهم في القرآن، انه الحق وان الرسول جاء به بالصدق، وانه صالح لكل زمان، وإني أتمسك به نجاة من الحيرة التي كان فيها البشر، من أمر الدين الذي هو ضالة الأرواح، وأنشودة العواطف، ويلسم جراح الحياة، ونسيم الراحة والطمأنينة، ومهب نفحات الحق، الذي هو في الأصل واحد، لا تعدد ولا تخالف فيه، إذ جاءت به الرسل من الإله الواحد الذي لا شريك له ولا وزير، وإنما طرأ الخلاف على الأمم فيه بما احتوشهم من روح النزاع وغريزة حب الرئاسة، ومنبع الطمع في المال، قال تعالى: (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) الآية 19 من سورة يونس من ج 2، وهذا القرآن هو الذي قرب أساطين العدل بين البشرية، لهذا أمرهم الرسول بالتمسك فيه، واتباع أو امره، واجتناب نواهيه، وحذرهم من نسيانه لما فيه من المفاسد المترتبة على عدم العمل به، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري، قال: قال صلّى الله عليه وسلم. تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تقصيا من الإبل في عقلها. ورويا عن ابن عمر: إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، ان تعاهدها أمسكها، وان أطلقها ذهبت، ورويا عن عبد الله بن مسعود: بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت بل هو نسيّ، استذكروا القرآن فإنه أشد تقصيا من صدور الرجال من النعم في عقلها. إذا يجب على المرء أن يحافظ على ما حفظه من كتاب الله تعالى ويتداوله ليل نهار لئلا يدخل في هذا الوعيد. وقال العلماء إنّما يدخل في هذا الوعيد من ينساه قراءة لأنه يحرم منه،

المطلب السابع في التشريع في نهج القرآن ومفاصده ومميزات مكيه ومدنيه

أما من ينساه عن ظهر الغيب ويقرأه في المصحف فلا يشمله وعليه أن يحتفظ بالقرآن في بيته تبركا، وإن كان وعاه عن ظهر الغيب، وان يقرأه فيه لأن النظر اليه عباده على حدة دون عبادة القراءة، وله أن يسافر به مع المحافظة عليه، على أن لا يضع شيئا عليه إلا لأجل حفظه، وأن لا يمسه إلا طاهرا اتباعا للأمر فيه، ويجب أن لا يسافر به الى محل يخاف عليه التلف أو الإهانة، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: لا تسافروا بالقرآن الى أرض العدو مخافة أن ينال بسوء، ومن ذلك السفر به إلى من يلمسه بغير وضوء أو يتهاون به، قال تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الآية 79 من سورة الواقعة الآتية. ولهذا بحث سنثبته في محله إن شاء الله. المطلب السابع في التشريع في نهج القرآن ومفاصده ومميزات مكيه ومدنيه اعلم رعاك الله، ان الله عز وجل، راعى في تشريعه على عباده أمورا ثلاثة رحمة بهم وعطفا عليهم. الأول: عدم الحرج أي الضيق، قال تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) ، الآية 156 من الأعراف الآتية، وقال جل شأنه (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ الآية) 185 من البقرة في ج 3، وقال فيها أيضا (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) الآية الاخيرة منها، وقال أيضا في صدر هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقال (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية 78 من سورة الحج في ج 3، وقال (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) الآية 27 من سورة النساء، وقال (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الآية 7 من المائدة في ج 3، أيضا وقال صلّى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة، وكان صلّى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ولذلك شرعت الرخص كالفطر للمسافر وإباحة بعض المحرمات عند الضرورة، والتيمم والمسح في الوضوء والصلاة، وشرب الخمر عند التهديد بالقتل.

الثاني: تقليل التكاليف، وهي نتيجة عدم الحرج، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، الآية 104 من المائدة في ج 3، لأن الله تعالى سكت عن تحريم بعض الأشياء رحمة بنا لا نسيانا، ليكون العبد مختارا بفعلها أو تركها، وفي هذا قوله صلّى الله عليه وسلم حين سئل عن الحج، أفي كل عام يا رسول الله، فقال لو قلت لوجبت، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلم أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سئل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته، وقوله عليه الصلاة والسلام، إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها. وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم في غير نسيان، فلا تبحثوا عنها. الثالث: التدرج في التشريع، وذلك انه صلّى الله عليه وسلم بعث والعرب على عادات مستحكمة فيهم، منها ما هو صالح للبقاء لا ضرر فيه على تكوينها، ومنها ما هو ضار يجب ابعادهم عنها، فاقتضت حكمته أن يتدرج في نهيهم عنها شيئا فشيئا، كالخمر والميسر، حين سئل عنهما في المدينة، أنزل الله فيهما (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) الآية 219 من البقرة ج 3، ففهم فقية النفس طيبها، أن ما كثر إثمه حرم فعله، فانتهى لنفسه، وأكب عليها من لم ينتبه لذلك، وهذه الآية بعد أن عرض عن الخمر في معرض النعم التي عددها على عباده في قوله عز قوله (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) الآية 67 من سورة النحل في ج 2، لأن العطف يعمّ على أنها ستحرم بعد، لأنها لم توصف بالحسن، إذ وصف المباح من ثمراتها بالحسن، كالثمر والعنب والمريس والزبيب والدبس والخل وسائر الأشربة المتخذة من عصيرها، كما سيأتي تفصيله في تفسيرها، دون السكر فإنه لم يصفه بذلك، وهذه الآية مبدأ التعريض بتحريمها لأنها أول ما نزل منها في مكة شرفها الله، أما آية البقرة فما بعدها، فقد نزلت بالمدينة المنورة، الآية الثالثة قوله

تبارك وتعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) عدد 43 من سورة النساء في ج 3 فقد نهاهم فيها عن السكر في الصلاة، وهو نهي مؤكد للأول، فانتهى عنها فيها فقط من لم تكن نفسه زكية عارفة مغزى هذا النهي، واجتنبها ذوو العقول الكبيرة، والفطن الحاذفة، والفراسة الماهرة، والنفوس الطاهرة فيها وفي غيرها، لأنه عرف رجس الخمرة في النهي عن تعاطيها في الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، وان تركها في غيرها مما يرضي ربه الذي نهاه عنها فيها. ثم أنزل رابعا: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) الآيتين 93 و 94 من سورة المائدة في ج 3 أيضا فعرف الكل تحريمها في كل حال. وفي هذا التدريج وجد أصل رابع وهو الإجمال بعد التفصيل، ويتضح من المقارنة بين التشريع المكي والتشريع المدني، أن المكي مجمل قلما يتعرض للتفصيل، والمدني مجمل يتعرض للتفصيل في كثير من الأحكام، وأن معظم الأحكام مستنبطة من المدني، ومعظم ما يحمي العقيدة من المكي، وهذا أول مميزات المكي عن المدني الأربعة؟ مطلب مميزات المكي عن المدني الثاني: أن آيات المكي على الجملة قصار، وآيات المدني طوال، مثلا سورة الشعراء المكية، آياتها 227 وسورة الأنفال المدنية، آياتها 75 مع أن كلا منهما نصف جزء وأن جزء (قَدْ سَمِعَ) مدني وآياته 137، وجزء تبارك مكي وآياته 431، وأن سورة الحج مدنية، وسورة المؤمن مكية، عدا بعض آيات فيهما وهما متقاربتان من حيث عدد الآيات، وقد توجد بعض الآيات على العكس لا بعض السور وعليه تكون القاعدة أغلبية، ولهذا قلنا في الجملة، وما قيل ان سورة (التغابن) من جزء قد سمع مكية، وسورة تبارك من جزء تبارك مدنية ضعيف. واعلم أن نسبة المكي للمدني 19 من 30 وآياته 4780 ونسبة المدني المكي 11 من 30 وآياته 1456.

والثالث: ان غالب الخطاب في المكي ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وفي المدني ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بل لا يوجد في المكي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) البتة رغم انها مكررة بالقرآن بما يقارب التسعين مرة ويوجد في المدني (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إذ بدأت سورة النساء بها وجاء فيها: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الآيتين 169 و 173 منها وفيها ايضا: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) الآية 132 وبدأ بها ايضا سورة الحج (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) وفيها ايضا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية، ويا (أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) الآية 73 وجاء في سورة الحجرات (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ) الآية 13 وفي سورة البقرة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... ، يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) الآيتين 27 و 168 وكلها مدنيات سنأتي على ذكرها في ج 3 وقد كررت ما يقارب العشرين مرة. الرابع عدم وجود شيء من التشريع التفصيلي في المكي، ومعظم ما فيه يرجع الى المقصد الاول في امر الدّين، وهو التوحيد، واقامة البراهين على وجود الله والبعث، والتحذير من العذاب، ووصف الجنة ونعيمها، والقيامة وأهوالها، والنار وعذابها، والحث على مكارم الأخلاق، وضرب الأمثال مما أصاب الأقدمين لمخالفتهم أنبيائهم وجرأتهم على أذاهم، ومعظم التشريع التفصيلي في المدني. ثم اعلم ان مقاصد القرآن ثلاثة: الاول ما يتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو مباحث علم الكلام واصول الدين. الثاني ما يتعلق بافعال القلوب والملكات في الحث على مكارم الأخلاق، وهو مباحث علم الآداب والإحسان. الثالث ما يتعلق بافعال الجوارح في الأوامر والنواهي، وهو مباحث علم الفقه والمعاملات، إذا يعلن هذا القرآن العظيم انه إنما أنزل لاصلاح البشر مصرحا على لسان المنزل عليه بقوله جل قوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) الآية 135 في سورة الأعراف الآتية وعليه فانه جامع لكل خير مانع لكل شر.

المطلب الثامن في النزول وكيفيته وترتيب سورة وآياته

فيه كل ما يحتاجه البشر لقوله عز شأنه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من الانعام في ج 2 وقال جل ذكره: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية 144 من الأعراف الآتية، وقال تعالى: (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية الأخيرة من سورة يوسف في ج 2 وقال عز شأنه: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) الآية الأخيرة من سورة الأعلى الآتية مبيّنا في هذه الآية وفي الآيتين 36 و 37 من سورة (وَالنَّجْمِ) الآتية، ان كل ما اوحى لمن قبلنا داخل في كتابنا ولله الحمد. المطلب الثامن في النزول وكيفيته وترتيب سوره وآياته اعلم نور الله قلبك، ان الله جل شأنه انزل القرآن العظيم جملة واحدة في اللوح المحفوظ الى سماء الدنيا، ووضع في بيت العزة ليلة القدر السابع عشر او العشرين من شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من ميلاده صلّى الله عليه وسلم الموافق سنة 610 من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام، يدل على هذا قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة الآتية وقوله جل قوله: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الآية الثالثة من سورة (حم) والدخان) في ج 2 وقوله تعالى قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية 185 من سورة البقرة في ج 3 ثم انزل نجوما بواسطة الامين جبريل عليه السلام على قلب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم متفرقة عند الحاجة وبحسب الحوادث والوقائع، والأسئلة الموجهة إليه من بعض أمته، وأول ما نزل في نهار تلك الليلة مبادئ سورة (العلق) ، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى آخر الآيات الخمس الأول منها، كما سيأتي بيانه في غار حراء بمكة، الذي كان يتعبد فيه، كما روي عن ابن اسحق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، على خلاف للعلماء في الليلة لا في المكان والشهر كما حكاه القسطلاني في شرحه على البخاري، وآخر ما نزل منه سورة النصر الآتية في ج 3، ومن الآيات آية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة في ج 3، وذلك يوم الجمعة في 9 ذي الحجة، السنة العاشرة من من الهجرة الموافقة سنة 63 من ميلاده عليه السلام، يوم عرفة، في مكة المكرمة،

ولم ينزل بعدها إلا آية: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) عدد 281 من البقرة في ج 3 البتة، وكان نزولها في المدينة، قبل وفاته صلّى الله عليه وسلم بواحد وعشرين يوما، كما سيأتي بيان هذا في تفسير هذه الآية في القسم المدني إنشاء الله، فتكون مدة نزوله اثنتين وعشرين سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) الآية 41 في سورة الأنفال في ج 3، فيوم نزول الفرقان يوم الجمعة في 17 أو 27 رمضان سنة 41 من ميلاده عليه السلام ويوم التقاء الجمعين ببدر يوم الجمعة في 17 رمضان سنة 54 منه، فاليومان متحدان في الوصف في اليوم والشهر، كما سيأتي بيانه في سورة الأنفال المذكورة، ويدل على هذا ما رواه الطبري، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من شهر رمضان، وقد ملت إلى هذا القول لإشارة القرآن العظيم إليه في أحسن موقع حيث تكلم فيه عن غنائم بدر في اليوم الذي أعزّ الله به الإسلام وأراهم عجائب نصره وفي مثله شرف الله نبيه بالرسالة لأن هذه الليلة المبينة في السورتين المذكورتين آنفا على جلالة قدرها ورفعة شأنها لا بد وان يشير القرآن إلى تعيينها ولو بالاشارة، ويؤيد هذا ما قاله الطبري في تأويل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية المارة بأنه يوم عرفة عام حجة الوداع ولم ينزل بعدها شيء من الفرائض والأوامر والنواهي، ولا من التحليل والتحريم، ولم يعش بعدها صلّى الله عليه وسلم إلا إحدى وثمانين ليلة رواه السدي وابن جريح عن ابن عباس وروى النيسابوري في تفسيره عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وعنده يهودي فقال لو نزلت علينا هذه في يوم لا تخذناه عيدا، فقال ابن عباس: إنها نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد يوم جمعه وافق يوم عرفة، وذكرنا آنفا أنه نزل بعدها آية: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ، ولا منافاة لأن هذه لا تحليل وتحريم فيها تدبر. وليعلم أن القرآن نزل في مكانين ومدتين.

فالأوليان مدة مقامه في مكة، وهي اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، أي من يوم البعثة في 17 رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف إلى يوم الهجرة في 1 ربيع الأول سنة 54 منه، وكل ما نزل في هذه المدة يسمى مكيا، وهو ست وثمانون سورة، أولها (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وآخرها (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) . والأخريان مدة مقامه في المدينة، أي من مغادرته مكة، فتعتبر من 1 ربيع الأول سنة 54، إلى حجة الوداع في 9 ذي الحجة السنة العاشرة من الهجرة، الموافق لسنة 63 من ميلاده الشريف إذ لم ينزل بعدها إلا آية البقرة المارة الذكر وهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام، وكل ما نزل في هذه المدة يسمى مدنيا، وهو ثمان وعشرون سورة أولها البقرة وآخرها النصر، فيكون مجموع السور مائة وأربع عشرة سورة أولها اقرأ وآخرها النصر. مطلب محل النزول وعدد السور وتقسيمها وأسمائها ويوجد هناك آيات تخلفت عن سورها بينّاها في محلها وذلك بحسب التنزيل الذي جرينا عليه، أما بحسب ما هو في المصاحف، فأولها الفاتحة وآخرها الناس، وهذا الترتيب لا محيد عنه البتة لأنه أمر توقيفي. أما ما جرينا عليه في هذا التفسير فللأسباب المبينة في خطية الكتاب ليس إلا، ومعنى السورة (المنزلة) قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب أي منزلة قصرت عنها منازل الملوك، وقد أخذ بعض اسماء السور من مطالعها كالأنفال، والإسراء، وطه، والمؤمنين، والفرقان، والروم، وفاطر، ونون، وق، والمرسلات وغيرها، وهي تسع وسبعون سورة، والباقي بأسماء ما ذكر ضمنها كالبقرة، فإنها ذكرت بعد 65 آية، وآل عمران بعد 32، والنساء، وكذلك الجاثية والأحقاف والتغابن وغيرها من المائدة والأحزاب وسبأ وهكذا، وهي خمس وثلاثون سورة وكان نزوله كما ذكرنا بحسب الحوادث.

الخمس آيات كأوائل سورة العلق، والعشر كقصة أصحاب الإفك وأوائل سورة المؤمنين واقل مثل (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بعد قوله تعالى (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) الآية 94 من سورة النساء وكلمتي (مِنَ الْفَجْرِ) بعد قوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) الآية 186 من البقرة في ج 3 ونزل بعد قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) الآية 29 من سورة التوبة في ج 3 أيضا، ولئلا يختل النظم المبرأ من كل خلل أبقيت الآيات المدنيات في سورها المكيات، والآيات المكيات في سورها المدنيات، وأشرت إلى كل في محله حسب المستطاع إذ لا يمكن أن يشار إلى كل آية بزمنها أي زمن نزولها، قال عكرمة: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه كما أنزل الأول فالأول (أي كله من حيث الزمن) لما استطاعوا، ذكره صاحب الإتقان في ج 1 ص 59 في النوع الثاني في جمعه وترتيبه واكثر كالسورة بكاملها مثل النساء وبراءة والمائدة وغيرها كثير من المفصل وكان بعضها ينزل جوابا لحادثة في المجتمع الإسلامي وتعرف هذه بأسباب النزول، وقد عنى جماعة بذلك وألفوا فيه تآليف على حدة وجعلولها أساسا لفهم مغازي القرآن، ولذلك لم أغفل هذه الأسباب في تفسيري هذا، كي لا يحتاج القارئ لمراجعة غيره، وقد أخطأ من قال لا طائل تحت بيان أسباب النزول، لأن فيه معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم وتخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب، ولأن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته لأن دخول صورة السبب قطعي، وإخراجها بالاجتهاد ممنوع، ولأن الوقوف على المعنى وازالة الاشكال لا يمكن إلا بمعرفة سبب النزول غالبا فسبب النزول طريق قوي في فهم بعض معاني القرآن لان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب تنبه لهذا. فائدة معرفة أسباب النزول وبعضها ينزل لسؤال بعض المؤمنين مثل مرثد الغنوي لما أرسله الرسول إلى مكة لاخراج بعض المستضعفين من المسلمين في مكة فعرضت امرأة نفسها عليه فأبى

خوفا من الله وطلبت الزواج به فاستمهلها لسؤال حضرة الرسول، وكانت ذات جمال ومال فلما رجع إلى المدينة عرض قولها عليه فأنزل الله: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية 221 من سورة البقرة في ج 3 وأنزل في جواب من سأل: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) (يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآيات 219 و 222 و 217 من سورة البقرة، (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) الآيتين 136 و 175 من سورة النساء، (يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية 4 من المائدة في ج 3. ومنها ما ينزل بدون حادث، وكلما ترى حكما لم يذكر له المفسرون حادثا انزل الحكم مرتبا عليه. مطلب مجمل ما كلف الله به عباده واعلم أن كل ما كلف الله به عباده المؤمنين وغيرهم على نوعين: الأول معاملة بينه وبين عباده كالعبادات التي لا تصلح إلا بالنية، أي لا تكون كاملة إلا بها، وإلا فقد تصح بدونها على خلاف بين المجتهدين، فمنها ما هو عبادة محضة كالصلاة والصوم، ومنها ما هو مالية بدنية اجتماعية كالحج، ومنها ما هو مالية اجتماعية كالزكاة، وقد اعتبرت هذه العبادات الأربع بعد الإيمان بالله تعالى أساس الإسلام وأركانه. الثاني: معاملة بين العباد أنفسهم، وهي أربعة أنواع. الأول: مشروعات لتأمين الدعوى، وهي الجهاد وما يتفرع عنه. الثاني: مشروعات لتكوين البيوت، وهي الزواج والطلاق والأنساب والمواريث. الثالث: مشروعات للمعاملات بين الناس كالبيع والشراء والإجارة والرهن وغيرها من العقود. الرابع: مشروعات لبيان العقوبات كالقصاص والأرش والحدود وما يتفرع عنها، وسنأتي على بيان كل نوع في موضعه إن شاء الله تعالى، ونغني القارئ عن مراجعة كتب كثيرة في شأنها، ومن الله التوفيق.

المطلب التاسع في جمع القرآن ونسخه وترتيبه وكونه توقيفيا وبيان ناسخه

المطلب التاسع في جمع القرآن ونسخه وترتيبه وكونه توقيفيا وبيان ناسخه اعلم نور الله بصيرتك انه ثبت في الصحيح عن انس بن مالك رضي الله عنه أنه قال جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة كلهم في الأنصار أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسعد بن عبيد أبو زيد أحد أعمام انس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. مطلب جمعه ونسخه وكونه توقيفيا وكان جمعه على عهد الرسول على الرقاع واللخاف وجريد النخل، لا على صحف، وكان ترتيبه على ما هو موجود في المصاحف الآن، ثم كان جمعه على زمن أبي بكر، عبارة عن نسخه من هذه الأشياء إلى صحف، وجمعه على زمن عثمان نسخه إلى صحف وكراريس، وجعله بين دفتين، كما هو عليه الآن. ومن قال إنه لم يجمع على عهد الرسول فقد أخطأ، يؤيد هذا ما ذكرناه آنفا من حديث أنس المتقدم، وما أخرج الترمذي من أن عمر رضي الله عنه، قال قال صلّى الله عليه وسلم خذوا القرآن على أربعة عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وكان هؤلاء الكتاب يكتبون القرآن حسبما يمليه عليهم حضرة الرسول على العسب (جريد النخل) وعلى اللخف (الأحجار الرقيقة) ويضعون ما يكتبونه عند الرسول، ويكتب كل منهم نسخة لنفسه، وكلما ينزل ما يتعلق بالمكتوب، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم يدلهم أين يكتبونه أي في أي سورة، وبعد أي آية، ولم يجمعه من النساء إلا أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث التي كان يزورها حضرة الرسول ويسميها الشهيدة ذكره الجلال السيوطي في إتقانه، وقد قال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم، لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، وهذا زيادة في الثبت به، لئلا يدخل عليه ما ليس منه من أحاديثه صلّى الله عليه وسلم، أو غيرها في تفسير بعض كلماته من لدنه أو من بعض الأصحاب، وتدوينها بهامشه أو بين سطوره خشية من إدخال شيء من ذلك فيه، ولهذا قال من قال، أن فلانا قرأ كذا، وفي مصحف فلان كذا، لأن بعض الأصحاب كان يدون بعض

ما يفسره أو ما يسمعه من تفسير غيره على هامش مصحفه أو بين سطوره، حتى ظنها بعضهم أنها في جملة القرآن والقراءات، وهذا لا ينافي كتابة الأحاديث أي تدوينها على حدة، لأنها ليست من القرآن ولا تكتب معه، إذ لا يجوز أن يكتب معه غيره البتة، وكانت حافظة الأميين وصحف الكاتبين والصحف التي عند حضرة الرسول وفي بيته إلى أن توفاه الله، والنسخ التي عند كتبة الوحي جميعها متعاونة على حفظ كتاب الله إنجازا لوعده في قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من سورة الحجر في ج 2، هذا وفي واقعة اليمامة التي قتل فيها سالم المذكور سنة 12 من الهجرة نسخه زيد بن ثابت بأمر من الخليفة أبي بكر وصاحبه عمر رضي الله عنهما في الرقاع واللخف وجريد النخل إلى صحف فقط كما مر آنفا، وإنما خص هذا الأمر العظيم بزيد لأنه أحد كتبة الوحي الأمينين، قال تتبعته من الرقاع والعسب واللخف الموجودة في بيت الرسول عند السيدة عائشة رضي الله عنها، وفي صدور الرجال حيث كان رضي الله عنه، يستقرأ الرجال الحفاظ ويقابل قرائتهم على ما في الرقاع واللخف والعسب، عند ما يحصل له شبهة في بعض الحروف والكلمات المحتكة ببعضها لزيادة التيقن بها خوفا من زيادة حرف أو نقصه فيما ينسخه لشدة حرصه عليه، ولئلا ينفرد بما يعلمه، وبعد أن أكمله على هذه الصورة وضعت تلك الصحف المشتملة على القرآن كله عند أبي بكر فبقيت عنده مدة حياته ثم عند عمر مدة حياته ثم عند حفصة كما هو ثابت في صحيح البخاري، وإنما وضعت عند حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلم لأنها بنت الخليفة، وتقرأ وتكتب فهي نعم الأمينة على كتاب الله. مطلب توزيع نسخ القرآن وأمر الناس بقراءتها ولما ولي عثمان رضي الله عنه وصار يغازي أهل الشام في فتح أرمينية واذربيجان سنة 25 من الهجرة، طلبها من السيدة حفصة بتكليف من حذيفة اليماني وغيره من الأصحاب الكرام فأعطتها (وبعد الاستشارة بينهم انتصر رأيهم الصائب على نسخها

في المصاحف بمعرفة الأمناء الصادقين، زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد ابن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأمرهم عند الإختلاف في شيء من ألفاظه أن يكتب بلسان قريش لنزوله بلغتهم، فنسخوا ستة مصاحف أرسل واحدا منها إلى الشام، وواحدا إلى الكوفة، وواحدا إلى البصرة، وواحدا إلى مكة، وأبقى واحدا لنفسه، وواحدا لأهل المدينة، ومن قال أن النسخ سبع قال أرسل السابعة لأهل البحرين، ثم أمر بحرق ما سواها من الصحف المتفرقة لئلا يقع خلاف بين القراء، ولتتحد القراءات على نمط واحد كما أنزل ولهذا وصم عثمان رضي الله عنه بعض المارقين بحرّاق المصاحف، نسأل الله أن يحرق المارق بناره لأن عثمان رضي الله عنه لم يرد بذلك إلا الخير، وكان سعى الصحابة بجمعه بموضع واحد بين دفتين لا غير، وزادهم عثمان بنسخه والأمر بالتقيد بما نسخوه، ومنع ما سواه من مراجعة الصحف واللخاف وغيرها وإرسال نسخ منه للبلاد الإسلامية، فالفرق بين جمعهم وجمعه هو ذلك لا غير، قال زيد بن ثابت: فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع الرسول يقرؤها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية 22 في ج 3، وقد وجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله شهادته شهادة رجلين، ويعرف بذي الشهادتين فألحقتها بسورتها ووجدت آخر سورة التوبة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مع خزيمة أو أبي خزيمة بن أوس بن زيد الأنصاري غير خزيمة الأول فألحقتها بسورتها، وذلك بسبب تفتت بعض اللخاف المسطورتين عليها، وهو يعرفها لأنه أحد الحافظين الأربعة، وانه كان ينسخ لنفسه ما ينسخه لحضرة الرسول، فيعرف ما ينقص من آي التنزيل ويعلم مواضعه، وهذا ليس اجتهادا منه بل لثبوت حفظها ولسماعها من حضرة الرسول ولتأكد ما يحفظه على ما هو بحفظ الغير لئلا ينفرد بشيء ما، إذ لا محل للاجتهاد في شيء من ذلك ولا في ترتيب السور والآيات بل هو أمر توقيفي كما ذكرنا في المطلب السابق، ومن قال خلاف هذا فلا قيمة لقوله، وهذا هو معنى القول الشائع بأن

عثمان جمع القرآن، أما ما اشتهر به بأنه هو الذي جمعه مبدئيا ولا جمع قبله، فقول باطل لأنه مجموع على زمن الرسول ومنسوخ في زمن أبي بكر كما ذكرنا. أخرج أبو داود في المصاحف بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. واخرج ابن ابي داود من طريق ابن سيرين قال: قال علي لما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ علي ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن، فجمعته. ويراد من جمع علي كرم الله وجهه جمعه على الصورة المارة المتروكة من لون حضرة الرسول على الجريد واللخاف وغيرها، ومن قال إن عليا جمعه قبل عثمان، أراد هذا لا غير لأنه كان مجموعا زمن الرسول كما أشرنا إليه آنفا، ولم يجمعه في الصحف إلا أبو بكر ومن بعده عثمان رضي الله عنهما على الصورة المارة، ثم طلب من الأصحاب أن يضعوا له اسما غير أسماء الكتب المنقدمة عليه، فقال ابن مسعود: في الحبشة كتاب يدعونه المصحف فسموه به، ثم انه رضي الله عنه حمل الناس سنة 27 من الهجرة على قراءة المصاحف التي نسخت بأمره ومشورة الأصحاب الموجودين في زمنه، بعد أن وزعت في الآفاق على صورة واحدة خشية الفتنة بسبب اختلاف أهل الشام والعراق في أوجه القراءات، كي يقرأ الناس كلهم على نمط واحد هذا وما قيل أنه روي عن عائشة انها قالت: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، لم يثبت، كما أن ما روي عن عثمان ان في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، باطل، لأن الصحابة يسارعون إلى انكار أدنى منكر، فكيف يقرون اللحن في القرآن، ولأن العرب كانت تستقبح اللحن في مطلق الكلام فكيف لا يستقبحونه في القرآن، ولأن القرآن يقف عليه العربي والعجمي الذي لا يفرق غالبا اللحن، فكيف يقرونه لمن لا يعرفه إذا كانواهم عارفين، ولأنه لما بلغ عمر أن ابن مسعود قرأ (عن) بدل (حتى) على لغة هذيل، أنكر عليه وأمره أن يقرأ حتى على لغة قريش لأنه نزل بلغتهم، وهذا من الاختلاف الذي نهى النساخ عنه من حيث كتابة

بعض الكلمات بأن لا تكتبه في القرآن إلا بلغة قريش لأنها سيدة اللغات، ومثله التابوت بالتاء لا بالهاء على لغة غيرهم، وكذلك الصلاة تكتب بالواو، ولما أراد زيد بن ثابت أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار منعه الأصحاب ورفعوه إلى عثمان، فأمره أن يكتبه بالتاء، وكذلك الصراط ويصطر يكتبان بالصاد على لغة قريش لا بالسين على لغة غيرهم، وهكذا كما هو ثابت بالصحيح أيضا. مطلب وضع السور والآيات توقيفي أما النطق بما تقدم وكتابته في غير القرآن فلا مانع منه، وليعلم ان وضع الآيات في سورها ومحالها على النحو المرسوم في القرآن توقيفي، لأنه بتعليم من حضرة الرسول وإعلام من الأمين جبريل إليه عند نزولها وإشارته بأن يكتب هذه السورة بعد سورة كذا، وهذه الآية بعد آية كذا من سورة كذا كما تقدم بلا خلاف إذ رتبت سوره وآياته كلها وفق ما هو في اللوح المحفوظ، وقد صح من حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يستعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة في رمضان وفي العام الذي توفي فيه مرتين، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، ولهذا كافه أبو بكر وعمر نسخ المصحف أولا، وأمر عثمان النساخ ان يتبعوه عند الاختلاف في شيء منه، وعلى هذه الصورة حفظ الله كتابه المصون تحقيقا لوعده فيه، ومن ثم حرق ما سوى المصاحف الستة أو السبعة على القول الأخير بعد تمام النسخ والتوزيع سنة 26 من الهجرة، ولم يزد او ينقص أو يبدل أو يغير أو يحرف حرف واحد مما أنزله الله، وبقي محفوظا مصونا إلى الآن، وسيبقى إن شاء الله إلى أن يرفعه، انجازا لوعده هذا. ومن قال انه أهمل شيء منه لا برهان له به، وقد كذب وافترى وخالف الإجماع بلا مراء، كيف وهو نور النبوة وبرهان الشريعة، لا سيما وقد تصدر للخلافة بعد نشر هذه المصاحف وحرق ما سواها الإمام الحازم علي عليه السلام باب مدينة العلم وعالم الأرض بعد ابن عمه وهو ذلك الأسد الشديد الرشيد، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم،

المطلب العاشر الناسخ والمنسوخ والقراءات ومعنى انزل القرآن على سبعة أحرف

فلو كان يوجد شيء من ذلك، لدونه وأثبته فيه حين نسخه ولم يعط مجالا لذلك البتة، وعليه فلا يجوز أن يبقى في ذهن مؤمن سقوط شيء من القرآن، وكل ما نقل أو ورد من الأخبار والآثار والأحاديث بأن شيئا من القرآن لم يدون في المصحف لا صحة له ولا حجة به لقائله ولا برهان له عليه سواء كانت أخبار آحاد أو جماعات، لأنها كلها مكذوبة ومختلقة ومتناقلة إفكا فلا يتمسك بها إلا زنديق مارق مفارق للجماعة، منكر لصراحة القرآن الذي صرح بحفظه من كل شيء منزله بقوله جل قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الآية 42 من سورة فصلت في ج 2، راجع تفسيرها والآية السابقة من سورة الحجر تجد ما يتعلق في هذا مفصلا، واعلم بأن الذي يحفظه الله لا يقدر أن يضيعه البشر، وعليه فإن القرآن الموجود الآن بين الدفتين هو تمام كلام الله الذي أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلم، لم يبدل ولم يغير، ولم ينقص منه أو يزد فيه حرف واحد البتة، بإجماع صحابة رسول الله، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا منافق كافر لا حظ له في الإسلام، والموفق من طهر قلبه من ذلك. المطلب العاشر الناسخ والمنسوخ والقراءات ومعنى انزل القرآن على سبعة أحرف اعلم حماك الله وبصرك بطرق رضاه ان بحث النسخ لم يقع له صدى بين الأصحاب الذين كانوا زمن نزول القرآن والذين من بعدهم من الذين لم يبلغوا الحلم زمنه، ولو كان لتردد صداه، ولا اختلف فيه المسلمون بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، وان شيئا من ذلك لم يقع، مما يدل على أن القرآن الذي تركه لنا المنزل عليه، هو الذي أمره ربه بتبليغه لنا بلا زيادة ولا نقص، وما قيل بأن شيئا من ذلك كان في حياة الرسول لا نصيب له من الصحة، لأن الأصحاب لم يختلفوا بعده بشيء من أسس الدين، ولم يتمسكوا بناسخ أو منسوخ ولم يقل أحد منهم بذلك، وعلى هذا فاعلم أن النسخ: ت (3)

إما ابطال الحكم المستفاد من نفي سابق بنص لاحق مثل قوله صلّى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) ، فالأول بطلب الكف، والثاني بالإتيان على الإباحة بحل التحريم. وإما لرفع عموم النص السابق أو تقييده كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) الآية 228 من البقرة في ج 3 ثم قال في سورة الأحزاب النازلة بعدها في الآية 49 (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) في ج 3 أيضا، وكذلك الأمر في عدة الوفاة فإنها قيدت بأربعة أشهر وعشرة أيام في الآية 134 من البقرة أيضا، ثم قيدت عدة الحامل بوضع الحمل في الآية 4 من سورة الطلاق النازلة بعدها، فالأول عام للمدخول بها وغيرها، والثاني أعطى غير المدخول بها حكما خاصا، وكذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) الآية 4 من سورة النور ج 3، ثم قوله بعدها فيها (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) فالأول عام في كل قاذف، والثاني خاص بالزوج لجعله الأيمان الخمسة قائمة مقام الشهادات الأربع. هذا مثال التخصيص. ومثال التقييد قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الآية 4 من المائدة في ج 3 مع قوله في سورة الأنعام النازلة قبلها: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) الآية 15 في ج 2 فالدم الوارد في سورة المائدة مطلق والوارد في سورة الأنعام مقيد بالسفح فحمل المقيد على المطلق، وبهذا نعلم أن العام والمطلق لم ينلهما ابطال لأن التخصيص والتقيد بمثابة الاستثناء في الحكم. والقاعدة ما من عام إلا وقد خصص، وما من مطلق إلا وقد قيد في بعض الأحوال، فيستوي فيه اللاحق المتصل بسابقه والمتراخي عنه والمقدم والمؤخر، فمن سمى المتقدم أو المتأخر ناسخا (ولا يكون المتقدم ناسخا للمتأخر البتة) كان بمقتضى التقييد والتخصيص ليس إلا كآية الأنعام بالنزول على آية المائدة، فمن يسميه ناسخا كان كمن يسميه مقيدا أو مخصصا.

مطلب ابطال النص في الحكم أو انتهائه: واما ابطال النص في الحكم السابق أو انتهاء زمن حكمه وبقاؤه بصفة ذكر يتلى فقط فهو على أحد أمرين: الأول- أن ينص اللاحق بنسخ السابق. الثاني- أن يناقض أحدهما الآخر بحيث لا يمكن الجمع أو التخصيص أو التقييد، ولا يوجد من الأول شيء في القرآن إلا قول البعض في ثلاثة مواضع: الأول: في قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الآية 65 من سورة الأنفال في ج 3، وقوله بعدها فيها: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فهذان خبران أريد منهما الإنشاء، لان الله تعالى قال في الآية 44 من هذه السورة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) وهو أمر بالثبات، ووجوبه في كل الأحوال، فأراد جل جلاله أن يحدد هذا الأمر فحدده في الآية الأولى بعشرة أمثال المؤمنين المجاهدين في عدوهم، إلا أنه تعالت قدرته لم يقل اثبتوا في هذه الحالة لأن المراد بعث الحمية في نفوسهم، والهاب الغيرة في قلوبهم، ولما اظهر لعباده ما هو معلوم في مكنون غيبه قبلا من ضعفهم عن المقاومة بهذه النسبة اقتضت رحمته الكبرى بهم التخفيف عنهم، فأنزل الآية الثانية لئلا يتيقنوا وجوب الأخذ بالأولى حتما فيلقوا بأنفسهم إلى التهلكة أو يمرنوا أنفسهم على المخالفة فيستحقوا عقابه فحدده بهذه الآية بمثلى المجاهدين، ومن سياقها يعلم أن نسبة الآية الثانية للأولى بنسبة النص المخفف لعارض مع بقاء حكم النص الأول عند زوال العارض وهو الضعف، فكان حكم الآيتين حكم العزيمة مع الرخصة فإذا لم يكن بتلك الفئة المجاهدة التي هي بمقدار عشر العدو المحارب ضعف، ورأت في نفسها قدرة على المقاومة إما لقوة إيمانها وشدة جلدها وعزم حزمها، أو لقوة في عددها أو لوهن في عدوها وعدده، فعليها أن تثبت أمام عدوها مهما بلغ عدده أخذا بالعزيمة لأن الله وصفها بالصبر فمتى وجد الصبر ثبت الحكم الأول.

مطلب متى يجوز للقلة أن تقاوم الكثرة ومن لوازم الصبر المتقدمة عليه القوة المادية، والقوة القلبية المعنوية، فكثيرا ما نرى ونسمع، أن رجلا واحدا قاوم جماعة عشرة فما فوقها وغلبها، لا تزاره بالصبر، وتسلحه بقوة الجنان، وتمسكه بخالص الإيمان، واستعذابه الموت في سبيل الواجب، واستملائه الشهادة في إعلاء كلمة الله، فعلى هذا لا نسخ بالمعنى المراد من النسخ. ومن قال إن الثانية عامة في جميع الأحوال، قال بنسخ الأولى بالثانية، وهو بعيد جدا، وقد اتضح لك بعده. الموضع الثاني: ما يقرب من هاتين الآيتين قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) وقوله بآخر هذه السورة الآتية: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) فالأولى صريحة الطلب بقيام جزء من الليل قريب من نصفه، والثانية: تدل على أن الرسول كان قائما في هذا التكليف هو وطائفة من الصحابة، إلا أن فيها سببا يقتضي التخفيف وهو علمه جل علمه، بأن يكون في الأصناف الثلاثة المذكورة في الآية الثانية (مرض أو سفر أو جهاد) فكان التكليف فيها مقصورا على ما تيسر من القرآن المنبئة عن فعل ما تيسر من القيام بقراءة جزء يسير من القرآن، دون صلاة أو في صلاة ما، من النفل لقوله بآخر الآية الثانية (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإذا كان كذلك لم يكن نسخا وحكمه باق بالنسبة للرسول وللآخرين المعذورين، وهذا رأي ابن عباس، وقد اخترته لموافقته للواقع، ومن قال إن الأولى عامة والتخفيف عام أراد النسخ وهو بعيد أيضا. الموضع الثالث: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية 12 من سورة المجادلة في ج 3، وقوله بعدها: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) فالأولى تحتم تقديم الصدقة بين يدي النجوى،

والثانية ترفع ذلك التحتيم من غير تصريح بالواقع، هذا ما يمكن تطبيقه على الأولى، وهو إعلام النص اللاحق بإلغاء النص السابق، وهذه النصوص الثلاثة كلها لا تعين إفادة النسخ بالمعنى المراد منه، إذ أنه يجوز في الآيات الثلاث فعل الحالتين المثبتتين فيها، ولو كان المراد نسخ الأولى بالثانية لما جاز فعل الأولى، بل تحتم فعل الثانية فقط وليس كذلك. أما الطريق الثاني: وهو الالتجاء إلى نصين متناقضين لا مجال لتأويلهما أو أحدهما، فمن العسر جدا، بل من المحال أن تجد شيئا منه في كتاب الله، وهو المبرأ من كل عيب، ولله در أحمد محرم إذ يقول: دستور حق في يمين محمد ... يحمي الضعيف وبنصف المظلوما لولا بلاغته وروعة نظمه ... جهل الرجال اللؤلؤ المنظوما كنز البيان فمن تطلب للفتى ... كنزا سواء قضى الحياة عديما فضّت علوم الدهر منه جانبا ... وغدا نقضي الجانب المختوما متجدد في كل عصر يبتغى ... مما تجيء جديدة وفهوما وناهيك في هذا قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الآية 88 من سورة الإسراء الآتية: مطلب القائلين بعد النسخ: هذا وقد منع أبو مسلم الأصفهاني المفسر الكبير وجود النسخ في القرآن العظيم، وقد قال الإمام الرازي في تفسيره المشار إليه، وكذلك الشيخ محي الدين العربي في تفسيره، ومن عرف مرامي التشريع الإسلامي، ووقف على لباب التنزيل، وعرف حكمة التدريج في التشريع الذي مر ذكره في المطلب السابع، وأمعن النظر في قوله تعالى: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) الآية 1 من سورة هود، أيقن أن لا نسخ في كلام الله بالمعنى القائلين به، من أبطال المعنى الأول بالكلية، وهذا من جملة ما عناه سيدنا علي كرم الله وجهه، بإرادته ترتيب سوره وآياته على حسب

النزول، حينما عقد الشورة الأصحاب في كيفية جمعه وترتيبه على حده، وحينما أرادوا نسخه على الصحف، لأنهم كلهم يعلمون أن ترتيب نزوله غير ترتيب جمعه، وإذ ذاك قال محمد بن سيرين لعلي من القوة كما انزل: الأول فالأول، وما يدريك ما رأيه عليه السلام؟ ومرماه: مرام سطّ مرمى العقل فيه ... ودون مداه بيد لا تبيد ومن هنا يعرف القارئ الذكي، أن ما تعالى به علماء النسخ والمنسوخ عبارة عن الآيات المقيدة والمخصصة بالنسبة للآيات المطلقة والعامة، ولعدم مراعاة هذين الأصلين، وعدم الاعتناء بتاريخ النزول، وأسبابه للتيقن من المقدم والمؤخر، وعدم أخذهم بما أجمع عليه الجمهور، بأن المقدم لا ينسخ المؤخر، وعدم مراعاتهم حكمة التشريع الالهي بحسب التدريج، أوصلوا الآيات المنسوخة الى مائتين، كما هو بين في تفسير الشيخ محمد الجزّي، على أن القرآن العظيم ناسخ لما تقدم من الكتب والصحف لا منسوخ البتة، وأطالوا البحث فيه، كما أطالوه في المتعة الآتي بحثها في أول سورة النساء، في ج 3، وسيأتي بحث النسخ في الآية (106) من سورة البقرة، ما يوسع من هذا إن شاء الله، نعم يوجد فيه بعض آيات عجز طوق البشر عن تأويلها، فقال بعضهم بنسخها، إلا أن تحاشي القول بالنسخ أصوب وأحمي للعقيدة، فقد روى البخاري عن ابن الزبير، قال قلت لعثمان (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) الآية 240 من البقرة في ج 3، وقد نسختها الآية الأخرى، (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عدد 4 من سورة الطلاق في ج 3 أيضا (المار ذكرها آنفا) فلم نكتبها وندعها، قال عثمان: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه، وذلك لان الآية الأولى غير منسوخة بالثانية، كما فصلناه، راجع تفسيرهما في محلهما. ومن المعلوم أن آياته منها ما وقع تفسيرها زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومنها ما وقع زمن أصحابه من بعده، ومنها ما وقع بعدهم، ومنها لم يقع حتى الآن، والليالي حبالى، وسيلدن الأمر العجيب مما سيظهر فيها من معجزاته الغامضة، ولا تحديد لكلمات الله، وسترى إن شاء الله، ما بشرح صدرك أيها القارئ، وتقر عينك، من تقييد المعاني،

وما تستعذبه من تبيين المباني، فيما يتعلق بالآيات التي ظاهر لفظها، يشم منه رائحة النسخ، والآيات التي تدل على معجزاته، فالله أسأل وبنبيه أتوسل أن يعينني على ذلك، ويقدرني عليه، انه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. مطلب في القراءات وحيث تقدم أني قلت، إني اتبعت في هذا التفسير قراءة عاصم، ورواية حفص لا طعنا في غيرهما، بل لأنهما أشهر من غيرهما، لأنها المتعارفة في محيطنا، والمنسوخة في القرآن الذي بين أيدينا، وإن القراءات الست الاخرى بأوجهها جائزة لمن أتقنها، وانها تختلف مع بعضها من حيث الترقيق والتفخيم، والجهد والصمت، والمد والقصر، والإمالة والرفع، والإدغام والإظهار، والتثنية والافراد والجمع، والتحريك والإسكان، والقطع والوصل، والنقل والوقف، والتضعيف والفك، وغيرها في الحروف والكلمات، بلا زيادة ولا نقص في أصل الكلمة، وما يزاد في أحد القراءات من الواحد في مثل عليهم، وعليهم و، لا يعد زيادة لأنه عبارة عن إشباع الفتحة لا غير، ولهذا تجد بعض رسم الكلمات فيه متغاير صورة لا معنى مثل (خَسِرَ الدُّنْيا) في الآية 7 من سورة الحج في ج 3، تقرأ على أنها فعل ماض، ولا تنافى المعنى المراد منها، عند من بقرأها مصدرا أو اسم فاعل، وهكذا كما ستطلع عليه عند تفسيرها، وما يشاكلها إن شاء الله. وقد ذكرنا في مطلب جمع القرآن المار، أن ما جاء من وجود بعض الكلمات في قرائين بعض الأصحاب، هو كناية عن كلمات تفسيرية كتبوها في مصاحفهم، فظنها من لا مسكة له بالقرآن قرآنا وتمسك بها بعض الجهلة، ومن لا خلاق له في الآخرة يماري بها ويجادل، (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الآية (46) من المائدة، فراجعها وراجع الآية (83) من سورة النساء في ج 3، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرأنيها رسول الله فكدت أساوره (أواثبه وأقاتله) في الصلاة فتربصت (تثبت) حتى سلم فلببته بردائه (أخذته مما يلي عنقه منه) فقلت: من أقرأك هذه

السورة التي سمعتك تقرأها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت فإن رسول الله قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال صلّى الله عليه وسلم: أرسله، اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها فقال صلّى الله عليه وسلم هكذا أنزلت، ثم قال اقرأ يا عمر فقرأت بقراءتي التي أقرأني فقال صلّى الله عليه وسلم هكذا أنزلت، ثم قال إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه، وما جاء في روايتها عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريل على حرف فزادني فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وما رواه مسلم عن أبيّ بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي يقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله فقرأ فحسّن شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية (أي وسوس لي الشيطان تكذيبا للنبوة أشد ما كنت عليه في الجاهلية) فلما رأى رسول الله ما غشيني ضرب في صدري فتصببت عرقا وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقا (أي خشية من الخوف والهيبة حين ضربه صلّى الله عليه وسلم نشبيتا له بما أزال عنه ذلك الخاطر المذموم) فقال: يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ على حرف واحد فرددت عليه أن هون على أمتي، فردّ إليّ الثانية أن اقرأ على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد اليّ الثالثة أن اقرأ على سبعة أحرف ولك بكل ردّة رددتها مسألة تسألنيها، فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم ترغب إليّ الناس كلهم حتى ابراهيم وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلم حيث أطلعه الله على ما حاك في صدر أبيّ من الشك وإزالته منه في تلك الضرية، ورواية البغوي عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ان القرآن نزل على سبعة أحرف لكل آية منه. ويروى: لكل حرف منه. ظهر وبطن، ولكل حد ومطلع وما قيل في معناه، إن الظهر لفظ القرآن أو التلاوة باللسان كما أنزل، والبطن تأويله، أو النور أو الفهم والتذكر فيه.

مطلب حكاية واقعة:

والحد ما يتناهى إليه الفهم في معنى الكلام فهو غاية ما ينتهي إليه عقل البشر وإلا فهو بحر خضم لا ساحل له يهب لمن يريد من عباده ملكة الولوج فيه فيوقع في قلبه نورا يبصّره ببعض معانيه كما يلقي الروح على من يشاء من عباده فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل أو ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من يختاره من عباده. هذا وليعلم أن ما من حادثه ترسم بقلم القضاء إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها كيف لا وقد قال منزله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام في ج 2، وقال جل شأنه (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية 152 من الأنعام أيضا، راجع ما بيناه آخر المطلب السابع في هاتين الآيتين وتفسيرهما في محلهما، ومن يجهل معنى هذا فعليه بالعارفين، قال تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية 7 من سورة الأنبياء في ج 2 وقال جل قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) الآية 59 من سورة الفرقان الآتية. مطلب حكاية واقعة: ذكر بن خلكان في تاريخه ان السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما فتح حلب أنشد القاضي محي الدين قصيدة بائية من جملتها: وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب فكان كما قال فسئّل من أين لك هذا، فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) الآية من أولها الآتية، قال المؤرخ فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه وله نظائر كثيرة، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية 105 من سورة الأنبياء في ج 2، على أن المراد بالأرض أرض الدنيا، أما أرض الآخرة فلا يرثها إلا عباد

مطلب في الصوفية ومعنى سبعة أحرف:

الله المخلصون، وهذا انما قال ذلك لأنه تصور الصلاح في السلطان المشار إليه بالنسبة لمن كانت مصر بيده من المماليك سنة 923 غرة محرم حيث خذلت الجراكة وتقلص سلطانهم. مطلب في الصوفية ومعنى سبعة أحرف: أو على المعنى الذي جرى عليه بعض المفسرين بأن الصالحين هم الصالحون لعمارة الدنيا، وفي هذا المعنى يدخل البر والفاجر هذا، ومن الانصاف التسليم الى العارفين من السادة الصوفية الذين هم مركز الدائرة المحمدية واتهام الذهن فيما لم يصل إليه من فهم أقوالهم العالية وأحوالهم السامية بسبب العوائق والعلائق قالوا: وإذا لم تر الهلال فصدق ... لأناس رأوه بالأبصار راجع تفسير الألوسي رحمه الله ج 1 ص 7. ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم سبعة أحرف أي سبعة وجوه، قال أبو عبيدة وغيره من الصحابة الكرام هي سبع لغات من العرب: 1 تميم، 2 ومعد، 3 ومضر، 4 وقرشي، 5 وهوازن، 6 وهذيل، 7 وحمير أهل اليمن، وقد جاءت متفرقة في القرآن العظيم الذي جاء بأحسن لغات قريش التي ذابت فيها لغات فرق العرب الآخرين، فمن ذلك (انْظُرُونا) في الآية 13 من سورة الحديد ج 3 فهي بمعنى أمهلونا وأخرونا وأرقبونا (ومنه مَشَوْا فِيهِ) في الآية 20 من البقرة ج 3 فهو بمعنى مرّوا فيه وزادوا وذهبوا وسعرا وغيرها من لغات العرب، لكن ما جاء في القرآن أبلغ معنى وأعظم إعجازا، ومنها ما جاء في القرآن من المدّ والقصر والإمالة والإشمام والإدغام وغيرها أحسن في الأداء واتمّ في النظم من الكلمات العارية عنها في اللغات الاخرى وانظر إلى كلمة (هلّم) التي هي بمعنى أقبل وتعال وإليّ وقصدي ونحوي وقربي، هل لهذه الكلمات التي بمعناها في اللغات الأخرى مكانتها من الحسن في اللفظ والمعنى، كلا، وقس على ذلك. ويوجد أقوال أخرى في معناها، أعرضت عنها لعدم التثبت من صحتها والصحيح أنها قراءات سبع استفاضت عن حضرة الرسول الأعظم، وضبطها عنه أصحابه

المطلب الحادي عشر في خلق القرآن وعدمه ونسبته للكتب الأخرى وصدق النبوة

وأثبتت في الصحف ثم في المصاحف على الوجه المار ذكره، يؤيد هذا، الحديثان الصحيحان المنوه بهما أعلاه، والحكم الشرعي في ذلك جواز القراءات السبع المتداولة لمن يتفنها ويحسن قراءتها بالوقوف على أصولها والتلقي من أربابها العارفين بها، فيقرأ كل بحسب لغته وما تيسر على لسانه مما تلقاه في هذه القراءات توسعة وتسهيلا لهم وتحسينا للفظ وتلذذا للسماع وجودة النظم، فتزداد القراءة رونقا ويزداد السامع رغبة: كلام قديم لا يمل سماعه ... تنزه عن قول وفعل ونيّة به اشتفي من كل داء ونوره ... دليل لقلبي عند جهلي وحيرتي فيا رب متعني بسر حروفه ... ونور به قلبي وسمعي ومهجتي أجب اللهم دعانا بكرمك يا مولانا. المطلب الحادي عشر في خلق القرآن وعدمه ونسبته للكتب الأخرى وصدق النبوة مطلب القول بخلق القرآن. اعلم علمك الله ما لم تعلم أن ما قيل أن القرآن مخلوق. عبارة عن اصطلاح كلمة فلسفية وآراء نظرية مبتدعه، ظهرت أيام الخليفة المأمون العباسي الذي تولى الخلافة سنة 198 بعد قتل أخيه الأمين رحمهما الله وأباهما هارون الرشيد وسامحهم وقد توغل فيها وأفرط حتى أنه هدد بالقتل من يقول أنه غير مخلوق ولما جيء له بالإمام الشافعي رحمه الله وسئل عن ذلك قال أنت تعني الكتب الأربعة الموجودة بأيدينا، وأشار إليه بأصابعه الأربع قائلا هذه مخلوقة، ونجا من التعذيب منه بهذه الوسيلة ولم يتنبه إلى ما أشار وقصد، أو أنه انتبه وتغاضى لمكانة الشافعي رحمه الله. وليعلم انه لم يرد في هذا البحث كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل هو تعرض للبحث التحليلي في ذات الله تعالى وصفاته ومثار للوساوس الشيطانية فيجب على العاقل أن يجتنب هذا البحث ويستعيذ بالله منه ولا يلجأ إلى ترهات صورت من المشككين ذوي القلوب الصدأة المظلمة البعيدة عن نور المعرفة وأن يوقن بأن الكلام صفة كمال تتعلق بكل ما يتعلق به العلم، إلا أن تعلق العلم عبارة عن انكشاف المعلومات للعالم

وتعلق الكلام عبارة عن كشف العالم ما شاء من علمه لمن شاء، والله تعالى متصف بكمال العلم والتعليم، وكمال الكلام والتكليم، وان هذا وغيره مما وصف الله به نفسه في كتابه لا ينافي كمال تنزيله عما لا يليق به من نقائص عباده ولا يقتضي مماثلته لهم فيما وهبهم من كمال فان الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك بالمسميات، وأسماء الأجناس المقولة في التشكيك في الممكنات مختلفة من وجوه كثيرة، منها النقص والكمال فكيف بها إذا كانت مشتركة في الخالق والمخلوقات فذاته تعالى أكمل من ذواتهم ووجوده أعلى من وجودهم وصفاته أسمى من صفاتهم وهو أعلم ورسوله أعلم منهم بصفاته وأفعاله، فعليك أن تؤمن بما صح عنهما من اثبات ونفي من غير زيادة ولا نقصان، بلا تعليل ولا تشبيه، ولا تمثيل ولا تأويل، وليس عليك ولا لك أن تحكّم رأيك وعقلك في كنه ذاته وصفاته، ولا في كيفية مناداته وتكليمه لرسله، ولا في كنه ما هو قائم به وما يصدر عنه، وعلى هذا كان أصحاب الرسول والسلف الصالح من التابعين والعلماء وأئمة الحديث والفقه، قبل ظهور بدعة المتكلمين الذين قسموا كلام الله إلى نفس قديم قائم بذاته ليس بحرف ولا صوت ولا ترتيب ولا لغة، وإلى كلام لفظي وهو المنزل على الأنبياء عليهم السلام ومنه الكتب الأربعة، واختلافهم فيها في كونها مخلوقة أو غير مخلوقة، والصحيح الذي لا غبار عليه ان كلام الله تعالى بالمعنى الأول غير مخلوق لأنه قائم بذاته تعالى وبالمعنى الثاني وهو المقروء في البشر الدال على الصفة القائمة به فلا بأس بأن يقال مخلوق. لأن قراءتهم له مشتملة على حروف وأصوات وترتيب ولغة وهو صورة حادثة عن كلامه القديم ومظهر من مظاهر التنزيل. مطلب الطوائف المخالفة ونسبة القرآن للكتب الاخرى: واتفقت المعتزلة على أن كلام الله مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق وأنه خالق لكلامه ثم اختلفوا في معنى الكلام والحدوث على أقوال كثيرة وكذلك الطوائف الاخرى كالامامية والخوارج والحشوية والكرامية والواقفية اختلفت في كونه قديما أزليا اولا، وفي كونه جوهرا أم عرضا، وكل انتصر لمذهبه، ونظرا لمخالفتها لأقوال أهل السنة والجماعه وعدم جواز الأخذ بشيء منها أعرضت عن نقلها وإذا أردت الوقوف على أحوال هذه الطوائف

المخالفة وما شاكلها فعليك بمراجعة كتاب المواقف- الجزء الثالث ص 281- فما بعدها فانه يكفيك عن كل كتاب. أما نسبة القرآن للكتب الاخرى فانه أصح وأجمع وأكمل منها من كل وجه فمن حيث أنه أنزل بلغة عربية وبقي كما هو لم تتطرق إليه التراجم ولم تختلف نسخه عن بعضها بحرف واحد فهو أصدق منها إذ لو جمعت مصاحف أهل الأرض كلها، لا تقدر أن تجد فيها حرفا مغايرا لغيره، أخرج ابن أبي قاسم عن سفيان الثوري انه قال: لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه بلغتهم. قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية 4 من سورة ابراهيم ج 2. والكامل لا يأتي إلا بالكامل، وميزة أخرى انك لو قرأته على مر الأيام وكر السنين ما زادك تكراره إلا حلاوة ورغبة فيه واعتقادا بأنه كلام الله حق وصدق لم يغير ولم يبدل كيف لا وقد تحدى الله البشر أجمع على إتيان سورة مثله أو من مثل الذي جاء به. راجع الآية 22 من سورة البقرة في ج، والآية 28 من سورة يونس، والآية 13 من سورة هود في ج 2. تقف على تغيرها وتعرف مدى الفرق بينها وناهيك دليلا على حفظه ما مر لك في الآيتين 9 من سورة الحجر و 24 من سورة فصلت في ج 2. في المطلب السابع المار ذكره وقد أجاد الأبوصيري في قوله بصفته: الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا لا تذكروا الكتب السوالف غيره ... طلع الصباح فأطفأ القنديلا وقال في بردته: آيات حق من الرحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم فلا تعدّ ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالسأم واعلم ان كل ترجمة وقعت له لا تفي بالمطلوب وقد اطلعت على قسم منها فوجدتها لا تنم عن مغازيه فضلا عن الأغلاط الواقعة فيه كالترجمة التركية، ولا بد أن يكون في التراجم الأخرى أكثر أغلاطا لأن الحروف العربية لا تستعمل كلها في اللغات الأجنبية، ولأن معاني الكلمات وما هي عليه من اشتمالها على علم المعاني والبديع والبيان لا يمكن أن تؤول فيها مهما كان المترجم قادرا، فإن الكتب الأخرى فقدت زخرفها لتعرضها للترجمة لأنها أولا أنزلت بالعربية وترجمها كل نبي بلغة قومه كما مر لك

آنفا، ثم ترجمت بعد بلغات متعددة بحسب لغات الأمم التي تداولتها ولم يعرف على الضبط مترجموها هل هم ممن يوثق بهم في دينه وأمانته أم لا، وهل هم ممن يعتقد التدين بها أم لا. مطلب التحريف والتغيير في الكتب الاخرى: فمن هنا يقع الغلط وسوء التصرف لأن من اطلع عليها وأنعم النظر فيها لا يطاوعه وجدانه أن يسلم بأنها هي المنزلة حقا بحذافيرها بل لا بد وأن يعترف بوجود التحريف فيها ووقوع التغيير حتما. واعلم أن ما أصاب التوراة والإنجيل من التغيير بسبب الترجمة لا يقل عما أصابها من التحريف والتبديل إذ بالترجمة قد يصير المجاز حقيقة والمتشابه محكما كلفظ الأب والابن وغيرهما مما سنأتي على بيانه في محله إن شاء الله وهذا مما سبب ضلال الكثيرين من اليهود والنصارى ولا حول ولا قوة إلا بالله، لأن المترجم مهما بلغ من الكمال لا يستطيع أن يترجم كل لفظ بمثله بل يحتاج غالبا لأن يفسر بعضه بمعناه لضيق بعض اللغات عن بعضها وعدم تساوي الحروف بالنطق، أما ترجمة النبي فلا مقال فيها لأنها من قبيل المعجزة فلا يقاس غيره عليه، فإذا كان المترجم لم يبلغ حد الكمال فيما يترجمه فلا بد أن يخطىء ومن هنا يظهر لك حقيقة ما قلته على فرض ان المترجم معلوم وموثوق به دينا وأمانة، أما إذا لم يكن معلوما فكيف يوثق به أو لا تخلو ترجمته من الدس وهو ما يوجد فيها من التناقض كوصف الله تعالى في أسفار العهد القديم بما لا يليق بحضرته المقدسة من نسبة الجهل والنوم (تعالى عن ذلك) فقد جاء في سفر الخروج ان موسى عليه السلام تبنته بنت فرعون مع أن القرآن يثبت أن التي تبنته زوجته آسية بنت مزاحم رحمها الله، وجاء فيه أيضا أن هارون هو الذي صنع العجل لبني إسرائيل مع أن القرآن يعزوه للسامري، ومات نبي الله هارون من ذلك، وجاء في التوراة رمي، بعض الأنبياء في الكبائر المنافية لحسن الأسوة، المجرئة على الشرور والمفاسد، حتى وصموا سيدنا لوطا بزواج ابنتيه مع أن الأنبياء معصومون من كل شيء، ومنها أن التوراة التي بيد اليهود تخالف التي بيد النصارى، وأن الأناجيل الأربعة المعتبرة لدى النصارى

فيها بعض الخلاف باللفظ والمعنى والنظم والنسق وقد جاء فيها أن معاصي الأنبياء دليل على عقيدتهم وأن المسيح وحده هو المعصوم وأنه رب وإله ولا مخلص للناس من الذنوب غيره مما يشبه عقائد الوثنيين ويخالف دين الأنبياء والمرسلين في الاعتقاد بإله واحد وشريعة واحدة. قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) الآية 13 من سورة الشورى ج 2. وقال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الآية 162 من سورة النساء ج 3. والآيتين بعدها أيضا، إذا أسس الدين لا تختلف لأن الله تعالى لا يتصور أن يرسل نبيا بشريعة ويرسل الآخر بضدها من حيث الأصول الثلاث التي هي 1- الاعتراف بالإله الواحد. 2- الاعتراف بالنبوة. 3- الاعتراف باليوم الآخر. أما الفروع فتكون على ما يناسب البشر بأدواره ويصلح لكيانهم ويوافق المجتمع. وليعلم أن الله تعالى كما مدح القرآن مدح التوراة بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) الآية 47 من سورة المائدة ج 3. وكذلك مدح الإنجيل بقوله: (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الآية 49 منها، والزبور أيضا لأن التنكير في الآية الأولى والتنوين يدلان على التعظيم، وهناك آيات كثيرة في ذلك أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا، إذا فالكتب السماوية كلها مصدقة لبعضها فلا يعقل أن يكون فيها خلاف ما في أصل العقيدة وأصول الدين، أو مما يؤدي إلى التكذيب لبعضها، أو بما يصم الأنبياء لأنه كفر عند سائر الملل. مطلب مدح الكتب الأربعة وصدق الرسالة: فما جاء في إنجيل لوقا ص 18 آية 19 وص 2 مما يدل على أن العذراء متزوجة وعدم مقابلة المسيح لها عند مجيئها لزيارته، وحاشاها وهي المبرأة المصونة الطاهرة وحاشاه وهو الرسول الكريم على ربه أن يصدر منه ما يهين البتول أمه الزكية، وان القرآن يوصي بالإحسان إلى الوالدين، ويفضل العذراء على نساء العالمين، وما

جاء في هذا الإنجيل ص 1 و 6 ما يدل على عصمة الأنبياء خلافا لما جاء في غيره وفي التوراة وبعض الأناجيل الأربعة المتداولة ما يثبت أن يهوذا الا مخربوطي المنافق الذي دل اليهود على السيد عيسي ليغتالوه شنق نفسه تكفيرا لما وقع منه، ومنها ما يسكت عنه وكلها متفقة على أن الصلب وقع على المسيح، إلا إنجيل برنابا فإنه يثبت وقوع الصلب على الخبيث يهوذا الذي ألقي عليه شبه المسيح وفاقا لما جاء في القرآن، وهذا كله يثبت بلا ريب أن ما وقع من الاختلاف في هذه الأناجيل وفي التوراة أيضا من سوء الترجمة، وما وقع فيها من التدجيل هو من الدّس الذي أدخل فيها، ولو دققت بانصاف وقوبلت مع الإنجيل الصحيح الذي أنزل على عيسى عليه السلام وبلغه لقومه الذي لم يترجم بعد، لوجدته موافقا للقرآن المشتمل على مضمون جميع الكتب الإلية الذي أجمع عليه البشر بأنه لا يضاهيه كلام ولا يقاس بغيره وقيل: وما كل مخضوب البنان (بثينة) ... ولا كل مصقول الحديد يماني وقول الآخر: أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونارا توقد بالليل نارا أما ما جاء في صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم عدا شهادة الله وكتبه ورسله فإليك ما صرح به (أدوار مونيه) مدرس اللغات الشرقية في مدرسة جنيف في مقدمة ترجمته القرآن بالافرنسية ما معناه بالعربية حرفيا قال: [كان محمد صادقا كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يرى رؤيا ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين فيه كما كانتا متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه فيحدث فيه كما كان يحدث فيهم (ذلك الإلهام النفسي) وهذا التضاعف في الشخصية الذين يحدثان في العقل البشري المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي من بابها] فهذا العالم الاوربي يقول، ما كان به أنبياء بني إسرائيل كان ثابتا لمحمد صلّى الله عليه وسلم. وقال (جسيون) القرآن مسلم به من حدود الاوقيانوس الاتلانتيكي إلى نهر الجانج بأنه الدستور الاساسي ليس لأصول الدين فقط بل للأحكام الجنائية والمدنية وللشرائع

التي عليها مدار نظام الحياة للنوع الإنساني وترتيب شؤونه، وان الشريعة المحمدية تشمل الناس جميعا في أحكامها من أعظم ملك إلى أقل صعلوك، فهي شريعة حيكت بأحكم وأعلى منوال شرعي لا يوجد مثله قط في العالمين، وأما تفسيره الخصائص فهو التعليل الذي يعلل به الماديون الوحي المطلق. هذا وقد لخص خبر نزول الوحي على محمد صلّى الله عليه وسلم من كتب اسلامية مذعنا بصحتها، ونقلها بعده المستشرق الإفرنسي (أميل درمنغام) ويكتب بالصحف المصرية در منجيم) - في كتابه حياة محمد مذعنا بصحة الرواية وبوضوحها شارحا تأثير نبوته في إصلاح البشر متمنيا الاتفاق بين المسلمين والنصارى، آسفا للشقاق بينهم. وقال الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي ص 73 في اثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: درس علماء الإفرنج سيرته فأجمعوا على هذه النتيجة (ان محمد كان سليم الفطرة كامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق، غير طموح بالمال ولا جنوح إلى الملك ولم يعن بما كان يعن به قومه من الفخر والمباراة من ارتجال الخطب وقرض الشعر، وكان يمقت ما كان عليه قومه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمية كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل، وبهذا كله وبما ثبت من سيرته وبعثته بعد النبوة، جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد إكمال الأربعين من عمره من رواية ملك الوحي واقرائه إياه هذا القرآن وإثباته بأنه رسول من الله لهداية قومه فسائر البشر) . وقال الدكتور الأميركي كارلو (محمد خير طبيب، ودينه الإسلام يأمر بالوقاية قبل المرض، وقد ظهر ذلك في الصيام وفي صلاة التراويح التي يقوم بها المسلمون بعد الإفطار في كل يوم من رمضان، إذ أن لهذه العملية الرياضية فائدة كبرى في هضم الطعام) . هذا واني لم أذكر هذه الفقرات من أقوال الأجانب التي هي قليل من كثير إلا بمناسبة ذكر الكتب الأخرى، والا فقد ذكرت قبلا أني استغنيت عن ذكر ت (4)

المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها

شيء منها اكتفاء بما ذكره العلماء في المؤلفات المارة الذكر وما بعد شهادة الله المترادفة في كتبه وشهادة رسله في كتبهم على صدق محمد ورسالته شهادة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد. المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها مطلب الوحي وتفرعاته اعلم فقهك الله ان جمهور المفسرين أجمعوا على أن أول ما نزل من الوحي خمس آيات من أول سورة العلق، ولا عبرة بمن شذ عن هذا الإجماع، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه أنه قال وتعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل كان ينزل به خمسا خمسا، واخرج ابن عساكر من طريق آخر نظيره وما بمعناه، وهذا على الغالب وإلا فقد نزل أقل وأكثر كما سنذكره علاوة عما سبق في المطلب الثامن في موضعه، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: أول ما بدأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. (والرؤيا صور حسية في الخيال تذهب الآراء والأفكار في تعبيرها مذاهب شنى قلما يعرف تأويل الصادق منها غير الأنبياء كرؤيا ملك مصر التي عبرها سيدنا يوسف عليه السلام، ورؤيته هو في صغره وقد ظهرت بعد كما قصها الله علينا، وسيأتي بيانها مع بحث مسهب في الرؤيا في تفسير الآية 5 من سورة يوسف وفي الآية 3 منها فما بعدها أيضا) . ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتخث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها (أي تلك الليالي) حتى جاءه الوحي، وفي رواية حتى فاجاءه وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني (ضمني وعصرني، والحكمة في ذلك أن لا يشتغل بالالتفات إلى غيره ومبالغة في تصفية قلبه ولهذا كررها ثلاثا) حتي بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني

فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فرجع بها رسول الله ترجف بوادره (هي اللحمات التي فوق الرغثاوين أي عروق الثدي وأسفل الشذوة أي لحم الثدي واللحمات ما بين المنكب والعنق) حتى دخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني [غطوني ولفوني بالثياب] فزملوه حتى ذهب عنه الروع (الفزع) ، ثم قال لخديجة مالي؟ وأخبرها الخبر، قال: لقد خشيت على نفسي (أي الهلاك) ، قالت خديجة: كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله (لا يذلك) أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسعد بن عبد العزى عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره ما رآه، فقال له ورقة: هذا الناموس [يعني جبريل صاحب خبر الخير يسمى بهذا لأن الله خصّه بالوحي إلى الأنبياء] الذي نزله على موسى، يا ليتني فيها [أي نبوتك] جذعا [شابا قويا] ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال صلّى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال نعم. لم يأت رجل قط. بمثل ما جئت به إلا عودي، وان يدركني يومك [أي يوم يخرجك قومك عند ادعائك النبوة] أنصرك نصرا مؤزرا [قويا معززا] ثم لم يلبث ورقة أن توفي [أي قبل ظهور الدعوة] . وفتر الوحي، زاد البخاري قال: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى [أي يوقع نفسه] من رؤوس شواهق الجبال، فلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منه تبدّى [أي ظهر عيانا] له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه [قلبه وما ثار من فزعه وهاج

من حزنه] وتقر عينه فيرجع إلى حالته الأولى أملا برجوع الوحي إليه، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفي بذروة الجبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال مثل ذلك. مطلب أول ما نزل من القرآن وروى البخاري ومسلم عن يحيى بن كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ) قلت يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قال أبو سلمة: سألت جابرا عن ذلك وقلت له مثل ذلك فقال لي: لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله قال: جاورت بحراء شهوا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني وصبوا علي ماء باردا [فيه أن من يفزع ينبغي أن يصب عليه الماء البارد ليسكن خوفه] فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وذلك قبل أن تفرض الصلاة، وفي رواية فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه وقال: فإذا هو قاعد على عرش في الهواء (يعني جبريل) فأخذتني رجفة شديدة [والمراد بالعرش هنا السرير والكرسي المبين في الحديث الآتي] ورويا عن جابر في رواية الزهري عن ابن سلمة رضي الله عنهما قال سمعت: رسول الله يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه: بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض فجئثت [بجيم مضمومة وهمزة مكسورة وتاء ساكنة وتاء مضمومة وروي بتاءين ومعناه رعبت وفزعت] منه رعبا، فقلت زملوني زملوني، فدثروه فأنزل الله عز وجل: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال ثم حمى الوحي بعده وتتابع. واعلم ان هذين الحديثين لا يتعارضان مع حديث عائشة المتقدم ذكره بأن أول ما نزل مبادئ سورة اقرأ، لأن ما جاء في هذين الحديثين من أن أول سورة نزلت هي المدثر لا يصح، لأن قوله في الحديث الأول وهو يحدث عن فترة الوحي

إلى أن قال (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يدل على تقدم الوحي على هذا الحديث. وقوله في الحديث الثاني: فإذا الملك الذي جاءني بحراء، يدل على صحة ما جاء في حديث عائشة أيضا، وان أول ما نزل هو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وقوله فيه أيضا: ثم حمي الوحي وتتابع، أي بعد ما فتر، وبعد نزول (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) نزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وبهذا يحصل الجمع والتوفيق بين الحديثين المذكورين، وحديث عائشة المتقدم هو الصواب الذي لا مرية فيه والمجمع عليه على الإطلاق، ومعنى فترة الوحي احتباسه وعدم تواليه، ومعنى حمي الوحي كثر نزوله، وحديث عائشة هذا يعد من مراسيل الصحابة لأنها لم تدرك هذه القصة فلا بد أنها سمعتها من حضرة الرسول أو من ثقات أصحابه، ومرسل الصحابي حجّة عند جميع العلماء ولا سيما السيدة عائشة التي كان ينزل الوحي في فراشها وهي مع النبي بخلاف بقية نسائه، فإنهن إذا نزل الوحي عليه وهو في فراش إحداهن انعزلت عنه، فقد روى ابو يعلى في مسنده عن عائشة قالت: أعطيت تسعا وفيه، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفن عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وبهذا يندفع التعارض باختصاص نزول الوحي في فراش عائشة، تأمل، وهذا النوع من القرآن يسمى الفراشي، كيف وهي التي شهد الله ببراءتها وحسبك بها حجة، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا أبو إسحاق الاسفراييني. وإنما ابتدئ صلّى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك. بصريح النبوة، فلا تتحملها قواه البشرية، فبدأه بعلامتها. توطنة للوحي، وإرهاصا إلى مقدمات النبوة. مطلب معنى الإرهاص والوحي ومأخذ الشفرة والإرهاص معناه هنا الإثبات، يقال: ارهص الشيء إذا أثبته وأسسه على طريق المجاز. فهذه المقدمات التي تأتي الرسل من الرؤيا الصادقة والكشف والفراسة في الأمور، أي التوسم بها- راجع الآية 75 من سورة الحجر في ج 2 تجد معناها-. وتخيل المعاني قبل وقوعها، إثبات لنزول الوحي الالهي وأساس للمنزول عليه ليقوى جنانه ويأخذ ما يتلقاه من الوحي بعزم وحزم، وليعرفه حقا انه من الله دون تطرق لشك أو ظن أو وهم. تدبر هذا.

واعلم أن معنى الوحي الإيماء بالتكليم خفية عن أن يفهمه الغير، وأصله الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة بعض الجوارح وبالكتابة، وحمل عليه قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية 11 من سورة مريم الآتية ولم يتكلم، وحمل على الإيماء قول الشاعر: نظرت إليها نظرة فتحيرت ... دقائق فكري في بديع صفاتها فأوحى إليها الطرف أني أحبها ... فأثرّ ذاك الوحي في وجناتها وقول الآخر: أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... اشارة محزون ولم تتكلم فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالجبيب المتيم وحمل على الاشارة قوله تعالى: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) الآية 41 من آل عمران في ج 3، (هذا وقد اتخذت الملوك والأمراء حروفا وكلمات بأرقام اصطلحوا عليها وعبروا عنها باسم شفره) كناية عن هذا المعنى، واستنباطا منه، منعا من أن يفهم الغير ما يتخابرون به، لأن الله تعالى علم البشر كيف يتخاطبون، وكيف يتنعمون، وكيف يعذبون ويعذبون، مما وصفه من أحوال أهل الجنة والنار، وقصه في كتابه المنزل هذا وكتبه السابقة أيضا، وجعل أوائل السور رموزا بينه وبين حبيبه، فلا يعرف معناها إلا هما كما سنبينه في مواضعه إن شاء الله، هذا وان القول الجامع في معنى وحي الله لأنبيائه، هو إعلام خفي سريع خاص بمن بوحيه اليه، بحيث يخفي عن غيره الملاحق له، كما كان يوحي اليه في فراش عائشة فيعلم ما هو المراد وهي لا تدري ما هو، وكذلك كان يوحي اليه بمحضر من أصحابه فيعي ما يتلقاه، وهم لا يعلمون شيئا منه إلا تغيّر حال الرسول عما كان عليه قبل الوحي لأنه عليه السلام كان يعتريه ثقل وشدة حال نزوله حتى أنه ليعرق في الوقت البارد، من عظم ما يلاقي من هيبة كلام الرب جل جلاله.

وانظر لما قيل: لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خرّوا لعزّة ركعا وسجودا ومنه الإلهام الغريزي كالوحي إلى أم موسى، وضده الوسوسة الشيطانية، قال تعالى: (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية 121 من الأنعام في ج 2، وقال في الآية 112 منها: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ووحي الله إلى أنبيائه، قد روعي فيه المعنيان الأصليان لهذه المادة (الخفاء والسرعة) وقد يطلق على متعلقه وهو ما وقع به الموحى باسم المفعول، مما أنزل الله على أنبيائه وعرفهم من أنباء الغيب والشرائع والحكم، فمنهم من إعطاء كتابا أي تشريعا يكتب، ومنهم من لم يعطه فيكون تابعا في التشريع لكتاب من قبله كأنبياء بني إسرائيل، فإنهم كلم تابعون للتوراة ولم ينزل الكتب دفعة واحدة إلا على الذين يحسنون القراءة كموسى وداود وعيسى وغيرهم، أما الذين لا يحسنونها كمحمد صلّى الله عليه وسلم ومن قبله فإنه لم ينزل عليه كتابه دفعة واحدة بل انزل مفرقا ليعيه أولا بأول وقد جمع له الأمرين إذ أنزل جملة إلى بيت العزة تعظيما لشأنه وتفخيما للمنزل عليه ثم أنزل نجوما مفرقة كما أوضحناه في المطلب الثامن ومنه الوحي إلى الملائكة بما يأمرهم الله به، قال تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 12 من الأنفال ج 3، ومنه أيضا الوحي إلى ملك الوحي فيما يوحيه إلى الرسول. قال تعالى: (فَأَوْحى) الله جل جلاله إِلى عَبْدِهِ) جبريل عليه السلام (ما أَوْحى) به إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر الآيات فما بعدها من سورة النجم الآتية. روي عن أبي هريرة ان النبي صلّى الله عليه وسلم قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وانما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة متفق عليه- قال الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد إحدى مؤلفاته القيمة بعد تعريف الوحي لغة مانصه: وقد عرفوه شرعا بأنه اعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه. وقال الأستاذ السيد محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي: انه (أي الإلهام) عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة.

مطلب الفرق بين الوحي والإلهام والأول الوحي المراد بالآية الآنفة الذكر من سورة النجم ويكون هذا الوحي بصوت يتمثل أو يسمعه منه أو يعيه بغير صوت. والثاني الإلهام وهو وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلبه من غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور، وهذا الفرق بين الوحي والإلهام فيدخل في هذا التعريف أنواع الوحي الثلاثة الواردة في قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) الآية 51 من سورة الشورى ج 2. لاشتمالها عليها فالوحي هنا إلقاء المعنى في القلب ويعبر عنه بالنفث بالروع (أي النفخ الشديد بالقلب والخلد والخاطر) والكلام من وراء حجاب هو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه كما سمع موسى نداءه من وراء الشجرة والذي يرسل به الرسول جبريل، هو الذي بلغه الملك إلى الرسل فيرونه متمثلا بصورة رجل أو غير متمثل ويسمعه منه أو يعيه بقلبه وهذا قبل التفرقة بين الوحي والإلهام يسميه البعض الوحي النفسي أي الإلهام الفائض من استعداد النفس العالية اه بتصرف. ثم قال وقد اشتبه بعض علماء الافرنج بنبينا عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء. فقالوا: ان محمدا يستحيل أن يكون كاذبا فيما دعى الناس إليه من الدين القويم والشرع العادل والأدب السامي وحوّره من لا يؤتى بعالم الغيب منهم أو لا يؤتى باتصال عالم الشهادة أي لا يؤمن ولا يصدق بشيء من ذلك لأنه مادي لا يركن إلى غير المحسوس المشاهد ولا يطمئن إلا بما يعاين لأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيّلته السامية وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلا له فانتقش كلامه بصدره ووقع على سمعه فوعى ما حدثه الملك به، فظهر في هذا أن الخلاف بيننا وبين الافرنج الذين لا يوقنون بعالم الغيب ولا يصدقون باتصال عالم الشهادة في كون الوحي الشرعي من خارج نفس النبي نازلا عليها من السماء كما نعتقد لا من داخلها فائضا منها كما يظنون وفي ملك روحاني مستقل نزل من عند الله عليه صلّى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ

الخاتمة نسأل الله حسنها

بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الآيات 192 فما بعدها من الشعراء الآتية. وفي تخيل الملك بزعم وهو باطل، كما علمت بأن هذا القرآن وحي من الله تعالى، منزل من فوق السموات العلى، لا يمكن أن يكون فائضا في هذه الأرض من نفس النبي صلّى الله عليه وسلم قطعا، وذلك مبلغهم من العلم المنحوت من تصوراتهم الناشئة من عدم اعتقادهم بوجود الإله القادر على كل شىء، ومن يظلل الله فما له من هاد. الخاتمة نسأل الله حسنها اعلم أجارك الله وعصمك من كل مكروه، أن الإنسان دائما معرض لنزغات الشيطان ووسوسته في كل حال من أحواله الدينية والدنيوية ولذلك أمر الله عباده أن يلتجئوا إليه منه وخاصة عند الشروع في عبادته لتكون خالصة لجنابه طيبة لمقامه ولا يقبل إلا الطيب فأوحى لرسوله في جملة ما أوحى إليه (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الآية 98 من سورة النحل في ج 2. وقال عز قوله (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الآية 26 من سورة فصلت ج 2، والآية 56 من سورة عاقر (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ... فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في ج 2. فإذا امتثل الإنسان هذا الأمر أعاذه الله وأدخله في قوله تعالى (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) الآية 4 من سورة الاسراء الآتية ومثل آية فصلت المارة الآية 199 من سورة الأعراف الآتية. فيكون المستعيذ في كنف الله ورعايته يسدده إذا مال ويقومه إذا اعوج ويؤمنه إذا خاف ويرشده إذا ضل ويؤازره إذا ذل ويكون معه في كل أحواله فينصرف بكليته إليه ويذكره خاليا عما سواه ليذكره من في السماء وذلك ما يبتغي وفيه قال: وساعة الذكر فاعلم ثروة وغنى ... وساعة اللهو افلاس وفاقات لأن الذاكر إذا لم يكن ذكره على تلك الصفة كان لهوا وصاحب اللهو مفلس في الأجر معرض نفسه للبلاء وفيه قلت:

وكذا العبادة فهي لهو أو ريا ... ما لم تحصل طاعة الخلاق هذا وقد اختار جل العلماء صيغة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم على غيرها من صيغ التعويذ لأنها أجمعها ولموافقتها لما جاء في التنزيل كما هو مبين في الآية الأولى. ومعنى أعوذ بالله ألتجئ إلى الله وامتنع به من كل سوء إذ هو الإله الذي لا رب غيره ولا معبود سواه، المستغاث به من كل ما يخشى، والمستعان به على كل ما يراد ويخاف منه ويفزع «من الشيطان» هو كل عات طاغ من الجن والانس «الرجيم» الطريد وهو بمعنى لم الفاعل أي الذي يرجم الناس بالوسوسة وترجمه الناس باللعن وبمعنى اسم المفعول اي المرجوم بالطرد من رحمته والبعد عن خيره. فهذه الاستعاذة عبارة عن اقرار العبد بالعجز واعترافه بقدرة خالقه على دفع ما يضره وجلب ما ينفعه. مطلب منى يكون الأمر واجبا وتذكير بعدوه الباغي الفاجر لأبينا آدم عليه السلام وتهديده لذريته بالإغراء إلى اليوم الآخر وقطع بأنه لا يقدر على حفظه من إغوائه غير ذلك الرب الذي التجأ اليه من شره لعنه الله، وحكم الاستعاذة شرعا على قول جمهور العلماء أنها سنة مستحبة في الصلاة وغيرها، وقال عطاء بوجوبها للأمر بها في الآيات المارات، ولمواظبة الرسول عليها، ودليل الجمهور على سنيتها عدم تعليمها للأعرابي في جملة أعمال الصلاة، ومواظبة الرسول عليه السلام لا تقتضي الوجوب على لجملة، لأنه واظب على أشياء كثيرة ليست بواجبة على أمته كتكبيرات الزوائد في العيدين والتسبيحات في الركوع والسجود وصلاة الليل وقيامه وغيرها، والأمر في القرآن قد لا يكون واجبا حتى إذا كان معلقا على فعل آخر كما في تلك الآيات لأن المعنى فيها إذا أردتم القراءة فاستعيذوا كما في قوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) أي إذا أردتم القيام إليها لا مطلقا وإلا لوجب الوضوء دون إرادة الصلاة وليس كذلك، فالأمر الذي ينصرف للوجوب من كل وجه هو الذي لم يقيد ولم يخصص ولم يعلق على غيره كقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أما إذا وجد الصارف عن الوجوب أو ارتبط الأمر بغيره فلا يكون واجبا في كل حال كما في آيات الاستعاذة والوضوء المارات وسيأتي تفصيله في تفسير آية الوضوء/ 7/ من المائدة في ج 3 وما يماثلها من السور الأخرى هذا.

مطلب في البسملة واختصاصها في هذه الأمة وإن أفضل أنواع البسملة وأكملها ما ذكره الله في كتابه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وهي بلفظها العربي هذا من خصائص هذه الأمة، لأن القول بلفظها ومعناها ينقضه، ما ذكره الله في الآية/ 30/ من سورة النمل الآتية على القول بأنها أنزلت بمعناها على سيدنا سليمان عليه السلام. ولو كان لتداولتها الأمم قبل الإسلام، ولم يكتب الجاهليون باسمك اللهم في ابتداء كتبهم وأمورهم، ولم يستمر هذا اللفظ في بداية الإسلام. واعلم أن ما روي من انه صلّى الله عليه وسلم، كان يأمر بكتابة باسمك اللهم، إلى أن نزلت (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) الآية/ 41/ من سورة هود في ج 2، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ) واستمر إلى أن نزلت (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية الأخيرة من سورة الإسراء الآتية، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ) واستمر حتى نزلت آية النمل المذكورة آنفا، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لا وجه له من الصحة، لأن سورة النمل نزلت قبل سورة هود، وقبل الإسراء، اللتين فيهما (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) وقال (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) وسورة الإسراء نزلت قبل هود، فكيف يصح الاستدلال بهذا الحديث، مع ثبوت عدم نزول الآيات المذكورة على الترتيب المبين فيه (تدبر) . ومن هذا يتضح لك أن البسملة هذه من خصائص الأمة المحمدية فقط، وقد ذكر العلماء أوجها كثيرة، في أن البسملة: هل هي آية مستقلة أو آية من الفاتحة فقط، أو في كل سورة، واستدلوا بأقوال متضاربة وأحاديث متباينة، ضربت عنها صفحا لعدم ثبوت صحتها ثبوتا يصح الاعتماد عليه. والصحيح الذي اعتمدته هو أن البسملة آية منفردة، قد أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا وللفصل بينها، يؤيد هذا ما رواه الثعلبي عن أبي بردة عن أبيه قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد) بعد سليمان بن داود غيري، فقلت: بلى، قال: بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة، فقلت: (ببسم الله الرحمن الرحيم) قال: هي هي، وما روى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبّي بن كعب:

ما أعظم آية في القرآن قال: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فصدقه صلّى الله عليه وسلم في قوله، ولذلك أدخلت في بدء كل سور القرآن، عدا سورة التوبة كما سنعلم سببه فيها. ولأن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدّفتين كلام الله، فلو لم تكن البسملة منه لما أدخلوها فيه، ولم تجمع الصحابة على نسخ المصاحف وتدوينها فيها، كما هي عليه الآن، وحرق ما سواها مما قيل أنه قرآن، ومنع الناس من تلاوة غيرها لتوحيد القراءة، ودفع ما يقع من الاختلاف فيها حسب لغات العرب، إلا لتجريد كلام الله عما سواه خوفا من أن يزاد فيه أو ينقص منه، ألم تر أن لفظة آمين مع كثرة الأحاديث الواردة فيها والمواظبة على قراءتها مع الفاتحة في الصلاة، وغيرها من لدن حضرة الرسول فمن بعده متواترة. لم تكتب في القرآن لأنها ليست منه، ويرد الأقوال والأحاديث الواردة بأن البسملة آية من الفاتحة أو كل سورة ما ثبت بالأدلة القطعية المتقدمة بأن أول ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ولم تذكر البسملة معها. وما روي عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم من أن سورة الملك ثلاثون آية والكوثر ثلاث آيات والإخلاص أربع آيات فلو كانت البسملة آية منهنّ لكانت الأولى 31 والثانية 4 والثالثة 5 لأن القرآن لا يثبت إلا بتوقيف من الشارع أو بالتواتر والاستفاضة أما معناها فالاسم مشتق من السموّ أي الرفعة والعلو، يقال سمّو الأمير، ويريدون علو شأنه ورفعة قدره، والجار متعلق بفعل مقدر تقديره، أبتدئ تبركا باسم (الله) الواجب الوجود المنزه ذاته عن الكيفية والكمية، المتبرك به في جميع الأحوال ولا يطلق هذا اللفظ على غيره تعالى البتة، وتفخّم لامه بعد فتح أو ضم ما قبلها، وقيل مطلقا، ومن صفاته (الرحمن) الذي وسعت رحمته كل شيء، يرحم المؤمن والكافر والبر والفاجر ولا يجوز أن يوصف به غيره، ولا يسمى به معرف، وما قيل في مسيلمة الكذاب: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ... فمن تعنته وكفره بادعائه النبوة. وقيل الممنوع المعرف فقط فلا يجوز أن تسمي أحدا أو تصفه بالرحمن، ومن

صفاته (الرحيم) بالطائعين من عباده، ولهذا قالوا الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى فيرحم ويرزق باسمه الرحمن الطائع والعاصي في الدنيا والآخرة، ويرحم المؤمن والطائع باسمه الرحيم في الآخرة لاختصاصه فيها. الحكم الشرعي في البسملة الحكم الشرعي هو انها سنة مؤكدة في الصلاة والقراءة والأكل والشرب واللبس والأخذ والعطاء وغيرها، أما في أجواء ما يخالف الشرع وسائر المنكرات فالأدب الاحتراز عن ذكر الله عند تعاطيها، قال عليه الصلاة والسلام: (كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله فهو أبتر) الحديث، أي ناقص وقليل البركة، وقد أجمع قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها بانها ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها كما قدمناه وبهذا أخذ أبو حنيفة ومالك استدلالا بالحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل) أي الفاتحة لأنها ثناء له ومعونة ودعاء لعباده، وقد بدأ صلّى الله عليه وسلم صلاته بالحمد لله فلو كانت البسملة منها لما تركها وبحديث انس المخرج في الصحيحين وحديث عائشة رضي الله عنهما من أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، فلو كانت البسملة آية منها لبدأ بها، وقال قراء مكة والكوفة أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وأخذ بها الشافعي وأحمد بن حنبل استدلالا بقول ابن عباس عند قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الآية 87 من سورة الحجر في ج 2 بأنها أي السبع المثاني فاتحة الكتاب، قيل فاين السابعة قال هي (بسم الله الرحمن الرحيم) ، أخرجه خزيمة عنه وقوله من ترك البسملة فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن ولعده إياها آية من القرآن حينما سئل عنها، وبما روت أم سلمة ان النبي صلّى الله عليه وسلم قرأها أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية من الفاتحة، وهذا كله لا يؤيد كونها آية في القرآن العظيم في كل سورة أو في الفاتحة وليس بشيء تجاه ما تقدم، لأن عدّ

مطلب الفرق بين الحمد والشكر وفضلهما ومتى يطلبان

ابن عباس البسملة آية من القرآن غير معارض لما ثبت لك ممّا مر بأنها آية مستقلة في القرآن، نزلت للفصل بين السور، كما ذكره فخر الإسلام في المبسوط، وقد أوجب كثير من العلماء قراءتها في الصلاة منهم الزيلعي في شرح الكنز والزاهدي في المجتبى وهو رواية عن ابي حنيفة. وأما قول من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن فهو موقوف عليه، بل هو قول مجرد عن الدليل ولم يعرف روايه عنه، وان ما روي عن أم سلمة لم يوجد في المشهور وان حديثها هذا مروي عن أبي مليكه ولم يثبت سماعه عنها وبتقدير سماعه فرضا بسبب المعاصرة فيمكن أنها عنت به قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم المروية بطرق متعددة وألفاظ متقاربة يوجد في بعضها ما لم يوجد في الاخر كما هو مسطور في روح المعاني للآلوسي رحمه الله في ج 1 ص 35- 36 وقد ذكرت بعض منها على طريق التمثيل ولم استوعبها، وما جاء في صدر حديثها لا يعارض ما اخترناه لأن قراءته صلى الله عليه وسلم البسملة أول الفاتحة لا يعني أنها آية منها كما أن الحديث الذي أخرجه ابن خزيمة عن ابن عباس والذي رواه الدارقطني عن أبي هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلم إذا قرأتم (الحمد لله) فاقرؤا (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها لم تعارض بما ذكرناه ولم تقابلها من حيث الصحة وقوة الرواية (تدبر) هذا وقد ذكرنا ما به الكفاية في ذلك وأسهبنا البحث في البسملة لكثرة اختلاف العلماء فيها حتى أن الإمام أبا بكر بن خزيمة صاحب الصحيح والحافظ أبا بكر الخطيب وأبا عبد الله وغيرهم أفردوا لها مؤلفا على حده. مطلب الفرق بين الحمد والشكر وفضلهما ومتى يطلبان واعلم أنه كما يجوز الابتداء بالبسملة يجوز الابتداء بالحمد له وهي «الحمد لله» فالحمد هو الثناء بالوصف الجميل على الفعل الاختياري وتصحيفه المدح وهو الثناء على الجميل من نعمه أو غيرها اختيارا كقولك حمدت الرجل على أنعامه وعلمه ومدحته على شجاعته

وحسبه واضطرارا مثل حمدك الغير على صباحة وجهه ورشاقة قده لانهما ملازمان له وكذلك مدحك اللؤلؤة على صفائها لأن الصفاء صفة ملازمة لها مدحت أو لم تمدح ويكونان باللسان فقط، بخلاف الشكر فإنه يكون باللسان والقلب واليد. قال. افادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا ولا يكون المدح إلا بمقابلة النعمة ونقيض الحمد والمدح الذم وهو اظهار مثالب الإنسان، ونقيض الشكر الكفران وهو نكران نعمة المنعم، ولهذا جعلوا الشكر على النعمة نعمة تحتاج للشكر ايضا وبه قال بعض العارفين: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... عليّ له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله، وان طالت الأيام واتصل العمر، والحمد لا يكون إلا بعد الإحسان والمدح يكون قبل الإحسان وبعده. وقد وعد الله على الشكر زيادة النعمة وعلى جحودها العقوبة، فقال جل شأنه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة ابراهيم في ج 2، وقال صلّى الله عليه وسلم في الحث على الشكر (أشكركم لله أشكركم للناس) وقال: من لم يشكر الناس لم يشكر الله) واعلم أن أركان الحمد خمسة 1 محمود: وهو من صدرت منه النعمة، 2 وحامد: وهو الذي يأخذها، 3 ومحمود به: وهي الصفة التي تحلى بها المنعم كالعلم والكرم والشجاعة، 4 ومحمود عليه: وهي نفس النعمة التي صدرت من النعم، 5 وصيغة: وهي الجملة التي تدل على اتصاف المحمود بتلك النعمة التي حمد عليها، كقولك محمد كريم، واحمد عالم، ومحمود شجاع. الحكم الشرعي وجوب الحمد والمدح والشكر بمقابلة النعمة، وسنّة في سائر الأوقات بحق الخلق. أما للخالق فواجب في كل حال، لتمادي نعمه على خلقه، ولأنه المستحق لجميع المحامد، أزلا وابدا، وبما أن هذا البحث من الاستعاذة إلى هنا، قد يأتي مكررا في القرآن العظيم، فلا نتكلم بشأنه فيما بعد اكتفاء بتفسيره هنا. هذا، وقد آن لنا أن نشرع في المقصود ومن الله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق، فأقول متلبسا بلطف الله وعطفه.

مطلب إعاذة الله فى إصلاح الكون

مطلب إعاذة الله فى إصلاح الكون لما كان مراد الله تعالى من خلق خلقه عبادته والاعتراف بوحدانيته ليس إلا لقوله عز قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2، وكانت المخلوقات الأرضية بأسرها عدا من اختصه الله شريرة بالطبع، بحيث لو تركت وشأنها، لأكل القوي الضعيف، واسترق الوضيع الشريف، واستخدم الغني الفقير، وذل التقي واعتز الشرير، وطأطأ العاقل، وتطاول الجاهل، ولم يقف عند هذا الحد، بل لساقه بغية لمناوأة بإرثه، ولقضت له أنفته لقتال مرشده كفرعون وهامان ونمرود ومن تقدمهم من أهل إرم وعاد وثمود، ولنهض به طغيانه إلى عبادة غير خالقه من الأصنام والأوثان والملائكة والكواكب والنار والحيوان، وقد جرت عادة الله تعالى في كونه، انه كلما فسد ما فيه من الخلق المكلف بعبادته، أرسل إليه من يرشده ويصلحه رحمة به وإبقاء لبقائه حتى استكمال أجله المقدر له في علمه عند خلقه. وقدّر له الرقي والفوز في ملكوته ليسير في ملكه وليعلم أهم قادرون بقدرته على استخراج ما أودعه فيه، فيرفعه هذا المرشد من مستوى الرذيلة إلى علو مراتب الفضيلة، حتى إذا أصرّ على عناده هبط به إلى حضيض الخسة وأهلكه بعذاب لا مرد له منه، قال تعالى (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا) الآية 24 من سورة يونس ج 2. وقد اطّردت عادة جل هذا البشر أن لا يتعظ بالآيات ولا يتأثر بالمعجزات وينسى ما أوقعه الله بالكافرين أمثاله من عذاب الاستئصال، وما سمي الإنسان إلا ... لنسيه ولا القلب إلا انه يتقلب ولكن الله تعالى بالمرصاد للمعاندين أشباههم وانه مهما أمهل لا يهمل وما كان ولن يكون غافلا عن الظالمين ولا ناسيا مكايدهم، وقد طفح قدح الخلق في القرن السادس من ميلاد المسيح عليه السلام بأنواع البغي والطغيان والعمل القبيح وأعرضوا عما جاءهم به ابن عمران وكفروا بالسيد المسيح وعكفوا على اللذائذ والشهوات ولم يبالوا بما اقترفوه من الفواحش والجنايات حتى استحلوا المحارم وتكالبوا على المظالم، ونبذوا كتب أنبيائهم ظهريا، ولم يخشوا لومة لائم، وتخبط العرب

مطلب ولادة محمد صلى الله عليه وسلم

في جاهلية جهلاء وأعرضوا عن خالق الأرض والسماء وقصد ابرهة هدم البيت الحرام صار الكون بحاجة ماسة إلى من ينقذه من ورطته وبوقظه من رقدته وبينما هم كذلك لا يدرون ما وراء ذلك حصل أمر عظيم. مطلب ولادة محمد صلّى الله عليه وسلم ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم عام الفيل 29 أغسطس سنة 570 من ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام وقيل في 20 نيسان سنة 570 والأول أكثر حجة كما في الصفحة 118 من مقدمة الأستاذ فريد وجدي المسماة صفوة القرآن، وفي ترجيح لقول الأخير نظر إلى ولادته في ربيع ونيسان من أشهره، ولكن هذا غير مطرّد في نكاح صحيح ونسب طاهر. وظهر لولادته خوارق وغرائب وعلامات، منها رسال الأبابيل على أبرهة المذكور وحماية بيته منه، وإخماد نار فارس، وانصداع ديوان كسرى، ونضوب ماء عين ساوة، عدا ما رأته أمه من الكرامات في حمله وولادته، وما رأته مرضعته مدة رضاعه وغيرها، مما لا محل لذكره هنا، وقد نشأ نشأة تبرهن للعالم أجمع بأنه صلّى الله عليه وسلم هو المختار لإصلاح هذا الكون وأهله والمجدد لعصور الأنبياء بالإرشاد، ونشل العالم من كبوته، وقد ترعرع بين قومه فأحبوه وعظموه ونسبوا إليه كل فضل حتى انهم لقبوه بالأمين، وقد أراه الله من الإرهاصات الدالة على نبوّته عيانا، وأراه الرؤيا الصادقة تبيانا، وصار يتعبد بما يلهمه ربه وحبب إليه الخلاء، فاعتزل قومه إلى غار حراء كارها ما هم عليه من عبادة الأوثان وغيرها من العادات القبيحة الجاهلية، ومن هنا نشأت عداوة قومه له ولم يزل حتى شرفه الله بالنبوة والرسالة وأنعم عليه بالقرآن المجيد، وأول ما بدىء به بعد ما رأى من مقدمات الوحي الرؤيا الصادقة مدة ستة أشهر في مطلع سنة 46 من ميلاده الشريف أوائل سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) كما تقدم، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. لأن مدة الوحي ثلاث وعشرون سنة تقريبا فتكون الستة أشهر جزءا. منها، وكان مبدأ النزول في غار حراء يوم الجمعة في 17 رمضان من ميلاده الموافق سنة 610 من ميلاد عيسى عليهما الصلاة والسلام، ولذلك ابتدأت هذا الكتاب في تفسير سورة العلق التي أولها تلك الآيات الخمس النازلة عليه جريا على ما ذكرناه في مقدمة الكتاب والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل. ت (5)

تفسير سورة العلق وتسمى سورة التعليم و (اقرأ) أيضا

تفسير سورة العلق وتسمى سورة التعليم و (اقرأ) أيضا عدد 1 (نزولا) - 96 (في ترتيب المصحف) وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وثمانون حرفا لا ناسخ ولا منسوخ فيها ولا يوجد في القرآن سورة بدئت أو ختمت بما بدئت أو ختمت به، وقد نزلت في غار حراء بمكة يوم الجمعة في 17 رمضان سنة 41 أو 27 رمضان سنة 41 من ميلاده صلّى الله عليه وسلم ومثلها في عدد آياتها سورتا الأعلى والانفطار. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «اقْرَأْ» يا محمد ما أوحيته إليك على لسان رسولي جبريل من القرآن الذي أردنا إنزاله عليك لتتلوه على أمتك، مبتدأ «بِاسْمِ رَبِّكَ» الذي رباك وأنعم عليك به واختارك لإرشاد عباده، وهذا أول أمر أمره به ربه بأن يذكر اسمه تيمّنا به ثم يقرأ ما يوحيه إليه تأدبا لحضرته الكريمة وتعريفا لعنوان الربوبية المنبئة عن حال التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق به شيئا فشيئا، وبإضافة الضمير إليه تعالى اشعار بتبليغه عليه السلام الغاية القصوى من الكمالات البشرية بإنزال هذا القرآن عليه، ثم وصف ذاته جلت وعظمت بقوله «الَّذِي خَلَقَ 1» كل شيء وبدأ خلقه من لا شيء وصور جميع خلقه على غير مثال سابق باسمه البديع الذي «خَلَقَ الْإِنْسانَ» الذي هو أشرف المخلوقات وأبدع المصنوعات الذي منه تقتبس المكونات البشرية وبه تقوم المكونات الإلهية، قال علي كرّم الله وجهه: دواؤك فيك ولا تشعر ... وداؤك منك ولا تبصر وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر

مطلب معنى العلق وفضل الإنسان

مطلب معنى العلق وفضل الإنسان هذا وان الله تعالى يعلّم خلقه بأن هذا المخلوق العظيم خلقه «مِنْ عَلَقٍ 2» يريد بذلك بني آدم كلهم، أما آدم عليه السلام فقد خلقه من تراب لأن العلق هو الدم الذي تجمد عن ولوج الحيوان الذي يطلق عليه لفظ علق أيضا، وهذا بيان لكمال قدرته بإظهار ما بين حالتي الإنسان الأولى والأخرى من التباين. وقد ذكّر الله نبيه بأول نعمة فائضة عليه منه وهي الخلق لأنه أقدم الدلائل الدالة على وجوده، وجاء علق بلفظ الجمع لان (أل) فيه للاستغراق لتشمل جميع أفراد الإنسان. هذا ومن فسر الإنسان بآدم قال إن أل فيه للجنس الصادق بالواحد والقدر، وعليه يكون المعنى أصل الإنسان وجنسه آدم عليه السلام، وليس بشيء، لأن الله تعالى صرح في كتابه بآيات متعددة بأنه خلقه من الطين ومن التراب هذا. وفي قوله اقرأ إشارة إلى أنه تعالى خلق الإنسان للقراءة كما خلقه للعبادة لأنه ذكر الخلق بعد الأمر بالقراءة كما في قوله جل قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) الآية 4 من سورة الرحمن في ج 3 بعد قوله (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) تنبيه لهذا، وانظر لقوله عز قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2 وذلك لأن القراءة أصل العبادة كيف لا وفيها البعد عن الجهل المفني للأمم، وما فازت أمة إلا بقدر علومها ومعارفها الدينية والدنيوية، ولهذا كرر تعالى الأمر لحبيبه بقوله «اقْرَأْ» لنفسك ولغيرك فتعلّم وعلّم، ثم مهد له جل شأنه ما بينه من العذر إلى جبريل عليه السلام حين ضمّه وقال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ على النحو المار ذكره في المطلب الثاني عشر، وازاحه عنه بقوله «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3» الذي لا يوازيه كريم، الذي منّ عليك بالرسالة من غير طلب، يمنّ عليك بالقراءة من غير تعليم، كيف لا وهو «الَّذِي عَلَّمَ» بفضله وكرمه وعطفه ولطفه أنواع العلوم وفهّم القارئ الكتابة «بِالْقَلَمِ 4» لمعرفة الأمور الغائبة وحفظ الحاضرة والمستقبلة وضبطها وتدوينها، واثبات علوم الأولين وسيرهم والاطلاع على منافعها

لئلا يتطرق إليها الضياع والنّسيان، إذ لو بقيت في الصدور دون تدوين لنسيت وضاعت الفائدة منها، والكريم هو الذي يعطي لا لغرض ولا لعوض وهو الله الذي «عَلَّمَ الْإِنْسانَ» انواع العلوم وهداه إلى معرفة الحقائق الكلية والجزئية الجلية والخفية «ما لَمْ يَعْلَمْ 5» من المكونات الأرضية والسماوية مما لم يخطر بباله ولا يتصوره بخياله، فقد علّم آدم الأسماء كلها كما سيأتي في الآية 30 من سورة البقرة في ج 3، وعلم محمدا علوم الأولين والآخرين مع انه أمي، وفيه دلالة على كمال كرمه جلّ كرمه بأنه علم عباده مالا تحيط به عقولهم عفوا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. مطلب ما رثي نوما لا بعد قرآنا، وأصل الكتابة بفوائدها: انتهت الآيات الخمس التي نزلت دفعة واحدة أول الوحي فينبغي لمن يريد حفظ القرآن أن يحفظه خمسا خمسا فهو أعون على حفظه كله لأن الرسول قد حفظها حال نزولها، وما قاله بعض المفسرين من أنه تلقى هذه الآيات الخمس من الملك في سنة من النوم ثم تلقاها يقظة لا طائل تحته ولا قيمة له بل ولا صحة له، والحديث في هذا رواه الطبراني عن ابن الزبير موقوفا وهو يقابل ما جاء في الصحيحين على فرض صحته لأن الصحيح ما جاء في الصحيحين بأنه تلقاها حال اليقظة نهارا كما أثبتناه آنفا في المطلب الثاني عشر، لأن ما يراه الرسول في النوم لا يسمى قرآنا، وسيأتي لهذا البحث صلة في تفسير سورة الكوثر الآتية فراجعها. قال قتاده: لولا القلم لم يقم دين ولم يصلح عبش لأن الكلام عبارة عن هواء فإذا لم يقيد ضاع، وفيه قيل: العلم صيد والكتابة قيده ... قيد صيودك بالحبال الموثقه وليعلم أنه لو لم يكن على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا القلم والخط به لكفى، قالوا الكتابة قديمة في غير العرب وأول من نقلها من الحيرة إلى الحجاز حرب بن أمية أخذها من أسلم بن زيد، وأخذها أسلم من مرار بن مرّة،

فقد أخرج بن الأنباري في كتاب الكلمة عن عبد الله بن فروخ قال: قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله فيكم محمدا تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والنون؟ قال نعم، قلت ممن أخذتموه؟ قال من حرب بن أمية، قلت وممن أخذه حرب؟ قال من عبد الله بن جدعان، قلت وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال من أهل الأنبار، قلت وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن، قلت وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال من الخلّجان بن القسم كاتب الوحي لنبي الله هود عليه السلام وهو الذي يقول: أفي كل عام سنة تحدثونها ... ورأي على غير الطريق يعيّر وللموت خير من حياة تسيئنا ... بها جرهم فيمن يسبّ وحمير هذا وأول من اشتهر بالكتابة من الأصحاب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. واعلم ان أصول كتابات الأمم اثنا عشر: 1- السريانية، 2- العبرانية، 3- الحميرية، 4- الفارسية، 5- اليونانية، 6- الرومية، 7- القبطية، 8- البربرية، 9- بالهندية، 10- الأندلسية، 11- الصينية، 12- العربية، ولها فروع كثيرة، هذا، وبعد هذه الآيات الخمس بتسع سنين وعشرة أشهر نزل قوله تعالى ردّا لغلو أبي جهل وتمرده وبغيه «كلآ» حقا «إِنَّ الْإِنْسانَ» جنسه إذا تكاثرت. عليه النعم «ليطغى 6» على غيره ويستكبر ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع الهوى ولا يشكرها «أَنْ رَآهُ» أي ان راى نفسه «استغنى 7» وكثر ماله وولده فيأنف ويترفّع على غيره في المأكل والمشرب والملبس والركب والمسكن والترف وكان نزولها وما بعدها لآخر السورة بعد فرض الصلاة، بدليل النهي فيها عنها، وقد ألحقت بالآيات الخمس الأول على الصورة التي ذكرناها في مطلب جمع القرآن فراجعها.

[سورة العلق (96) : الآيات 11 إلى 19]

مطلب سبب عدم انفراد الآيات عن سورها: وهكذا فإنا نشير إلى الآيات التي لم تنزل مع سورها ونبين محالها، لأنا إذا أفردناها على حدة يتبعض نظام القرآن وهو منزه عن التبعيض ويتغير نسق السور وهو منهي عنه شرعا لأن ترتيبه توقيفي كما بيناه هناك، ولهذا السبب لم نفرد الآيات التي نزلت منفردة عن سورها بل نثبتها في سورها ونكتفي بإلماع إليها، هذا وان الصلاة فرضت ليلة الإسراء في 27 رجب سنة 51 من ميلاده الشريف في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين. وسبب نزولها في أبي جهل أنه كان قبل بعثة الرسول فقيرا ثم أصاب مالا كثيرا، فزاد في عناده وتجبره، وفي معتاده كله، فوبخه الله تعالى في هذه الآية، ونبهه بأن يشكر نعمته ويعمل لآخرته، لأن ما يعمله للدنيا فان والعاقل من يعمل لآخرته، لأن الله تعالى يقول: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى 8» في العقبى الباقية، وهناك ترى أنت وغيرك عاقبة الأمر. وفيها تهديد وتحذير من القهور والبغي، وتنبيه بأن النعم يجب أن تقابل بالتواضع والشكر طلبا لدوامها وتأدية لحق المنعم بها، قال تعالى: تعجبا أي يعجب الله الناس من حال أبي جهل «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى 9 عَبْداً» نون للتنكير تعظيما له، لأن المراد به حضرة الرسول «إِذا صَلَّى 10» لربه، أخبرنا أيها العاقل هل يفعل ذلك أحد؟ لأن الرؤية إذا كانت للعلم أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها سواء كانت بصرية أو قلبية، قال محمد بن أحمد الجزي في تفسيره التسهيل: إن فعل أراه للعلم، بدليل عمل الفعل بالفجر لأن فعل أراه للخير، لا يعمل بضمير المتكلم وهو كذلك، وتقدير الجواب، ألم يعلم بأن الله يطلع عليه فيعاقبه، لأن المنهي على رشد وهدى من ربه، ولهذا قال جل قوله: «أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى 11» ، فهل له أن يمنعه من ذلك؟ أما يخشى عقاب الله «أو» يزعم هذا الخبيث أنه «أَمَرَ بِالتَّقْوى 12» التي أساسها التوحيد والإخلاص، وملاكها الخوف والرجاء، وهي الجامعة لكل خير، المانعة من كل شر. كلا. بل أمر فيما

يأمر به من عبادة الأوثان وانكار البعث كما يعتقد «أَرَأَيْتَ» يا سيد الرسل «إِنْ كَذَّبَ» هذا الناهي بما أنزل عليك «وَتَوَلَّى 13» عن الإيمان بك وبربك، أخبرني يا حبيبي هل كان أو يكون أعجب من هذا، وأقل عقلا، «أَلَمْ يَعْلَمْ» هذا المكذب «بِأَنَّ اللَّهَ يَرى 12» طغيانه، وانه قادر على أخذه حالا فيجازيه أو يمهله فيعاقبه في الآخرة على اجترائه هذا. واعلم أن حكم هذه الآيات عام، وأن ما فيها من الوعيد يتناول كل من ينهى عن شيء من العبادات والأعمال الصالحة. ولا يلزم منها منع المولى عبده، والرجل زوجته عن قيام الليل وصوم التطوع والاعتكاف وصلاة الجمعة، لأن ذلك استيفاء لمصلحة السيد والزوج. ولا يلزم ايضا جواز المنع من الصلاة في الأرض المغصوبة وعلى الثوب المغصوب لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند البيت لأطان على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله فقال: لو فعل لأخذته الملائكة، زاد الترمذي عيانا. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل نعم، قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبه ويتقي بيديه، فقيل له مالك؟ قال: ان بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة! فقال صلّى الله عليه وسلم: لو دنا لا ختطفته الملائكة عضوا عضوا. وأنزل الله الآيات من كلّا إلى آخر السورة. هذا، وقول الحسن إن المنهي سلمان الفارسي والناهي أمية بن خلف، لا يصح، لأن سلمان أسلم في المدينة بعد الهجرة بلا خلاف، وهذة الآيات نزلت بمكة بلا خلاف أيضا، وما قيل إن الصلاة المنهي عنها كانت بجماعة، وكان أبو بكر وعلي يصليان مع النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن أبا طالب قال لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك بعيد عن الثبوت أيضا، لأن أبا طالب مات في السنة العاشرة من البعثة، وتلته خديجة بعد ثلاثة أيام قبل فرض الصلاة وقبل وقوع الإسراء، وقد فرضت الصلاة كما مر آنفا، ولو كان أبو طالب حيا لما تجرا أبو جهل

على ما تكلم به، لأنه صلّى الله عليه وسلم لم ير الجفاء من قومه إلا بعد موته، قال تعالى: «كلّا» لا يعلم أبو جهل رؤية الله لعمله القبيح الذي يقوم به عنادا وعتوا وتكذيبا لحضرة الرسول، وعزتي وجلالي «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ» عن إيذاء الرسول ولم يرجع عما هو عليه «لَنَسْفَعاً» لناخذنّه ونجذبه «بِالنَّاصِيَةِ 15» ونقذفنه بالنار والسفع أخذ الشيء وجذبه بشدّة وكتب نسفعا بالألف اعتبارا بحال الوقف، ويجوز في غير القرآن كتابته بالنون كسائر الأفعال المتصل بها نون التوكيد الخفيفة وعليه قوله: يحسب الجاهل ما لم يعلما ... شيخا على كرسيه معمّما فلم تكتب بالنون للروى، والروى كحال الوقف. والسفع والصفع الضرب على الرقبة، واللطم الضرب على الوجه، واللكم الضرب بمجموع اليد ومثله الوكز، راجع الآية 15 من سورة القصص الآتية «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ 16» أي صاحبها موصوف بهذه الصفات الخسيسة، ويشمل هذا كل من يعمل عمل أبي جهل، قال ابن عباس: لما نهى أبو جهل حضرة الرسول عن الصلاة انتهره، فقال: أتنهرني والله لأملأن عليك هذا الوادي خيلا جردا ورجالا مردا وإنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني. فأنزل الله جل شأنه ما به يتحداه فقال: «فَلْيَدْعُ نادِيَهُ 17» اي أهل ناديه من اطلاق المحل وإرادة الحال فيه مثل «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» الآية 82 من سورة يوسف في ج 2، أي فليدع أهله وعشيرته ومن يضمه مجلسه. مطلب معرفة بعض الألفاظ. واعلم أن المجلس لا يسمى مجلسا إلا وفيه ناس وإلا فهو بيت، كما لا تسمى المائدة مائدة إلا وعليها الطعام وإلا فهي خوان، والكأس لا تسمى كأسا إلا وفيها الشراب وإلا فهي زجاجة، والقلم لا يسمى قلما إلا وهو مبري وإلا فهو قصبة، هذا، ويطلق الأخذ بالناصية على الأخذ بمقدم شعر الرأس، قال عمرو بن معديكرب: قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع

ثم هدده بقوله: «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ 18» إذا دعوت قومك، ومن في ناديك على رسولنا. والزبانية الملائكة الغلاظ الشداد، الموكلون بدفع أهل النار، وسيأتي وصفهم في تفسير الآية 30 من سورة المدثر، والآية 23 من سورة التكوير الآتيتين، والآية 7 من سورة التحريم في ج 3) فيدفعونك معهم ويزجونك في النار، والزّبن الدفع بشدة اهانة للمدفوع، إذ لا يتركونهم يدخلون على هينتهم، وهو لفظ خاص بالأعوان: كالشرطة والدرك والحوذية وما شابههم، ويطلق على كل من اشتد بطشه وإن لم يكن من أعوان السلطان والولاة وفيه قيل: مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عظام حلومها وقال جرير: لهم مجلس مهب السبال ادلة ... سواسية امراؤها وعبيدها وقال زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل وقال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ثم كرر الله عليه الردع والزجر بقوله: «كلا» تحقيرا لشأنه، وتثبيتا وتأييدا لنبيه المخاطب بقوله عز قوله: «لا تُطِعْهُ» في ترك الصلاة ولا تلتفت إلى ما تفوّه به، ودم على ما أنت عليه من العبادة، فإنا حافظوك منه وكافوك شره وناصروك عليه، «وَاسْجُدْ» لعظمتي وكبريائي يا حبيبي «وَاقْتَرِبْ 19» من جلالي وبهائي بكثرة الصلاة ذات الركوع والسجود، ولا تكترث بذلك الخبيث واستمر على خلافه. مطلب الحكم الشرعي في سجود التلاوة الحكم الشرعي: وجوب السجود عند تلاوة كل سجدة من سجدات القرآن الأربع عشرة فورا امتثالا لأمر الله، ويسن عند تلاوة آية السجدة آخر سورة الحج في ج 3 خروجا من الخلاف، وتجب على السامع ولو من وراء جدار ولو بسماعها

من المذياع «الراديو» لأن المسموع منه- معين لا يكون بتسجيلا- صوت القارئ نفسه لا صداه، ولذلك لا يجب لسماعها من الصندوق «فوتو غراف» لأنه صدى الصوت نفسه كما يسمع من الدار والجبل كما أوضحه الفقهاء. وهي سجدة واحدة يسبح فيها تسبيحات سجود الصلاة ويسن أن يزيد عليها (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، اللهم اكتب لي بها أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من نبيك داود عليه السلام) . وإذا كان عند التلاوة أو السماع غير متوضئ فليقل «سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ، الآية 285 من البقرة ج 3، ثم يقضيها بعد، فإذا سمعها وهو في الصلاة نواها في ركوعه أو سجوده. روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء، أي في السجود، وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، وجاء في صحيح مسلم من حديث لثوبان مرفوعا: عليك بكثرة السجود، فإنه لا تسجد لله سجدة إلا ورفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة. ولهذا البحث صلة في سجدة سورة مريم الآتية. واعلم انه إذا لم يرد بالصلاة هذه المبينة في الآية 17 المارة الصلاة المفروضة على فرض نزول هذه الآية قبل فرض الصلاة على النبي وأمته فيكون المراد بها في هذه الآية وما بعدها من السور الآتية إلى نزول سورة الإسراء صلاة الركعتين التي فرضها الله تعالى عليه خاصة وتابعه بعض من أسلم معه عليها تطوعا، إلا أن القول المعتمد ان المراد بها الصلاة المفروضة على القول بأنها نزلت بعد فرض الصلاة كما علمت مما ذكرناه آنفا وقول القائل يتجه في غير هذه الآية من الآيات الأخر الوارد فيها لفظ الصلاة النازلة قبل فرضها اتفاقا. هذا، والله أعلم. واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة القلم عدد 2 - 68 وتسمى سورة نون

تفسير سورة القلم عدد 2- 68 وتسمى سورة نون نزلت بمكة بعد سورة العلق عدا الآيات من 17 الى 33 و 48 الى 50 فإنها نزلت بالمدينة، وهي اثنتان وخمسون آية وثلاثمائة كلمة، والف ومائتان وستة وخمسون حرفا. ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدأت به. لا ناسخ ولا منسوخ فيها. ومثلها في عدد الآي (الحاقة) (وابراهيم) فقط. بسم الله الرحمن الرحيم «ن» هو حرف من حروف الهجاء المعجمة والله أعلم بمراده فيه وقد ذكرنا ما يتعلق فيه في بحث الإرهاص في المطلب الثاني عشر المار وسنبحث في المراد منه على ما يتوصل إليه عقل البشر في سورة ق الآتية إذ لا يوجد في القرآن غير هاتين السورتين سورة بدئت بحرف معجم واسم للحوت الذي بلع سيدنا يونس عليه السلام ولهذا سمي ذا النون، ويأتي بمعنى الدواة قال الشاعر: إذا ما الشوق برّح بي إليهم ... الفت النون بالدمع السجام وقال ابن عباس هو حرف من حروف الرحمن وأول أسماء الله نافع وناصر ونصير واسم للسورة. ويوقف عليه بالقراءة ومع السكون ويجوز إدغامها بواو. مطلب في القلم وما جرى به وأحاديث قيمة «وَالْقَلَمِ» الذي كتب الذكر في اللوح المحفوظ والله أعلم بصفته ولا داعي لبيانه. قيل أول ما خلق الله القلم فنظر اليه فانشق لهيبته نصفين ثم قال له اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بذلك على اللوح. والناس يجرون على أمر قد فرغ منه. وروي عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات (وفي رواية مسلم زيادة ينفعك الله بهن) : احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم ان الأمة لو اجتمعت

على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف. وفي رواية: احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله بالرخاء يعرفك بالشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وان الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا. ولهذا البحث صلة في الآية 17 من سورة الأنعام ج 2. وفي الآية 41 من سورة الرعد ج 3. فراجعها. وبعد أن ابتدأ جل ثناؤه في هذه السورة بهذا الحرف الذي هو رمز بينه وبين حبيبه أقسم فقال «وَالْقَلَمِ» الجاري بما كان وما يكون «وَما» وأقسم ايضا بالذي «يَسْطُرُونَ 1» أي تسطره، حفظته من أعمال الخلق ويدونونه بكتبهم، أو باللوح الذي سطرت عليه أعمالهم إذا كان الضمير عائدا إلى القلم وجمع الضمير تعظيما لشأنه وعبر عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم ولذا جعله فاعلا «ما أنت» يا أكمل الرسل «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» التي منّ بها عليك وهي النبوة والرسالة «بِمَجْنُونٍ 2» بطائش كما يزعم جهلة قومك فاشكر هذه النعمة ولا تكدر جنانك بما يقولون وعاملهم بما أنت عليه، وهذه الجملة جواب القسم وفيها تنبيه على كذب قومه فيما رموه به من الجنّة لأنهم لا يعقلون ان من أكرمه الله بالنبوة لا يكون إلا كاملا في جميع الأوصاف فكيف يكون مجنونا «وَإِنَّ لَكَ» عندنا «لأجرا» عظيما لا يقدر البشر قدره «غَيْرَ مَمْنُونٍ 3» به عليك والمنة لا تكدره كامل غير منقوص دائم غير مقطوع وقد زيدت اللام في (لأجرا) تأكيدا بتحققه كما زيدت الباء في (بمجنون) تأكيدا للنفي أي فاستمر على تحمل أذاهم وجفاهم واصبر على طعنهم وتحقيرهم واجر على الحق الذي أنت عليه ولا يمنعك ما يفترون به عليك من جراء تبليغ الرسالة لأنه كذب محض وافتراء ومنشؤه الحسد على ما منّ به عليك ربك دونهم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4» لا أعظم منه بدليل التنكير والوصف يسع جهلهم وغيرهم وهو خير ما أوتي الرجل، لأن حسن الخلق جامع لمحاسن الأفعال، قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: ما كان

أحد أحسن خلقا من رسول الله، ما دعاه أحد إلا قال لبيك فأنزل الله عليه هذه الآية وكان متحليا بأحمد الأخلاق وأرضى الأفعال وأكمل الآداب. مطلب أخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلم كيف لا وقد تأدب بتأديب الله عز وجل المبين بقوله الكريم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الآية 198 من الأعراف الآتية ولهذا فإنه كان متحليا بكثير من صفاته تعالى كالحلم والعفو والرأفة والرحمة والكرم والعلم وغيرها جاء في حديث مسلم وأبي داود والنسائي والإمام أحمد وغيرهم عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله قالت ألست تقرأ القرآن؟ قلت بلى. قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. وفي رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه صلّى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه. قال العارف بالله المرصفي أرادت تخلقه بأخلاق الله لكنها لم تصرح تأدبا. وروى البخاري ومسلم عن البراء قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير. ورويا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ان رسول الله لم يكن فاحشا ولا متفحشا وكان يقول خياركم أحاسنكم أخلاقا. ورويا عن أنس قال: خدمت النبي صلّى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا زاد الترمذي وكان صلّى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا وما مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله، ولا شمت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. ولقد قالوا الإثم خراز القلوب لأن الإنسان إذا فعل شيئا غير مشروع لا بد وأن يتردد ذلك في صدره المرة بعد الأخرى حتى يعرف ماهيته، فاذا منّ الله عليه رجع عما فعل واستغفر الله، وإذا أراد أن يستدرجه والعياذ بالله سلط على قلبه الشيطان فحسنه له فطبع على قلبه. حفظنا

الله وأجارنا من ذلك. وروى البخاري عن أنس قال: ان كانت الأمة لنأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت أي ليقضي لها ما تريده في الحوائج، فاذا كان مع الأمة هكذا فكيف هو مع الغير؟ وفقنا الله لاتباعه وطبعنا بطباعه، كيف لا وقد قال تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية 195 من آل عمران في ج 3. وفي رواية زيادة: ويجيب إذا دعي. وعنه قال. كان رسول الله إذا استقبله الرجل فخافه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس. أخرجه الترمذي. وروى مسلم عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان رسول الله يفعل في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة (خدمة) ، أهله فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة. ورويا عن أنس قال كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة (جذبه جذبة) شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت اليه وضحك وأمر له بعطاء ورويا عنه قال: كان صلّى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ووجها وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيما كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به (طائر صغير يشبه العصفور إلا أن منقاره أحمر) ورويا عن عائشة قالت ما خيّر رسول الله بين أمرين قط الا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فان كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه من شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله. (أي لله) زاد مسلم: وما ضرب رسول الله شيئا بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله. وفي متن الشمائل للحافظ الترمذي ... عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء ... . وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. أخرجه أبو داود. وعنها قالت قال صلى الله عليه وسلم ان من أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله. أخرجه الترمذي. وعن أبي الدرداء أن رسول

الله قال ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيمة من خلق حسن، وان الله تعالى يبغض الفاحش البذيء. أخرجه الترمذي أيضا. وله عن جابر أن رسول الله قال ان من أحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسا يوم القيمة أحاسنكم أخلاقا. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أمر بمعروف وإذا نهى نهى بمعروف راجع قوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) إلى آخر الآيات في سورة النحل في ج 2. تجد ما يتعلق في هذا البحث وبه كفاية والا لو كتبت لآخر حياتي عن أخلاقه ما وفيت بها قال تعالى «فَسَتُبْصِرُ» يا محمد ظهورك ونصرتك عليهم «وَيُبْصِرُونَ 5» أي يرى مكذبوك خذلانهم وإنزال العذاب بهم وإذ ذاك يعلمون «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ 6» المجنون الطائش هم أم أنت وهذا من الأخبار بالغيب الذي حققه الله له فيهم في واقعة بدر، وكانوا لوثوقهم بصدقه فيما بينهم إذا سمعوا منه شيئا يرسخ في قلوبهم ويخافون عاقبته فاذا أوعدهم أو وعدهم لا يزالون يرتقبون وقوعه ولكن عنادهم وحسدهم وتعاظمهم عليه حال دون طاعتهم له «إِنَّ رَبَّكَ» يا حبيبي «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» المستقيم الحق من كفار مكة واضرابهم الضالين «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 7» من خلقه أنت وأمثالك وأتباعك «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ 8» لك الذين يدعون إلى دين آبائهم الفاسد. نزلت هذه الآية حينما كلفه كفار مكة عبادة أصنامهم ليكفوا عن أذاه فقال له ربه «وَدُّوا» هؤلاء الكفار «لَوْ تُدْهِنُ» تلين لهم في قولك وفعلك وتوافقهم على طلبهم من داهن الرجل في دينه وأمره إذا خان فأظهر خلاف ما يبطن كالمنأفق «فَيُدْهِنُونَ 9» يلينون لك ويصيرون معك فيصافونك ويتقربون إليك، فإياك إياك يا حبيبي احذرهم. مطلب في الأوصاف الذميمة والنميمة. «وَلا تُطِعْ» منهم (كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ 10» حقير ذليل كذاب ولا تطع الآخرين أمثالهم أيضا لأنهم لا يريدون لك مثل ما تريد لهم من الخير، والمهانة تعتري الإنسان من قلة الرأي والتمييز وكثرة الكذب وعدم المبالاة بما يقع منه

[سورة القلم (68) : الآيات 11 إلى 20]

وعليه، والمراد به والله أعلم الوليد بن المغيرة لقول ابن قتيبة: لا نعلم أن الله وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة. يريد ما وصفه الله به في هذه الآية، وقيل هو الأسود ابن يغوت أو الأخنس بن شريق والأول أولى وكلهم يستحق ذلك «همّاز» عياب طعان يغمز على إخوانه في المجلس وسيأتي تفسير هذه اللفظة بأوسع مما هنا في تفسير سورة الهمزة الآتية «مشّاء» كثير المشي «بِنَمِيمٍ 11» أي نقّال للحديث السّيء، راجع الآية/ 11/ من سورة الحجرات في ج 3، تجد ما يتعلق بهذا البحث. تراه دائما يسعى بالنميمة ليفسد بين الناس ويبلغهم طعن الغير بهم ويعيبهم ليفسد بينهم وهو مع هذا كله «منّاع» كثير المنع «للخير» لا يفعله ولا يترك الغير يفعله «معتد» على الناس مجاوز في الظلم حده «أثيم 12» كثير الإثم عظيم الوزر فاجر باغ طاغ عات بخيل، يمنع نفسه وولده وعشيرته من أفعال الخير، ومن الإسلام والإيمان، ويهددهم ان دخلوا فيهما، ويندد لهم بعدم لفظه، وبأن ما يخبرهم به الرسول من الحشر والنشر لا حقيقة له. قاتله الله، وأطلقوا لفظ الإثم على الخمر بعد الإسلام لما فيه من الضرر، قال ابن الفارض: وقالوا شربت الإثم كلا وإنما ... شربت التي في تركها عندي الإثم إلا أن هذا الإطلاق لم يعرف قبل الإسلام البتة فلا يستدل، على أنه في معانيها أو من سماتها كما نوضحه في تفسير الآية 32 من الأعراف الآتية «عتل» غليظ جاف فاحش سيىء الخلق، شديد الخصومة في الكفر وهو «بعد ذلك» الذي وصف به من المثالب والمعايب «زَنِيمٍ 13» دعيّ ملصق في قريش إذ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من عمره وكانت له زنمة «قطعة لحم زائدة معلقة» في عنقه، وتطلق هذه اللفظة على ابن الزنا، قال حسان رضي الله: زنيم تداعته الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع وقال عكرمه: زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الأم ذو حسب لئيم

وهذا الخبيث إنما حدا به ذلك بسبب «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ 14» غرورا منه فأعرض يا حبيبي عنه ولا تركن اليه، فإن كثرة ماله وولده لا تغني عنه من الله شيئا، وان الله كافيك شره وولده ومغنيك عن ماله ونسبه، ولهذا تراه «إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا» المنزلة عليك «قال» هي «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 15» خرافاتهم وأقاويلهم وانا «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ 16» الأنف منه وهذا أعيب ما يكون عند العرب حتى انهم إذا هددوا رجلا يقولون: (لنقطعن أنفك) وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم في الحيوانات ولعن فاعله فكيف بالإنسان وبأكرم موضع منه لأنه تمام الحسن وقيل فيه: وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا وهو مكان العزة والأنفة قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل ويقولون فلان شامخ الأنف عالي العرنين، وفي الذليل جدع أنفه رغم أنفه، والوسم الكي بالنار إذ لا يذهب أثره على مر السنين، وهذا أول الآيات المدنيات من 17 الى 33 كما حكاه السخاوي في جمال القراء وهي عبارة عن قصة قصها الله على رسوله عظة لقومه قال تعالى «إِنَّا بَلَوْناهُمْ» أي أهل مكة اختبرناهم بالقحط والجوع امتحانا لهم علّهم يؤمنون حتى أكلوا الجيف والجلود وذلك بسبب دعائك عليهم إذ قال، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، وذلك بعد أن أنعم عليهم بكثرة الأموال والأولاد وجمع كلمتهم بوجوده فيهم وعزّز نعمهم بإرساله إليهم وهي أكبر نعمة لو قدروها كما سيأتي في تفسير الآية 28 من سورة ابراهيم في ج 2 فبدل أن يشكروا ذلك كفروا وتمادوا بالكفر والأذى لحضرته فكأنه قال تعالى لقد كان ابتلاؤنا لهم «كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» أي كامتحاننا واختبارنا أهل البستان المسمى القروان دون صنعاء بفرسخين وهم جماعة مصلّون قيل انهم من ثقيف وقيل من بني إسرائيل بعد رفع المسيح ت (6)

[سورة القلم (68) : الآيات 21 إلى 30]

عليه السلام، وكانت هذه القصة معروفة عندهم يتناقلها الخلف عن السلف بدليل التعريف فيها المعهود ذهنا، وكانت لأبيهم وكان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي على الفقراء فلما انتقلت إليهم بعد موته قالوا إن فعلنا مثل أبينا ضاق علينا الأمر لأنا أولو عيال، فحكى الله عنهم ما تذاكروا به بينهم بقوله جل قوله: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها» يقطعون ثمرها «مُصْبِحِينَ 17» قبل خروج الناس من بيوتهم حتى لا يراهم أحد يستعطيهم منها «وَلا يَسْتَثْنُونَ» أي لم يقولوا إن شاء الله أيضا «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ» أي طرأ عليها طارئ ليلا لأن الطائف كالطارق لا يكون إلا ليلا، وهذا الطائف لا يرد لأنه «مِنْ رَبِّكَ» يا رسولي ولا رادّ لما أريده، وذلك بأن أرسل عليها نارا أحاطت بها فأحرقتها كلها «وَهُمْ نائِمُونَ 19» قبل أن يفيقوا ويأتوا إليها «فَأَصْبَحَتْ» تلك البستان الغزيرة بالأشجار والثمار «كَالصَّرِيمِ 2» أي كالرماد الأسود على لغة خزيمة ومن كثرة الدخان كالليل المظلم، والصريم كناية عن البستان الذي صرمت أي فطعت أثماره كلها بحيث لم يبق فيها شيء. ورملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا أي كأنها لم يكن فيها شيء من نبات ما، قال تعالى واصفا حالهم فيما جاؤوا إليها «فَتَنادَوْا» نادى بعضهم بعضا بعد أن أفاقوا من نومهم «مُصْبِحِينَ 21» صبحة الليلة التي تحالفوا فيها قائلين لبعضهم «أَنِ اغْدُوا» اخرجوا غدوة «عَلى حَرْثِكُمْ» جنتكم لقطع ثمارها وقسمتها بينكم «إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ 22» عازمين على ما تقاولتم عليه من قصد قطف ثماركم قبل أن يحضركم أحد «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ 23» يتسارون همسا لئلا يحس بهم أحد قائلين بعضهم لبعض امضوا أو اجزموا على «أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) 24» أبدا فيسألكم منها كما كان الحال زمن أبيكم فيأخذوا ما يفضل عن قوت سنتكم «وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ 25» بزعمهم على ما صمموا عليه من القصد والمنع على اجرائه وان لا يحول بينهم حائل عنه ولم بزالوا سائرين حتى قاربوها «فَلَمَّا رَأَوْها» أرضا سوداء رمداء لا شجر

[سورة القلم (68) : الآيات 31 إلى 40]

ولا نبات فيها ولا ماء «قالوا» بعضهم لبعض «إِنَّا لَضَالُّونَ 26» طريقها مخطئونه فليست هي هنا فلما تحققوا قالوا لا بل هي نفسها «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ 27» ثمرها وخيرها ونفعها لتصميمنا على منع المساكين ما كانوا يأخذونه زمن أبينا ولعدم استثنائنا في حلفنا أي لم نقل إن شاء الله متصلا بكلامنا ذاك ولما رأوا ان سقط في أيديهم «قال أوسطهم» أعقلهم وأفضلهم واعدلهم لأن الأوسط خيار في كل شيء «ألم أقل لكم» يا اخوتي هلا «لَوْلا تُسَبِّحُونَ 28» أي تستثنون في حلفكم وقد سمى الاستثناء تسبيحا لأنه تعظيم للإله واقرار بأن أحدا لا يقدر أن يفعل شيئا دون مشيئنه «قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ 29» أنفسنا بمنعنا حق الفقراء وعدم سلوكنا ما كان يسلكه أبونا من القناعة بمؤنة السنة وانفاق الباقي لوجهه «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ 30» على ما وقع منهم نادمين على فعلهم ثم دعوا على أنفسهم «قالُوا يا وَيْلَنا» يا هلاكنا «إِنَّا كُنَّا طاغِينَ 31» في ذلك القصد السيء ومخالفتنا عمل أبينا الحسن وحرماننا من جنتنا لتصميمنا على حرمان الفقراء منها. ثم تراجعوا إلى أنفسهم بعد أن عنف بعضهم بعضا وسألوا الله تعالى بقولهم «عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ 32» طالبون الخير منه راجعون لعفوه، قال مجاهد تابوا فأبدلوا خيرا منها، وقال ابن مسعود بلغني أن القوم أخلصوا لله فأعطوا جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل عنقودا واحدا منه، قال تعالى «كَذلِكَ الْعَذابُ» الذي نفعله بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا بمن تقدم من الأمم نفعله بكم يا أمة محمد إذا لم ترجعوا عن غيكم فإنا نحرمكم من النعم في الدنيا «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ» الموعودون به «أَكْبَرُ» من هذا لأنه فان منقطع وذاك باق دائم «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 33» ما هو لأنه فوق ما تتصوره عقولهم. هذا آخر الآيات المدنيات وقد نزلت بالمدينة بمناسبة ذكر قريش وما كانوا يفعلونه بالرسول الأعظم، واعلم على سبيل الفرض والتقدير بأنك إذا طويتها وقرأت ما بعدها متصلا بما قبلها لاستقام النظم لأن هذه

[سورة القلم (68) : الآيات 41 إلى 50]

القصة كالمعترض التي يؤتى بها استطرادا بين كلامين غير أنه لا يجوز طي حرف واحد من القرآن أبدا، وهكذا كل الآيات المدنيات في السور المكية كالآيات المكيات في السور المدنية، فتدبر هذا الكتاب العظيم وانظر مغزى قوله تعالى: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) الآية 82 من سورة النساء في ج 3. وسبب نزولها أن أبا جهل قال يوم بدر لأصحابه خذوا أصحاب محمد فاربطوهم بالحبال ولا تقتلوا منهم أحدا يقول الله تعالى ان ما صوره من قدرتهم عليهم كما صور أهل الجنة اقتدارهم على قطف ثمارها توبيخا لهم قال تعالى «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ 34» جزاء عملهم بالدنيا. ولما سمع المشركون هذه الآية قالوا سنعطى في الآخرة إن كان هناك آخرة أفضل مما يعطى أصحاب محمد فكذبهم الله بقوله «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ 35» استفهام انكاري أي لا نفعل ذلك لأن التسوية بينهم غير جائزة فكيف يعطون أفضل وكيف نحيف بالحكم ونحن أعدل الحاكمين ونأمر عبادنا بالعدل. ثم قال استنكارا واستبعادا لحكمهم المعوج «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 36» وهذا استفهام آخر بمعنى التعجب من قولهم الناشئ عن فساد رأيهم وضلال فكرهم لأن حكمهم هذا لا يصدر عن عاقل قال تعالى «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ 37» تقرءون فتعلمون منه «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ» أي الكتاب «لَما تَخَيَّرُونَ 38» من مأربكم وتشتهونه من آمالكم «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ» موثقة بالعهود ومؤكدة بالحلف عاهدناكم بها على ان نعطيكم ما ذكرتم فاستوثقتم بها «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تقطع أبدا «إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ 39» لأنفسكم في هذا الميثاق من الخير والكرامة ثم خاطب نبيه بقوله «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ 40» كفيل بأن لهم ما للمسلمين في الآخرة «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم منه أم لهم شهداء يشهدون بصدق دعواهم هذه فاذا كان لديهم شيء من ذلك «فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ» الذين يزعمون أن لهم تلك القدرة على ما يقولونه

مطلب معنى الساق:

«إِنْ كانُوا صادِقِينَ 41» في زعمهم والمعنى لا يسلم لهم أحد هذا القول ولا يساعدهم عليه أحد كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ولا عهد ولا كفيل وإذا كان عندهم شيء من ذلك فليحضروه «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» عن أمر فظيع يوم يشتد الكرب ويصعب الأمر وقد كنّى بالساق عن يوم القيامة لشدة هولها. مطلب معنى الساق: وقال بعض المفسرين إن الساق في السريانية الهزل ونقل بعضهم أنها عربية في هذا المعنى أيضا إلا أن معنى الآية لا ينطبق عليه وما جرينا عليه في تفسير الساق أولى من غيره لأن ابن عباس لما سئل عن معنى هذه الآية قال هو يوم كرب وشدة وإذا أخفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: سنّ لنا قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق فان العرب لتقول عند الشدائد شمر عن ساقك، وقال ابو عبيدة لقيس بن زهير: فإن شمرت لك عن ساقها ... فدتها ربيع ولا تسأم وقال جرير: ألا ربّ ساهي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمّوا وكثر هذا المثل عند العرب حتى صار كالمثل السائر للأمر العظيم قال تعالى: «وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» الذي أمروا به في الدنيا (في ذلك اليوم المهول) ولم يفعلوه مع قدرتهم عليه «فَلا يَسْتَطِيعُونَ 42» عليه إذ تصير أصلابهم كصياصي (قرون) البقر لا تثنى عند الخفض والرفع فيعجزون عنه ولا يقدرون عليه «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» مطرقة إلى الأرض من شدة الخوف المحيط بهم أمره وإذ ذاك «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» تغشاهم حينما تسود وجوههم وتستنير وجوه المؤمنين «وَقَدْ كانُوا» في الدنيا «يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» فيسمعون داعي الله إلى

مطلب النسخ لا يدخل الأخبار والوعد والوعيد:

الصلاة ولا يجيبونه ليركعوا ويسجدوا له «وَهُمْ سالِمُونَ 43» أصحّاء قادرون عليه ولا يفعلونه فلذلك منعوا منه في الآخرة لأنها ليست محلا للعبادة «فَذَرْنِي» يا حبيبي «وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» القرآن الذي نطرفك به آونة بعد أخرى وسمي حديثا بالنسبة لحدوث انزاله وإلا فهو قديم أزلي، أي دعني وهذا المكذب، كله إليّ فأنا أكفيكه ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل علي بالانتقام منه، وهذا تسلية لحضرة الرسول وتطمينا لضميره وتطبيبا لخاطره الشريف وتهديدا للمكذبين العائد لهم ضمير «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» نستدنيهم للعذاب درجة درجة ونستنزلهم له أولا بأول حتى نورطهم فتوقعهم فيه بما كسبت أيديهم وذلك ان الله تعالى يرزق العصاة أحيانا ويكثر نعمه عليهم فيجعلون هذه ذريعة لارتكاب المعاصي ويغفلون عما يراد بهم فيأخذهم على غرة «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 44» أن الله لهم بالمرصاد لأنهم كلما ازدادوا من الذنوب جدّد لهم النعم فيغروا بها فينسون التوبة والاستغفار والشكر ويحسبون ذلك تفضيلا لهم على المؤمنين فيسبب هلاكهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج) وتلا هذه الآية. مطلب النسخ لا يدخل الأخبار والوعد والوعيد: ولا معنى للقول بنسخها بآية السيف وكذلك آية (واصبر) الآتية لأنهما من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ وكذلك الآيات المشتملة على الوعد والوعيد وما فيه معنى التعجيل كقوله تعالى (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) الآية 109 من سورة البقرة في ج 3 بإجماع علماء التفسير قال تعالى «وَأُمْلِي لَهُمْ» فأمتعهم بالنعم وأطيل أعمارهم وامهلهم فلا أعجّل عليهم «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 45» قوي جدا لا يقدر الخلق على نقضه وليعلم ان ما جاء في القرآن من ألفاظ الكيد والمكر والخداع والنسيان من قبل الله تعالى عز وجل هي على سبيل المقابلة لأن ذاته تعالى منزهة عنها وقد أجريتها علي ظاهرها لمعلوميتها وقد آتي بما يراد منها لفظا أو معنى تقريبا لفهم القارئ

مطلب معنى الكيد والمكر والآيات المدنيات الأخر:

قال تعالى «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» على تبليغ الرسالة لهم وإرشادك إياهم «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ 46» لا يستطيعون حمل تلك الغرامة المالية حتى يمتنعوا من الإيمان بك ويعرضوا عنك كلا لا تطلب منهم شيئا، فكان اعراضهم عنك عنادا وتكبرا ليس إلا، وهذه الجملة معطوفة على جملة (أم لهم شركاء) المارة «أم عندهم الغيب» بما هو باللوح المحفوظ لدينا «فَهُمْ يَكْتُبُونَ 47» منه ما يحكمون به ويستغنون عن علمك، وهذا الاستفهام على طريق الإنكار أي ليس لهم ولا عندهم شيء من ذلك. وهذه الآيات المدنيات الأخيرة من 48 إلى 50 النازلة في واقعة أحد مع الآيات 122 فما بعدها من آل عمران فى ج 3 كما سنبينه هناك، قال تعالى «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» على أذى قومك وامهلهم «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» السيد يونس عليه السلام في الضجر والعجلة فتبتلى كما ابتليناه. مطلب معنى الكيد والمكر والآيات المدنيات الأخر: واذكر «إِذْ نادى» ربه وهو في بطن الحوت الذي ابتلعه عقوبة استعجاله أمر ربه باهلاك قومه وغضبه لرفع العذاب عنهم وقد تركهم وذهب «وَهُوَ مَكْظُومٌ 48» ممتلىء غيظا واعلم أنه «لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ» بإلهامه التوبة والندم واجابة دعائه الذي الهمناه إياه وهو في بطن الحوت كما سيأتي في الآية 88 من سورة الأنبياء ج 2 وقبول عذره الذي اعتذر به الآتي أيضا هناك «لَنُبِذَ بِالْعَراءِ» بفضاء من الأرض ولم ننبت عليه ما يقيه من الشمس والهواء مع ما هو عليه من الضعف الذي لحقه في بطن الحوت «وَهُوَ مَذْمُومٌ 49» على ما وقع منه معاتب بما فعله مؤاخذ بزلّته، ولكن تداركته الرحمة فأنبت عليه ما أظله ووقاه، وحميته من كافة الهوام والوحوش كما حميته في بطن الحوت ولهذا فلم ينبذ مذموما، واعلم أن ما وقع منه يعد ذنبا بالنسبة لمقامه على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين وإلا فهو بالنسبة لغيره عبارة عن خلاف الأولى وليس بذنب

[سورة القلم (68) : الآيات 51 إلى 52]

ويماثل هذه الآية الآية 24 من سورة يوسف في ج 2 وهي: (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي لهمّ ولكنه لم يهم لوجود البرهان كما سيأتي تفصيله هناك، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 146 من سورة الصافات في ج 2 فراجعه، قال تعالى «فَاجْتَباهُ» اصطفاه واختاره «ربّه» ورد عليه حالته الأولى من الصحة والعافية والنبوة والرسالة «فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 50» الكاملين في الصلاح ومحى زلته وما قيل أن هذه الحادثة كانت قبل النبوة مردود بقوله تعالى في الآية 140 من سورة الصافات المذكورة «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» وهذه آخر الآيات المدنيات وسبب نزولها أن حضرة الرسول أراد أن يدعو على الذين انهزموا في واقعة أحد السنة الثالثة من الهجرة في شهر شوال سنة 56 من الولادة الشريفة إذ اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت تذكيرا لحضرته بما وقع للسيد يونس عليهما الصلاة والسلام وهي أيضا كالمعترضة كما ذكرناه في تفسير الآية 33 المارة فراجعها، قال تعالى «وَإِنْ» مخففة من الثقيلة والفرق بينها وبين أن النافية أنّ أن النافية لا يعقبها اللام والمخففة لا بد أن يعقبها ولذلك يسمونها اللام الفارقة «يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ» بضم الياء وفتحها أي يزلّون قدمك ليرموك وقرأ بن عباس والأعمش وعيسى ليزهقونك أي يهلكونك وهي كالتفسير وليست من القرآن كما ذكرنا لك في المطلب العاشر في بحث القراءات «بأبصارهم» بشدة نظرهم إليك بها سزرا بعين العداوة فيكادون يصيبونك بأعينهم، روي أن بني أسد كانوا عيّانين حتى أن الناقة أو البقرة إذا مرت بهم يعاينونها ثم يقولون لجارتهم خذي المكتل والدراهم وآتينا بلحم منها فما تبرح حتى تقع فتنكسر أو ترض فتذبح، وكان الرجل منهم يتجوع يومين أو ثلاثة فلا يمر به شيء إلا ويقول لم أر مثله ليعيبه فيهلك، فكلفوا هذا الرجل أن يصيب الرسول بالعين وصارت قريش تقول كلما مر الرسول ما رأينا مثله قط بذلك القصد وليصرفوه عن القيام بما أمره به ربه فعصمه الله منهم ولم يستطيعوا بوجه من الوجه أن يصرفوه عن تبليغ رسالته وانزل هذه الآية

«لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ» القرآن العظيم لكرامتهم إياه «وَيَقُولُونَ» عند سماعه منه «إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ 51» لجهلهم حقيقته ولتنفير الناس عنه فرد الله عليهم بقوله الأزلي «وَما هُوَ» الذي تصفون به رسولي بالجنة لقراءته لكم إن هو «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 52» أجمع يتذكرون به ما وقع على الأمم السابقة ويتعظون بأوامره ونواهيه فليس بخرافات الأولين ولا سحر ولا كهانة ولا شعر بل هو كلام الله الأزلي المشتمل على ما كان وما يكون من أمر الدنيا والآخرة فمن وفقه الله لفهمه شرح صدره، ومن خذله جعله ضيقا حرجا لا يعيه ولا يفهمه، راجع تفسير الآية 125 من سورة الأنعام في ج 2. ترشد إلى هذا. قال ابن عباس وقال الحسن دواء إصابة العين قراءة هذه الآية. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العين حق. وزاد البخاري ونهى عن الوشم، وروى مسلم عن أبي عباس أن رسول الله قال العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا. وعن عبد الله بن رفاعه الرزقي أن أسماء بنت عميس كانت تقول يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم قال نعم، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين. أخرجه الترمذي. وجاء في روح البيان قد صح من طرق عديدة أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر، وعن أبي ذر مرفوعا أن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى جى يصعد حالقا (الجبل الشامخ) ثم يتردى منه. فيفهم من هذا الخبر ان المعان تعتربه حالة الجنون لذلك تسوقه إلى طرح نفسه إرادة قتلها، هذا وقد أنكر المبتدعة هذه الأحاديث التي أخذ بها جماهير العلماء ويرد قولهم ويدحض انكار (القاعدة) وهي أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فانه جائز عقلا فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه كهذا فان مذهب أهل السنة والجماعة ان العين إنما تفسد وتهلك عند مقابلة الشخص العاين بشخص آخر فتؤثر فيه بقدرة الله تعالى وفعله وقوله صلى الله عليه وسلم (ولو كان شيء سابق لقدر لسبقته العين) فيه اثبات القدر وانه حق ومعناه أن الأشياء كلها

تفسير سورة المزمل عدد 3 - 72 أو قيام الليل

بقدر الله ولا يقع شىء على أحد إلا بحسب ما قدره وسبق به علمه راجع الآية 78 من سورة النساء في ج 3 فما بعدها، هذا ولا يقع ضرر العين من خير أو شر إلا بقدرة الله وفيه حجة اثبات المعين وانها قوية الضرر إذا وافقها القدر وليعلم أن العين من خصائص بعض النفوس ولله أن يخص من شاء بما شاء، ويعطي بعض الحواس قوة لا تكون في العين وذلك من عجائب قدرته وعظائم صنعه لأنه تعالى طوى في هذه النفس اسرارا تتحير منها العقول ولا ينكرها إلا الجهول ولهذا البحث صلة في الآية 67 من سورة يوسف في ج 2 (ومن باب التأثير) التأثير بالقوة الكهربائية فقد شوهد أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فرقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه وقد يوجه نفسه إليه فيضعف قواه فيغشاه النوم ويتكلم بالعجائب. الحكم الشرعي: لا يسع العاقل انكار تأثير العين بالصورة التي وصفناها لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها قديما وحديثا، وقد تقع من النفوس الزكية عند استحسان بعض الأشياء كما تقع من النفوس الخبيثة عند كراهتها إياه وعلى المعاين أن يجتنب ذلك ويعتزل الناس وإلا فعلى الامام حبسه ومنعه من مخالطتهم كفا لضرره وينفق عليه من بيت المال، وان لم يفعل، فعلى الأمة أن تطالبه بذلك. هذا ويوجد أربع سور في القرآن مختومة بما ختمت به هذه السورة، هذه والتكوير والصافات والزمر، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تفسير سورة المزمل عدد 3- 72 أو قيام الليل نزلت بمكة بعد القلم عدا الآيات 10 و 11 و 20 فإنها نزلت بالمدينة، وهي عشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمئة وثلاثون حرفا ومثلها في عدد الآية سورة البلد.

[سورة المزمل (73) : الآيات 1 إلى 10]

بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ 1» بفراشه الملتف به كان صلى الله عليه وسلم في بدء نبوته يقول عند انفصام الوحي عنه زمّلوني أي لفوني فرقا من شدة الوحي وعظم رؤية ملكه، فخاطبه الله تعالى بالحالة التي هو فيها إذ كان يتزمّل في ثيابه، ويوجد في القرآن عشر سور مبدوءة بلفظ يا أيها هذه والنساء والمائدة والحج والأحزاب والحجرات والممتحنة والمدثر والطلاق والتحريم. هذا وبعد أن ناداه ربه أمر بقوله «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2» منه وهذا الأمر للوجوب راجع ما فيه في الخاتمة المارة، ثم بين هذا القليل المستثنى من الكل بقوله «نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3» أي السدس بأن تقوم الثلث «أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» سدسا بأن يبلغ النصف إلى الثلثين فكان صلى الله عليه وسلم يقوم من كل ليل تلك المقادير امتثالا للآمر وأصحابه يقومون معه تهجدا نفلا لأنه لم يفرض عليهم. مطلب ما يجب على القارئ عند التلاوة: وكان القيام في بداية الإسلام فريضة عليه، سنة على الأصحاب «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ» يا حبيبي عند قراءته «تَرْتِيلًا 4» تبيينا فصيحا على تؤدة وتأن وتفكر يثير حضور القلب بمعانيه ولذيذ النّفس بمبانيه واشتغل بعبادتي تحظ بعبوديتي. يفيد هذا الأمر وجوب الاعتناء بقراءة القرآن يعضده قوله صلى الله عليه وسلم (أعربوا القرآن واعرفوا غرائبه) إذ بالعجلة تفوت الغرض المطلوب منه فعلى القارئ أن يستشعر بعظمة القرآن وهيبة منزله عند ذكره والرجاء عند ذكر الوعد والخوف عند الوعيد والعبرة عند القصص والذكرى عند الأمثال ليستنير قلبه بنور كلام الله ويوقر في صدره مغزى معناه ومبناه وليخذن من الاسراع المخل والتطويل الممل ففيهما الحرمة والاساءة. روى البخاري ومسلم عن قتادة قال: سئل كيف كانت قراءة رسول الله فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويمد الرحمن ويمد الرحيم، وروى البخاري ومسلم عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: جاء رجل إلى ابن مسعود وقال إني

لا قرأ المفصل في ركعة قال عبد الله هذّ كهذا الشعر أي صرعة وعجلة مخلّين بأصوله لا ثواب بقراءته كما يفهم من تتمة الحديث وهي: إن أقواما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم (العظام التي بين النحر والعاتق) ولكن إذا وقع في القلب فرسخ، يقع منه موقعا ينيره فيخضع له الجسد وتخشع الجوارح كلها إن أفضل الصلاة الركوع والسجود إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله يقرن بينهن سورتين من كل ركعة) فظهر أن المقصود من الترتيل حضور القلب وكمال المعرفة لأن النّفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية والسرعة تنافي الحضور والعجلة تباين المعرفة، وفي رواية فذكر عشرين سورة من المفصل وهو من الحجرات إلى الناس بحسب ترتيب القرآن وسمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة وقصر أكثر آياته، قال تعالى «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ» يا أكمل الرسل «قَوْلًا ثَقِيلًا 5» ايحاءه شاق تلقّيه صعب تحمله لأن كلام العظيم عظيم في مبناه رزين في معناه لما فيه من الأوامر والنواهي التي فيها صعوبة وكلفة على النفس وليس ذلك بالخفيف الهين. مطلب في صفة الوحي وحالاته: روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب وتربد له وجهه. وفي رواية كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه (الربدة غبرة مع سواد) وفي رواية فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض، وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرص (أي كالصوت الشديد الصلب الحاصل من الأشياء الصلبة كالجرص) وهذا أشده علي فيفصم عني (أي يفارقني) وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا

(أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد) ، وأخرج أحمد وعيد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحكم وصححه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقة وضعت جرانها (أي مقدم عنقها من مذبحها إلى نحرها جمعه جرن) فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه. وكان يوحى إليه ورأسه على فخذ زيد بن ثابت وكان يحس بثقله حتى كأن فخذه كادت ترضّ من شدة ثقل رأس رسول الله. والحالة الثالثة هو أن ينفث في روعه الكلام نفثا لقوله صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي وجلّ القرآن من هذه الأنواع الثلاث راجع مطلب الوحي تجد الفرق بين الوحي والإلهام. الرابعة أن يأتيه الملك في النوم وما يعبه عنه لا يعد قرآنا كما نوهنا به قبلا وذكرنا أن من قال بأن سورة الكوثر نزلت فيه لا عبرة، وأن الصحيح أنها أنزلت عليه يقظة وبما أنه عند نزول الوحي تتغير حالته كما علمت فيظن من لم يعلم منه ذلك أنه يتيقظ من نوم، ولهذا تسمى هذه الحالة برحاء الوحي أي ثقله فيحمل الحديث الذي رواه مسلم بشأن سورة الكوثر على هذه الحالة، وإن ما يراه نوما معتبر لأن رؤيا الأنبياء صادقة ولكن لا يكون قرآنا كالأحاديث القدسية فإنها معتبرة ولكنها ليست بقرآن ولعله رأى الكوثر في نومه أو خطرت له السورة عند تيقظه من النوم فذكرها لمن كان عنده وهو الأشبه ويسمى ما يراه في النوم الوحي النومي. الخامسة أن يكلمه الله يقظة كما كان في ليلة الإسراء راجع قصة المعراج الآتية في أوائل سورة الإسراء آخر هذا الجزء، أو في النوم كما في حديث معاذ (أتاني ربي فقال فيم يختصم الملأ الأعلى) الحديث، وليس في القرآن شيء من هذا النوع البتة أما الحديث الذي رواه عدي بن ثابت وخرّجه ابن أبي حاتم على فرض صحته فإن ما جاء فيه ليس من ألفاظ القرآن والله أعلم، قال تعالى «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ» أي القومة بعد النوم وكل ما حدث وبدأ ليلا فهو ناشئة وكل ساعة في الليل ناشئة لأنها تنشأ عن الأخرى، فإذا قام من نومه ونهض لعبادة ربه فقد أنشأ أي أحدث

وأبدى عبادة أخرى جديدة «هي أشدّ» أقوى وأصعب على المصلي من غيرها وتختلف باختلاف المصلين إذ تكون لذيذة على البعض ثقيلة على الغير «وطأ» أي موافقة يتواطأ فيها القلب واللسان لانقطاع رؤية الخلائق فيها وانصراف المصلي بكليته إلى ربه «وَأَقْوَمُ قِيلًا 6» أثبت قراءة واركن للسّماع لهذه الأصوات، فتكون عبادة الليل أكثر نشاطا للراغب فيها وأتم إخلاصا وأبلغ تأثيرا وأعظم توبة وأبعد عن الرياء وأدخل حلاوة في القلب «إنّ لك» يا حبيبي ويشمل هذا الخطاب من تبعه من أمته لأن مخاطبته مخاطبة لأتباعه أجمع «فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا 7» يكفي لإشغالك ففرغ نفسك في الليل لعبادة ربك، وأصل السبح المر السريع في الماء ثم استعير للذهاب مطلقا وفيه قيل: أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» ليل نهار بالتسبيح والتهليل والصلاة والقراءة دواما «وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا 8» انقطع إلى عبادته وحده (ولم تكرر هذه الجملة في القرآن) وارفض ما سواه طلبا لما عنده المرة بعد المرة لأنه هو «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وما بينهما من مخلوقات علوية وسفلية، مائية وهوائية، نارية وترابية، روحية ونورية، فهو الإله الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» وحده المستحق للعبودية «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا 9» لك وفوض أمرك إليه وحده لأن التبتل لا يليق إلا إليه وهو كفيل بما وعدك به من النصر ورفع الكلمة، وتعقيب التوكيل يدل على أن مقامه صلى الله عليه وسلم فوق مقام التبتّل لما فيه من رفع الاختبار، وفيه دلالة على غاية الحب أيضا وقيل في المعنى: هواي له فرض تعطّف أو جفا ... ومنهله عذب تكدر أم صفا وكلت إلى المعشوق أمري كله ... فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا قال تعالى «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» كفرة قومك من تكذيبك ورميك بما لا يليق «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا 10» لا حقد فيه بأن تجتنبهم وتداويهم بإرشادك

[سورة المزمل (73) : الآيات 11 إلى 20]

ولا تكافئهم على ما يقع منهم. وهذه أولى الآيتين المدنيتين والأخرى التي تليها كان نزولها قبل الأمر بالقتال ولا معنى لقول من قال إنهما منسوختان بآية السيف لأن بداية الرسالة وطنّت على الرفق واللين والترغيب والوعد لا على الشدة والقسوة وما وقع من التهديد والترهيب والوعيد إنما هو لاستمالتهم والقائل بالنسخ يزعم أنهما مكيتان وليس كذلك وكان نزولهما قبل حادثة بدر وحديث عائشة هو في الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي، فيا حبيبي الأمين اعتزل هؤلاء الكفار «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ» هي غضاضة العيش وكثرة المال والولد وهي بالفتح بمعنى التنعّم وبالكسر بمعنى الانعام وبالضم المسرة، أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليّ فان فيّ ما يفرغ بالك ويجلي همك فلا تستعجل عليهم «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا 11» كي يؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم وإني سأكفيكهم. انتهت الآيتان المدنيتان، وقد نزلتا في صناديد قريش وقيل في المطعمين الذين تعهدوا بإطعام الجيش عند تأهبهم لغزوة بدر فكان جزاؤهم بالدنيا أن قتلوا فيها أما جزاؤهم في الآخرة فهو ما قال تعالى «إِنَّ لَدَيْنا» لأمثالهم «أنكالا» قيودا ثقالا وسلاسل طوالا ننكّلهم بها «وَجَحِيماً 12» نارا محرقة سوداء لشدة اتقادها نحرقهم بها «وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ» ينشب بالحلق ولا يساغ كالزّقوم والضريع (وهي لم تكرر في القرآن) «وَعَذاباً أَلِيماً 13» لا تطيقه أجسامهم نذيقهم إياه في ذلك اليوم العظيم «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ» تضطرب لشدة الهول «وَالْجِبالُ» تتزلزل منه «وَكانَتِ الْجِبالُ» «كثيبا» رملّا مجتمعا «مَهِيلًا 14» رخوا سائلا بحيث إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده بخلاف حالتها اليوم فاعتبروا أيها الناس فان هذه الآية من أعظم الآيات المرهبات، أخرج الإمام أحمد في الزهد وأبو داود في الشريعة والبيهقي في الشعب وابن عدي في الكامل من طريق حمران بن أعين عن أبي حرب بن الأسود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرؤها فصعق. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأها نفسه فصعق، وقال خالد بن حسان أمسى عندنا الحسن وهو صائم

فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية فقال ارفعه وهكذا ثلاث ليال ولم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. وفي هذا عذر واضح للصوفية المخلصين الذين يقع منهم الصعق عن غير اختيار عند سماع بعض الآيات. ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 147 من الأعراف الآتية وفي الآية 22 من سورة الزمر في ج 2 فراجعهما، قال تعالى يا أيها الناس «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ» بايمان من آمن وكفر من كفر وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بلغكم أمرنا «كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا 15» شاهدا على قومه القبط وعلى بني إسرائيل وهو موسى عليه الصلاة والسلام وخص بالذكر دون سائر الأنبياء لأن القبط كذبوه وبني إسرائيل آذوه وازدروه كما فعلت قريش بمحمد من الإيذاء والإهانة «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ» ولم يمتثل أمره وقاومه وتحداه بسحرته فأخسأه الله ووفق السحرة للإيمان به وآب هو وقومه بالإصرار على الكفر «فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا 16» شديدا غليظا لا رحمة فيه بأن أغرقه وقومه، وهذا تخويف لكفار مكة بأنهم إذا لم يذعنوا لنبيهم يوقع بهم عذابا مماثلا بعذابهم في الدنيا وأما في الأخرى فانظر ما هو «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ» العذاب الأكبر الدائم «إِنْ كَفَرْتُمْ» وبقيتم على كفركم «يوما» مهولا عظيما «يجعل» يصيّر فيه «الولدان» لشدة هوله «شِيباً 17» شيوخا شمطاء أي لو فرض لكان لأن الآخرة لا شيب، فيها وإنما هو مثل ضربه الله لشدة الغمّ والكرب والهم، قال المتنبي: والهم يخترم الجيم نحافة ... ويشيب ناصية الفتي ويهرم وقال حسان بن ثابت: إذا والله نوميهم بحرب ... يشيب الطفل من قبل المشيب وذلك أن كل ما يخاف منه يورث الهم والهرم والمشيب أي إن كنتم لا تخافون أن تؤخذوا بالدنيا كأخذ فرعون ألا تخافون هول اليوم الآخر الذي يصيّر الشباب شيبا وكلكم صائر إليه وذلك حين يقول الله تعالى لآدم قم فابعث بعث النار من

ذريتك كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك، فينادى بصوت عال إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النار (أي أهلها المخلوقين لها ازلا من بين الخلائق الموجودين في المحشر) راجع تفسير الآية 38 من سورة مريم الآتية وذلك بعد الحساب وقبل أن يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس الآتية بدليل قوله (قال يا رب وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون) فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى راجع الآية الأولى من سورة الحج في ج 3، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا يا رسول الله أيّنا ذلك الرجل؟ فقال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعا وتسعين ومنكم واحد، ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرخمة (الأثرة بباطن عضد الحمار) في ذراع الحمار، وإني لأرجو أن تكونوا رباع أهل الجنة فكبّرنا ثم قال ثلاث أهل الجنة فكبّرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبّرنا، وفائدة هذا التدريج من الربع إلى الثلاث إلى الشطر المبالغة في الإكرام وهو أوقع في النفس من الإعطاء دفعة واحدة، وفي تكرير البشارة حملهم على الشكر مرة بعد أخرى، وما قيل إن هذا اليوم عند زلزلة الساعة قبل خروجهم من الدنيا جريا على ظاهر الآية المارة حقيقة وان إجراءها على يوم القيامة مجاز بعيد عن السياق فإن ظاهر الآية وحقيقتها هو ما ذكر والله أعلم بالواقع يؤيده قوله تعالى «السَّماءُ» هذه التي تشاهدونها الآن مع عظمتها «مُنْفَطِرٌ بِهِ» منشقة في ذلك اليوم من شدة الهول فما بالك بغيرها وهل يكون انفطارها إلا في يوم القيامة وهذا وعد حق من الله «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» واقع لا محالة إن الله لا يخلف وعده «إِنَّ هذِهِ» الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل «تذكرة» عظات وعبرا لقومك «فَمَنْ شاءَ» منهم قبل حلوله «اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا 19» طريقا للخلاص من هوله بالإيمان والطاعة لما أمر به ونهي ت (7)

عنه وإلا فلا مناص عن الهلاك فيه والوقوع في شره، وهذه الآية المدنية الأخيرة قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ» يعلم أنك تقوم «نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» لعلمه أنهم يقومون أيضا مثل قيامه «والله» المطلع عليكم هو «يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» لا يفوته علم ما تفعلونه فيه أنتم وسائر مخلوقاته ولكنه جلّت قدرته «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» ولن تستطيعوا ضبط ساعاته ولا يتأتى لكم حسابها على النحو المطلوب منكم بالتعديل والتسوية. ولما كان في ذلك مشقة عليكم وكلفة «فَتابَ عَلَيْكُمْ» ورفع التبعة عنكم ورخص لكم ترك قيامه كله وأسقطه عنكم تخفيفا عليكم بعفوه ولطفه وذلك أن الأصحاب كانوا يقومون الليل كله مخافة أن لا يصيبوا القدر الذي أمروا به لأنهم لا يدرون متى الثلث والنصف والثلثان على الضبط فاشتد ذلك عليهم حتى تورمت أقدامهم فأنزل الله «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» أي جزءا من أجزائه حسب استطاعتكم. هذا، وما قيل إنه كان بين نزول الآيات أول السورة وهذه الآية سنة وستة عشر شهرا لأن فرض القيام كان قبل فرض الصلاة، يردّه ما يأتي آخر هذه الآية على أن فرضيته قبل فرض الصلاة على فرض صحتها لا تدل على أنه كان بعد تلك المدة وإنما كان قيام الليل بالمقدار الأول الوارد أول السورة فرضا كما ذكر آنفا فخففه الله في هذه الآية إلى النقل وكان بمقدار معين فجعله الله بشيء يسير منه وبمطلق قراءة آية ما بين المغرب والصبح حسب الاستطاعة. والصحيح ان قيام الليل بقي ما يقارب عشر سنين فرضا على حضرة الرسول نفلا على من تبعه ممن آمن به من أمته، ثم خففت فرضيته في حقه وبقي سنة في حق أمته بدليل قوله تعالى (فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) الآية 79 من سورة الإسراء الآتية كما سنبينه في تفسيرها إن شاء الله. وتقدم في مطلب الناسخ والمنسوخ التوجيه بين هذه الآية والآيات التي في صدر هذه السورة فراجعه ومنه تعلم أن لا ناسخ ولا منسوخ هنا خلافا لما قاله بعض المفسرين بل أكثرهم بأن الآيات الأول منسوخة في هذه الآية الأخيرة، روى مسلم عن سعيد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة فقلت

مطلب تخفيف قيام الليل ونقل الكسب والصدقة:

يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله، قالت الست تقرأ القرآن؟ قلت بلى، قالت فإن خلق رسول الله القرآن، قلت فقيام رسول الله يا أم المؤمنين؟ قالت ألست تقرأ المزّمل؟ قلت بلى، قالت فإن الله افترض القيام أول هذه السورة فقام رسول الله وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بغير فريضة. وهذا إذا صح يكون التخفيف نزل بمكة أيضا إلا أن السياق ينافيه ولأن الزكاة لم تفرض إذ ذاك كما أن الصلاة لم تفرض أيضا، ولأن هذه السورة نزلت بعد فترة الوحي إلا أن يقال أن تلك المدة المذكورة في الحديث بالنسبة إلى وجود حضرة الرسول بالمدينة وإعلانه وأصحابه أمر القيام ومداومتهم عليه لأنهم كانوا لا يقدرون على إعلان العبادة في مكة، وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ألم أخبر أنك تقوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ قلت بلى يا رسول الله ولم أرد بذلك إلا الخير، قال: نعم فصم صوم داود [كان عليه السلام يصوم يوما ويفطر يوما] وكان أعبد الناس في زمانه، واقرأ القرآن في كل شهر مرة، قال: قلت يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال فاقرأ في كل عشر، قال: قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك.، قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك. مطلب تخفيف قيام الليل ونقل الكسب والصدقة: ثم ذكر الله حكمة التخفيف المعبر عنه بالنسخ في أغلب كتب المفسرين فقال: «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى» يشق عليهم القيام أو يزيد في مرضهم أو يسبب لهم مرضا آخر إذا بقوا على حالتهم الأولى بدليل الحديث المتقدم ذكره إذ جاء فيه ان انتفخت أقدامهم وهذه حكمة أخرى غير حكمة عسرة الإحصاء تقدير الأوقات مقتضية للتخفيف «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ» يسافرون للتجارة والزيارة والعمل وغيره «يَبْتَغُونَ» الربح «مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» وطلب العلم وصلة الرحم وأداء الفرض والسنة من حج وعمرة طلبا للأجر، وهذه حكمة ثالثة

في التخفيف، والحكمة الرابعة هي «وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» غزاة مجاهدين أو مرابطين وهؤلاء لا يتمكنون من قيام الليل لأنهم في مشقة فلا يتحملون مشقة أخرى فوقها، وقد سوى جل جلاله بين المكتسب والمجاهد، لأن كسب الحلال جهاد أيضا. روي عن أبن مسعود قال: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بعد يوم كان عند الله بمنزلة الشهداء، ثم قرأ «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ» . الآية وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله، أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض، أبتغي من فضل الله. وأخرج سعيد بن منصور البيهقي في شعب الإيمان، وغيرهما عن ابن عمر قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل التمس من فضل الله، وتلا هذه الآية، قال تعالى: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» أي القرآن، وأعاده تأكيدا على كفاية قراءة جزء يسير منه وحصول المقصود فيه في الصلاة بقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة بما تيسر لكم من قراءته. واستدل أبو حنيفة ومن رأى رأيه في هذه الآية على أن المفروض في الصلاة هو قراءة مطلق آية منه مثل «ثُمَّ نَظَرَ» الآية 21 من المدثر الآتية. وقال مالك والشافعي ومن رأى رأيهما أن ما تيسر هو الفاتحة، ولكل وجهه، قال تعالى: «وَآتُوا الزَّكاةَ» الواجبة عليكم المعلومة في كتب الفقه، وسنين ما يتعلق بها في تفسير الآية (260) من البقرة والآية 60 من سورة التوبة في ج 3، قال تعالى: «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأداء زكاة أموالكم المفروضة عليكم لأربابها، وفي وصف القرض بالحين تنبيه على إعطائها كاملة عن طيب قلب، ولأجل أن يطمئن المتصدق على ذلك ينبغي أن يتصدق زيادة على الفرض كصدقه التطوع وصلة الرحم وقرى الضيف والتصدق على أهل الذّمة المعدمين وعلى الحيوان، فإن في كل كبد حرّاء أجرا، ويخص الأقرب فالأقرب ويدل قوله تعالى «حَسَناً» على أن يكون المتصدّق به من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، وتدل إضافة القرض لذاته الكريمة على عدم المنّ على

الفقير بما يعطيه لأنه معاون له على الأجر، فالمنة لله وحده، وأن تكون من وسط الأموال ان لم تكن من أحسنها كما سيأتي في الآية 267 من البقرة أيضا، ولهذا يقول تعالى قوله: «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» أيها المؤمنون «مِنْ خَيْرٍ» ما ولو قليلا جدا، فإنكم «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» في اليوم الآخر هو «خيرا» من الذي ادخرتموه «وَأَعْظَمَ أَجْراً» من الذي قضيتم فيه مصالحكم، وقرىء خير بالرفع على لغة تميم الذين يرفعون الفاصلة، فيقولون: كان زيد هو العاقل. روى البغوي بسنده عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم ماله أحب اليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وماله أحب اليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا ما نعلم الّا ذلك يا رسول الله، قال: ما منكم رجل إلا مال وارثه أحبّ اليه من ماله، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخر، هذا «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» في تقصيركم فيما فرضه الله عليكم من الصلاة والزكاة. ولذلك شرعت الواجبات إكمالا للفرائض والسنن إكمالا للواجبات. لأنه إذا اقتصر على الفرض، فلو بما أن يكون قصّر فيه فيكون في شكّ في إتمام ما أمر به «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما وقع منكم من التقصير، دون علم وتعمد في هذين الفرضين وغيرهما «رَحِيمٌ 20» بعباده لا يؤاخذهم على الخطأ والنسيان فيما أمرهم به ونهاهم عنه. والدليل على نزول هذه الآية بالمدينة الأمر فيها بإقامة الصلاة حيث فرضت ليلة الإسراء 27 رجب سنة 51 السنة العاشرة من البعثة بمكة ولم تكن إقامتها علنا إلا بالمدينة. مطلب فرض الزكاة والصلاة وتاريخهما ومحلهما أما الزكاة فقد فرضت في السنة الثانية من الهجرة سنة 55 من ميلاده، فيكون بين آيات القيام المبينة أول السورة وبين آية التخفيف فيه، هذه ما يقارب عشر سنين، وعليه يكون نزول هذه السورة سنة 45 من ميلاده الشريف الرابعة من البعثة، ثم فتر الوحي بعد هذه السورة وما قيل ان آية (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) المارة نسخت بآية (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) المارة بعدها، وكذلك آية «فَمَنْ شاءَ

تفسير سورة المدثر عدد 4 - 74

اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» بآية «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» المارة بعدها، أو بآية السيف لا وجه له كما سيأتي. واعلم أن هذه الآية عدا آية المداينة 280 والآيتين من سورة البقرة 101 و 258 والآيتين من النساء 44 و 91 والآية من المائدة 109 في ج 3 تعد من أطول آي القرآن مما يدل على مدنيتها أيضا، لما ذكرناه في بحث مميزات المكي والمدني بأن غالب آيات المدني طوال والمكي قصار. مطلب لا محل للبحث في ترتيب الآيات والسور وتدل أيضا على أن ترتيب الآيات مع سورها توقيفي كما ذكر قبلا في بحث وضع السور والآيات، وانه أمر من حضرة الرسول ولا دخل لأحد من الأصحاب في ذلك، وهو موافق لما في لوح الله المحفوظ ولا يعلم الحكمة في هذا الترتيب إلا الله والمنزل عليه، ولذلك فإن العلماء تحاشوا البحث فيه، وإنما أشاروا الى بعض المناسبات مما في السورة الأولى للتي تليها. إذن لا مجال للقول والتقول في هذا الشأن البتة. تأمل وحسن نيتك وعقيدتك تفز وتنجح ويفتح عليك هذا والله أعلم، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين الى يوم الدين والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة المدّثر عدد 4- 74 نزلت بمكة بعد فترة الوحي، وبعد سورة المزمل بثلاث سنين أو ثلاثين شهرا، وهي ست وخمسون آية، ومائتان وخمس وخمسون كلمة، وألف وعشرة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم، قال تعالى «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» بدثار النبوة تنبّه لما يلقى عليك من الوحي. وإنما خاطبه ربه بذلك لأنه كان يقول بعد نزول الوحي عليه: دثروني دثروني، ثم صار يخاطبه مرة بيا أيها النبي، وأخرى يا أيها الرسول وتارة يكنى عنه بالضمير، وطورا يسميه باسمه، وقد أمره جل شأنه في هذه السورة بما يجب عليه من أمر الرسالة التي شرفه بها بعد أمره قبلا بالقراءة، وهو أول أمر من نوعه فقال: «قم» من دثارك «فأنذر» قومك وحذّرهم عذاب ربك،

مطلب أول سورة نزلت وفترة الوحي وسببها

وقد ذكرنا أن هذه السورة أول سورة نزلت بعد فترة الوحي لانه بدأ بأول العلق ثم بسورة القلم ثم المزمل عدا الآيات المستثنيات منها كما أشرنا إليها في مواضعها، ثم فتر الوحي ثلاث سنين أو ثلاثين شهرا على اختلاف في ذلك لم ينزل فيها على النبي شيء من القرآن، ولم يتل على الناس غير السور الثلاث المذكورات، ولم يدعهم إلى شيء، ثم نزلت المدثر كما ذكرناه في حديث جابر المتقدم في مطلب فترة الوحي المارّ الذي رواه الشيخان إذ قال فيه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي) ويدل أيضا قوله فيه: (فإذا الملك الذي جاء بحراء) وتقدم تفصيله هناك، وعقبه بقوله وأنزل الله يا أيها المدثر. هذا، ومن قال إن المدثر أول سورة نزلت أراد أنه بعد فترة الوحي أولية اضافية لا مطلقة، ومن أراد الأولية المطلقة لا برهان له بها، وقد صرح الزهري بضعفه وعدم الاعتداد به، وقد وقعت فترات أخرى كالفترة التي وقعت بعد سورة الفجر وهي خمسة عشر يوما، وقد ظن البعض وتبعهم (درمنغام) المار ذكره في المقدمة، في بحث الشهادة في مدح الكتب الأربعة في مطلب الناسخ والمنسوخ مطلب أول سورة نزلت وفترة الوحي وسببها إن الضحى نزلت بعد فترة الوحي وهي أول ما نزل والحال قد نزل قبلها بضع سور كما ستعلم، وان الذي نزل أولا هو المدثر كما ذكرنا. وسبب الفترة الأولى هو تحريك قوى الرسول الى اشتياق نسمات الوحي القدسية، فيذهب عنه ما كان يجده من الرعب والخوف، ويتلقّى الوحي بقبول وشوق وتعطش وانشراح صدر، وأ تزداد رغبته فيه. وأما الفترة الثانية فقد جاء في الصحيحين عن جندب بن سليمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى (توجع) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا الى تهجده وتلاوته فقالت امرأة: (هي أم جميل بنت أبي سفيان زوجة أبي لهب) يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، فلم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله «وَالضُّحى» كما رواه الحاكم عن زيد بن أرقم أيضا. وكان هذا بعد نزول «تَبَّتْ يَدا» . وروى ابن

جرير من طريقين مرسلين أن جبريل أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك، فنزلت. ومعارضة رواية الصحيحين بهذه الرواية المرسلة تسقط اعتبارها. وقد جمع الحافظ ابن حجر بينهما بأن خديجة قالت ما قالت توجعا عليه صلى الله عليه وسلم، وحمّالة الحطب قالت ما قالت شماتة به، من الوحي المحمدي ص 100 من باب فترة الوحي، وأول ما نزل بتصرف، وما ذكرناه هو المعتمد عند المحدثين في أول ما نزل من القرآن، وفي مدة الفترة وأول ما نزل بعدها، وفي فترة سورة الضحى، وقد غلط مجاهد في قوله: «ن وَالْقَلَمِ» أول ما نزل هذا، وما روي عن علي عليه السلام، إن أول سورة نزلت هي الفاتحة واعتمدها الإمام محمد عبده، فإذا صحت هذه الرواية يكون المراد منها أنها أول سورة تامة نزلت بعد بدء الوحي بالتمهيد الكوني ثم بالأمر بالتبليغ الإجمالي، وتلاها فرض الصلاة وآية المزمل، أو نزلتا في زمن واحد. وقد ذكرت آخر (العلق) المارة أن المراد بالصلاة الواردة بالآيات المكية من بدء نزول الوحي إلى نزول سورة الإسراء الآتية هي الركعتان اللّتان فرضها الله على الرسول صلى الله عليه وسلم وحده التي لم يزل يعمل بها هو ويعفي أصحابه من غير أن تفرض عليهم حتى فرضت الصلوات الخمس. قال تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3» عظمه ونزهه عن عبادة الأوثان التي انكب عليها قومك «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ 4» عن كل مستقذر لان قومك يجرّون ثيابهم في الأرض تكبرا وخيلاء ولا يحترزون من النجاسة 8 وطهر نفسك مما هم عليه من القبائح، وقد كشنى بالثياب عن الجسد لاشتمالها عليه، وقد جاء بمثله عنترة في قوله: وشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرّم أراد نفسه وجسمه، والعرب تعبّر بطهارة الثوب عن وصف صاحبه بالصدق والوفاء والعفاف. ولما كان الثوب ملازما للانسان كنّوا به عنه يقال: الكريم في ثوبه، والعفة في إزاره، كما يقال للغادر خبيث الرداء دنس الثياب، وحيث وإن كانت الطهارة مطلوبة فى الثوب والجسد فالأمر هنا يشملهما معا «وَالرُّجْزَ»

الذي يعبده قومك من دون الله «فَاهْجُرْ 5» ولا تقربه أبدا «وَلا تَمْنُنْ» بما أعطاك الله في الرسالة والذكر على قومك وغيرهم «تَسْتَكْثِرُ 6» به في طلب الأجر منهم ولا تقل دعوتهم فلم يقبلوا مني، بل عد عليهم المرة بعد الأخرى وادعهم الى عبادة الله ولا تستكثر تكرار دعوتك لهم، فإن لك الأجر العظيم بذلك، وقال بعض المفسرين لا تعط مالك وترى ما تعطيه كثيرا أو تطلب أكثر منه بناء على ما اعتاد قومه من العادات غير المرضية، انهم كانوا يعطون الهدية بقصد أن يهدى لهم أكثر منها، ومن أمثالهم، الهدية تأتي على حمار، وترجع على جمل، حثا للمهدي على إهداء الكثير، فنهى رسوله عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة لأنه مأمور بأجل الأخلاق وأشرف الآداب ويدل على ما جرينا عليه قوله تعالى: «وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ 7» لأن المعنى الذي ذكروه لا يحتاج إلى الصبر حتى يأمر به، ولأن من أعطى شيئا لغيره طلبا للزيادة لا بد وأن يتواضع الذي أعطاه، ومنصب النبوة يجل عن ذلك كيف وهي تعلم الناس الإباء عن كل ما يخل بالاحترام ومكارم الأخلاق، وقيل هما رباءان حلال كالهدية الكثيرة لمن أهدى أقل منها وحرام لمن أعطى شيئا بأكثر منه، وقد استدلوا بالآية 38 من سورة الروم ج 2 وهي (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) . وهو لعمري بعيد لأن الظاهر يأباه والمعنى لا ينطبق عليه وتفسيرها بالصورة التي ذكرناها أوّلا أولى وأوفق كما لا يخفى على بصير، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في تفسيرها إن شاء الله، وعلى كل يقول الله جل قوله فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم كيفما كان، فكل مصبور عليه مصبور عنه، واصبر على العمل بأوامر ربك ونواهيه فالدنيا كلها فانية «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ 8» أي نفخ إسرافيل في البوق النفخة الأولى «فَذلِكَ» يوم النفخ «يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 9» شديد هوله «عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ 10» بل عسير جدا، وهي بلفظ يسير لتكرار التأكيد، وفي تخصيصه بالكافرين دلالة على أنه هين على المؤمنين إن شاء الله.

مطلب ما نزل في الوليد بن المغيرة ثم في خبث أبي جهل

مطلب ما نزل في الوليد بن المغيرة ثم في خبث أبي جهل «ذَرْنِي» خل بيني «و» بين «مَنْ خَلَقْتُ» في بطن أمه «وَحِيداً 11» لا مال له ولا ولد ولم يشاركني في خلقه أحد، فدعه وكله لي فأنا أكفيكه «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً 12» كثيرا غير منقطع إنماؤه، وكان له أرض بالطائف لا ينقطع ثمرها ومن النقد تسعة آلاف مثقال وإبل وخيل وغنم وعبيد وجوار كثيرة وكان قبل لا شيء عنده كما ذكر ابن عباس «وَبَنِينَ شُهُوداً 13» لا يغيبون عنه ولا يضعفون صيفا ولا شتاء لغنائهم ويحضرون معه المحافل ليعتزبهم وهم عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة فقط «وَمَهَّدْتُ» بسطت له من العيش وكل ما يحتاجه «تَمْهِيداً 14» مع الرئاسة على قومه وطول العمر، وكان يدعى ريحانة قريش. والمراد به من هذه الآيات من ذرني فما بعد الوليد بن المغيرة المخزومي إن كان بدأ البعثة فقيرا لاسعة له في المال والولد، وكان عليه بعد أن منّ الله عليه بتلك السعة أن يؤمن بحضرة الرسول لا أن يكفر به حتى اقتضى نزول هذه الآيات فيه. ومن هذا يستدل على أن هذه السورة لم تنزل جملة واحدة بل نزل القسم الأول منها، ثم نزل ما هو بحق الوليد بعد حيث لم تنزل سورة بتمامها قبل الفاتحة كما ذكرنا آنفا انه كانت تنزل الآية والآيتان والجملة والجملتان على حضرة الرسول ليتمّرن على تلقي كلام ربه، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له لأنها من الأخبار وقد ذكرنا قبلا أن الأخبار لا يدخلها النسخ في الآية/ 44/ من سورة القلم المارة قال تعالى: «ثُمَّ يَطْمَعُ» يرجو مع كفره وتكبره وعدم شكره وإيمانه «أَنْ أَزِيدَ 15» له مالا وبسطة وولدا «كلا» لا يطمع ولا يرجو فلا أفعل له ذلك مادام على ما هو عليه «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «لِآياتِنا» المنزلة على رسولنا «عَنِيداً 16» عاتيا لا يميل لدلائل توحيدنا منكرا لا يصدق رسولنا جاحدا النبوة واليوم الآخر والتوحيد قال مقاتل ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من المال والولد والرفعة والجاه حتى هلك وكان كفره عنادا وهو أفحش انواع الكفر الأربعة المبينة في الآية 4 من سورة البروج

الآتية في ج 2 «سَأُرْهِقُهُ» ألجئه وأضايقه بشدة وقسر أن يصعد «صَعُوداً 17» جبلا شامحا في جهنم زيادة في مشقة العذاب لاراحة له معها، عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفا ثم يهوي بها سبعين خريفا فهو كذلك أبدا! أخرجه الترمذي بلفظ غريب وهو ما رآه راء قط وسيأتي له بحث في تفسير الآية 8 من سورة الإسراء الآتية- وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده. فإذا وضع يده ذابت، فإذا رفعها عادت يؤيده قوله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» الآية 56 من سورة النساء في ج 3، ثم عدد مثالب الوليد الأخرى زيادة على ما بينه قبلا وفي الآية 9 فما بعدها في سورة القلم المارة فقال جل قوله: «إِنَّهُ» عند سماع القرآن «فكّر» ماذا يقول فيه «وَقَدَّرَ 18» هيأ كلاما في نفسه وذلك لما أنزل الله سورة حم الجاثية وقيل فصلت، وكان يصلي في المسجد، كان الوليد بن المغيرة قريبا منه يسمع قراءته ففطن له النبي صلى الله عليه وسلم فأعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إنّ له لحلاوة «وان عليه لطلاوة، وإن عليه لثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا، فقال له ما لي أراك حزينا يا ابن أخي فأجابه الخبيث: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة ليعينوك بها على كبر سنك، ويزعمونك أنك زيّنت كلام محمد وأنك تدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا، وهل شبع محمد من الطعام حتى يكون له فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يحنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل

[سورة المدثر (74) : الآيات 21 إلى 30]

رأيتموه تكهّن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟ قالوا اللهم لا، قال تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب قط؟ قالوا: اللهم لا، وكان يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو إذن؟ فتفكر في نفسه ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر، وما يقوله ما هو إلا سحر يؤثر، فذلك قوله عز وجل «فَكَّرَ وَقَدَّرَ» وهذا مما يدل أيضا على أن هذه السورة لم تنزل دفعة واحدة، فإن الآيات من ذرني إلى آخرها متأخرة في النزول عنها، لأن سورة حم هذه لم تنزل بعد والحواميم كلها نزلت متتابعة كما سيأتي في الجزء الثاني. وعلى القول بأنها نزلت معها تكون من قبيل الإخبار بالغيب، وسنزيد هذا البحث بحثا عند تفسيرها إن شاء الله القائل «فَقُتِلَ» وعذّب وأهين «كَيْفَ قَدَّرَ 19» وهذا الاستفهام على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ 20» كرره تأكيدا اشعارا بأن هذا دعاء عليه أبلغ من الأول «ثُمَّ نَظَرَ 21» في وجوه الناس يبين لهم ما يدفع به القرآن ويردّه «ثُمَّ عَبَسَ» كلح وجهه واغبر «وَبَسَرَ 22» تقطب وجهه واكفهر وزاد في التقبض، وأظهر العبوس قبل أو انه ومنه قيل لما لم ينضج من الثمر بسر. ويأتي بمعنى العبوس مطلقا، وعليه قول ثوبة: لقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها قال تعالى: «ثُمَّ أَدْبَرَ» ولى بظهره عن الحق «وَاسْتَكْبَرَ 23» عن الإيمان به واختلق ما افتراه «فَقالَ إِنْ» ما «هذا» الذي يتكلم به محمد «إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ 24» يروى عن السحرة إن «هذا» الذي يقوله محمد «إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ 25» يتلقاه عنهم ويحكيه لنا ما هو قول الله كما يزعم، قال تعالى: فدعه يا محمد وما يقول «سَأُصْلِيهِ» أحرقه وأدخله «سَقَرَ 26» علم لجهنم لا ينصرف لعلتي التعريف والتأنيث «وَما أَدْراكَ» يا حبيبي «ما سَقَرُ 27» صدر الجملة بالاستفهام على سبيل التهويل والتعظيم، أي ما أعلمك ماهي هي «لا تُبْقِي» لحما «وَلا تَذَرُ 28» عظما فلا يلقى فيها شيء إلا أحرقته وأذابته «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ 29» مغيرة جلودهم

[سورة المدثر (74) : الآيات 31 إلى 40]

البيض سودا «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ 30» ملكا هم خزنتها عدا مالك فإنه بوّابها، قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم اسمع من ابن أبي كبشة يخبر قومه، أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن تبطش بواحد منهم، فقال أبو الأشعر بن أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، واكفوني أنتم اثنين. ويروى عنه أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فادفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار. ونمضي فندخل الجنة، فأنزل الله جل إنزاله «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ» خزنتها «إِلَّا مَلائِكَةً» لا رجالا فمن ذا يغلبهم، وإن واحدا منهم كاف لتعذيب الثقلين، وليس فيهم مظنة الرحمة والرأفة لأنهم ليسوا من جنس المعذّبين. راجع الآية 6 من سورة التحريم في ج 3، «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً» امتحانا «لِلَّذِينَ كَفَرُوا» يقولوا ما قالوه وقد جئنا بهذا العدد «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» صحة ما أنزلناه على محمد لأن هذا العدد مكتوب في التوراة والإنجيل وليتيقنوا أن محمدا لم يقل شيئا من نفسه وان كل ما يقوله من عند الله تعالى مصدق لكتابهم. مطلب الحواس الباطنة والظاهرة والأخبار بالغيب وقيل المخصّص لهذا العدد اختلاف البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الاثني عشر يعني الحواس الخمس الباطنة أو الخمس الظاهرة والقوة الباعثة كالغضبية والشهوية والقوة المحركة، فهذه اثنا عشرة، والطبيعيات السبع ثلاث منها مخدومة وهي النامية والغازية والمولدة، وأربع منها خادمة وهي الهاضمة والجاذبة والدافعة والماسكة، وهذا مع ابتنائه على الفلسفة لا يكاد يتم، كما لا يخفى على من وقف على كتبها، والحقيقة في حكمة هذا العدد لا يعلمها إلا الله القائل: «وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا» من أهل الكتابين والذين آمنوا بالقرآن «إِيماناً» تصديقا بمحمد وما أنزل عليه بأنه وحي سماوي لأنه أخبر به دون تعلم أو دراسة «وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ» في عددهم وليخالف حالهم حال المشركين والكفار

«وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» نفاق وشك وريب «وَالْكافِرُونَ» من المشركين «ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» أي ما معنى هذا العدد العجيب ولأي شيء اختاره على غيره، وهذه الآية من الإخبار بالغيب قبل الوقوع فهي من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه أعلم بإعلام الله إياه بأنه سيكون منافقون يرتابون في هذا القرآن، لأن هذه السورة مكية بالاتفاق ولا يوجد زمن نزولها منافقون، والنفاق ظهر بالمدينة، ولهذا جاء الفعل بلفظ المستقبل «كَذلِكَ» مثلما أضل الله منكري عدد الخزنة «يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ» من غيرهم ممن اقتفى آثار الكفر وأعرض عن الإيمان «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ممن آمن به وصدق رسله «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ» الذين من جملتهم خزنة جهنم «إِلَّا هُوَ» وحده لأن ملائكته لا يحصون وهذا كالجواب للخبيث أبي جهل لقوله: ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر، أي له أعوان كثيرون لا يعلمهم إلا الله، فكما أن مقدراته غير متناهية فكذلك جنوده، وإن الواحد منهم كاف لخراب الدنيا بما فيها، راجع الآية 81 من سورة هود في ج 2 «وَما هِيَ» أي سقر الموصوفة آنفا «إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ 31» وموعظة وما مواعظ القرآن وآياته إلا عبرة للناس يتذكرون بها «كلّا» إن البشر لا يتعظون بها ولهذا فانه تعالى أقسم جل قسمه فقال «وَالْقَمَرِ 32» الذي جعلته نورا لخلقي «وَاللَّيْلِ» الذي خلقته راحة لعبادي «إِذْ أَدْبَرَ 33» ولّى وقرىء دبر بمعنى أدبر كقبيل بمعنى اقبل تقول دبرني فلان جاء خلفي والليل يأتي خلف النهار «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ 34» اعترض مضيئا بالأفق وقرىء سفر وقد أقسم الله بها لعظم منافعها كما لا يخفى وجوب القسم لهذه الأيمان الثلاث قوله جل قوله «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ 35» الأمور العظام لأنها احدى دركات النار السبعة وهي: 1 جهنم، 2 والحطمة، 3 لظى، 4 السعير، 5 سقر، 6 الجحيم، 7 الهاوية. وكل واحدة منها داهية دهماء عظيمة في البلاء جعلت «نَذِيراً لِلْبَشَرِ 36» قال الحسن والله ما أنذر بشيء أدهى من النار وهذا النذير قد حصل للجميع «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ» أيها الناس «أَنْ يَتَقَدَّمَ» للطاعة ويبادر لفعل الخير فينجو منها «أَوْ يَتَأَخَّرَ 37»

[سورة المدثر (74) : الآيات 41 إلى 50]

عنها فيقع في الشر والمعصية فيهلك في تلك النار هذا ولا دلالة في هذه الآية لقول من قال إن العبد مجبر على الفعل ومتمكن من فعل نفسه لأن مشيئته تابعة لمشيئة الله وانها على حد قوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 29 من الكهف في ج 2 أي بعد أن بينا لكم أيها البشر طريقي الخير والشر وأمرناكم باتباع الخير والانكفاف عن الشر وهذا على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من سورة فصّلت في ج 2 أي افعلوا ما شئتم فكل مجاز بعمله إن خيرا فخير وان شرا فشر قال «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» من الأعمال «رَهِينَةٌ 38» عند ربها غير مفكوك عنها لأنها مأخوذة بعملها ورهينة اسم فعل بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم وليست بتأنيث رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث مثل قتيل وجريح لتكون بمعني اسم الفاعل والمفعول بل هي واحد الرهائن، ثم استثنى الله تعالى من هذا العموم فقال «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ 39» الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم المؤمنون المخلصون لأنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يفك الراهن رهنه بأداء ما عليه من الحق، وقد روي عن علي كرم الله وجهه انهم أطفال المؤمنين لأنهم لم يكتسبوا إثما يرتهنون فيه. وقال ابن عباس هم الملائكة. وقيل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم أخذ الميثاق وحين قال تعالى هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي لأن اللفظ عام لا يوجد ما يخصصه وهؤلاء الميامين المباركون «فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ 40» فيما بينهم «عَنِ الْمُجْرِمِينَ 41» فيقولون لهم على سبيل التوبيخ والتقريع «ما سَلَكَكُمْ» أدخلكم وأوصلكم ونفحكم فحبسكم «فِي سَقَرَ 42 قالُوا» لهم زججنا فيها لأنا «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ 43» في الدنيا ولم نعتد فرضيتها «وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ 44» في الدنيا بما تفضل الله به علينا ولم نتصدق عليه كما فعل المؤمنون الذين يؤثرون على أنفسهم ولم نكن معدمين لنعذر «و» مع هذا كله فإنا «كُنَّا نَخُوضُ» بالباطل وقول الزور في آيات الله «مَعَ الْخائِضِينَ 45» في البهتان والافتراء والاختلاف «وَكُنَّا نُكَذِّبُ» ننكر أيضا ولا نصدق «بِيَوْمِ الدِّينِ 46» يوم الجزاء والحساب وبقينا متمادين في ذلك كله «حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ 47» الموت

مطلب الشفاعة والمحروم منها:

وسمي يقينا لأن كل البشر موقن به فصار علما على الموت، قال تعالى ردا لما يقال من أسباب الخلاص لمثل هؤلاء «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ 48» عندنا من الملائكة والأنبياء والشهداء والصالحين في ذلك اليوم الذي تقبل فيه الشفاعة لمن يشاء الله. مطلب الشفاعة والمحروم منها: في هذه دليل ثبوت الشفاعة فيما عدا الأصناف الأربعة المذكورين، وهو كذلك، لأنهم يشفعون بإذن الله لمن يرتضيه، فلا يرد عليه ما جاء بالآيات الأخر. قال ابن مسعود رضي الله عنه: تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة، ثم تلا هذه الآية (قالُوا لَمْ نَكُ) قال عمران ابن حصين الشفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون المذكورين في الآية وروى البغوي عن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم يصف أهل النار فيعذبون قال: فيمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول للرجل منهم يا فلان فيقول ما تريد؟ فيقول أما تذكر رجلا سقاك شربة ماء يوم كذا وكذا فيقول وإنك لأنت هو، فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه، قال ثم يمر بهم الرجل فيقول يا فلان فيقول ما تريد؟ فيقول أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا وكذا؟ فيقول وانك لأنت هو؟ فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه قال تعالى «فَما لَهُمْ» أي شيء جعل لهؤلاء الكفرة من قومك يا حبيبي (إذا كان حال المعذبين على ما ذكر) «عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ 49» أي عن سماع هذا القرآن مولين ظهورهم عنه بعد أن سمعوا ما سمعوا من آياته ونصح من أنزل عليه ولم يتعظوا «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ» وحشية «مُسْتَنْفِرَةٌ 50» بكسر الفاء أي نافرة وقرىء بفتحها فتكون بمعنى منفرة مذعورة خائفة كأنها «فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ 51» أي الأسد أو جماعة أو جماعة الرماة الصيّادين، لا واحد له من لفظه مثل ذلك ورهط راجع الآية الأولى من سورة الفاتحة الآتية، شبه جل جلاله نفور المشركين من سماع مواعظ القرآن ونصائح حضرة الرسول بنفور الحمر الوحشية عند ما تشاهد الأسد أو الرماة فلا يرى مثل نفورها وكذلك هروب

المشركين عند سماع كلام حضرة الرسول في قرآن أو غيره، راجع الآية 127 من سورة التوبة في ج 3 «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ» أي هؤلاء المعرضون «أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً 52» قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها الناس، أي أنهم لا يكتفون بتلك التذكرة من حضرة الرسول ولا يرضون بها وذلك أن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان نؤمر فيها باتباعك، ونحو هذا القول ما يأتي في الآية 92 من سورة الإسراء الآتية. مطلب ما يطلبه قريش من الرسول: وقالوا بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح وعند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، وقالوا إن كان محمد صادقا فيصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار، فرد الله عليهم بقوله عزّ قوله «كَلَّا» لا يؤتون شيئا من ذلك، وهذه كلمة ردع وزجر ونهي لهم عن طلب تلك الاقتراحات والتمنّيات «بَلْ لا يَخافُونَ» بالياء والتاء هؤلاء هول «الْآخِرَةَ 53» ولا يخشون عذابها وما أو عدوا فيها إذ لو خافوا ذلك لما اقترحوا شيئا من هذه الاقتراحات الواهية ولأن ما حصل من المعجزات وما قام من الأدلة على اثبات نبوته وصحة ما جاءهم به كاف على وجوب الإيمان به، ولكنهم لن يؤمنوا ولو جئنهم بكل آية، راجع الآية 95 من سورة يونس في ج 2، فطلبهم هذا زيادة في التعنّت والعناد ولهذا زجرهم بقوله «كلّا» حقا «إنّه» القرآن «تَذْكِرَةٌ 54» عظيمة وعظة بليغة كافية لمن وفقه الله للايمان «فَمَنْ شاءَ» منكم أيها الناس أن يذكره «ذَكَرَهُ 55» ولم ينسه واتعظ به ولم يطلب غيره لأن نفعه عائد عليه «وَما يَذْكُرُونَ» هؤلاء وغيرهم بمشيئتهم إذ لا يقدرون أن يذكروه «إلّا» وقت «أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» لهم ذلك فإن شاء لهم الهدى تذكروا فيه فاهتدوا وإلا لا، فانه «هو» وحده جل جلاله «أَهْلُ التَّقْوى» وبالحري أن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا به ويطيعوه «وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ 56» وحقيق أن يغفر للطائعين ما سلف ت (8)

تفسير سورة الفاتحة عدد 5 - 1

منهم إذا آمنوا وصدقوا نيتهم والله أحق أن نتقي محارمه وأكرم من أن يرد من يقبل عليه بإخلاص. هذا ولا يوجد غير هذه السورة مختومة بمثل هذه اللفظة، أخرج أحمد والترمذي وحسنه الحاكم وصححه النسائي وابن ماجه وخلق كثير آخرون عن أنس أن رسول الله قرأ هذه الآية (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) إلخ فقال: قد قال ربكم أنا أهل بأن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له. وأخرج ابن مردويه عن عبد بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر عن ابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك، هذا، والله أعلم واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الفاتحة عدد 5- 1 نزلت بعد المدثر في مكة بدليل قوله تعالى في سورة الحجر (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي إلخ) ، الآية 87 في ج 2، وهي مكية فلا برهان لمن قال إنها مدنية كمجاهد رحمه الله حتى قال الحسين بن فضيل هذه هفوة من مجاهد لأن العلماء على خلافه، ولا دليل لمن قال انها أول ما نزل أولية مطلقة كما نوهنا به أوائل سورة المدثر المارة، وأضعف من هذين القولين، القول بنزولها مرتين أولا بمكة ثم بالمدينة، وقد جزم جابر بن زيد أن أول ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثم (ن) ثم (المزمل) ثم (المدثر) ثم (الفاتحة) وهي سبع آيات ومنها في عد الآي سورة الماعون فقط ولو أنها نزلت مرتين لأثبتت بالقرآن مرتين كما هو الحال في الآيات والقصص المكررة، وهذا كاف للرد على من يقول بنزولها مرتين، تدبر، والبسملة ليست آية منها. مطلب أسماء الفاتحة وما يتعلق بها وهي تسع وعشرون كلمة ومائة وأربعون حرفا، وتسمى فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة وغيرها، والوافية لأنها لا تقسم في الصلاة بخلاف غيرها من السور، والكافية لأنها تكفي عن غيرها ولا يكفي عنها

غيرها عند الإمام الشافعي رحمه الله اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وعلى ما رواه مسلم عن أبي هريرة: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج وكررها ثلاثا، أي غير تمام، قال الراوي فقلت يا أبا هريرة إنا أحيانا نكون وراء الإمام، فغمز ذراعي وقال: اقرأها بنفسك يا فارسي (يريد سلمان رضي الله عنه) فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فاذا قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال حمدني عبدي، وإذا قال (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال أثني عليّ عبدي، وإذا قال (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال مجّدني عبدي، وإذا قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. وقد أول الحنفية الحديث المارّ بأن المراد به الصلاة الكاملة وإلا فهي تصحّ بكل ما قرىء من القرآن ولو كلمتين كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت المار في آخر سورة المزمل المتعلق في هذا البحث. وتسمى سورة الحمد، وفي القرآن خمس سور مبدوءة بالحمد لله، هذه والأنعام والكهف وسبأ وفاطر. هذا ولا يقدح في قول القائل ان الفاتحة مشتملة على معان كثيرة بل على الكتاب كله وجامعة لما فيه، عدم اشتمالها على الأحرف السبعة وهي: (الثاء والجيم والزاي والشين والخاء والظاء والفاء) لأن المراد الكمال المعنوي لا اللفظي ولا ينقصها نقصان الصورة فقد جاء بحق البشر وهو مادي (إن الله لا ينظر إلى صوركم) فكيف بالأمور المعنوية. على أن هذه الأحرف من الحروف الظلمانية التي لم تذكر في المتشابه من القرآن في أوائل السور التي يجمعها قولك (صراط على حق نمسكه) أي بعد حذف المكرر منها، تأمل. الحكم الشرعي وجوب تعيين قراءتها في الصلاة عند الشافعي وأحمد ومالك ومن تابعهم بحيث لا تصح الصلاة بدونها ولا يجزى غيرها عنها، والواجب عندهم كالفرض غالبا وقال أبو حنيفة لا يتعين قراءتها على سبيل الفرض، وعنده الواجب دائما دون الفرض

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 إلى 7]

خلافا لبقية الأئمة، وقال رحمه الله بكفاية آية طويلة أو ثلاث آيات قصار من أي سورة كانت من القرآن بل تصح بأقصر آية مثل (ثُمَّ نَظَرَ) الآية 21 من المدثر المارة لأنه الفرض عنده استنادا لقوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) الآية الأخيرة من سورة المزمل المارة، وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن- كما في الصحيحين- أما كون البسملة ليست بآية منها فقد تقدم بحثه في الخاتمة. بسم الله الرّحمن الرّحيم. تقدم البحث عنها بالخاتمة أيضا وقد أسقطت الألف من الياء للخفة وطول الباء خطا ليدل عليها، والاسم ما يعرف به ذات الشيء والتسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء فالاسم هو اللفظة المعنية واشتقاقه من السموّ أي العلو لأن اسم الشيء ما علاه وظهر به وصار علما له «الله» اسم علم خاص له تعالى وهو غير مشتق ومن خصائصه أنك إذا حذفت الالف بقي لله، وإذا حذفت اللام بقي إله، وإذا حذفتهما معا بقي هو، فالواو عوض عن الضمير، وإذا حذفت اللامين بقي آه فهو دائما يدل عليه دون غيره، ولم يسبق أن تسمى به أحد قطعا، قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الآية 65 من سورة مريم الآتية ومعناه المستحق للعبادة وحده «الرّحمن» ذي الرحمة العامة و «الرّحيم» ذي الرحمة الخاصة وهما اسمان من صفات الذات مشتقان من الرحمة، وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بمعنى البسملة على القول بانها آية من الفاتحة بالحالة المارة قال تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» استحقاقا لذاته الكريمة المستوجبة لجميع المحامد «رَبِّ» المربي الأكبر المالك لجميع الخلق «الْعالَمِينَ 1» جمع عالم بفتح اللام لا واحد له في لفظه مثل خيل ونساء، راجع الآية 5 من سورة المدثر المارة وهو اسم لكل موجود ما سوى الله الموجد للوجود، قالوا إن لله ألف عالم، ستمائة في البحر واربعمائة في البر وقيل ثمانون الف عالم نصفها في البر ونصفها في البحر والحقيقة ان له عوالم لا يعلمها غيره وما العمران في الخراب الا كفسطاط (خيمة) في فلاة «الرَّحْمنِ» المنعم على خلقه بما لا يتصور صدوره من العباد «الرَّحِيمِ» المنعم بما يمكن تصوره من عباده ويجوز التسمية به وهو في جملة أسمائه

صلّى الله عليه وسلم لأنه أخص من الرحمن كما تقدم في الخاتمة أيضا «مالِكِ» أبلغ من ملك لأنه لا يكون مالكا للشيء إلا وهو يملكه ولأن الملك لا يكون إلا بالمبايعة والمالك يكون بالقهر، وجاز قراءة ملك بالصلاة لمن يقتصر على الفاتحة في الركعة الثانية لتكون الأولى أطول منها بحرف وهو في سنن القراءة في الصلاة ولأنها قراءة أيضا، ومن لم يفهم هذا المعنى من الأئمة يداوم على قراءة ملك في الثانية مع أنه يقرأ معها شيئا من القرآن ويظن أنه يحسن عملا أو ان قراءة ملك مطلوبة او انه واقف على القراءات، وقيل أن ملك أولى لأن كل ملك مالك أيضا وليس بشيء «يَوْمِ الدِّينِ 3» أي الجزاء المتصرف بأمره ونهيه فيه، وجملة الحمد إخبارية لفظا انشائية معنى وما بعدها إخبار فقط، ثم رجع الخطاب لعباده فأمرهم ان يقولوا «إِيَّاكَ» يا ربنا «نَعْبُدُ» نخصّك بالعبادة ونوحدك طائعين خاضعين لك كما حققتها بالعبودية وسمي العبد عبدا لذلته لمولاه وانقياده لأوامره «وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 4» لا نطلب المعونة إلا منك يا إلهنا، وتقديم المفعول يكون دائما للحصر، أي أن إعانتنا على عبادتك وأمورنا المحصورة فيك لا نقدر على القيام بها كما ينبغي إلا بقدرتك ومعونتك، وقال في المعنى: إليك وإلّا لا تشد الركائب ... ومنك وإلّا فالمؤمل خائب وفيك والّا فالغرام مضيّع ... وعنك والا فالمحدّث كاذب ثم أمر عباده أن يسألوه ما يهمهم شأنه، وعلمهم كيف يدعونه بقوله عزّ قوله «اهْدِنَا» أرشدنا يا ربنا لسلوك الطريق «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 5» السويّ الموصل إلى رضاك، قال ابن عباس: هو دين الإسلام وقال غيره: القرآن، والحق أن يقال هو عام في كل ما من شأنه أن يكون عدلا حقا قال جرير: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموادد مستقيم واعلم أن السين قد ينوب عنها الصاد وبالعكس في كل كلمة فيها سين يأتي طاء أو خاء أو غين أو قاف، نقول صراط وسراط، وصخر وسخر، ومصبغة ومسبغة، وصيقل وسيقل، وما شابهها، أما في غيرها فلا نقول صلح سلح،

كما لا نقول صالح صالح، تدبر «صِراطَ» بدل من الاول «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ» مننت «عَلَيْهِمْ 6» بالهداية والتوفيق وهم الأنبياء ومن تابعهم على حقهم وصدّق بما أنزل عليهم قال: لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبه ... من فيض جودك ما علمتنا الطلبا «غَيْرِ» طريق «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» الذين غيروا وبدلوا ما أمرتهم به فاستحقوا غضبك والغضب هو ثوران الدم لإرادة الانتقام قال عليه الصلاة والسلام اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه، وإذا وصف الله به فالمراد منه الانتقام فقط وغضبه تعالى يلحق الكافرين دون المؤمنين «وَلَا» طريق «الضَّالِّينَ 7» عن طريقك السوي المائلين عن هدى أنبيائك والضلال الهلاك ومنه قوله تعالى: (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) الآية 10 من سورة السجدة في ج 2 أي هلكنا وقوله تعالى: (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الآية 13 من سورة محمد في ج 3 أي محقها والضلال في الدين الانصراف عن الحق. مطلب المراد بالمغضوب عليهم والضالين، وحكم (آمين) وعلوم الفاتحة: ومن خصّ اليهود بالغضب والنصارى بالضلال في هذه الآية مستدلا ببعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الآية 26 من سورة المائدة في ج 3 وقوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا) الآية 80 منها أيضا لم يصب الهدف، لأن الغضب والضلال وردا في القرآن بحق جميع الكفار على العموم فلم يخص بها اليهود والنصارى قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً) الآية 166 من النساء في ج 3 وسياق الآية ينافي ذلك الإختصاص، لأنها عامة والعبرة لعموم اللفظ عند عدم المخصص ولا مخصّص هنا. واعلم أن كلمة آمين ليست من الفاتحة كما قدمناه في الخاتمة وانما يسن قراءتها بعدها بسكتة خفيفة لمواظبة النبي ومن بعده من الأصحاب والعلماء عليها حتى اليوم ومعناها أللهم استجب، وقد جاء فيما رواه البخاري أن الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم

ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وفيها لغتان المد والقصر ويكون المدّ بإشباع الهمزة وهو اسم فعل بمعنى استجب، قال ابن عباس سألت رسول الله عن معنى آمين فقال: (أفعل) وقال عليه الصلاة والسلام: لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب وقال انه كالختم على الكتاب. الحكم الشرعي سنّية قراءتها بعد الفاتحة في الصلاة واسماع نفسه بها وقراءتها بعدها في الدعاء أيضا وعند مقطعات الأدعية لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا أمّن الأصحاب على دعائه. وهذه السورة لا ناسخ ولا منسوخ فيها ولا يوجد سورة ختمت بما ختمت به، وليعلم أن هذه السورة اشتملت على أربعة أنواع من العلوم: الأول علم الأصول ومعاقد معرفة الله تعالى وصفاته وإليه الاشارة بقوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) ومعرفة النبوات وهي المراد بقوله (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ومعرفة المعاد المؤمى إليه بقوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) . الثاني علم الفروع وهو المعين بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وأسسه العبادات وما يتفرع عنها من المعاملات. الثالث علم الكمال والأخلاق ومن إليه الإيعاز بقوله (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وفيه الوصول إلى الحضرة الصمدانية وبلوغ المراتب العلية (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) الآية 35 من سورة فصلت في ج 2. الرابع علم القصص والأخبار عن الأمم السعيدة والشقية السالفة وإليه الالماع بقوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وفيها علوم أخرى لا محل لبسطها هنا وفقنا الله للصواب وألهمنا حب أولي الألباب وجعلنا منهم آمين. يا رب لا تسلبنّي حبّها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا هذا والله أعلم، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المسد عدد 6 - 111

تفسير سورة المسد عدد 6- 111 ومثلها في العدد الفلق والفيل نزلت بمكة بعد الفاتحة، وهي خمس آيات، وعشرون كلمة، وسبعة وسبعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، وتسمى سورة تبّت، وسورة أبي لهب، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدأت وختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «تَبَّتْ» أي هلكت وخسرت وخابت «يَدا أَبِي لَهَبٍ 1» عبد العزّى بن عبد المطلب بن هاشم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد هو ذاته لأن العرب تعبر عن كل الشيء ببعضه، وكنّي بأبي لهب لحسنه واشراق وجهه، وكناه الله بذلك لشهرته بها دون الاسم لا لتكريمه ولأن في تسمينه باسمه نسبة العبد للشرك، والكل عبيد الله لا يشاركه فيهم أحد، واخبار بأنه من أهل النار ذات اللهب لتوافق كنيته بما يؤول إليه حاله، ولا حول ولا قوة إلا بالله لم يرد الله له الخير، وهو عم حبيبه وصفيه، وأراده لصهيب وعمار وبلال وسلمان، ورحم الله من قال: لعمرك ما الإنسان الا ابن دينه ... فلا تترك التقوى اتّكالا على النسب لقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب وهكذا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد «وَتَبَّ 1» وكان يقول ابن مسعود وقد تبّ لأنه هلك حقيقة، ولا تجوز القراءة بها لما فيها من الزيادة وهي عبارة عن كلمة قالها ليست من القرآن، راجع بحث القراءات في المقدمة ويقال عن هكذا زيادات (سيف خطيب) وقد جاء في التأويلات النجمية أن أبا لهب كان بداية أمر النبي صلى الله عليه وسلم يحسن إليه ويكرمه ويقول إلى قريش: إن كان الأمر إلى محمد فلي عنده يد، وإن كان لقريش فلي عندها يد أيضا، لأنه كان يحسن إليها، وبعد أن ظهر أمر الرسول أظهر له العداوة وصار يهينه ويؤذيه، فأنزل الله فيه هذه السورة إعلاما بخسران يده عنده لتكذيبه إياه وخسران يده عند قريش أيضا لعدم بقاء يد لهم عند الرسول وإذلالهم لعدم الإيمان به وهذا أحسن ما قيل في أسباب نزول

هذه السورة أما ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» الآية 215 من سورة الشعراء الآتية صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى: يا بني فهر، يا بني عدي، (بطون من قريش) ، حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا لينظر ما هو الخبر، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا نعم ما جرّبنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا! فنزلت السورة، ونقله أكثر المفسرين. مطلب سبب نزول السورة: فلا يصح هذا أن يكون سببا لنزولها، لأن هذه الآية لم تنزل بعد ولا يصح أن يكون المؤخر سببا للمقدم كما لا يصح أن يكون المقدم ناسخا للمؤخر. على أن هذا لا يقدح في صحة الحديث لأنه صحيح لا غبار عليه وواقع عند نزول هذه الآية حقا إلا أنه لم يكن سببا لنزول السورة هذه، ولا يبعد أن يكون قول أبي لهب لحضرة الرسول (تبّا لك سائر اليوم) ردا على ما جاء في هذه السورة المتقدمة على هذه الحادثة، والأجدر أن يكون كذلك، لأن العرب قد ترد على كلمة قيلت لهم ولو بعد حين، ألم تر أن المعرّي حين قال للشاعر مهيار الديلمي لما سمع شعره بالعراق بعد أن سمعه في الشام «وأشعر من في العراق» عطفا على قوله قبل عشرين سنة وهو في الشام «أنت أشعر من في الشام» وهذا الشاعر له ديوان يحتوي على ثمانية عشر الف بيت، وهو مطبوع وموجود في مكاتب مصر وغيرها وهذا من بعض ذكاء المعرّي. وحين سقط في يدي أبي لهب يقول الله تعالى «ما أَغْنى عَنْهُ» أي لم ينجه من عذاب الله «مالُهُ وَما كَسَبَ 2» في دنياه وولد الرجل من كسبه أي ولا ولده. أخرج أبو داود عن عائشة قالت إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه أي من ربحه. وأخرجه الترمذي بلفظ الجمع أي إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم

وكان لأبي لهب ثلاثة أولاد عتبة ومتعب أسلما، وعتيبة أهان حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأساء الأدب معه بأمر أبيه وطلق ابنته أم كلثوم، فقال صلى الله عليه وسلم: أللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فقتله السبع على طريق الشام ومن أسماء السبع الكلب، ثم هلك أبو لهب بالعدسة أي مرض الطاعون بعد وقعة بدر، وهذا المرض يجتنب مخافة العدوى فاستأجروا له بعض السودان، فدفنوه مخافة العار وإلا لتركوه وهذه العادة توجد حتى الآن عند بعض البدو، فانهم إذا مات أحدهم بمرض يزعمون أنه يعدي فإنهم يتباعدون عنه ويتركونه، وقد يهجرونه إبّان مرضه مخافة العدوى كالجدري والطاعون وغيره، هذا وقد صدق الله فلم يغن عنه ماله ولا كسبه، ولم يحل بينه وبين ما حل به، وكان صاحب مواشي. قال ابن مسعود: ولما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرباءه إلى الله، قال أبو لهب: إن كان ما تقول يا ابن أخي حقا فأنا افتدي نفسي بمالي وولدي، فأنزل الله هذه السورة وهذا يصح إذا وقع منه نزولها لا عند نزول آية الشعراء الآنفة الذكر. وبعد أن حقق الله وعده فيه بهلاكه في الدنيا على الصورة المذكورة أوعده بانه في الآخره أيضا (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ 3) تتوقد وتنلهب في قلبه لشدة حسده له في الدنيا وفي الآخرة تحرقه (وَامْرَأَتُهُ) أم جميل المتقدم ذكرها في بحث فترة الوحي في المقدمة وصفها بقوله «حَمَّالَةَ «الْحَطَبِ 4» في جهنم، ذمها مع ما هي عليه من الشرف وكريم المحتد، لأنها كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريق رسول الله وأصحابه وتنم عليهم لشدة عداوتها لهم. مطلب ما قالت أم جميل وما قيل فيها: ولما نزلت هذه الآية جاءت حاملة فهرا (حجرا صغيرا) وقالت لأبي بكر والنبي بجانبه: لأفعلن كذا وكذا بصاحبك لأنه هجاني وأنا أماثله بالشعر وأنشدت: مذمما أبينا ... ودينه قلينا وأمره عصينا وقد أعمى الله بصرها عن رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ولما سأله أبو بكر قال: حجبتني عنها الملائكة «فِي جِيدِها» عنقها «حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ 5» ليف كانت تنقل فيه

تفسير سورة التكوير عدد 7 - 81 وتسمى كورت

الحطب، فأيدلها الله سلسلة من حديد محماة في عنقها تعذب فيها في نار جهنم. هذا وقد عيّر بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فرد عليه بقوله: ماذا أردت بشتمي أو بمنقصي ... أم ما تعيّر من حمالة الحطب غراء شادخة في المجد غرتها ... كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب أي وقد وقع منها ما وقع من قومها فذمها الله لا غير، أي لم تنتقد في شيء تعاب به عند العرب إذ ذاك ولا بعد هذا والله أعلم. أستغفر الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. تفسير سورة التكوير عدد 7- 81 وتسمى كورت نزلت بمكة بعد (المسد) وهي تسع وعشرون آية ومثلها في عد الآي الفتح والحديد ومائة وأربع كلمات، وخمسمائة وثلاثون حرفا، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بلفظ إذا: هذه، والواقعة، والمنافقون، والانفطار، والانشقاق، والزلزلة، والنصر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذَا» ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه «الشَّمْسُ» الجرم المعهود أحد الكواكب السيارة السبع وقد أخبر الله بما تؤول إليه عند إرادته ابادة هذا الكون بقوله «كُوِّرَتْ 1» لغت وغورت واضحات وذهب نورها «وَإِذَا النُّجُومُ» يشمل بقية السيارات وغيرها كالثريا والشعرى وبنات نعش وغيرها «انْكَدَرَتْ 2» اغبرّت وذهب ضوءها وانقضت من أماكنها وسقطت من مواقعها وفرط نظامها وتناثرت «وَإِذَا الْجِبالُ» الشامخات الرّواسي «سُيِّرَتْ 3» من أماكنها فارتجت عن وجه الأرض وصارت هباء «وَإِذَا الْعِشارُ» الإبل العشر التي مر عليها عشرة أشهر وهي أنفس مال العرب وكذلك غيرها من الحيوانات «عُطِّلَتْ 4» أهملت وتركت بلا راع لهول ما يشاهدون في ذلك اليوم وكانوا قبله يلازمونها «وَإِذَا الْوُحُوشُ» دواب البر والبحر «حُشِرَتْ 5» جمعت في المحل الذي يريده الله بذلك اليوم ليقتص بعضها من بعض ومن القرناء للجلحاء ثم تكون ترابا فيتمنى الكافر إذ ذاك

لو كان مثلها تخلصا من العذاب الأليم، وفي هذه الآية إيذان بأن هول القيامة لا يقتصر على البشر وما يألفه من الحيوانات بل يتعدى إلى دواب البحر والبرّ وإلى الجمادات أيضا، وهذا يكون بعد النفخة الثانية. ثبتنا الله وعافانا ومن شره وقانا- راجع تفسير الآية الأخيرة من سورة النساء في ج 2- «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ 6» التهبت بالنار وذهب ماؤها وصارت تضطرم، يؤيده قوله صلّى الله عليه وسلم: إن البحر غطاء جهنم أو طباقها. وقيل امتلأت أخذا من سجر التنور إذا امتلأ حطبا وعليه يكون المعنى تفجرت على بعضها فصارت بحرا واحدا إلا أنه لم يبق بحر إذ ذاك (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) راجع هذه الآية 40 من سورة ابراهيم في ج 2 «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ 7» قرنت أرواحها بأجسادها وكل نفس مع من يشاكلها الصالحة بالصالحة والعاصية بالعاصية وألحق كل امرئ بشيعته «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ» الطفلة المقبورة حية «سُئِلَتْ 8» أي سئل وائدها فيقال له من قبل الملائكة «بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ 9» هذه الموءودة كبيرة كانت أو صغيرة وهكذا كل مقبور حيّ يسأل وائده عن سبب واده فيصمت إذ لا جواب له ولا عذر فيذبح الوائد في نار جهنم ذبحا زائدا على عذابه الذي يستحقه للقتل بلا ذنب وهذا الذبح لا يميته لأن النار لا موت فيها وإنما يذيقه عذاب الذبح ثم يبقيه حيا للعذاب الآخر. أو سئلت هي سؤال تلطف لتقول: وأدني فلان بلا ذنب، ويكون سؤال توبيخ لواندها بصرف الخطاب إليه، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية 115 من المائدة في ج 3 وقرىء قتّلت بالتشديد، وفي هذا دليل على أن أطفال المشركين لا يعذّبون وان التعذيب لا يكون بلا ذنب، وهو كذلك في الآخرة أما في الدنيا فقد يقع من بعض الناس جورا ومن الله عدلا قال: وله أن يؤلم الأطفالا ... ووصفه بالظالم استحالا قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية تحفر حفرة عند ولادتها فتتمخض فإن ولدت جارية دفنتها وإن ولدت غلاما حبسته، وكان الرجل في الجاهلية إذا أراد

مطلب أول من سن الوأد ومن منعه:

بقاء ابنته حية ألبسها جبة صوف ورعاها بالمواشي فاذا أراد قتلها بعد قال لأمها زينيها لأذهب بها لا حمائها وكان قد هيأ لها قبرا فيأخذها اليه فيدفنها فيه ويهيل عليها التراب، يا ويلهم مما يعملون. مطلب أول من سنّ الوأد ومن منعه: أول من سنّ الوأد ربيعة، وذلك أنه أغير عليهم فنهبت بنت أميرهم وقيل زوجته وبعد الصلح أراد استردادها فخيرت بينه وبين من هي عنده فاختارت من هي عنده فغضب وسن الوأد ففعلوه غيرة وقلدهم غيرهم. أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت: سألت رسول الله في العزل (هو ان يجامع الرجل زوجته وينزل خارجا) فقال ذلك الوأد الخفي ومن هنا قال من قال بحرمته، الصحيح أنه مكروه لما فيه من قطع النسل وأذية الزوجة. وتسميته بالوأد الخفي لا يستلزم حرمته ولا يدل على أن حكمه حكم الوأد فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال (الربا شرك خفي) ولم يقل أحد أن حكمه حكم الشرك. مطلب الاستمناء باليد والعلاج لمنع الحمل: أما الاستمناء باليد فجائز إذا خشي الزنا وإلا فهو حرام لورود: (ناكح اليد ملعون) وإن الاقتران باللعن يدل على الحرمة كما ذكره الأصوليون وما يستعمله بعض الناس من العلاجات لعدم الحمل فلا يتعدى الكراهة، وهو دون العزل، لأنه لا يحمل على الاسقاط لعدم تكون الجنين. أما إذا كان استعمال الدواء لقطع النسل خوفا من عدم القدرة على تربيته كما يقوله بعض قليلي الإيمان ففيه عدم الاعتماد على الله والثّقة برزقه فهذا وليد الذين ذمهم الله بقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) الآية 152 من الأنعام في ج 2 ونظيرتها (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) الآية 31 من الاسراء الآتية وهؤلاء الذين لا يتوكلون على الله ويسيئون الظن به وهو القائل (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) قد

[سورة التكوير (81) : الآيات 11 إلى 20]

يخشى على إيمانهم. أما استعمال الأدوية بعد تكون الجنين وقبل نفخ الروح فهو حرام لما فيه من معنى الإتلاف، أما بعد نفخ الروح فهو حرام قطعا وفعله جناية لما فيه من إتلاف النفس وأول من منع الوأد صعصعة بن ناجية فافتخر به الفرزدق بقوله: ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوليد فلم يوءد وفي رواية: وجدّي الذي إلخ، قال تعالى «وَإِذَا الصُّحُفُ» التي اثبتت فيها أعمال الخلق «نُشِرَتْ 10» للحساب والجزاء «إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ 11» قلعت فطويت ونزعت «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ 12» بالوقود فاشتد لهيبها للنكال والتنكيل بأعداء الله، ونقل ونكّل يخفف ويشدد ويتوب أحدهما عن الآخر في المعنى الا أن المشدد يدل على التكثير «وَإِذَا الْجَنَّةُ» التي وعدها الله للمتقين «أُزْلِفَتْ 13» قربت منهم ليدخلوها وحينذاك «عَلِمَتْ نَفْسٌ» أي كل نفس فالتنوين للعوض وهو جواب إذا المكررة من أول السورة إلى هنا «ما أَحْضَرَتْ 14» لذلك اليوم من خير أو شر فيفوز الطائع ويهلك العاصي. مطلب علامات الساعة: قال أبيّ بن كعب: ستّ آيات قبل القيامة: بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فتحركت الأرض واضطربت وفزعت الانس والجن، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماج بعضهم في بعض، فذلك قوله تعالى «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» «أي سجرت» فحينذ تقول الجن للانس نحن نأتيكم بالخبر فينطلقون إلى البحر فإذا هو نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السفلى وإلى السماء السابقة العليا إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقال ابن عباس هي اثنتا عشرة خصلة ست في الدنيا وست في الآخرة. فالتي في الدنيا أي في آخر يوم من أيامها من أول السورة إلى (سُجِّرَتْ) والتي في الآخرة من (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) إلى (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) ، وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الشمس والقمر يكوران يوم القيامة، وعن ابن

عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، (وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، (وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ» لا هنا للتأكيد وليست بزائدة كما قاله بعض المفسرين لأن كلام الله لا زيادة فيه كما أنه لا نقص فيه البتة كما نوهنا به في بحث القراءات في المقدمة وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة القيامة الآتية. وأعلم أنه لا يقال ما معنى القسم من الحضرة الإلهية لأن المؤمن يصدق دون قسم والكافر لا يفيده لأنه جاحد لكلامه سواء أكذّب القسم أم لا لأن عادة العرب توثيق أقوالها بالإيمان لكمال الحجة إقناعا للمحلوف لهم والقرآن نزل بلغتهم، ولأن الحكم لا يكون إلا بالشهادة واليمين والاعتراف فذكر الله القسمين الأولين بقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) الآية 18 من آل عمران في ج 2 والأقسام الموجودة في القرآن على نوعين قسم بنفسه الكريمة وهي في سبعة مواضع فقط: 1 (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) الآية 53 من سورة يونس، 2 (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) الآية 92 من سورة الحجر، 3 (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) من سورة المعارج، 4 (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) الآية 23 من سورة الذاريات في ج 2، 5 (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية 64 من سورة النساء، 6 (قُلْ بَلى وَرَبِّي) الآية 7 من سورة التغابن في ج 3، 7 (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) الآية 68 من سورة مريم الآتية وقسم بمخلوقاته وهو كثير مثل: (وَالضُّحى، وَالشَّمْسِ، وَاللَّيْلِ، وَالْعَصْرِ، وَالتِّينِ) وغيرها. واقسم الله «بِالْخُنَّسِ 15» ثم فسرها على طريق عطف البيان فقال «الْجَوارِ الْكُنَّسِ 16» وهي النجوم الجاريات الباديات ليلا المستترة نهارا. شبه الله تعالى ظلام الليل بكناس الأسد لاجتماع الستر في كل فكأن النجوم حينما تغيب وتتأخر طيلة النهار مثل الأسد الذي يخنس في كناسه ثم يظهر وإنما أقسم فيها لما فيها من النفع للبشر وغيره، قال علي كرم الله وجهه هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإنها تخنس في مجاريها تحت ضوء الشمس والقمر وهي تتمة السيارات السبع الشمس والقمر وانها تجري في محورها بانتظام

[سورة التكوير (81) : الآيات 21 إلى 29]

لا يتغير ولا يتبدل إلى اليوم الذي نوّه به والخنس تأخر الأنف عن الشفة مع الارتفاع قليلا في الارنبة ويوصف به بقر الوحش والظباء «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ 17» أقبل ظلامه وأدبر لأن عسعس من الأضداد يكون للاقبال والأدبار ومثله الصريم يطلق على الليل والصبح، والسدفة الظلمة والضياء، الجون الأسود والأبيض «وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ 18» بدا واسفر واقبل ضوءه وقيل انه شبه الليل بالنسمة (المكروب) وهو الحيوان الصغير الذي قد لا يرى الا بالمكبرات لأنه مخزون فاذا تنفس الصبح وجد رائحته فكأنه تخلص من المخزن فعبر بالتنفس عنه فهو استعادة لطيفة وانما قال تنفس لأن في أقبال الصبح روحا ونسيما فيجعل ذلك نفسا على المجاز وجواب القسم قوله (انه) اي القرآن العظيم مطلب مكانة جبريل وقوته: المنزل عليك يا حبيبي «لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ 19» علينا هو جبريل عليه السلام لأنه تلقاه من ربه ونزل به على محمد صلّى الله عليه وسلم وهذا الرسول «ذِي قُوَّةٍ» قدرة عظيمة على ما يكلفه به ربه وله مقام عال «عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ» تعالت عظمته «مَكِينٍ 20» في المنزلة والجاه مكانة ورفعة وشرفا «مطاع» في السموات من قبل الملائكة أجمع ومن طاعتهم له امتثالهم أمره يفتح أبواب السموات ليلة المعراج ومن قوته وشدة بأسه اقتلاع قرى قوم لوط من الماء الأسود اي من أقصى تخوم الأرض المتصلة بالماء وحملها على جناحه ورفعها الى السماء ثم قلبها بأهلها اجمع فأنه أبصر إبليس يوما يكلم عيسى عليه السلام على عقاب الأرض المقدسة فنفحه بجناحه فالقاه إلى أقصى جبل بالهند وانه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وانه يهبط الى الأرض ثم يصعد الى السماء في اسرع من رد البصر «ثَمَّ أَمِينٍ 21» على الوحي الذي يتلقاه من ربه فيوصله الى الأنبياء كما أخذه «وَما صاحِبُكُمْ» يا اهل مكة المنزل عليه هذا القرآن المجيد «بِمَجْنُونٍ 22» كما تزعمون وان ما يقوله ليس من نفسه بل هو من عند الله، أقسم جل شأنه بأن هذا القرآن نزل به جبريل من عنده وأخبرهم بأن جبريل أمين على وحيه وأقسم لهم بأن محمدا ليس

مجنونا كما يقولون ولم يؤثر ذلك فيهم لهذا قال تعالى (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الآية 46 من سورة الحج في ج 3 وقال جل قوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) من الآية 115 من الأعراف الآتية، وهذا قسم آخر على تصديق ما اخبر به محمد ورقه بن نوفل الذي مر ذكره في مطلب الوحي في المقدمة بانه أي جبريل حقيقة وتلقى منه أوائل سورة العلق المارة بقوله «وَلَقَدْ رَآهُ» وعزتي وجلالي لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية «بِالْأُفُقِ» الشرقي على القول الصحيح وما قيل بالغربي ليس بشيء وهو قوله بالحديث المار في المقدمة في بحث نزول الوحي انه جالس على كرسي بين السماء والأرض «الْمُبِينِ 23» الظاهر البين الذي لا خفاء عليه روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال رسول الله لجبريل إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها بالسماء، فقال لن تقوى على ذلك، قال بلى ان شاء الله، قال فأين تشاء ان اتخيل لك؟ قال بالأبطح، قال لا يسعني، قال فبمنى، قال لا تسعني، قال بعرفات، قال لا تسعني، قال بحراء، قال ان يسعني، فواعده، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فاذا هو بجبريل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض فلما رآه صلّى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه فتحول جبريل عن صورته وضمه الى صدره وقال يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت اسرافيل ورأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وان العرش لعلى كاهله، وانه ليتضائل أحيانا من مخافة الله جل جلاله وسما شأنه حتى يصير كأنه حصو (حيوان صغير كالعصفور) حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته وهذه الرؤية التي وقعت ليلة الاسراء غير التي اخبر الله عنها في هذه السورة بل التي ذكرها في بحث نزول الوحي وانما أتى بها هنا تأييدا لرؤيته الأولى التي أتت عليه من غير طلب منه ورجع يرجف بها فؤاده من شدة ما لحقه من الخوف كما تقدم مفصلا قال تعالى «وَما هُوَ» اي رسولكم محمد «عَلَى الْغَيْبِ» مما يخبر به من ت (9)

الوحي واخبار السماء وما اطلع عليه مما كان غائبا في علمه لوحينا اليه «بضّنين» بخيل لا يبوح به إليكم وقرىء بظنين بالظاء، أي ليس بمثلهم لأنه أمين أرسل مبلغا ما يوحى اليه من ربه الى البشر كما تلقاه، اي انه لا يتهم بالبخل لأنه لا يريد أجرا على ما يبلغه كالكاهن ولا يظن به انه يزيد او ينقص من الوحي وأنتم تسمونه الأمين فإذا كان أمينا على ما عندكم أفلا يكون أمينا على ما عند الله؟ والقراءة بالظاء حسنة على التأويل الذي جرينا عليه لأن قومه لا يتهمونه بالبخل ويعرفون كرمه، ولو أريد البخل على القراءة بالضاد لقال (بالغيب) لأن فعله يتعدى به ويقال بخل به لا عليه فلا تجوز «وَما هُوَ» أي القرآن بقول «شَيْطانٍ رَجِيمٍ 25» تتلقاه الكهنة والسحرة كما تزعم قريش ولا عن لسان الشيطان بل وحي إلهي من الله الى رسوله «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ 26» فيما تتقولون مذاهب شتى لا نصيب لها من الصحة، وهذا استفهام تضليل لهم كما يقال لتارك الجادة المستقيمة إذا ضل السبيل وسلك السبل العديدة المنشعبة عن الطريق يمينا وشمالا: اين تذهب فقد ضللت أي اي طريق تسلكونه، أبين من طريق محمد الذي فيه الهداية الى النجاة «إِنْ هُوَ» ما هذا القرآن المنزل عليه «إِلَّا ذِكْرٌ» عظة وعبرة «لِلْعالَمِينَ 27» اجمع وهو تذكرة ايضا «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ» ايها الناس «أَنْ يَسْتَقِيمَ 28» على الحق ويتمسك بطريق الاستقامة وذلك لان مشيئة العبد بسلوك ما يوصل المعبود موقوفة على مشيئته قال سلمان بن موسى لما نزلت هذه الآية قال ابو مهل، ذلك إلينا ان شئنا استقمنا وإلا فلا فأنزل الله بعدها «وَما تَشاؤُنَ» أيها الناس فعل شيء ولا تركه «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 29» فعله لأنه مالك الخلق كلهم وأعمالهم فلا يقدر أحد ان يعمل خيرا الا بتوفيقه ولا شرا الا بخذلانه. وفقنا الله لما به سعادة الدارين آمين، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى صحبه أجمعين.

تفسير سورة الأعلى عدد 8 - 87

تفسير سورة الأعلى عدد 8- 87 نزلت في مكة بعد التكبير، وهي تسع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وواحد وتسعون حرفا، وتسمى سبح ومثلها في عدد الآي سورتا العلق والانفطار، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بلفظ التسبيح واحدة بلفظ الأمر وهي هذه، وثلاث بلفظ الماضي وهي: الحديد والحشر والصف، واثنتان بلفظ المضارع وهي: الجمعة والتغابن، وواحدة بالمصدر وهي الاسراء. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ» نزهه عما يقول الملحدون مما لا يليق بذاته وهو المستحق للتقديس «الْأَعْلَى 1» علوا يليق بذاته لا علو مكان تعالى الله عنه الموصوف بالعلو أي القهر والاقتدار «الَّذِي خَلَقَ» كل شيء وأوجده من لا شيء «فَسَوَّى 2» ما خلقه بما يناسبه إذ جعل كل خلقه مستويا معتدلا لا تفاوت فيه محكما منسقا سبحانه فقد أحسن كل شيء خلقه لأن ما يصدر عن الحكيم لا يكون الا كذلك «وَالَّذِي قَدَّرَ» أرزاق مخلوقاته تقديرا حكيما لكل بحسبه «فَهَدى 3» كلا منها لطريق اكتسابه ويسّر كلا لما خلق له وسهل له سلوكه فجعل كلا يتناول ما قسم له بوسائل مختلفة والهدف واحد «وَالَّذِي أَخْرَجَ» في الأرض انواع النبات وأظهر منها «الْمَرْعى 4» للحيوان وصيره أنواعا وأصنافا يناسب كلا منها فلم يترك صغيرا ولا كبيرا إلا وخلق له ما يرعاه وينفعه «فَجَعَلَهُ» أي ذلك المرعى بعد أن كان أخضر وأصفر وأحمر وما بينهما في الألوان العجيبة والأشكال الغريبة البديعة «غُثاءً» هو ما يرى فوق السيل وما يقذفه على جانبي الوادي من هشيم الحشيش وغيره «أَحْوى 5» مائلا الى السواد يابسا وقد يتحجر بكر الأيام ولا يبعد ما يقوله الأثريون بأن الفحم الحجري أصله نبات والحوادث تدل عليه وهو في معجزات القرآن العظيم إذ لا يوجد في نزوله على وجه الأرض من يعرف هذا غير منزله جل وعلا الا فليعتبر المعتبرون «سَنُقْرِئُكَ» يا محمد من معلومات غيبنا ومكنونات علمنا مما لا يعلمه أحد «فَلا تَنْسى 6»

مطلب عصمة النبي من النسيان:

ما نقرئك أبدا، ونظير هذه الآية الآية 16 فما بعدها من سورة القيمة الآتية كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يكد يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم بها رسول الله مخافة نسيانها فأنزل الله عليه هذه الآية فأمن نسيان شيء من بعدها. وهي بشارة له من ربه منّ عليه بها بحفظ وحيه وأن لا يفلت منه شيء. وقيل المراد فلا تنسى العمل به، والأول أولى بالمقام لإنه ابعد ان يقع منه ذلك «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» وقوعه ولم يشأ جل شأنه أن ينسى حبيبه شيئا من كلامه، جاء في الحواشي العصامية على أنوار التنزيل ان الاستثناء على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه، فهو استثناء من أعم الأوقات أي فلا تنسى في وقت من الأوقات شيئا من الوقت الا وقت مشيئة الله نسيانك، لكنه سبحانه لا يشاء ذلك وهذا على حد قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» الآية 108 من سورة هود من ج 2، وإليه ذهب الفراء فقال أنه تعالى ما شاء أن ينسى رسوله إلا أن المقصود من الاستثناء بيان أن الله تعالى لو أراد أن يصيره ناسيا لقدره عليه كما في قوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» الآية 86 في سورة الاسراء الآتية، ولا شك أنّا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك ولو شاء لفعل ولكن يأبى كرمه أن يسلب حبيبه شيئا منّ به عليه وشرّفه تفضلا منه، كيف وقد تعهد له «بحفظه راجع الآية 9» في سورة الحجر من ج 2. مطلب عصمة النبي من النسيان: هذا وقد قال له «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» الآية 65 من سورة الوتر من ج 2 مع القطع بأنه لم يشرك البتة، وفائدة ذلك ان يعرفه كمال قدرته حتى يعلم أن عدم النسيان من فعله وإحسانه وليعرف الغير ذلك، فعلى هذا يكون نفيا مجازيا من باب قوله من المعنى: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

وما قيل من أن المراد بالمستثنى هو ما نفى الله نسخه أو ارتفاع حكمه أو تلاوته فليس بسديد لأن النسخ لا يأتي بمقابلة القراءة حتى يستثنى منها، وما استدل به على هذا في حديث عائشة الذي أخرجه الشيخان بأنه كان فيما أنزل عليه عشر معلومات فنسخن بخمس معلومات وأنه صلّى الله عليه وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عنده بعض من سمعه منه بعيد جدا عن الحقيقة، لأنه لا يعقل أن المنزل عليه الذي بلغه ينساه ويبقى بفكر الغير، ولأن رفع الحكم يؤدي إلى ترك التلاوة لعدم التعبّد بها، ورفع التلاوة يؤدي لعدم اخطارها بالبال لعدم بقاء الحكم. وما قيل ان المراد إلا ما شاء الله أن تنساه ثم تذكره بعد استدلالا بما جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة قالت: سمع رسول الله رجلا يقرأ في سورة والليل فقال رحمه الله لقد ذكرني كذا وكذا، وفي رواية كنت أسقطهن من سورة كذا وفي رواية أسقط آية في قراءته في صلاة الصبح فحسب أبي أنها نسخت، فسأله عليه السلام فقال نسيتها، غير وجيه وحاشا رسول الله أن ينسى شيئا تعهد له به ربه وان هذا النسيان الوارد في هذه الأحاديث غير مقصود بهذه الآية ولا متعلق بها وان الذكر بعد النسيان وان كان واجبا إلا أن العلم به لا يستفاد منه في هذا المقام ولا يصلح أن يستدل به. راجع بحث تهديد من نسي القرآن وبحث ترتيب آي القرآن في المقدمة تحظ بما يزيل عنك ما يحدس ببالك قال تعالى «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ» في أقوال عباده وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم «وَما يَخْفى 7» منها وما يحوك في صدر الإنسان قبل أن يخش به «وَنُيَسِّرُكَ» يا أكمل الرسل ونوفقك «لِلْيُسْرى 8» الطريقة التي هي أهون وأكمل من كل ما تريد ونجعل شريعتك يسرة سمحة لا غرابة فيها ولا تعقيد ولا حرج ولا شدة قال عليه الصلاة والسلام بعثت بالحنفية السمحاء أي بين الرخاء والقسوة «فَذَكِّرْ» يا حبيبي قومك أجمع بما نوحيه إليك وعظهم به «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى 9» أي ما نفعت وجاءت إن هنا شرطية استبعادا للتأثير فيهم لما هم عليه من عتو وعناد، وقد يراد بمثلها التذكر

[سورة الأعلى (87) : الآيات 11 إلى 19]

مطلقا غير مقيد بالنفع، أي ذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع فتكون من معضل المفهوم، قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الآية 21 من سورة الغاشية في ج 2 لأن الذكرى إذا لم ينتفع فيها الكافر ينتفع بها غيره، قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 58 من الذاريات في ج 2 أيضا يدل عليه قوله تعالى «سَيَذَّكَّرُ» بوعظك وإرشادك «مَنْ يَخْشى 10» الله فيخاف عاقبة أمره َتَجَنَّبُهَا» الكافر الذي ينكر المعاد والنبوة والتوحيد وهولْأَشْقَى 11» من غيره كثير الإثم المنهمك في المعاصي «الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى 12» نزلت في الوليد بن المغيرة أو في عتبة بن ربيعة واضرابهما ممن ينكرون البعث المتوغلين في عداوة الرسول، ولذلك وصف المراد منهم بها بالأعظم شقاوة بوصف النار التي يؤول أمره إليها بالأكبر عذابا وهي نار الآخرة لأن نار الدنيا جزء من سبعين جزءا منها، فكل من تباعد عن الذكرى في الدنيا يقربه الله في الآخرة لنارها «ثُمَّ» يكون حاله فيها كما ذكره الله تعالى «لا يَمُوتُ فِيها» فيستريح من عذابها لأن دار الآخرة خلود بلا موت «وَلا يَحْيى 13» حياة طيبة بل تعسة مشوبة بأنواع العذاب. مطلب المراد بالصلاة والزكاة ومما تأخر حكمه عن نزوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى 14» تطهر من الشرك ونظف ثوبه وبدنه ومكانه «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ» وحده ولم يشرك معه غيره «فَصَلَّى 15» له مطلق صلاة ولو دعاء لأن الصلاة في اللغة الدعاء قال أكثر المفسرين إن المراد بالزكاة هنا زكاة الفطر وبالصلاة صلاة العيد. وعليه فيكون المعنى قد أفلح من زكى عمله وصيامه بزكاة الفطر وخرج يكبر إلى مصلّى العيد فصلّى صلاته أو الصلاة المفروضة عليه وقال هذا الزركشي في البرهان ورواه عن ابن عمر، ولكنه لا يصح إلا أن يقال بأن هذه الآية مما تأخر حكمه عن نزوله أي مما تقدم القول فيها على الحكم لأنها مكية وليس بمكة صلاة عيد ولا زكاة فطر لوجوبها في المدينة ولأن الصلاة المفروضة وان كانت فرضت بمكة إلا أنها لم تفرض بعد، وعليه فتكون من قبيل الإخبار

بالغيب أي بأنه سيكون ذلك لسابق علم الله به وأمثال هذا في القرآن كثير منها (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) الآية الثانية من سورة البلد الآتية فهذه مكية ظهر أثرها يوم الفتح حتى قال عليه السلام: (أحلت لي ساعة من نهار) ومنها قوله: (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) الآية 11 من سورة ص الآتية فقد وعده الله وهو بمكة أنه سيهزم جندا من المشركين، وكذلك قوله جاء الحق (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) الآية 49 من سورة سبأ في ج 2 فإنه ظهر مفعولها يوم الفتح أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: دخل النبي مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) الآية 81 من الإسراء الآتيه ويقول (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وكذلك قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) الآية 46 من سورة القمر الآتية فقد بان مفعولها يوم بدر حتى أن عمر بن الخطاب قال كنت لا أعلم أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وغير ذلك فيما يأتي، قال تعالى «بَلْ تُؤْثِرُونَ» على العموم والإطلاق وهو إضراب عن مقدر ينساق الكلام اليه كأنه قيل بعد بيان الفلاح وجهته وطريقه الموصل إليه: انكم لا تفعلون ذلك ولا تميلون إليه بل تفضلون أيها الناس «الْحَياةَ الدُّنْيا 16» الفانية «و» الحال «الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى 17» لكم منها لأن نعيمها دائم والباقي خير من الفاني، قال عرفجة: كنا عند ابن مسعود نقرأ هذه الآية فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة قلنا لا قال لأن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها وان الآخرة زويت وتغيبت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل. ومن المفسرين من خص هذه الآية بالمؤمنين وليس بشيء إذ لا قيد يقيدها، كما أن من قال إنها خاصة بالكفار على معنى أنهم لا يؤمنون بها على حد قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) الآية 7 من سورة يونس في ج 2 غير وجيه لأن المطلق يجب أن يبقى على إطلاقه حتى يقيد، كما أن العام يجب أن يبقى على عمومه حتى

مطلب ما في صحف ابراهيم وموسى والحكم الشرعي في العيد:

يخصص والآية المحتج بها مقيدة كما يفهم من ظاهرها لأن الذين لا يرجون الآخرة هم منكر والبعث، والذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا إليها قد صرفوا النظر عن الآخرة فيجوز أن يكونوا الكفار أيضا، أما هذه الآية فليس فيها ما يحصرها على المؤمن والكافر فأجريناها على إطلاقها. مطلب ما في صحف ابراهيم وموسى والحكم الشرعي في العيد: قال تعالى «إِنَّ هذا» أي قد أفلح إلى هنا «لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى 18» التي نزلت قبل القرآن على الأنبياء والرسل ونظير هذه الآية الآيتان 36 و 37 من سورة والنجم والآية 196 من الشعراء ثم أبدل من عموم الصحف الأولى «صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى 15» أي أن ذلك كله مذكور فيها وان جميع الشرائع متفقة على ما في صحفهما وما أنزل على غيرهما ممن تقدمهما داخل فيهما من حيث أصول الدين الثلاثة، راجع بحثها في المطلب الحادي عشر من المقدمة. عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمسجد تحية، فقلت وما تحيته يا رسول الله؟ قال ركعتان «أراد صلّى الله عليه وسلم مسجده الشريف وهكذا حكم المسجد الأقصى وسائر المساجد، أما المسجد الحرام فتحيته الطواف» قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف ابراهيم وموسى؟ قال أباذر اقرأ قد أفلح إلخ أي من هذه السورة، قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت كلها عبرا: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل. أخرجه رزين في كتابه وذكره ابن الأثير في جامع الأصول. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. قلت يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم؟ قال أمثال كلها: أيها الملك المتسلط

على المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عنّي دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي بها ربه وساعة يحاسب بها نفسه ويتذكر ما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واستجماما للقلوب وتفريغا لها، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقلّ من الكلام إلا فيما يعنيه. على العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمّة «هي شفة كل ذات ظلف، والشفة للانسان فقط، والبرطام وجمعه براطم يطلق على الشفة الغليظة فقط» والمراد منها هنا ما يحتاجه الإنسان من القوت بدليل قوله لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم. وقرىء إبرهم بلا الف وياء ويفتح الهاء وكسرها وقرىء ابراهام وابراهيم وهو اسم أعجمي وقيل عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر. مطلب في صلاة العيد والحكم الشرعي فيها: صلاة العيد واجبة عند أبي حنيفة ويسن أن يقرأ فيها هذه السورة وسورة الغاشية وفي عيد النحر الضحى والكوثر للأحاديث لواردة فيها، ويسن التكبير من طلوع الفجر من يوم عرفة في عيد الأضحى إلى عصر اليوم الرابع من أيام العيد الخامس من عرفة وفي عيد الفطر من طلوع هلال شوال إلى أن يصعد الإمام المنبر للخطبة أو إلى قيام الصلاة وسنة عند الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم. وزكاة الفطر واجبة. ولها تفصيل في كتب الفقه فراجعها. هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان.

تفسير سورة الليل عدد 9 و 92

تفسير سورة الليل عدد 9 و 92 نزلت بمكة بعد الأعلى وهي إحدى وعشرون آية، وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءه بما بدئت به ولا مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى مقسما عزّ قسمه: (وَاللَّيْلِ) الذي هو سكن يأوى فيه جلّ الحيوان إلى مأواه. واعلم أنه لا يقال كيف يقسم الله بخلقه وقد نهى رسوله عن الحلف بغيره لأن القسم يكون مما يعظمه المقسم ولا يجوز تعظيم غيره بالحلف لأن القسم بمصنوعاته يستلزم القسم به ولهذا قال بعضهم في القسم حذف مضاف أي ورب الليل، ورب القمر، وهكذا على أن الله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لعباده أن يقسموا، الآية، وقد أقسم بحضرة رسوله «بقوله لَعَمْرُكَ» الآية 72 من سورة الحجر في ج 2، ليعرف الناس عظمته ومكانته عنده، وهو لا يسأل عما يفعل «إِذا يَغْشى 1» النهار بظلمته، ويغطي نور الشمس «وَالنَّهارِ» واقسم به لأن جل الحيوان يسعى فيه لطلب رزقه، وإنما قلنا جل الحيوان لأنه يوجد حيوانات وحشرات على خلاف ذلك «إِذا تَجَلَّى 2» بان وظهر بزوال ظلمة الليل، وظهور نور الشمس. مطلب في أنواع الخلق: «وَما خَلَقَ» ، ثم أقسم بخلقه «لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» يقسم بما شاء من مخلوقاته تعظيما لشأنها عندهم لمنافعها الخطيرة، ثم بين ما أبهم بقوله «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 3» من حيوان ونبات وطير وحوت. وقد أخطأ من جعل (ما) بمعنى من إذ يكون المعنى أقسم بنفسه جلت نفسه، لأن سياق الآيات ينافي ذلك، ويرجح ما جريت عليه فضلا عن أن ما تأتي غالبا لغير العاقل، والأولى إجراء الآية على عمومها. وخص بعض المفسرين «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» بآدم وحواء عليهما السلام، وقال: إنما أقسم بهما لأنهما ابتداء خلقه، وإذا كان أقسم بالشمس والضحى وغيرهما، فلأن يقسم بأول

أنبيائه أولى، لانهما أفضل من الجميع وهو كذلك، لكن ما جرينا عليه اولى لأن الآية لم تقيد أو تخصص. وجدير بأن تبقى على إطلاقها وعمومها. واعلم أن أنواع الخلق من البشر أربعة: من غير أب وأم وهو آدم، ومن أب بلا أم حواء، ومن أم بلا أب عيسى، ومن أم وأب سائر البشر، وغير البشر أنواع. راجع تفسير الآية 45 من سورة النور في ج 3، وجواب القسم «إِنَّ سَعْيَكُمْ» أيها الناس في هذه الدنيا وعملكم فيها «لَشَتَّى 4» مختلف متفرق متباين، وهي جمع شتيت، وأتى بلفظ الجمع باعتبار ضمير سعيكم، والمعنى أن منكم من يسعى لخلاص نفسه، ومنكم من يسعى لهلاكها، ومنكم من يجمع بين الأمرين. روى أبو مالك الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. ثم بين ما يؤول اليه ذلك الاختلاف بقوله جل قوله: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى» ماله في سبيل الله وصلة الرحم والنفقة في طريق الخير «وَاتَّقى 5» ربه فيما أنعم به عليه، واجتنب ما حرم عليه وفعل ما أمر به «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى 6» كلمة التوحيد، وأيقن أن الله يخلف له ما أنفقه في طاعته، وانه يثيبه عليه في الآخرة، وآمن بما وعد به المتقين في الجنة المعبر عنها بالحسنى في الآية 26 من سورة يونس في ج 2، وقيل: ان الحسنى هي ملة الإسلام وهو كذلك إلا أنها غير مراده هنا والله أعلم «فَسَنُيَسِّرُهُ» في الدنيا «لِلْيُسْرى 7» الخلال الطيبة والأفعال الحسنة ونسهل له كل ما نرضاه له من أعمال وأقوال توصله إلى الجنة «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ» بماله فكنزه ومنع الفقراء من حقهم فيه ولم يصرف جوارحه لما خلقت لها في الدنيا «وَاسْتَغْنى 8» عما قدره الله من الثواب المخصص للمتقين فى سبيله وخصّ ماله للشهوات وأنفقه فيما لا يرضي ربه «وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى 9» بكلمة التوحيد والخلف بالوعد والجنة وما وعد الله المتقين فيها لأجله «فَسَنُيَسِّرُهُ» بالدنيا التي آثرها على الآخرة «لِلْعُسْرى 10» الخلال الخبيثة والأنكال المذمومة والأحوال السيئة والأعمال القبيحة من كل ما يغضب الرب من الخصال المؤدية إلى النار التي لا أعسر من عذابها. روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الفرقد،

فأتانا رسول الله فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة (عصى رفيعة في رأسها مثل الهلال) فنكس وجعل ينكت (يضرب الأرض) بمخصرته ثم قال: ما منكم أحد إلّا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. زاد مسلم: إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة (وفي روايته بدل أحد نفس. فقالوا يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسّر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فيعد لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فيعدّ لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) إلى (لِلْيُسْرى) . وفي هذا دليل أهل السنة في القدر وصحة قولهم فيه وان التوفيق والخذلان والسعادة والشقاوة بيد الله يسرها لمن يشاء من عباده ووجوب العمل للمرء بما سبق له في الأزل ويستدل على الإنسان من أي الفريقين هو بعمله، فإذا عمل عمل أهل السعادة من البرّ والتقوى فهو من أهل الجنة أزلا، وان عمل عمل أهل الشقاوة من الشر والعصيان فهو من أهل النار، وعمل كل دليل عليه مطلب قوة إيمان بلال: نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه لما اشترى بلال بن رياح بن حمامة من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه لأنه كان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية يعذبه فيبطحه بالشمس إذا حميت على ظهره ثم يضع الصخرة الحامية العظيمة على صدره ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول وهو في تلك الحالة: أحد أحد، بالتخفيف أي الله واحد، وبالتشديد أي لا تشرك مع الله أحدا. فمر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك فقال لأمية ألا تتقي الله في هذا المسكين، قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال: عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى وهو على دينك أعطيكه، قال: قد فعلت، فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا وأعتقه وأعتق ست رقاب معه. أما ما قيل: إنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري الذي اشترى النخلة فلا يصح لأن حادثه النخلة في المدينة، وهذه السورة مكية والحادثة في مكة. فانظر رعاك الله إلى إيمان هذا العبد كيف كان في بداية الإسلام. ولعمري لو عذب الآن بعض الناس بالضرب لكفر هلعا، ولو أرشي بأوقية

[سورة الليل (92) : الآيات 11 إلى 20]

لتنصر طمعا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى: «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ» أي أمية بن خلف الذي فعل ما فعل في بلال بقصد تكفيره «إِذا تَرَدَّى 21» بأكفانه وطرح في قبره، ثم هوى وسقط في نار جهنم فهل يغنى عنه في الآخرة ماله وولده وهل يحول دون هلاكه فيها؟ كلا لا شيء ينجيه من ذلك «إِنَّ عَلَيْنا» نحن إله الكل «لَلْهُدى 12» فتبين طريقه من طريق الضلال، وعلى العبد سلوك أيهما شاء «وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ» فنثيب من اهتدى «وَالْأُولى 13» لنا أيضا نيسر لخيرها من أراد هدانا فكلاهما في تصرفنا كما نشاء. فمن طلبهما من غيرنا آب بالخسران وأخطأ الطريق السوي، ولا يضرنا ترككم الاهتداء له لأن مضرته عليكم، ثم التفت جل شأنه من الاخبار إلى الخطاب فقال: «فَأَنْذَرْتُكُمْ» يا أهل مكة ويا أمة محمد «ناراً تَلَظَّى 14» بتاء واحدة، وقرأ بعضهم بتاءين أي تتلظى وتتوقد وتتلهب وتتوهج أجارنا الله منها «لا يَصْلاها» يحرق بها «إِلَّا الْأَشْقَى 15» الكافر المتوغل بالكفر والشقاء «الَّذِي كَذَّبَ» الرسل ومجد الآلهة «وَتَوَلَّى 16» عن الإيمان مصرا على كفره «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى 17» المبالغ في تقواه المتقى الكفر ودواعيه المشرّب بالإيمان ومراميه «الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ» للمساكين طلبا لما عند الله من الثواب في الآخرة «يَتَزَكَّى 18» يطهر نفسه من دون الكفر فيلقى الله تعالى طاهرا من شوائبه، خاليا من الرياء والسمعة. قال أبو عبيدة: الأشقى بمعنى الشقي وهو الكافر، والأتقى بمعنى التقي وهو المؤمن، لأنه لا يختص بالصّلي أشقى الأشقياء، ولا يختصّ بالنجاة أتقى الأتقياء، ولا يقال إنه أراد نارا مخصوصة بالأشقى، لأن هذه النار نفسها هي التي يجنبها الأتقى فلأن يجنب غيرها من باب أولى. «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ» أي أبي بكر لأن هذه السورة نزلت في حقه وفي بطل أمية، والذي يؤيد نزولها، ما رواه سعيد بن المسيب قال: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال له: أتبيعه، قال بفسطاس، عبد لأبي بكر وكان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي. وكان مشركا، وقد حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى فأبغضه، فلما قال له أمية:

مطلب في أبي بكر رضي الله عنه وأمية غضب الله عليه:

أتبيعه بغلامك فسطاس، اغتنمه أبو بكر وباعه، فقال المشركون: ما فعل ذلك إلا ليد كانت له عنده فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم بقوله: ليس لأحد عند أبي بكر «نِعْمَةٍ تُجْزى 19» . مطلب في أبي بكر رضي الله عنه وأمية غضب الله عليه: وقد أجمع المفسرون على عود الضمير لأبي بكر، وان ليس لفسطاس ولا لبلال ولا لغيرهما عنده نعمة سابقة يكافئه عليها بالإعتاق، وان السياق والسباق يؤيده لذلك فإن من قال أن الضمير في عنده يعود إلى الله أراد أنه ينعم على عبده تفضلا منه، وهو كذلك. إلا أنه بعيد عن المغزى مخطئ المرمى، لما فيه من نفي التخصيص بأبي بكر وجعل الآية عامة في المؤمن والكافر، لأن نعمة الله غير مقصورة على أحد ولكنها على المؤمن نعمة حالا ومآلا، وعلى الكافر في الدنيا فقط لأنها نقمة عليه في الآخرة استيفاء لما يقع من الخير على يده كي يلقى الله ولا حسنة له. وليعلم انه ما فعل أبو بكر ما فعله من الاعتاق «إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى 20» أي طلب مرضاته لا غير «وَلَسَوْفَ يَرْضى 21» في الآخرة من عطاء ربه بالكرامة والجنة ونعيمها كما طلب هو مرضاة ربه في الدنيا بالإنفاق من ماله واعتاق عبيده واللام في ولسوف جواب القسم المضمر وتقديره والله لسوف يرضى رضاء ما فوقه رضاء، ويجوز أن يعود ضمير يرضى إلى الله ويكون المعنى ولسوف يرضى عنه ربه وهو أبلغ لأن رضاء الله عن عبده أكمل للعبد من رضاه على ربه، وما جرينا عليه يحتمل المعنيين. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. تفسير سورة الفجر عدد 10 و 89 نزلت في مكة بعد سورة والليل، وهي ثلاثون آية، ومثلها من عدد الآي تبارك، والملك والسجدة. ومائة وتسع وثلاثون كلمة، وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفا، لا يوجد سورة في القرآن مبدوءة بما بدئت به ولا مختومة بما ختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.

[سورة الفجر (89) : الآيات 1 إلى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالْفَجْرِ 1» أقسم تعالى بانبلاج الصبح لما فيه من انقضاء الليل وظهور الضوء وانتشار الخلائق في طلب أرزاقها، قال ابن عباس أراد به صلاة الصبح لأنها مفتتح النهار وتشهدها الملائكة مستدلا بقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية 18 من سورة الإسراء الآتية والأرجح أن المراد والله أعلم هلال ذي الحجة بدليل اقترانه بقوله «وَلَيالٍ عَشْرٍ 2» ولا عشر إلا عشر ذي الحجة لما فيها من الفضل العظيم، لأنها أيام الاشتغال بالحج أخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر. قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء. وهناك أقوال أخرى بأنها عشر المحرم، أو عشر رمضان الأواخر، أو مطلق فجر، وليست بشيء تجاه هذه لا تصالها بفجر العيد ولتأييدها بالحديث المار ذكره «وَالشَّفْعِ» الذكر والأنثى، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والأرض والسماء، والشمس والقمر، والبر والبحر، والنور والظلمة، والجن والإنس، والعزة والذلة، والقدرة والعجز والقوة والضعف، والعلم والجهل، والغنى والفقر، والعمى والبصر، والموت والحياة، وغيرها من كل ما خلق الله «وَالْوَتْرِ 3» من ذلك كله أو هو يوم عرفة أو يوم النحر وقد جاء في الحديث المروي عن جابر المرفوع الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي أنه يوم النحر ويوم عرفه وجاء في حديث عمران بن حصين حين الذي أخرجه أحمد والترمذي بلفظ حديث غريب أنهما الصلاة شفعها ووترها وإذا صح هذان الحديثان على علة تضاربهما فإنهما لا يخصصان المدلول بل يكونان على طريق التمثيل فيما رؤي بتخصيصه بالذكر فائدة معتمدا بها وعليه فيجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على معنى آخر من مشتملاته ومحتملاته لفائدة أخرى «وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ 4» أي سرى فيه من عرفات إلى مزدلفة وهي ليلة النحر وقيل ليلة القدر لأن الناس تقومها، والأول أولى لمناسبة السياق والسباق، وقد حذفت الياء في يسر

بلا حاذف وأكتفي بالكسرة عنها للدرج. وقد سأل رجل الأخفش عن سقوط هذه الياء، فقال: لا أجيبك حتى تخدمني سنة، ففعل ثم سأله فقال الليل لا يسري وإنما يسرى فيه فلما عدل في معناه عدل عن لفظه موافقة. ويقال ليل نائم أي ينام فيه وصلّى المقام أي صلّى فيه أنظر رحمك الله فضل العلم من أجل كلمة خدم سنة ألا لمثل هذا فليعمل العاملون، وبه فليتنافس المتنافسون هذا، وإذا أريد مطلق ليل فيصح أيضا على أن يلاحظ نعمة السير فيه للحفظ والوقاية من حر الشمس ومن قطاع الطريق وقطع المسافات ولهذا قيل (عند الصباح يحمد القوم السرى) وجواب القسم محذوف تقديره ليعذبن الكافر ولينعمنّ المؤمن، ثم التفت في الاخبار إلى الخطاب فقال «هَلْ فِي ذلِكَ» المقسم به أيها الناس «قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ 5» عقل أم لا وسمي العقل حجرا لأنه يحجر صاحبه عن النقائص وعقلا لأنه يعقله عن القبائح ونهى لأنه ينهاه عن ما لا يليق وحجى لأنه يحاج به وهذا الاستفهام تقديري أتى به للتأكيد ولا يجاب إلا ببلى أي نعم إن هذه الأقسام فيها مقتنع ومكتفى لمن له لب ويسمى العقل لبا لأنه قلب الشيء وخلاصته وإنما أقسم بتلك الأشياء لما فيها من عجائب ودلائل على كمال قدرته ووحدانيته ثم خاطب حبيبه بقوله «أَلَمْ تَرَ» يا أكمل الرسل وهذا استفهام تقديري أيضا أي ألم تعلم يقينا علما يوازي المعاينة «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ 6» حيث أهلكهم فلم يبق لهم أثرا ولما كانت عادا أولى وأخيرة وإن الأولى تسمى عاد إرم ليدل منها قوله «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 7» يدل عليه قوله في الآية 50 من سورة النجم الآتية (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) فإذا أطلقت عادا دون إرم فالمراد بها الأخيرة والعماد هي السواري والأساطين المرتفعة أي ذات البناء الرفيع المرتكز على على العمد العالية «الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ 8» أي لم يقدر أحد أن يبني أو يعمل قبلهم ولا بعدهم حتى الآن مثلها وهذه المدن التي نوه الله بعظمتها واقعة بين عمان وحضر موت بأرض رمال قال تعالى (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) الآية 21 من سورة الأحقاف ج 2 والأحقاف هي الرمال

وما قيل إنها بالإسكندرية أو الشام ينافيه سياق الآيات إلا أن يقال ما هنا يراد به عادا الأولى وما في الأحقاف الأخيرة ويلزم أيضا عدم اتحاد منازلهما لأن بينهما مسافات عظيمة بعيدة عن التوفيق. وفي هذه الآية تخويف للكافرين وهو أنه تعالى الذي أهلك هؤلاء الذين كانوا أشد منكم يا أهل مكة قوة وأكثر أموالا وأولادا قادر على إهلاككم، راجع تفسير الآية 15 من قسم السجدة في ج 2 أي سورة فصلت، وكانوا مع ذلك جسيمين طوالا، قالوا وسميت ذات العماد لأن عادا كان له ابنان شداد، وشديد، فلما مات شديد خلص الملك إلى شداد ودانت له ملوك الأرض وكان يقرأ الكتب القديمة فلما جاء على ذكر الجنة قال سأبني مثلها فبنى بناية عظيمة في مجارى عدن استغرقت ثلاثمائة سنة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وشجرها من جميع أصناف الأشجار ونسّق فيها الأنهار. وعند ما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته وكانت على مسيرة يوم وليلة فبعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا جميعا، روى وهب بن منبه عن عبد الله ابن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في مجارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة، فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا ليسأله عن إبله، فلم ير داخلا فيها ولا خارجا منها، فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه خوفا من أن يصادفه فيها أحد فيقاتله، ودخل من باب المدينة فإذا هو ببابين خطيرين مرصعين بالياقوت الأحمر، فدهش وفتح الباب ودخل فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف فوقها غرف مبنية بالذهب والفضة، ومرصعة بأحجار اللؤلؤ والياقوت، وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا، وكلها مفروشة باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما عاين ذلك ولم ير أحدا هاله ما رأى ثم نظر الى الأزقة فاذا فيها أشجار مثمرة وتحت الأشجار انهار مطرّدة يجري ماؤها في قنوات من فضة، فقال في نفسه هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤها وترابها وبنادق مسكها وزعفرانها ورجع الى اليمن وأظهر ما كان معه، وحدث بما رأى، فبلغ ت (10)

ذلك معاوية فأرسل اليه فقدم، فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فبعث إلى كعب الأحبار فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أسقر على حاجبه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب أبل له، ثم التفت فأبصر من قلابة على الوصف الذي ذكره كعب، وهذه كالسد إذ رآه جماعة زمن الواثق بالله. راجع تفسير الآية 92 من الكهف في ج 2. هذا وكلما جاء لفظ كعب بلا نسبة فالمراد به هذا، واني لم أنقل عنه ما يتعلق بأمر الدين البته خشية التهمة لأنه متوغل بالكتب القديمة وهو تابعي والتابعيون غيره كثير أكتفى بالنقل عنهم عند الحاجة. قالوا ولما أراد عملها، اخرج جماعة يطوفون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة، فوقفوا على صحراء نقية من التلال فيها عيون ماء وحروج فاختاروها وكان عمر الملك عند بنائها تسعمائه سنة، ولما فرغوا منها قال لهم اجعلوا حولها حصنا وابنوا حوله الف قصر واجعلوا على كل قصر علما ليقيم بها الوزراء ففعلوا، ولما أمر بالنقلة استغرقت نقلتهم عشر سنين ولما قربوا منها عن يوم وليلة اخذتهم الصيحة كما تقدم قال تعالى «وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا» قطعوا «الصَّخْرَ بِالْوادِ 9» فعل بهم أيضا كما فعل بعاد وهم أول من قطعوا الصخور في الوديان ونحتوه واتخذوا منه مساكن وبيوتا وقالوا انهم بنوا ألفا وتسعمائة مدينة من الحجارة المنحوتة وسنأتي قصتهم مفصلة في تفسير الآية 79 من الأعراف الآتية «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ 10» أي الملك الراسخ ذي الجنود الكثيرة الشديد البطش قال الأسود بن يعقر بن عنينة. ولقد غنوا فيها [بأنواع] النعم ... في ظل ملك راسخ الأوتاد وكان إذا عذب أحدا (عذبه الله) ربطه بين أوتاد اربعة ثم أوقع عليه عذابه. قاتله الله فلذلك سمى من الأوتاد وكانت مضارب (بيوت شعر) يضربونها إذا نزلوا في البادية وخباء كثيرة لكثرة جنده وما يدل على أنه كان يعذب بالأوتاد. مطلب قصة ما شطة بنت فرعون: ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس أن ماشطة بنت فرعون زوجة حزقيل الذي كان يكتم إيمانه كما سيأتي في الآية 20 من سورة القصص الآتية والآية

[سورة الفجر (89) : الآيات 11 إلى 20]

78 من سورة المؤمن في ج 2 وكانت هي تكتم إيمانها أيضا بينما كانت تمشط ابنة فرعون إذ سقط من يدها، فقالت تعس من كفر بالله. فقالت بنت فرعون: وهل إله غير أبي؟ قالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له. فأخبرت أباها بذلك فسألها قالت صدقت فحملها على الكفر فأبت فمدها بين أربعة أوتاد وأرسل عليها الحيات والعقارب، وقال إن لم تكفري عذبتك هكذا شهرا. قالت لو عذبتني سبعين شهرا ما كفرت. فلما رأى إصرارها هددها بذبح أولادها، ولم تفعل، فذبح ابنها الكبير على صدرها وقال إن لم تكفري ذبحت الاخر على فيك، قالت لو ذبحت أهل الأرض ما كفرت. فبادر بذبحه فجزعت فأنطقه الله وقال يا أماه اصبري ولا تجزعي فقد بنى الله لك بيتا في الجنة. فصبرت ولم تلبث ان ماتت رحمها الله، فأسكنها الله الجنة. وهكذا فعل بآسية بنت مزاحم زوجته كما سيأتي في الآية 11 من سورة التحريم في ج 3، وصبرت هذه وعذابها أشد من عذاب بلال المار ذكره في الآية 10 من سورة والليل المارة، قالوا وبعث رجلين في طلب زوجها فوجدوه يصلي والوحوش وراءه صفوفا، فتركوه وانصرفوا فقال حزقيل اللهم انك تعلم اني كتمت إيماني مائة سنة فأيما هذين الرجلين كتم علي فاهده الى دينك وأيما منهما أظهر علي فعجل عقوبته. فأخبر أحدهما فرعون وكتم الآخر فقتل الذي أخبره وأنعم على الآخر اجابة لدعوته قال تعالى «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ 11» وتجبروا على أهلها وارتكبوا انواع المعاصي «فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ 12» قتلا ونهبا وسبيا وغصبا وأخذوا ظلما وعدوانا وتعذيبا وتوغلوا في سائر البشر بانواع التعدي وهم يتنعمون بنعم الله، فلما أظهر الله عتوهم وعنادهم للملأ وعلم إصرارهم أزلا وانه أمهلهم ليطلع خلقه على أفعالهم المستحقة لتعذيبهم ولم ينجع بهم ذلك الإمهال حتى قضي أمرهم وحان وقت أخذهم المقدر عنده، جنح الى هلاكهم «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ» يا محمد «سَوْطَ عَذابٍ 13» لونا من ألوانه ونوعا من أنواعه، والسوط يشعر بزيادة الألم أي عذبهم عذابا شديدا، كان الحسن إذا قرأ هذه الآية يقول ان عند الله أسواطا كثيرة فأخذهم بسوط منها «إِنَّ رَبَّكَ

لَبِالْمِرْصادِ 14» يرقب أعمال عباده كلها فيرى ويسمع ما يقع منهم لا يفوته شيء لأن المرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد ومن كان عالما بأحوال خلقه لا يفوته شيء من أمرهم، وهذا جواب القسم، والجمل ما بين القسم وجوابه اعتراضية، وقيل جواب القسم محذوف وتقديره ليعذبن الكافر وربّ هذه الأشياء ويجزي كلا بفعله إن خيرا فخير وإن شرا فشر قال. ابن عطية المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام والمطعان، ورده ابو حيان بأنه لو كان كما زعم لما دخلت الباء لإنها ليست في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة، ثم شرع يفصل أحوال خلقه فقال «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ» أختبره وامتحنه «رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ» بالمال والولد والعافية والجاه «وَنَعَّمَهُ» بما وسع عليه من النساء والقصور والبساتين وغيرها من خدم وحشم «فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ 15» بما أعطاني وفضلني بما اولاني «وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ» ما هذه هنا وفي الآية الأولى وما شابهها في غير القرآن يعدونها زائدة اما في القرآن فتسمى صلة يؤتى بها لتأكيد القول وتحسينه لأن كلام الله مبرأ عن الزيادة كما هو منزه عن النقص وسيأتي لهذا بحث في الآية 135 من سورة التوبة في ج 3 «فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» ضيقه وقلله عن مقدار بلغته وكفايته «فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ 16» بما افقرني واذلني بما أعوزني. وهذه الآية عامة لتصدرها بلفظ الإنسان فتشمل كل فرد وما قيل انها نزلت في امية بن خلف الحمجي خاصة فعلى فرض صحته لا ينفي عمومها لان العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص المعنى أو السبب، لذلك ردّ الله تعالى على من ظن ان سعة الرزق إكرام وضيقه اهانة بقوله «كلّا» اي ليس الأمر كذلك فلا يظن به إذ ليس كل من اعنيته لكرامته ولا كل من أفقرته لاهانته لان الغنى والفقر بحكمتي وتقديري وإنما أكرم المؤمن بطاعته لي وأهين الكافر بمعصيته واني أنعم على عبدي لا ختبره أيشكر نعمتي أم يكفر وأضيق عليه لأمتحنه أيصبر أم يفجر. وليعلم الناس ذلك راجع تفسير الآية 26 من سورة الأنبياء في ج 2، ولئلا يقولوا كما قال قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) الآية 76 من سورة القصص الآتية مع أنه أوتيه من غير استحقاق

[سورة الفجر (89) : الآيات 21 إلى 30]

ابتلاء «بل» هناك ما هو أشر وهو أنكم «لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ 17» فلا تبرّونه ولا تراعون حقه مما أنعم الله عليكم به «وَلا تَحَاضُّونَ» بحث بعضكم بعضا «عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ 18» من فضلكم بل تهملونه ولا تنظرون في أمره «وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ» الميراث «أَكْلًا لَمًّا 19» لا تعطون منه أحدا، واللهم الجمع بين الحلال والحرام وعليه قول النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذب وذلك انهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون نصيبهم فذمهم الله لشدة حرصهم على جمعه جمعا شديدا من غير نظر الى حل وحرمة «وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا 20» كثيرا جدا قال امية: ان تغفر اللهم فاغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألما لأنهم كانوا ولعين به مع الحرص عليه والبخل به ومنع الحقوق منه «كلّا» ردع وزجر لمن هذه حاله اي لا ينبغي ان يتكالبوا على ذلك، ولا ان يشغفوا به، بل كان عليهم ان يعملوا بما أمر الله قبل ان يأتيهم يوم يتلهفون على ما أسلفوا ويتندّمون على ما فرطوا من حيث لا ينفعهم الندم «إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ» زلزلت بما فيها من بناء وجبال وبحار وغيرها «دَكًّا دَكًّا 21» مرة بعد اخرى حتى لا يبقى فيها ولاء عليها شيء «وَجاءَ رَبُّكَ» جلت عظمته وهذا تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين لآثار قهره وسلطانه لأن الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من امارات الهيبة وعلامات العزة وإشارات العظمة ما لا يحضر بحضور غيره من خواصه. مطلب آيات الصفات والقول فيها: وهذة من آيات الصفات التي سكت عن تفسيرها السلف الصالح وبعض الخلف وأجروها على حالها كما جاءت من غير تأويل ولا تشبيه ولا تكييف، والتزموا

فيها الإيمان بظاهرها، وتأولها المتكلمون وبعض المتأخرين فقالوا جاء أمره او قضاؤه او دلائل آياته وجعلوا مجيئها مجيئا له تفخيما وإجلالا لأن الحركة والسكون محال عليه جل شأنه ولكل وجهة، واجراؤها على ما هي عليه أولى «وَالْمَلَكُ» أل فيه للجنس فيشمل جميع ملائكة السماء أما ملائكة الأرض فأنهم يقفون في ذلك الموقف لاداء التحية والتكريم قياما بأبّهات الكبرياء والتعظيم «صَفًّا صَفًّا 22» أي تقف ملائكة كل سماء صفا على حده فيحدقون بالجن والإنس ويحيطون بهم «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم المهيب الذي تأتي فيه ملائكة الله وهو يوم القيامة «بِجَهَنَّمَ» نفسها وينادى من قبل الله هذه التي أعدت للكافرين، كما تبرز الجنة وينادى هذه المعدة للمتقين. اخرج مسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال رسول الله: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون الف زمام مع كل زمام سبعون الف ملك يجرونها. وفي رواية: تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير. وجاء في بعض الآثار عن علي كرم الله وجهه انه سأل حضرة الرسول فقال كيف يجاء بها يا رسول الله؟ فقال تقاد بسبعين الف زمام يقوده الف ملك. هذا وفي أول المجيء بالبروز، وقال هو على حد قوله تعالى (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) الآية 31 من النازعات في ج 2 وجمل الآية على المجاز لزعمه ان الحقيقة متعذرة في ذلك قال باستحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري جائز إذ لا يستحيل على مالك أمر ذلك اليوم بل يجوز أن تخرج وتنتقل من محلها الى المحشر والى الموقف ليطلع عليها أهله ثم تعود الى مكانها بمجرد أمره لها بين الكاف والنون، وان في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان، وليس ذلك بأعظم من أنزال العرش. راجع تفسير الآية 17 من سورة الحاقّة في ج 2 فإنكار مجيء جهنم يستدعي إنكار نزول عرش الرحمن لأن العلة فيهما واحدة وهي دعوى الاستحالة وذلك كفر والعياذ بالله، لذلك يجب الاعتقاد بظاهر آيات الصفات كما هي طريقة السلف الصالح إذ لا يجوز أن يخطر بالبال أن الله تعالى يعجزه شيء قبله العقل أم لا. راجع

تفسير الاية 67 من سورة الزّمر ج 2، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 15 من سورة فاطر الآتية فراجعه. قال تعالى «يَوْمَئِذٍ» أي يوم يجاء بجهنم ويراها أهلها وسائر من بالموقف على ما وصفها الله لهم على لسان أنبيائهم «يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» ما فرط في دنياه من انكار البعث وتكذيب الأنبياء ويندم على ما وقع منه من المخالفات «و» لكن «أَنَّى لَهُ الذِّكْرى 23» أي لا تنقعه إذ ذاك حيث لا مجال للرجوع للدنيا لقبول التوبة ولا للاتعاظ ولكنه «يقول» متحسرا متأسفا «يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ» عملا صالحا «لِحَياتِي 24» هذه في هذا اليوم الذي لا موت بعده يوم الحياة الأبدية التي كنت أنكرها في الدنيا «فَيَوْمَئِذٍ» يوم يكون ما ذكر «لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ 25» من مخلوقاته «وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ» بالسلاسل والأغلال «أَحَدٌ 26» أيضا أي أن الله تعالى هو ذاته المقدسة تتولى العذاب للإنسان العاتي المذكور في الآية السابقة بما يعم أمية بن خلف وغيره وهذا على حد قولهم «قاتل السلطان» والمراد جنده لأنه لا يقاتل عادة. وقرىء الفعلان على البناء للمفعول وعليه يكون المعنى، إن الإنسان أشد عذابا من غيره لأن الله ميّزه بالعقل على سائر الحيوانات ليميّز بين الخير والشر أما وأنه لم يفعل وصرف ذلك العقل إلى شهواته ولذاته فقد جعل الله عذابه أعظم من غيره لتناهيه بالكفر. وجرى على هذه القراءة ابن سيرين وابن أبي اسحق وأبو حيوه وابن أبي عبلة وأبو بحرية والكسائي وسلام ويعقوب وسهل وخارجة تلقيا عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن الحاجب إن في عود الضمير على الله على قراءة عاصم ورواية حفص الجارية في المصاحف على بناء الفعلين للفاعل فوات للتعظيم الذي يقتضيه السياق وفوات المعنى، إذ عليها ان الله تعالى هو الّذي يتولى عذاب الكافر ووثاقه ليس بسديد لأن الله ذكر ملائكة للعذاب ووصفهم بالغلظة والشدة وانهم هم الذين يتولون ذلك قال تعالى «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 27» الآمنة المتأنسة ، وأل فيها للجنس أيضا فتشمل كل فرد من أفرادها، وقد خاطبها جلّ خطابه مخاطبة إكرام تكريما

تفسير سورة الضحى عدد 11 - 93

لها، وما قيل إن هذه الآية نزلت في حمزة أو خبيب الأنصاري الذي صلبه كفار قريش في مكة أو في عثمان لأنه اشترى بئر رومة، بعيد عن الصحة، لأن عثمان اشتراها بالمدينة وحمزة قتل في بدر وكذلك حادثة صلب خبيب وقعت والرسول بالمدينة. وهذه السورة نزلت بمكة قولا واحدا لذلك فإنها عامة في كل نفس طاهرة موقنة بالحساب، وكذلك لا دليل على القول بأنها نزلت في أبي بكر أيضا لتجهيزه جيش العسرة لذلك السبب. على ان كل هؤلاء داخلون في عمومها دخولا أوليا لانهم ممن أكرمهم الله القائل «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ» لتري ما وعدك به من الثواب حالة كونك «راضِيَةً» بلقائه وبما منّ عليك من النعيم المقيم الذي وعدك به رسوله في الدنيا «مَرْضِيَّةً 28» عنده محظية بسبب عملك الصالح، ويقول لك ربك بلسان ملائكته الكرام «فَادْخُلِي فِي» زمرة «عِبادِي 29» الصالحين المرضى عنهم وعليهم «وَادْخُلِي جَنَّتِي 30» معهم. هذا ومن قال ان المراد بالنفس هنا الروح فيكون المعنى ادخلي في أجساد عبادي، وليس بوجيه إذ ينافيه «وَادْخُلِي جَنَّتِي» فتكون الروح هي الداخلة لا الجسد. تأمل. قال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها، قال بعض أهل الإشارات «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الى الدنيا ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ بتركها والرجوع اليه هو سبيل الآخرة، وفقنا الله اليه. وقال الشيخ محي الدين العربي: ادخلي في زمرة عبادي المخلصين في أهل التوحيد الذاتي وادخلي في جنتي المخصوصة بي أو جنة الذات. هذا والله أعلم، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين. تفسير سورة الضحى عدد 11- 93 نزلت بمكة بعد سورة الفجر على أثر انقطاع الوحي أياما، وهي احدى عشرة آية ومثلها في عدد الآي القارعة والعاديات والجمعة والمنافقون، وهي أربعون كلمة، ومائتان وسبعون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.

[سورة الضحى (93) : الآيات 1 إلى 10]

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى «وَالضُّحى 1» هو الوقت المعلوم من النهار أقسم الله به لأنه من الأوقات المباركة وفيه صلاة مسنونة وفيه كلّم الله موسى وفيه سجد سحرة فرعون لله حينما ظهرت لهم آية العصا اعترافا بأنها معجزة وليست بسحر كما يقوله من غضب الله عليه «وَاللَّيْلِ إِذا سَجى 2» سكن الناس فيه قال الأعشى الشاعر المعروف: وما ذنبنا ان جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري الدعا صما أي ساكن، والد عاصم كثيب الرمل، وسجّى بالتشديد بمعنى غطّى وجواب القسم «ما وَدَّعَكَ» ما تركك «رَبُّكَ» منذ اختارك نبيا لخلقه واصطفاك حبيبا لنفسه كما رعاك بعنايته في الأزل وفي عالم الذر وحينما كنت نطفة في المستقر والمستودع. والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك فقد بالغ في تركك «وَما قَلى 3» وما أبغضك منذ أحبك واجتباك ولذلك قال ما ودعك لأن الوداع انما يكون بين الأحباب ومن تقر مفارقته قال المتنبي: حشاشة نفس ودّعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أودع مطلب نزول هذه السورة وبشارة الله اليه: أما الترك فلا يختص بالمحين وهذا من لطائف القسم، انه أقسم على انعامه على رسوله وإكرامه له، وهو يتضمن أيضا لتصديقه له على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة بالحسنى، وقسم أيضا على النبوة والمعاد، وتقدم في بحث فترة الوحي سبب نزول هذه السورة فراجعه في أوائل سورة المدثر. وما قيل إنّ اليهود سألوا رسول الله عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وانه قال لهم سأخبركم غدا ولم يستثن لا حجة له لأن السورة مكية ومجادلة اليهود لحضرته واسئلتهم كانت في المدينة وكل ما وقع له معهم في قضية الروح وغيرها كان هناك. وما جاء في حديث خولة خادمة الرسول أن جروا دخل تحت سرير رسول الله ومات ولم تشعر به وأن الوحي انقطع بسببه أربعة أيام لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو تصاوير، ثم انها نفضت البيت فاخرجته ميتا وطرحته فأنزل الله هذه السورة، ورواية ابن

الكلبي بأن انقطاع الوحي خمسة عشر يوما، ورواية ابن جريح اثنى عشر يوما، وهناك روايات بخمس وعشرين وأربعين، عن ابن عباس والسدي، لا يوثق به كله، لأن أربعة الأيام لا تستوجب حزن النبي بالدرجة المار ذكرها في المدثر لا سيما وأن الوحي لم يحجم بعد، على أنه قد جاء في بعض الآثار أن حضرة الرسول قال لجبريل ما جئتني حتى اشتقت إليك فقال بل كنت إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا قوله تعالى «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» الآية 64 من سورة مريم الآتية وفي رواية أنه عاتبة فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة؟ على أن هذه الآية لم تنزل بعد وعلى كل فلا مانع من تعدد الأسباب إذا قلنا بجواز ذلك كله يشرط أن يكون السائل كفار قريش على لسان اليهود كما سيأتي في الآية 85 من سورة الإسراء الآتية والآية 29 من سورة الكهف في ج 2 والله أعلم بالصواب قال تعالى «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى 4» وهذه بشارة عظيمة من ربه اليه بأن ما أعده له من المقام المحمود في الآخرة أحسن وأعظم مما إعطاء في الدنيا، روى البغوي عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، ثم اقسم جل قسمه تطمينا لقلب حبيبه وإقرارا لعينه وقال «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى 5» من جزيل عطائه وجليل رضائه وعظيم مواهبه ومن الحوض المورود واللواء المعقود والشفاعة العظمى في اليوم الموعود وغيرها مما وعده به وهذا العطاء كائن لا محالة. روى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم عرض عليه ما هو مفتوح على أمته من بعده، فسرّ فأنزل الله هذه الآية بشارة له بأنه سيعطيه من النعيم الدائم في الآخرة ما لا يقاس بما أعطاه له ولإمته في الدنيا. ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم لا أرضى وواحد من أمتي بالنار. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد واسأله ما يبكيك؟ وهو أعلم، فأتى جبريل وسأله فأخبره بما قال وهو أعلم، فقال: يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فيهم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته واني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا. وهذه بشارة عظيمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وتأميل لهم بالنجاة هذا وان الله أعطاه في الدنيا النصر والظفر وكثرة الأتباع والفتوح في زمنه وزمن خلفائه واتباعهم ومن بعدهم وإلى يوم القيمة إن شاء الله وان ما وقع فهو من فترات الزمن وسيعيد الله التاريخ الناصع لهم إذ أحسنت الناس ظنها بالله واتبعت أوامره واجتنبت نواهيه وإلا لا. وليعلم ان الله تعالى أعلى رتبة محمد على سائر الأنبياء وجعل أمته خير الأمم وأعطاه في الآخرة الشفاعة الخاصة والعامة والفضيلة والوسيلة. قال حرب بن شريح سمعت جعفر بن علي يقول انكم يا أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية 53 من سورة الزمر في ج 2 وإنا أهل البيت نقول ان أرجى آية في كتاب الله «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» ولهذا البحث صلة في الآية 8 من الإسراء الآتية. ثم شرع يعدد نعمه على نبيه فقال «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً» فاقد الأبوين صغيرا ووجد هذه وما بعدها بمعنى علم ويقال لفاقد الأب يتيم ولفاقد الأم عجي ولفاقدهما لطيم وكان والده صلى الله عليه وسلم توفي بعد حمله بشهرين ثم توفيت أمه وهو ابن ست سنين «فَآوى 6» جعل لك مأوى تأوي اليه بأن ضمك أولا الى جدك عبد المطلب الذي كان يقدمك على كل أحد ويفتخر بك ويتفرض بك الخير وبعد وفاته ضمك الى عمك أبى طالب فأحسن تربيتك وحماك من أعدائك وكفاك مؤنتك، فكنت كالدرّة اليتيمة التي لا نظير لها، فأيدك وشرفك ربك بالنبوة المشعر بها قوله جل قوله «وَوَجَدَكَ ضَالًّا» عاقلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول قال تعالى «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» الآية 53 من الشورى في ج 2 أي خاليا من الهام النبوة غير عالم بمعالمها «فَهَدى 7» أرشدك إليها وعرفك الشريعة التي أنزلها عليك وما يتعلق بها من أصول وفروع بما أنزله عليك من الوحي.

مطلب هدايته صلى الله عليه وسلم ومعاملته اليتيم: ولا يقال انه صلى الله عليه وسلم كان على ملة قومه استفادة من معنى «ضالا» فهداه للاسلام لأن سائر الأنبياء منذ يولدون ينشأون على التوحيد والأيمان وأنهم قبل النبوة وبعدها معصومون من الجهل بعصمة الله، يدل على هذا أنه لما سافر مع عمه أبي طالب ورأى بحيرا الراهب فيه علامة النبوة فاستحلفه باللات والعزى فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئا كبغضهما ويؤكد هذا شرح صدره واستخراج العلقة منه وقول جبريل هذا حظ الشيطان منك وملأه حكمة وإيمانا. وقوله جل قوله (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) الآية 2 من سورة النجم الآتية قال الزمخشري في كشافه: من قال انه كان على دين قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه على خلوه من العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه على دين قومه، فمعاذ الله، أما ما قيل انه ضل في شعاب مكة وردّه فرعونه أبو جهل، وأنه أركبه وراءه فلم تقم الناقة فأركبه امامه فقامت وقالت يا أحمق هذا الإمام، فكيف يكون خلف المقتدي؟ فكان ارجاعه الى جده على ما يدعوه كإرجاع موسى لأمه، أو أنه ضل في طريق الشام واقتاد ناقته إبليس فنفحه جبريل ورد ناقته الى طريقها، أو أنه ضل مرة أخرى في مكة فتعلق جده بأستار الكعبة وصار يتضرع الى الله بردّه فسمع مناديا لا تضجوا فان محمدا لا يضيعه الله ربه وأنه بوادي تهامة. فذهب إليه جده وورقة بن نوفل، فأتيا به من تحت شجرة يلعب عندها، أو أنه ضل عند مرضعته حليمة فهذا كله على فرض وقوعه حقيقة غير مقصود هنا لأنه من ضل الطريق إذا سلك غيره على أن إضلاله الطريق قد يؤدي الى المقصود المقدر من علم الله مثل إضلال سيدنا موسى الآتي في الآية 30 من سورة القصص الآتية قال ابن الفارض: ما بين ضال المنحني وظلاله ... ضل المتيّم واهتدى بضلاله ولكن نفس الأضلال لا يستوجب أن يعده الله عليه نعمة بالصورة المذكورة لأنه يقع لكل واحد، وانما القصد والله أعلم هو ما ذكرناه في تفسير الآية لإن الهداية منه نعمة كبرى لا تحصل لبشر غيره ولن تحصل أبدا «وَوَجَدَكَ عائِلًا»

مطلب عدم رد السائل واللطف باليتيم:

ذا عيال فقير ليس لك شىء «فَأَغْنى 8» فيسر لك ما أغناك به عن الناس ولم يحجك الى أحد من خلقه إذ أرضاك بما أعطاك من القناعة التي وفرت في صدرك روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النّفس. وروى مسلم عن عبد الله بن عمر بن العاص أن رسول الله قال قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه. وما قيل أغناه بمال خديجة غير سديد لإن مال الزوجة لا يستوجب عده من قبل الله نعمة أما كونها وبنيها من عياله وبهم صار ذا عيال فنعم وما قاله بعض المفسرين بما أفاء عليك من الغنائم لا صحة له، إذ لا يوجد في مكة غنائم وانما كانت الغنائم والحروب في المدينة وهذ السورة مكية ولكنه صلى الله عليه وسلم جبل منذ كان في مهده بإلهام من ربه على القناعة وفيه قيل: في المهد يعرب عن سعادة جده ... أثر النجابة ساطع البرهان ثم طفق بوصيه بقوله «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ 9» لا تذله ولا تظلمه ولا تحقره ولا تعمل به عملا يوجب انزعاجه، وهذا لا يتصور من حضرة الرسول وانما نهاه ليتجنب الناس ظلم اليتيم على حد إياك اعني واسمعي يا جارة، وذلك لان قومه كانوا لا يورثون اليتيم ويغلبونه على ماله ويهضمون حقه روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال قال صلى الله عليه وسلم أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. وروى البغوي عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن اليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء اليه ثم قال أنا وكافل اليتيم هكذا ويشير بأصبعيه. مطلب عدم رد السائل واللطف باليتيم: «وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ 10» لا تزجره إذا سأل ولا ترده إذا طلب ولا تمنعه إذا أراد من فضلك وابذل اليه مما عندك ولو قليلا ولا تردّ وجهه فيرجع صفر اليدين وإذا لم تجد ما تعطيه فرده بكلمة طيبة ردا جميلا من غير تقطب وجه قال ابراهيم بن أدهم، نعم القوم السؤّال يحملون زادنا الى الآخرة. وقال ابراهيم

[سورة الضحى (93) : آية 11]

النخعي، السائل بريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول أتوجهون إلى أهلكم أي موتاكم شيئا، قال جرير: الله نزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل وقرىء فلا تكهر لغة أعرابية والاعراب حتى الآن يبدلون القاف القولي بالكاف الفارسي والكاف بالجيم الفارسي على أن تفشي هذين الحرفين لديهم يوقع في الخلد أنهما عربيان وضعا والله أعلم. وما قيل ان السائل هنا هو طالب العلم ليس بشيء، على أنه لا يجوز منع السائل عنه بل يجب عليه اجابته. هذا وقد عاتب الله رسوله في الفقراء في ثلاثة مواضع أحدها في ابن أم كلثوم إذ أنزل الله فيه مبادئ سورة عبس الآتية، والثانية فيما كلفته قريش بأن لا يجلس الفقراء معهم إذ أنزل قوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية 38 من سورة الكهف في ج 2، والثالثة أن سائلا وقف ببابه وكان أمامه عنقود من التمر فسأل فأعطاه إياه فقام عثمان فاشتراه منه ووضعه أمام الرسول، فعاد وطلب فأعطاه إياه ثانيا، فعاد عثمان واشتراه منه، ثم عاد ثالثا فقال صلى الله عليه وسلم أسائل أنت أم بائع، فأنزل الله هذه الآية «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 11» بها أداء لشكرها وأراد بالنعمة هنا والله أعلم النبوة التي شرفه بها فكل نعمة دونها، فأمره في هذه الآية أن يبلغ ما يوحيه إليه إلى قومه، وأن يتحدث بما فضله الله به، واعلم أنه كما يجب على العبد شكر نعم الخالق، ينبغي له أن يشكر نعمة المخلوق، روى جابر عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أعطى عطاء فليجز به إن وجد، فإن لم يجد فليثن عليه، فإن من أثنى عليه فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور. أي الذي يقول فلان أعطاني كذا وفلان عمل لي كذا من حيث لم يعطه ولم يعمل له شيئا، وكذلك الضرّة إذا قالت لضرّتها إن زوجي فعل لي كيت وكيت من حيث لم يفعل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور- أخرجه الترمذي-

مطلب الشكر لله ولخلقه:

مطلب الشكر لله ولخلقه: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لا يشكر الناس لا يشكر الله. وله عن أبي هريرة: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النعمان بن بشير صاحب معرة النعمان بين حلب وحماة قال: سمعت رسول الله على المنبر يقول: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعمة شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب. وورد أشكركم للناس أشكركم لله. هذا وبما أن هذه السورة نزلت بعد انحباس الوحي مدة، كبّر النبي صلّى الله عليه وسلم عند نزولها فرحا بنزول الوحي وإدغاما لما قاله المشركون فيه. كما مر في سورة المدثر، فاتخذ قراء مكة هذا التكبير عادة من هذه السورة إلى آخر القرآن بحسب ترتيب المصاحف وحتى الآن يكبرون بختام كل سورة منها الناس، وصيغة التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. أخرجه الحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن البزي البغوي قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت والضحى قال كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير، فلما بلغت والضحى قال كبر حتى تختم وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس أمره بذلك وأخبره أن أبي بن كعب أمره بذلك وأخبره أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمره بذلك. هذا وما قيل إن هذه السورة هي الثالثة بالنزول لا صحة له بل هي الحادية عشرة كما أنها احدى عشرة آية، وما قيل إنها نزلت في العام الثالث من البعثة أو انها بعد فترة الوحي الطويلة لا يلتفت إليه، كما بيناه أول المدثر المارة ايضا فراجعها ففيها ما يركن إليه العقل ويسلم له العاقل ويرتاح له الضمير. هذا، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وأصحابه واتباعه صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

تفسير سورة الانشراح عدد 12 - 94

تفسير سورة الانشراح عدد 12- 94 نزلت في مكة بعد الضحى، وقيل إنها نزلت متصلة بها، ولم يفرق بينها بالبسملة وليس بشيء، وهذا كالقول بأن سورة براءة نزلت متصلة بالأنفال وهو غير صحيح أيضا بل كل منها نزل على حدة، وقد ثبت بالتواتر أن سور القرآن 114 سورة، فإذا جعلنا هاتين السورتين متصلتين ينقص العدد، وهو غير جائز وسنأتي على بيان هذا مفصلا في سورة قريش الآتية إذ قيل إنها نزلت متصلة بالفيل وفي سورة براءة في ج 3، وهي ثماني آيات، ومثلها في العدد التكاثر والزلزلة والبينة والتين، وسبع وعشرون كلمة، ومائة وثلاثة أحرف، ويوجد في القرآن سورة أخرى مبدوءة بما بدئت به وهي الفيل الآتية، وسورة البينة بلم النافية دون همزة الاستفهام. وتسمى سورة الشرح وألم نشرح أيضا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال تعالى: «أَلَمْ» استفهام تقريري لا يجاب إلا ببلى «نَشْرَحْ» نفسح ونشق «لَكَ» يا سيد الرسل «صَدْرَكَ 1» كي يحوي عالم الغيب والشهادة نوعهما فيهما، ولذلك صار لم يعقه التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق لما أودعنا فيه من العلوم والحكم حينما شقه أميننا جبريل فوسع هموم النبوة ودعوة الثقلين، وأزلنا عنك الضيق والخرج لتكون لين الجانب لا يستفزّك الغضب، وقد وقع له صلّى الله عليه وسلم الشرح فعلا ثلاث مرات. مطلب شرح صدره الشريف: المسألة الأولى عند ما كان عند ظئره حليمة، فقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرجه واستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه ممتقع اللون وسألوه فقص عليهم ما ذكر أنس، وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره. والأخريان سنأتي على ذكرهما أول الإسراء الآتية خشية التكرار فراجعهما «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ 2»

الذي سلف منك خطأ أو نسيانا أو سهوا، أو ما تظنه مستوجب السؤال عندنا نظرا لعلو مقامك ورفعة شأنك وخفّفنا أعباء النبوة عليك لتقوم بها دون تكلف فرفعنا عنك ذلك التكليف «الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ 3» حمله وأوهى قولك رزؤه وحططنا عنك كل ما تراه ثقيلا مما شرعناه على من قبلك. واعلم أنه إذا حمل هذا الوزر على حالته قبل النبوة فيكون المراد اهتمامه بأمور كان يفعلها قبل النبوة، إذ لم يرد عليه شرح بتحريمها فلما حرمت عليه بنزول الوحي عدّها أوزارا أثقلت عليه وأشفق منها، فوضعها الله عنه وغفرها له، وإذا حمل ذلك على حالته بعد النبوة، فيكون عبارة عن ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى وما تركه أحسن من فعله على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. قال تعالى «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ 4» على سائر الأنبياء والمرسلين قبلك، وقرناه بذكرنا. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية قال: قال الله عز وجل إذا ذكرت ذكرت معي، قال ابن عباس يريد الأذان والاقامة والخطب على المنابر. فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم ينتفع بذلك بشيء، وكان كافرا، قال حسان رضي الله عنه: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضمّ الإله اسم النبي لإسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد وقرن طاعته بطاعته فقال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 59 من النساء ج 5 وكررها معنى ولفظا في الآية 17 من الأحزاب و 14 من التوبة و 31 و 32 من آل عمران وكررها في الآية 80 من النساء في ج 3 وقرن خوفه بخوفه، ورضاه برضاه، ومحبته بمحبته، وغضبه بغضبه، وهكذا قد ذكره الله في كتب الأنبياء، ولا يخفى أن حضرة الرسول إبّان بعثته كان مقلا مخفا من الأموال والمواشي وكانت قريش تعيره بالفقر حتى أنهم صاروا يقولون له عند ما يدعوهم إلى الله: إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا، فاغتم لذلك وظن إنما كذبه ت (11)

قومه لفراغ ذات يده، وكان يحزن ويغتم لهذه الغاية لأنه منشرح الصدر بما هو فيه من فضل ربه ويراه غنيا إذ لا هم له في الدنيا ولا في أهلها إلا بغية إيمانهم قال ابن الفارض: وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل فعدد الله عليه نعمه في هذه السورة تسلية لجنابه الشريف عما خامره من الغم ووعده الغنى فقال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 5» أي لا يحزنك قولهم فإن مع الشدة فرجا وإن لك مما تقاسيه مخرجا، ثم كرر الوعد تأكيدا وتمكينا فقال «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ» الذي أنت فيه «يُسْراً 6» قريبا بإظهاري إياك عليهم وإعلاء كلمتك وتقدير النصر لك حتى تغلبهم وتغنم ما عندهم، قال الحسن لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم: أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين. وذلك لأنه جل ذكره كرر العسر بلفظ المعرفة، والمعرفة إذا كررت كانت غير الأولى، وكرر اليسر بلفظ النكرة والنكرة إذا كررت كانت غير الأولى، فصار يسران تجاه عسر واحد ولن يغلب الواحد الاثنين غالبا. وإنما قال أبشروا إذ كان نزولها على أثر تعيير المشركين المسلمين بالفقر فلا شك أنه صلّى الله عليه وسلم انشرح صدره بما رأى من عطف ربه عليه فأقبل على عبادته فقال له ربه «فَإِذا فَرَغْتَ» من دعوة الخلق «فَانْصَبْ 7» لعبادة ربك، وداوم عليها واجتهد فيها «وَإِلى رَبِّكَ الذي أنعم عليك بما ذكر وما لم يذكر» «فَارْغَبْ 8» في إجابة دعائك ورفع مقامك عنده وإظهار كلمتك لديه ينصرك على أعدائك، واجعل رغبتك في الله وإلى الله ومن الله وتضرّع اليه رغبة في جنته ورضاه ورهبة من ناره وعقابه، ولا تخل وقتا من أوقاتك دون عمل يرضيه فكلما فرغت من عبادة أتعبت نفسك فيها فاتبعها بغيرها وابتهل اليه فهو لا يردك. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته، السبهلل الذي لا شيء معه والعاطل الذي لا عمل له ومعناه الفارغ. ولا غرو أن يكون قعود الرجل من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه من أمور دنياه ودينه من سفه الرأي وسخافة العقل

تفسير سورة العصر عدد 13 - 103

واستيلاء الغفلة. أعاذنا الله من ذلك وحفظنا ووقانا، ومن الخمول حمانا، هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة والله أعلم، واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. تفسير سورة العصر عدد 13- 103 نزلت بمكة بعد الانشراح، وهي ثلاث آيات ومثلها في عدد الآي النصر والكوثر، وأربع عشرة كلمة وستون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت أو ختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال تعالى: «وَالْعَصْرِ 1» أقسم جل قسمه سبحانه بزمان رسوله كما أقسم بمكانه في سورة البلد الآتية تنبيها على أن زمنه أفضل الأزمنة ومكانه أشرف الأمكنة عدا البقعة التي ضمته فلا يوازيها بالشرف مكان، حتى قال بعض العلماء بأنها أفضل من عرش الرحمن ولم يعارضه أحد دلالة على اتفاقهم على هذه وإجماعهم على أنه أحب خلق الله اليه وأفضلهم، وانه عند ربه بمكان لا يوازيه مكان وقال ابن عباس المراد به الدهر وذلك لأنهم يضيفون النوائب والنوازل إليه فأقسم الله به تنبيها على فضله، وأن الله هو المؤثر فيه وان ما يحصل فيه كان بتقديره وقضائه. وهناك أقوال بأنه اليوم والليلة لأن العرب تعبر عنها به قال حميد بن ثور: ولم يلبت العصران يوما وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما وإنه الوقت المعلوم لأنه خلق الله آدم فيه ولأنه بمقابل الضحى حيث أقسم أوّلا بأول النهار فناسب أن يقسم بآخره، وأنه صلاة العصر لأنها على أكثر الأقوال أنها الصلاة الوسطى وانه زمان حياته صلّى الله عليه وسلم وما بعده إلى يوم القيامة، ومقداره بالنسبة لما مضى بمقدار العصر من اليوم والليلة روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول إن بقاءكم فيمن سلف من قبلكم من الأمم كما بين صلاة

العصر إلى غروب الشمس. ولشرفه صلّى الله عليه وسلم وشرف أمته الذين فيه. قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 109 من آل عمران في ج 3 وجواب القسم «إِنَّ الْإِنْسانَ» أي جنسة المشتمل على أفراده كلها «لَفِي خُسْرٍ 1) من عمره لأن كل ساعة تمر منه لا بد أن تكون في طاعة أو معصية فان في معصية فهي الخسران المبين وإن في طاعة فلعلّ غيرها أفضل منها وهو قادر على الإتيان بالأفضل فكان فعل غير الأفضل نقصانا وخسرانا، وقد ورد في الحديث ما منكم إلا ندم يوم القيامة إن كان محسنا ندم إن لم يكن ازداد وإن كان مسيئا ندم إن لم يكن أقلع. ولا دلالة في هذه الآية لقول من قال إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأن المستثنى محصور فيمن آمن وعمل صالحا لأنه لا دلالة فيها على اكثر من كون المستثنى في خسر ليس إلا، والخسر عام فيكون بالخلود إذا مات كافرا ويمطلق الدخول في النار إذا مات مؤمنا عاصيا فلا معنى للقول بان المستثنى ناسخ للمستثنى منه فيها كما لا منسوخ في المستثنى منه وهو «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فهم مستثنون من الخسران لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا وفازوا لاستبدالهم الفاني الخسيس بالباقي النقيس. وهذا اللفظ يشمل كل من اتصف بالايمان والعمل الصالح لا يختص بعلي كرم الله وجه أو سلمان الفارسي كما يتوهم من اقتصار ابن عباس عليها، على أنها من الطراز الأول في هذا المضمار كما وأنه لا يختص بمعنى الخاسر أبي جهل أو غيره من أضرابه، لأن اللفظ عام يدخل فيه كل من خسر الدنيا والآخرة وكل المؤمنين الذين يعملون صالحا «وَتَواصَوْا» عند الاجتماع والمفارقة فيما بينهم بان يوصي بعضهم بعضا «بِالْحَقِّ» في كل نوع من أنواعه ومنه القرآن وكل عمل خير «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ 3» بسكون الباء وقوىء بكسر الباء بنقل حركة الراء إلى الباء في الوقف لئلا يحتاج القارئ إلى الإتيان ببعض الحركة في الوقف، ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين وهي لغة شاذة ولكنها في دمشق مستفيضة، وكذلك في حلب، أن يوصي بعضهم بعضا عند الشدائد وغيرها بالصبر وعن المعاصي التي تشتاق إليها النفس الخبيثة

تفسير سورة العاديات 14 - 100

وعلى الطاعة التي يشق أداؤها حتى على النفس الطاهرة، قال تعالى (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) الآية 24 من البقرة في ج 3 وأين هؤلاء الأخيار والسادة الأبرار، وبالصبر على ما يبلو الله به عباده من المصائب، هذا وإن سعادة الإنسان في طلب الآخرة والإعراض عن الدنيا لأن الا نهماك فيها خسران عظيم، ولما كانت الأسباب الداعية لحب الدنيا ظاهرة والأسباب الداعية لحب الآخرة خفية، صار أكثر الناس يشتغل في دنياه ويستغرق في طلبها فخسر وبار وأهلك نفسه بتضييع عمره ونفاده في دنياه، فالسعيد من كان شغله الشاغل في آخرته وأجمل في طلب الدنيا قال صلّى الله عليه وسلم الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون وقال عليه السلام اجملوا في طلب الدنيا (أي لا تنكالبوا عليها) فإن كلا ميسر لما خلق له وإن ما هو مقدر لك واصل إليك لا محالة راجع الحديث أول سورة القلم المارة، قال الشافعي رحمه الله لو لم ينزل الله غير هذة السورة لكفت الناس لاشتمالها على علوم القرآن. وأخرج الطبراني والبيهقي عن أبي حذيفة قال كان الرجلان من أصحاب الرسول إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر. أي ليبقيا متيقطين. هذا، والله أعلم وأستغفر الله العلي العظيم وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين. تفسير سورة العاديات 14- 100 نزلت بمكة بعد العصر، وهي إحدى عشره آية وأربعون كلمة، ومائة وثلاثون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال تعالى «وَالْعادِياتِ) الخيل الغازية في سبيل الله تعدو عدوا سريعا وتضبح عند جريها «ضَبْحاً 1» هو صوت أجوافها قال ابن عباس ليس شيء يضبح سوى الفرس والكلب وأصل العاديات بالواو أي العادوات لأن فعلها واوي فقلب ياء لانكسار ما قبلها وضبحا مفعول مطلق وهو أنفاس الخيل عند العدو وقال علي كرم الله وجهه الضّبح من الخيل

الحمحمة وفي الإبل التنفس قال عنترة: والخيل تكدح حين تضبح ... في حياض الموت ضبحا «فَالْمُورِياتِ» الخيل التي توري النار بسبب اصطدام حوافرها في الأرض الصلبة تقدح «قَدْحاً 2» يقال قدح فأورى إذا أخرج النار، وقدح فأصلد إذا لم يخرجها «فَالْمُغِيراتِ» الخيل التي تغير بفرسانها بسرعة الى مجابهة العدو «صُبْحاً 3» لأن الناس في غفلة عن الاستعداد وكانوا يمدحون هذه الحالة وقيل فيها: قومي الذين صبحوا الصباحا ... يوم النخيل غادة ملحاحا وقال تعالى: (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الآية 177 من سورة الصافّات في ج 2 «فَأَثَرْنَ» هيجن تلك الخيل المغيرة «بِهِ» بحوافرها الموريات في الصباح الذي أغارت فيه «نَقْعاً 4» غبارا علا المكان الذي مرزن فيه قال ابن رواحة: عدمت خيلنا ان لم تروها ... تثير النقع من كتفي كداء وقد حقق الله قوله يوم الفتح حيث دخلوها من كداء «فَوَسَطْنَ بِهِ» بذلك النقع الناشئ عن الاغارة «جَمْعاً 5» أي صرن بعدوهن وسط الجمع من الأعداء. وقد أقسم الله بخيل الغزاة أتى هذا وصفها تنبيها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية. الأجر والغنيمة وأظهار الكلمة وإذلال الأعداء وتعظيما لشأن الغزاة وحثا لهم على الاقدام وعلى أقتناء الخيل ولهذا وردت أحاديث كثيرة في فضل رباطها منها قوله صلّى الله عليه وسلم الخيل معقود بنواصيها الخير الى يوم القيامة وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الآية 6 من الأنفال في ج 3 وسيأتي ما ورد فيها عند تفسيرها إن شاء الله وجواب القسم قوله «إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ 6» كفور لنعمة ربه والكند الجحد قال: كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنود لنعماء الرجال بعيد مطلب في وصف خيل الغزاة: وقال الفضيل بن عياض: الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، وضده الشكور ... «وَإِنَّهُ» أي ذلك الإنسان الشامل لافراده لا يختص

[سورة العاديات (100) : آية 11]

به واحد دون آخر «عَلى ذلِكَ» الحال «لَشَهِيدٌ 7» لأنه لم يظهر أثر أنعام الله عليه فقد كفرها فيكون لسان حاله شاهدا عليه دون لسان قاله وأعاد بعض المفسرين الضمير الى الله أي أن الله تعالى شاهد على جحوده، والأول أولى يؤيده قوله جل قوله «وَإِنَّهُ» أي جنس الإنسان قولا واحدا «لِحُبِّ الْخَيْرِ» المال، وأتى بهذا المعنى هنا، وفي قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) الآية 181 من البقرة في ج 3 أي مالا كثيرا ولا يجوز عود الضمير هنا الى الله إذ لا يجوز أن يوصف بقوله «لَشَدِيدٌ 8» بخيل ممسك لاستحالته عليه تعالى ولأن الضمير راجع الى الجاحد في الجملة الاولى وهنا أيضا وأن اتساق الضمائر وعدم تفككها اولى عند الإمكان كما هنا، وجاء بكلام العرب شديد بمعنى بخيل ومن قول طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد وإذا لم يكن الرجل هشا منبسطا عند الإنفاق يسمى شديدا عبوسا ولهذا هدده الله وأوعده بقوله «أَفَلا يَعْلَمُ» هذا البخيل مغبة بخله «إِذا بُعْثِرَ» بعث «ما فِي الْقُبُورِ 9» من الموتى واخرجوا من برزخهم وأبرزوا للحساب والجزاء وزيدت الراء في بعثر لأن قيامهم من القبور يكون بعد بعثرة اجزائهم وتفتتها كالتراب، وعبر عن المبعوثين بلفظ ما دون من ليعم الإنسان وغيره من سائر الحيوان «وَحُصِّلَ» أظهر وجمع «ما فِي الصُّدُورِ 10» من الخير والشر الكامن فيها وميز بينهما «إِنَّ رَبَّهُمْ» أي أولئك المبعوثون من أجداثهم «بِهِمْ يَوْمَئِذٍ» يوم إخراجهم من قبورهم يوم القيامة وأفرازهم عن بعضهم يوم يقول الله جل قوله: (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس الآتية «لَخَبِيرٌ 11» بما عملوه في دنياهم لا يخفي عليه شيء منه فيجازيهم بحسبه وخص أعمال القلوب بالذكر دون الجوارح لأن أعمالها تابعة لها فلولا البواعث والواردات في القلب لما حصلت أعمال الجوارح، هذا وأن ما أخرجه البزار وغيره عن ابن عباس من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث خيلا ولبث شهرا لا يأتيه خبر عنها فنزلت هذه السورة لا قيمة له إلا أن يقال تلاها حينذاك لأن هذه السورة مكية، وبعث السرايا لم يكن إلا

تفسير سورة الكوثر عدد 15 - 108

في المدينة بعد الهجرة فلا مجال للقول بصحته من جهة النزول أما التلاوة فنعم. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. تفسير سورة الكوثر عدد 15- 108 نزلت بمكة بعد العاديات وهي ثلاث آيات، وعشر كلمات، واثنان وأربعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ويوجد في القرآن أربع سور مبدوءة بما بدئت به هذه والفتح ونوح والقدر، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولم تكرر بالقرآن كله. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِنَّا» نحن إله السموات والأرض وما فيهما وما فوقهما وتحتهما «أَعْطَيْناكَ» يا أكمل الرسل «الْكَوْثَرَ 1» نهرا في الجنة يدعى بهذا الاسم روى البخاري ومسلم عن أنس قال بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلت ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) إلخ قال: أتدرون ما الكوثر قلنا الله ورسوله أعلم: قال فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي عز وجل، خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء فيختلج (أي يذاد عنه ويمنع) العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي، فيقول ما تدري ما أحدث بعدك. وقد ذكرنا في تفسير الآية 6 من سورة المزمل المارة أنها نزلت في اليقظة وأن حضرة الرسول حينما أغفى هذه الاغفاءة رأى نفس النهر الذي أخبره به ربه في هذه السورة فذكره لأصحابه ويؤيد هذا قوله في الحديث (آنفا) أي قبل الوقت الذي ذكر لهم الحديث عنه، لأن هذه اللفظة تفال على ما قبل المتكلم ويطلق الكوثر على الخير الكثير أي أن الله تعالى إعطاء خيرا كثيرا جزيلا في جملة نهر الكوثر، قالت عائشة: ليس أحد يدخل إصبعيه في أذنه إلا يسمع خرير ذلك النهر وهو على التشبيه البليغ وإذا كان كذلك وهو كذلك «فَصَلِّ» يا حبيبي وادع واذكر وتفرغ «لِرَبِّكَ» الذي رباك وأغدق عليك نعمه وأعزّك بعطائه وشرفك بانتسابك اليه وصانك من منن الخلق مراغما لقومك

الذين يعبدون غيري «وَانْحَرْ 2» ما تذبحه من الأنعام لوجهي وباسمي مخالفا عادة قومك الذين يذبحون للأوثان ويذكرون أسمائها على ذبائحهم «إِنَّ شانِئَكَ» مبغضك «هُوَ الْأَبْتَرُ 3» المنقطع عن الخير الذي لا يذكر بعد موته بخير ما والأبتر في عرفهم الذي لا عقب له. نزلت في العاص بن وائل إذ أطلق على حضرة الرسول لفظ الأبتر بسبب موت أولاده الذكور فرد الله عليه بأنه هو الأبتر المنقطع دابره وأنت الأعز الأشرف الذي يبقى ذكره مرفوعا لآخر الدهر، وقد ذكرنا عدم اتجاه قول من نسى هذه الصلاة وفي كافة السور التي نزلت قبل الاسراء بالصلاة المفروضة أو بصلاة العيد لأنهما لم يفرضا بعد ولم يكن في مكة صلاة عيد البتة والقول بأن السورة مدنية ضعيف مخالف لما عليه الجمهور وأضعف منه القول بأنها نزلت مرتين وأن تلاوتها عند وجوب صلاة العيد ونحر الضحايا لا يعني أنها نزلت ثانيا ولا مانع أن يقال أنها من المقدم نزوله على حكمه المار ذكره في الآية 10 من سورة الأعلى، واللفظ يحتمل ذلك وفيها من الأخبار بالغيب بأن الله تعالى بوسع على نبيه صلّى الله عليه وسلم ويكثر من النحر، وأنها ستكون صلاة تسمى صلاة العيد، وتكون بعكس ما تأخر حكمه عن نزوله كما في الآية 15 من سورة الأعلى المارة. وما قيل إنها نزلت في أبي جهل عند وفاة ابراهيم ابن حضرة الرسول لا صحة له لأن الخبيث قتل قبل وفاته على التحقيق لأنه من مارية القبطية وقد أهديت للرسول وهو بالمدينة. وكذلك القول بنزولها في أبي لهب غير صحيح للعلة نفسها وقد فندنا القول بنزول بعض القرآن مرتين من سورة الفاتحة المارة، هذا وهذه أقصر سورة في القرآن من حيث الآيات والكلمات وقد جرى على ألسنة بعض الجهلة (أقصر من سورة الكوثر) وهذا لا يجوز البته لأن القرآن عبره ومواعظه جليلة في قليله وكثيره، وهو انما أنزل ليعتبر ويتعظ به لا ليتمثل به فحسب مما هو غير لائق بجلالته راجع سورة الفيل الآتية تجد ما يتعلق بهذا البحث. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم كثيرا.

تفسير سورة التكاثر عدد 16 - 102

تفسير سورة التكاثر عدد 16- 102 نزلت بمكة بعد الكوثر، وهي ثماني آيات، وثمانية وعشرون كلمة، ومائة وعشرون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدئت وختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال تعالى «أَلْهاكُمُ» عاقكم وأخركم أيها الناس واشغلكم «التَّكاثُرُ 1» بالأموال والأولاد والمباهات والمفاخرة والتباري بالعدوان والمناقب والسمعة عن طاعة ربكم وإدامة ذكره وبقيتم في ذلك منهمكين معرضين عما ينجيكم من الآخرة «حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ 2» أي متم ودفنتم فيها يقال لمن مات زار قبره أو رمسه، أي منعكم حرصكم على تكثير أموالكم عما يقربكم من ربكم إلى أن هلكتم. روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال انتهيت إلى رسول الله وهو يقرأ هذه الآية فقال: يقول ابن آدم مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأبقيت وما أكلت فأفنيت وما لبست فأبليت؟! أخرجه الترمذي، وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقي واحد، يتبعه ماله وأهله وعمله، فيرجع ماله وأهله ويبقى عمله، نزلت هذه الآية في بني عبد مناف وبني سهم بن عمرو كل يقول نحن أكثر سيدا وأعز عزيزا وأعظم نفرا وأكثر عددا حتى ان كلا منهم عد موتاه فكثر بنو سهم بني عبد مناف بثلاثة أبيات، فرد الله عليهم بلسان نبيه «كَلَّا» أي ليس التكاثر المحمود الذي يتنافس به المتنافسون بكثرة الأموال والأولاد ولكنه بالأعمال الصالحة، وما قيل إنها نزلت في الأنصار الذين تفاخروا بأحيائهم وأمواتهم لا يصح، وكذلك القول بأنها نزلت في طائفتين من اليهود غير صحيح لأن الأنصار واليهود في المدينة، ولم ينزل عنهما شيء في مكة وهي مع وجود السبب عامة، في كل من هذا شأنه، لما ذكرنا بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ثم هدد الله المتكاثرين بقوله «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» عاقبة هذا التباهي والتفاخر في برزخ القبر، إذا أنزل بكم الموت الذي هو خاتمة ايام الدنيا ومفتتح أيام الآخرة

«ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ 3» مخافة يوم الحشر والنشور، قال علي كرم الله وجهه كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة التي فيها هذه الآية فأيقنا، قال تعالى مكررا الردع والزجر تأكيدا لعظم ما يلاقونه عند البعث «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ 4» الحال الذي أنتم فيه بأنه زائل، وأن ما بين أيديكم لا ينفعكم نفعا دائما إذ لا يكون إلا بالعمل الصالح «عِلْمَ الْيَقِينِ 5» كالأمور التي تتحقون صحتها وتتيقنون وقوعها لما ألهاكم تكاثركم ولأشغلكم خوف الآخرة وعذابها عن كل ما في الدنيا، راجع تفسير آخر سورة الواقعة الآتية، ثم أكد الإنذارات الثلاثة بالقسم وعزتي وجلالي «لَتَرَوُنَّ» أيها المتفاخرون المتكاثرون «الْجَحِيمَ 6» بأبصاركم عيانا بعد الموت قبل الجزاء، وهي التي أوعدكم العذاب فيها على لسان رسله، ثم كرر القسم تشديدا للتهديد وتهويلا للأمر فقال عز قوله «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها» أي الجحيم المذكورة «عَيْنَ الْيَقِينِ 7» بالمشاهدة لاخفاء فيها، وهذا القسم من نوع الأقسام المضمرة التي تدل عليها اللام وقد يستدل عليها بالواو معنى كقوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية 75 من سورة مريم الآتية والأولى في القرآن كثير، وإن غالب الأقسام المحذوفة الفعل تكون بالواو وإذا ذكر حرف القسم أتى بالفعل كقوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية 52 من سورة النور وقوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) الآية 73 من سورة التوبة في ج 3 وإذا لم يوجد الفعل لا توجد الياء قطعا ولهذا أخطأوا عند قوله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 12 من سورة لقمان في ج 2، وقوله (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) الآية 12 من الأعراف الآتية (وقوله إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) 119 من المائدة في جزء 3 ومن القسم. واليقين اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا اعتقادا مطابقا المواقع غير ممكن الزوال ثم كرر القسم التهديدي تأييدا للتأكيد فقال «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ) يوم الحساب الذي سينال فيه كل أحد جزائه «عَنِ النَّعِيمِ» الذي شغلكم الالتذاذ به في الدنيا عن القيام بأمر الدين. روي عن ابن الزبير أنه قال لما نزلت هذه الآية قال الزبير رضي الله عنه يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء قال أما إنه سيكون

تفسير سورة الماعون عدد 17 و 107

وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ. ولهذا فسر بعضهم النعيم بالصحة والأمن وفسره بعضهم بما جاء في قول الشاعر: خبز وماء وظل ... هو النعيم الأجل جحدت نعمة ربي ... ان قلت اني مقلّ وقال الحسن هو ما سوى كنّ يؤويه، وأثواب تواريه، وكسرة تغذيه. والآية عامة في كل ما يطلق عليه اسم النعيم وسيأتي بحث معنى اليقين في الآية 52 من سورة الحاقة وإن النعيم نسبي بحسب الأشخاص والأحوال والأمكنة. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا. محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين. تفسير سورة الماعون عدد 17 و 107 نزلت بعد التكاثر في مكة وهي سبع آيات، الثلاث الأول نزلت في مكة في العاص بن وائل والأربع الأخر نزلت في المدينة في عبد الله بن أبي بن سلول، وتسمى سورة أرأيت، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بهمزة الاستفهام هذه والإنسان والغاشية والانشراح والفيل، ولا يوجد سورة بسبع آيات إلا هذه والفاتحة، وهي خمس وعشرون كلمة، ومائة وخمسة وعشرون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال تعالى «أَرَأَيْتَ» من رأي البصرية تنزيلا للمعقول منزلة المحسوس إشعارا بأن ذلك المعقول صار أمرا محققا لا شبهة فيه أي أأبصرت أيها العاقل هذا «الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ 1» بعد ظهور دلائله ووضوح بيانه وقرىء أريت بلا همز بحمل الماضي على المضارع المطرد فيه حذف الهمزة «فَذلِكَ» المكذب الكافر هو الّذي «يَدُعُّ» يدفع بعنف وجفاء «الْيَتِيمَ 2» عن حقه ويرده ردا قبيحا بزجرا وخشونة ليزيد في قهره «وَلا يَحُضُّ» مع ذلك الردع ولا يحث «عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ 3» فضلا عن انه

لا يطعمه هو فلو كان هذا يؤمن بالحساب والجزاء لما فعل ذلك وانما نزلت هذه الآيات في العاص المذكور لاتصافه بهذه الأخلاق الذميمة. وقيل إنها نزلت في الوليد بن المغيرة أو عمر بن عائد المخزومي وهي صادقة في كل من هذا ديدنه عامة إلى يوم الدين وهذه الآيات المدنيات التي نزلت بالمنافق المذكور آنفا وتشمل أضرابه الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ولا يتقيدون بأمور الدين إلا رياء وتقية فقال جل قوله «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ 4 الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ 5» لا يلقون لها بالا ولا حرمة ولا يخشعون فيها خضوعا لربهم لأنهم يراءون بها رياء إذا حضرهم المؤمنون ويتركونها إذا غابوا عنهم لعدم اعتقادهم بها وعدم رجاء الثواب على فعلها وهذا شأن المنافقين كلهم فيما يتعلق بأمور الدين وقد نصحهم الله بقوله عز قوله «الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ 6» الناس بجميع أعمالهم ولا يعملون شيئا خالصا لله فيدخلون أنفسهم في زمرة المصلين وطائفة المتصدقين وجماعة المتقين تقية وإلا فهم غافلون عن حقيقة الصلاة ولا يعلمون ماهية التقوى «وَيَمْنَعُونَ» مع ذلك كله أن يعيروا جارهم أو غيره «الْماعُونَ 7» الذي من شأنه ألا يمنع كالقدر والدلو والقدحة والماء والملح والنار والبئر والتنور مما يتساهل الناس في طلبه واستعماله ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن كله وفي هذه الآية حث على إعارة هذه الأشياء وشبهها وإباحة استعمالها وزجر عن منعها والبخل بمثلها لحقارتها وتفاهتها، لذلك قال العلماء يستحب للقادر أن يكثر في بيته مما يحتاجه الجيران ليعيرها ويتفضل عليهم بما فضله الله به ولا يقتصر على حاجته من ذلك قال انس والحسن الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم لأن معنى أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة مبالاة والتفات إليها وهو فعل المنافقين الذين يجب الابتعاد عنهم. مطلب السهو بالصلاة ولزوم الخشوع فيها: معلوم أن السهو قد يعتريهم بوسوسة أو حديث نفس وهذا لا يخلو المسلم، منه حتى أن الرسول كان يقع منه سهو فيها لغيبوبته عن نفسه الطاهرة عما سوى الله تعالى وفيه قيل:

تفسير سورة الكافرون عدد 18 - 109

يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو في كل قلب غافل لاهي قد غاب عن كل شيء سوه فها ... عما سوى الله فالتعظيم لله وليعلم أن الخشوع من واجبات الصلاة وعدمة يفضي الى التهاون بها فينبغي للمصلي أن يجتهد لاحضار قلبه فيها ويخطر فيه أنه واقف بين يدي الله عز وجل فجدير به أن يكون خاضعا خاشعا له حاصرا فكره فيما يقرأه فيها من كلام الله ليؤديها بوجه كامل ولئلا يدخل في قول القائل: تصلي بلا قلب صلاة بمثلها ... يكون الفتى مستوجبا للعقوبة أما تستحي من خالق الملك أن يرى ... صدودك عنه يا قليل المروءة فعلى العاقل أن يعلم حين صلاته بين يدي من هو واقف، وليجتهد بإفراغ قلبه عما سوى الله، فيلازم الخشوع والخضوع والخوف ويتذكر وقوفه في موقف القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ولهذا البحث صلة في أول سورة المؤمنين في ج 2، وليعلم أن الله لا يقبل عملا من قلب غافل لاه هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين. تفسير سورة الكافرون عدد 18- 109 نزلت في مكة بعد الماعون وهي ست آيات، ومثلها سورة الناس فقط، وعشرون كلمة، وأربعة وتسعون حرفا، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بما بدأت به هذه والجن والإخلاص والفلق والناس ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ 1» أمر الله رسوله أن يخاطب الرهط من قريش الذين قالوا له يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك بأن تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، وهم أناس مخصوصون، علم الله أنهم لا يؤمنون فأذن له أن يقول لهم «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ 2» من الآلهة لأنها أوثان لا تضر ولا تنفع وهي من عمل البشر الذي هو من عمل الله ربي فمعاذ الله

أن أشرك به غيره. قالوا فاستلم لبعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك (الاستلام يكون باليد على طريق التبرك كاستلام الحجر الأسود» فلم يفعل وأنزل الله هذه السورة قال تعالى «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ 3» لأنكم تعبدون الأوثان وأنا أعبد الرحيم الرحمن الواحد الذي لا شريك له ولا رب غيره «وَلا أَنا عابِدٌ» الآن ولا في المستقبل «ما عَبَدْتُّمْ 4» من الأصنام وغيرها «وَلا أَنْتُمْ» الآن «عابِدُونَ ما أَعْبُدُ 5» ولعل الله أن يهديكم فيما بعد إذا أراد بكم خيرا، أما إذا بقيتم مصرين على ما أنتم عليه ولم تتابعوني إلى ما أرشدكم إليه في الدين القويم فأقول «لَكُمْ دِينُكُمْ» الذي تدينون به هو الإشراك بالله وعليكم وزره «وَلِيَ دِينِ 6» الذي أدين به وهو الإخلاص لله وحده ولي أجره، ولم يقل ديني لأن الآيات قبلها مختومة بالنون، ويجوز حذف الياء بلا حاذف مثل قوله تعالى يهدين ويحيين ويسقين ويشفين من سورة الشعراء، وقوله (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) من سورة الفجر وما أشبه ذلك، فلما قرأها عليهم ايسوا منه وبادروا بأذاه، وقد سمى كفرهم دينا على حسب اعتقادهم، ولمشاكلة اللفظة وفي معنى الآية الأخيرة تهديد على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 20 من سورة فصلت في ج 2 والتكرار في الجملة الاولى يفيد التأكيد وكلما كانت الحاجة ماسة إلى التأكيد كان التكرار أحسن ولا موضع أحوج منه هنا، وذلك لأن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم، وبما أنهم كانوا وثنيين ينكرون البعث والتوحيد والنبوة فلا جرم أن التكرار لازم لهم لأجل التقرير، وقد تقربى في علم الاجتماع أن الدعوة تستدعي التأكيد والتكرار، وإذا تأملت في نظم القرآن وجدت أن ما ذكر موضوع منه لنكتة، لا يذكر في اخرى إلا لنكتة أخرى وإذا أمعنت النظر في قصة بدء الخليقة المكررة في مواقع كثيرة من القرآن عملت أنها في كل موقع لنكتة لا تجدها في الموضع الآخر كما سيتضح لك من إنعامك النظر فيما سيأتي من هذا القبيل إذا تذكرت وأبقيت هذا في فكرك. وأن العرب من مذاهبهم التكرار ارادة التوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار وارادة التخفيف ولا يجاز. روي أن

تفسير سورة الفيل عدد 19 - 105

ابن مسعود دخل المسجد والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس فقال له نابذ يا ابن مسعود، فقرأ هذه السورة في الركعة الأولى، ثم قال له في الركعة الثانية أخلص، فقرأ سورة الإخلاص، فلما سلم قال يا ابن مسعود سل تجب. وهذه السورة محكمة غير منسوخة لأن القصر المستفاد من تقديم المستند قصر إفراد حتما، لأن المعنى فيه أن دينكم هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه الى الحصول إليّ، فلا تعلقوا فيه أمانيكم الفارغة فإن ذلك محال وان ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لما لا يتجاوزه الى الحصول لكم، لأن الله تعالى ختم على قلوبكم فلا تنالونه، وقد مر أنهم كفار مخصوصون سبق في علم الله عدم إيمانهم وهم على ما قيل قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عيد يغوث والأسود بن عبد المطلب بن أسد وأمية بن خلف وأضرابهم كأبي جهل وأبي لهب الذين ماتوا وقتلوا على كفرهم. واعلم أن من الناس من يتمثل بالآية الأخيرة على معنى المتاركة وهو غير جائز لأن القرآن نزل ليتدبر ويعمل فيه لا ليتمثل به، راجع سورة الكوثر المارة وسورة الطارق الآتية لنقف على مثل هذا، وأعلم أن هذه السورة المبدوءة بلفظ قل يجوز قراءتها بغير قصد القرآن بلا لفظ قل، كأن يقول عند الخطاب يا أيها الكافرون، هو الله أحد، أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس، لأن الخطاب فيها وإن كان لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم فهي عامة لجميع المؤمنين، أما قل أوحي فلا، لأنها خاصة بحضرة الرسول فقط لأن الله خاطبه بها ليقصها على الجن والإنس وإذا سأله قومه عما ذكر فيها يقول لهم إن الله تعالى أوحى إليّ بها، تأمل هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تفسير سورة الفيل عدد 19- 105 نزلت بعد (الكافرون) بمكة وهي خمس آيات، وثلاث وعشرون كلمة، وستة وتسعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، لأنها من الاخبار ولا يدخلها النسخ.

[سورة الفيل (105) : الآيات 1 إلى 5]

«بسم الله الرّحمن الرّحيم» قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل رؤية علم لا رؤية بصر، لانه لم يحضر هذه الحادثة وكانت ولادته في سنتها «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ 1» عجب الله نبيه لصنعه فيهم وعدم اعتبار كفار العرب الذين شاهدوا تلك الآية العظيمة التي أوقعها الله عليهم وبقيت أخبارها متواترة مستفيضة كأنها مشاهدة رأي العين إذ لا يستطيع أحد إنكارها لوقوعها سنة 571 من ميلاد عيسى عليه السلام وذلك على ملأ من أهل مكة ومجاوريها وكثير منهم ان لم نقل كلهم رآها بأم عينه من غير نكير من أحد ما، ولهذا قال تعالى: «أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ» الذي كادوه وسعيهم الذي جاءوا من أجله لتخريب الكعبة «فِي تَضْلِيلٍ 2» تضييع وخسران إذ لم يتمكنوا من تنفيذ ما صمموا عليه لأن الله تعالى أبطله باهلاكهم المبيّنة كيفته بقوله «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ» عند ما وصلوا إلى حرم مكة وجزموا على دخولها وتخريب البيت ولم تنههم حرمثه وتعظيمه ولم يبالوا بسكانه وسدنته «طَيْراً أَبابِيلَ 3» مثال الخطاف وهو جند من جنود الله صارت «تَرْمِيهِمْ» بما في منقارها وأرجلها «بِحِجارَةٍ» كأنها «مِنْ سِجِّيلٍ 4» طين متحجر كالآجر أي اللبن المحرق بقصد اشتداد قوته وسمى سجيلا لأن سجيل علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار كما سيأتي في سورة المطففين في ج 2، أي أن تلك الطير رمت أبرهة وجيشه بعذاب من جملة العذاب المدون لأهل النار «فَجَعَلَهُمْ» ربك يا سيد الرسل «كَعَصْفٍ» زرع وتبن مهشم بوطئه «مَأْكُولٍ 5» من الدواب ثم راثت به وفرقت أجزاءه، شبه تفرق القوم وتقطع أوصالهم بتفرق الروث بعد فتاته بجامع عدم الاجتماع في كل، أي أنهم صاروا كالروث ولكن لهجنته لم يذكره فجاء به بلفظ آخر يدل عليه على نمط الآداب القرآنية ليتعلم عباده التأديب عن مثلها، ولهذا ترى كثيرا من العارفين ينزهون ألسنتهم عن النطق بما يستهجن. مطلب آداب العارفين وقصة الفيل: وقد شاهدت شيخنا الشيخ بدر الدين الحسني شيخ دار الحديث بدمشق رحمه الله حين سأله أحد تلامذته في شهر رمضان سنة 1343 عن معنى القذرة إذ مرت ت (12)

لنا أثناء الدرس الذي كنا نتلقاه عنه، فقال هي مثل ونيم الذباب، فسأله عنه فقال كرجيع الكلاب، فسأله عنه فقال كخشي البقر، فسأله عنه فقال كزرق الحمام ولم يزل يسأل حتى قال له مثل بعر الغنم والإبل، والروث للحمار والفرس هو الغائط للانسان محاولا بذلك عدم النطق بلفظها المشهور. وأظن أن هذا الطالب أراد إلجاء الشيخ للنطق بها فلم يفلح، وما قيل إن الله سلط عليهم الجدري أو ردهم بما يشبه التسمم (ميكروب) ينافي صراحة الآية وحقيقتها. اللهم إلا أن يقال ان ذلك نشأ عن رميهم والله أعلم، وخلاصة قصة الفيل هي أن أبرهة الحبشي لما ولي اليمن ورأى الناس يتجهزون أيام الموسم لزيارة الكعبة المشرفة، بنى كنيسة في صنعاء ودعا العرب لحجها وكتب الى النجاشي بذلك، فسمع مالك بن كنانة فذهب إليها وتفوط فيها، وزعم مقاتل أن فئة من قريش أجّجوا نارا في يوم عاصف فهاجت الريح واضطرم الهيكل أي في البيعة المذكورة التي بناها أبرهة وسماها القليس، فاغتاظ أبرهة وعزم على هدم الكعبة انتقاما، فسار بجيشه نحوها وكان دليله أبو رغال الثقفي جد الحجاج فمات بالمغمس- محل قريب من مكة على طريق الطائف كان نزل به أبرهة بجيشه ودفن فيه- وصارت العرب ترجم قبره كلما مروا به جزاء لفعله حتى صار مثلا قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجم الناس قبر أبي رغال هذا، وما يقوله البعض من أن رمي الجمار الثلاث بمنى كناية عن رجم قبر المذكور، ليذوم ذكر فعله القبيح على ألسنة الناس فقد اخطأ، لأن الرمي في منى من المواضع التي تمثل بها إبليس عليه اللعنة لسيدنا ابراهيم عليه السلام حينما ذهب بابنه إسماعيل ليقربه الى الله تصديقا لرؤياه، والرمي معروف قبل الإسلام وقبل ابرهة لأنه من شعائر الحج، وقبر أبي رغال ليس في محل الرجم في منى، بل هو على طريق الطائف للقادم منه الى مكة وقد أجمع الفقهاء والمحدثون والمفسرون عل هذا وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 113 من سورة الصافات في ج 2

والآية 97 من آل عمران والآية 25 من الحج في ج 3 فراجعها ففيها الكفاية. على أن ما بين حادثة ذبح إسماعيل عليه السلام وحادث ابرهة وموت أبي رغال ما يقارب الفين وثمنمئة سنة فأي عقل يقبل هذا، وأي عاقل يقول ان الرمي الذي أحدث من زمن الذبح أحدث عند موت ابي رغال، عليك بالمرجفين بإذا الجلال فانا أحلناهم إليك يا الله. هذا ولما دخل ابرهة حرم مكة عسكر بالمحصب بالشعب الذي مخرجه إلى الأبطح قريب من منى وأرسل الأسود بن مسعود فجمع نعم أهل مكة وأتى به اليه ثم أرسل حناطة الحميري ليخبر شريف مكة بأنه لم يأت لقتال بل لهدم الكعبة فقط فجاءه شريفها عبد المطلب بن هاشم جد محمد صلّى الله عليه وسلم فاحترمه أبرهة ونزل عن كرسيه وجلس معه على البساط لئلا يترفع عليه، ثم انه طلب من ابرهة أن يرد عليه الإبل قبل أن يفاتحه بأمر الكعبة فقال له ابرهة: زهدت فيك لأنك لم تطلب أولا الكف عن التعرض للبيت الذي هو شرفكم وعصمتكم وأعطاه الإبل لأنه يعلم أن مثله لا يرد، ولكن أثرت كلمة ابرهة فيه فقال له: إنك لا تستطيع أن تعمل شيئا في البيت لأن له ربا يحميه منك ومن غيرك، وبما أني رب الإبل طلبتها منك لقدرتك على إتلافها. ثم تركه وذهب إلى البيت وأخذ بحلقة بابه وقال: لا هم أن المرء بمنع رحله فامنع رحالك ... وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك ... جرّوا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم جهلا وما رقبوا جلالك ... إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك ثم قال: يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهمو حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهمو أن يخربوا فناكا ثم انطلق إلى شعف الجبال ينظر ما الله فاعل بأبرهة وجيشه فأصبح ابرهة وقد تهيأ للدخول إلى مكة ووجه الفيل نحوها وكان نفيل بن حبيب الخثعمي رأس خثعم لما رأى ابرهة متوجها إلى الكعبة بذلك القصد، قاتله مع عشيرته فقهره ابرهة لكثرة عدده وعدده وأخذه معه أسيرا إلى مكة، ولما رأى الفيل توجه نحو الكعبة أخذ

بإذنه وقال له: أبرك أبا محمود وارجع راشدا فإنك ببلد الله الحرام، من حيث لم يعلم ابرهة بذلك، فألقى الله في قلب الفيل البروك، كما ألقى في قلب نفيل أن يقول له ذلك، فبرك واستعصى فضربوه بالمعاول فأبى التوجه نحو الكعبة فوجهوه نحو اليمن فقام يهرول، فوجهوه نحو الشمال فقام يهرول، ثم صعد نفيل إلى الجبل وتركهم يعالجون أمر الفيل فرأى طيرا كثيرا أقبل من نحو البحر، وغشي القوم وصار يرميهم بأحجار من منقاره ورجليه، فتصيب الرجل فتخرقه وتنزل إلى الأرض، ولم يزل ذلك الطير يرميهم حتى بدد الله الجيش بأجمعه وحمى حماه. قالوا إن الأحجار كانت ما بين العدسة والحمّصة وإن من هرب من الجيش عند ما صار الرميء من قبل الطير لم يهتد إلى الطريق فصاروا يصيحون نفيلا ليدلهم عليه فقال نفيل في ذلك: فإنك ما رأيت ولن تراه ... لدى حين المحضب ما رأينا حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة تلقى علينا وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا وقال نفيل وصاروا يتساقطون على الطريق ويهلكون. وأرسل الله على ابرهة داء فتساقطت أنامله ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الطير فانصدع صدره عن قلبه ومات فيه، قال ابن الزبعرى: سائل امير الجيش عنا ما ترى ... ولسوف ينبي الجاهلين عليمها ستون الفا لم يؤبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها وقال أمية بن الصلت: إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري فيهن إلا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يعوي كأنه معقور فلما بلغ هذا عبد المطلب رفع رأسه إلى السماء وقال مخاطبا ربه عز وجل: أنت منعت الجيش والأفياله ... شكرا وحمدا لك ذا الجلالة هذا وإنه جل شأنه لم يفعل ذلك لنصرة قريش لأنهم كانوا كفارا بل صيانة لبيته المعظم مما عزم عليه ابرهة، وتكريما لنبيه المكرم إذ ولد فيه إذ ذاك فهو

مطلب رمي الجمار بمنى:

أول خير اتي قريشا منه. هذا وإن المغمس المذكور في شعر أمية آنفا دفن فيه أبو رغال المار ذكره، والمحصب الذي نزل فيه ابرهة دار بين مكة ومنى، عن يمينه غار ثور الذي تخبأ به حضرة الرسول وأبو بكر وقت الهجرة وعن يساره غار حراء الذي نزل أول وحي به، ووقعت حادثة الفيل فيه بعد موت أبي رغال. مطلب رمي الجمار بمنى: ورمي الجمار بمواقع مخصوصة في منى، فكيف تلوك بعض الألسن بما هو خلاف المحسوس، قاتل الله أهل السمعة الذين يريدون أن يعرفوا بالمخالفة على حد خالف تعرف. ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن العظيم هذا. وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الفلق عدد 20- 113 نزلت بمكة بعد سورة الفيل، وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها: «بسم الله الرّحمن الرّحيم» . قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل إذا أردت أن تحترز مما تخاف وتحذر «أَعُوذُ» التجئ واعتصم «بِرَبِّ الْفَلَقِ 1» الّذي فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد، والصبح بنور النهار، لأن الليل ينفلق عنه، قال ابن عباس الفلق سجن أو واد في جهنم تستعيذ منه أهل النار، وفيه إشارة إلى أن القادر على إزالة ظلمة الليل عن العالم بفلق الصبح، قادر على أن يدفع عن المستعيذ به ما يخافه ويخشاه، وخصصه بالتعوذ لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة دعوة الملهوفين «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ 2» ومن شر كل ذي شر وخاصة فتنة الدجال ومن النار، وإبليس وأعوانه من الجن والإنس لأنهم شر الخلق وفيه تنبيه على أن الذي فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد، قادر على أن يجير المستعيذ به من شر خلقه المضلين والضالين «وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ» هو الليل عند اشتداد ظلمته وقد أمر

مطلب في الحسد والتعاويذ:

بالتعوذ منه لانتشار الآفات فيه، وانعدام الغوث غالبا «إِذا وَقَبَ 3» اعتكر ظلامه وقيل هو القمر إذا خسف أخرج الترمذي عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله نظر إلى القمر فقال لها: استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب. والمراد منه، والله أعلم إذا خسف وسقط لأن هذا يكون يوم القيمة وهو جدير بان يتعوذ منه، وهناك أقوال بأنه الحية إذا انقلبت بعد اللسع وغير ذلك، وليست تلك الأقوال بشيء. «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ» السواحر اللاتي يتفثن «فِي الْعُقَدِ 4» في الخيط الذي يرقين عليه، والنفث النفخ مع قليل من الريق وقيل بلا ريق، وقيل النفث في العقد إبطال العزائم وآراء الرجال بالحيل استعارة من عقد الحبال لأن حب النساء المتغلغل في قلوب الرجال صيرهن يتصرّفن من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة فأمر رسول الله بالتعوذ من كيدهن ومكرهن. قال الإمام الفخر: هذا قول حسن لولا أنه على خلاف رأي أكثر المفسرين «وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ 5» أظهر حسده وعمل بمقتضاه. مطلب في الحسد والتعاويذ: والحاسد الذي يتمنى زوال نعمة الغير أو يسعى في زوالها، وهو أول ذنب عصي الله فيه في السماء من إبليس، وأول ذنب عصي الله فيه في الأرض من قابل وقصتهما ستأتي، الأولى في الآية 10 فما بعدها من سورة الأعراف الآتية وهي مكررة في القرآن كثيرا والثانية في الآية 21 من سورة المائدة في ج 3. واعلم إن دواء المحسود لداء الحاسد هو الصبر لا غير قال: اصبر على مضض الحسود ... فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله وهو في الحقيقة اعتراض على الله لأن الحاسد يحسد المحسود على ما أولاه ربه من النعم وحرمه منها، أما الغبطة وهي تمني مثل ما عند الآخر مع بقائها عنده فهي جائزة. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ورجل

تفسير سورة الناس عدد 21 - 114

آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار. والحكم الشرعي أنه يجوز النفخ في الرقى والتعاويذ الشرعية المستحبة بدليل حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات. وأما التفل فهو منكر. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد اشتكيت؟ قال نعم. قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك. وجاء في حديث آخر، جواز أخذ الأجرة على الرقيا. وقالوا إن العين والحاسد يشتركان في أن كلا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تريد أذاه إلا أن المعاين تتكيف نفسه عند مقابلة المعيون، والحاسد يحصل حسده في الحضور والغيبة وقد مر بحث إصابة العين آخر سورة القلم وكررت كلمة الحسد في الآية 109 من البقرة والآية 53 من النساء والآية 15 من الفتح فقط. هذا، والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين. تفسير سورة الناس عدد 21- 114 نزلت بمكة بعد الفلق، وهي ست آيات، وعشرون كلمة، وتسعة وسبعون حرفا. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1» أي كما أمرناك أن تستعيذ برب الفلق فاستعذ برب الناس وحافظهم مما يضرهم مادة ومعنى، وهو «مَلِكِ النَّاسِ 2» ومالك أمرهم ومدبر أمورهم وقد وصف جل شأنه نفسه بأنه رب الناس، لأن الرب قد يكون ملكا، وقد لا يكون ملكا، فنبه جل شأنه على أنه ربهم. ثم ان الملك قد يكون إلها وقد لا يكون، فنبه على أنه «إِلهِ النَّاسِ 3» وأن الإلهية الحقيقية خاصة به، وكرر لفظ الناس لشرفهم على غيرهم من خلقه، وكما ينبغي التعوذ من الناس وأقوالهم وأفعالهم، ينبغي التعوذ أيضا «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ» الشيطان ومعنى الوسواس والوسوسة الصوت الخفي والهمز، وقد وصفه بقوله «الْخَنَّاسِ 4» أي الرجاع

لأنه كلما ذكر الله يخنس ويتأخر، ويطلق على المختفي لأنه عند الغفلة ينهض ويوسوس قال سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس وتأخر وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة ولم تنقل لعدم الوقوف على صحتها، وان كان معناها صحيحا. واعلم أن الوسوسة للانسان من الشيطان تأتيه لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الآية 200 من الأعراف الآتية وقال تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الآية 35 من الزخرف ج 2، وبوصفه في قوله تعالى «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ 5» بإلقاء كلام خفي في قلوبهم يصل مفهومه إليها من غير سماع ولا مانع عقلا في ذلك، لما جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، وأخرج ابن شاهين عن أنس قال سمعت رسول الله يقول: إن للوسواس خطما كخطم الطائر فاذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله نكص وخنس فلذلك سمى الوسواس الخناس وهو قد يكون «مِنَ الْجِنَّةِ» الأشخاص المتسترين عن أبصار الخلق وهم المعنيون بقوله تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» الآية 46 من سورة الأعراف الآتية «و» يكون من «النَّاسِ 6» ويفعل فعل الجنّة وأكثر لأن وسوسة الناس بعضهم لبعض مشاهدة بمثابة الناصحين فاذا قبل منه زاد في الوسوسة وإذا كره أمسك عنه وجاءه من طريق آخر قال تعالى (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 113 من الانعام في ج 2 فقد قدم الأنس على الجن وأمر بالاستعاذة من كليهما قال الإمام الأبوصيري ان بعض الأولياء سأل الله تعالى أن يريه كيف يأتي الشيطان ويوسوس فأراه الله تعالى هيكل الإنسان في صورة بلّور وبين كنفيه شامة سوداء كالعش والوكر فجآء الخنّاس يتجسس من جميع جوانبه وهو في صورة الخنزير له خرطوم كالفيل، فأدخل خرطومه من بين الكتفين من قبل قلبه فوسوس اليه فذكر الله فخنس ورآه، لذلك سمي الخناس لأن نور الذكر ينكصه على عقبه ولهذا السر الإلهي كان

خاتم النبوة في هذا المحل إشارة الى عصمته صلّى الله عليه وسلم منه. وقال صلّى الله عليه وسلم أعانني الله عليه فأسلم بالختم وما أسلم قرين آدم فوسوس اليه. هذا على الرواية بأن الفعل فعل ماض، وعلى رواية انه فعل مضارع يكون بمعنى السلامة لا بمعنى الإسلام، تدبر. وكان صلّى الله عليه وسلم يحتجم من بين الكتفين ويأمر بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم كما مر في الحديث، وقال بعض العارفين أراد برب الناس الأطفال لان معنى الربوبية يدل عليه وبملك الناس الشباب لأنّ لفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه، وبإله الناس من الشيوخ لان لفظ الإلهية المنبئ عن العبادة يدل عليه، وبالذي يوسوس إلخ الصالحين لان الشيطان يطمع بإغوائهم وبمن الجنة والناس المفسدين لعطفه على المعوذ منه فهم أكثر من غيرهم لقرب لحوقهم به. اخرج مسلم والترمذي والنسائي ان رسول الله قال أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وجاء عن عائشة ان رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات (الإخلاص، والفلق والناس) وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيديه رجاء بركتهما، أخرجه مالك في الموطأ وللبخاري ومسلم بمعناه، وروى البخاري ومسلم أن رسول الله كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ المعوذات ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثا. هذا وما قيل أنه صلّى الله عليه وسلم سحر من قبل اليهود في المدينة وصار يتعوّذ بهما ولم يزل حتى برىء، فبعيد عن الصحة، لأن هاتين السورتين نزلنا بمكة في أوائل البعثة ولا خلطة له ولا مراجعة مع اليهود حتى يغتاظوا منه فيسحروه وكيف يسحر وهو معصوم بعصمة الله، وقد نفى الله عنه وصفه بالسحر وحماه من السحرة وغيرهم، وعليه فكل ما ورد في هذا لا عبرة به ولا قيمة لناقليه البتة، وما قيل أن المعوذتين نزلتا بالمدينة لا صحة له، لأن القول المعتمد أنهما مكيتان وأن تعوذه بهما استدار للأمر به من سحر وعين وحسد وغيرها له ولأمته الى يوم

القيامة، أما كونه صلّى الله عليه وسلم سحر في المدينة وصار يتعوذ بهما من السحر فغير صحيح. مطلب في السحر وعدم وقوعه على الأصول: وكل ما نقل في هذا مطعون فيه. والسحر حق لا ينكر وقوعه ولا يجوز نفيه لوروده في القرآن ووروده أنه مما يتعلم وأنه مما يكفر فيه وأنه مما يفرق بين الناس كما سيأتي في سور كثيرة من القرآن، فلا يمكن القول بعدم حقيقة السحر ومذهب أهل السنة والجماعة على ثبوته وأن له حقيقة كغيره من الأشياء الثابتة، ولا يستنكر عقلا لأن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام مغلق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى لا يعرفها الا الساحر، فإنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله القائل: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من سورة الصّافات في ج 2 فما يقع من الساحر عبارة عن عادة أجراها الله على يد من شاء من عباده، وأن كل ما يقع في الوجود بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالرقي والتعوذ من قضاء الله وقدره، يدل على هذا حديث عائشة المتقدم وحديث اسماء الذي ذكرناه آخر سورة القلم المارة وفيه بحث نفيس فراجعه، وما رواه الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله فقلت يا رسول الله أرأيت رقيا نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال هي من قدر الله. وقال عمر نفر من قدر الله الى قدر الله، وزعم بعض المبتدعة أن ما جاء في حديث عائشة المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلم من أن النبي صلّى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل اليه أنه يضع الشيء ولم يضعه إلخ. يحط من منصب النبوة ويشكك فيها وتجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهو كذلك فيما يتعلق بالدين فقط لأن الدلائل العقلية والنقلية قامت على صدقه صلّى الله عليه وسلم وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة على ذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، أما ما يتعلق بأمور الدنيا مما يعرض للبشر عادة فغير بعيد أنه يخيل اليه حال مرضه من أمور الدنيا مالا حقيقة له، مثل ما يتخيل الإنسان في المنام، إذ أنه ورد في رواية البخاري أنه كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن يبعد أن يتخيل مثل هذا في اليقظة حال المرض من حيث لا حقيقة له ومن قال أنه صلّى الله عليه وسلم سحر أراد هذا المعنى

لا غير لأن الله نزهه من أن يكون ساحر أو مسحورا فمن أول النّفاثات في سورة الفلق المارة بنيات لبيد بن الأعصم اليهودي وقال أنهن سحرن رسول الله وأن جبريل أخبره بذلك وأن السحر كان على مشاطة منه عقدن عليه أحدى عشرة عقدة ورموها بالبئر، وأن رسول الله حينما نزلت عليه المعوذتان أرسل علينا فأخرج المسحور عليه من تحت صخرة في ذلك البئر وجاء الى حضرة الرسول وقرأ عليه المعوذتين وانه كلما قرأ آية انحلت عقدة لأنها إحدى عشرة آية والعقد إحدى عشرة عقدة إلى آخر ما ذكره المفسرون وجاءت به الأحاديث من كل حدب وصوب، لا اعتماد عليه ولا صحة ولا حقيقة له، إلا أن حضرة الرسول بشر فيصيبه ما يصيب البشر من المرض وغيره ويقع ما يقع منه مثل ما يقع منهم فيما يتعلق بأمور الدنيا، أما بأمور الدين والتبليغ فلا، لأنه معصوم من قبل الله ومحفوظ بحفظه لا يتطرق اليه شيء من ذلك أبدا قال تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم الآية 111 من الكهف في ج 2 ومثلها في معناها كثير في القرآن قال القاضي عياض: قد جاء في بعض روايات هذا الحديث (الذي يعتقدون صحته) بنية أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسا في الرسالة ولا طعنا لأهل الزيغ والضلالة، ولو قال رحمه الله إن هذا الحديث قالوا بصحته فهو غير صحيح، وإنما اعتمد الجمهور صحته لكونه في الصحيحين، ولعمري ليس كل شيء مما في الصحيحين صحيحا قطعا، فإن فيهما الضعيف والمنكر، وإن البخاري ومسلم رحمهما الله وإن كانا من أحسن الناس نقلا لكنهما نقلا عن أناس قد يطعن فيهم، أو انه دسّ هذا فيما نقلاه، لأننا بعد أن نسمع أن الله عصمه من السحر ومن أن يكون ساحرا وأبطل بحقه سحر السحرة وكيد الفجرة، فكيف يسوغ لنا أن نصدق بأنه سحر، عصمنا الله من ذلك ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 59 من سورة طه الآتية فراجعها. هذا، والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الأصحاب وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم.

تفسير سورة الإخلاص عدد 22 - 112

تفسير سورة الإخلاص عدد 22- 112 نزلت بمكة بعد سورة الناس وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة، وسبعة وأربعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1» أي واحد من حيث العدد بل واحد في الإلهية والربوبية من حيث لا شريك له ولا معين ولا وزير وهو جل شأنه فرد في الكمالية والخالقية، موصوف بصفات العظمة والجلالة، منفرد عن الشريك مبرأ عن الضد والند، منزه عن الشبيه والمثيل والنظير، لا يوصف بالأحدية غيره لأن كلمة أحد من صفاته تعالى استأثر بها نفسه والواحد يدخل في الأحد من غير عكس، ولهذا قال تعالى: إذا أردت يا سيد الرسل أن تنزه ربك الذي اختارك حبيبا، له فقل (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، روى مسلم عن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جزءا من القرآن. وروى أبو هريرة ما بمعناه بلفظ اقرأ عليكم ثلث القرآن أي قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كما سيأتي وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها فلما أصبح جاء الى النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقللها فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن وذلك أن القرآن أما ارشاد الى معرفة الله أو تقديس أوصافه وأسمائه، أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده. ولما اشتملت هذه السورة على التقديس وازنها الرسول بثلث القرآن وسبب نزولها، قال ابن عباس، قالت قريش صف لنا ربك الذي تدعوا اليه فأنزل الله هذه السورة أي أن الذي سألتموني عنه هو الله أحد إلخ «اللَّهُ الصَّمَدُ 2» الذي يصمد اليه كل مخلوق، الغني عن كل شيء وهو من صفات الكمال، روى البخاري في أفراده عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال الصمد السيد الذي انتهى سؤدده وفي راوية عن ابن عباس السيد الذي كمل فيه جميع أوصاف السؤدد وهو السيد المقصود في جميع الحوائج المرغوب اليه في الرغائب المستعان به عند المصائب وتفريج الكروب. ومعناه لغة هو الذي لا جوف له والشيء

الصمد الصلب الذي ليس فيه رطوبة ولا رخاوة، وهذه من صفات الأجسام تعالى الله عنها، ووجهه على هذا أن الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب وهو الغني عن كل شيء فعلى هذا الاعتبار يكون أيضا من صفات الكمال، والقصد من قوله الصمد التنبيه على أنه تعالى بخلاف من أثبتوا، له الإلهية واليه الإشارة بقوله (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) الآية 75 من سورة المائدة في ج 3، وقالوا الصمد الذي ليس بأجوف شيئان أحدهما دون الإنسان وأسفل منه وهو سائر الجمادات الصلبة، والثاني أشرف من الإنسان وأعلى وأكمل منه وهو الباري جل جلاله، وقال أبيّ ابن كعب هو الذي «لَمْ يَلِدْ» أحدا «وَلَمْ يُولَدْ» منه أحد، وفيه رد على قول العرب القائلين أن الملائكة بنات الله، وعلى اليهود القائلين أن عزيرا ابن الله وعلى النصارى القائلين ان المسيح ابن الله، راجع تفسير الآية 27 من سورة التوبة في ج 3 تر تكذيب زعمهم وافترائهم. هذا إذ قالوا، ومن المعلوم أنه إذا لم يكن له ولد ينفى عنه اسم الوالد والصاحبة، لأن الولد يكون منهما أو من أحدهما كآدم وحواء والمسيح، والله تعالى هو الأول الذي لم يتقدمه والد والآخر الذي لا يتفزع عنه ولد ومن كان كذلك صح أن يقال «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 3» يكافئه في كونه لأن كل ما فيه خلقه ولن يكافيء المخلوق خالقه قال تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» الآية 11 من سورة الشورى في ج 2، ولا يخفى أنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث والله جل شأنه لا يموت ولا يورث فلا يعوله أو يضاهيه أحد من خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وإني أنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وقد جاء في فضل هذه السورة وتلاوتها

تفسير سورة والنجم عدد 23 - 52

أحاديث كثيرة أعرضنا عنها لعدم الحاجة ولأن في بعضها مبالغة لم نعتمد صحتها وقد اكتفينا بما ذكرناه مما هو صحيح لاغبار عليه وللشيخ الرئيس أبي الحسين علي بن سينا كراسة لطيفة فسّر بها المعوذتين والإخلاص على طريقة الصوفية أبدع فيها رحمه الله، وهو في كل فن مبدع فمن أراد الوقوف عليها والتمتع بما فيها من الإبداع الذي تلذّ به الأسماع وينشرح له الصدر، فليراجعها فإني وأمثالي عيال عليه، هذا والله أعلم واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين. تفسير سورة والنجم عدد 23- 52 نزلت في مكة بعد الإخلاص عدا الآية 32 فإنها نزلت بالمدينة، وهي اثنتان وستون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وألف وأربعمائة وخمسة أحرف، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدئت وختمت به. مطلب معنى النجم وأنواع قسم الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قال تعالى: «وَالنَّجْمِ» خصه أكثر المفسّرين بأنه الثريا لأن العرب تسميها نجما لأنها نجوم مجتمعة سبعة فأكثر على حسب النظر وقوته، وأنّها تطلع وتغرب بمواسم مخصوصة عندهم لأنها تظهر أوائل الشتاء وتغيب أوائل الصيف عند حصاد الزرع، وانهم يتفاءلون بغيابها إذا كان الهواء غربيا وبالعكس إذا كان شرقيا «إِذا هَوى 1» سقط وغاب عن الأبصار، أقسم الله تعالى به لشيء أراده غير ما ذكرناه وهو لا يسأل عما يريد. ويطلق لفظ النجم على الجنس منه فيشمل كل نجم في السماء، وعلى النبات الذي لا ساق له، وعلى القرآن لنزوله نجوما متفرقة، وعلى محمد صلّى الله عليه وسلم لصعوده السماء ليلة المعراج كالنجم. واعلم أن أقسام الله تعالى تنحصر في ثلاثة أشياء: بذاته المقدسة وبفعله كالسماء والأرض وبمفعوله كالقمر والشمس، وهي إما لفضيلة خاصة كقوله: (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أو لمنفعة عامة نحو (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) . والقسم إما ظاهرا كالآيات السبع التي أشرنا إليها في الآية 15 من سورة التكوير المارة، وإما مضمرا وهو قسمان قسم دلت

مطلب مقر جبريل ومعنى قاب قوسين:

عليه اللام نحو: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) الآية 186 من آل عمران في ج 3، وقسم دل عليه المعنى كقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية 71 من سورة مريم الآتية (يا ويلتاه الورود محقق، والخروج مظنون، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وجواب القسم هنا «ما ضَلَّ» عن الحق ولا زاغ عن الصواب فيما تلاه عليكم من الآيات البينات «صاحِبُكُمْ» محمد بن عبد الله «وَما غَوى» في اتباع الباطل وما جهل قط، لأن الضلال نقيض الهدى والغي ضد الرشد، وهو هاد مهتد راشد مرشد ليس كما تزعمون يا كفار قريش في نسبتكم إياه للضلال والغي والجهل «وَما يَنْطِقُ» قط «عَنِ الْهَوى 3» من تلقاء نفسه عن لا شيء كلاما «إِنْ هُوَ» الذي يتلوه عليكم «إِلَّا وَحْيٌ يُوحى 4» إليه من قبلنا على لسان رسولنا لا من رأيه ولا من قبل الغير «عَلَّمَهُ» إياه ونزل به إليه من لدنا ملك عظيم «شَدِيدُ الْقُوى 5» هو جبريل عليه السلام وقد مرّ شيء من قوته في تفسير الآية 19 من سورة التكوير المارة وهو «ذُو مِرَّةٍ» قوّة عظيمة، وبأس شديد، ومنظر حسن، وخلق جميل «فَاسْتَوى 6» في خلقه على أحسن صورة واعتدل قائما على صورته الحقيقية حينما رآه عبدنا محمد عيانا على غير الصورة التي تمثل بها حين هبوطه بالوحي، إذ كان على صورة دحية الكلبي. مطلب مقر جبريل ومعنى قاب قوسين: ولم يره في صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها غير مرة في الأرض، وهي المشار إليها في سورة التكوير المارّة «وَهُوَ» أي جبريل «بِالْأُفُقِ الْأَعْلى 7» الشرقي ومحمد بحراء كما مرّ فيها، ومرة في السماء ليلة المعراج كما سيأتي أول سورة الإسراء الآتية «ثُمَّ دَنا» جبريل من محمد «فَتَدَلَّى 8» ازداد نزوله فتقرب منه «فَكانَ» جبريل من محمد «قابَ» وقبّ وقيب وقاد وقيس كلها بمعنى المقدار القليل، أي ان مسافة قربه منه «قَوْسَيْنِ» من الأقواس العربية المعروفة عندهم إذ لكل قوس قابان وقاب القوس ما بين وترها ومقبضها «أَوْ أَدْنى 9» من ذلك وأقرب بحسب تقديركم أيها الناس إذ لا أقرب من هذا عندكم وأما عندنا نحن مولى

الكل وسيذهم فهو أقرب مما تتصوره عقولكم وهو من حيث القلّة (كأف) في زجر الوالدين في الآية 33 من الإسراء الآتية، وفي التحقيق (كأو) في الآية 46 من سورة الصافات في ج 2، وقد جاء التعدد بالقوس والرمح والذراع والسوط والباع والقدم على حسب لغة العرب واستعمالها، لأن الله خاطبهم بما يفهمون، ومن هذا لا صلاة حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين، ومنه ولقاب قوس أحدكم في الجنة وموضع قدّه أي سوطه خير من الدنيا وما فيها، وفيه اشارة الى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله عند مخالفتهم وارادة الصفاء بينهم وتوثيق العهود، فإنهم كانوا يخرجون بقوسين فيلصقانهما حتى يكونا ذا قاب واحد ثم ينتزعونهما ويرمون بكل منها سهما واحدا دلالة على أنهما تظاهرا وتعاقدا وتوافقا على أن يحمي أحدهما الآخر وأن يكون رضى أحدهما وسخطه رضاء الأخر وسخطه قال قل «فَأَوْحى» جبريل عليه السلام وأعبد الضمير إليه لأنه أقرب، ولأن سياق الآية يدل عليه وسياق اللفظ يؤيده «إِلى عَبْدِهِ» عبد الله محمد لأن العبودية الحقيقية لا تضاف إلا إليه ولا حاجة لأن يتقدم ذكره لأنه في غاية الظهور ولا لبس فيه مثل قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فالضمير فيه يعود للقرآن دون ذكر له لمعلوميته مع أنه لم يسبق له ذكر، وكذلك قوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية 62 من سورة النحل في ج 2، فالضمير يعود إلى الأرض في كلمة ظهرها ولم يسبق لها ذكر للعلة نفسها، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 32 من سورة ص الآتية فراجعه «ما أَوْحى 1» الله إليه أي إلى جبريل فأوحاه جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم بنصه حرفيا، وقد أبهم الموحي به للتفخيم على حد قوله تعالى (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الآية 78 من سورة طه الآتية فراجعا، أي شيء عظيم جليل خطير أوحاه الله إليه، ومن المفسرين من أعاد الضمير في أوحى إلى الله عز وجل وأعاد ضمير دنا فتدلى كذلك وأعاد ضمير عبده إلى محمد وهذا لا يتأتى إلا على القول من أن الإسراء وقع بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلم بخمس سنين أي زمن نزول هذه السورة، وهو قول الزّهري ويعضده قول ابن اسحق، ويؤيده ما جاء في الفتاوى بأنه سنة خمس أو ست من النبوة، أما القول بأنه وقع بعد مبعثه بخمسة عشر شهرا فلا يكاد يعقل فضلا عن عدم وجود ما يؤيده من راو

مطلب زمن الإسراء والمعراج والرؤية:

أو رواية، وأضعف منه قول شريك بأنه وقع قبل أن يوحى اليه، وهذا كله لا ينطبق على ما نحن فيه وقال الحريّ انه قبل الهجرة بسنة، ويقرب من قوله قول النووي انه بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وجزم الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء بأنه في السنة الثانية عشرة من البعثة، وادعى ابن حزم الإجماع عليه، وضعف ما في الفتاوى، وكأنهم يريدون بهذا زمن نزول سورة الإسراء، وعليه يقتضي أن يكون نزول هذه السورة بعد سورة الإسراء ولم يقل به أحد، والقول بنزولها قبلها لم يعارض فيه أحد، والمعارضة في نزولها بين سنة خمس أو ست فقط ورجح الأول لأن قول الثاني هو من باب التداخل في عدد السنين ليس إلا والله أعلم، فيظهر من هذا كله أن القول الموافق للحال والمطابق لترتيب نزول السورتين هو قول الزهري وعليه فتكون سورة الإسراء اخبارا عنها. مطلب زمن الإسراء والمعراج والرؤية: واني رغم تتبعي وسؤالي أهل العلم لم أقف على غير هذا، وسأتابع البحث فيه والسؤال عنه حتى إذا وقفت على غيره ذكرته إن شاء الله القائل «ما كَذَبَ الْفُؤادُ» أي قلب الموحى اليه محمد صلّى الله عليه وسلم «ما رَأى 11» بعينه وبصره من جبريل أو ما رأى ليلة المعراج من عجائب مكونات ربه وذاته المقدسة «أَفَتُمارُونَهُ» تجادلونه يا كفار قريش، وقرىء أفتمرونه أي تغلبونه أو تجحدونه كما قرىء كذّب بالتشديد «عَلى ما يَرى 12» ويعاين من صورة جبريل الحقيقة التي ذكرها لكم أو مما قصه عليكم في ما شاهده في الإسراء والمعراج من العجائب وذلك أنه لما أخبرهم بإسرائه وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا فوصفه لهم وأخبرهم عن عيرهم وثبت لهم صدقه ومع هذا كذبوه كما سيأتي أول الإسراء الآتية «وَلَقَدْ رَآهُ» رأى محمد جبريل «نَزْلَةً أُخْرى 13» مرة ثانية في صورته الحقيقية حال بلوغه «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى 14» الكائنة في السماء السابعة وهي شجرة نبق عن يمين العرش التي ينتهي عندها كل أحد ولا يتجاوزها أحد من الملائكة أو رأى ربه عز وجل «عِنْدَها أي السدرة التي ت (13)

بقربها «جَنَّةُ الْمَأْوى 15» التي تأوى إليها أرواح الشهداء في الدنيا والمتقون أجمع في الآخرة «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ 16» من تكبير وتعظيم وتهليل وتمجيد من الخلائق المختلفة الدالة على عظمة الخالق مما لا يحيط به الوصف ولا تسعه الأذهان ويعجز عنه النطق به كل لسان «ما زاغَ الْبَصَرُ» من محمد ولا حال عن رؤية ومشاهدة العجائب التي أبدعها المبدع وأمر رسوله برؤيتها حينما عرضها عليه ومكنه من رؤيتها في تلك الحضرة المقدسة لا يمينا ولا شمالا وهو غاية في أدبه صلّى الله عليه وسلم في ذلك المقام الجليل إذ لم يلتفت اليه وهذا يؤيد كون الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة لا الملائكة ولا الفراش الذهبي ولا أنواع المخلوقات وان نظر الرسول ما حال دون رؤية ربه عز وجل بصعقة أو غشية كما حصل لموسي وابراهيم عليهما وعليه أفضل الصلاة السلام. وقد ثبت في ذلك المقام الذي تحار به العقول وتزل به الأقدام وتشخص فيه الابصار، ولهذا فقد وصفه ربه بالقوة والسكينة في ذلك المقام بقوله جل قوله «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى 17» أي ما جاوز بصره غير ما أمر بالنظر اليه وهو المعنى بقوله مقسما «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى 18» التي هي أكبر آية وأعظمها وأجلها وهي رؤية ذاته المقدسة التي لا يضاهيها آية وتصغر دونها كل آية قال الأبوصيري: أرآى من الآيات أكبر آية ... ما زاغ حاشا أن يزيغ المبرأ قال ابن عباس رضي الله عنهما رآه بفؤاده وقال الحسن وأنس وعكرمة رآه بعينه حقيقة وسنذكر ما جاء في الأحاديث الواردة بالرؤية القلبية والعينية هنا وما جاء في حق جبريل أيضا، روي عن مسروق أنه قال قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد ربه؟ فقالت لقد قفّ شعري (أي قام من الفزع مثل اقشعر جلدي واشمأزت نفسي عند سماع مالا ينبغي) مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن بها فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تدركه الأبصار الآية 102 من الانعام في ج 2 وقرأت (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الآية 56 من سورة الشورى في ج 2 أيضا، ومن

حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وقرأت (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً) الآية الأخرى من سورة لقمان 24 ومن حدثك أنه كتم أمرا فقد كذب ثم قرأت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية 70 من المائدة في ج 3 ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين أخرجاه في الصحيحين، وروى مسروق بن الأجدع قال قلت لعائشة فأين قوله (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ) إلخ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وأنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسدّ الأفق، أخرجاه في الصحيحين. وروى مسلم عن ابي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال رأى جبريل، وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى، قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح، وفي رواية مسلم عن مسروق قال كنت متكئا عند عائشة فقالت يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فجئت فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) الآية 43 من سورة التكوير، المارة (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) الآية المارة؟ فقالت انها أول هذه الآية سئل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، الحديث. وروى مسلم عن أبي ذر قال سألت رسول الله هل رأيت ربك؟ قال نور أنى أراه! وفي رواية نورانيّ أراه.، بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى الآية قال لقد رأى رفرفا أخضر سدّ أفق السماء. وجاء في الصحيحين من حديث المعراج عن شريك ابن عبد الله بن ابي بحر عن أنس (ودَنا الجبار ذي العزّة فَتَدَلَّى حتى كان قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وهي رواية أبي سلمة عن ابن عباس، وروى مسلم عن ابن عباس (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) الآيتين قال رآه بفؤاده مرتين. وأخرج أحمد عن ابن عباس انه قال: قال رسول الله رأيت ربي، ذكره

محمد الصالحي الشامي في الآيات البينات وصححه وهو تلميذ الحافظ السيوطي. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال إن محمدا صلّى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده. وجاء عن ابن عباس أتعجبون ان تكون الخلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟! وعن عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه، قال نعم، وكان الحسن يحلف بأن محمدا رأى ربه. هذا وقد بلغت الرؤية حد الإجماع، وكلام ابن عباس لا يكون إلا بالسماع من رسول الله ولا يشك فيه أحد، كيف لا وهو خير الأئمة وعالمها المرجوع اليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر فأخبره أنه رآه، وهذا إثبات والإثبات مقدم على النفي، على أن عائشة رضي الله عنها لم تقله عن رسول الله وإنما قالته متأولة الآيات التي ذكرتها من قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ) و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) والصحابي إذا خالفه مثله لا يكون قوله حجة ولو كان معها شيء عن رسول الله لذكرته فضلا عن انها عند نزول هذه السورة وسورة الاسراء كانت صغيرة دون سن التمييز، وليست هي بأعلم من ابن عباس، على أن الإدراك الوارد بالآية معناه الإحاطة والله تعالى لا يحيط بعلمه أحد ولا يحاط به، وإذا ورد النفي بنفي الإحاطة لا يلزم نفي الرؤية بغير إحاطة، والله تعالى يرى بلا كيفية ولا احاطة فلو كانت الرؤية غير جائزة لما طلبها موسى، أو يلزم مع الرؤية وجود الكلام ليصح الاحتجاج بآية (وَما كانَ لِبَشَرٍ) بل تجرز من غير كلام، فارتفع الاحتجاج بها على أن ما من عموم إلا وخصّ منه البعض، فيمكن أن يقال: نفي الرؤية عام في حق البشر في الدنيا مخصوص بسيدنا محمد عليه السلام فيها ثابت بما تقدم من الأدلة، ولهذا فإن ثبوت الرؤية لسيدنا محمد ثابتة قاله كعب واحمد ابن حنبل وابو الحسن الأشعري وجعفر بن محمد ومحمد بن كعب والقاضي عياض والشيخ محي الدين النووي وغيرهم من أكابر السلف والخلف فمن أنكرها فجزاؤه حرمانها واعلم أن في جملة ما زاغ البصر إلخ أخبار من الله تعالى عن حسن أدبه صلّى الله عليه وسلم لدى الحضرة الإلهية وعن اعتدال قلبه المقدس في الإقبال اليه بكلية والإعراض عن سواه وعدم الالتفات إلى ما في

[سورة النجم (53) : الآيات 21 إلى 30]

السموات والأرض وما فيهما، وتركه وراء ظهره، وفيه دلالة على أنه كان معتدل القوى لم تشغله حاسة عن حاسة حال تلقى ما ورد عليه من مقام الروح والقلب المشير اليه قوله (قابَ قَوْسَيْنِ) لذلك كان ثابتا في مقام تجلي الإله صارفا قواه العشرة لما يرد عليه من تلك الحضرة مستظلا بهيبته فلم يتخلف بصره عن بصيرته بل استقام معها حالة التجلي لئلا يتجاوز حده بالسبق لها كما أن البراق لم يتجاوز حافره غاية نظره صلّى الله عليه وسلم حالة السير به من مكة إلى البيت المقدس، وهذه غاية في الأدب ونهاية في التأدب قال تعالى «أَفَرَأَيْتُمُ» أعلمتم «اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19 وَمَناةَ» أسماء أصنام انتقوها من أسماء الله، الآله والعزيز والمنان وقيل انها في الأصل اللآت مأخوذة من لوى لأنهم يلوون عليها بعبادتهم وهي صنم من الحجارة يشبه الإنسان ولذلك قال بعضهم انه كان رجلا يلت السويق للحجاج وكان صنما لثقيف، والعزى تأنيث الأعز شجرة كانت لغطفان فقطعها خالد بن الوليد بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وقال عند قطعها مرتجزا. يا عز كفرانك لا سبحانك ... اني رأيت الله قد أهانك ومناة كانت صنما في مكة أو بقديد لخزاعة وهذيل وقيل لثقيف، وكانوا يستمطرون عندها تبركا بها، وقيل بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وسميت مناة لأن دماء النسائك تمنى عندها، وهي عبارة عن صخرة يعظمونها فعاب الله عليهم ذلك على طريق الاستفهام توبيخا وتقريعا، أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة شيء وكانوا يسمونها والملائكة بنات الله ويزعمون أنها تشفع لهم مع ما هم عليه من وأد البنات واستحلال المحرمات والكفر ثم وصف مناة بقوله: «الثَّالِثَةَ الْأُخْرى 20» المتأخرة أو أن في الكلام تقديما وتأخيرا أي أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، ثمّ أنكر عليهم ما ينسبونه اليه تعالى عنه «ألكم» أيها الكفرة «الذَّكَرُ» تختصون به «وَلَهُ» جل شأنه «الْأُنْثى 21» مع أنكم تكرهونها قال تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) الآية 59، وقوله وإذا بشر أحدهم بالأنثى إلخ الآية 63 من سورة النحل في ج 2

«تِلْكَ» القسمة التي قسمتموها بينكم وبين ربكم «إِذاً» بعد اختياركم الأحسن «قِسْمَةٌ ضِيزى 22» عوجاء جائرة لم ترضوها لأنفسكم فكيف ترضونها لربكم «إِنْ هِيَ» ما الأصنام المذكورة بشيء البتة «إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» عفوا من تلقاه أنفسكم ودعيتموها آلهة افتراء على الله وهي ليست بشيء يستحق الذكر «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» حجة أو برهان بما تزعمون من آلهيتها «إِنْ» ما «يَتَّبِعُونَ» في ذلك الاتخاذ «إِلَّا الظَّنَّ» والوهم الذي لا حقيقة له «و» ما يتبعون في ذلك الا «ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» وتزينه لهم وتشهيهم بعبادة الأوثان وأتباع الشيطان «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى 23» بكتابه المنزل على رسوله بأن الأصنام ليست بآلهة ولا أهلا للعبادة وأن العبادة لا تكون الا الله الذي يخذل من يعبد غيره، ويقهر من يكذب آياته فلم يرتدعوا ولم ينتهوا عن ذلك، قال تعالى منّددا صنيعهم ذلك بقوله «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى 24» استفهام على طريق الإنكار أي أيظن الكافر ان له ما يتمناه ويشتهيه من كل ما يصوره عقله، كلا ليس له ذلك بل لا يكون الا ما يريده الله «فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى 25» كليهما وما فيهما ولا يقع فيهما إلا ما يشاء الله ليس لأحد فيها دخل ولا شيء البتة، ثم قال ردا على ما يزعمون من شفاعته أصنامهم «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً» لأحد ما لأنهم لا يشفعون «إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ» الشفاعة له ومن يؤهله للتشفع «وَيَرْضى 26» له أن يكون شافعا فكيف إذن تشفع أصنامهم لهم وهم ليسوا بشيء «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» ويجحدون كونها ووجودها «لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى 27» بقولهم أنهم بنات الله ولم يقل تسمية الإناث لأن المراد الجنس وهو أليق لمناسبة رؤس الآي وما يسمونه بالروى في النظم «وَما لَهُمْ بِهِ» أي الذين يقولونه «مِنْ عِلْمٍ» يحتجون به في تلك التسمية والعبادة «إِنْ» ما «يَتَّبِعُونَ» في عبادتهم وتسميتهم «إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً 28» أبدا لأنه ناشىء عن التقليد والوهم والتخمين، والشيء

[سورة النجم (53) : الآيات 31 إلى 40]

لا تدرك حقيقته إلا باليقين، فاذا كان هذا مبلغ علمم «فَأَعْرِضْ» أترك يا حبيبي وصدّ «عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا» الذي أنزلناه عليك لانهم أعرضوا عنه وتولوا عن الايمان به «وَلَمْ يُرِدْ» كل منهم «إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا 29» لإنها بغيتهم ولا همّ لهم بالآخرة لانهم لم يؤمنوا بها «ذلِكَ» ظنهم واختيارهم هو «مَبْلَغُهُمْ» وغاية مطلبهم ونهاية ما توصلت اليه عقولهم «مِنَ الْعِلْمِ» الذي لا يحيط ببعضه عقلاؤهم لقلة إدراكهم وشدة توغلهم في الدنيا «إِنَّ رَبَّكَ» يا سيد الرسل «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» السوي وطريقه المستقيم الذي يجب أن يسلك دون غيره من السبل المضلة «وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى 30» اليه فيجازى كلا بعمله «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وما بينهما وما فيهما وما تحتهما وفوقهما ملكا وعبيدا. وهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا» من السوء «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى 31» أي الجزاء الحسن وفي الجنة أيضا لقاء عملهم الحسن، لأن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار إلا ليكافيء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر: وهذه الآية المدنية المستثناة في هذه السورة قال تعالى «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ» منها المستوجبة للحد الشرعي (إلا اللّمم) صغائر الذنوب، وهذا استثناء منطقع، لأن اللّمم ليس من الكبائر والفواحش، فهو كالقبلة والنظرة والغمزة والشتم بغير اذن وما ضاهى ذلك، وسبب نزولها قول المشركين ان المسلمين بالأمس كانوا يعملون ما نعمل والآن يعيبوننا به. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال ما رأيت أشبه باللمم مما قال ابو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج، يصدق ذلك أو يكذبه. ولمسلم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل

زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه. فهذه الأولى كلها لمم، والأخير من الكبائر والفواحش، فالكبيرة كل شيء نهى الله ورسوله عنه أو أوعد عليه بنار أو غضب أو عذاب أو عقاب أو لعنة أو حد، والصغيرة كل ما لم يذكر الله ورسوله عليه حدّا في الدنيا أو عذابا في الآخرة فيدخل في الكبائر، من غيّر معالم الأرض ومن تزوج امرأة للتحليل، والواشمة والموشومة وكل ما اقترن بلعن من حضرة الرسول كمن أمسك امرأة محصنة ليزني بها غيره، أو قادها للزنى أو أمسك مسلما لمن يقتله، ومن دل الكفار على عورة المسلمين وفضح لهم عددهم وعددهم ومن كذب على إنسان كذبة أدت إلى قتله أو تعطيل عضو منه أو تعذيبه، لأن حد الكبيرة كل شيء كبر وعظم مما يعد ذنبا وكان فعله قصدا، فدلالة المسلم الكفار على مواقع المسلمين مع علمه أنهم سيستأصلونهم أعظم من الفرار عند الزحف، والكذب الموجب للقتل وأخذ المرأة للزنا والمسلم للقتل اكبر من أكل الربى وأكل مال اليتيم وشرب الخمر المعدودة من الكبائر المترتب عليها حد شرعي، وليعلم أن اكبر الكبائر الشرك بالله ثم القتل بغير حق ثم الزنا واللواط ثم شهادة الزور ثم السحر ثم قذف المحصنات ثم عقوق الوالدين، إذ عدها رسول الله من الموبقات أي المهلكات ثم كل ما يدخل تحت الحد وما اقترن باللعن إلخ ما تقدم، والصغيرة ما سوى ذلك على أنها إذا فعلت تهاونا واستخفافا أو اعتيد على ارتكابها جرأة تنقلب كبيرة، ولهذا أبلغوا عدد الكبائر إلى سبعين وبعضهم إلى سبعمائة كما في كتاب الزواجر المستقصى لأنواعها فراجعه، وعلى هذا إذا لم تقترن الفعلة بشيء مما ذكر من الوعيد وغيره وما يقع من فلتات اللسان وشهوات النفس في غير ما نصّ عليه وما ينشيء من فترة مراقبة التقوى فليس من الكبائر بل من الصغائر وهي أقرب للمغفرة ويوشك أن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة، وقد يغفرها الله عفوا نكرما منه ويكاد أن يجعلها حسنات إذا اقترنت بالندم والاستغفار راجع الآية 71 من سورة الفرقان الآتية وكذلك الكبائر إذا أعقبها بتوبة خالصة وعمل صالح من صوم أو صلاة أو صدقة فيوشك أن يقلبها الله له صغائر ويغفرها

أما ما يتعلق فيه حق الغير من الكبائر والصغائر فلا بد من إرجاع ما أخذ لأهله وإرضائه واستعفائه، وإن لم يقدر على شيء من ذلك فيعود إلى مشيئة الله ويسعها قوله «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» لمن تاب وأتاب وحسنت نيته وقد يغفر بدون شيء من ذلك لمن شاء عدا الشرك راجع الآية 48 من سورة النساء في ج 3 وإذا أراد أن يطمئن على نفسه من عذاب الله وقبول توبته فليجتهد برد المظالم لأهلها أو ورثتهم أو يتصدق بها على الفقراء وينوي ثوابها إليهم، هذا والله تعالى «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ» أيها المؤمنون وأعلم بما تفعلونه قبل خلقكم «إِذْ أَنْشَأَكُمْ» براكم من النطفة وخلق أباكم آدم «مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ» أي وهو أعلم بأحوالكم حالة كونكم «أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» وما أنتم صائرون اليه بعد فاعملوا خيرا لدينكم ودنياكم وآخرتكم «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» وتمدحوها بالطهارة من الذنوب فانه يعلم كل نفس وما هي صائرة اليه وما تصنعه في الدنيا وما تناله في الآخرة، فلا تفضلوا أنفسكم على غيركم في الحالة التي أنتم فيها لأنكم لا تعلمون العاقبة والله وحده «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى 32» منكم ومن أذنب فأكتفوا بعلمه عن علم الناس وجزائه عن جزائهم وثنائه عن ثنائهم. روى البخاري ومسلم عن خارجة بن زمعة بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار كانت بايعت النبي صلّى الله عليه وسلم وأخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا ابن صفعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي غسل وكفن في أثوابه وصلى عليه رسول الله، فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك قد أكرمك الله فقال صلّى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين والله اني لارجو له الخير، والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي. قالت فو الله لا أزكى بعده أحدا قالت: ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري، فجئت رسول الله فذكرت له ذلك، فقال: ذلك عمله وهذه الآية نزلت في أناس من المدينة يعملون أعمالا حسنة ثم يتبرمون بها، وهي عامة في كل من يتصف بذلك، هذا وقد سبق أن بينا أن الآيات

المستثناة من السور إذا طويتها وقرأت ما بعدها تبعا لما قبلها يستقيم المعنى والنظم وهذه كذلك، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه إسقاط حرف واحد من القرآن أو تغيره عن محله، حتى ان العلماء كرّهت ان يقرأ المصلي آية أو سورة ثم يترك التي تليها ويقرأ ما بعدها، كما كرهوا أن يقرأ القرآن على عكس ترتيبه قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ» يا أكمل الرسل هذا «الَّذِي تَوَلَّى 33» عن الإيمان وعاد الى الكفر «وَأَعْطى قَلِيلًا» مما تعهد به الى من أغواه «وَأَكْدى 34» قطع عطاءه وبخل بما وعد به وأصل الكدي من الكدية وهي حجر يظهر في البئر فيمنع من الحفر، نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان اتبع حضرة الرسول فعيره المشركون بقوله تركت دين الأشياخ وضللت قال أني خشيت الله وعذابه قال فأنا أضمن لك إن أعطيتني كذا من المال ورجعت الى دين آبائك فأتحمل عنك عذاب الله فرجع الوليد الى الشرك واعطى الذي عيره وتعهد له بعض الذي ضمنه له من المال ومنعه الباقي ثم وبخه الله بقوله «أَعِنْدَهُ» اي هذا الذي تولى «عِلْمُ الْغَيْبِ» بأن صاحبه يتحمل عنه ما يخافه من عذاب الله يوم القيامة «فَهُوَ يَرى 35» ما خفى عنه وهل يبصر شيئا من الغيب «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ» بخبر «بِما فِي صُحُفِ مُوسى 36» أسفاره وتوراته «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى 37» ما أمره به ربه من تبليغ الرسالة وبما فرض عليه فيها من التكاليف التي منها امتثاله الأمر بذبح ولده، قال عطاء بن السائب: عهد ابراهيم على نفسه ان لا يسأل أحدا غير الله فلما قذف في النار قال له جبريل ألك حاجة، قال أما إليك فلا، وفاء بعهده فأنجاه الله ثم أخبر الله عما في صحفهما فقال: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 38» اي لا تحمل نفس غير ذنبها كما لا تعاقب الا عليه راجع تفسير الآية 19 من سورة الأعلى المارة والمعنى لم يبلغه ذلك قبلا إذا كان لم يبلغه شيء من هذا المعنى الآن قال ابن عباس: كانوا قبل ابراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره فيقتلونه بأبيه وأخيه وامرأته وعبده وتعلقاته كما يفعل اعراب البادية الآن إذ جرت عادتهم أن يقتلوا الرجل أو أن يسلبوه بقتل او سلب أحد من أقاربه وكانت الجاهلية

قبل الإسلام تفعل هذا فما يقع الآن منه فهو من بقايا عوائدهم القبيحة فلا حول ولا قوة الا بالله، فنهاهم الله عن ذلك وبلغهم أمره بأن لا تؤاخذ نفس بدل نفس. مطلب ما هو موافق من شرع من قبلنا لشرعنا وما هو مخالف، وعوائد الجاهلية: وعلى هذا شرعنا الذي جاء به رسولنا وهو موافق لشرع جده ابراهيم ومؤيد له وقد مضى على نزول هذه الآية خمس وخمسون سنة وثلاثمائة والف وهي تتلى عليهم ليل نهار ولم يرتدع أولئك الأعراب عن هذه العادة الخبيثة وكان في صحفهما ايضا ما ذكره الله بقوله: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى 39» اي لا يثاب الإنسان بعمل غيره له كما لا يعاقب ولا يضاعف له الأجر كأنه محمد بل يعطي له أجره بحسب عمله فقط. وهذا مخالف لشريعتنا التي جاءنا بها محمد صلّى الله عليه وسلم إذ يضاعف لنا الأجر من واحد الى سبعمائة الى ما شاء الله وان سعى الغير لها ينفعها، قال تعالى (مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الآية 74 من الفرقان الآتية وقال (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) الآية 87 من سورة الأنعام من ج 2، وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية 20 من سورة الطور والآية 9 من سورة المؤمن من ج 2 أيضا، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية، 2 من سورة الرعد في ج 3، ومن هنا تعلم أن الله تعالى أدخل الأنبياء الجنة بعمل آبائهم الصالحين يؤيده ما ورد عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله ان أمي توفيت أينفعها ان تصدقت عليها قال نعم. وفي رواية ان سعد ابن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه، وأخرجه البخاري وفي هذا البحث أحاديث كثيرة صحيحة سنأتي بها هناك، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بالأحاديث المذكورة أعلاه لا وجه له لان الحديث لا ينسخ القرآن كما بيناه في بحث الشيخ في المقدمة وكما سيأتي في تفسير الآية 10 من البقرة من ج 3 ولأن هذه الآية مما قصه الله علينا من شرع من قبلنا وكل ما شرع للأنبياء أن كان موافقا لشرعنا قبلناه، وإلا فنعمل بما هو لدينا، لأن ذلك من خصائصهم والمقدم لا يسري حكمه على المؤخر قال تعالى «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى 40» يعرض عليه في الآخرة ويوضع

[سورة النجم (53) : الآيات 41 إلى 50]

في ميزانه وفي هذه الآية بشارة بأن الله تعالى يري المؤمن أعماله الصالحة ليفرح بها والكافر أعماله الطالحة ليحزن «ثُمَّ يُجْزاهُ» أي يجزى الإنسان بفعله «الْجَزاءَ الْأَوْفى 41» الأتم الأكمل ان خيرا فخير كثير وان شرا فشر مثله، راجع الآية 160 من سورة الانعام من ج 2 «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى 42» المرجع والمصير بعد هذه الدنيا إذ ينتهي كل شيء يوم القيامة اليه لا لأحد غيره، كما أن الأفكار لا تزال تسير في بدء حقائق الأمور وما هيأتها فتنتقل من بحث إلى بحث ومن برزخ إلى برزخ حتى إذا وصلت الى الله انتهت ووقفت وتعطل سيرها في بحر غيبه، لأن الغيب ما غاب عن الناس وتفرد به ربهم عز وجل إذ لا غيب عليه، ومن قال ان الله لا يعلم الغيب أراد هذا المعنى يعني لا غيب عليه لأن كل شيء عنده معلوم، غير. أنه لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة النفي عليه تعالى وتنزه عنه، حتى ان الإمام الرباني لما عرضت عليه هذه المسألة اغتاظ جدا لما فيها من النقص عليه، تنزه عنه، وعليه فإن من يقدم على هكذا أسئلة فإنه في غاية من الفتنة ونهاية من الجهل، وأفظع من هذا من يقول ان الله لا يقدر على أن يخرجني من ملكه في معرض سماعه ان الله على كل شيء قدير، لأنه وإن كان من حيث المعنى صحيح لأنه أينما قذفته فهو في ملكه، إلا أنه لا يقال لما في ظاهره من إيقاع الشك للجاهل، تدبر، وإياك أن تقدم على مثله. مطلب في الغيب وأنه قسمان: واعلم أن الغيب قسمان غيب حقيقي لا يعلمه إلا الله، وغيب اضافي قد يعلمه بعض الخلق بأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي، ومن أظهره الله على بعض الغيب الحقيقي من رسله فليس لهم كسب فيه لأنه من خصائص النبوة، والنبوة غير مكتسبة لأحد ولو رقى في العلم أعلى رتبة، راجع ص 421 إلى ص 469 من الجزء السابع وص 513 من الجزء التاسع في تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا المنسوب إلى الإمام محمد عبده. هذا ومن دون الأنبياء خواص قد أوتوا نصيبا من الإشراف على العالم باكتشاف للحجاب وإدراك ما بشيء من تلك

الأنوار قال صلّى الله عليه وسلم لو كشف الحجاب وفي رواية الغطاء ما ازددت يقينا، وذلك لأن الله تعالى شرح صدره فكان على نور من ربه بلغ به مقام الاطمئنان، ووقع لمن دونه في العرفان، رواية النور العيني عيانا ورأوا الملائكة، عدا أن جبريل كانت رؤيته في صورة دحية الكلبي ووقع لمن دون الآخرين ممن لهم سلامة فطرة أو معالجة النفس بالرياضة، أو طروء مرض يصرف قوى النفس عن الاهتمام بشهوات الجسد، أو من سلطان إرادة قوية على إرادة ضعيفة تصرفها عن حسها وتوجه قواها النفسية إلى ما شاءت أن تدركه لقوتها الخاصة بها، فقد يكون لبعض هؤلاء في بعض الأحوال من قوّة الروح ما يلمحون به بعض الأشياء أو الأشخاص البعيدة عنهم. وتتمثل لهم بعض الأمور قبل وقوعها في عالم الشهادة، فترتسم بخيالهم فيخبرون بها فنقع كما أخبروا، وقد ثبت هذا وذاك عند بعض الماديين في هذا الزمن مما يسمونه قراءة الأفكار، أو مراسلتها، ومن هذا ما ذكرت جريدة المقطّم في 1 صفر سنة 1354 (الموافق مايو سنة 1935) عن العرافة (مدام ترفران ليلى) أنّها قالت للوزراء والملوك والرؤساء بأنه سيقتل رئيس جمهورية فرنسا. ويعود كارول ملك رومانيا المنفي إلى بلاده، ويصير أحمد زوغو ملكا على ألبانيا، وبصير انقلاب في ألمانيا، ثم وقع ما قالت على علم من قبل الملأ. هذا وإن الأمور التي تكون على غير السنن المعروفة، والعادات المألوفة الخارقة للعادة، نقلتها جميع الأمم في كل العصور نقلا متواترا جنسا لا نوعا. فهذه ليست كلها خوارق حقيقية لأن منها ماله أسباب مجهولة، ومنها ما هو صناعي بتعليم خاص، ومنها ما هو من خصائص قوى النفس في توجهها لمطالبها. وفي تأثير قوى الإرادة على ضعيفها، ويدخل فيها المكاشفة والتنويم المغناطيسي وشفاء بعض المرضى بالأمراض العصبية التي يؤثر فيها الإعتقاد والوهم وبعض أنواع العمى والفالج. ومنه انخداع البصر بالتخيل الذي يحذقه المشعوذون، ومن هذا سحرة فرعون. ومنه انخداع السمع لمن يدعى استخدام الجن ويسمع الناس أصواتا غريبة، أو يتكلمون في بطونهم. فيظن الناس أنه صوت الجن، وقد انفضح كثير من أمثال هؤلاء بالاطلاع على حيلهم، فهذا كله لا يوثق

مطلب الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها:

به، لأنهم لو كانوا صادقين لتنافس فيهم الملوك، ولما كانوا سائلين، راجع المجلد 2 و 6 من المنار تجد ما تتبعته وتبتغيه. واعلم أن الذين يخضعون لهؤلاء الدّجالين ويجهلون ما كشفه العلماء من حيلهم فيسلبون أموالهم، ويهتكون أعراضهم، لا سيما الذين يدعون أنها كرامات وهم مشهورون بالجهل واللهو، والذين يدعون معرفة علم الكيمياء من قلب الصفر ذهبا والرصاص فضة، وغير ذلك من هذه الترهات المنشورة في الغرب أكثر منها في الشرق، فيجب على أولي الأمر تنويرهم وتفهيمهم. مطلب الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها: أما المشهورون بالصلاح والفقه والعلم فقد تظهر على أيديهم كرامات، لكن لا كسب لهم بها، كما ان المعجزات لا كسب للأنبياء بها، لأنها قد تكون عفوا من الله. والقاعدة أن كل ما جاز أن يكون معجزة للنبي، جاز أن يكون كرامة للولي. ولو كانت بكسب البشر لما خاف موسى من عصاه حينما تحولت حية، تأمل قوله تعالى «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» الآية 17 من الأنفال في ج 3، وقوله تعالى «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» الآية 92 من الإسراء الآتية، وقوله جل قوله (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) الآية 109 من الانعام في ج 2، وقد أخبر عمر رضي الله رجل بأنه رأى رجلا يعلم الغيب فقال له: لا يعلم الغيب إلا الله. وقال له: اقبض قبضة من شيء لا تعلم عدده واسأله عنها ليظهر لك كذبه، فذهب اليه وفعل ما أمره به عمر وسأله فلم يعرف عدده ولا نوعه، فرجع إلى عمر وأخبره الخبر فقال له: إذا كنت تعرف شيئا هو راسخ في قلبك، فيمكن أن يعرفه أمثال هؤلاء، إذ يوشك أن ينقله وسواسك إلى وسواسه في قلبه فيخربه. ومن هذا ما يسمونه بقراءة الافكار، ومن أراد أن يطلع على بعض حيل المشعوذين، فليراجع كتاب كشف أسرار المحتالين يجد فيه العجاب طهر الله قلوبنا من الزيغ ووفقنا لمعرفة عيوبنا. قال تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ» العبد بخلق ما يسره ويبهره «وَأَبْكى 43» عبده بخلق ما يسوءه ويحزنه، فأفرح

المؤمن في الجنة بثواب عمله الصالح في الدنيا، وأحزن الكافر في النار بعقاب عمله الطالح في الآخرة. روى البخاري ومسلم عن النبي قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فغطّى أصحاب رسول الله وجوههم لهم خنين بكاء مع صوت يخرج من الأنف- «وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ» خلقه في الدنيا بعد انتهاء آجالهم فيها «وَأَحْيا 44» من أماته في الآخرة بعد انقضاء أجلهم في البرزخ. وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه مثل أتى أمر الله بمعنى يأتي وأعقبه بالجملة قبله، لأن الموت يعقبه البكاء، والولادة أي الإحياء يعقبها الضحك، وقيل في هذا المعنى: ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا ... والناس حولك يضحكون سرورا فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا ... في يوم موتك ضاحكا مسرورا أي عند ربك بما قدمت من عمل صالح، راجع الآية 11 من سورة غافر في ج 2. قال تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ» راجع تفسيرها في الآية 3 من سورة الليل المارة، وكذلك ما يتعلق في قوله: «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 45» المخلوقين «مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى 46» تقذف وتنصب في الرحم (أما النبات فبالاختلاط والتلقيح ... ) وفي هذا تنبيه عظيم على قدرة القادر وعظمها وكمالها، لأن النطفة واحدة ويكون فيها أنثى وذكر بتقديره، وهذا مما لم يصل إليه الفهم ولم يتصوره العقل بعد، لأنهم حتى بعد تكوينه ووجوده في الرحم لم يعرفوا ما في الرحم هل هو ذكر أم أنثى؟ حتى ولا بعد تمام خلقه، لذلك كان في الخمس التي لا يعلمهن على الحقيقة إلا الله «وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى 47» الإحياء بعد الإماتة للحساب والجزاء كما كان عليه النشأة الأولى للعمل والثواب «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى» عباده من الذهب والفضة والجواهر، وصنوف الأموال، وإضراب الأعيان، مما يدخر ومما لا «وَأَقْنى 48» خلقه المذكورين من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير والبغال وسائر أصناف النعم والمواشي «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى 49» هي نجمتان الأولى شامية والأخرى يمانية وتفصل بينهما المجرة، فالأول كوكب يضيء خلف الجوزاء

[سورة النجم (53) : الآيات 51 إلى 60]

ويسمى العبور، والأخرى كوكب في ذراع الأسد المبسوط وتسمى العميصاء وهي أخفى من العبور، وسميت عبورا بفتح العين لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا، وكانت خزاعة تعبدها، وأول من سنّ لهم عبادتها شريفهم أبو كبشة لأن سيرها يخالف سير النجوم لأنها تقطع السماء طولا والنجوم عرضا فأخبرهم الله بأنه هو رب معبودهم، ولذلك لقب أبو جهل غضب الله عليه حضرة الرسول صلوات الله عليه بابن أبي كبشة، لأنه جاءهم على ما يزعم بدين على خلاف دينهم الذي اعتادت العرب عليه تشبها له به في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة، وإنما خص الله تعالى الشعرى بالذكر دون غيرها لهذا السبب. ويقول الفلكيون بأنها أعظم من الشمس بملايين وان نورها لا يصل إلى الأرض إلا بمدة اثنتين وعشرين سنة بيد أن نور الشمس يصل إلى الأرض في بضع دقائق ولا يخفى أن هذا من قبيل الظن لأن مبنى مذهبهم في تقدير النجوم وسيره على الحدس إذ غاية ما يعتمدون عليه المكبرات والقياس ولا يخلوان من خطأ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى 50) هم قوم هود عليه السلام وهم أول الخلق هلاكا بريح صرصر بعد قوم نوح عليه السلام وصار لهم عقب فسموا عادا الأخرى أهلكهم الله أيضا راجع تفسير الآية 6 من سورة الفجر المارة تجد قصتهم مفصلة (وثمود) قوم صالح عليه السلام أهلكهم بالصيحة «فَما أَبْقى 51» منهم أحدا «وَقَوْمَ نُوحٍ» أهلكهم بالغرق من قبل عاد وثمود «إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى 52» ممن تقدمهم من الأمم إذ بقي يدعوهم إلى الله تسعماية وخمسين سنة وهم مكبون على الطغيان لا يصغون لما اليه يدعوهم من الإيمان «وَالْمُؤْتَفِكَةَ» قرى قوم لوط عليه السلام «أَهْوى 53» أسقطها بعد أن رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء «فَغَشَّاها» من البلاء العظيم «ما غَشَّى 54» منه فيه تهويل وتفظيع للعذاب الذي صبه عليهم فكأنه ألبسها إلباسا راجع قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في تفسير الآية 58 فما بعدها من سورة الأعراف الآتية، وفي الآية 44 فما بعدها من سورة هود في ج 2، قال تعالى «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ» أيها الإنسان «تَتَمارى 55» تشك وتكذب لأنها نعم عظيمه لا تستطيع حصرها قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ

[سورة النجم (53) : الآيات 61 إلى 62]

اللَّهِ لا تُحْصُوها) الآية 34 من سورة ابراهيم من ج 2، فيا أيها الناس «هذا» نبيكم محمد «نَذِيرٌ» لكم بهذا القرآن «مِنَ النُّذُرِ الْأُولى 54» الذين أرسلوا الى أقوامهم لينذروهم بما أوحى إليهم ربهم من الشرائع فعليكم أن تطيعوه وتؤمنوا به ولا تتوانوا إذ «أَزِفَتِ» قربت الساعة «الْآزِفَةُ 57» أي القيامة الموصوفة بالقرب وانها إذ حضرت «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ 58» أي الحالة التي تقع فيها على الناس لا يقدر أن يزيلها عنهم أحد الا الله إذ كل نفس عاجزة عن ازاحة ما يصيبها ولا يعلم وقتها إلا الله، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان من ج 2، قال تعالى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) الآية 156 من الأعراف الآتية «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ» القرآن القديم المحدث نزوله عليكم في علم الله الأزلى «تَعْجَبُونَ 59» أيها الناس وتنكرون حقيقته «وَتَضْحَكُونَ» منه استهزاء به وبمن أنزل عليه «وَلا تَبْكُونَ 60» خشوعا وخوفا من منزله وتعرضون عما فيه من الوعيد «وَأَنْتُمْ سامِدُونَ 61» غافلون لا هون بما لديكم من الدنيا معرضون عن الآخرة. والسمود بلغة اليمن الغناء وفي اللغة رفع الرأس يقال سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في السير والسامد اللاهي، أي وأنتم لاهون عنه بالغناء غافلون عن سماعه بلعبكم، فتيقظوا أيها الناس وإذا آمنتم به «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» شكرا على إرسال واحد منكم من قبل ربكم لإرشادكم وهدايتكم لسبيله «وَاعْبُدُوا 62» الله وحده ولا تشركوا به شيئا مما يعبده المشركون الضالون المهلكون. مطلب في السجود وقصة الغرانيق: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قرأ سورة النجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش (هو أمية بن خلف) أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه الى جبهته وقال يكفي هذا، قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وروى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. والحكم الشرعي سجود التلاوة واجب عند الحنفية استدلالا بهذين الحديثين لأن الأمر في هذه الآية للوجوب وبه ت (14)

قال سفيان الثوري. وقال الشافعي وأحمد ومالك سنة استنادا لما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت قال: قرأت على رسول الله والنجم فلم يسجد فيها. وهذا لا ينفي الوجوب لأنه عبارة عن واقعة حال إذ يجوز ترك السجود لوقوع القراءة في وقت مكروه أو على غير وضوء لأنهم كانوا يقرأون القرآن عن ظهر الغيب لا بالمصاحف تلقيا وحفظا من رسول الله أو أن الرسول لم يسجد ليبين للناس أن السجود غير واجب على الفور، وهذا محمل حديث عمر المروي في الموطأ من أنه رضي الله عنه قرأ سجدة وهو على المنبر فلما نزل سجد وسجد معه الناس ثم قرأها في جمعة أخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا ان نشاء، فلم يسجد، ومعنى هذا أن الله لم يفترضها كالصلوات الخمس ولم يوجبها حالة قراءتها ولو أوجبها حالا لما جاز أن يقرأها أحد عن ظهر غيب إلا وهو متوضئ. هذا، ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع ص 414 من الجزء الأول من الهداية. والسبب في سجود المشركين أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يرتل القرآن ويفصل الآي أي يسكت سكتة خفيفة بين الآيتين، ولما قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إلخ بمحضر المسلمين وقريش، ترصد الشيطان تلك السكتة فدسّ فيها ما اختلقه وهو جملة (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى) محاكيا بها صوت النبي صلّى الله عليه وسلم فسمعه ممن دنا من الكفار فظنوها من الرسول ورأوه قد سجد هو ومن معه من المؤمنين فسجدوا معه، سرورا بذكر آلهتهم وشاع الخبر في الآفاق حتى ان المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة أوائل سنة خمس من البعثة سنة نزول هذه السورة عادوا فرأوا الأمر على خلاف ما سمعوا فمنهم من دخل بجيرة غيره ومنهم من اختبأ ومنهم من عاد لهجرته، ولما عرف رسول الله ذلك حزن وضاق، فأنزل الله عليه مساء ذلك اليوم تسلية له وتعزية عما لحقه من الأسف قوله جل قوله «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» الآية 52 فما بعدها الى 55 من سورة الحج من ج 3، ومعنى تمنى قرأ، قال حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنهما حين قتل وهو يقرأ:

تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر وقال غيره: تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل ومعنى «فِي أُمْنِيَّتِهِ» قراءته كما سيأتي في تفسير تلك الآيات في محلها ان شاء الله، ولهذا ظن بعض المفسرين أن سورة الحج مكية والحال أنها مدنية عدا هذه الآيات، ولما تحقق عند حضرة الرسول ذلك أخبر المسلمين وقريشا بأن تلك الكلمات من الشيطان القاها أثناء سكوته بين الآيتين، أما من قال ان تلك الكلمات صدرت عن حضرة الرسول فقد أخطأ وزاغ، لأنه إذا قال تكلم بها عمدا فقد كفر لأنه يعد مادحا للأصنام التي ذمها الله وبعثه لأجل تحطيمها ومنع الناس من عبادتها فكيف يتصور منه مدحها؟ وإذا قال أجراها على لسانه سهوا أو غفلة فمردود لأنه لا يجوز وجود الغفلة والسهو حال تبليغ الوحي لأنه يسبب عدم الاعتماد على قوله ولأن الله تعالى وصف القرآن بقوله «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» الآية 42 من سورة فصلت ج 2 وقال جل شأنه «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» الآية 9 من سورة الحجر من ج 2 أيضا فعليه لا يجوز أن يدخل في التزيل شيء من ذلك، وإذا قال ان الشيطان أجرى تلك الكلمات على لسان الرسول جبرا بحيث لا يقدر أن يمتنع منه فهو ممتنع أيضا لأن الشيطان عاجز عن ذلك في حق الغير فكيف في حق الرسول، وقال تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الآية 65 من سورة الإسراء الآتية وقال (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية 40 من سورة الصافات الآتية أيضا، إذا لم يبق الا ان حضرة الرسول سكت عند قوله تعالى «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» كما هو شأنه بين الآيات فتكلم الشيطان بتلك الكلمات متصلا بقراءته فوقع عند البعض أن النبي تكلم فيها وهذا معنى الإلقاء في هذه الآية المارة الذكر من سورة الحج، ولا يخفى أن الشيطان كان زمن الرسول ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يظهر بصورة الإنسان ويتكلم ويسمع كلامه كسائر البشر كما هو ثابت في الكتب القديمة وفي حادثة قريش

حينما اجتمعوا في دار الندوة للتداول في كيفية التخلص من حضرة الرسول كما سنبينه في تفسير الآية 41 من سورة العنكبوت في ج 2، وفي تفسير الآية 30 من سورة الأنفال ج 3، وقد ذكر الله عنه بأنه قال يوم بدر لكفار قريش (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إلخ) الآية 51 من سورة الأنفال أيضا. وروي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدا قتل، كما سيأتي في الآية 122 من آل عمران في ج 3 أيضا. أما سجود المسلمين فلم يقدح فيهم لأنهم سجدوا مع حضرة الرسول لتحققهم من حاله في ذم الأوثان وأنهم كانوا يحفظون السورة عند تلقيها منه كما أنزلها الله ولم يسمعوا تلك الكلمات لذلك لم يأت ذكرها في الحديثين المارين وأن ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم لما تولى عنه قومه وشق عليه بعدهم تمنى أن يأتيه الله بما يقارب بينه وبينهم حرصا على إيمانهم وأنه لما قرأ سورة والنجم بينهم القى الشيطان على لسانه تلك الكلمات فلا عبرة به حيث رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا لا يعتمد عليه ولم يؤيده أحد من أهل الصحة ولا لسنده ثقة بسند صحيح أو سليم متصل. ومما يدل على توهين هذه الرواية اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها، لأن منهم من قال أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في الصلاة ومنهم من قال أنه كان في نادي قومه وآخر يقول أنه قرأها في حالة سنة من النوم، وغيره يقول أنه حدث بها نفسه، فجرت على لسانه، والبعض قال ان الشيطان قالها على لسانه أو بعض الكفرة تكلم بها أثناء قراءته حتى ظنوها منه، وبعضهم قال انه لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا اقرأتك، مما يدل على تلفيق هذه القصة ولا غرو أن كثيرا من المفسرين والمؤرخين ولعون بنقل كل غريب شاذ، لذلك فانهم ينقلون هذين النوعين بلا ترو لينقل عنهم هكذا مخالفات على حد خالف تعرف. واعلم أن التمني ينحصر في معنيين لا ثالث لهما بمعنى حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأخير لا شيء فيه كما علمت، وعلى الأول يكون معنى تمنى خطر بباله وتمنى بقلبه ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة، الا أنه يستحيل وقوعه من النبي في كل ما يتعلق بأمر تبليغ الوحي بدليل ما مر

تفسير سورة عبس عدد 24 - 80

من الآيات المستشهد بها أعلاه، وإذ قامت الدلائل على صدقه صلّى الله عليه وسلم فضلا عن أن الأمة أجمعت على أنه معصوم من الإخبار بخلاف الواقع من قبل الله لا قصدا ولا سهوا ولا غلطا ولا نسيانا ولا خطأ، كيف وقد قال تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) الآية 3 المارة، وعلى هذا فلا يجوز ذلك عليه إلا زنديق مارق منافق خائن لا حظ له في الآخرة إلا النار، ولا نصيب له في الدنيا إلا العار هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين. تفسير سورة عبس عدد 24- 80 نزلت بمكة بعد سورة والنجم، وهي اثنتان وأربعون آية، ومائة وثلاثون كلمة وخمسمائة وثلاثون حرفا لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به، ويوجد ستة سور في القرآن بدئت بالفعل الماضي هذه والنمل والأنبياء والفرقان والملك والمعارج. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «عَبَسَ» تقطب واكفهر وجه الرسول المرسل إليكم أيها الناس «وَتَوَلَّى 1» أعرض وأدبر من «أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى 2» عبد الله بن شريح بن مالك بن أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله المخزومي «وَما يُدْرِيكَ» يا حبيبي «لَعَلَّهُ» ذلك الأعمى الذي لم تعبأ به ولم تلق له بالا «يَزَّكَّى 3» من دون الكفر بما يتعلمه منك فيطهر بطهارة الإيمان «أَوْ يَذَّكَّرُ» بمواعظك القيمة المنزلة إليك من قبلنا «فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى 4» التي يتلقاها منك من وحينا فيكون خيرا من هؤلاء الذين اشتغلت بهم عنه وهم المعنيون بقوله تعالى «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى 5» بماله وعشيرته عن الإيمان بك والانقياد لما تتلوه من الذكر «فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى 6» تنقصد الإقبال عليه والإصغاء لقوله مكبا بكلك اليه ومجهدا نفسك به حرصا على إيمانه «وَما عَلَيْكَ» فرض والتزام «أَلَّا يَزَّكَّى 7» من شركه فيطهر ويهتدي للايمان وانما عليك تبليغه وإنذاره فقط قال تعالى: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) الآية الاخيرة من سورة ق الآتية

[سورة عبس (80) : الآيات 11 إلى 20]

وقال تعالى (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الآية 22 من الغاشية في ج 2، «وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى 8» كهذا الأعمى «وَهُوَ يَخْشى 9» الله واليوم الآخر طائعا مختارا راغبا راهبا «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى 10» بغيره ومتشاغل عنه بهم وهم يظهرون الاستغناء عنك «كَلَّا» لا تعد لمثل هذا أبدا كيف تقبل على الخطير وتعرض عن الحقير فكم من حقير عند الله لا يوازيه الف خطير في المنزلة واعلم يا أكمل الرسل «إِنَّها» الآيات المنزلة عليك من لدنك «تَذْكِرَةٌ 11» عظيمة للناس أجمع لا يختص بها إلا من شملته العناية ولا يعرض عنها إلا من سخط عليه «فَمَنْ شاءَ» أن يتعظ بها ويؤمن بك وبربك «ذَكَرَهُ 12» أي ذكر الله ربه منزلها بإلهام منه فاهتدى وهذه الآيات المعبر عنها بالتذكرة مدونة عند الله «فِي صُحُفٍ» عظيمة جليلة «مُكَرَّمَةٍ 13» على الله الكريم والتنوين فيها يدل على التفخيم ولذلك وصفها بقوله (مَرْفُوعَةٍ) القدر عالية الاحترام «مُطَهَّرَةٍ 14» مقدسة لا يمسها هناك إلا المطهرون من الملائكة الكرام كما أنه لا يمسها في الدنيا إلا المطهرون من البشر كما سيأتي في الآية 79 من سورة الواقعة الآتية «بِأَيْدِي سَفَرَةٍ 15» جمع سفير وذلك أنه عند ما يأمر الله بايجاد شيء منها بوحيه بأن يأمر هذا النوع من الملائكة فيسفرون به بين الله ورسله فيكونون كالسفير بينهما وقد أنشد: وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي يغش إن مشيت ويقال لكتبة الوحي سفرة أيضا وللكاتب سافر، لأنه يسفر بكتابته عن الأحوال التي يكتبها أي يبينها ويكشفها (كِرامٍ) على الله هؤلاء «بَرَرَةٍ 16» أنقياء بارين طائعين لا يخالفونه قيد شعرة، بل لا يعرفون المخالفة وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلّى الله عليه وسلم بينما كان يدعو أشراف قريش إلى الإسلام ويناجيهم أتاه ذلك الأعمى وقال له علمني يا رسول الله مما علمك ربك وهو مدبر عنه ومقبل على أولئك والأعمى لا يدري بتشاغله في غيره فصار يكرر النداء عليه فكره الرسول قطعه لكلامه وقطب وجهه وأعرض عنه وقال في نفسه لعلي إذا أقبلت عليه

[سورة عبس (80) : الآيات 21 إلى 30]

وتركتهم يقولون ما قاله أحزابهم من الصناديد ما تبعه إلا الصبيان والسفلة فصد عنه وأقبل على أولئك يكلمهم، فأنزل الله هذه الآيات يعاتبه فيها، فكان كلما رآه يكرمه ويقول له مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين وهو من المهاجرين الأولين وقتل شهيدا في القادسية وواراه أنس وعليه درع ومعه راية سوداء ودفن بدمشق وقبره معروف حتى الآن. ثم أنزل الله في عتبة بن لهب وأضرابه كأمية ابن خلف المتعصبين بالكفر (قُتِلَ الْإِنْسانُ) الذي لم يؤمن بالله ولم يطع رسوله «ما أَكْفَرَهُ 17» ما أشد تعنته بالكفر تعجبا من عناده مع كثرة إحسان الله اليه وهي عامة في كل كافر متصلب في كفره، ثم بين الله من أمر هذا الكافر وما ينبغي له أن يعلم «مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ 18» الله فإذا علم ذلك كان عليه أن يؤمن به لخلقه على الأقل، ثم فسر ماهية خلقه بقوله (مِنْ نُطْفَةٍ) نقطة دموية قليلة حقيرة وهي عبارة عن بعض ماء الرجل المختلط ببعض ماء المرأة فمن هذا (خَلَقَهُ) فسواه بشرا سويا «فَقَدَّرَهُ 19» على ما أراد من مخلوقاته وعلى أنواع كثيرة من المصنوعات وعلى الخط والكتابة والقراءة وفضّله على كثير من خلقه وأكرمه بأنواع كراماته «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ 20» له فسهل عليه خروجه من بطن أمه أولا ويسر له سلوك الطريق الموصل اليه ويسره لما خلق له من عمل ورزق مدة حياته (ثُمَّ أَماتَهُ) بأجله المحتوم بعد استيفاء ما قدره له في الدنيا «فَأَقْبَرَهُ 21» في الأرض التي خلق أمله منها وتكونت منها نطفته وقد أمر بدفنه كرامة له فلم يجعله كالبهائم تطرح للوحوش ومن فعل معه هذا الفعل بحياته ومماته جدير بأن يطيعه ولكن الإنسان كفور «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ 22» أحياه للحساب والجزاء بالوقت المقدر لبعثه بعد انتهاء الوقت المقدر له في برزخه (كلا) ردع وزجر لذلك الإنسان المتكبر المتجبّر المترفع المصر على الكفر وإنكار البعث وهو «لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» ربه من الإيمان به ولم يؤد ما افترضه عليه ولم يقم بشكر ما أنعم به عليه ولم يف بعهده الذي أخذه عليه في عالم الذر كما سيأتي في الآية 172 من الأعراف الآتية وبقي على حالته تلك من حين ولد إلى أن مات، ثم أنه

[سورة عبس (80) : الآيات 31 إلى 40]

تعالى بعد أن بين له ذلك وعلم أنه لم ينجع به ذكره بما لا بدّله منه في دنياه لعله يعتبر فقال «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ 24» كيف يسره له وكيف يأكله وكيف يبقي ما فيه حياته وينتفع به وجوده ويخرج منه فضلاته التي لو بقيت أهلكته وكيف علمه الضار منه فاجتنبه والنافع فأكله مما يحار به العقل، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول عند خروجه من المستراح الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ثم بين كيفية خلق طعامه فقال «أَنَّا» نحن الإله المنفرد في ملكوته «صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا 25» من السماء على الأرض لتنعش وتربو «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا 26» بالنبات والأشجار الخارجة، ثم بين جل شأنه ثمانية أنواع من النبات فقال «فَأَنْبَتْنا فِيها» أي الأرض بسبب ذلك الماء «حَبًّا 27» يتغذى به الإنسان والحيوان مختلفا لونه وشكله وطعمه ويفيد التنوين التعميم بما يشمل الحنطة والذرة والشعير والعدس وغيرها «وَعِنَباً» يتفكه به كسائر الفواكه الأخرى، لأنه ذكر أمهات الأشياء اكتفاء عما يتفرع عنها «وَقَضْباً 28» في كل ما يقضب ويقطع مرة بعد أخرى كالبقدونس والنعنع والفصة فانها كلما حصد شيء منها ظهر بدله والقضبة الرطبة فإذا يبست تسمى قثا، وقال بعض المفسرين القضب كل ما يعلف للدواب وهو جدير لولا أن تأتي كلمة الأب بعد، فهي أولى بهذا المعنى وهو من خصائص الحيوان لأن الله تعالى ذكر أولا ما يخصّ الإنسان وقد عطف عليه قوله «وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا 29» وهاتان الشجرتان أكثر نفعا من غيرهما لأنهما فاكهة وإدام ويؤكل ثمرهما رطبا ويدخر أيضا «وَحَدائِقَ» جنات وبساتين عظيمة منافعها «غُلْباً 30» غلاظ أشجارها ملتفة على بعضها ثم عمم فقال «وَفاكِهَةً» من كل يتفكه به الإنسان من تفاح وخوخ وإجاص وكمثرى وسفرجل ومشمس وغيرها «وَأَبًّا 31» من كل نبات وشجر وحب يتغذى به الحيوان ويتملح به يابسا أو أخضر وما قيل أن الأب بلغة الحبشة الفاكهة وفسرها بها فغير سديد لانها تكون مكررة إذ ذكرت الفاكهة قبله قال تعالى: وجعلنا هذه النباتات «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ 32» الأب خاصة فاشكروا نعمة الله عليكم أيها الناس لأنّا نمتعكم بذلك كله وغيره متاعا زائلا

[سورة عبس (80) : الآيات 41 إلى 42]

سريع الاضمحلال «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ 33» صيحة القيامة وسميت صاخّة لأنها تصخ الآذان لشدتها وهذه هي الصيحة الثانية بدليل قوله «يَوْمَ» يوم مجيئها «يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصاحِبَتِهِ» زوجته لملازمتها له أكثر من غيره «وَبَنِيهِ 36» لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا إذ ذاك ولا يخففون عنه ما أثقل ظهره من الذنوب لهذا لا يلتفت إليهم، وهم أيضا لا ينظرون اليه لأنهم لا يتوخون منه نفعا في ذلك اليوم إذ «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تكون الصّيحة «شَأْنٌ يُغْنِيهِ 37» عنهم أيا كانوا لشدة الهول والفزع ويشغله عن التواد الذي كان في الدنيا. أما الصيحة الأولى فلا يكون فيها الا موت الخلائق أجمع روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: تحشرون حفاة عراة عزلا فقالت امرأة أينظر أحدنا أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال يا فلانه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وأخرج بن مردويه والبيهقي مثله وصححه الحاكم وأن السائلة سودة بنت زمعة أم المؤمنين وجاء في رواية الطبراني عن سهل ابن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام ما شغلهم؟ فقال نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل! ثم ذكر الله تعالى حال الخلائق المكلفين وبدأ بالسعداء فقال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ 38» مضيئة مشرقة من آثار أعمالها الصالحة في الدنيا كغبار الجهاد ومعاملة الناس بالحسنى وآثار الصوم والصلاة والزكاة والصدقة وقيام الليل مستنيرة من آثار السجود والوضوء وغيرها فهي «ضاحِكَةٌ» سرورا وفرحا بثواب الله «مُسْتَبْشِرَةٌ 39» بكرامة الله لها ورضوانه بعد الحساب ثم ذكر أهل الشقاء أجارنا الله منهم وجعلنا من السعداء. بقوله «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» أني بعد الفراغ من الحساب تراها منكمشة «عَلَيْها غَبَرَةٌ 40» تعارها والعياذ بالله فتصيرها كدرة مائلة إلى السواد «تَرْهَقُها» تغشاها فتدركها عن قرب بسرعة هائلة «قَتَرَةٌ 41» ظلمة كالدخان فلا يرى أوحش منها لاجتماع العبرة والدخان عليها «أُولئِكَ» الذين صنع بهم ذلك من كشف وجوههم وتغيرها «هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ 42» لأنهم جمعوا في الدنيا بين الكفر والجحود فجمع الله عليهم في الآخرة

تفسير سورة القدر عدد 25 - 97

الغبرة والقترة، هذا، والله أعلم، واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين صلاة وتسليما إلى يوم الدين. تفسير سورة القدر عدد 25- 97 نزلت بمكة بعد عبس، وهي خمس آيات وثلاثون كلمة، ومائة واثنتان وعشرون حرفا، ويوجد في القرآن سورتا الكوثر ونوح بدأتا بما بدأت به هذه السورة ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» أي القرآن العظيم وعود الضمير إلى غير مذكور جائز إذا كان معلوما كما هنا، وقدمنا البحث في هذا عند الآية 10 من سورة النجم المارة وفي التعبير بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيما له وتفخيما بعلو شأنه باعتباره كأنه حاضر عند كل أحد، وكان هذا الإنزال جملة واحدة في اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا «فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1» العظيمة عند الله وسميت بذلك، لأن الآجال والأرزاق والأحكام والأمور كلها مما يكون في السنة التي هي فيها إلى مثلها من السنة الأخرى يقدرها فيها أي يظهر تقديرها وما يقع فيها إلى الملائكة ويأمرهم بإنقاذه وإلا فهو جل جلاله عالم فيها قبل في الأزل قيل للحسين ابن الفضيل أليس قد قدر الله المقادير قبل خلق السموات والأرض قال نعم قال فما معنى ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير الى المواقيت وتنفيذ القضاء والقدر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وهي ليلة سبع وعشرين من رمضان كما تقدم في بحث نزول القرآن في المقدمة، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها وتعيينها أعرضنا عن إثباتها لمعلوميتها وقد استدل العلماء على كونها ليلة السابع والعشرين بان كلماتها إلى كلمة هي سبع وعشرون وبعضهم بحروفها إي حروف كلمة ليلة القدر المكرمة فيها ثلاث مرات لأنها أيضا سبع وعشرون حرفا ولكل وجهة، ثم أشار الله تعالى منوها بتعظيمها بقوله «وَما أَدْراكَ» يا سيد المرسلين «ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ 2» استفهام على سبيل التعظيم والتبجيل والتفخيم والتكريم تنويها بفضلها أي لن تبلغ درايتك أيها الإنسان الكامل ما هي لما قدر فيها الإله لعباده من الخير والفضل

وقد جاء في الحديث من أدرك أي من رأى ليلة القدر فليقل اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني، وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت كان رسول الله يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. وروى مسلم عن رزين بن حبيش قال سمعت أبي بن كعب يقول (وقيل له إن عبد الله ابن مسعود يقول من قام السنة فقد أصاب ليلة القدر) قال أبي والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ولا يتسنى فو الله اني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها وهي ليلة سبع وعشرين وامارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها لا شعاع لها وهذا أصح ما ورد فيها قالوا والحكمة في اخفائها احياء الليالي الكثيرة لمن يريدها حرصا على أن يخطىء بها كما أخفيت الصلاة الوسطى للمحافظة على سائر الصلوات وأخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة ليستغرق أبعد نهارها بالدعاء أملا بمصادفتها ليسأل ربه ما يسأله فيها وليعلم أن رضاء الله تعالى في الطاعات لترغيب الإنسان بفعلها ليثيبه عليها وان غضب الله في المعاصي ليرهب الناس فيجتنبوها ليرضى عليهم قال تعالى «لَيْلَةُ الْقَدْرِ» يكون العمل فيها «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ 3» خالية منها ليقوموها فيحصل لهم الاجر المترتب على إحيائها وسبب نزولها ما قاله ابن عباس ذكر لرسول الله رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله الف شهر فتعجب وتمنى ذلك لأمته فقال يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها أعمالا فأعطاه الله تبارك وتعالى ليلة القدر، فقال ليلة القدر خير من الألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك الى يوم القيامة وهي عبارة عن ثلاث وثمانين سنة واربعة أشهر، فالعمل الصالح ليلة القدر يعدل هذه المدة كلها وما جاء بأن هذه السورة وسورة الكوثر نزلتا حين رأى رسول الله بني امية على منبره فساءه ذلك فهو غير صحيح والحديث الوارد فيه قال عنه المزني انه منكر والدليل على عدم صحته ان هاتين السورتين مكيتان ولم يكن بمكة منبر قبل الهجرة ولا قبل الفتح، وانما اتخذ المنبر بالمدينة بعد نزولهما بسنين كثيرة، ثم بين الله تعالى

سبب ارتفاع فضلها بقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ» جبريل عليه السلام أو نوع من الملائكة تدعى بهذا الاسم، وهم ذوات مخلوقة خفية من عالم القوى التي عجز البشر عن ادراكهم وهي تنجسد وتتشكل عند الاقتضاء، وان الإيمان بهم فرض وكذلك الجان كما سيأتي في الآية 37 من سورة عمّ من ج 2، ينزلون الى سماء الدنيا «فِيها» في ليلة القدر وهذا النزول يكون «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» وقيد بالإذن تعظيما لأمر تنزلهم والا لا يكون الا بإذنه قال تعالى «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» الآية 67 من سورة مريم الآتية وإشارة لرغبتهم في أهل الأرض واشتياقهم لرؤية ثواب طاعتهم واستماع حنين الذاكرين وأنين العاصين منهم وقد جاء في الحديث القدسي: لأنين المؤمنين أحب الى من زجل المسبحين «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ 4» أي أن نزولهم لأجل كل أمر يتعلق به التقدير في تلك السنة من قضاء الله وقدره وهذه الليلة المباركة «سَلامٌ هِيَ» على أولياء الله وأهل طاعته من كل ما يخافون ويرهبون. لما كانت الملائكة رأت أفعال الجن وافسادهم في الأرض وقالوا لربهم حينما قال لهم «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» الآية 30 من البقرة من ج 3، وظهر لهم الأمر بخلاف ما قالوه نزلوا باستيذان من الله الى أهل الأرض ليسلموا عليهم ويعتذروا منهم ويستغفروا لهم جاء في الحديث الذي رواه أنس أن رسول الله قال إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كيكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل ويكون هذا دأبهم «حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ 5» من ليلتها، فعلى الراغب بذلك أن يقوم تلك الليلة المباركة ليحظى بما من قدر له فيها الثواب العظيم المعلق على القيام فيها فأين الطالبون لنفحات الله أني الراغبون لعطائه هذا والله أعلم. هذا، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

تفسير سورة والشمس 26 - 91

تفسير سورة والشمس 26- 91 نزلت بمكة بعد القدر، وهي خمس عشرة آية، وأربع وخمسون كلمة، ومائتان وسبعة وأربعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «وَالشَّمْسِ» القرص المعهود «وَضُحاها 1» الوقت المعلوم لأن فيه زيادة ضوئها وقيام سلطانها «وَالْقَمَرِ» المستفاد نوره منها بدليل قوله «إِذا تَلاها 2» تبعها لأنه دائما يكون بمقابلتها تخلفه ويخلفها أنظر رعاك الله أي فلكي أخبر محمدا صلّى الله عليه وسلم أن أول شيء تكون من الأجرام هو الشمس حتى أقسم الله بها، ثم أقسم بما يكون بعدها لأن هذه الأمور لم تعرف إلا بعد نزول هذا القرآن ولم يسبق أي نقل فيها عن أحد قبله فهو الذي نور قلوب الناس وعقولهم، فيجب علينا نحن المؤمنين أن نتمسك به ونجيل النظر في معانيه وما يرمي اليه بإمعان لا نظرا سطحيا وأن نلازمه ونجول حول حرمه ليمنّ الله علينا بالوقوف على بعض مغازيه النافعة لنا دينا وأخرى قال تعالى «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها 3» أي الشمس فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار وتنجلي فيه ظلمة الليل حيث يغشاه ضياؤه بظهور الشمس «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها 4» أي الشمس إذ بغيابها يظلم الأفق ويبسط الظلام سلطانه «وَالسَّماءِ وَما بَناها 5» قال بعض المفسرين آثر ما، على من، في هذه الآية لارادة الوصفية تفخيما أي والقادر العظيم الذي بناها «وَالْأَرْضِ. وَما طَحاها 6» دحاها وبسطها من كل جانب ودحاها ومهدها لمنافع الخلق والإنس أن يقال جيء بما في هاتين الآيتين بدل من لتفيد المصدرية ويكون المعنى والسماء وبنائها ومعنى البناء هنا الخلق. مطلب كون السماء مبنية والقوى البشرية: وظاهر لفظ البناء يدل على أن للسماء جرما وهذا كاف للرد على من يقول أن السماء خلاء تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، كيف وقد قال الله (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الآية 57 من سورة غافر من ج 2. فإذا كانت خلاء كما يزعمون فليست بأعظم من خلق الناس إذ لا أعظم من خلقه

[سورة الشمس (91) : الآيات 11 إلى 15]

إلا خلقها، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية المذكورة والآية 47 من سورة الذاريات من ج 2 أيضا فراجعها، قال تعالى «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها 7» أبدعها وأنشأها وعدل أعضائها وسوى خلقها على غير مثال سابق في أحسن صورة هذا على جعل ما مصدريه، لا وصفيه، وهو الصواب ويجوز أن تجعل ما، بمعنى من، وعليه فتقول والذي سواها والذي بناها والذي طحاها وهكذا، ونكّر لفظ النفس للتكثير ولتشمل آدم ومن بعده إذا أريد بالنفس الجسد، وإذا أريد بها المعنى القائم بالجسد فيكون معنى سوّاها أعطاها القوى الكثيرة كالناطقة والسامعة والشامة واللامسة والذائقة والمخيلة والمفكرة والمدبرة والحافظة والباصرة وغيرها من القوى التي أودعها الله فيها ليفكر الإنسان في آلاء الله ويتدبر في مصنوعاته ويعقل كيفية مخلوقاته، هذا ومعنى قوله تعالى «فَأَلْهَمَها» أي فهم أو علم تلك النفس ما يضرها وينفعها وبين لها الحالتين اللتين يؤول الإنسان الى أحدهما «فُجُورَها» وما يؤول اليه من العذاب وثانيتها «وَتَقْواها 8» وما يوصل اليه من الثواب بحيث عرّفها ما تأتي وما تذر وما تأخذ وما تتقي وعاقبة كل من ذلك روى مسلم عن جابر قال جاء سراحة بن مالك بن خثعم فقال يا رسول الله بيّن لنا ربنا أمر ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما يستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. راجع تفسير الآية الأولى من سورة القلم المارة فيما يتعلق بها. وروى مسلم عن جابر بمعناه من طريق آخر هذا وقد أقسم الله تعالى في هذه الأشياء لعظم شرفها وجريان منافعها للخلق وما فيها لمصالحهم وجواب القسم «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها 9» أي فاز وسعد من طهّر نفسه وأصلحها من درن الذنوب ووسخ العيوب «وَقَدْ خابَ» خسر «مَنْ دَسَّاها 10» دنسها بالمعاصي وأفسدها بالكفر وأغواها بالملاهي فأهلكها وأتلفها، روى مسلم عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله يقول اللهم أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم اني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن دعوة لا تستجاب ثم طفق على شأنه يقص على بنيه شيئا من أخبار

الأمم الماضية ليعظ قومه ويحذرهم من مخالفته ويرغبهم بطاعته، فقال «كَذَّبَتْ ثَمُودُ» قوم صالح عليه السلام «بِطَغْواها 11» عليه وتكذيبهم له بعد أن أظهر لهم الناقة التي طلبوها منه معجزة على صدقه «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها 12» قام مسرعا لعقر الناقة أشقى قومه وهو قدار بن سالف، روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن أبى زمعة أنه سمع رسول الله يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال: انبعث لها رجل عزيز منيع في أهله مثل أبي زمعة ولفظ البخاري عارم أي شديد ممتنع (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ) صالح عليه السلام احذروا «ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها 13» لا تعقروها ولا تتعرضوا لها بسوء ولا لمائها في نوبتها ولا تقربوه. وذلك ان الله أمر صالحا أن يجعل الماء الموجود في قريتهم يوما لهم ويوما لها، وأضافها لجلالته تشريفا كبيت الله (فَكَذَّبُوهُ) بما أخبرهم عن ربه من قسمة الماء ولم يكتفوا بمنعها حتى عمدوا إلى الناقة (فَعَقَرُوها) نسب العقر لهم مع أن العاقر واحد لموافقتهم على عقرها قال تعالى (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) الآية 29 من سورة القمر الآتية ولما لم يلتفتوا إلى نهي نبيهم استأصلهم بعذابه المنوه به بقوله (فَدَمْدَمَ) دمر وأطبق العذاب (عَلَيْهِمْ) جميعهم لرضاهم بفعل العاقر والراضي بالشيء كفاعله فأهلكم كلهم (رَبُّهُمْ) لمخالفته امره وتكذيبهم لنبيه (بِذَنْبِهِمْ) الذي اقترفوه عمدا وعدوانا وقصدا «فَسَوَّاها 14» سوى قراهم بالأرض وعمهم بالدمدمة فلم يفلت منهم أحد «وَلا يَخافُ عُقْباها 15» ولا تبعتها كما يخاف الملوك عاقبة أفعالهم لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وستأتي القصة مفصلة في الآية 72 من الأعراف الآتية هذا ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به هذه السورة من الألفاظ. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلّى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلم.

تفسير سورة البروج عدد 27 - 85

تفسير سورة البروج عدد 27- 85 نزلت بمكة بعد سورة والشمس، وهي اثنتان وعشرون آية، ومثلها في عدد الآي المجادلة فقط، ومائة وتسع كلمات، واربعمائة وخمسة وستون حرفا، ويوجد سورة الطارق مبدوءة بما بدئت به ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ 1» القصور الاثني عشر ستة منها شمالية، ثلاثة ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وابتداء الحمل من الاعتدال الربيعي وثلاثة صيفية: السرطان والأسد والسنبلة وابتداء السرطان من نقطة الانقلاب الصيفي والشمال يسار القبلة، وستة جنوبية ثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس وابتداء الميزان من الاعتدال الخريفي، وثلاثة شتائية: الجدي والدلو والحوت وابتداء الجدي من الانقلاب الشتوي والجنوب يمين القبلة فتكون السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم وهي مدة دخول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من تلك البروج، وكل برج ثلاثون درجة فمجموعها ثلاثمائة وستون درجة، كل درجة بمقدار أربع دقائق، ومجموعها أربع وعشرون ساعة وأن الشمس تقطع هذه البروج كلها مرة في السنة كل برج في شهر، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمان وعشرين يوما وكسور، وسيأتي تفصيلها عند تفسير الآية 39 من سورة يس الآتية ومعناها لغة القصر، والحصن وأصله الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لظهوره ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وشبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها والمراد بها هنا اجزاء الفلك الأعظم المسمى بالفلك الأطلس وفلك الأفلاك، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع، لكنها لم تكن ظاهرة حساد لّوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة أي الاثني عشر برجا المار ذكرها لأنها في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت أو بالكرسي بلسان الشرع على ما زعموا، فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من أثنى عشر جزءا من الفلك الأعلى سامته صورة الحمل من الثوابت وقت

التقسيم وبرج الثور كذلك مسامتة صورة الثور منها في ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت اليوم الحمل برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا، وطول كل برج ثلاثون درجة وعرضه مائة وثمانون درجة منها تسعون في جهة الشمال، وتسعون في جهة القبلة. وقال مجاهد وعكرمة وقتاده المراد بالبروج النجوم. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله حديثا بلفظ الكواكب وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنها النجوم والكواكب العظام والأول أولى وأنسب بالمقام، وقد أقسم الله بها لما فيها من عظيم حكمته ومرور الكواكب السيارة فيها ومسيرها على قدر معلوم لا يختلف أبدا إلى حلول اليوم المعلوم «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ 2» لخرابها وبعث الخلق وحسابهم وجزائهم «وَشاهِدٍ» فيه على الأعمال الواقعة من الخلق «وَمَشْهُودٍ 3» فيه من أهوال وخوارق أقسم الله تعالى بيوم القيامة لعظمة ما فيه، وبأنبيائه الذين يشهدون على أممهم بما وقع منهم قال تعالى: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) الآية 41 من سورة النساء في ج 3 وباليوم المشهود لما فيه من العجائب التي يطلع عليها كافة الخلق قال تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» الآية 35 من سورة مريم الآتية وقال تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) الآية 103 من سورة هود من ج 2. وما قيل ان ذلك اليوم هو يوم الجمعة أو يوم التروية أو يوم عرفه الله جل شأنه والمشهود يوم عرفة أو يوم النحر أو آدم عليه السلام لا وجه له، وسياق النظم ينافيه وكل ما جاء في هذا من الأحاديث لا عبرة بها لأنها لم تثبت بصورة يصح الإحتجاج بها وجواب القسم (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ 4) الشقوق المستطيلة في الأرض المعمولة لتعذيب الناس، واعلم أن الذين وصفوا بهذا ثلاثة ولم يعلم المراد به منهم في هذه الآية وهي تنطبق عليهم الأذل أبطاموس الرومي عملها بالشام. والثاني بختنصر بفارس والثالث دو نواس باليمن إلا أن التي بالشام وفارس لم تشتهر عند العرب. ت (15)

مطلب قصة أصحاب الأخدود:

مطلب قصة أصحاب الأخدود: وإنما المشهور عندهم حادثة اليمن التي وقعت بنجران وهي أقرب إلى مكة ونزل بها القرآن تذكير لكفار قريش وتسلية لأصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلم لحملهم على الصبر مما يلاقونه في قومهم وتحمل المشاق في الدين طلبا لزيادة الثواب، وأصح ما جاء في هذه القصة ما رواه صهيب في رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر لأنه قد يحتاج إليه فيما يتعلق بملكه ورعيته وكان في طريق الغلام عند ما يذهب إلى الساحر راهب فإذا مر به سمع منه فيعجبه كلامه، فرأى ذات يوم بطريقه دابة حبست الناس فأخذ حجرا وقال اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فضربها فقتلها وصار بعد ذلك مرجعا للناس يبرىء الأكمه والأبرص فعمي جليس الملك فذهب إليه فأبرأه، فقال له الملك من رد عليك بصرك؟ فقال ربي، فغضب من سماع كلمته لزعمه أن لا رب غيره فعذبه وقال له لا أتركك حتى تعلمني من رد عليك بصرك، فقال الغلام، فجاء به فعذبه حتى دله على الراهب فجاء به واراده على الرجوع عن دينه إلى دينه، فلم يفعل، فقصه بالمنشار ثم كلف الغلام بالرجوع فأبى فأمر عونته ان يطرحوه في ذروة الجبل فأخذوه فرجف بهم الجبل فسقطوا ونجا الغلام، فأمر الملك ان يوضع في قرقوب ويلقى وسط البحر، فوضعوه وذهبوا ليقذفوه فانكفأت السفينة فغرقوا ونجا، ثم جيء به امام الملك ليرى كيف يتمكن من قتله فقال له لا تقدر حتى تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جزع وتأخذ سهما من كنانتي ونقول باسم رب الغلام ثم ترميني، ففعل فرماه فمات، فقال الناس آمنا برب الغلام وفي رواية مسلم كررت ثلاثا راجع آخر الجزء الأخير من صحيحه قبل كتاب التفسير، فقيل للملك نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بحفر أخدود وأضرمها نارا وأتى بالناس واحدا واحدا فمن رجع عن دين الغلام تركه ومن أصر ألقاه فيه وبقي هكذا حتى جيء له بامرأة معها صبي وهي مصرة على دين الغلام ولما أرادوا طرحها بالأخدود تقاعست فقال لها ابنها لا تتأخري يا أماه فإنك على الحق فصبرت فرماها فيه اه باختصار من الخازن. وفي هذا الحديث الذي أخرجه مسلم إثبات كرامة الأولياء

وجواز الكذب للمصلحة لأن الغلام كان يتأخر عند الراهب ويقول للساحر تأخرت عند أهلي، ويقول لأهله تأخرت عند الساحر وفي رواية ابن عباس أن الملك كان بنجران من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل مولد النبي صلّى الله عليه وسلم بسبعين سنة وكان الغلام اسمه عبد الله ابن ثامر، وكان أبوه أسلمه إلى الساحر ليعلمه وصار يتردد على الراهب وذكر الحديث، وذكر منبّه نحوه، وقال محمد بن اسحق عن عبد الله بن أبي بكر أن خربة احتفرت في زمن عمر فوجدوا فيها عبد الله بن ثامر واضعا يده على ضربته في رأسه إذا أميطت عنها انبعثت دما وإذا تركت ارتدت مكانها، وفي يده خاتم حديد مكتوب عليه ربي الله فأعادوا عليه حفرته وما ذلك على الله بعزيز. قال تعالى «النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ 5» بدل من الأخدود ووصفها تعظيما لأمرها وارتفاع لهيبها من الحطب وأجساد الناس «إِذْ هُمْ» الكفرة عونة الملك المأمورون بإلقاء من لم يرجع عن دين الغلام «عَلَيْها» أي الأخدود «قُعُودٌ 6» على شفريها لئلا ينفلت منهم أحد «وَهُمْ» الكفرة المذكورون «عَلى ما يَفْعَلُونَ» من التعذيب والإلقاء «بِالْمُؤْمِنِينَ» الممتنعين عن الكفر «شُهُودٌ» بأنهم لم يفرطوا بما أمرهم به الملك ويشهد بعضهم لبعض بعدم التقصير في تنفيذ أمره «وَما نَقَمُوا» عابوا وكرهوا «مِنْهُمْ» أي المصرين على دين الغلام شيئا ما «إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا» أي غير إيمانهم «بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 8» وهذا استثناء مفصح عن براءتهم مما يعاب وينكر وينتقد على منهاج قولهم: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما بينهما وما فيهما، وصف الله نفسه المقدسة بكونه عزيزا قادرا غالبا يخشى عقابه وحميدا شكورا منعما يرجى ثوابه، وبأن له عموم الخلق ملكا وعبيدا ومن كان كذلك وجبت طاعته والإيمان برسله وكتبه (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 9) بما فعلوه بالمؤمنين وفيه تهديد ووعيد للكافرين وأمان ووعد للمؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وأرادوهم على تغيير دينهم وعذبوهم على امتناعهم في الكفر بالأنبياء (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) حال

[سورة البروج (85) : الآيات 11 إلى 20]

حياتهم ولم يؤمنوا قبل وفاتهم وماتوا على كفرهم (فَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابُ جَهَنَّمَ) لكفرهم بالله وعدم تصديق رسله (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ.) لتعذيبهم غيرهم أي أن لهم عذابين قال تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ» أي المخصص لهم الآية 88 من سورة النحل في ج 2. أي عذابا لكفرهم وعذابا لصدهم الناس عن الإيمان وفي هذه الآية. دليل على أن توبة القاتل مقبولة بالنسبة لعمومها، وبالنظر لخصوصها لا لأن الإسلام يجب ما قبله تأمل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في دنياهم وماتوا لى ذلك (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ) وعد الله فيه (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ 11» الذي لا أكبر منه لأنه حق ثابت لكل من هذه صفته ولكل من عذّب لأجل دينه من أهل الأخدود وغيرهم، راجع تفسير الآية 10 من سورة والليل المارة «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ 12» قوي جدا لا يضاهيه بطش أبدا، وهو الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تفاقم فيا ويل الظالمين الجبارين من انتقام الله «إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ» خلقهم في الدنيا فيغريهم بالمال والولد ويخدعهم بالجاه والسلطان ويملي لهم بما يشتهون ويؤملون ليختبرهم «وَيُعِيدُ 13» خلقهم ثانيا كما كانوا عليه في الدنيا حتى القلقة يعيدها لموضعها ويعرض عليهم أعمالهم حتى الذرة فما فوقها ليجازيهم «وَهُوَ الْغَفُورُ» كثير المغفرة لمن أراد من عباده وهو «الْوَدُودُ 14» بهم عظيم الحب لأهل طاعته وهو «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ 15» علوه وعظمته وهيبته، يقرأ بالرفع على أنه صفة لله وبالكسر على أنه صفة للعرش «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ 16» تكوينه في خلقه ورحمة من يريد رحمته وعذاب من يريد تعذيبه، لا يعجزه شيء ولا يسأل عما يفعل، ثم ذكر نوعا من شدة بطشه وانه لا يمنعه مانع مما يريد فعله تعالى «هَلْ أَتاكَ» يا حبيبي «حَدِيثُ الْجُنُودِ 17» الذين تحزبوا على رسلهم ضد حقهم وأخص منهم «فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ 18» كيف فعلنا بهم حين تجمعوا على أنبيائهم، وإنما خصّ قصتهما لتداولها على ألسنة العرب ومعلوميتها عند أهل مكة لعلهم يتعظون بما حل فيهم، ويرتدعون عما هم عليه، ولكنهم لم ينجع بهم، لذلك أضرب

[سورة البروج (85) : الآيات 21 إلى 22]

عن تأميل رسوله بإيمان من لم يقدر له الإيمان من كفرة قومه بقوله «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ 19» مستمر لك ولما جئت به من القرآن كما كذب أولئك رسلهم ولم يعتبر قومك بمن أهلكناهم من الأمم السالفة «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ 20» قادر على إنزال العذاب بهم مثل من تقدمهم لا يفلت منهم أحد لأنهم في قبضته ولا نجاة لهم من بأسه وهذا هو معنى الإحاطة من محيط ومحاط به وفيها تعويذ للكفرة لأنهم نبذوا الله وراء ظهورهم وأقبلوا على شهواتهم واعلم يا سيد الرسل أن الذي تتلوه على قومك ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا هو من تلقاء نفسك ولا من خرافات الأولين ولا مما يتقوله الأقدمون ولا من تعليم الغير «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ 21» عظيم الشأن عالي البرهان ثابت عندنا ومدون «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ 22» من التبديل والتغيير والتحريف والنقص والزيادة وقرىء بالكسر على أنه صفة للوح وبالرفع على أنه صفة للقرآن مثل لفظ المجيد المتقدم في الآية 15 المارة وكلاهما جائز هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة التين عدد 28- 95 نزلت بمكة بعد البروج وهي ثمان آيات، وأربع وثلاثون كلمة، ومائة وخمسة أحرف، لا يوجد سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدأت وختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «وَالتِّينِ» أي الجبل الذي عليه دمشق المنبثق بأشجار التين من الفواكه الطيبة الخالصة من الشوائب المنقصة لا عجم فيها تشبه فواكه الجنة مغذ سريع الهضم طيب الرائحة مبارك في بقعة مباركة قال تعالى (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2 «وَالزَّيْتُونِ 1» الجبل الذي عليه البيت المقدس المتفطر بأشجار الزيتون

المبارك لما فيه من أدم وغذاء ودهن يؤكل ويدخر ويستفاد به لا يحتاج شجره إلى خدمة بعد نباته يعيش ألوفا من السنين، ترى أشجاره من بقايا الرومان في قضاء الزوية ويسمونه بالروماني لأنه من غرسهم لا يسقط ورقه صيفا ولا شتاء نبت كريم في بقعة كريمة وقد سماه الله في كتابه شجرة مباركة في الآية 35 من سورة النور في ج 3، وما جرى عليه بعض المفسرين بأن القسم به نفس التين والزيتون لا يستقيم مع قوله تعالى «وَطُورِ سِينِينَ 2» الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وسطع عليه نور الإله، ومكانه سيناء وسمي سينين لحسنه وبركته، وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء، هذا والعطف يؤيد ما جرينا عليه وكذلك قوله «وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ 3» مكة حرسها الله حيث يأمن الناس فيها على أهلهم وأموالهم ونفوسهم حتى ان الرجل ليرى قاتل ابنه فلا يتعرض له فيها احتراما لشأنها ولهذا لقب بالأمين وإن تأويل التين بالشام والزيتون بالقدس يناسب ذكر ما بعدها من الطور ومكة وهو من تسميته المحل باسم الحال فيه، ومناسبة المتعاطفات تدل دلالة صريحة على أن المراد بها الأماكن والأشجار، ويؤيد هذا ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنهما مسجد أصحاب الكهف ومسجد إيلياء لأن الأول قريب من الشام، والثاني قريب من القدس هذا وقد أقسم الله في هذه البقاع المقدسة لما فيها من البركات ولأنها معظمة بحد ذاتها، راجع الآية الأولى من الإسراء والآية 31 من سورة القصص الآتيتين، وجواب القسم «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4» شكلا وصورة ولونا وتسوية أعضاء واعتدال قامة مزينا بالعلم والحلم والعقل والفهم والنطق والتمييز يأكل بيده جالسا وقائما ومتكئا وغيره مكبا على وجهه يأكل بفمه محروما من القوى التي ألمعنا إليها في الآية 4 من سورة الشمس المارة وقد متعه الله بما ذكر آنفا في سن الشباب والكهولة والشيخوخة، وقد سوى أصله من التراب ابداعا لا عن سابق مثل ولا من أصل آخر كالقردة كما يتقول به من لاخلاق له ولا إيمان «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ 5» بعد ما كان عليه من الكمال

إلى أرذل العمر لما توقعه فيه من الهرم والضعف ونقص العقل والسمع والبصر والشم والشهوة وانقطاع صالح العمل بالعجز عن الصيام والصلاة بصورة كاملة، هذا مصيره في الدنيا، وأما في الآخرة فإذا كان غير شاكر ما متعناه به وجحد ما أنعمنا به عليه وكفر بنا وبرسولنا وكتابنا فنرده إلى أسفل دركة من جهنم، وهكذا شأن كل كافر جحود «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 6» وافيا غير ناقص لأن المؤمن الصالح لا ينحرف غالبا فلا يرد إلى أرذل العمر ولا ينقطع عمله ويدوم عليه أجره وقد شاهدت كثيرا من العلماء العاملين تجاوزوا المائة سنة وهم على أحسن خطة كالشيخ حسين الأزهري مفتي دير الزور والشيخ بدر الدين الحسني مدرس دار الحديث بدمشق رحمهما الله وأتباعهما كثير، على أن الرجل الصالح إذا أصيب بشيء ما يمنعه من ذلك فيكتب له ثواب ما كان يعمله قبل، قال ابن عباس هم نفر ردّوا إلى أرذل العمر على زمن رسول الله فانزل الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم، وإذا صح هذا فالسبب خاص والحكم عام وقال عكرمة ما يضرّ هذا الشيخ كبره إذا ختم الله له بأحسن ما كان يعمل، وقال ابن عباس إن الذين آمنوا أي الذين قرأوا القرآن لم يردوا إلى أرذل العمر وهذا يؤيد ما ذكرنا آنفا قال تعالى: «فَما يُكَذِّبُكَ 7» أيها الإنسان، وهذا التفات من المغيبة إلى الخطاب، وهو من محسنات البيان ومقتضيات البديع «بَعْدُ» أي بعد البيان الذي ذكرناه لك «بِالدِّينِ» الحق والبعث بعد الموت والحساب والجزاء وقد بينا لك البرهان القاطع والحجة الواضحة فما عليك إلا أن تصدق به وتعمل لأجله ليحكم لك بالحسنى من ربك الكريم القوي المتين «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ 8» صنعا وتدبيرا وعدلا وإذا كان كذلك، فكيف تتوهمون أنه لا يعيدكم بعد الموت وأن لا حساب ولا عقاب ولا جزاء ولا ثواب لا بل لا بد لكم من ذلك وأن الله سيحكم على كل بما يستحقه حكما عدلا وقضاء مبرما وهذا الاستفهام تقريري وجوابه بلى إنه أقضى القاضين وإنه قادر على ما يريده. جاء عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال من قرأ والتين فليقل

تفسير سورة قريش عدد 29 - 109

وأنا على ذلك من الشاهدين، أخرجه الترمذي وقال الشافعي رحمه الله، يقولها حتى في الصلاة هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. تفسير سورة قريش عدد 29- 109 نزلت بمكة بعد سورة التين وهي أربع آيات، وسبع وعشرون كلمة، وثلاثة وسبعون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به لا ناسخ ولا منسوخ فيها، وتسمى سورة الإيلاف ومثلها في عدد الآي الإخلاص. مطلب في قريش ومن خصهم بالعهد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «لِإِيلافِ» أي عهد «قُرَيْشٍ 1» اسم لعشيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم والعهد بالبداوة شبه الاجازة بالخفارة، وأول من أخذه منهم هاشم جد رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم من ملك الشام كما سيأتي في الآية 67 من سورة العنكبوت في ج 2 واللام فيه للتعجيب أي أعجبوا أيها الناس بأهل مكة لهذا العهد الذي أخذته قريش بسبب سكناهم في الحرم الشريف وكيف صاروا به آمنين من كل أحد ببركة البيت الحرام وقد كثر خيرهم بسبب «إِيلافِهِمْ» وائتلافهم بصورة دائمة مطردة «رِحْلَةَ الشِّتاءِ» إلى اليمن «وَالصَّيْفِ 2» إلى الشام ليختاروا منها ويتجروا آمنين في تنقلاتهم هذه والناس يتخطفون من حولهم، وإذا تعرض لهم من لا يعرفهم وقالوا نحن أهل حرم الله تركوهم واحترموهم، وهذه ميزة عظيمة خاصة لهم لم يتحف بها غيرهم فإذا كانوا بعد هذا لا يؤمنون بالله الذي أنعم عليهم بالعقل والسمع والبصر فجدير بهم أن يؤمنوا لهذه النعمة فقط التي خصوا بها دون غيرهم، وإذا كان كذلك «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي» بسبب وجودهم فيه «أَطْعَمَهُمْ» الله «مِنْ جُوعٍ 3» وكانوا في غاية الشدة منه قبل هذا العهد «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ 4» عظيم كانوا عليه قبله والتنكير في الكلمتين يدل على أنهم كانوا في حاجة ماسة للأمن والطعام لأنهم كانوا قبل نزولهم الحرم الشريف وقبل أخذ هذا العهد الممتاز يقاسون الأمرين

فسخر الله لهم هاشما وألقى في قلبه أخذ هذا العهد وسخر له ملك الشام والقى في قلبه إعطاءه له لأنه سادن الكعبة المعظمة وذلك بسبب دعوة إبراهيم عليه السلام أولا ووجود المصطفى أخيرا (راجع تفسير الآية 128 من البقرة في ج 3) وسبب نزولها أن قريشا لما كذبت محمدا دعا عليهم فقال اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فاشتد عليهم القحط فقالوا يا محمد أدع لنا ربك فإنا مؤمنون فدعا فأخصبت بلادهم ثم أصروا على كفرهم. وقريش ولد النضر بن كنانة فمن لم يلده النضر فليس بقريشي. روى مسلم عن وائلة بن الأسقع قال صلّى الله عليه وسلم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم وسموا قريشا لشدتهم ومنعتهم تشبيها بالقرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تصاد إلا بالنار وقد يأتي التصغير للتعظيم وكانوا متفرقين فجمعهم الله يواسطته. قص بن كلاب وهو الذي أنزلهم الحرم واتخذوه مسكنا ولذلك سمي مجمعا والتقرش التجمع قال شاعرهم: أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال إن الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم، وعن جابر أن رسول الله قال: الناس تبع لقريش في الخير والشر، قال الكلبي أول من حمل السمراء (القمح الحنطة) من الشام هاشم بن عبد مناف وفيه يقول شاعرهم: قل للذي طلب السماحة والندى ... هلا مررت بآل عبد مناف هلّا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من حر ومن اكفاف الرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلمّ للأضياف والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي والقائمين بكل وعد صادق ... والراحلين برحلة الإيلاف عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف سفرين سنّهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف

تفسير سورة القارعة عدد 30 - 101

هذا ومما تفاخر به قريش قول القائل: زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم ألف وليس لكم إلاف أولئك أومنوا جوعا وخوفا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا قال ابن عباس رضي الله عنهما: الناس يتفاضلون بالدنيا بالشرف والبيوتات والإمارات والغنى والجمال والهيئة والمنطق، ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى واليقين وأتقاهم أحسنهم يقينا، وأزكاهم عملا، وأرفعهم درجة. واعلم أن ما قاله أبي بن كعب بأن هذه السورة وسورة الفيل واحدة، قول لا قيمة له، كما أن ما قاله غيره من أن أحرف الجر من الإيلاف متعلق بكلمة مأكول من آخر سورة الفيل لأنه يخالف أقوال الجمهور وآرائهم بأنها منفصلة عنها وانها لم تنزل بعدها كما علمت مما تقدم، وهو كالقول بأن الانشراح والضحى واحدة، والأنفال والتوبة واحدة، وانهما نزلنا سوية ولم يفصل بينهما بالبسملة، بل القول المعتمد هو أن كلا من هذه السور الست نزلت منفردة عن الأخرى، وهذه منفردة بالنزول وترتيب القرآن أيضا، ولا يؤيد قول أبي رضي الله عنه قول من جعلهما سورة واحدة بأخبار القرآن كله، كالسورة الواحدة من حيث انه يصدق ويبين بعضه بعضا لإطباق الصحابة على معارضته، وإجماع القراء على مخالفته وعلى الفصل بينهما وأنهما سورتان، وقد مرّ أول الضحى بعض ما يتعلق بهذا وله صلة أول سورة التوبة في ج 3. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. تفسير سورة القارعة عدد 30- 101 نزلت بمكة بعد قريش، وهي إحدى عشرة آية، وست وثلاثون كلمة، ومائة واثنان وخمسون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدئت وختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.

[سورة القارعة (101) : الآيات 1 إلى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الْقارِعَةُ 1» كناية عن يوم القيامة وقد كررها تهويلا لما يقع فيها فقال «مَا الْقارِعَةُ 2» أيها الناس شيء عظيم هي وكل قارعة مخوفة، دونها في الفظاعة ثم كررها ثالثا مع الاستفهام على سبيل التعظيم إيذانا بشدة أهوالها فقال «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان العاقل أي شيء أعلمك «مَا الْقارِعَةُ 3» فإنك مهما بلغت من الإدراك لا تدري كنهها، وانك كيفما قد صورت وصورت فهي فوق ذلك لأنها تقرع القلوب بالفزع قرعا هائلا «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ» فيه في مشيهم وتراصهم «كَالْفَراشِ» الحشرات التي تتهافت على الضياء والنار فإنها تترامى فوق بعضها لا تتجه إلى جهة واحدة مع أن القصد واحد لذلك وصفها الله بقوله «الْمَبْثُوثِ 4» المتفرق شبه الله تعالى الخلائق في ذلك اليوم المهول بهذا النوع من الطير الصغير وتهافته على بعضه نحو الضياء لأنهم يوم يبعثون يتبعون صوت الداعي حيارى لا يعرفون أين يذهبون، يموج بعضهم في بعض من شدة الفزع الحاصل من شدة صوت الملك راجع تفسير الآية 305 من سورة طه الآتية، فكما أن الفراش يظن أن في الضياء طريقا فيقصده ليمر به ويتهافت عليه فيتراكم بعضه على بعض فكذلك أهل الحشر حين يساقون إليه ولهذا شبههم به «وَتَكُونُ الْجِبالُ) الشامخات فيه أيضا «كَالْعِهْنِ» الصوف «الْمَنْفُوشِ» وقيل المصبوغ ألوانا مستدلا بقوله تعالى: «جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ» الآية 27 من سورة فاطر الآتية، وما جرينا عليه أنسب بالمقام لأن الآية المستدل بها تبين ماهية الطرق في الجبال وأن كل طريق بلون أرضه بمناسبة تعداد نعم الله على خلقه، وهنا يبين كيفية اضمحلال الناس معنى بالنسبة للجملة قبلها المبينة من تشتت الناس والجبال مع عظمتها أما الطرق فلم يسبق لها ذكر ولا مناسبة بينها وبين ما نحن فيه فتنبه أيها القارئ واعتبر، فإذا كان هذا حال الجبال الصلبة في ذلك اليوم تكون هباء وتتطاير كالصوف حالة النّدف. فكيف بك أيها الضعيف عند ما تقرع القارعة. وتأمل ما ذكره الله أول سورة الحج في ج 3 وابك على نفسك، وقل اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وبك المستغاث وأنت المستعان وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم انه

[سورة القارعة (101) : آية 11]

جل شأنه قسم عباده إلى قسمين فقال «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ 6» بعمله الصالح وطاشت سيئاته لقلتها «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ 7» في جنة عالية يرضاها صاحبها برضاء الله «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ 8» بعمله الطالح وطاشت. وثقلت أعماله السيئة «فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ 9» في نار حامية يزج فيها ويقال للمأوى أم على التشبيه لأن الولد يفزع لأمه عند ما يخاف والأم تأوى له فإذا كبر لجأ إلى أبيه عند النوائب فإذا كبر لجأ إلى الحاكم فإذا فقه لجأ إلى السلطان، وهكذا يتدرج بسبب انكشاف القوة التي هي أعلى حتى يتم عقله فيلجأ إلى الله حتى يتبين له أن كل أحد عاجز عما يريده إلا الله، وهكذا الناس الآن فلو أنهم لجأوا إلى الله قبل كل شيء بعقيدة راسخة لما احتاجوا لمن هو دونه والهاوية اسم من أسماء النار لا يدرك قعرها يأوي إليها المجرمون أجارنا الله منها. وقال بعض المفسرين المراد بأمه أمّ رأسه لأنهم يطرحون فيها على رؤوسهم، والأول أولى وأن أهل النار يدفعون فيها دفعا وطرحا وزجا على وجوههم ورؤوسهم لا يؤبه بهم لحقارتهم، والحكم أنه لا يقال أن الأعمال أمور معنوية لا يتأتى فيها الوزن لأنها تجسّم يوم القيامة، ولا يستبعد هذا على من يسخر الجوارح بالشهادة على ذويها لأن في القيامة ما لا يخطر على قلب بشر، ولا يتصوره العقل راجع تفسير الآية 23 من سورة الفجر المارة والآيتين 107 و 109 في ج 2 تجد أن القيامة يقع فيها أشياء خارقة للعادة «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «ما هِيَهْ 10» هي داهية دهماء تصفر منها الأعضاء وهي «نارٌ حامِيَةٌ 11» جدا بلغت حرارتها النهاية وعذابها الغاية، نعوذ بعظمة الله منها ومن أهلها. روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان بوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وانما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان بوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه واتباعه أجمعين.

تفسير سورة القيامة عدد 31 - 77

تفسير سورة القيامة عدد 31- 77 نزلت بمكة بعد القارعة، وهي أربعون آية، ومثلها في عدد الآي سورة النّبإ وهي تسع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفا، ويوجد سورة البلد مبدوءة بما بدئت به هذه السورة، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» اتفق أكثر المفسرين عن أن المعنى أقسم لأن العرب تدخل لا على أقسامها فتقول لا والله لا وأبيك، والقرآن نزل بلغتهم، قال امرؤ القيس الكندي: لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم اني أفر ويقولون لا ورب الكعبة، ويريدون وربها وفائدتها التأكيد، ويجوز حذفها في غير القرآن، وما قيل إنها زائدة لا أصل له، فضلا عن ضعفه إذ لا زائد في كتاب الله لأن كل حرف فيه له معنى لا يتأتي الكلام بدونه كاملا، وما استدل من قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية الأخيرة من سورة الحديد في ج 3، مردود لأن لها مغزى هناك ستقف عليه عند تفسيرها، فضلا عن أنها وسط الكلمة لا في أولها كهذه وكونها ليست للقسم لتفيد المعنى المطلوب في هذه التي للقسم، فهي هناك نافية، وقد تأتي زائدة في أقوال العرب لضروره الوزن في نظم أشعارهم كقوله: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد ضمير القلب لا يتقطع أما في القرآن فلا، وانظر إلى ما قاله الفراء: إن لا هنا ردّ لانكار المشركين البعث المار ذكره في السورة قبلها لأنه مما يناسب تتابع السور، إذ قد يكون غالبا مناسبة بين الأولى والثانية بعدها من كلمة أو جملة مما ينتبه له من له المام بمعاني كتاب الله فكأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من جحود القيامة وعذابها ثم قال أقسم. وقرأ ابن كثير لأقسم بلام التوكيد ولا يرد على هذا القول من قال ان لام التأكيد لا بدّ وأن يصحبها نون التوكيد لأنها تفارقه أحيانا وكلاهما وجيه، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى أقسم بيوم القيامة «وَلا أُقْسِمُ

بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ 2» إلا إعظاما وتفخيما لهما يكون الغرض إجلال القسم به وتبجيله والأول أولى، وهذا كله تحاشيا عن القول بأنها زائدة إذ ما من حرف في القرآن إلا ويؤدي معنى خاصا، واللوامة النفس التي تلوم صاحبها بعد إيقاعه الفعل المنهي عنه الذي حسنته له والتي تقول له دائما لم فعلت ولم لم تفعل وغيرك يفعل؟ مطلب: على الإنسان أن يتفقد حاله: قال المغيرة بن شعبة: يقولون القيامة، وقيامة أحدهم موته، وهذه القيامة ليست مرادة هنا والله أعلم، وانما هي القيامة الكبرى، لأن سياق الآية يدل عليها ويأبى صرفه لما في قول المغيرة، والأحسن في تفسير اللوامة أن نقول هي التي تلوم صاحبها على مافات منه إن كان خيرا لم لم يزدد منه، وإن كان شرا لم لم يقلع عنه، يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلم: ما منكم يوم القيامة إلا ندم، إن كان محسنا ندم أن لا ازداد وان كان مسيئا ندم ان لا أقلع، لأن المؤمن لا بد له أن يحاسب نفسه دائما على كل ما يقع منه ويزنه في ميزان الشرع، حتى كلامه المباح وأكله الحلال هل أراد بهما وجه الله والتقوي على طاعته أم لا، وينبغي أن يستحقر أعماله واجتهاده في طاعة الله لأنه كلما رأى نفسه مزدادة فهي مقصرة إذا عقل قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من سورة الذاريات في ج 2 والآية عامة، وما قيل إن المراد بها نفس آدم عليه السلام، لأنها لمّا تزل تلومه على ما وقع منه، وفرط به لا دليل له عليه، ولا يوجد ما يؤيده، بل هي شاملة لكل نفس، وجواب القسم محذوف تقديره لتكوننّ القيامة ولتبعثنّ فيها وتحاسبون على ما وقع منكم، بدليل قوله عز قوله «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» الذي ينكر البعث، ولم يؤمن به جحدا وكفرا «أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ 3» بعد تفرقها وصيرورتها رفاتا، واختلاطها بالتراب ونسفها بالرياح، وبعد أن أكلتها الوحوش والطيور والحيتان، يقول الله تعالى: تستعظم علينا أيها الإنسان هذا كلا لا تستكثره على من خلقك من العدم، «بلى» أيها الكافر نفعل ذلك حالة كوننا «قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ 4» عظام رؤوس أصابعه، وإنما

خصّ هذه العظام لأنها قوالب النفوس، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها، وخص رؤوس الأصابع لأنها سلامات صغار كثيرة لطيفة، ومهما كانت الدقة فإنه جل شأنه، يعيدها لأماكنها، ويؤلفها كما كانت، فإعادة كبار العظام القوية الظاهرة من باب أولى، لأن القادر على الإبداء إبداعا، قادر على الإعادة اتباعا، وهو قادر عليه، وله المثل الأعلى. فانظر هداك الله قبل رقي علم التشريح، هل يوجد أحد يعلم أن أقوى شيء درّاك في الإنسان هو أنامله، التي هي جواسيس الدماغ وانها أدق جوارح الإنسان وأهمها، وإن البشر عاجز عن تركيبها كما كانت، إذا اعتراها ما يوهنها، وان الخطوط التي في رؤوسها لا يشبه بعضها بعضا أبدا، ولهذا اختاروا التوقيع بها بدلا من الختم لأنه يقلد، وهذه لا تقلد، ولهذا ولأمر لا نعرفه ذكرنا الله بها، واعلم أن للانسان ثلاثمائة وستين مفصلا، كل واحد منها يسمى سلامى، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل سلامى من الناس عليه صدقة، وفيه تعدل بين اثنين صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، رواه البخاري ومسلم، فكما أن الله تعالى تصدق بتلك السلامات على عباده فينبغي للعبد أن يتصدق بما استطاع على سبيل الشكر لله تعالى، على عدد مفاصله التي مكنه منها، وتمكّن بسببها من القبض والبسط والمد، واستخدمها بمنافعه ليدفع عنه حدوث البلاء، لأن الصدقة تدفعه وتزيد في العمر، وتمام الحديث: (كل يوم تطلع فيه الشمس) ، أي إن استطاع التصدق كل يوم فليفعل، وفيه وتعين الرجل في دابته فتحمل عليها، وترفع له عليها متاعه صدقة، لأنك إذا لم تفعل ذلك تأخر أخوك المسلم لعدم قدرته بنفسه أن يفعل ذلك، وفيه الكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة أي فمن لم يجد ما ينفق شاكرا على هذا فليفعل ما جاء في هذا الحديث فذلك بمعاملة الصدق بالمال وسبب نزول هذه الآية ان عديا بن ربيعة أو أبا جهل جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له يا محمد حدثني عن القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره صلّى الله عليه وسلم فقال لو عاينت ذلك لم أصدقك ولم أو من بك فأنزل الله هذه الآية قال تعالى (بَلْ) إضراب وانتقال من معنى لآخر (يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ 5) بأن

[سورة القيامة (75) : الآيات 11 إلى 20]

يقدم قبائحه وإذا كان كذلك فدعه ولا تعنفه، وأنى يسمع منك فيرتدع وينزجر وهو يريد الإدمان على الفجور حالا ومستقبلا ولا يريد أن يتوب أو ينزع هما هو عليه ومعنى الفجور في الأصل الميل وسمي الكافر فاجرا لميله عن الحق وكذا الفاسق «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ 6» إلى متى يكون استبعادا له فقل له يا حبيبي يكون ذلك لا محالة «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ 7» شخص عند الموت لما يشاهد من أهواله وعجائبه قال ذو الرمة: ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق وقرىء برق بكسر الراء أي دهش من شدة الفزع «وَخَسَفَ الْقَمَرُ 8» ذهب ضوءه بحيلولة الأرض ما بينه وبين الشمس وكذلك كسوف الشمس يكون بحيلولة الأرض بينهما وبين ما تشرق عليه منها. هذا في الدنيا أما بالآخرة وهو المراد هنا فيذهب ضوءه وضوءها ويسقطان يدل عليه قوله «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ 9» بطلوعهما معا من جهة المغرب وذهاب نورهما ثم يسقطان كسائر الكواكب راجع أول سورة التكوير المارة وللبحث صلة في سورتي الانفطار والانشقاق في ج 2، وهذا لا يكون بالحيلولة كما يقوله الفلكيون ولا شيء آخر مما يقوله علماء الهيئة حيث تضمحل هناك المعارف والعوارف أما ما قاله الملاحون ان خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر فهو انكار لقدرة الله القادر أن يجعله منخسفا سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس أو لم تكن لأن الأجسام متماثلة فيصح على كل منها ما يصح على الآخر، والله قادر على كل الممكنات والمستحيلات، ومن جملة قدرته إزالة ضوء القمر في كل حال، ولهذا لما كسفت الشمس يوم موت إبراهيم، وقال الناس إنها كسفت لأجله لأنهم يزعمون أنها تنكسف لموت عظيم، أو لأمر عظيم وحادث خطير، قال صلّى الله عليه وسلم: إنهما- أي الشمس والقمر- لا ينكسفان لموت أحد أو حياته، وإنهما آيتان يخوّف الله بهما عباده، الحديث. قال تعالى واصفا ذلك الوقت العصيب الذي يحار فيه اللبيب، ويذهل عنه البعيد والقريب «يَقُولُ الْإِنْسانُ» المكذب لذلك «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوع هذه الأشياء «أَيْنَ الْمَفَرُّ» والمهرب والمخلص من هذا فيقال «كَلَّا» انزجر وارتدع «لا وَزَرَ 11» لا ملجأ

يلجأ إليه ولا واق يقي منه راجع الآية (20) من سورة ابراهيم في ج 2 تجد ما يتعلق بهذا، واعلم أن الوزر هو الجبل المنيع، وكل ما يتحصّن به ويلجأ إليه. قال كعب بن مالك: الناس آلت علينا ليس فيك لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر وقال الآخر: لعمرك ما يلقى من وزر ... من الموت يدركه والكبر وكانوا إذا فزعوا من شيء يلجأون إلى الجبال ولذلك قال ابن نوح عليه السلام: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) الآية 43 من سورة هود، في ج 2، فتقدم الله تعالى لهؤلاء بما يقطع أملهم بأن لا شيء هناك يعصبهم من عذاب الله إلا هو، ولهذا قال «إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ 12» ، أي يكون قرار خلقه يوم فرارهم إليه، وخلاصهم منوط به وحده، لا يشاركه أحد، وهو إما إلى الجنة أو النار لا توسط بينهما، أما أهل الأعراف فسيأتي بيانهم في الآية 46 من سورتهم الآتية، قال تعالى حينذاك «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ» يوم الحساب والجزاء «بِما قَدَّمَ» من أعماله الحسنة والسيئة «وَأَخَّرَ 13» من آثاره كسنة حسنة سنّها أو وصية خير أوصى بها أو وقف، أوقفه في دنياه، فيفهم هل أراد به وجه الله تعالى، فإن كان فيوضع في جملة أعماله الصالحة، وإلا فإن كانت النيّة سيئة والوصية لحب المال، أو كراهية بالورثة أو رياء، فيكون في جملة أعماله الطالحة، ومما يعد مؤخر الولد ان كان صالحا انتفع به وإلا لا، ومما يدل على حسن النية وسوئها قوله عز قوله «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ» وكافة جوارحه «بَصِيرَةٌ 14» شاهد لا يحتاج إلى الإشهاد عليه، فهو يعلم مغزى ما يفعل وما يقدم وما يؤخر، والهاء في بصيرة للمبالغة كعلامة وشهامة فالسمع يشهد بما سمع، والبصر بما ابصر، واليد بما بطشت، والرجل بما مشت، والأنف بما شم، والفم بما ذاق وتكلم، وهكذا فلا يظن انه ينجو إذا كان عمله لغير الله «وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ 15» كلها بأنواعها وأجناسها فلا ينفعه ذلك لأن شاهده من نفسه قال تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» الآية 24 من ت (16)

سورة النور في ج 3 ومثلها في فصلت الآية 22 في ج 2 وقال تعالى «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» الآية 14 من الإسراء الآتية وانشد الفراء بما يلائم هذا: كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمجلسه أو منظر هو ناظره يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا يخفى عليه سرائره وفسر بعضهم المعاذير بالستور وعليه يكون المعنى ولو أرخى ستوره عند ارتكاب المعاصي لئلا يراه أحد فالله يراه وتشهد عليه جوارحه وجاء العذار بمعنى الستر، ومنه سمى الشعر الثابت ما بين الأذن والوجه عذار، ومنه عذار الفرس فانه يستر جزءا من وجهها والأول أولى وأنسب بالمقام، ثم التفت جل شأنه يخاطب رسوله بما يراه يعالجه حين تلقى الوحي فقال «لا تُحَرِّكْ بِهِ» أي القرآن حينما تتلقاه من جبريل «لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16» وتسيء تلاوته على اثر فراغك من سماعه لتوقره في صدرك خشية نسيأنه كلا لا تخف هذا «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ» وإثباته في لبّك الآن وفي المصاحف بعد، حتى لا يفلت منه حرف «وَقُرْآنَهُ 17» وعلينا وبكفالتنا قراءته بلسانك على قومك وان يقرأه من بعدك الى قرب أن نرث الأرض ومن عليها «فَإِذا قَرَأْناهُ» عليك يا حبيبي بواسطة أميننا جبريل «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18» قراءته واستمع لها وأنصت فهذا الذي عليك «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ 19» لك وان كان صلّى الله عليه وسلم في بدء الوحي يحفظ ما ينزل عليه، الخمس آيات والأقل والأكثر ولما حمي الوحي احتاج إلى شدة اجتهاد به حرصا على ان لا ينسى منه شيئا، وكان لشدة حرصه على وحي ربه حال سماعه يتلوه اثر سماعه وإذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عنه فقال له ربه لا تتعب نفسك بشيء تكفلنا لك بحفظه وبيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام، هذا (وقرآنه) في الآيتين بمعنى القراءة وهي لغة معروفة عند العرب قال ضحوا بأشمط غوان السجود له ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا أي قراءة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال كان صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان مما يحرك شفتيه. قال ابن جبير قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان صلّى الله عليه وسلم يحرك شفتيه فحرك شفتيه فأنزل الله هذه الآية، وكان بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق قرأه

[سورة القيامة (75) : الآيات 21 إلى 30]

كما قرأه. وفي رواية كما وعده الله، ورواه البغوي من طريق البخاري بزيادة يحرك لسانه وشفتيه بشدة وكان يعرف منه. وفيه فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده. لذلك فإن هذه الآية كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كما ترى «كَلَّا» حقا انكم لا تميلون إلى الآجلة «بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ 20» الفانية فتنهكون فيها «وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ 21» الباقية فلا تلتفتون إليها وكان الأحرى بكم العكس «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» يوم تكون الآخرة التي اخترتم الدنيا عليها «ناضِرَةٌ 22» حسنة ناعمة جميلة مضيئة مسرورة بما رأت «إِلى رَبِّها» في جنته العالية «ناظِرَةٌ 23» مبصرة مشاهدة عيانا بلا حجاب ولا كيفية ولا كمية ولا ثبوت جهة أو مسافة. قال في بدء الأمالي: يراه المؤمنون بغير كيف ... وادراك وضرب من مثال فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال ومن قال ان ناظرة بمعنى منتظرة، فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته بل تقول نظرت فلانا أي انتظرته قال الحطيئة: وقد نظرتكم أعشاء صادرة ... للورد طال بها حوري وتنساسي وعليه إذا قلت نظرت إليه فلا يكون إلا بالعين، أما إذا قلت نظر بالأمر احتمل معنى تفكر وتدبر بعقله ولأن الوجه إذا وصف بالنظر لا يحتمل غير الرؤية ولا يعدى بإلى إلا إذا كان بمعنى الرؤية. مطلب رؤية الله في الآخرة: وقد أجمعت أهل السنة والجماعة على جواز رؤية المؤمنين ربهم بالآخرة دون الكافرين، قال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) الآية 15 من المطففين في ج 2 فيفهم منها صراحة ان المؤمنين غير محجوبين عن رؤيته، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة واجماع الأئمة الأصحاب فمن بعدهم من السلف الصالح والخلف الناجح على إثبات رؤية الله تعالى وقد روى ذلك أكثر من عشرين صحابيا وان الرؤية

قوة يجعلنها الله فيمن يوفق لها، ولا يشترط فيها اتصال ولا مقابلة ولا سعة ولا غير ذلك ومن أنكرها فجزاؤه حرمانها. روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي، قال كنا عند رسول الله فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال انكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون (بفتح التاء أي لا ينال أحدكم ضيم إذ ترونه جميعكم وبضمها مع تشديد الميم أي لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه) في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) الآية 39 من سورة ق الآتية. وروى مسلم عن صهيب ان رسول الله قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم والأحاديث في هذا الباب كثيرة عن ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي رزين العقيلي وقد خرجها أبو داود والترمذي وغيرهما، واعلم بان الأحاديث التي يتشهد بها على معاني الآيات في هذا التفسير لا نعتي بها أن حضرة الرسول قالها عند نزول الآيات وخاصة المكيات لا وإنما كان صلّى الله عليه وسلم يقولها عند حدوث سؤال أو وقوع حادثة أو حالة وعظ وخطبة، تدبر. هذا واعلم أن من لم يقنع بهذا فلو أتيته بما في الدنيا لا يصدقه على حد قوله تعالى (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) الآية 144 من البقرة في ج 3 وهؤلاء كذلك من هذه الحيثية ولعلهم إن أصروا يدخلون في قوله جل قوله «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ 24» كالحة عابسة مكفهرة مقطبة أجارنا الله (تَظُنُّ) أيها الإنسان وتيقن وتحقق «أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ 25» شيء عظيم يقصم فقار الظهر وذلك حين ترى ما ناله السعداء من نعيم الآخرة ورحمة ربها حينما تمر بين أهل الجنة وأهل النار (كلا) زجر وردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتنبيه الى حالة الموت المبينة بقوله (إِذا بَلَغَتِ) الروح الدال عليها سياق الكلام ويجوز في مثله أن يعود الضمير إلى غير مذكور قال تعالى (حَتَّى

[سورة القيامة (75) : الآيات 31 إلى 40]

تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية 32 من سورة ص الآتية أي الشمس لم تذكر ولكن سياق الكلام أو سياق المعنى دل عليها وجاء مثله في قول حاتم: أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر راجع تفسير سورة إنا أنزلناه المارة واعلم انه إذا وصلت الروح «التَّراقِيَ 26» العظام المكتنفة لثغرة النحر من اليمين والشمال جمع ترقوة قال دريد بن الصمة في هذا: ورب عظيمة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقى (وَقِيلَ) أي قال من حضر المحتضر «مَنْ راقٍ 27» أي هل من يرقيه هل من يداويه هل من ينجيه ويخلصه مما هو فيه فيشفيه مما حل فيه كلا لا شيء من ذلك يحول دون موته (وَظَنَّ) ذلك المحتضر فتيقن وتحقق (أنّه) الحال الذي نزل به هو «الْفِراقُ 28» من الدنيا وما فيها من مال وأهل وولد وزوجة وحبيب وان لا نجاة من قضاء الله وقدره ولم تغن عنه الرقيا ولا الأطباء شيئا وانه الموت نفسه قد حضر «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ 29» التوت الساقان على بعضها عند هلع الموت وقلقه فمات ثم لفّ في أكفانه وحمل يتوارى في برزخه الأخير ورمسه المقدر له وإذ ذاك يقال (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) يوم الفراق يوم موته «الْمَساقُ 30» إلى غيره وهو يأمر بسوقها إلى الجنة أو إلى النار وفي اضافة السوق اليه تعالى بشارة لمن حسن ظنه بالله ومات على ذلك. قالوا غدا نأت ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم فقلت لي ذنب فما حيلتي ... بأي وجه أتلقّاهم قالوا أليس العفو من شأنهم ... لا سيما عمّن ترجّاهم وقال أبو بكر الصديق في مرضه: غدا نلقى الأحبة ... محمدا وحزبه وجواب إذا محذوف تقديره وجد الإنسان نتيجة عمله ان خيرا فخير وان شرا فشر، وحذف الجواب في مثل هذا كثير في كلام العرب وهو من محسنات البيان ومقتضيات البديع وهو في المعنى كأنه موجود ولا يخفى على من له المام باللغة قال تعالى (فَلا

صَدَّقَ) ذلك الإنسان المذكور في صدر السورة. رسول الله الذي وعظه وبشّره وأنذره «وَلا صَلَّى 31» لربه وسبحه وعزره (وَلكِنْ كَذَّبَ بالله وبما أنزل على رسوله «وَتَوَلَّى 32» عنه ولم يؤمن به «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى 33» يختال ويتبختر في مشيته لانّها مأخوذة من المط أي يتمطط لأن المتبختر يمد خطاه فقلبت الطاء ياء كراهية اجتماع الأمثال (أَوْلى لَكَ أيها الفاسق الفاجر «فَأَوْلى 34» لك «ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى 35» هذا جملة موضوعة للتهديد والوعيد وفي تكرارها ما يدل على شدة ما يراد به وقيل معناه أنك أجدر وأحق بالعذاب القاسي وأولى به من غيرك وهو وجيه، منطبق على المعنى المراد، وقيل في معناها: ويل لك ثم ويل لك دعاء عليه بالهلاك، وعلى كل فهو تهديد ووعيد اليه مكرر من الله المرة بعد المرة، أي أن ذلك الإنسان السيء أجدر بهذا العذاب وأحق به من غيره. قال قتادة: ذكر لنا رسول الله لما نزلت هذه الآية (في حق عدي بن ربيعة حليف بني زهرة ختن الأخنس بن شريق الثقفي الذي كان يقول فيهما حضرة الرسول: (اللهم اكفني جاري السوء بعينهما) أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء، وقال له (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فقال أبو جهل- عليه اللعنة- أتوعدني يا محمد؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر صرعه الله، فأذله وقتله شر قتلة. وكان صلّى الله عليه وسلم يقول: لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهل، وأنزل الله في حقه «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» الآية 39 من سورة الدخان ج 2 أي يقال له هذا عند إدخاله جهنم بمقابلة قوله ذلك قال تعالى «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» أل فيه للجنس فيشمل كافة أفراده إذ لم يرد به إنسان مخصوص بل مطلق إنسان «أَنْ يُتْرَكَ سُدىً 36» هملا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف ولا يحاسب ولا يعذّب، (وكلمة سدّى) لم تكرر في القرآن كلا لا يترك بل لا بد له من ذلك، ثم طفق جل شأنه يذكرهم مبدأ الخلقة، ومن أين هي، وما هي؟ وعوده إلى جيفة قذرة، يتذكر الإنسان بها حالة طيشه فقال عز قوله «أَلَمْ يَكُ

تفسير سورة الهمزة عد 32 - 104

نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى 37» يزرق في الرحم «ثُمَّ كانَ عَلَقَةً» قطعة دم جامد بعد ذلك «فَخَلَقَ» جعل الله تلك العلقة جنينا «فَسَوَّى 38» خلقه وجعله بشرا سويا معتدلا كاملا «فَجَعَلَ مِنْهُ» في أصل البشر وهو آدم عليه السلام أو من المني المذكور «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى 39» الصنفين الزوجين: الإنسان والحيوان والطيور والحيتان، وغيرها مما هو مخلوق بحسب التوالد، راجع تفسير الآية 3 من سورة والليل المارة وللبحث صلة في الآية 45 من سور النور في ج 3، وإنما ذكر جل شأنه خلقه بخلقهم بسائق ذكر منكري البعث، والمختالين في مشيهم المتكبرين على حضرة الرسول يشير إليهم فيها أن من كان هذا حاله أولا وبيدنا تكوينه، كيف ينكر علينا قدرتنا عليه، وإعادته بعد الموت ويتعاظم ويتجبر على نبينا «أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي فعل هذا كله هو الإله العظيم الآلاء، البديع الإنشاء «بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى 40» بعد إماتتهم كما بدأهم أول مرة، بلى والله قادر، أخرج أبو داود عن موسى ابن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أَلَيْسَ ذلِكَ) قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال: سمعته عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين. تفسير سورة الهمزة عد 32- 104 نزلت بمكة بعد القيامة، وهي تسع آيات وثلاثون كلمة، ومائة وثلاثون حرفا، ويوجد سورة المطففين مبدوءة بما بدئت به فقط ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «وَيْلٌ» هلاك وقبح وحسرة وندامة وذم وسخط، وأصله (وي لفلان) فكثر استعمالها فوصلت والويل جبل أو واد في جهنم «لِكُلِّ» ذي «هُمَزَةٍ» هي كالهزم الكسر بالعين أو بإحدى الجوارح «لُمَزَةٍ 1» هي كالهمز الطعن في عرض الناس وكل ما من شأنه أن يعيبهم بمواجهتهم أو بغيابهم وقيل الهمز يكون باللسان والرأس واللمز بالعين

والحاجب وعلى كل فكل إشارة أو لفظ ما من شأنه إفادة القدح في الناس أو ذمهم داخل في هذا. قال الشاعر: إذ لقيتك عن سخط تكاشرني ... وان تغيبت كنت الهامز اللمزا ومنه: تشير فأدري ما تقول بطرفها ... وأطرق طرفي عند ذاك فتفهم حواجبنا تقضي الحوائج بيننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم وقدمنا في تفسير الآية 11 من سورة القلم ما يتعلق بهذا وله صلة في الآية 11 من سورة الحجرات في ج 3. قال ابو الجوزاء لابن عباس من هؤلاء الذين ذمهم الله بالويل قال المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الاحبة، الناعتون الناس بالمعيب وتتناول كل من يعيب الناس بما يفعلونه جهرا أو بظهر الغيب أو ما يبطنونه ولذلك قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ 2» مرّة بعد أخرى حبا له وشعفا به ولذلك يستصغر الناس ويهزأ بهم فيهمز هذا ويلمز ذاك، وينم على ذلك ويعيب الآخر «أيَحْسَبُ» هذا للعجب بنفسه «أَنَّ مالَهُ» المتكبر به جعله يسخر بالناس أو أنه «أَخْلَدَهُ 3» في هذه الدنيا أيضا ويحسب انه لا يموت ولا يبعث ولا يحاسب ولا يقاص «كَلَّا» لا يظن ذلك إذ لا حقيقة لهذا الحسبان فلا شيء يخلد في الدنيا، ولا يبقى شيء بلا جزاء، على أن الذي يخلد الذكرى يتوقع منه الخير، هو العمل الصالح، قال علي كرم الله وجهه: مات خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. ثم أقسم جل شأنه فقال: «لَيُنْبَذَنَّ» ليقذفن هذا الخبيث واضرابه «فِي الْحُطَمَةِ 4» الدركة الثانية في النار، وسميت حطمة لأنها تحطم العظام لأول وهلة «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «مَا الْحُطَمَةُ 5» شيء عظيم هي لا ينالها عقلك، وفيها تهويل وتفظيع لأمرها، لأنها هي «نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ 6» التي لا تخمد أبدا، فويل لك أيها العياب الطّعان المتعظم على الناس بالمال منها، فإنها لشدة إحراقها «تَطَّلِعُ» حال القائك فيها وأمثالك «عَلَى الْأَفْئِدَةِ 7» فيصل ألمها للقلوب لأنها موطن الكفر والنيات السيئة والعقيدة الفاسدة، أي أن هذه النار تدخل من أفواه المعذبين فتصل إلى صدورهم، فتصلي أفئدتهم من غير أن تحرقها

لأنها لو حرقت لماتوا. والنار كالجنة لا موت فيها كما مر في الاية (13) من سورة الأعلى، وإنما خصّ الأفئدة حيث لا ألطف منها في الوجود، وألمها أشد من غيرها لأنها حساسة، فتتألم بأدنى أذى يصيبها حتى الخطرة، فكيف إذا أحاطت بها النار والعياذ بالله. قال صلّى الله عليه وسلم: إن النار تأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت، ثم ان الله تعالى يعيد لحمهم وعظامهم مرة أخرى. وهكذا دواليك، راجع تفسير الآية 55 من سورة النساء في ج 3 «إِنَّها» أي الحطمة تكون «عَلَيْهِمْ» أي جماعة الكفر كلهم، وذلك لأن النكرة إذا اختصت عمّت «مُؤْصَدَةٌ 8» مغلقة مطبقة قال: تحنّ إلى جبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده وقال الآخر: قوما يعالج حملها أبناؤهم ... وسلاسلا ملسا وبابا مؤصدا وذلك الإيصاد في «عَمَدٍ» غلاظ عظام من وراء أبوابها «مُمَدَّدَةٍ 9» توصد عليها بها، فلا يمكن أن يفتح بابها، ولا يدخل عليها روح. وقرىء عمد بضمتين وبفتح العين مع كسر الميم مثل أرم وأرم وأريم، وعقم وعقم وعقيم، وهو كل مستطيل من حجر أو خشب أو حديد، وهو جمع عمود على غير واحد، أما ما يجمع على واحد فهو ما ينظم مثل رسل جمع رسول، وزبر جمع زبور، سبل جمع سبيل. وجاء بهذا اللفظ لأن العرب اعتادوا أن يضعوا أحجارا أو أعمدة مستطيلة وراء الباب لئلا تفتح بالدفع جريا على عاداتهم فيدخلون أطرافها بشعوب يجعلونها في ساريتي الباب من الداخل، وإن الأبواب القديمة التي رأيناها في حلب والشام ودرعا وتدمر وبصرى كانت توصد على هذه الطريقة. وفي جهتي الباب من الداخل ثقوب لإدخال العمد فيها، ومنها ما هو موجود حتى الآن، ولكن لا قياس بين الأحجار والعمد التي يجعلها الناس، وبين العمد التي يجعلها ربهم. مطلب الكهرباء من الخوارق: ويؤخذ من هذا لا من حيث التأويل، بل من حيث نفوذ النور ما أحدث

تفسير سورة المرسلات عدد 33 - 77

في هذا الزمان الكهرباء وما يسمونه (أشعة رونتجن) إذ أن نورها يطلع على الافئدة وغيرها، ويبين ما فيها ويصورها فيظهر للرائي سلامة الأفكار والأعضاء ومعايبها. وما ندري ما يظهر لنا الزمن من أسرار هذا القرآن الذي قال عنه منزله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من الأنعام في ج 2. وأشار حيث أشارته في الآية 24 من سورة يونس في ج 2 أيضا، بأن أهل الدنيا يقدرون بتقدير الله على كل ما يتعلق بأمرها، وإن أعمالهم التي ظهرت الآن من طائرات سريعة الطيران وقاذفات تمحق المدن فضلا عن المذياع وشبهه والأوائل التي ينوب عمل يوم منها عن عمل شهر وأشهر تشير إلى قرب الساعة والله أعلم. نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق لكونه اعتاد الغيبة والنميمة والوقيعة في أعراض الناس، إلا أن الوعيد فيها عام يتناول كل من يباشر ذلك الفعل القبيح لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الغيبة والنميمة والهمز واللمز سنأتي عليها عند كل بحث يتعلق بها. حفظنا الله منها، هذا والله أعلم، واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى، الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين. تفسير سورة المرسلات عدد 33- 77 نزلت بمكة بعد الهمزة، وهي خمسون آية عدا الآية 48 فإنها نزلت بالمدينة، ومائة وثمانون كلمة، وثمانمائة وستة عشر حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، وختمت بما ختمت به سورة يوسف فقط، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى مقسما: «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً 1» الرياح المرسلة المتتابعة الكثيرة تهب بعضها اثر بعض، ومنه طار القطن عرفا أي بعضه خلف بعض، وجاء القوم عرفا أي جماعات بعضهم وراء بعض «فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً 2» الرياح الشديدة الهبوب تعصف، أي تكسر الأشجار كسرا أو تدحرج الأحجار دحرجة «وَالنَّاشِراتِ نَشْراً 3» الرياح المنبثة التي تنشر السحاب في السماء

[سورة المرسلات (77) : الآيات 11 إلى 20]

«فَالْفارِقاتِ فَرْقاً 4» الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل فيشكرون من يقوم بالأول ويمقتون الثاني، وسمي القرآن فرقانا لأنه يفرق بين الكذب والصدق وقيل هي فارقة السحب الحائلة بين تتابع الهواء كما قيل ان المراد بالناشرات الرياح التي تنشر لأخبار كالمذياع، وعليه ليكون من معجزات القرآن لفقدانه أبان نزوله «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً 5» الريح الشديدة المخوفة الملقية في النفوس اللجوء إلى الله تعالى، أو الملائكة الذين يلقون الوحي إلى الأنبياء بما يوحي لهم الله «عُذْراً» للمتقين المتمسكين به «أَوْ نُذْراً 6» للمبطلين الذين يعرضون عنه أو عذرا من الله إلى خلقه على حد قوله تعالى: (وقالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) الآية 164 من الأعراف الآتية، أي لئلا يقولوا ما جاءنا من نذير. هذا، وقد جمع الله بين الرياح والملائكة في هذا القسم لمشابهتهم الرياح في اللطافة وسرعة الحركة، وجواب القسم «إِنَّما تُوعَدُونَ» به أيها الناس على لسان رسلكم «لَواقِعٌ 7» لا محالة وانه سينزل بكم عند حدوث الآيات التي جعلت علامة على قربه المبينة في قوله تعالى (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ 8» ومحي نورها «وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ 9» فتحت بالأبواب قال تعالى: (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) الآية 19 من سورة النبأ في ج 2 ولا مانع عقلي من ذلك سواء كانت جسما لطيفا أو صلبا، وأدلة استحالة الخرق والالتئام مخروقة هنا لا تشرى ولا تسام، لأنها لا تحول حول خوارق الملك العلام، هذا وسيأتي بحث الخرق والالتئام في تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء والأولى من سورة القمر الآتيتين فراجعهما «وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ 10» قلعت وفتتت وصارت هباء منثورا راجع تفسير الآية 5 من سورة القارعة المارة والآية 88 من سورة النمل الآتية «وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ 11» حضّرت للميقات الذي وقته الله لهم للشهادة على أممهم وجمعت لذلك اليوم المشهود وإذا قلتم أيها الكفرة «لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ 12» وأخرت المواعيد التي توعدنا بها من إنزال العذاب فقل لهم يا سيد الرسل «لِيَوْمِ الْفَصْلِ 13» بين الخلائق، ثم أتبع هذا التعجب الذي هو من خصائص ذلك

[سورة المرسلات (77) : الآيات 21 إلى 30]

اليوم المهول بما يدل على تعظيمه وتفخيمه والتخوف من هوله بقوله عز قوله «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان أي شيء أعلمك «ما يَوْمُ الْفَصْلِ 14» هو يوم ناهيك به من شدة وبلاء وأسف وعناء انه «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 15» به من هلاك وخسار وخطر ودمار فقل يا حبيبي للمكذبين بك وبربك المنكرين يوم المعاد والبعث والحساب والجزاء «أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ 16» من الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم لما كذبوا رسلهم وفعلنا بهم ما فعلنا «ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ 17» الذين سلكوا سبيلهم بالكفر والتكذيب كقوم لوط وفرعون وقوم شعيب ومن بعدهم فإنا دمرناهم كما أهلكنا من قبلهم «كَذلِكَ» مثل ما فعلنا بأولئك من العذاب الفظيع «نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 18» من قومك لأن سنتنا ماضية على ذلك «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 19» بالبعث من العذاب الذي نوقعه بهم فيه وفي هذه الآيات تهديد لأهل مكة وتخويف لمن لم يؤمن منهم برسوله ولمن بعدهم إلى يوم القيامة ولا تكرار هنا لأن الجملة الأولى لعذاب الآخرة وهذه لعذاب الدنيا فتفكروا أيها الناس واعتبروا «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ 20» قذر قليل «فَجَعَلْناهُ» أي ذلك الماء في قرار» هو الرحم «مَكِينٍ 21» ومكنون ثابت لا يطلع عليه أحد ولا يعرف ما فيه غيرنا وأبقيناه «إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ 22» هو وقت الولادة المقدر لخروج الجنين المكون من تلك النطفة «فَقَدَرْنا» نحن الإله العظيم أجله عند كماله «فَنِعْمَ الْقادِرُونَ 23» نحن لتمام خلقه فلم نبقه بعد ذلك ولم نخرجه قبله طرفة عين، ومع هذا تكذبون أيها الناس «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 24» بالفطرة التي فطرنا الناس عليها والقدرة التي قدرناها ولا تكرار أيضا لاختلاف المتعلق «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً 25» وعاء تضمكم «أَحْياءً وَأَمْواتاً 26» على ظهرها وفي بطنها وقد خلقناكم منها، قال الصمصام بن الطرماح: فأنت اليوم فوق الأرض حيّ ... وأنت غدا تضمك في كفات «وَجَعَلْنا فِيها» الأرض «رَواسِيَ» جبالا ثوابت تثقلها «شامِخاتٍ» عاليات عظيمات لئلا تميد بكم رحمة بكم أيها الناس «وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً 27»

[سورة المرسلات (77) : الآيات 31 إلى 40]

عذبا حلوا وكل حلو فرات وأما نهر الفرات فقد اختص بهذا الاسم لشدة عذوبته بالنسبة لغيره من الأنهر، وقد ثبت بالتحليل أنه أحسن ماء إذا صفي تصفية صحيحة ويليه نهر العاصي وأما ماء الفيجة بدمشق فليس بشيء بالنسبة لها وأخسّ المياه ماء حلب وهذا في محيط سورية إذ قد يوجد ما هو أخس ولا تحديد لخلق الله «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 28» بقدرتنا على الاعادة وانكار نعمتنا المتتابعة وجحود أنبيائنا المرسلين لإرشاد خلقنا وإذ كان متعلق هذه الجملة غير الأول أيضا فلا تكرار، والاستفهام في هذه الجمل كلها للتقدير أي أتنكرون شيئا من ذلك، وإذا كنتم تقرونه فلماذا لا تؤمنون ولا تحذرون أن يقال لكم حين تدنو الشمس من الرؤوس ويلجم الناس العرق لعدم وجود ما يستظلون به «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 29» من البعث والجزاء والنار التي لم تصدقوا بوجودها حينما خوفكم أنبياؤكم عذابها «انْطَلِقُوا» أيها الفسقة «إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ 30» وهو ناشىء من دخان جهنم إذا علا وارتفع وتشعب كالمثلث الطائش وقد فسره بقوله «لا ظَلِيلٍ» يظل من الحر لأنه لا ظل له «وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ 31» أي لا يرد عنهم لهب جهنم الذي أو شك أن يلتهمهم في الموقف بل يزيدهم حرا على ما هم فيه من الحر، وهكذا كل مثلث هندسي يوشك أن لا يكون له ظل وارف بخلاف بقية الأشكال المربعة والمسدسة والمثمنة والمدورة وغيرها كالمستطيلة والبيضوية والمخمسة فانظر هداك الله انه جلّ شأنه لم يغفلى كتابه حتى من الأمور الهندسية فاحفظوا أنفسكم أيها الناس واحذروا هذه النار «إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ» هو ما يتطاير منها لكنه ليس كشرر نارنا بل إن كل شرارة منها «كَالْقَصْرِ 32» البناء العظيم الشامخ «كَأَنَّهُ» ذلك الشرر المتطاير منها «جِمالَتٌ» جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع «صُفْرٌ 33» من حيث اللون قال: دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى وكانت العرب تسمي الأصفر أسود وقرىء بضم الميم جمع جمال وهو الحبل العظيم من حبال السفن وقلوس الجسور مفرده قلس وهو حبل من ليف أو خوص النخل

مطلب مواقف يوم القيامة:

وتربط بها السفن وتسحب فيها في البحر والنهر والتشبيه في امتداده والتفافه وقرىء بكسر الجيم جمل أيضا مثل حجر وحجارة «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 34» الذين تغافلوا عن ذلك اليوم وهنا لا تكرر أيضا للعلة السابقة. مطلب مواقف يوم القيامة: ثم يقال لهم عند ما يريدون إبداء أعذارهم «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ 35» بحجة أو برهان يدافعون بهما عن أنفسهم وهذا موقف من مواقف يوم القيامة إذ يختم على أفواههم. وفيها موقف آخر يتكلمون فيه وفيها موقف يتخاصمون فيه فيما بينهم وفيها موقف يتخاصمون فيه مع الملائكة وفيها موقف يخاطبون به ربهم وفيها موقف يتعاتبون فيه بينهم وفيها وفيها وكل ذلك لا ينفعهم حيث تتكلم جوارحهم بما فعلوا فلا يخلصهم من عذاب الله شيء وسيأتي بيان هذه المواقف في الآية 167 من سورة البقرة في ج 3 والآية 12 من سورة السجدة والآية 11 من سورة ابراهيم في ج 2 والآية 60 من سورة ص الآتية وغيرها، ولهذا يقول الله «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ 36» حيث تقدم الله لهم بالاعتذار على لسان رسله في الدنيا وأنذرهم سوء العاقبة إذا أصروا على كفرهم فلم يقبل منهم عذر يعتذرون به في الآخرة فتكم أفواههم «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 37» بذلك اليوم الذي لا قدرة لهم على دفع العذاب فيه ولا يقبل منهم عذر إذ تقول لهم ملائكة العذاب «هذا» اليوم الذي أنتم فيه «يَوْمُ الْفَصْلِ» بين المحق والمبطل لا يوم الاعتذار الذي سبق أو انه لأن من أنذر فقد أعذر لذلك «جَمَعْناكُمْ» فيه بأمر ربنا أنتم يا مكذبين محمد «وَالْأَوَّلِينَ 38» الذين كذبوا الرسل قبلكم «فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ» من حيلة أو مكر في رفع ما نزل بكم من العذاب «فَكِيدُونِ 39» أيها الكفرة بما تقدرون عليه من أصناف الخداع ولستم بقادرين على شيء وهؤلاء الذين كنتم تعبدونهم وتقلدونهم في الدنيا موجودون معكم استصرخوهم إن كانوا ينقذونكم فإنهم أعجز منكم اليوم وأذل وسترونهم معكم في جهنم يعذبون بأشد مما تتعذبون لأن لهم ضعفين من العذاب لإضلالكم وإضلال أنفسهم وأنهم سيتبرءون عن عبادتكم

[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 إلى 50]

لهم وينكرونكم أيضا، وهذا نهاية في التوبيخ وغاية في التقريع لأن ذلك اليوم تنقطع فيه الحيل والأعذار ولهذا عقب هاتين الآيتين بقوله «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 40» بعدل الله فيه، ولما انتهى جل جلاله من بيان مآل حال الكفرة في هذه السورة شرع يبين ما للمؤمنين عنده فقال «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» الإنكار والجحود والتكذيب بما تقدم يكونون يوم القيامة «فِي ظِلالٍ» عند ربهم يظلهم بها يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، وهذا بمقابلة قوله للكافرين «ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ» وضد الظّل الضحّ وهو أعم من الفيء لأنه يقال لظل الليل وظل الجنة وكل موضع لم تصل إليه ظل ولا يقال الفيء إلا لما زاحت عنه الشمس ويعبر بالظل عن الرفاهية والمعزة والمناعة «وَعُيُونٍ 41» من ماء جارية في جنة عالية بدلالة قوله «وَفَواكِهَ» في تلك الجنة ذات الظلال الوافرة «مِمَّا يَشْتَهُونَ 42» من أنواعها وأصنافها يتلذذون بثمارها وتقول لهم الملائكة «كُلُوا وَاشْرَبُوا» من هذه النعم المتنوعة «هَنِيئاً» لكم ومريئا «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43» في الدنيا من العبادات والخيرات، ونظير هذه الجملة في الآية 45 من سورة الأعراف الآتية والآية 32 من سورة النحل في ج 2 «إِنَّا كَذلِكَ» بمثل هذا الجزاء «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 44» لأنفسهم وغيرهم في هذا اليوم جزاء إحسانهم في الدنيا «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 45» بما وعدنا المؤمنين، وهلاك وخسران وحسرة لحرمانهم من هذا النعيم الدائم وتعذيهم بما أوعدناهم به ويقال لهم أيضا «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا» أيها الكفار من هذه الدنيا الفانية «قَلِيلًا» لأنها مهما طال أمرها فهي قليلة بالنسبة للآخرة «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ 46» والمجرم يستحق العذاب والعقاب وقول كلوا وإن كان ظاهره أمرا فهو في المعنى نهي بليغ على حد قوله تعالى «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» الآية 67 من سورة فصلّت في ج 2، ففيه زجر عظيم لانهماكهم في الدنيا وانكبابهم على شهواتهم وإعراضهم عن الآخرة ونبذها وراءهم «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 47» بهذه النعم الدائمة التي غرتهم الدنيا الفانية بزخارفها البالية فأبعدتهم عنها «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا» لله واخضعوا لعظمته وتواضعوا لجلاله «لا يَرْكَعُونَ 48» أنفة واستكبارا.

تفسير سورة ق عدد 34 - 50

مطلب الآية المدنية في هذه السورة: هذا على القول بأن هذه الآية مكية، وعلى القول بأنها مدنية فيكون المراد الركوع في الصلاة الذي هو جزء منها، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن هذه السورة نزلت في غار بمنى وأن هذه الآية نزلت معها دفعة واحدة فإذا صح هذا فتكون مكية ويؤول الركوع فيها على الخشوع لغة، وإذا أريد وقوعه في الركعتين التي فرضت عليه قبل فرض الصلاة في الغداة والعشي فيؤول على معناه الشرعي ومن قال انها مدنية احتج بلفظ الركوع لأن نزولها قبل فرض الصلاة «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 49» بأنبيائهم الجاحدين المنكرين آيات الله الباهرة وهؤلاء إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب المنزل من لدنا على نبيهم الجامع لما في الدنيا والآخرة من خير وشر وقد كررت جملة «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» عشر مرات كل لمعنى كما علمت «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ» بعد هذا القرآن المشتمل على سير كتب الأولين كلهم «يُؤْمِنُونَ 50» أي لا يؤمنون البتة. آمنا بالله وحده واتبعنا ما جاءنا به عبده وهذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين أجمعين. تفسير سورة ق عدد 34- 50 نزلت بمكة بعد المرسلات وهي خمس وأربعون آية، عدا الآية 38 فإنها نزلت بالمدينة وثلاثماية وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمائة وتسعون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «ق» مفتاح اسمه القادر والقاهر والقريب والقدوس والقيوم والقدير وهي اسم للسورة أيضا والأحسن في معاني هذه الحروف أن يكل أمرها إلى منزلها وتقول الله أعلم بمراده بها وقد ذكرنا في تفسير نون أنها رمز بين المحب والمحبوب لا يعرفه غيرهما وسنذكر أوائل السور المبدوءة بالحروف معاني متفرقة أولا بأول فراجعها ففي كل منها ما ليس في الأخرى، راجع بحث الفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة، هذا وقد افتتح جل

شأنه سورا من كتابه ببعض حروف الهجاء على سبيل التحدي والتنبيه لكونه معجزا لا يضاهى، ودلالة على عظمته، أتبعه بالقسم فقال «وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» العالي الشرف وجواب القسم هذا محذوف تقديره انه لبالغ الإعجاز وإنه جدير أن يؤمن به من يسمعه وأنه لحقيق أن يعذب جاحده، قال ابن عباس رضي الله عنهما ق جبل محيط في هذه الدنيا، وقال غيره معناه قضي الأمر بما هو كائن إلى يوم القيامة «بَلْ» إضراب عما تقدم من معنى القسم إلى ما هم عليه من الجهل فقال «عَجِبُوا» أولئك الكفار قوم محمد «أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ» رسول ينذرهم ويخوفهم عاقبة أمرهم إن أصروا على كفرهم وذلك المنذر «مِنْهُمْ» في أنفسهم عرفوا صدقه وأمانته ونسبه ومكانته وآيته في القرآن البليغ الذي هو في لغتهم ومع ذلك أعرضوا «فَقالَ الْكافِرُونَ هذا» الذي جاء به محمد من عند ربه «شَيْءٌ عَجِيبٌ 2» غريب في بابه ونوعه إذ يقول فيه «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً» فإنا نحيا مرة ثانية ونسأل عما فعلناه «ذلِكَ» القول الذي يخبرنا به في رجوعنا بعد الموت إلى حالتنا الأولى بعد تفتتها وفنائها «رَجْعٌ بَعِيدٌ» عن العقل لا يوافقه عليه أحد ولا يكاد يصدقه إذ لم يخبرنا به آباؤنا فلا يكون ذلك أبدا وكلامك هذا يا محمد مرجوع عليك لبعد إمكانه قال تعالى ردّا لاستبعادهم ذلك «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ» من الموتى وما تأكله الأرض من لحومهم وتشربه من دمائهم وترمه من عظامهم بحيث لا يشتبه عليه جزء أحد من الآخر ولا يعزب عن علمه ما تداخل منها في تخوم الأرض وما دخل في بطون الوحوش «وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ 4» بعددهم وأسمائهم وما ينقص منهم وما يبقى في كل لحظة. وفي هذا رد لاستبعادهم النشأة الأخرى، أي فالذي هو كذلك أيها الناس وقد خلقكم من العدم ألا يقدر على إعادتكم؟ بلى قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الآية 28 من الأعراف الآتية، ثم اتبع الأضراب عن معنى القرآن باضراب آخر عن مغزى الإعادة فقال «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ» الحياة بعد الموت الثانية بالبراهين المتلوة عليهم من الأنبياء من لدن آدم بادي الرأي ولأول وهلة دون تفكر وتدبر كما أنكروا الإله والنبوة والقرآن ت (17)

والآيات الدالة على صدقها «فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ 5» مضطرب مختلط فكل تكذيب منهم يكون أفظع من الذي قبله، فتارة يكذبون نفس الرسول وأخرى يتهمونه بالسحر والكهانة والجنة والشعر، وطورا يقولون أن ما جاءنا به من أساطير الأولين وخرافاتهم وانه يتعلمه من أهل الكتاب وأنه يتقوله من تلقاء نفسه ومرة يدّعون ألوهية الملائكة والنجوم والأصنام والأوثان فتراهم لا يثبتون على شيء وتقلبهم هذا دليل على كذبهم، قال تعالى موبخا فعلهم ومذكرا لهم بصنعه ببعض حلقه «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها» بلا عمد يرونها أو بلا عمد أصلا، راجع تفسير الآية 2 من سورة الرعد في ج 3 والآية 10 من سورة لقمان في ج 2 «وَزَيَّنَّاها» بأنواع الكواكب والشمس والقمر «وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ 6» شقوق أو صدوع، فاعجبوا من هذا فإنه أعظم من الإعادة بعد الموت، راجع الآية 57 من سورة غافر «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها» على الخلاء لا شيء يمسكها ولا يقلها بشيء «وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ» جبالا عظاما لئلا تتحرك بكم فتزعجكم وهذا دليل على كونها قائمة بالهواء وإلا لما قال ذلك «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ» صنف ونوع من مأكول وغيره «بَهِيجٍ 7» نظارة وحسنا ولطافة فكل من يراه يبتهج ويسر، أي اغفلوا عن هذا الذي جعلناه «تَبْصِرَةً» للعاقل يتفكر به «وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ 8» إلى ربه تبصر في بدايع صنعه «وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً» فيه حياة كل شيء «فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ» بساتين يستدلون بها على جنات الآخرة «وَحَبَّ الْحَصِيدِ 9» البر والشعير والذرة والسمسم والدّخن والعدس والرز وكل ما يقطف ويحصد من مأكول الإنسان والحيوان فهل يجهل أحد صنعنا لهذا «وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ» مرتفعات في السماء طوالا مستويات «لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ 10» ثمر متراكب بعضه فوق بعض وهو في أكمامه فإذا خرج من الكم بأن انشق عنه فيكون منضودا ولهذا قال تعالى في حق الموز (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الآية 29 من الواقعة الآتية لأنه يطلع بعضه فوق بعض ولم يخلق في الكم أولا ثم يخرج منه، ولهذا فان ثمر النخيل قبل أن ينشق

[سورة ق (50) : الآيات 11 إلى 20]

عنه الكم يسمى طلعا، وقد جعلنا هذا كله «رِزْقاً لِلْعِبادِ» فضلا من لدنا ورحمة بهم «وَأَحْيَيْنا بِهِ» أي الماء المبارك «بَلْدَةً مَيْتاً» جف نباتها واسودت أرضها «كَذلِكَ» أي كما نحيي الأرض الميتة بانزال الماء وإخراج النبات يكون «الْخُرُوجُ 11» من المقابر وإحياء الخلق راجع الآية 56 من الأعراف الآتية واعلم يا أكمل الرسل أن قومك ليسوا بأول من كذب الرسل بما جاءوهم من عندنا فقد «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ» نوحا «وَأَصْحابُ الرَّسِّ» شعيبا بعد إرساله إلى أصحاب الأيكة كما سيأتي في الآية 85 من الأعراف الآتية، والرس البئر المطوية كانت لبقية من ثمود كذبوا نبيهم ورسوه في بئر لهم في اليمن قاتلهم الله، وقيل هم قوم باليمامة وأن صاحبهم الذي كذبوه قسطلة بن صفوان وقيل هم أصحاب الأخدود وصاحبهم الغلام الذي مر ذكره في الآية 4 من سورة البروج المارة «وَثَمُودُ 12» كذبت صالحا «وَعادٌ» كذبت هودا «وَفِرْعَوْنُ» كذب موسى وهارون «وَإِخْوانُ لُوطٍ 13» كذبوا لوطا وسماهم إخوانا لأن بينه وبينهم نسبا قريبا لأنهم طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام ومعارفه وهو ابن أخت ابراهيم «وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الأشجار الملتفة كذبوا شعيبا أيضا «وَقَوْمُ تُبَّعٍ» أي كرب الحميري حيث آمن وكذبه قومه لذلك خصه الله بالذكر كما خص فرعون نفسه لأنه هو المكذب راجع الآية 37 من سورة الدخان في ج 2 فكان «كُلٌّ» من هؤلاء الأمم «كَذَّبَ الرُّسُلَ» المرسلين إليهم فلا تحزن يا حبيبي على قومك «فَحَقَّ» على المصرين منهم على الكفر إنقاذ «وَعِيدِ 14» فيهم ووعد الرسل بالنصر عليهم، فقل يا سيد الرسل لهؤلاء المنكرين اعادتهم بعد موتهم «أَفَعَيِينا» أعجزنا أم تعبنا «بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ» لهم حتى نتعب باعادتهم ثانيا، كلا وعظمتنا إنما هو بين الكاف والنون، وقل لهم يا أكمل الرسل كيف تعترفون ببداية الخلق وتنكرون الإعادة وليس بشيء أهون علينا منها. وهذا جواب لقولهم (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) «بَلْ هُمْ» هؤلاء الجاحدون «فِي لَبْسٍ» شك وخلط وشبه ألقاها الشيطان في قلوبهم وأوقع الحيرة منه فيها بتسويله لهم بأن إحياء الموتى محال وأنساهم

التفكر بأن من قدر على الإنشاء لا تعبيه الإعادة بل هو على الإعادة أقدر «مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ 15» بعد الموت، وقيل إن هذه الآية عامة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهي أن الله تعالى يعدم كل موجود في كل لحظة ويحييه وهذا معنى التجدد، وأما في الآخرة فإنه يحيي من أماته إلى الحساب والجزاء ولا يعظم هذا على الله، كيف وهو يقول «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» من الخطرات والهواجس الحادثة الآن والتي ستحدث بعد في قلبه، لا يخفى علينا شيء من ضمائره، وكيف تخفى علينا «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16» العرق الذي يجري فيه الدم المتصل بكل جزء من أجزاء الإنسان، وهو بين الحلقوم والمري، ولذلك سمي وربدا، واذكر لهم يا محمد «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ» الملكان الموكلان بكل نفس يكتبان ما تعمل من الخير والشر ويحفظانه إلى يوم الحساب أحدهما «عَنِ الْيَمِينِ» يكتب الحسنات «وَعَنِ الشِّمالِ» الآخر يكتب السيئات «قَعِيدٌ 17» كل منهما بمحله لا يفارقه طرفة عين، وقد اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر كقوله: رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الهوان رماني أي وكان والدي بربئا. وقوله: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف أي نحن راضون، وهنا يكون عن اليمين قعيد أيضا إذ الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وبالعكس من أبواب البلاغه وسمي احتباكا وهو فضلا عن أنه لا يخل بالمعنى فلا يخفى على بصير، ولفظ قعيد يدل على الملازمة فهو أبلغ من قاعد ولهذا قال تعالى «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ» يقوله الإنسان «إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ» يراقبه لا يبرح عنه «عَتِيدٌ 18» تهيأ لتدوين ما يخرج من فيه، وهذان الملكان لا يفارقان الإنسان إلا عند الغائط والجماع، ولذلك يكره الكلام في هاتين الحالتين لئلا يؤذيهما في كتابة ما يقع منه فيهما لأنهما لا يهملان شيئا حتى أنينه في المرض ليثيبه الله عليه. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:

كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين حالا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر، وهذان غير المعقّبات الآتي ذكرهم في قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ) الآية 11 من سورة الرعد في ج 3 لأن الله وكل في بني آدم ملائكة كثيرين من حين يكون في بطن أمه إلى أن يدفن في قبره، ومن لطفه على عباده أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كانا يعملان في الصحة والإقامة من الحسنات فقط أما السيئات فلا، لأن العقاب فيها متوقف على الفعل فلو نوى ولم يعمل لا يكتب عليه شيء بل تكتب له حسنة كما سيأتي في تفسير الآية 84 من سورة القصص الآتية. أخرج بن أبي شيبة والدارقطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح مادام مشدودا في وثاقي. واخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: قال صلّى الله عليه وسلم: من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما قال تعالى «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ» أي شدته المذهبة لعقلة وغمرته التي تغشى المحتضر حالة نزعه إذ تحول بينة وبين عقله فتصيّره كالسكران «بِالْحَقِّ» عند بلوغ الأجل اليوم الذي يتبين به الإنسان من أمري الدنيا والآخرة ويعلم فيه ما يوصل إليه حاله من السعادة والشقاوة ويراه عيانا. واعلم أن الإنسان خلق لشيئين: لعبادة ربه مادام حيا قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2، وللموت عند انقضاء أجله قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 185 من آل عمران ج 3، وهي مكررة في الأنبياء والعنكبوت 35 و 57 الآتيتين ج 2 وهو لا ينجو منه أحد، قال: مناديه ينادي كل يوم: لدوا للموت وابنوا للخراب ويقال له «ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» تميل تعدل عن الموت الذي تنفر عنه ولا تريده بحالة من الأحوال، فها هو قد جاءك. أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة وصححه الحاكم قالت: لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو

[سورة ق (50) : الآيات 21 إلى 30]

بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول اللهم أعني على سكرات الموت. وجاء في بعض الآثار ما أخرجه ابن سعد عن عروة قال: لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت: يا عين فابكي للوليد بن الوليد بن المغيرة ... كان الوليد أبو الوليد فتى العشيرة فقال صلّى الله عليه وسلم لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي (وجاءت سكرة الموت بالحق) وأخرج أحمد وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال: لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت: أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فقال أبو بكر، ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: (وجاءت سكرة الموت بالحق) وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فقال رضي الله عنه: بل قولي (وجاءت سكرة الموت) إلخ. ولما بين جل شأنه بعضا من حالة الإنسان في حياته ومماته طفق يبين شيئا من أحوال القيامة التي لا بد له منها فقال «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» النفخة الثانية للبعث بدليل قوله «ذلِكَ» أي وقت هذه النفخة هو «يَوْمُ الْوَعِيدِ 20» للحساب والجزاء الذي وعدكم الله به في الدنيا على لسان رسله وحذركم من هوله لأن النفخة الأولى تكون لإماتة من بقي في الدنيا وبينهما كما قيل أربعون سنة، وفي النفخة الثانية يقوم الخلق من كفاتهم قال تعالى «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ» برة كانت أو فاجرة «مَعَها سائِقٌ» ملك يسوقها إلى الحشر الذي يقف الناس فيه للحساب «وَشَهِيدٌ 21» ملك آخر يشهد عليها بما عملت في الدنيا ويقال له «لَقَدْ كُنْتَ» أيها الإنسان في دنياك وبرزخك مدة طويلة «فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» اليوم العظيم وقد كنت تنكره وتجحده وتكذب رسلنا الذين أنذروكه «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ» الذي كان على بصرك والرين الذي كان على بصيرتك، وأزحناه عنك الآن لتنظره عيانا، وأمطنا ما كان على سمعك من الثقل لتسمعه جهرا حقيقة وأجلينا الصدأ الذي على قلبك لتعيه يقينا

«فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ 22» قوي جدا يرى ما كان محجوبا عنه في الدنيا بسبب غفلتك عن النظر إلى قدرتنا والسماع لأوامرنا والتفكر في مصيرك ومصنوعاتنا «وَقالَ قَرِينُهُ» الملك الموكل به الشهيد عليه الكاتب لأعماله «هذا ما» أي الديوان الذي «لَدَيَّ» عن سجل أعمالك «عَتِيدٌ» مهيأ ظاهر حاضر فينظر فيه فإذا هو والعياذ بالله جامع لكل شيء، وهو الكتاب المنوه به في الآية 14 من الإسراء الآتية، فيقول الله حينذاك، وهو أعلم بما فيه قبل إظهاره لأنه مدون في لوحه للسائل وللمشاهد اللذين جاءا به «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ 24 مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ» في الدنيا «مُعْتَدٍ» على نفسه وعلى غيره، يمنع خيره، ويوقع شره وضره «مُرِيبٍ 25» شاك في التوحيد وفي هذا اليوم وهو «الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» من أصنام وغيرها «فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ 26» الكائن في الطبقة السفلى من طبقات النار أعاذنا الله منها «قالَ قَرِينُهُ» شيطانه الذي قيض له السوء المنوه به في الآية 30 من سورة الزخرف في ج 2 والوارد ذكره في قوله صلّى الله عليه وسلم ما من أحد الا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني الا بخير هذا وإن بعض المفسرين فسر القرين الأول بالشيطان، وبما أن الجمهور على خلافهم فسرناه بالملك لأن سياق الآية بدل عليه، ويأبى الآخر، فانظر ماذا ترى. ولفظ القرين من النوع المبهم أحد أقسام البديع في الكلام، ولهذا فإنه يفسر بنسبة المقام كما جرينا عليه «رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ» أي ما أجبرته على الطغيان ولا أوقعته فيه، وهذا بعد أن سئل وقال أطغاني الشيطان، فيدافع الشيطان عن نفسه معتذرا ثم يقول «وَلكِنْ كانَ» هو يا رب غارقا «فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ 27» عن الحق وسبله، إذ اختار بطوعه ورضاه الضلال على الهدى وأكب على الردى، فيقول الكافر يا رب كذب هو الذي سوّل لي الشر وحسّن لي القبيح فأراد الشيطان أن يكذبه ثانيا فقطع الله. عليه كلامه «قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ» الآن اسكتوا لأني أرسلت إليكم رسلا «وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ 28» على ألسنتهم وبالكتب

التي أنزلتها عليهم، وقد أنذروكم وحذّروكم هول هذا اليوم وبينوا لكم منافع الإيمان ومضار الكفر فلم تفعلوا فلا فائدة من خصامكم الآن وقد قضي الأمر عليكم بالعذاب «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» فلا تطمعوا أن أغيره لأنه حق عليكم «وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 29» لأني لا أعذب أحدا بغير ذنب، وأنا العلام بما وقع منكم قبلا راجع تفسير الآية 22 من سورة ابراهيم في ج 2 والآية 30 من سورة المرسلات المارة تقف على مواقف القيامة، واذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ» إيفاء بوعده لها في سابق علمه وانجازا لقوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» الآية 119 من سورة هود في ج 2 قال ابن عباس فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملأها شيء فتقول مخاطبة ربها عز علاه، ألست قد أقسمت لتملأني؟ قال فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت، فتقول قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت. وفيها ثلاث لغات بإسكان الطاء وكسرها وتنوينها، أي قد امتلأت وليس في مزيد وكانت تقول قبل هذا زدني فيزيدها «وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ 30» ولا يقال أن النار معنى وان كانت جسما فلا يأتي منها النطق، ولانها ليست صالحة للخطاب لأن الله الذي أنطق كل شيء في الدنيا وأنطق جوارح الإنسان بما صنعت، والحيوان بما اعتدى، والجماد بما وقع منه وعليه، قادر على إنطاق النار وجعلها صالحة للخطاب بإبداع سر من أسراره فيها، وقد خاطبها الله في غير هذا الموضع في الآية 79 من سورة الأنبياء وخاطب الجبال في الآية 10 من سورة سبأ وخاطب النحل في الآية 69 من سورة النحل وخاطب السماء والأرض في الآية 11 من سورة السجدة في ج 2 وأمثاله كثير في القرآن العظيم كما نبين كلا في محله ان شاء الله. مطلب في آيات الصفات وما يجب فيها: ولنورد ما يتعلق في هذه الآيات من الأحاديث: روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع ربّ العرش، وفي رواية رب العزة، فيها قدمه فينزوي بعضها إلى

[سورة ق (50) : الآيات 31 إلى 40]

بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل، حتى ينشيء الله لها خلقا فيسكنهم فيها، فتقول الجنة قط قط. ولأبي هريرة بزيادة: ولا يظلم الله من خلقه أحدا. وهذا من أحاديث الصفات التي سبق البحث عنها في الآية 21 من سورة الفجر المارة، وذكرنا أن جمهور المتكلمين وطائفة من العلماء يصرفونها عن ظاهرها بالتأويل، فيضعون بدل القدم المقدم أي حتى يضع الله من قدم من أهل النار لقيام الدليل على استحالة الجارحية على الله تعالى، وجمهور من السلف وطائفة من المتكلمين بحروفها على ظاهرها ويؤمنون بها من غير تأويل وهو الأقرب وعليه فيكون معنى الرجل الجماعة كما تقول رجل من جراد أي جماعة منه أي يضع فيها جماعة أو قوما مسميين بلفظ الرجل القدم والإضافة هنا اختصاصية راجع تفسير هذا الحديث في شرحي البخاري ومسلم. وقال البغوي القدم والرجل في هذا الحديث من صفات الله المنزه عن الكيفية والتشبيه، والإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ والمنكر معطل، والمكيف مشبّه، وهو ليس كمثله شيء هذا والله أعلم قال تعالى «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ» قربت وهيئت للمتقين المساعدين عما نهوا عنه الفاعلين ما أمروا به «غَيْرَ بَعِيدٍ 31» مكان قريب منهم كي يروها وتقر أعينهم بها ويقال لهم «هذا ما تُوعَدُونَ» في الدنيا على لسان رسلكم وهي لكم و «لِكُلِّ أَوَّابٍ» رجاع توأب من الذنوب. «حَفِيظٍ» على حدود الله مبالغ في طاعته وهو «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ» خافه وأطاعه وصدق رسله «بِالْغَيْبِ» وآمن به من غير أن يراه «وَجاءَ» يوم القيامة الى ربه «بِقَلْبٍ مُنِيبٍ 33» اليه خاضع له خاشع لهيبته مخلص لعبادته مقبل اليه بكليته فهذا وأمثاله يقال لهم «ادْخُلُوها» أي الجنة التي قرّبت إليكم «بِسَلامٍ» وأمن من زوالها وسلام من الله وملائكته عليكم «ذلِكَ» يوم يدخل أهل الجنة الجنّة، وأهل النار النّار، هو «يَوْمُ الْخُلُودِ 34» لا موت ولا خروج بعده أبدا «لَهُمْ» لأهل الجنة «ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ 35» لهم مما لم يخطر على بالهم وهو رؤية

مطلب الآية المدنية في هذه السورة وخلق السموات والأرض والتسبيح:

الله عز وجل إذ لا مزيد عليه لأهل الجنة بعدها، ولهذا فان جمهور المفسرين فسروا المزيد بالجنة كما فسروا الزيادة الواردة بالآية 26 من سورة يونس في ج 2 بها وبين مزيد وزيادة مناسبة باللفظ وبالآيتين بالمعنى، والقرآن يفسر بعضه، وبعد أن بين تعالى حال أهل النار وحال أهل الجنة للذكرى والاعتبار قال مهددا أهل مكة بما فعله من قبلهم بقوله «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ» يا محمد من الأمم الماضية الذين لم تنفعهم الذكرى ولم يعتبروا بما وقع عليهم «مِنْ قَرْنٍ» أي قرون كثيرة ممن لم يتعظ بنذرنا «هُمْ» أي المهلكون «أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً» من قومك الذين يزعمون أنهم أشداء كثيرون، وأكثر عددا وعددا، وأعظم سطوة وجولة «فَنَقَّبُوا» طافوا وتقلبوا «فِي الْبِلادِ» شرقا وغربا جنوبا وشمالا ليروا ما يعصمهم من عذاب في الدنيا فلم يجدوا ما يقيهم منه فلينظر قومك «هَلْ مِنْ مَحِيصٍ 36» مخلص أو مهرب لهم أو مأمن أو ملجأ من عذابي فلم يجدوا وهل وجد أحد من العصور الخالية وزرا مني؟ كلا بل لا بد من الموت والرجوع إلي، قال الحارث بن كلدة: نقبوا في البلاد من حذر الموت ... وجالوا في الأرض كل مجال وقال امرئ القيس: وقد نقّبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي قصصناه عليكم يا أمة محمد بشير إلى أنكم ومن قبلكم ومن بعدكم صائرون إلينا وإن هو «لَذِكْرى» عظيمة وعبرة باهرة وعظة بالغة «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» واع وعقل ثابت وفكر ثاقب «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» لما يتلى عليه من القرآن، وسمعه سماع قبول لا يحدث نفسه بخلافه مصغيا لإرشاده «وَهُوَ شَهِيدٌ 37» فطن لا غافل ولا نسيان، لأن من لا يحصر ذهنه ولبه وسمعه وبصره لآيات الله لا يدخل في هذه الآية بل يكون في عداد الذين ذكرهم الله في الآية 187 من الأعراف، الآتية أعاذنا الله من ذلك. مطلب الآية المدنية في هذه السورة وخلق السموات والأرض والتسبيح: وهذه الآية المدنية قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما»

من الجن والإنس والملائكة والطير والوحش والمياه وغيرها «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا» لحقنا ولا أصابنا «مِنْ لُغُوبٍ 38» إعياء أو تعب فكيف تستعظمون علينا إعادتكم أيها الناس وهي لا شيء بالنسبة لهذا الذي لا تفي به القوى لأنه أعظم من الخلق كله راجع الآية 57 من سورة غافر من ج 2، وهذه الآية أيضا كالمستطردة بالنسبة لما قبلها وبعدها كسائر الآيات المدنيات في المكيات، وسبب نزولها أن اليهود قالوا أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه كما هو موجود في التوراة الموجودة الآن راجع الاصحاح الأول والثاني من التكوين في التوراة، فكذّبهم الله عز وجل في هذه الآية، نافيا عن ذاته المقدسة التعب والاعياء المستلزمين للراحة. ومما يدل على كذبهم أن الأيام أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان بدأ خلقها بالأحد كما يزعمون لكان الزمان مخلوقا قبل الأيام مع أن الزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام لأن اليوم عبارة عن سير الشمس من طلوعها إلى غروبها وقبل خلق السموات والأرض ما كان شمس ولا قمر لأن اليوم يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة من الزمن أيّ مدة كانت فبطل قول اليهود وثبت التحريف في التوراة الموجودة الآن بين أيديهم وأن ما ينسبونه إلى الله من الاستراحة والاستلقاء محض زور وبهتان تعالى الله عنهما علوا كبيرا. انتهت الآية المدنية. قال تعالى «فَاصْبِرْ» يا حبيبي «عَلى ما يَقُولُونَ» فيك من التكذيب والبهتان فإني بالمرصاد لهم، يعلمون أنهم يجحدون آياتي بتكذبيك راجع الآية 32 من الأنعام في ج 2 وإنما أمره ربه بالصبر مع تطاولهم عليه الذي كاد أن يمحق صبره لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» إنما أمره بالتسبيح فيه لأنه سيفرض عليه وعلى أمته فيه صلاة الصبح كما في أزله وكذلك الأمر في قوله «وَقَبْلَ الْغُرُوبِ 39» لأنه ستفرض فيه صلاة المغرب وقبله صلاتا الظهر والعصر «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أيضا حيث يفرض فيه صلاة العشاءين وتسمى فيه النافلة والتهجد «وَأَدْبارَ السُّجُودِ 40»

سبحه بعده أيضا والسجود كان يفعله صلّى الله عليه وسلم قبل فرض الصلاة إذ أنه سجد في آخر اقرأ والنجم وغيرها، والمراد من هذه الآية مطلق التسبيح لأن الصلاة التي فيها التسبيح لم تفرض بعد وقال علي وعمر رضي الله عنهما: المراد بأدبار السجود الركعتان بعد المغرب (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) الآية الأخيرة من سورة الطور في ج 2 الركعتان قبل الصبح إلا أن هذه بكسر الهمزة إذ يراد بها ذهابها لجهة سيرها الذي تغيب فيه عن يمين الرائي وهناك بفتح الهمزة حيث يراد بالإدبار البعدية المطلقة، أي سبحه بعد كل سجود حين الهدى اليه، لأن التسبيح يكون فيه وهو المراد هنا وإن كان مطلوبا في غيره وفي كل حال، إذ ينبغي للانسان أن لا يغفل عن ذكر الله كما جاء في الآية 191 من آل عمران في ج 3 وبعض المفسرين يجوزه في هذا أيضا ويقولون ان المراد بآية الطور الركعتان قبل الصبح. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. يعني سنة الفجر. وروى البخاري عن ابن عباس قال: أمر رسول الله أن يسبح في أدبار الصلوات كلها. وهذا كله كان بعد فرض الصلاة، ولا يخفى أن عائشة وابن عباس كانا صغيرين دون سن التمييز، حيث كان سن عائشة عند الهجرة سبع سنين، وابن عباس أربع سنين، بما يدل على أن ليس المراد بها السجود في الصلاة ولذلك قال بعضهم المراد بالتسبيح هنا التسبيح بعد الصلاة مستدلا بما رواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر. وفي حديث ابن عباس المتقدم أن هذا جاء بمعرض الثواب لمن لا يقدر على تحصيله من جهة أخرى. يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن نفرا من المسلمين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الوتور بالأجور وفي رواية بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك؟ قالوا صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال، قال:

[سورة ق (50) : الآيات 41 إلى 45]

أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم. وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله؟ تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا. وتكبرون عشرا. وفي رواية أبي ذر الغفاري: ان لكم بكل تسبيحة صدقة وبكل تكبيرة صدقة وبكل تحميدة صدقة وفي بضع أحدكم صدقة إلخ قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر، قال تعالى «وَاسْتَمِعْ» يا سيد الرسل لما أخبرك به من حال يوم القيامة الذي قصصناه عليك كيف يكون «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» أهلها بالنفخة الثانية «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ 41» قربا نسبيا من السماء إذ يقف على صخرة بيت المقدس، وهي على ما قيل بمكان أقرب الى السماء من الأرض بثمانية عشر أو اثني عشر ميلا وانها وسط الأرض، فيقول بصوت يسمع فيه أقطار الأرض كلها ولحج البحار وبطون الأودية ورؤس الجبال بدلالة قوله تعالى «يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ» وكيفيّتها أيتها العظام النخرة البالية والأوصال المنقطعة واللحوم الممزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء «بِالْحَقِّ» يوم البعث والجزاء والحشر، ويقال هلموا لهذا فتستجيب تلك الذرات لأمر الرب وتلنئم كلها على بعضها، لا يعزب منها ذرة حتى تكون جسدا كما كانت في الدنيا، وتدبّ فيها الحياة بأمر محيي الموتى، فيا أيها الناس «ذلِكَ» يوم النداء هذا هو «يَوْمُ الْخُرُوجِ 42» أي خروج الأموات من مدافنها والذرات من أماكنها وهو يوم التئامها وتكوينها في بعضها كما كانت في الدنيا، ليعلم هؤلاء المنكرون حقيقته عيانا «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي» الخلق في الدنيا «وَنُمِيتُ» من نخلقه فيها بعد انقضاء أجله «وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ 43» اي الحياة الأخرى في الآخرة «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ» بالبناء للفاعل وقرىء المفعول وقرىء بتشديد الشين للتكثير وقرىء بتاءين، وهذه كلها جائزة، راجع بحث القراءات في المقدمة. فيخرجون «سِراعاً» إلى أرض الحشر بدليل قوله «ذلِكَ» أي يصير هذا الأمر العظيم «حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ 44» جدا هين بالنسبة لقدرتنا إذ

تفسير سورة البلد عدد 35 - 90

لا يشغلنا شأن عن شأن، فاترك با أكمل الرسل كفار قومك ولا تجادلهم «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» من جحد البعث وانكار الآيات ولا يضرك تكذيبهم لك لأنك لم تؤمر بقتالهم «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ» الآن «بِجَبَّارٍ» لأنك لم تسلط عليهم بعد وما أنت الآن إلا منذر ومبلغ «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ 45» لأن الذي لا يخشاه لا تنفعه الذكرى ولا تؤثر فيه الموعظة. قال ابن عباس قالوا لو خوفتنا يا رسول الله، فنزلت هذه الآية مما يدل على أن هذه السورة لم تنزل دفعة واحدة فضلا عن الآية المدنية فيها. هذا، وقد ذكرنا آنفا أن قرب المنادى قربا نسبيا على أنه يمكن ان يكون حقيقيا لأنه إذا كان المذياع يسمع كافة أطراف الأرض وما فيها بآن واحد بلا فرق بين البعيد والقريب منها، وهو من مصنوعات العبيد فلأن يسمع أهل البرزخ كلهم بوق اسرافيل كسماع رجل واحد من باب أولى، ولا تحديد لقدرة الله. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة البلد عدد 35- 90 نزلت بعد سورة ق، وهي عشرون آية كالمزمّل المارة، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وثمانون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «لا أُقْسِمُ» تقدم الكلام في هذا أول سورة القيامة المارة فراجعها ففيها بحث نفيس «بِهذَا الْبَلَدِ 1» مكة شرفها الله «وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ 2» كرره لشرفه تأكيدا، وأقسم به تعظيما لقدره وتكريما لمن ولد فيه وهو محمد صلّى الله عليه وسلم وان وجوده فيه أكبر تعظيم وتقديس له فلا حاجة إلى القسم به وفي قوله «حِلٌّ» اشارة إلى أنه سيفتحها على يديه

بعد إخراجه منها، وأنه سيحلها له وهذا من الإخبار بالغيب، راجع الآية 10 من سورة الأعلى والآية 3 من سورة التكوير المارتين، لأن الله أخبره بهذا وهو في مكة، وقد أنجز الله له وعده يوم الفتح المبين كما سيأتي في سورة الفتح في ج 3 حيث أحلها له وقتا من الزمن، وأباح له ان يصنع فيها ما يشاء، حتى انه أمر بقتل ابن حنظل وهو معلق بأستار الكعبة وكذلك مقيس بن حباية وقد أحل دماء قوم وحرم دماء آخرين وأمّن من دخل البيت ودار أبي سفيان ومن أغلق بايه ومن ألقى سلاحه، ثم قال إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة قال تعالى: «وَوالِدٍ وَما وَلَدَ 3» آدم عليه السلام فمن بعده من الأنبياء والعالمين، لأن الكفرة والعصاة لا حرمة لهم حتى يقسم بهم، وقيل المراد بالوالد ابراهيم وبالولد إسماعيل ومحمد عليه الصلاة والسلام، إلا أن الآية عامة وما ذكرناه أليق بعمومها لأن آدم أول والد لنوع الإنسان، وجواب القسم «لَقَدْ خَلَقْنَا» نحن خالق السموات والأرض «الْإِنْسانَ» جنسه وأهله وما تولد منه «فِي كَبَدٍ 4» شدة ومشقة وتعب وبلاء ومحنة ونصب، لأنه كابد مصائب الدنيا وحمله وولادته ورضاعه وفطامه، وفصاله ومعاشه في الدنيا، وموته وقبره، وحشره ونشره وحسابه يوم الجزاء على ما وقع كله كبد، وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول عما هو فيه من أذى قومه، وان الإنسان لا يخلو من مقامات الشدائد والمحن، وما أنت يا محمد إلا إنسان ويجري عليك ما يجري عليه، فلا تحزن ولا تجزع، وعليك بالصبر والاحتساب إلى أن يأتيك بالنصر والفتح. قال ابن عباس الكبد الاستقامة والاستواء أي خلقنا الإنسان منتصبا معتدلا لا كسائر الحيوان وليس بشيء في هذا المقام. قال تعالى «أَيَحْسَبُ» الإنسان لإنسان مخصوص ويشمل غيره ممن هو على شاكلته «أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ 5» بما يزعم من قوته (كلّا) نزلت هذه الآية في أسيد ابن كلدة بن جمح المكنّى بأبي الأشد من صناديد قريش الذي كان يضع الأديم العكاظي وهو أقوى أنواعه تحت رجله ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا، فلا

يطيق أحد أن يزيله عنه حتى يتقطع الأديم فلا يبقى إلا موضع قدمه، وكان يكابد حضرة الرسول مفتخرا بقوته هذه، وسياق الآية الأولى يدل على نزولها فيه لوجود لفظ كبد لأن الرسول يكابد من هذا الخبيث زيادة على ما كان من أذى قومه وكان ينتهك حرمته وحرمة البيت ويزداد فى تعنته عليه، والتهديد في الآية موجه إليه خاصة والى من يفعل فعله عامة، ولأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وهذا الخبيث من جملة من تولى كيد عداوة الرسول كالوليد بن المغيرة وعمرو بن عبد ود وأبي جهل والحارث بن عامر وأمية بن خلف والأخنس وكان ذلك الملعون المتعاظم بقوته على أضرابه المتفاخر على حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم «يقول» غير مبال بما بترتب على قوله من طعنه بحضرة الرسول «أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً 6» كثيرا متراكبا على بعضه في عداوة محمد، ويتباهى على المؤمنين بذلك، ولم يقل أنفقت قاتله الله لعدم الاكتراث به ولأنه لم يرج نفعه بل قال أهلكت وأذهبت وأضعت مالا جسيما في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلم وكان يغري به السفهاء والعبيد ليتطاولوا على حضرة الرسول ويتجاوزوا عليه «أَيَحْسَبُ» هذا الملعون «أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ 7» حينما كان يهدر ماله في سبيل إيذاء الرسول، ألم يعلم أن الله يراه ويقدر على الانتقام منه في الدنيا، وأنه سيسأله عنه في الآخرة مم اكتسبه وفيم أنفقه، ثم شرع يعدد نعمه عليه التي يجب أن يشكرها ويؤمن بمن أنعم بها عليه ويحترم رسوله من أجلها لا أن يكفر ويجحد ويتعدى فقال «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ 8» يبصر بهما «وَلِساناً» يتكلم به «وَشَفَتَيْنِ 9» يشد بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغيره فضلا عن أنهما زينة له «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 10» طريقي الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال، بما منحناه من العقل الذي يميز به بين ذلك ويمتاز به على غيره، وقال ابن عباس هما الثديان لاهتداء الإنسان والحيوان لتناولهما دون تعليم حال خروجه من بطن أمه، والأول أولى وهما داخلان في المعنى لأنهما من الخير الذي وهبه الله له في بداية خلقه، والنجد المكان المرتفع ولذلك سميت نجد نجدا، قال امرؤ القيس:

[سورة البلد (90) : الآيات 11 إلى 20]

فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع بطن كبكب قال تعالى «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ 11» الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة بأن يرمي نفسه بالأمر الذي يريده بلا روية ولا تؤدة، والعقبة الطريق الذي فيه صعود، أي الا فعل الخير ولم يقصر في شكر نعم ربه، ولم يتبع نفسه هواها بالأذى والإضرار والمباهاة «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ 12» جاء السؤال هنا على طريق الاستفهام تعظيما لشأنها والجواب، هي شيئان خفيفان على من وفق، الأولى «فَكُّ رَقَبَةٍ 13» مملوكة بأن تعين في ثمنها، أو تعتقها ابتغاء مرضاة الله، والثانية «أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14» من أيام احتكار أو مجاعة شديدة عامة والأولى بالإطعام فيها أولا أن يطعم «يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ 15» لأنه أولى من غيره ففيه يجمع بين الصدقة والصلة وفيهما من الأجر ما فيهما والقربة مطلق القرابة في النسب، قال الزجاج لا يقال فلان قرابتي لأن القرابة مصدر بل يقال ذو قرابتي، وفيه قيل: يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور أي بنيل إرثه والاستيلاء عليه «أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ 16» أي لاصق جنبه بالأرض لشدة فقره ولعدم من ينظر إليه من ذويه وغيرهم، ولا شيء يقيه من التراب لأنه ينام على الأرض. مطلب الحكمة الشرعية من الصدقات: وأفضل الصدقة التي تكون على مثل هؤلاء، أما الذين لهم شيء يعلم به المتصدّق فينبغي ألا يعطيه من فضله بل يصرفه على الأحوج، هذا في الصدقة، أما الهدية فهو بالخيار والحكم الشرعي هو أنه ينبغي على الرجل أن يعطي صدقته إلى الأحوج من أقربائه ثم من جيرانه، ثم من أصدقائه ومعارفه وأن يختار الأتقى وقليل المسألة. قال صلّى الله عليه وسلم اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم. أي كما أن الرجل إذ أراد أن يتزوج يختار الأحسن تقى ونسبا إذ قال (عليك بذات الدين) لمن سأله ممن يتزوج، لأن الفقير المتقي يستعين بما يأخذه على تقوى الله، وأما الفاسق فقد يصرفها في المعصية. «ثُمَّ كانَ» هذا الذي وفق لاقتحام العقبة وعمل الخير «مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات» يفعلهم ذلك وسيلقى ثوابه عند ت (18)

تفسير سورة الطارق عدد 36 - 86

ربه لأن الكافر يعطى جزاء أعماله الحسنة في الدنيا حتى لا يبقى له عند الله شيء يكافئه عليه في الآخرة «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» على فعل الطاعة وترك المعصية مع إيمانهم وعملهم الصالح «وَتَواصَوْا» وصّى بعضهم بعضا عند ما يجتمعون ويتفارقون «بِالْمَرْحَمَةِ 17» على عباد الله وسائر خلقه «أُولئِكَ» المتواصون والمار وصفهم هم «أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ 18» المباركون المعنيّون في الآية 100 من الإسراء الآتية الذين يعطون كتبهم بأيمانهم أو من جهة اليمين وهم السعداء (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس الآتية فهم الذين يكونون من جهة الشمال ويعطون كتبهم بشمالهم المعنيون بقوله عز قوله «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» وماتوا على كفرهم «هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ 19» المتموتون المشئومون الذين «عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ 20» قدمنا ما يتعلق في تفسير هذه الجملة في تفسير الآية 8 من الهمزة المارة فراجعها هذا والله أعلم، واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الطارق عدد 36- 86 نزلت بمكة بعد سورة البلد، وهي سبع عشرة آية، وإحدى وستون كلمة، ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ 1» أقسم جل قسمه بسمائه لأنها مسكن لملائكته الكرام ومعدن أرزاق الناس وغيرهم من خلقه. قال تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 22 من الذاريات في ج 2 والطارق هو النجم الذي يظهر ليلا، وتنفصل منه الشهب للشياطين الذين يسترقون السمع فتستوحي منه الشياطين ما تقدمه للمنجمين فيعتمدونه في علومهم، مما يخرجون الناس به من نور الإيمان إلى ظلمة الكفر، والرجم هو التكلم بالظن ومنه الرجم بالغيب. راجع الآية 5 من سورة تبارك، والآية 18 من سورة الحجر في ج 2، وكل من أتاك ليلا فهو طارق، ويطلق على العلو والرفعة قالت هند: نحن بنات طارق نمشي على النمارق. تريد ان أباها نجم في علوه وشرفه. وليعلم ان القسم بهذه الأشياء هو قسم بربها، وعليه يكون المعنى، ورب السماء

ورب الطارق، ورب الشمس، ورب القمر، ورب التين، وهكذا. ثم نوه جلّ شأنه بعظم هذا النجم على سبيل الاستفهام الدال على التفخيم فقال «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان الكامل «مَا الطَّارِقُ 2» الذي أقسمنا به، هو «النَّجْمُ الثَّاقِبُ 3» في إضاءته وإنارته المتوهج المتوقد الذي يتقد سناه في الظلام، وسبب نزول هذه السورة هو ان أبا طالب جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأتحفه بخبز ولبن، فبينما هو يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم نارا ففزع أبو طالب وقال أي شيء هذا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم هذا نجم رمى به وهو آية من آيات الله فعجب أبو طالب ونزلت، وجواب القسم «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ 4» من ربها موكل بحفظها من الآفات ويحفظ عليها عملها ويحصيه ويهيء لها رزقها إلى بلوغ أجلها، وإن في صدر الآية نافية بمعنى إلا أي ما كل نفس الا عليها حافظ وقرنت لما بالتخفيف وعليه تكون ان مخففة من الثقيلة، واللام في لما اللام الفارقة بين ان النافية وان المخففة من الثقيلة، وما للتأكيد وعليه يكون المعنى أن كل نفس لعليها حافظ، وكلاهما جائز، والأول أحسن وأبلغ وعليها المصاحف. قال تعالى «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ» الذي يرى نفسه كبيرا ويتعظم بقوته على غيره، وفي هذه الآية إشارة إلى أبي الأشد المار ذكره في السورة السابقة، وهذا من جملة المناسبات التي قد تأتي بين السور، وهكذا قد يكون بين كل سورة والتي تليها مناسبة على ترتيب النزول، وقد يكون أيضا على ترتيب المصاحف، أي فليتفكر ذلك الإنسان المعجب بقوته «مِمَّ خُلِقَ 5» أخفى مادة خلقه لكونها لا شيء، ثم صرح بها بقوله «خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ 6» الدفق صب مع دفع أي مصبوب بشدة في الرحم لعظم ما ينتج عنه من هذا الإنسان المنطوي على كمالات لا تعد ولا تحصى ثم بيّن منبع ذلك الماء بقوله «يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ» من الرجل و «التَّرائِبِ 7» من المرأة وإنما خصّ هذين الموضعين وهو في الأصل يخرج من جميع الأعضاء لأن أكثره من الدماغ فينصب في عروق الظهر من الرجل، وينزل من عروق كثيرة من مقدم المرأة، فيما بين الثديين. ولهذا قال من بين الصلب وهو عظام الظهر: (وليراجع في

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 إلى 17]

هذا الموضوع بحث طبي في مجلة التمدن الإسلامي الدمشقية ص 655 من المجلد 21 عام 1374) والترائب وهي عظام الصدر والنحر ومركز الثديين، ومفرده تريب، قال المثقب العبيدي: ومن ذهب يبين على تريب ... كلون العاج ليس بذي غصون وقال امرؤ القيس: مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسّجنجل أي فمن كان أصله من هكذا شيء مهين، لا يليق به أن يتفاخر ويتباهى ويتطاول، وليعلم أن الذي خلقه مما علم وأماته بانقضاء أجله في الدنيا «إِنَّهُ» ولا شك «عَلى رَجْعِهِ» إحيائه مرة أخرى وإعادته بعد موته كما كان في الدنيا «لَقادِرٌ 8» حقا حقا واعلموا أيها الناس أن هذا الإحياء له أجل عند الله الحاكم العدل «يَوْمَ تُبْلَى» تختبر «السَّرائِرُ 9» مكامن القلوب ومخابيها من العقائد والنيات السيئة وهو يوم القيامة يوم تظهر فيه خبايا الناس وتتكشف ضمائرها على ملأ الأشهاد ليعرف من أدى حقوق الله ممن ضيعها، ويتميز الأمين منها عليها من الخائن المقصر فيها، وفي ذلك اليوم العصيب يستسلم العبد لربه «فَما لَهُ» فيه «مِنْ قُوَّةٍ» يمتنع بها من عذاب الله كأبي الأشد وأضرابه المذكورين في الآية 4 من سورة البلد المارة «وَلا ناصِرٍ 10» ينصره من قريب أو حميم ويتباعد عنه أقاربه (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) الآية 35 من سورة عبس المارة، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ 11» أي التي ترجع في كل دورة إلى الوضع التي تتحرك منه، أو المطر لأنه من أسمائه حيث يجيء ويرجع قالت الخنساء: يوم الوداع دموعها جارية ... كالرجع في المدجنة السارية أو أنها ترجع إلى ما كانت عليه قبل الفتق قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية 30 من سورة الأنبياء في ج 20 «وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ 12» المتصدعة بالأشجار والأنهار المنشققة بالنّبات والمعادن التي كانت كتلة واحدة مع السماء فانشقت عنها بأمر الله القادر فرفع

السماء وأهبط الأرض وهو على كل شيء قدير وجواب القسم «إِنَّهُ» أي هذا القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل «لَقَوْلٌ فَصْلٌ 13» جزم قاطع بين الحق والباطل وصل بين الهدى والضلال «وَما هُوَ» كما يقول كذبة قومك وغيرهم «بِالْهَزْلِ 14» بل حق جد وحق جزم يترفّع قارئه عليكم ان يلم بهزل أو يتفكه بمزاح أو يتهم بتعليم أو نقل. وقد بلغ الغاية القصوى في الصدق والأمانة فمن شأنه أن يهتدي به الغواة وتخضع لهيبته رقاب العتاة ليس بلعب ولا باطل ولا سحر ولا كهانة ولا خرافة وإذا كان قومك لم يزالوا يتمارون بتقولاتهم وترهاتهم تلك، فدعهم يا حبيبي ولا تبال بهم ولا يهمك أمرهم وما يريدونه بك «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ» ويحيكون لك «كَيْداً 15» حقدا ويدبرون لك حيلة تافهة يسيرة ليمكروا بك «وَأَكِيدُ» أنا الملك الجبار قاهر الأكاسرة ومبيد الأمم «كَيْداً 16» عظيما لا يقدر قدره البشر جزاء كيدهم بك فأستدرجهم لهوة هلاكهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالقتل والأسر والذلة والحقار والجلاء وبالآخرة بعذاب لا تطيقه أجسامهم، وإذا كان كذلك وهو واقع لا محالة «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ» أنظرهم وافسح لهم المجال ولا تستعجل بالدعاء عليهم ودعهم يطيلون أملهم ليزدادوا غرورا وتطاولا في البغي والغي والطغيان. ولمّا كان الإمهال يكون كبيرا بعيدا أو قليلا قريبا نبه عليه بقوله «أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً 17» شيئا يسيرا ومدة جزئية، فالعذاب آتيهم لا محالة وفيها تهديد عظيم ووعيد بالغ وقد أخذهم الله بعد نزول آية السيف وأمره بقتالهم، ثم فتح الله عليه بلدهم عنوة ومكنه منهم حتى صاروا كلهم من طلقائه وهذه الآية من الإخبار بالغيب المنوه به مما تأخر حكمه عن نزوله، راجع سورة الكوثر المارة وما نرشدك اليه، لأن فيها الماعا لاجتماعهم في دار الندوة وتشاورهم في أمر إهلاكه أهلكهم الله، كما سيأتي تفصيله في بحث الهجرة في سورة العنكبوت في ج 2. هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في اللفظ ولم تكرر في القرآن أيضا، هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا

تفسير سورة القمر عدد 37 - 54

ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة القمر عدد 37- 54 نزلت بمكة بعد طارق، عدا الآيات 44 و 45 و 46 فانها نزلت بالمدينة، وهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة، والف وأربعمائة وثلاثة عشر حرفا، وتسمى سورة اقتربت ويوجد سورة الأنباء مبدوءة بلفظ اقترب ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به في القرآن. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «اقْتَرَبَتِ» وفي وقت «السَّاعَةُ» القيامة «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ 1» انشقاقا حقيقيا علامة على قربها ومعجزة لرسول الله، والسبب في نزول هذه الآية، أن قريشا سألت رسول الله أن يريهم آية دالة على صدقه في ادعاء النبوة، لأنهم لم يعتبروا بما نزل في القرآن الذي هو أعظم آية وأدومها ولم يكتفوا به فأراهم انشقاق القمر مرتين، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس وزاد الترمذي: فنزلت هذه السورة أي عدا الآيات المدنيات. وقوله مرتين قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا، فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير. وفيه إشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها. وقد فعل نحوه الكفرة لأنهم لما رأوه مسحوا أبصارهم ثم أعادوا النظر فلما رأوه لم يتغير قالوا ما هذا إلا سحر فلو قال أحد هؤلاء رأيته ثلاث مرات أو أكثر صح بلا غبار. قال الأبوصيري رحمه الله: شق عن صدره وشق له البدر ... ومن شرط كل شرط جزاء مطلب معجزة انشقاق القمر: فتعدد الرؤية لا يقتضي تعدد الانشقاق إذ لم يقل به أحد، وأخرجا عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله شقتين فقال صلّى الله عليه وسلم اشهدوا: وفي رواية قال: بينما نحن مع رسول الله إذ انفلق القمر فلقتين، فلقة فوق الجبل وفلقة أدناه فقال لنا صلّى الله عليه وسلم اشهدوا. ولا يعارض هذا ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة

لأنه لم يصرح بأنه كان ليلتئذ بمكة فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلّى الله عليه وسلم مقيم بمكة أي قبل الهجرة. ولهما عن ابن عباس قال: إن القمر انشق في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وروى مسلم عن ابن عمر قال: انشق القمر على عهد رسول الله فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل، فقال صلّى الله عليه وسلم: اشهدوا. وعن جبير بن مطعم قال: انشق القمر على عهد رسول الله فصار فلقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا فقال بعضهم لئن كان سحرنا أما يستطيع أن يسحر الناس كلهم؟ أخرجه الترمذي، وزاد غيره: فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله فقالت قريش سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا نعم رأيناه. وقال مقاتل انشق ثم التأم. فهذه الأحاديث مصدق بعضها لبعض وكلها صحاح، قد وردت في هذه المعجزة العظيمة مع شهادة القرآن بها الذي هو أول دليل وأقوى شاهد مثبت لوقوعها، ولا يشكّ فيها مؤمن، وقد أخبر بها الصادق المصدوق، وناهيك باخباره من برهان، فيجب الاعتقاد بوقوعه والإيمان به، وذلك في السنة السادسة من البعثة ولا يقدح في صحة الحديثين المرويين عن ابن عباس وأنس كونهما لم يولدا إذ ذاك لأنهما ثقتان ولا ينقلان إلا عن ثقة كما هو المشهور عنهما وأنهما لم يقولا رأيناه انشق ليقدح في رؤيتهما وإنما يخبران عن الانشقاق الذي بلغهم عن رسول الله وهما أصدق صادق فيما يخبران به، ولا يقال لو كان لما خفي على أهل الأقطار الأخر ولو رأوه لنقلوه متواترا لأن الطباع جبلت على نشر العجائب، إذ يجوز ان الله حجبه عنهم بغيم أو نحوه ولا سيما أنه وقع ليلا حال غفلة الناس لقلة من يتفكر في ملكوت السموات، وكثيرا ما يخسف القمر وتكسف الشمس ويحدث في السماء ليلا من العجائب والبدائع والأنوار والطوالع والشهب العظام، ولا يتحدث بها إلا آحاد الناس لغفلة الآخرين عنها، ولأنها قد تكون في موضع آخر، وكثيرا ما نقرأ الآن في الصحف على سبيل التواتر أن الشمس كسفت في محل كذا والقمر خسف في مكان كذا، ولم نر شيئا من ذلك في بلادنا، تأمل على أن الركبان

والمسافرين الذين قدموا مكة وخرجوا منها إذ ذاك أخبروا بوقوع ذلك كما ثبت بالأحاديث الصحيحة التي درجت آنفا وغيرها مما لم يدرج كثير، ويجوز أن يكون القمر في مجرى ومنزلة يظهر فيه لبعض الأماكن دون بعض كما يكون ظاهرا عند قوم غائبا عند آخرين، هذا ولم ينكر هذه المعجزة المشهورة المشهودة الا المبتدعة والملاحدة الذين أعمى الله أبصارهم كما أعمى بصائرهم وطبع على قلوبهم ولا صحة لهم بعدم معقوليتها لأن العقل يجوزها، إذ أن القمر مخلوق لله يفعل به خالقه ما يشاء، فكما أنه يسلب نوره ويفنيه ويكوره في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، يفلقه في الدنيا معجزة لنبيه على أن المعجزات هي نفسها خوارق للعادات يظهرها الله على أيدي رسله لإيمان البشر وهي فوق العقل، فهل إحياء الموتى وجعل الطين طيرا معقول وإبراء الأكمه والأبرص دون عقاقير يقبله العقل، فان إنكار ذلك يؤدي لإنكار هذا الذي يؤدي إنكاره إلى الكفر والعياذ بالله ومثل انشقاق القمر وكسوف الشمس الثابت بالأحاديث الصحيحة بدعوته صلّى الله عليه وسلم عليه لعلي كرم الله وجهه حتى صلّى العصر حيث قال صلّى الله عليه وسلم اللهم انه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد له الشمس فردت وصلّى الوقت فيها. وهذا ثابت بالتواتر، واختار العلامة ابن السبكي أن الأحاديث صحيحة ومتواترة كما جاء في شرح الواقف الشريفي في شرحه مختصر ابن الحاجب قال: الصحيح عندي الانشقاق وأنه متواتر ومنصوص عليه في القرآن ومروى في الصحيحين وغيرهما وقد جاء اخبار الله بلفظ الماضي لأن السورة نزلت بعد إظهار هذه المعجزة تحقيقا لوقوعها ومن قال إن الفعل بمعنى المضارع فقد أخطأ لإجماع المفسرين على خلافه ولأنه شاذ لا يصح، باطل لا يثبت، لان حمل الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله أو دليل يدل عليه كما في قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أول سورة النحل في ج 2 فان جملة فلا تستعجلوه أدت إلى نقله الى المستقبل وهنا لا شيء من ذلك فتصور ذلك هنا بعيد عن الحقيقة وهو من قول المبتدعة والملحدين حتى ان حذيفة قرأ وقد انشق أي افتريت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق

وذلك تحقيقا لما ثبت عنده من أمر الانشقاق، جعل الجملة حالية تقتضى المقارنة بزيادة قد التحقيق بقراءته من حيث لا وجود لها في القرآن تفسيرا منه لإثبات الانشقاق، هذا وإن ما احتج به المنكر من استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ولأن خرقها يوجب صوتا هائلا يهلك أكثر أهل الأرض ولذهاب قوة التجاذب يلزم بقاؤه منشقا كالجبل إذا انشق مردود أيضا، لإن إرادة الله كافية في الانشاق وفي كل المعجزات الخارقة للعادة، ولو اشترط لكل حادث سبب لزم التسلسل، وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع أيضا فيما نحن فيه، وكذلك التجاذب لأن الأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتخاذ جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها تعاسر مثلا جذبته اليه إذا لم يخرج عن حد جذبتها على زعمهم. ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حد الجذب. على أننا في غنى عن ذلك كله بعد اثبات الإمكان وشمول قدرة القادر عز وجل، وانكار هذا بحجة الخرق والالتئام تستوجب إنكار المعراج أيضا، تدبر ما يحوكه هؤلاء الفسقة المارقون، وأعلم أن غاية الحجة استبعاد هذا الأمر بدون دليل على الاستحالة الذاتية واستبعاد الخوارق جنون قد يؤدي إلى الكفر، إذ لا مجال للعقل فيها أما إنكار الانشقاق نفسه من حيث الكيفية والكمية فلا يكفر فيه لامكان التأويل في الآية فقط فظهر من هذا أنه لا مانع عقلا ولا حسا من أن الله تعالى خلق السرعة في الانشقاق والالتئام بمقدار ما رآه الناس وأمعنوا نظرهم فيه للتأكيد عن صحته مرتين أو أكثر أما ما قاله الحكماء من أن بين الشمس والأرض ثلاثمائة الف فرسخ وأربعين الف فرسخ وأن ضوء الشمس يصل إلى الأرض في ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية، وأن الضوء يقطع في كل ثانية سبعين الف فرسخ، ويستبعدون الانشقاق لهذا السبب، فيقال لهم: أن الذي خلق هذه السرعة في الشمس والضوء ألا يخلقها في الإنشقاق وهو الفعال لما يريد، وهل من مانع يمنعه من ذلك وهو على كل شيء قدير ولا شيء عليه بعزيز. هذا والمراد باقتراب الساعة المنوه به في

الآية القرب الزماني، وكل آت قريب، وإن ما بقي من الدنيا نسبة لما مضى منها يسير جدا لا يقدر أن يعارض به أحد وهو أمر مقطوع به، واستعمال القرب في الآية كاستعمال لعل في قوله تعالى (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الآية 63 من الأحزاب في ج 3 وأن الأمر معلوم عند الله وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب. هذا وقد ذكرت الصحف الأجنبية مقالة عربتها جريدة الإنسان التي كانت بالأستانه حاصلها أنه عثر في ممالك الصين على بناء قديم مكتوب عليه أنه بني عام كذا أي الذي وقع فيه حادث سماوي عظيم، وهو انشقاق القمر نصفين. وقد حرر الحساب فوجد موافقا سنة انشقاقه لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم. فينبغي لمن فيه مسكة من عقل ألا يرتاب في شيء مما جاءت به الشريعة الإسلامية. وقد نقل هذا على ورقة التقويم العربي الهاشمي حمزة فتح الله في 11 جمادى الأولى سنة 1348 الموافق 13 تشرين الأول سنة 1929 قال تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً» من آيات الله الباهرة الدالة على صدق محمد الصادق الأمين «يُعْرِضُوا» هؤلاء الكفرة عنها ويولوها أدبارهم «وَيَقُولُوا» هذه «سِحْرٌ» سحرنا به محمد وقد قالوا ذلك فيما تقدم من آياته الظاهرة حتى انهم قالوه في هذه الآية بأنها سحر «مُسْتَمِرٌّ 2» مطرد دائم يأتينا بمثله، وأنه وإن كان استمر وجود هذه الآية بضعة من الزمن فإنها ذاهبة لا تبقى فلا تصدقوا به، وفي تنوين (آية) دلالة على أنهم ينكرون كل الآيات لأن النكرة إذا نونت عمت فتشمل كثيرا من نوعها هذا وما ذكره بعض القصاص من أن القمر حينما انشق دخلت فلقة منه جيب رسول الله وخرجت من كمه وفلقة كللت رأسه صلّى الله عليه وسلم باطل لا أصل له، إلا أنه شاع أن حضرة الرسول لما طلب منه بعض كفار قريش، العاص بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطلب، وربيعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، واضرابهم المار ذكرهم في الآية 5 من سورة القيامة المارة أن يظهر لهم آية ليؤمنوا، وكانت ليلة بدر فسأل ربه وأشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق وبقي لحظات ثم التأم «وَكَذَّبُوا» بعد إظهار هذه الآية الباهرة «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» التي زينها لهم الشيطان ولم يصدقوا

بها وقالوا سحر مستمر ولكنه زائل مهما بقي «وَكُلُّ أَمْرٍ» يأتي به الرسول لا يكون سحرا وإنما هو حق ثابت «مُسْتَقِرٌّ 3» لا يتغير ولا يتبدل ويتبين أنه حق وهذه جملة مستأنفة مسوقة للرد على الكفار بمقابلة قولهم سحر مستمر، وإنما قالوا مستمر ، لأن السحر لا يدوم وهو كذلك ولكنهم لما رأوا آيات الرسول متتابعة قالوا إن ما يأتي به سحر ولكنه مستمر «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ» أخبار الأمم الماضية التي قصها عليهم والمعجزات التي أظهرها على أيدي رسلهم من غير آيات محمد «ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ 4» منتهى الاتعاظ لو كانوا يؤمنون بمحمد وما أنزل عليه ولكنهم لم يتعظوا وأصل مزدجر مزتجر أبدلت التاء دالا لأنها حرف مهموس والزاي حرف مجهور فأبدل التاء المهموس بالدال المجهور ليتناسبا، وهكذا كل تاء من هذا القبيل ومعناه الزجر والمنع. واعلم أن هذا القرآن وحده «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» واصلة حد الإحكام في الوعظ فاذا لم ينتهوا به «فَما تُغْنِ النُّذُرُ 5» أي الأنبياء والرسل بعد القرآن «فَتَوَلَّ» يا سيد الرسل «عَنْهُمْ» فانهم لم ينتفعوا بوعظك وإرشادك لأنهم بعد اعراضهم عن إنذار الله لا يغنيهم إنذارك شيئا فاتركهم واذكر لهم «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ» إسرافيل عليه السلام ويناديهم ببوقه في النفخة الثانية من قبورهم يقول لهم هلموا «إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ 6» فظيع هائل ينكرونه لعدم رؤيتهم مثله قبل وما قيل ان هذه الآية منسوخة لا قيمة له لأنه لم يؤمر بعد بقتالهم بل بإرشادهم تدريجا لأن الحكمة الإلهية اقتضت إنزال الشرائع تدريجا أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وإرشادا وانذارا وتبشيرا وتهديدا، وهكذا من المقدمات التي اقتضتها الحكمة الإلهية ليتعظ من يتعظ، وتحق الكلمة على المصر، وتظهر الحكمة فيمن يؤمن فيقومون من مدافنهم «خُشَّعاً» منصوب بالفعل بعده وفيه معنى الحال «أَبْصارُهُمْ» ذليلة خاضعة خائفة حين «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» القبور وما شابهها من مكامنهم وخص الأبصار مع أن كل الأعضاء ترجف وتختلج من شدة الهول، لانها علامة على الحزن والذلة للأشقياء، والفرح والعزة للسعداء، قال:

[سورة القمر (54) : الآيات 11 إلى 20]

والعين تعرف من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها فتظهر الكآبة على وجه الفاسق، والصباحة على وجه الطائع لأول وهلة «كَأَنَّهُمْ» في الكثرة «جَرادٌ مُنْتَشِرٌ 7» يموج بعضهم في بعض حيارى لا يعرفون أين يتوجهون وشبههم بالجراد لانه يركب بعضه بعضا عند سيره لكثرته وتفرقه في كل جهة حالة كونهم «مُهْطِعِينَ» مسرعين خائفين لا ينظرون إلا «إِلَى الدَّاعِ» أي لجهة صوته مادّين أعناقهم شاخصين بأبصارهم مهرولين نحوه وإذ ذاك «يَقُولُ الْكافِرُونَ» بعضهم لبعض «هذا يَوْمٌ عَسِرٌ 8» شديد الصعوبة وفي تخصيص الكافرين بشارة على أن المؤمنين يكون عليهم سهلا يسرا راجع تفسير الآيتين 25- 26 من سورة الفرقان والآية 10 من سورة طه الآتيتين، واعلم يا أكمل الرسل أن قومك لم يبتدعوا التكذيب حيث «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا» نوحا عليه السلام وكرره لأنه عاش فيهم مالم يعشه نبي في قومه بالدعوة وعدم الإيمان وكلما كذب أهل قرن تبعه القرن الآخر، إذ كانوا يتواصون أي أن كل جيل يوصي من بعده بعدم اتباعه وتصديقه ويقولون لهم إنه ساحر كذاب قاتلهم الله «وَقالُوا» له مثل ما قال لك قومك «مَجْنُونٌ» ولم يقتصروا على تكذيبه، بل إنهم منعوه عن أداء الرسالة التي كلفه ربه أداءها، بدليل قوله «وَازْدُجِرَ 9» أي منع وهدد بالقتل عدا السب والشتم الذي فعلوا مثله بك وازدجر مثل مزدجر فعل به ما فعل به، ولما ضاق بالسيد نوح الحال وتأكد عدم ايمانهم زهد فيهم ورفع يديه «فَدَعا رَبَّهُ» وقال في دعائه يا رب «أَنِّي مَغْلُوبٌ» على أمري الذي أمرتني به من جهة قومي ولا قدرة لي عليهم «فَانْتَصِرْ 10» لي بنصرك الذي وعدتنيه وانتقم لي منهم وذلك بعد إياسه من قبول دعوته وايحاء الله له بعدم إيمانهم، راجع الآية 36 من سورة هود ج 2، فأجاب دعاءه قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 110 من سورة يوسف في ج 2، ثم بين كيفية نصره له بقوله «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ 11» متدفق بشدة انصبابه وعظمة نبعه

وكثرة هطوله المنبئ عنه قوله تعالى «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» شققناها عن عيون جارية «فَالْتَقَى الْماءُ» النازل من السماء مع النابع من الأرض «عَلى أَمْرٍ» حال ووقت «قَدْ قُدِرَ 12» زمانا ومكانا، حسبما هو مقدر في علم الله وقوعه عليهم بهذه الصورة المقدرة على عدم ايمانهم بأن يخالفوا رسولهم ويموتوا غرقا، فقضى عليهم قضاء مبرما لا مرد له فأهلكوا جميعا غيره ومن آمن به لقوله جل قوله «وَحَمَلْناهُ» أي نوحا وأهله المؤمنين ومن آمن به لأنهم تبع له «عَلى ذاتِ أَلْواحٍ» من الخشب «وَدُسُرٍ 13» مسامير «تَجْرِي» بهم تلك السفينة التي أمرنا بصنعها الموصوفة بصفة تقوم مقامها ونعت ينوب منابها، وهو جائز إذا لم يفصل بينها وبين صفتها فاصل كما هنا، وهو ومن فصيح الكلام وبديعه كما تقول حيّ مستقيم القامة عريض الأظفار كناية عن الإنسان، ومنه قوله: مفرشي صهوة الحصان ولكنّ ... قميصي مسرودة من حديد أي أنه درع، وقد يكون من باب حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه حسب القواعد النحوية أي سفينة ذات ألواح ودسر، وهو جائز فيما هو معلوم كهذه وجريانها ذلك «بِأَعْيُنِنا» ومرأى منا بحفظنا ورعايتنا، وكان هلاكهم بهذه الكيفية «جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ 14» به وهو نوح عليه السلام لأنه كان نعمة لهم فكفروا به، وهكذا كل نبي فإنه يرسل نعمة لقومه لينقذهم من الهلاك، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) الآية 28 من سورة إبراهيم في ج 2، قال تعالى «وَلَقَدْ تَرَكْناها» أي تلك السفينة وأبقيناها «آيَةً» دالة على قدرتنا ليعتبر بها من رآها ومن يأت بعدهم «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 15» متعظ بها فيعتبر وعود الضمير هنا للسفينة على ما جرينا عليه لسبق ذكرها أولى من عوده إلى الواقعة أي الحادثة نفسها، وهي الفعلة التي فعلها الله بهم وأبقى ذكرها مستمرا تتناقله الأجيال وتذكره الكتب القديمة والحديثة بأن أبقاها بأرض الجزيرة حتى رآها أوائل هذه الأمة، وحتى الآن يشار إلى موضعها فيها. وأصل مدكر مذدكر، أبدلت الدال والتاء دالين وأدغمتا في بعضها، وهكذا كل كلمة من باب افتعل يفعل بها

مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض.

هكذا، قال تعالى «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ 16» بحق المنكرين المكذبين وهذا الاستفهام تعظيم وتعجب أي أنهما كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف وستأتي القصة مفصلة في الآية 25 من سورة هود في ج 2، «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ» سهلناه لقومك يا محمد بأن جعلناه بلغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر والأمثال، وكررنا فيه الوعد والوعيد والقصص والأخبار «لِلذِّكْرِ» التذكر به «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 17» متعظ يعتبر به، وهذه جملة قسم كررها الله في آخر هذه القصة والقصص الثلاث الآتية تقريرا لمضمونها وتنبيها على أن كل منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، وفيها حث على تعليم القرآن ولزوم العمل به لأن الله يسره للكبير والصغير والعربي والعجمي، ولما انتهى من ذكر قصة نوح مع قومه ذكر قصة أخرى فقال «كَذَّبَتْ عادٌ» نبيهم هودا عليه السلام «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ 18» في هؤلاء المكذبين الآخرين وكيفية عذابهم الفظيع بعد أن وعظناهم ونصحناهم بواسطة رسلنا ولم يؤمنوا «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً» شديدة الهبوب باردة ذات حول هائل «فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ 19» دائم الشؤم وهو مطلق الزمن لقوله تعالى في الآية 16 من سورة فصلت «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» وقال جل شأنه في الآية 7 من سورة الحاقة من ج 29. (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) مطلب في أربعاء صفر وعيادة المريض. قيل كان وقوع هذا الريح يوم الأربعاء من آخر شهر صفر قال ابن عباس آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ به كثير من الناس وتطيروا منه حتى أنهم تركوا السعي فيه ونسبو لعلي كرم الله وجهه أنه قال: وآخر أربعا في الشهر ترك......... ولكن ابن عباس وسيدنا علي على فرض صحة ما نسب إليهما لم يعيناه في صفر ولكن الناس خصوه فيه، وحتى الآن تراهم يتركون أعمالهم ويخرجون إلى النزهات ويعملون فيه أعمالا واهية كتكسير الجرار والسبح في الماء وغيرها من الترهات

مع أنه لم يثبت فيها شيء صحيح يركن اليه، وجزم ابن الجوزي بوضع ما روي عن ابن عباس، وقال ابن رجب لا يصح ورفعه غير متفق عليه. وقال السخاوي طرقه كلها واهية وما جاء في الفردوس عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها لولا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء إلخ غير معلوم الصحة. وما أخرجه ابن يعلى عن ابن عباس يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء، ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس، ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء، ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح قد ضعفه السخاوي، وضعفوا أيضا خبر الطبراني وهو يوم الأربعاء يوم نحس مستمر، إذ جاء في الأخبار ما يشعر بمدحه فقد جاء في منهاج الحليمي وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء وذكر برهان الإسلام في شرح تعليم المتعلم نقلا عن صاحب الهداية (ما بدأ شيء يوم الأربعاء إلا وتم) ، ولذلك فإن بعض المشايخ يبدأون تدريس طلبتهم فيه وروى عن جابر مرفوعا في غرس الأشجار يوم الأربعاء، وقال سبحان الباعث الوارث آتته أكلها، وهناك أخبار أخر منها ما رواه ابن ماجه، وخرجه الحاكم عن ابن عمرو مرفوعا أيضا لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء ومنها ما يفيد النهي عن قص الأظفار فيه وانه يورث البرص وكرّه بعضهم عيادة المريض فيه وفيه يقال: لم يؤت في الأربعاء مريض ... إلا دفناه في الخميس ولهذا فإن أهالي دمشق يتورعون عن عيادة المريض فيه وقد يغضب أهل المريض إذا وقع هذا ممن لا يعرفه ويولولون عند دخوله، لهذا ينبغي التحاشي عن عيادة المريض يوم الأربعاء لمن يعتقد ذلك لما فيه من إلقاء الرعب على أهل المريض والمريض أيضا لأن العائد لم يقصد بعيادته إلا الأجر وسرور المريض واهله، فإذا علم أن ذلك على العكس كان عليه التباعد عنه، حكي أن رجلا قال لأخيه أخرج في حاجة فقال إنه في يوم الأربعاء، فقال له: ولد فيه يونس عليه السلام، قال قد بانت بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه الله. فقال

فيه ولد يوسف عليه السلام، قال ما أحسن ما فعل به إخوته حتى طال حبسه وغربته، فقال فيه نصر المصطفى، قال بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر هذا وقد نسب الحافظ الوميطي لعلي كرم الله وجهه هذه الأبيات: فنعم اليوم يوم السبت حقا ... لعيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه ... تبدى الله في خلق السماء وفي الإثنين إن سافرت فيه ... سترجع بالنجاح وبالثراء ومن يرد الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ يوما دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاء حاج ... فإن الله يأذن بالقضاء وهذا العلم لا يرويه إلا ... نبيّ أو وصيّ الأنبياء قال الآلوسي لا أظنها تصح عنه، وإن الأيام كلها لا تنفع ولا تضر بذاتها ومن تطيّر بها حاقت به نحوستها، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله لم يؤثر فيه شيء، وعلى فرض صحة بعض الأخبار من حضرة الرسول من نحوسة آخر أربعا في الشهر من باب النظير ضرورة أنه ليس من الدين بل من فعل الجاهلية، ولا يبني على قول المخمنين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل أيضا، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير عن مثل ذلك اليوم الذي نزل فيه العذاب ووقع فيه الهلاك أي احذروه وجددوا التوبة فيه خشية أن يلحقكم بؤس كما وقع فيمن قبلكم، وهذا كما قال صلّى الله عليه وسلم حينما أتى الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين. وهكذا ينبغي أن لا يقف أحد في كل موضع وقع فيه عذاب الله على بعض خلقه ويتحاشى المرور فيه إلا لقصد الاعتبار وجاءت آثار في غير الأربعاء لم تصح أيضا، منها نعوذ بالله من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف، ولو فرض صحته فهو في يوم مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه. ومنها ما جاء في الفردوس من حديث ابن مسعود: خلق الله الأمراض يوم الثلاثاء، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض، وفيه

[سورة القمر (54) : الآيات 21 إلى 30]

خلق الله جهنم، وفيه سلط ملك الموت على أرواح بني آدم، وفيه قتل قابيل هابيل، وفيه توفي موسى وهارون، وفيه ابتلي أيوب. وهذا ان صح لا يدل على نحو سعة، وغاية ما فيه أنه وقع فيه ما وقع، وجاء في رواية مسلم (خلف المنفق) أي ما يقوم به المعاش. يوم الثلاثاء هذا والله أعلم أنه لا اختصاص ليوم أو ساعة بالنحس والسعد فما من يوم أو ساعة إلا وهما على أناس سعد ونحس على آخرين، باعتبار ما يحدث الله تعالى فيهما على خلقه من نعم ونقم. وإذا تتبعت التواريخ وجدت في كل يوم حوادث عظيمة، وناهيك حادثة عاد فإنها استغرقت الأسبوع كله، فإذا كانت النحوسة لذلك فلم يخل يوم منها فعلى العاقل أن لا يتقيد بشيء من ذلك ويتوكل على الله، وليعلم أنه لا دخل للأوقات بما يوقعه الله فيها، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، نعم جاء لبعض الأوقات فضل لا ينكر كيوم الجمعة والساعة فيه للإجابة ويوم عرفة وشهر رمضان وليلة القدر وليلتي العيدين، وليلة البراءة، والعاشر من المحرم، ولبعضها ذم كالأوقات التي تكره فيها الصلاة والمحال التي وقع فيها العذاب على الكافرين ولأيام التي كان الهلاك فيها بخصوصها لا مثلها، فقد ثبت أن العنكبوت عشش على الغار الذي دخله محمد صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر، فهذا بخصوصه ممدوح أما غيره فلا، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام اقتلوا العنكبوت فإنه شيطان. وقس على هذا قال تعالى في وصف تلك الريح «تَنْزِعُ النَّاسَ» تقلعهم من محالهم فتدق رقابهم بالأرض فتصيرهم «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ» أي أصولها من غير فروعها «مُنْقَعِرٍ 20» منقلع من مغارسه ساقط على الأرض، أي كل واحد من قوم عاد صار كجذع نخل خاو لا حراك به وإنما شبههم بالنخل لطول قامتهم وعظم أجسادهم «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ 21» فانظروا أيها الناس وتفكروا فيه واستعيذوا من مثله بالله وتعجبوا منه «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 22» يتذكر به ويتدبر عاقبة أمره ثم بدأ يذكر القصة الثالثة فقال: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ» نبيهم صالحا «بِالنُّذُرِ 23» الرسل وجاء بلفظ الجمع، لأن تكذيب واحد منهم كتكذيبهم كلهم، لأنهم كلهم ت (19)

مرسلون من الله، ومتفقون على أصول الدين والتشريع، ولأن ثمود منحدرون من عاد التي كذبت هودا فلما كذبوا صالحا فكأنهم كذبوا هودا أيضا فمن قبله، ثم بين صورة تكذيبهم بقوله: «فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» أي لا نتبع واحدا منا لأن الاستفهام انكاري ولا يجاب إلا بلا كما أن الاستفهام التقريري لا يجاب إلا ببلى مثل (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وقالوا «إِنَّا إِذاً» إذا اتبعنا فردا من جنسنا «لَفِي ضَلالٍ» عن الصواب والسداد منحطين عن الحق والهدى «وَسُعُرٍ 24» جنون أو جمع سعير أي في شدة من العذاب وهذه الجملة في الأصل قول صالح عليه السلام لهم بأنكم إذا لم تتبعوني تكونوا في ضلال عن الحق في الدنيا وفي سعر النار في الآخرة فعكسوا عليه قوله لتعنتهم وعتوهم المشعر به حكاية الله عنهم وقالوا «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ» الوحي الذي يزعم أنه نزل «عَلَيْهِ» من ربه «مِنْ بَيْنِنا» وفينا من هو على زعمهم أحق منه به وهذا كقول قريش في الآية 31 من سورة الزخرف في ج 2 «بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ 25» متكبر حمله بطره لأن يتعظم علينا مع أن فينا من هو أحسن منه للنبوة، فرد الله عليهم رد تهديد وتخويف بقوله عز قوله: «سَيَعْلَمُونَ غَداً» حين نزول العذاب بهم «مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ 26» هم أم هو «إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ» نختبرهم فيها هل يمتثلون أمرنا أم لا «فَارْتَقِبْهُمْ» يا صالح وانظر ماذا يفعلون بها «وَاصْطَبِرْ 27» على أذاهم ولا تعجل عليهم، وأصل اصطبر اصتبر فأبدلت التاء طاء وهكذا كل ما كان فعله افتعل فان تاءه تقلب طاء، وهو مبالغة اصبر «وَنَبِّئْهُمْ» يا رسولي «أَنَّ الْماءَ» الموجود في القرية هو «قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ» يوم للناقة ويوم لهم كلهم «كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ 28» في نوبته قال قوم صالح ان كنت نبيا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة فدعا الله فأجابه وامتحنهم بقسمة الماء فأبوا وأجمعوا على قتلها الدال عليه قوله «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ» الذي أجمع رأيهم عليه بأن يتولى قتلها «فَتَعاطى» اجترأ دون اكتراث بأنها آية الله على صدق نبيهم «فَعَقَرَ 29» الناقة بالسيف الذي ناولوه إياه «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي

[سورة القمر (54) : الآيات 31 إلى 40]

وَنُذُرِ 30» لأمثال هؤلاء أي شيء عظيم هو وبينه بقوله: «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً» من قبل عبدنا جبرائيل «فَكانُوا» بسببها «كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ 31» كيبيس الشجر إذا كسر وحطم وصار محتضرا لوم البهائم وقدمنا في الآية 11 من سورة الشمس ما يتعلق بهذا وله صلة في الآية 157 من سورة الشعراء الآتية وسنفصل القصة إن شاء الله في الآية 119 من الأعراف الآتية أيضا قال تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 32» ثم طفق يبين القصة الرابعة فقال: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ 33» ثم وصف تعذيبهم بقوله: «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً» ريحا ممزوجة بالحصى الصغار المسمى حصباء وأمرناها بحصبهم جميعا «إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ 34» إذ أوحينا اليه أن يخرج أهله معه آخر الليل لئلا يصيبهم ذلك وأنعمنا عليهم بالنجاة منه «نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا» نحن إله الكل «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي مَنْ شَكَرَ 35» نعمنا من عبادنا الطائعين وقرىء نعمة بالرفع على الخبرية، أي وهذا الإنجاء نعمة من لدنا. وبالنصب مفعول مطلق وعليه المصاحف وهو أليق «وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ» نبيهم لوط عليه السلام «بَطْشَتَنا» هذه وحذرهم عقوبتنا القاسية ليؤمنوا فلم ينجح بهم بل أصروا على تكذيبه والسخرية به كما يدل عليه قوله «فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ 26» وشكوا بصدقهم بل كذبوهم لأن الفعل يتضمن معنى التكذيب إذ عدي بالياء، ولو كان المراد الشك لعدي بالفاء إذ يقال شك في الأمر وكذب به، تأمل «وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ» أي طلبوا منه أن يفتعلوا بهم وحاولوا فتح الباب ليفجروا بهم وقد عجز عن مقاومتهم «فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ» بصفقة من جناح عبدنا جبريل فصير عيونهم من جملة وجوهم حتى كأنها لم تنشق، ومنعناهم من التعرض لأضيافه بعد أن خالفوه وأرادوا أن يدخلوا داره قسرا عنه ليتعرضوا لأضيافه فنصره ربه وقال «فَذُوقُوا» أيها الفاحشون الخبثاء «عَذابِي» الذي أوقعه عليكم «وَنُذُرِ 37» أي ما أنذرتكم به على لسان نبيكم من العذاب «وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) هي أخص في الصباح لأنها تطلق على الغدوة أيضا بخلافه «عَذابٌ

[سورة القمر (54) : الآيات 41 إلى 50]

مُسْتَقِرٌّ 38» ثابت دائم إلى يوم القيامة حتى يقضى بسوقهم إلى النار ويقال لهم فيها «فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ 39» تشديدا للعذاب وزيادة للحسرة «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 40» وفي تكرير هذه الآية معنى آخر وهو حث للسامع على تجديد الاتعاظ وتكرير الانتباه عند سماع تكرار هذه الآية آخر كل قصة لتكون عبرة دائمة في القلوب مستمرا تصورها في الأذهان وكذلك الأمر في تكرار (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في سورة المرسلات المارة، وجملة فبأي آلاء ربكما تكذبان من سورة الرحمن في ج 3 قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ 41» أي موسى وهرون «كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها» أي الآيات التسع الآتية في سورة الأعراف مفصلة من الآية 102 فما بعد «فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ 42» غالب قهار جبار لا يعجزه شيء ولا يحول دون أمره شيء «أَكُفَّارُكُمْ» يا أمة محمد ويا أهل مكة «خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» الذين قصصنا عليكم أمرهم وكيفية تعذيبهم في الدنيا وما خبأناه لهم في الآخرة أدهى وأمر وأدوم «أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ» يأمنكم من الإهلاك أخبرتم بها أم نزلت عليكم «فِي الزُّبُرِ 43» الكتب المتقدمة، كلا لا مأمن لكم من العذاب البتة ولستم بأحسن ممن قبلكم ولا أقل كفرا منهم ولم ينزل بأمتكم من عذاب الله شيء وسيصيبكم ما أصابهم إن لم تؤمنوا. مطلب الآيات المدنية وحكم ما تأخر حكمه عن نزوله: وهذه أولى الآيات المدنيات قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ» الذين حضروا واقعة بدر كما سيأتي بيانها في الآية 5 من سورة الأنفال في ج 3 «جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ 44» كثيرون أقوياء ممتنعون لا نظلم ولا نرام فردّ عليهم بقوله «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ 45» هاربين لا يلوون على أحد، واعلم يا حبيبي أن ليس الأمر كما يقولون ويتوهمون «بَلِ السَّاعَةُ» هذه التي يتوخون النصر فيها هي «مَوْعِدُهُمْ» للقتل والأسر والسبي في الدنيا وهذه من علامات النبوة حيث صدق الله وعده رسوله «وَالسَّاعَةُ» الداهية الدهماء الموعودون بها يوم القيامة «أَدْهى» من عذاب هذه

مطلب في القدر وما يتعلق به:

الساعة الدنيوية «وَأَمَرُّ 46» منها مذاقا وأدوم عذابا من القتل والأسر والسبي. انتهت الآيات المدنيات. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله وهو في قبة يوم بدر: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا. فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، فخرج وهو في الدرع وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر. وقد مر في الآية 14 من سورة الأعلى المارة أن هذه الآية مما تأخر حكمها عن نزولها وهو الصحيح والله أعلم لأنها إحدى الآيات السبع المبينين هناك أربع منها وهذه الخامسة والسادسة الآية 56 من سورة النور ج 3 وهي (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) والسابعة قوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ) الآية 21 من سورة الفتح في ج 3 أيضا وللبحث صلة في تفسير هاتين الآيتين الأخيرتين بمحلهما إن شاء الله. أما الأربع الأول فقد تقدم في سورة الأعلى بيانها وسببها قال تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ» من الأولين والآخرين «فِي ضَلالٍ» في هذه الدنيا «وَسُعُرٍ 47» في الآخرة «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» وتقول لهم زبانية العذاب «ذُوقُوا» أيها المجرمون «مَسَّ سَقَرَ 48» ألمها عند ما تمس جلودكم كما يقال الآن ذق طعم الضرب ومس الحمّى قال تعالى ردا لما يقال من قبل أهل الضلال «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ 49» معلوم وتقدير سابق مثبت في اللوح المحفوظ وسنظهره عند إرادتنا له قال ابن عباس كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خذك، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وكان عرشه على الماء، أي قبل خلقهما. راجع الآية 6 من سورة هود في ج 2. مطلب في القدر وما يتعلق به: والمراد من هذا تحديد وقت الكتابة في اللوح لا أصل القدر لأنه أزلي لا أول له، وروي أيضا عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية. وروي عن طاووس قال: أدركت أناسا من أصحاب

رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر الله تعالى. وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال صلّى الله عليه وسلم: كل شيء يقدر حتى العجز (عدم القدرة على الفعل) والكيس (النشاط والحذق بالأمور) أي قدر الله ذلك في البشر أيضا وأخرج الترمذي عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله: لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، واني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث، ويؤمن بالقدر. وأخرج أيضا عن جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وهذا حديث غريب يعرف من طريق عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث. أما الحديث المتفق عليه فهو حديث جبريل عليه السلام المشهور الذي فيه، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت. وهو الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه، والحديث الآخر الذي رواه الترمذي عن ابن عباس وكلاهما في حديث الأربعين، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه ابن ماجه وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال صلّى الله عليه وسلم صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام: المرجئة والقدرية، أنزلت فيهم آية في كتاب الله (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الآية المارة وإن الذين ينكرون القدر هم خصماء الله لأنهم يقولون لا يقدر الله المعصية على العبد ثم يعذبه عليها ويسمون القدرية لإنكارهم القدر وزعمهم ان الله تعالى لم يتقدم علمه بالأشياء وانه يعلمها بعد وقوعها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد أجمعت الأئمة من أهل السنة والجماعة على اثبات القدر وانه تعالى قدر جميع الأشياء في القدم وعلم انها ستقع في أوقات معلومة عنده على صفات مخصوصة فتقع بحسب ما قدرها. والحكم الشرعي هو وجوب اعتقاد ما قرره هذا المذهب الحق وأجمع عليه جمهور المحققين ورفض قول المبتدعة وتفسيقهم. قال امام الحرمين قال رسول الله: القدرية مجوس هذه الأمة رواه ابو حاتم عن ابن عمر عن رسول الله وأخرجه أبو داوود في سننه والحاكم ابو عبد الله في المستدرك على شروط الصحيحين، وقال صحيح على شرط الشيخين ان صح سماع ابي حاتم عن ابن عمر. قال الخطابي: انما جعلهم حضرة الرسول مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم

[سورة القمر (54) : الآيات 51 إلى 55]

بالأصلين النور والظلمة أي الخير في النور والشر في الظلمة، فصاروا ثنوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره مع أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله فالخير والشر مضافان إلى الله خلقا وإيجادا، وإلى العبد فعلا واكتسابا. ويزعم كثير من الناس ان معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد على ما قدره وقضاه عليه، وليس الأمر كذلك بل معناه الاخبار عن تقدم علم الله بما يكون من اكساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها، ومعنى القدر ما صدر مقدرا عن فعل القادر ومعنى القضاء الخلق. قال تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) الآية 12 من فصلت في ج 2 أي خلقهن قال محمد بن قتيبة في كتاب غريب الحديث، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتاب الإرشاد في أصول الدين: ان بعض القدرية قالوا لسنا بقدرية بل أنتم يا أهل السنة والجماعة القدرية، لاعتقادكم اثبات القدر، وهذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة وتواقح لأن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله تعالى ويضيفون القدر والأفعال إلى الله وهم يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها اولى بأن ينسب إليه من يعتقده لغيره، وينفيه عن نفسه، والمرجئة الذين يقولون بالتأخير أي يؤخرون حتى ينزل الله فيهم ما يريد فهؤلاء يؤخرون العمل عن الرتبة وعن الاعتقاد أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم خمس فرق، ومن أراد أن يطلع على عقائدهم وماهيتهم فليراجع ص 193 من الجزء الثالث من المواقف ففيه كفاية. قال تعالى «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ» أي كلمة أو إشارة مفردة إذا أردنا شيئا نقول له «كُنْ» فيكون بين الكاف والنون وليعلم ان الارادة غير الأمر وغير القول والفرق بينهما ان الارادة قدر والقول قضاء وقد يؤمر بالشيء ولا يراد وضدّه النهي وضد القول السكوت، وفي قوله تعالى واحدة اشارة إلى إنفاذ الأمر بلا تكرار القول. ثم بين سرعة ذلك الأمر بالنسبة إلينا وهو عنده دون ذلك فقال إذا رمزنا إلى شيء بالكونية كان حالا ووجد «كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ 50» أي بقدر ما يرد أحدكم طرفه وهذا تمثيل لما تقبله عقولنا والا فهو أقل وأقل فالذي جاء بعرش بلقيس من سبأ إلى القدس بلمحة بصر هو عبد من عبيده فكيف برب ذلك العبد الذي أقدره على ذلك راجع الآية 40 من سورة النمل الآتية قال تعالى «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا

أَشْياعَكُمْ» أشباهكم في الكفر ونظرائكم في العناد يا قوم محمد ويا أهل مكة المشرفة من الأمم السابقة «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ 51» يخاف ويعتبر بمن سلف قبل ان يحل فيه ما حل بهم «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ» المتقدمون وما يفعله المتأخرون مثل كفار مكة ومن قبلهم وبعدهم الخير والشر كله مدون «فِي الزُّبُرِ 52» من قبل الحفظة في اللوح المحفوظ مما وقع وسيقع إلى يوم القيمة قدره ونوعه وجنسه ومكانه وزمانه وصفته «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» من العوالم وأفعالهم «مُسْتَطَرٌ 53» عند الله أزلا لا يعزب شيء منه عنه، الذرة فما فوقها وما دونها «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ 54» أنهار كثيرة وإنما جاء بلفظ نهر لموافقة رؤوس الآي وهذه الأنهار من ماء صاف بارد وعسل مصفى وخمر لا غول فيه ولبن خالص واشربة متنوعه ممالذ وطاب مهيئة هذه الأنهار للمتقين «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ» مجلس لا لغو فيه ومسرح لا فجور فيه ومكان مرضي لا غضب فيه لا نظير له ولا شبيه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ 55» على كل شيء وتحت ملكه كل شيء عظيم القدرة على كل شيء فأي منزلة أكرم من هذه وأجمع للسعادة والغبطة. وفقنا الله لها بمنه وكرمه وجعلنا من أهلها بجوار حرمه. قال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وصف الله تعالى المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو منهم جعلنا الله من أتباعه وقال بعض أهل المعرفة ان الله تعالى أبهم العذبة والقرب ونكر مليكا ومقتدرا اشارة إلى ان ملكه وقدرته لا تدرك الأفهام كنهها، وان قربهم منه سبحانه بمنزلة من الكرامة والسعادة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يجل عنه اللسان وتكل دونه الأذهان. وهذه الآية من المتشابه الذي سبق أن نوهنا به في الآية 30 من سورة ق المارة إذ درجنا فيها ما يتعلق بآيات الصفات وأحاديثها هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.

تفسير سورة ص عدد 38 - 38

تفسير سورة ص عدد 38- 38 نزلت بمكة بعد القمر وهي ثمان وثمانون آية، وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعة وتسعون حرفا، وتسمى سورة داوود، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت أو ختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «ص» ابتدأ تعالى بعض سور كتابه العظيم بحرف من الحروف على سبيل التحدي والبينة والاعجاز وان إتباعه بقسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه واعجاز البشر عن الإتيان بمثله وقد تسمى السورة بما بدئت به كهذه وسورتي ن وق ويجوز أن يكون مفتاحا لبعض أسمائه الحسنى كالصمد والصادق والصبور والصانع ويقرأ بالسكون وبالكسر اختلاسا ومع التنوين وبالضم، أيضا وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة ص أو مبتدأ لخبر محذوف أي سورة ص هذه سورته المعجزة «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ 1» والموعظة الحسنة وجواب القسم أنك يا محمد لمن المرسلين وأنه ما كفر من كفر بك لخلل وجده فيك أو فيما أنزل عليك «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ 2» أنفة وخلاف وإنما اخترت أن يكون جواب القسم جملة (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لمناسبتها للمقام وموافقتها للمعنى وإن من المفسّرين من قدره بجملة (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) الآية الآتية ومنهم من جعل جملة (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) الآية الآتية بعد تلك جواب للقسم ومنهم من قال جوابه (كَمْ أَهْلَكْنا) الآية أيضا ومنهم من قدره (بَلِ الَّذِينَ) إلخ الآية المارة وكلها أقوال تعقبت وفندت لعدم انطباقها على المراد في الآية المقسم بها لذلك لم نعتمد شيئا منها ولما كان القرآن يفسر بعضه وتشير بعض آياته إلى بعض وإلى شيء لا يوجد في بعضها وكان مثل هذا الحذف المقدر هنا موجودا في مثل هذه الآية في سورة يس الآتية قدرناه هنا بمثل ما هو هناك، ويقويه ذكر النذارة هناك وهنا أيضا لأن الرسالة تتضمن البشارة والنذارة وعليه

تكون (بَلِ) في الآية المتقدمة بعد القسم للانتقال من القسم والمقسم به والمقسم عليه إلى ذكر أنفة المشركين وغلظتهم ومخالفتهم لما جاء به حضرة الرسول لأن عزتهم تلك عبارة عن حمية جاهلية وتكبر عن الحق الصريح مشاحنة وعداوة به صلّى الله عليه وسلم ليس إلا قال تعالى «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ» أي قومك أيها المخاطب النبيل «مِنْ قَرْنٍ» أي أهله من اطلاق الظرف وإرادة المظروف «فَنادَوْا» عند نزول العذاب بهم بالويل والثبور والاستغاثة قصد النجاة منه فلم يجابوا وأرادوا الفرار فلم يقدروا «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ 3» أي ليس الحين حين فرار وخلاص مما نزل بهم وجاء هذا على ما كانت تعتاده كفرة قريش عند مضايقتها في الحروب إذ يقول بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم والمعنى هنا أن عذاب الله لا مخلص منه. وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بدر لا صحة له لأن هذه السورة كلها مكية والآية جارية في معرض ذكر هلاك الأمم الماضية المنوه بها في السورة قبلها وأن سياقها يأبى ذلك «وَعَجِبُوا» هؤلاء الكفرة «أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» من أنفسهم نسبا وأحسنهم حسبا وأعظمهم مكانة «وَقالَ الْكافِرُونَ» أني بالظاهر بدل المضمر في معرض الذم اعلاما بأنه لا يقدم على هذا إلا المنهمك في الكفر المتوغل في الفسوق «هذا» أي محمد الذي جاءكم يدعي النبوة «ساحِرٌ كَذَّابٌ 4» مع أنهم يسمونه الأمين قبل أن يكون نبيا، ويعلمون أنه ليس بساحر ولا يوجد بمكة من يعرف السحر إذ ذاك، ولم يخرج من بين أظهرهم فوصمهم لحضرته بالسحر محض افتراء وبهتان. قالوا: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق إسلامه على قريش وفرح المؤمنون به فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم خمسة وعشرون صنديدا امشوا إلى أبي طالب، فأتوه، وبينوا له حال ابن أخيه واستغوائه قريشا واحدا بعد واحد واشرحوا له حالته التي لم يبق بوسعنا السكوت عليها، فأتوه فقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء (يعنون محمد وأصحابه) وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك وأنك قاضينا فيه وفي غيره. فدعاه فقال: يا ابن أخي إن هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا

تمل كل الميل فقال صلّى الله عليه وسلم: وماذا يسألون؟ قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك. فقال صلّى الله عليه وسلم: أعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم الأمم. فقال أبو جهل نعطيكها وعشرة أمثالها، فقال: قولوا لا إله إلا الله، فنفروا وقالوا كيف يسع الخلق إله واحد؟ فأنزل الله جل أنزاله «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا» الذي يقوله محمد «لَشَيْءٌ عُجابٌ 5» بليغ في العجب والتعجب «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ» من مجلس ابي طالب قائلين بعضهم لبعض «أَنِ امْشُوا» عنه حيث كان هذا مراد ابن أخيه ولم يصده عنه «وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ» واثبتوا على عبادتها وتحملوا ما يقدح فيها «إِنَّ هذا» الذي قاله محمد وتعليمه على دعوته لإله واحد وما نراه من ازدياد أتباعه يوميا وسكوت عمه عليه وعدم اصغائه لشكايتنا منه «لَشَيْءٌ يُرادُ 6» بنا بأن يتحكم فينا وفي ذرارينا، ويترفع علينا ويستولي على أموالنا وأملاكنا، ثم قال بعضهم لبعض «ما سَمِعْنا بِهذا» الذي يقوله محمد قبلا ولا «فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ» ملة عيسى عليه السلام التي هي آخر الملل وهي ملة غير موحدة إذ يدعون آلهة ثلاثة ومن أدركنا من آبائنا لهم آلهة متعددة «إِنْ هذا» القول بالتوحيد الذي يدعوا اليه محمد ما هو «إِلَّا اخْتِلاقٌ 7» من تلقاء نفسه لم يسبقه به أحد وانه يريد به التولي علينا وان نكون تبعا له فيما يريد، فيا قومنا أخبرونا «أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» الذي يدعيه وحيا من ربّه، هل اختص به وحده «مِنْ بَيْنِنا» يتفوق به علينا ويحتفي به دوننا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم، وما هي هذه الميزة التي اختص بها وحده. قال تعالى «بَلْ هُمْ» هؤلاء الحسدة لرسولي على ما فضلته به عليهم «فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» الذي أنزلته عليه المشحون بالتوحيد وهذا دائما من التعجب بتخصيص محمد به «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ 8» حتى يزول حسدهم لرسولي ورميهم لذكري فاذا ذاقوه زال ذلك منهم واتعظوا بمن قبلهم واعترفوا برسالته وإلهه وإن ما يقوله حق لا مرية فيه «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ» يا محمد ليهبوا ما فيها من مفاتح النبوة لمن شاءوا وأرادوا ويصرفوها عنك. قال تعالى «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» الآية 32 من سورة الزخرف وبمعناها الآية 134 من الأنعام في ج 2

[سورة ص (38) : الآيات 11 إلى 20]

كلا لا دخل لهم بها ولا بشيء من مختارات الإله بل هو من خصائص «الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ 9» القاهر الذي لا يقابلة شيء، كثير المواهب التي من جملتها تخصيصك بالنبوة «أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما» حتى يتداخلوا فيما بستأثر به مالكهما من إعطاء ومنع فإذا كان لهم شيء من ذلك «فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ 10» التي توصلهم إلى أقطارها ليديروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يريدونه في الأرض، وهذه الجملة في معرض التهديد إذ ليس لأحد من قدرة على ذلك غيره، واستدل حكماء الإسلام بهذه على ان الاجرام الفلكية وما أودع فيها من خواص وقوى اسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمّى الفلكيات أسبابا ومهما كان ذلك، ولهذا فإن ما يزعمه الفلكيون من صعودهم إلى المريخ والقمر وغيرهما من الكواكب زعم بعيد عليهم لم يدركوه ولن يدركوه لأن الله تعالى قال لا تنفذوا إلا بسلطان راجع الآية 32 من سورة الرحمن إذ تحدى بها الجن والإنس وأذلهم ذلك السلطان الذي يتوصلون به إلى النفوذ في أقطار السموات والأرض. هذا ثم وعد نبيه بالنصر على هؤلاء العتاة المعاندين بقوله انهم «جُنْدٌ ما» قبل هذا بالنسبة لمن سبقهم من الجنود الذين تحزبوا على أنبيائهم قبلك وسيكون لك يا حبيبي معهم شأن «هنالك» عند اللقاء الآتي في بدر، عند ما يكون ذلك الجند «مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ 11» كما هزم من قبلهم فلا يهمنك شأنهم، ولا تكترث بهذيانهم. مطلب الآيات السبع التي تأخر حكمها عن نزولها: وهذا من الإخبار بالغيب لأنها من الآيات السبع التي سبق ذكرها في الآية 46 من سورة القمر المارة وقد أنزلت تسلية لحضرة الرسول داعية لحمل أذاهم مادام في مكة وأن قريشا كغيرها من الأجناد الذين أجمعوا على تكذيب الرسل وأنه سيظهر عليهم ويرى مصارعهم في محل غيهم، وإشارة إلى حادثة بدر الآتية في الآية 5 من سورة الأنفال في ج 3 التي حققها الله له وأقر عينيه بها. ثم شرع يعزيه بما لاقى منهم ويقول له ليس أمتك أول من كذبت الرسل ولا أنت أول من سخر به وأوذي فقد «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ 12» الذين كانوا أكثر عددا وعددا من قومك الذين ليس بشيء بالنسبة لهم «وَثَمُودُ»

«وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ» أيضا لا يقاسون بقومك من حيث القلة والكثرة، وتقدم تفسير ذي الأوتاد في الآية 10 من سورة الفجر وقصته مفصلة كما تقدم بيان قصص الآخرين في الآية 12 من سورة ق المارة «أُولئِكَ الْأَحْزابُ 13» الذين بضرب بهم المثل «إِنْ كُلٌّ» من أولئك «إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ» المرسلين إليهم «فَحَقَّ عِقابِ 14» على كل من الطوائف الأول لتكذيبهم أنبيائهم، لأن كل هؤلاء يا سيد الرسل عملوا برسلهم ما عمل بك قومك وقد أصابهم البلاء لعدم إيمانهم بهم «ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ» الذين يجادلونك من قومك إذا لم يؤمنوا «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من ملكنا إسرافيل «ما لَها مِنْ فَواقٍ 15» إذا جاءتهم لم تصرف عنهم ولم تتأخر عن الوقت المقرر لها ولو بمقدار فواق الناقة (وهو الزمن بين الحليتين) بل هو أقل من ذلك بكثير، وإنما جاء هذا اللفظ على عادتهم، لأنهم يستقلون هذا الزمن ويضربون به المثل في القلة والسرعة، وفي هذه الآية زجر لهم عظيم، وتهديد وخيم، إذ خوفهم فيها مغبة أمرهم، وقيل معنى فواق رجوع أي إذا جاءت تلك الصيحة لم ترد عنهم بقطع النظر عن الزمن، والمراد بهذه الصيحة الصيحة الثانية لأن سياقها يدل عليها ولأن الصيحة الأولى لا يشاهد هولها، وإنما بصعق فيها من كان حيا من الخلق عند وقوعها حالا، ولا يكون العذاب الموعودون به إذ ذاك واقعا، ولا العذاب المطلق مؤخرا لوقوعها، وما قاله صاحب الغالية بأن النفخات ثلاثة، نفخة الإماتة ونفخة الإحياء ونفخة الفزع المنوه بها آخر سورة النمل الآتية لا يتجه لأن نفخة الفزع هي النفخة الثانية التي يكون فيها الخروج من القبر والحشر والنشر. تدبر، قالى تعالى «وَقالُوا» كفرة قريش عند سماعهم من حضرة الرسول ما وعد الله به المؤمنين وأوعد به الكافرين أمثالهم «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا» حظنا ونصيبنا من هذا العذاب الذي توعدنا به على لسان محمد «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ 16» على الأعمال، الذي يذكره لنا ويهددنا فيه، وقائل هذا، النضر بن الحارث على سبيل السخرية والاستهزاء، أي أسرع بإنزاله علينا إن كان ما تقوله حقا، قال تعالى يا محمد: «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» فيك وفي ربك وكتابك «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ» القوة

[سورة ص (38) : الآيات 21 إلى 30]

العظيمة واذكر ذلته التي عاتبته عليها مع كرامته عليّ ومعزته عندي وتأسّ به «إِنَّهُ أَوَّابٌ 17» أي كثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والندم، ثم شرع يقص نعمه على داود فقال «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ» بتسبيحه إذا سبح «بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ 18» صباح مساء، فالعشي من العصر إلى الليل، والإشراق من طلوع الشمس إلى الضحى، قال ابن عباس ما عرفت صلاة الضحى إلا في هذه الآية «وَالطَّيْرَ» تسبح بتسبيحه أيضا «مَحْشُورَةً» حالة كونها مجموعة لديه، قال ابن عباس كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير «كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ 19» رجّاع يردد تسبيحه كل منهم «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» قوّيناه بالحرس والجنود، كما قويناه بأمر الدين ولهذا وصفه بكلمة ذي الأيد بما يشمل القوتين، ويدل على الأخير قوله أواب، وعلى الأول وشددنا ملكه «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ» هي المعرفة بحقائق الأشياء وكنهها وماهيتها وكل كلام وافق الحق فهو حكمة «وَفَصْلَ الْخِطابِ» التمييز بين الحق والباطل والحكم بما يوافق مراد الله، فاجتمعت له القوى الأربع: قوة الدين وقوة الملك وقوة الحكمة وقوة الحكم وقيل فصل الخطاب جملة (أما بعد) لأنه أول من تكلم بها، لأن الأمر الذي له شأن يستفتح فإذا أراد الشروع في الغرض المسوق إليه فصل بين الخطبة وبينه بها والأول أولى، ومن جملة نعم الله على داود إذ أعطاه النبوة والسلطان، راجع نسبه وكيفية إعطائه الملك بتفسير قوله تعالى (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الآية 250 من البقرة في ج 3 وكان قبله الملك في سبط والنبوة في سبط آخر من أسباط يعقوب الاثني عشر أي أولاده ثم طفق يقص على رسوله زلة داوود فقال «وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ» يطلق على الجماعة المتخاصمين «إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ 21» بيت عبادة داوود وخلوته مع ربه، إذ كانوا يسمونه محرابا ومنه محراب زكريا ومريم الواردين في الآية 15 من مريم الآتية و 37 من آل عمران في ج 3 ويطلق على صدر المسجد ومحل وقوف الإمام عندنا أي هل بلغك ذلك «إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ» لعدم دخولهم من الباب وقفزهم من أعلى الجدار وعدم استئذانهم إذ لم يحس بهم إلا وهم بين يديه،

فقال لهما: لماذا دخلتما متسورين الجدار ولم تستأذنوا وتدخلوا من الباب وكان عليه علامة الفزع لما رأى من جراءتهما هذه «قالُوا لا تَخَفْ» ولا تظن بنا سوءا انما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي لأنهما جبريل واسرافيل عليهما السلام أوفدهما الله إلى نبيه داود ليعرفاه زلته وذلك انه عليه السلام رأى آباءه إبراهيم ويعقوب وإسحق أفضل منه فسأل ربه عن ذلك، فقال: إنهم ابتلوا فصبروا ففضلوا، فقال يا رب لو ابتليتني لصبرت ولم يسأله العافية مما ابتلاهم طلبا لعلو الدرجات عنده لا اختبارا، فامتحنه الله بما ذكرهنا قال تعالى «فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ» تجر وتحف وتملّ عنه «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ 22» في هذه الخصومة بان تتبع الحق فيها وتعدل عن الباطل، قال تكلما، فقال أحدهما «إِنَّ هذا أَخِي» في الدين والخلقة لأن الملائكة لا تناسب بينهم ولا تقارب لأنهم خلقوا بلا شهوة ولا توالد بل بطريق التولد بلفظ كن بين الكاف والنون وإذا لم يكن توالد فلا تكون قرابة «لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» امرأة والعرب تكني عن المرأة بالنعجة، قال ابن عون: أنا أبوهن ثلاث هن ... رابعة في البيت صغراهن ونعجتي خمس توفيهن ... آلا فتى سمح يغذيهن «وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» وهذا على سبيل التعريض وتصوير المسألة إذ ليس في الواقع هناك نعاج ولا يعني ولا يمنع فعل ذلك على فرض وجوده على الملائكة «فقال» صاحب للتسع والتسعين لصاحب الواحدة «أَكْفِلْنِيها» أعطينها وتنازل عنها واجعلها نصيبي لأن الكفيل النصيب «وَعَزَّنِي» غلبني وفي المثل من عزيز أي تفوّق عليّ وأخذني بفصاحته «فِي الْخِطابِ 23» المخاطبة أو في الخطبة حين طلبها منه وقد صور الملكان الحادثة ومثلاها حرفيّا ولم يتركا منها الا إبدال المرأة بالنعجة قال داود عليه السلام بعد أن سأل الخصم الآخر واعترف له بالحادثة كما قررها الخصم الأول، لأنه لا يمكن أن يحكم قبل أخذ الجواب من الخصم ولهذا بين بحكمه سبب الظلم فقال والله انّ هذا «لَقَدْ ظَلَمَكَ» يا صاحب النعجة

الواحدة «بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ» وضمها «إِلى نِعاجِهِ» التسع والتسعين ولكن ليس هذا وحده الباغي «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ» الشركاء أمثاله الذين يخلطون أموالهم باموال غيرهم وتطلق كلمة الخلطاء على غير المحمودين من الناس ولذلك قال «لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» بسائق الطمع والحرص وحب التكاثر بالأموال التي تميل بذويها إلى الباطل إن لم يتولّهم الله بلطفه وهم المتشبثون بقوله عز قوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم لا يبغون ولا يطمعون «وَقَلِيلٌ ما هُمْ» الصالحون المؤمنون المبعدون عن الظلم جدا قليلون ولما فهمهما حكمه هذا نظرا إلى بعضهما وصعدا إلى السماء على مرأى من داود فعرفهما أنهما أنها ملكان بعثهما الله اليه ليذكراه ما وقع منه من الخطيئة، ويروى أن داود حينما سأل المدعى عليه عن سبب أخذه النعجة أجابه بانه يريد إكمال نعاجه مائة بها فقال داود ان رمت ذلك ضربنا منك هذا وأشار إلى أنفه وجبهته، فقال يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا، لأنك فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا. فإن صح قول الملك إلى داود هذا الكلام يحمل على ان ذنوب الأنبياء مهما صغرت فهي كبائر بالنظر لعلو شأنهم. والقصد من قوله فعلت كيت وكيت انك كلفت الرجل بالتنازل عن زوجته أو خطيبته لك مع استغناءك عنها تبعا لإرادة نفسك قال ابن عباس: ان داود لما دخل عليه الملكان وقضى على نفسه تحولا في صورتها وعرجا إلى السماء وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم أنهما عنياه وانهما ملكان وتنبه لعمله ولهذا قال تعالى «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ» ابتليناه واختبرناه حتى عرف زلته «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ» مما وقع منه «وَخَرَّ» سقط على الأرض «راكِعاً» ساجدا لأن الركوع مجاز من السجود ولأن الخرّ السقوط وتقول العرب نخلة راكعة وساجدة إذا رأوها ساقطة على الأرض. قال قائلهم: فخر على وجهه راكعا ... وتاب إلى الله من كل ذنب فمعناه السجود الا انه يعبر عنه أحيانا بالركوع مجازا «وَأَنابَ 24» إلى ربه راجعا عن خطأه تائبا من زلته تعظيما لامتحان ربه واستعطافا لجلب رحمته فقبل

مطلب قصة داود وسجود ابو بكر:

الله منه وسترها عليه وأظهر له قبول توبته بقوله «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» الذي وقع منه «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى» قرية ومكانة حسنة «وَحُسْنَ مَآبٍ 25» مرجع ومعاد فوق المغفرة بسبب اعترافه وندمه الآتي، وهذه السجدة عند أبي حنيفة من عظ ثم السجود لما روى البخاري. قال مجاهد قلت لابن عباس أأسجد في (ص) فقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الآيات 84 الى 91 من الأنعام في ج 2. فقال نبيكم أمران نقتدي بهم فسجدها داود وسجدها محمد صلوات الله عليهم وسلامه. وعند الشافعي، انها سجدة نبيّ لا توجب سجود التلاوة، وقدمنا ما يتعلق بهذا أواخر سورتي والنجم والعلق المارتين فراجعهما ففيهما كفاية. هذا ما قصه الله علينا من زلة داود عليه السلام، مطلب قصة داود وسجود ابو بكر: ولكن القصاص ذكروا وجوها كثيرة فيما وقع من السيد داود عليه السلام، أقوالا أعدلها وأقربها إلى المنطق وأصدقها عقلا هو ان داود عليه السلام كان رأى زوجة عامله أوريا فأعجبته، وكان في زمانه جواز سؤال الرجل أن يتنازل للغير عن زوجته، وكانت هذه عادة متفشية بينهم فسأله النزول عنها إليه، فلم يسعه أن يرده لما له من الهيبة والوقار في مقام النبوة والملك، فتنازل له عنها ثم تزوجها وأولدها سليمان عليه السلام، فعتب الله عليه لعظم منزلته عنده وكثرة نسائه ووجود أمثالها في أمته وعدم منع إرادته، وانه لا ينبغي لمثله وعنده النساء الكثيرات وقدرته على تزوج من شاء فيهن أن يسأل رجلا من رعيته ليس له غير امرأة واحدة التنازل عنها له، بل كان عليه أن يغلب هواه ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به من رؤيتها وإعجابها، وليس في هذا ما يدل على الذنب بمعناه الحقيقي، لأن أهل زمانه لا يرون به بأسا لكثرة وقوعه، إلا أن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها شرفا، فيطالبون بأكمل الأخلاق وأسمى الأوصاف فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشر الذين هم دونهم مرتبة ومقاما وعزة عاقبهم الله عقاب معاتبة ليتيقظوا ويتنزهوا عن أمثاله، ثم يغفره لهم. وإن مثل هذا لا يعدّ ذنبا في حق بقية البشر، ألا ترى أن المهاجرين لما نزلوا على الأنصار في المدينة ساووهم بمالهم وتشبهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم، فتزوجوهن ولم يروا بأسا بذلك، ولم ت (20)

يتورعوا عن زواجهن، لأن هذا مما تعورف عند الأعراب، ولا تزال هذه العادة حتى الآن لدى عرب البادية، وإن الرجل منهم قد يأتي إلى الآخر ويقول له على ملأ من الناس (خلّ لي زوجتك) أي تنازل لي عنها طلقها وأعطنيها لأتزوجها فيفعل، وكثيرا ما تقول المرأة لزوجها خلني لفلان فيخليها أي يطلقها فتتزوج به، الا ان الأنبياء لما فضلوا على غيرهم ورفعهم الله بالنبوة لا يليق بمقامهم الشريف التنازل لبعض ما فيه بأس من عادات الناس لأنها تحط بقدرهم، وكذلك الأمثل فالأمثل ينبغي أن لا يقارب أمثال هذا وأن يتورع عنه كل ذي مروءة لأن الزمن هذا غير ذاك، ورحم الله امرأ جب المغيبة عن نفسه، هذا وقيل أن أوريا خطب تلك المرأة وغاب في غزاة فخطبها داود بعده وتزوجها، فاغتم أوريا لذلك، فعاتب الله داود عليه، واستدل صاحب هذا القيل بقوله تعالى (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي الخطبة، ووجه العتب عليه خطبة على خطبته وقد جاءت شريعتنا بها حيث نهى رسول الله الخطبة على الخطبة والبيع على البيع راجع كتب الفقه بذلك، فالحادث عبارة عن إحدى هاتين وهي موافقة في المعنى لما أخبر الله به عنه وقد اعتمد جهابذة المفسرين، أما ما ذكره بعض الأخباريين، في أنه عليه السلام حين رأى المرأة أحبها وبعث زوجها أوريا إلى الغزو أو أمر بإرساله، وأن يتقدم التابوت لا يرجع حتى يقتل بقصد أخذ زوجته، فهو باطل بعيد عن الصحة، تتحاشى غير الأنبياء ومروءتهم عنه، وإن إرشادهم للخلق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يحول دون ذلك، ويتباعد مقامهم الشريف عنه، بل غيرهم من الصالحين لا يقدر عليه، ولأنه لو نسب إلى آحاد المؤمنين لاستنكف عن قربه وأنف من إحداهما مثله، فكيف يجوز إذا نسبته إلى صفوة خلق الله وأمينه على الوحي، روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة جلدة مضاعفا. لأن الجلد غايته ثمانون وهذا حد الفرية على الأنبياء، قال القاضي عياض لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطر الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا في مثل حادثة داود وسليمان

ويوسف وأيوب عليهم السلام لانهم لم ينقلوها من كتاب صحيح، ولم يتلقوها من ثقة. وإن الله تعالى لم ينص على شيء من ذلك ولا رسوله أخبر به، وقال الإمام فخر الدين الرازي: حاصل ما ذكره القصاص يرجع الى أمرين: السعي إلى قتل رجل مؤمن بغير حق، والطمع في أخذ زوجة ذات زوج، وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن أبدا بداود عليه السلام أنه أقدم على ذلك، كيف وإن الله أثنى عليه قبل ذكر القصة المسطورة في القرآن وبعدها، مما يدل على استحالة ما نقله القصاصون ، وكيف يتوهم من له مسكة من عقل، أن يقع ذم بين مدحين في كلام الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، إذ لو وقع مثله بين كلام الناس لاستهجن، ولقال العقلاء للقائل أنت في مدح فكيف تذم من تمدح أثناء مدحك له؟ ومن المعلوم أن الأنبياء أنموذج البشر فلا يقع منهم إلا ما يكون قدوة لهم في الأخلاق والآداب لأنهم كاملون ولا يصدر من الكامل إلا الكامل، وقيل كلام الله ملك الكلام، ورأي العاقل عقل من الآثام. قال تعالى «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» عنا «فِي الْأَرْضِ» لتدبير أمر أهلها في معاشهم ومعادهم نيابة عنا وأعلم أن هذه الآية تشير إلى أن التوبة تمحو الذنب كما جاءت الآثار الصحيحة به وإلى أن حالة داود عليه السلام بعد التوبة كحالته قبلها فلم يتبدل أو يتغير عليه شيء من الله بدلالة قوله «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» الذي شرعته لك لتقوم به بينهم، وبما أوحيه إليك فيما تردد فيه «وَلا تَتَّبِعِ» منه في حكمك «الْهَوى» فنقض بما تراه نفسك لان اتباع هوى النفس لا يكاد يقع من معصوم مثلك، وهذا على سبيل الإرشاد لمقتضى الخلافة وتنبيه لغيره ممن يتولى القضاء بين الناس، ولان الحكم بغير ما شرعه الله غير مناسب لمقامه تعالى، ولهذا كان حضرة الرسول الأعظم عند ما يسأل عن شيء لم ينزل به الله قرآنا، يرجىء الجواب حتى يتلقى الوحي فيه خوفا من أن يفتي بغير مراد الله «فَيُضِلَّكَ» اتباع الهوى في القضاء وغيره «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» طريقه السوي الذي سنه لعباده. ومما يدل على أن في هذه الآية تنبيه ولاة الأمور على الإطلاق من الوقوع في الخطأ والحكم بالرأي أو العلم قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ

مطلب الحكم الشرعي في الأحكام:

يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» في الأحكام وغيرها «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» في الآخرة «بِما نَسُوا» غفلوا عما أمروا به في الدنيا، ومن أعظم ذلك عذابا ترك العدل في القضاء «يَوْمَ الْحِسابِ 26» والجزاء لأنهم لو تذكروا عذاب الله في ذلك اليوم العظيم لما فرطوا في الأمر ولما حصلت لهم الغفلة والنسيان والخطأ. كان إسماعيل الساماني إذا قضى بشيء قال: إلهي هذا جهدي وطاقتي ولا أعلم أجنفت أم ظلمت فاغفر لي. وأنا ممن يقول هذا، وأستغفر الله. هذا، وإذا أردت استيفاء هذا البحث فعليك بمراجعة تفسير الآية 58 من النساء في ج 3 لأنا سنبين فيها إن شاء الله ما تقف عليه مما يتعلق في هذا البحث، قال بعض المفسرين إن ذنب داوود الذي أستغفر منه ليس بسبب أوريا وزوجته، بل بسبب قضائه للخصم قبل سماع كلام الآخر، ولحكمه بالظلم عليه بمجرد الدعوى، وهذا مخالف للعدل، فتاب وقبلت توبته ويستدل بهذا على نزاهة داود عليه السلام مما أسند اليه ولكن الأول أولى وأحرى. مطلب الحكم الشرعي في الأحكام: الحكم الشرعي: لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه ولا قبل سماع دفاع الخصم وإن فصل الخطاب في شريعتنا، هو البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ويجب عليه أن يتبصر بكلام الطرفين ويسوي بينهما بالمكان والكلام، والنظر ويتروى بالحكم بأن يتحقق من صحة الدعوى، ومطابقة الشهادة لها، ولبعضها، ومن عدالة الشهود وعدم المانع من قبولهم حتى تقطع الخصومة بوجه صحيح يكسر من عزم المنكر وجحوده، وأن يفهم حكمه إلى المحكوم عليه بلين ورفق ويبين له خطأه في إنكاره ويفصل أسباب الحكم وصحة الدعوى ليقع في قلبه عدم الحيف عليه ومنه، فهذا إذا لم يحمل المدعى عليه على الانحراف بالحق يحمله على الاعتراف بعدل الحاكم ويحمل ما يراه من الخطأ حسب زعمه على اجتهاد القاضي، والاجتهاد قد يحتمل الخطأ فيسلك طريق المراجعة إلى محكمة أخرى إذا كان يعتقد الخطأ فيه برضى واختيار وسكينة، راجع حديث البطاقة في الآية 7 من الأعراف الآتية، وهذا كله يتوقف

على تحري العدل ومعرفه العلم وأصول القضاء، فيا ويل قضاة زماننا- وأنا منهم- إذا لم يسلكوا ما سنه الله لهم ورسوله، ويا ويل من ولاهم إذا كان في رعيته من هو خير منهم، ولا حول عن اجتناب المعصية، ولا قوة على فعل الطاعة إلا بإرادة الله وتوفيقه، قال بعض المفسرين: لما أنتبه داوود إلى خطأه الذي هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، سجد لله أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لصلاة مكتوبة عليه، ثم يعود ساجدا تمام الأربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله قبول توبته وكان من جملة دعائه في سجوده: سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور، سبحان الحائل بين القلوب، إلهي خليت بيني وبينك عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداوود يوم يكشف عنه الغطاء، فيقال هذا داوود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الصالحون من طرف خفي، سبحان خالق النور، إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل فيه أقدام الخائنين ولم يزل كذلك حتى قبل الله توبته، على أن ظاهر القرآن يشعر بقبول توبته آنيا لقوله تعالى: «فَغَفَرْنا لَهُ» والفاء تفيد التعقيب والترتيب وهناك أخبار أخرى من قبول توبته أعرضنا عنها لعدم الوقوف بها اكتفاء بما ذكره الله القائل «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا» عبثا لعبا ولهوا «ذلِكَ» أي خلقهما باطلا «ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» ليس إلا «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ 27» على ظنهم الباطل هذا لأنا لم نخلق شيئا إلا لحكمة بالغة «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الذين يتفكرون في عجائبهما ويمعنون النظر فيما بينهما من الصنع البديع والمخلوقات المتنوعة والانتظام في سير الكواكب وما يحدث عنها من المنافع وكيفية نبات الأرض واختلاف أصنافه وألوانه وأشكاله وما فيها من المياه والأودية والجبال وما خد فيها من الطرق والمغاور والوديان، وما أودعه فيها من المعادن والدواب والحيات والطير

وما أودع فيها من الداء والدواء في نباتها ومعادنها، أي لا نجعل الصالحين المصلحين «كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ» الذين لا يفقهون شيئا من ذلك ولا يتدبرون مراد الله فيهما وما فيهما، وفضلا عن هذا يزعمونها باطلا، كلا لا يجعلهم الله سواء في الدنيا ولا في الآخرة «أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ» ما نهوا عنه الملازمين ما أمروا به لأن الخير كل الخير في التقوى وما أحسن ما قيل فيها: ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقيّ هو السعيد وتقوى الله خير الزاد ذخرا ... وعند الله للأتقى مزيد وما لا بدّ أن يأتي قريب ... ولكنّ الذي يمضي بعيد أي لا نجعل هؤلاء المتقين أبدا «كَالْفُجَّارِ 28» في الآخرة وان اتفقا في بعض الأشياء في الدنيا فبينهما في الآخرة بون شاسع، فهذا التقي يكون في عليين، وذلك الشقي في سجين، وهذا منعم، وذاك معذب «وأم» هذه والتي قبلها منقطعة وتقدر ب (بل) لأنها تفيد الإضراب والانتقال، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين وتعيينها على أبلغ وجه وهذا القرآن العظيم هو «كِتابٌ» كثير البركة والخير «أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «مُبارَكٌ» جليل النفع في الدنيا والآخرة فأمر قومك «لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» فيعرفوا أسرار التكوين والتشريع منها «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ 29» فيه بأنا لم ننزله إلا لهذه الغاية كما انا لم نخلقهم إلا للعبادة ونظير هذه الآية الآية 155 من الأنعام والآية 50 من الأنبياء في ج 2. قال تعالى «وَوَهَبْنا لِداوُدَ» زيادة على نعمنا السابقة «سُلَيْمانَ» خلفا له في نبوته وملكه ونعم الهبة الولد الصالح وهو «نِعْمَ الْعَبْدُ» المخصوص بالمدح هو سليمان عليه السلام وبعض المفسرين جعل المخصوص بالمدح داود وهو أهل للمدح إلا أن القول به غير سديد لأن سياق الآية ينفيه، وما بعده لا يقتضيه، لأن عود الاختصاص لا قرب مذكور هو المشهور، وإن الله مدح داود قبل، وإن قوله «إِنَّهُ أَوَّابٌ 30» يصلح رجوعه إلى كل منهما وإن كانت بحسب الواقع تنصرف للقريب أيضا، ومعناه كثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والندم الذي ديدنه الالتجاء

[سورة ص (38) : الآيات 31 إلى 40]

إلى فضل الله والخضوع لأمره، وهو من أسماء المبالغة أي كل ما بدرت منه بادرة، أو فرط منه شيء تاب منه واستغفر ربه عنه. مطلب صلاة الأوّابين وقصة سليمان وفي حادثة السيد سليمان هذه شرعت صلاة الأوابين وهي من السنن في شريعتنا وتسمّى صلاة الغفلة، لأن سيدنا سليمان غفل عن صلاة العصر بسبب اشتغاله باستعراض الخيل، صلاها بعد المغرب، مع أن المفروض عليه صلاة العصر، فلما غفل عنها صلاها بعد المغرب وقبل العشاء وهو وقت غفلة. وأقلها ركعتان، وغالبها ست وأكثرها عشرون كما في البيجوري علي ابن قاسم، ونقل الطحطاوي عن شرح الوقاية لشيخي زاده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أفضل الصلوات عند الله المغرب، لم يحطها عن مسافر ولا مقيم، فتح الله بها صلاة الليل، وختم بها صلاة النهار، فمن صلّى بعد المغرب ركعتين بنى الله له قصرين في الجنة، ومن صلّى بعدها أربعا غفر له ذنوب عشرين سنة، وقال المنادي الصلاة بين العشاءين هي ناشئة الليل المنوه بها في الآية 6 من المزمل المارة. وقال الغزالي إحياء ما بين العشاءين سنة مؤكدة، ولهذا البحث صلة في الآية 25 من الإسراء الآتية فراجعها، واذكر يا محمد لقومك قصة «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ» على سليمان قولا واحدا متفق عليه «بِالْعَشِيِّ» هو من العصر إلى الليل «الصَّافِناتُ الْجِيادُ 31» سميت الخيل صافنات لأنها تصفن أي تقوم على ثلاث وطرف الرابعة وسميت جيادا لسرعة ركضها وجريها، وما لم يكن كذلك فهي الكدش أي غير الأصيل من الخيل، وبقي يستعرضها حتى غابت الشمس فقال «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ» سميت الخيل خيرا لسبق الخير فيها لأنها آلة الجهاد، قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) الآية 60 من الأنفال في ج 3. وقال صلّى الله عليه وسلم الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. ومصداق هذا الحديث ظاهر لأنه مع احداث العجلات والسيارات والطيارات وغيرها لم يستغن عن الخيل، أي آثرتها فأشغلتني «عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» في صلاة العصر لأنها مكتوبة عليه، وعلى أبيه قبله كتبت صلاة الظهر، ولا زال يستعرضها «حَتَّى تَوارَتْ»

مطلب في رد الشمس لسيدنا محمد وغيره:

الشمس «بِالْحِجابِ 32» أي غربت ولم تر. وقيل الحجاب جبل دون جبل (ق) بمسيرة سنة تغرب الشمس وراءه وبعض أهل العصر يقولون: ق هو جبل القوقاز وسيقولون غير هذا إذا انكشف لهم غير ما اطلعوا عليه الآن من مكنونات الله تعالى القائل (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 85 من الإسراء الآتية وعود الضمير إلى غير معهود إذا كان معلوما جائز. راجع تفسير (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) المارة لا سيما وذكر العشى قبله ولما رأى عليه السلام انه اخطأ بتمادي استعراضه لضياع صلاة العصر، قال لحرسه «رُدُّوها عَلَيَّ» فردوا الخيل عليه «فَطَفِقَ» شرع يضربها «مَسْحاً» ضربا شديدا مبرحا «بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ 33» وكان ذلك جائزا في شريعته لأن فيها، من يتسبب بالذنب يعاقب عليه كفاعله، وهذا مخالف لشريعتنا لأن فيها (جناية العجماء جبار) وجاء في التنزيل (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية 38 من النجم المارة ومثلها في الآية 18 من سورة فاطر والآية 15 من الإسراء الآتية، وفي الآية 162 من الأنعام، والآية 7 من الزّمر في ج 2. وكان في شريعته يجوز أكل لحم الخيل فلا تترك بعد قتلها عبثا، ولأنه يعتبر أن قتلها كفارة لما فرط منه في شريعته، وشكرا لله حيث ردّ له الشمس وأدى صلاته على قول آخر، مروي عن علي كرم الله وجهه، وقد سبق أن ردت الشمس لسيدنا يوشع عليه السلام كما سيأتي بيانه وسببه في تفسير الآية 24 من سورة المائدة في ج 3. مطلب في رد الشمس لسيدنا محمد وغيره: وقد صارت هذه المعجزة لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم ايضا إذ ردت له الشمس حينما شغله المشركون بحفر الخندق يوم الأحزاب، وصلّى العصر، وهي مشهورة متعارفة، وردت لعلي كرم الله وجهه حينما نام المصطفى في حجره كما روى عن أسماء رضي الله عنها وروى الطبراني في معجمه بإسناد حسن، كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة، وكان احمد بن صالح يقول لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة، وفيه بالغ ابن الجوزي وابن تيمية في عدم صحته حتى عدّاه من الموضوع وهذا هو ديدنهما

مطلب قصة سليمان عليه السلام:

رحمهما الله، في كل ما كان من شأنه أن يعد كرامة أو خارقا للعادة، على ان انكار هذا قد يؤدي إلى انكار انشقاق القمر وما وقع في الإسراء والمعراج وأن ما أورده من الطعن فيه هو ذاك لا غير فراجعه في أوائل سورة القمر المارة لينشرح صدرك وتتيقن مغالاة النافين له، هذا وما جرينا عليه في تفسير هذه الآية أولى من التفسير بخلافه لأن ظاهر الآية يؤيده وسياق التنزيل يؤكده وهدف العقل يأبى غيره. ثم ان بعض المفسرين أعاد ضمير (توارت) إلى الخيل وهو غير وجيه، ولا يستحسن عود ضميرين إلى كلمة واحدة إذ يصير المعنى حتى توارت الخيل رودا على الخيل وان صاحب هذا القول يعبّر عن الحجاب بالاصطبل، قال الإمام الرازي في تفسيره: احتاج سليمان عليه السلام الى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وإجرائها أمامه حتى غابت الشمس عن بصره، ثم أمر برد الخيل اليه، وهو قوله تعالى (رُدُّوها عَلَيَّ) فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها عونا في دفع العدو، وليظهر للناس حيطته لسياسة الملك، حتى انه يباشر هكذا أمرا بنفسه، وانه عالم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، وقال هذا التفسير ينطبق على لفظ القرآن. على ان مسح تأتي بمعنى ضرب في اللغة الفصحى وعليه يكون ما مشينا عليه من تأويل المسح بالضرب لا يخالف ظاهر القرآن الذي جعلناه أساسا في تفسيرنا هذا وبعض المفسرين أعاد ضمير (رُدُّوها) إلى الملائكة أي ردوا عليّ الشمس أيها الملائكة لأصلي العصر مستدلا بما جاء عن علي كرم الله وجهه أنه قال معنى ردوها علي يقوله للملائكة الموكلين بالشمس ردوها عليّ بأمر الله، فردوها حتى صلّى العصر بوقتها، على أنه لو كان لهذا القول صحة لقال سليمان لرب الملائكة لأنه أعلى رتبة منهم، وأقدم عند ربهم فكان الأجدر أن يخاطب ربه لا الملائكة فضلا عن انه لم يسبق ذكر للملائكة حتى يعود الضمير إليهم. مطلب قصة سليمان عليه السلام: وقال القصاص والأخباريون: إن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس وصلّى الظهر وقعد على كرسيه واستعرضها فعرض له تسعمائة رأس ثم تنبه لصلاة العصر عند غروب الشمس، ولم يقدر أحد من رجاله أن يعلمه

بضيق الوقت لعظمة هيبته، فاغتمّ لذلك، وقال ردوها عليّ، فصار يضرب سوقها وأعناقها بالسيف. كفارة لما وقع منه، وتقربا إلى الله تعالى وطلبا لمرضاته، وإعلاما بأنها من حطام الدنيا، وأن الدنيا لا قيمة لها عنده، وان ذلك كان مباحا في شريعته، وبقي منها مائة فرس، وان جلّ ما في أيدي الناس من نسلها، فأبدله الله خيرا منها إذ سخر له الريح وجعلها تحت أمره كما سيأتي. وقد ذكرنا أن أقوال القصاص والأخباريين لا ننقلها ثقة بصحتها لأنهم مولعون بنقل كل غريب من غير تثبيت، ولكن ننقلها على طريق الاستئناس أسوة بأكثر المفسرين للاطلاع عليه، إذ قد يوافق نقلهم الواقع أحيانا كما هي الحال هنا من حيث المعنى على ما نرى، ولا ننقل إلا المعقول منه شرعا، وهذا مما يوافق ما جرينا عليه في التفسير قال تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ» ابتليناه لنختبره كسائر الأنبياء الذين امتحناهم لنظهر له وللناس ما كان معلوما ومدونا في لوحنا من قصة «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ» المختص بجلوسه للملك «جَسَداً» لا روح فيه «ثُمَّ أَنابَ 34» إلى ربه وندم على ما وقع منه، وخلاصة قصته أنه ولد له ولد فقالت الشياطين لئن عاش لم ننفك عن الخدمة كما هي الحال في زمن أبيه، وتآمروا على قتله، فلما علم بذلك صار يغذيه في السماء خوفا عليه منهم فلم يحس إلا وقد ألقي ميتا على كرسيه فتنبه بأنه لم يتوكل على الله بشأنه، فطلب مغفرة ربه فغفر له، يؤيد هذا ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا واحدة منهن جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون، وجاء مثله في صحيح البخاري عدا أربعين بدل سبعين وزيادة أن الملك قال له إن شاء الله فلم يقل، فالشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه عقوبة له لأنه لم يستثن، وفيه قال المعري: خاف غدر الأنام فاستودع الريح ... سليلا تغذوه درّ العهاد

ومكسور له النجاة وقد يو ... قن أن الحمام بالمرصاد مكسور به على جانب الكر ... سي أم اللهيم أخت الناد أي الميتة الداهية، والعهاد الأمطار المتتابعة، وغاية ما وقع منه عليه السلام عدم الاستثناء وهذا عبارة عن خلاف الأولى وليس بذنب، وإنما عده ذنبا لأن ترك الأفضل والأولى وما لا يعد ذنبا عند الغير، وصغار الذنوب أيضا تعدها الأنبياء ذنوبا كبارا بالنسبة لمقامهم، لأنه إذا كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين، فمن باب أولى أن تكون هذه من الكبائر عند الأنبياء والمرسلين، ويحتمل أن هذا الشق هو الذي رباه بالسحاب على ما جاء في القصة، أما ما ذكره وهب بن منبه من أنه أمر الشياطين أن تصور له أبا زوجته التي أصابها بالغزو في جزيرة حيدون وصارت هي وجواريها يسجدن عند غيابه حتى أخبره آصف بن برخيا بعد أربعين يوما، ونسي أن شيطانا جاء إلى أم ولده أمينة بصورته وأخذ خاتمه منها وكان ملكه فيه وكان يضعه عندها إذا دخل الخلاء أو أتى إحدى نسائه، وان ذلك الشيطان لبس الخاتم وجلس على كرسيه، وان سليمان جاء إلى أمينة وطلب منها الخاتم فقالت لست بسليمان وقد أعطيته له، وانه إذ ذاك عرف خطيئته، وصارت الناس تحثو عليه التراب كلما قال أنا سليمان، وبقي أربعين يوما ينقل الحيتان لأهل السوق بالأجرة وهي مدة عبادة الصنم في بيته، وأن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حاله في التشبيه وسألوا نساءه فقالوا مثل ذلك، ولما علم الشيطان ذلك طار وطرح الخاتم في البحر فبلعته سمكة أعطاها الصيادون لسليمان عن أجرته فبقر بطنها ليشويها فوجد الخاتم فلبسه ووقع ساجدا لله تعالى ورجع كما كان وغير هذا من الترهات كذب محض من أباطيل اليهود أهل الجحود الناقضين للعهود أهل كل شر في الوجود، والعجيب كل العجيب كيف نقلوا هذه الحكاية السخيفة مع ما فيها من الطعن في عصمة الأنبياء المتفق عليها وعلى حصانة نسائهم الطاهرات، قال الحسن ما كان الله سبحانه ليسلط الشيطان على نساء نبيه صلّى الله عليه وسلم ثم إنه عليه السلام سأل ربه المغفرة عما وقع منه، «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي

لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 35» كثير العطاء غزير المن وهذا لا يقصد التفوق على غيره من الأنبياء لأن الملك يعطى للنبي وغيره بل يقصد المعجزة الخارقة للعادة لان ملكه إذا لم يكن بالغا المنتهى لم يكن معجزة خارقة وأنه عليه السلام أراد بدعوته هذه تخصيصه بشيء خاص كما خصص أباه من قبله بإلانة الحديد وغيرها ولم يكن حرصا على الدنيا والانغماسة فيها وانظر لقول المعري: إذا عامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وروى في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ان عفربتا من الجن انفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان (في الآية المارة) فرددته خاسئا، فيعلم من هذا أن الله تعالى أعطى حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم جميع معجزات الأنبياء أي في نوعها كلها وهو كذلك قال تعالى مجيبا لدعوته «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً» لينة لا تزعج الراكب عليها فتعدمه الراحة إتماما للنعمة فتوصله «حَيْثُ أَصابَ 36» قعد وأراد في الامكنة التي يرومها دون انزعاج «و» سخرنا له أيضا «الشَّياطِينَ» جميعهم ثم خص منهم على طريق البدلية «كُلَّ بَنَّاءٍ» يبتون له ما يشاء من محاريب وقصور «وَ» سخرنا أيضا منهم «كلّ غَوَّاصٍ 37» ماهر في غوص البحار ليخرجوا له الدر واللؤلؤ وغيره «وَآخَرِينَ» من الجن المسخرين تركهم «مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ 38» والاغلال بالقيود والجوامع، ومنها الأغلال التي توضع بالأعناق، لان الجوامع لليدين والاغلال لها والرأس ويطلق الغل على العطاء لانه ارتباط للمنعم عليه قال علي كرم الله وجهه من برّك فقد أسرك، ومن جفاك فقد أطلقك، وقال غيره، غل يدا مطلقها وفك رقبة معتقها، قال أبو تمام: هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة إن العطاء إسار

[سورة ص (38) : الآيات 41 إلى 50]

وقال المتنبي: وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا إلا أنهم فرقوا بين الفعل فقالوا صفده قيده وأصفده، أعطاه عكس، وعد وأوعد وقد صفد هذه الطائفة بأمر الله درأ لأذاهم الناس لعلمه تعالى أن ذاك ديدنهم قال تعالى «هذا» العطاء العظيم «عَطاؤُنا» أيها الناس فتعرضوا له نصبكم منه «فَامْنُنْ» به يا عبدنا سليمان إلى من شئت وأحسن به على من أردت فهو غير نافد «أَوْ أَمْسِكْ» امنع من شئت منه من لا تريد إعطاءه وارفع رفدك عنه فأنت مخير بذلك مطلق الارادة «بِغَيْرِ حِسابٍ 39» عليك فيما تعطي وتمنع وهذه خصوصية له عليه السلام لانه يؤجر إن أعطى ولا يأثم إذا منع بخلاف غيره «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا» نحن الإله العظيم المانّ عليه بما ذكر عدا ذلك «لَزُلْفى» قربة وكرامة «وَحُسْنَ مَآبٍ 40» في الآخرة وقد جمع له خيرهما وهو للآخرة أتوق لأنها دار راحة ونعيم دائم وفيها يقول المعري: متى أنا للدار المريحة ضاعن ... فقد طال في دار الفناء مقامي وقد ذقتها ما بين شهد وعلقم ... وخبرتها من صحة وسقام وقال أبو العتاهية: ألم تر ريب الدهر في كل ساعة ... له عارض فيه المنية تلمع أيا باني الدنيا لغيرك تبتني ... ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع أرى المرء وثابا على كل فرحة ... وللمرء يوما لا محالة مصرع هذا ومن عرف أن هذا حال الدنيا رغب عنها إلى الآخرة قال تعالى «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» في معرض الأنبياء المبتلين أمثالك يا محمد «إِذْ نادى رَبَّهُ» لما اشتد به البلاء فقال يا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ» اتعاب كثيرة ومشقات «وَعَذابٍ 41» أضربي لا طاقة لي عليه يا رب فأعني فأجابه بقوله جل جلاله «ارْكُضْ» اضرب الأرض «بِرِجْلِكَ» فضربها فنبعت ماء فقال له ربه «هذا» الماء لك منه «مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ 42» تشرب منه فاغتسل فذهب

مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم:

ما فيه ظاهرا من آثار المرض، وشرب فذهب ما فيه من آلامه الداخلية «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ» أي مثل ما فقد له منهم من المال والولد «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» على سبيل التفضل «رَحْمَةً مِنَّا» وجزاء لصبره على ابتلائنا وثباته على عبادتنا «وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ 43» العقول السليمة والبصائر الحاذقة، ليعلموا أن من صبر على بلائي ولم يضجر وشكر نعمائي ولم يفرح، أعامله معاملة أخصّائي، ثم بين له المخرج من صلفه كما سيأتي في القصة بعد مفصلة في الآية 84 من الأنبياء في ج 2، وكذلك قصص الأنبياء الآتي ذكرهم فراجعها، ثم قال له «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً» حزمة حشيش صغيرة بملء اليد. «فَاضْرِبْ بِهِ» امرأتك التي حلفت عليها أن تجلدها «وَلا تَحْنَثْ» بيمينك لأن البرّ به واجب. مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم: وقد حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها شكرا لصبرها عليه مدة مرضه الحكم الشرعي اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها بيده وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك والليث بن سعد وأحمد لا يبرّ، وقال مجاهد: هذا خاصّ بأيوب عليه السلام. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا ضربه بها ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد برّ بيمينه، استدلالا بهذه الآية. وقال ابن عباس وعطاء ابن أبي رباح إنه يبرّ مطلقا بقطع النظر عن خصوص السبب. وهذا هو الأوفق بالقاعدة وهي العبرة للعام ما لم يقيّد، وهذا إذا استوعبت يد الضارب المائة سوط لا المائة قصلة من الحشيش لأنها خاصة ولا يسقط بها الحنث، ويشترط ان يصيب جسد المضروب كل واحد منها وإلا لا، وسنأتي على بحث كفارة اليمين وما يتعلق بها في الآية 92 من المائدة في ج 3. قال تعالى مبينا سبب إعطائه ضعفي أهله رماله وولده وتخفيف الكفارة عليه بقوله «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً» على بلائنا ولم يشك منه ولم يضجر ولم يتوسل بغيرنا على كشفه ولذلك أجبنا دعوته وزدناه على ما طلب لأنه أظهر لعدوه إبليس وللناس أنه يعبدنا لذاتنا لا للمال والولد والأهل وغيرها، وإنما أفتيناه بتخفيف الكفارة لأنه حلف عليها من أجلنا بسبب المحنة

التي قدرناها عليه «نِعْمَ الْعَبْدُ» أيوب الصابر الشاكر «إِنَّهُ أَوَّابٌ 44» رجاع إلينا كثير الأيادي على غيرنا «وَاذْكُرْ» يا أكمل الرسل «عِبادَنا» الصابرين الشاكرين أمثال أيوب «إِبْراهِيمَ» إذ امتحناه بإلقائه بالنار واختبرنا وفاءه بالعهد حينما ألقي فيها، إذ جاءه جبريل ليغيثه فقال: إني عاهدت ربي أن لا أسأل غيره. وقد قال له سله ليكشف عنك فقال: علمه بحالي يغني عن سؤالي «وَإِسْحاقَ» إذ ابتلي بالذبح وهذا على القول بأنه هو الذبيح وليس بشيء كما سنبينه في الآية 88 من يوسف في ج 2 ولعله ابتلي ببلاء آخر لم نعلمه أو بما كان على أبيه وأخيه إسماعيل عليهم السلام «ويعقوب» إذ ابتلي بفقد ولده وغشاوة بصره من البكاء عليه «أُولِي الْأَيْدِي» القوة العاملة على الطاعة والعبادة والجهاد والصبر على المصائب وعدم الاستعانة بغير الله، وفي هذه الآية تنديد على أولي البطالة والكسالى بأمر الدين والدنيا لأن الله يبغض العبد البطال وكتبت الأيدي بالياء ويجوز حذفها بلا حاذف كياء (يسر) في الآية 4 من الفجر المارة وقوله «وَالْأَبْصارِ 45» جمع بصيرة لا جمع بصر لأن البصيرة تجمع على أبصار وبصائر والمراد بها هنا والله أعلم القوة العالمية والمعرفة الحاذفة اللتين يصدر عنهما معرفة الله والعلم بخصائص مكوناته فهؤلاء وأمثالهم «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ» لعبادتنا «بِخالِصَةٍ» أي خصلة خالصة لا شوب فيها «ذِكْرَى الدَّارِ 46» الدائمة وهي الآخرة أي اصطفيناهم ليذكروا الناس في الآخرة فيعملوا لها يزهدوهم في الدنيا لئلا يتوغلوا فيها «وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا» بسبب صبرهم وشكرهم وتفاديهم في سبيلنا وقيامهم بأوامرنا «لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ 47» المصفّين من الأدناس المختارين من جنسهم «وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ» المبتلين الصابرين أيضا «وكلّ» منهم عندنا «مِنَ الْأَخْيارِ 48» إذ كل منهم امتحن واختبر فرضي وشكر وسنأتي على قصة كل منهم بانفراده عند ذكره إن شاء الله كي لا تتكرر وقد عدد الله تعالى جمعا من رسله المصابين بالبلاء بأجسادهم وأهلهم ومن قومهم تسلية لحضرة محمد صلّى الله عليه وسلم وتشجيعا له على تحمل أذى قومه وجفاهم له والصبر على سوء أخلاقهم معه إرشادا لأن يسلك طريقهم ويقتفي أثرهم ويفكر بما كان على

[سورة ص (38) : الآيات 51 إلى 60]

هؤلاء الأبرار من أقوامهم الفجار، وكيفية نصرهم عليهم بالوقت الذي قدره، لا الذي أرادوه، وانه سينصره عليهم بالوقت المقدر لذلك في علمه الأزلي. قال تعالى: (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) الآية 85 من مريم الآتية قال تعالى: «هذا» الذي نتلوه عليك يا محمد «ذِكْرٌ» عظيم شريف جميل يذكر فيه هؤلاء الأنبياء الأبرار مدى الدنيا «وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ» هؤلاء وأمثالهم في الآخرة «لَحُسْنَ مَآبٍ 49» مأوى جليل ومرجع كريم هو «جَنَّاتِ عَدْنٍ» خالدة وحينما يأتونها يرونها «مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ 50» حيث تتقدمهم الملائكة فتفتحها لهم زيادة في إكرامهم لا يكلفون فتحها بأيديهم ومفتحة هنا واقعة حالا كالواو في قوله تعالى: (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) الآية 73 من الزمر في ج 2 فإنها واو الحال ولهذا البحث صلة في تفسير هذه الآية، هناك يجلسون في تلك الجنان حالة كونهم «مُتَّكِئِينَ فِيها» على الأرائك الطرية القوية زيادة في البسط والتنعم «يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» متنوعة مختلفة بالطعم واللون والشكل والرائحة «وَشَرابٍ 51» كثير يحضر لهم معها وحذفت كلمة كثير هنا لدلالة الأولى عليها راجع الآية 17 من ق المارة تجد الشاهد والمثل «وَعِنْدَهُمْ» مع ذلك النعيم العظيم بنات أبكار «قاصِراتُ الطَّرْفِ» على كل منهم دون غيره فكل زوجة مقصور نظرها على زوجها فقط، وفي تمام السرور أنهن «أَتْرابٌ 52» متساوين في السن والحسن والخلق والخلق وكل منهم يتحقق أن زوجته لا مثيل لها وكذلك الزوجة «هذا» الذي أعددناه لكم في الدار الآخرة أيها المتقون هو «ما تُوعَدُونَ» به في كتبنا على لسان رسلنا مهيا لكم «لِيَوْمِ الْحِسابِ 5» والجزاء على الأعمال «إِنَّ هذا» كله وأضعافه معه «لَرِزْقُنا» الذي قدرناه لكم جزاء أعمالكم «ما لَهُ مِنْ نَفادٍ 54» دائم أبدا إذا أخذت منه شيئا صار مثله مكانه لا ينقص أبدا فهو باق كالدار الآخرة باقية لا نفاد لها ولا يتطرق لما فيها تغيير أو تبديل بخلاف ما في الدنيا فإنه معرض لذلك وللفناء مثلها «هذا» الأمر الذي ذكرناه لمن ذكرنا من عبادنا الخاشعين الخاضعين لأوامرنا، وفي هذه الاشارة تنبيه على هول ما قاله تعالى بعدها وهو

[سورة ص (38) : الآيات 61 إلى 70]

«وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ 55» مرجع قبيح ومصير مخزي ومأوى مخجل، وهذا بمقابلة ما للمتقين. ثم بين ذلك المآب بقوله: «جهنم» يجوز أن تكون بدلا من المآب أو عطف بيان وهي منصوبة على الذم «يَصْلَوْنَها» يحرقون فيها حرقا فظيعا «فَبِئْسَ الْمِهادُ 56» جهنم المخصوصة بالذم فهي شر الفراش أعاذنا الله منها «هذا» العذاب الأليم «فَلْيَذُوقُوهُ» الطغاة أعداء الله فهو «حَمِيمٌ» ماء شديد الغليان «وَغَسَّاقٌ 57» ماء آخر شديد البرودة يؤذي كالشديد الحرارة، ألم تر أيها القارئ فعل البرد في الزرع كيف يصيره أسود كأنه محروق بالنار لا بالحر الشديد لأنه يسوده بل ييبسه فقط وقد تصيبه سمرة راجع الآية 5 من الأعلى المارة قال تعالى: «وَآخَرُ» نوع وجنس آخر من العذاب «مِنْ شَكْلِهِ» أي الحميم والغساق «أَزْواجٌ 58» كثيرة وأضعاف متنوعة ثم يقال للقادة والرؤساء إذا أدخلوا النار وجاءت الزبانية بأتباعهم وزجوهم فيها معهم «هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» العذاب أيضا كما اقتحموا أسبابه معكم في الدنيا، أي هؤلاء أتباعكم الضلال فيقولون «لا مَرْحَباً بِهِمْ» ضاقت الدار بهم لا وسعت وهذا على ما تعورف عند العرب إذ يقولون للقادم مرحبا أي دارنا رحبة واسعة بمقدمك، وأهلا أي نزلت على أهلك، وسهلا أي ما تطلبه يسر علينا إنفاذه هذا إذا كان خيرا وإذا كان شرا فبالعكس، كما هنا، ويقولون «إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ 59» مثلنا فيردون عليهم بقولهم: «قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ» لأنكم رؤساؤنا بالكفر والشرك والضلال والإضلال لأنكم «أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ» أي العذاب المذكور «لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ 60» الذي أوصلتمونا اليه ثم يبادرون بالدعاء عليهم إذ لم تنفعهم المخاصمة «قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا» العذاب الأليم أي تسبب به «فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ 61» لضلالهم أنفسهم وإضلالهم إيانا «وَقالُوا» أي الرؤساء والقادة الطغاة بعضهم لبعض، الأولون والآخرون، ومنهم بغاة قريش «ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ 62» في الدنيا يعنون بذلك أتباع الرسل إذ كانوا يسمونهم في الدنيا أشرارا قال قوم هود لهود عليه السلام (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ ت (21)

إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) الآية 27 من ج 2 وقال قوم محمد لمحمد عليه الصلاة والسلام أنؤمن كما آمن السفهاء الآية 13 من البقرة حتى ان قريشا لم ترض بمجالسة فقراء المسلمين كما سيأتي في الآية 51 من الأنعام والآية 27 من الكهف في ج 2 وقالوا أيضا «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» بهمزة الاستفهام أسقطت معها همزة الوصل أي ما لهم لم يدخلوا معنا النار وكنا نسخر منهم في الدنيا ولا نرضى مجالستهم، سموهم أشرارا لكونهم على خلاف دينهم، وأراذل لأنهم فقراء «أم» أنهم موجودون ولكن «زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ 63» فلم ترهم لكثرة أهل النار، واعلموا أيها الناس «إِنَّ ذلِكَ» الأخذ والرديين التابعين والمتبوعين «لحق» واقع لأنه «تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ 64» في النار كائن لا مرية فيه وهذا التشاحن بين العابدين والمعبودين والضالين والمضلين لا محالة صائر بينهم في بعض مواقف القيامة راجع الآية 35 من المرسلات المارة والآية 21 من ابراهيم في ج 2 والآية 166 من البقرة في ج 3 «قُلْ» يا سيد الرسل لمشركي قومك «إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ» لكم من هذا المصير السيء «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 65» لكل شيء وان ما تزعمونه من الآلهة كلها مخلوقة لله ومقهورة له لا تملك من خلقه شيئا ولا لنفسها نفعا وان إلهي «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ» الغالب الذي لا يمتنع عنه شيء «الْغَفَّارُ 66» لمن رجع اليه نادما من ضلاله وأن عظمت ذنوبه كرما منه لأنه واسع المغفرة. قال الأبوصيري: يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت ... إن الكبائر في الغفران كاللمم. أي إذا أراد غفرانها راجع الآية 52 من سورة الزمر في ج 2 «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك ان هذا الذي أنبأتكم به من حالتي أهل الجنة والنار وكوني رسولا منذرا بأن الإله واحد وأن القرآن منزل من لدنه وأن شركاءكم لا يغنون عنكم من الله شيئا «هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ 67» قدره، جليل أمره، ولكنكم «أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ 68» مع أنه لا يغفل عنه ويجب الانتباه له والتمسك به وأن الله تعالى أنزله إليّ لأقصه عليكم والا أنا «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ» أبدا

[سورة ص (38) : الآيات 71 إلى 80]

«بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ 69» لأني لم اقرأ الكتب القديمة ولا أحسن الكتابة لأنقلها إليكم وأن جميع ما قرأته لكم من الآيات وما سأتلوه عليكم بعد ليس من نفسي «إِنْ يُوحى إِلَيَّ» أي ما علمته إلا بوحي إليّ من الله «إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ» لكم من عذاب الله وبشير لكم بما عنده للمؤمنين «مُبِينٌ» ما يأمرني به ربي وشارح لكم عاقبة أمره معكم وكلما أذكره لكم عن الملأ الأعلى وعن أحوال الدنيا والآخرة ما هو من تلقاء نفسي، إنما هو بوحي منه، وأراد بالملأ الأعلى الملائكة وبالخصومة هو ما وقع بينهم وبين آدم عليه السلام مما قصه قبل وما يقصه بعد من اعتراضهم على خلافته كما سيأتي في الآية 30 من البقرة في ج 3. قال تعالى. واذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ 71» لا من نور كالملائكة ولا من نار كالجن «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» أتممت خلقه كما هو في علمي «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» أضاف الروح لنفسه المنزهة على سبيل التشريف اضافة ملك كبيت الله وناقة الله، والروح جوهر لطيف يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء، والنار في الفحم، والماء في العود، والشمس في الظل، والرائحه في الماء، أي إذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة المقدسة الشريفة التي هي أمري وجعلته حيا حساسا متنفسا «فَقَعُوا لَهُ» حالا بلا توان «ساجِدِينَ» تعظيما له واحتراما لقدرتي حيث خلقته من تراب على غير مثال سابق وجعلته على أحسن صورة، فلما سمعوا ما أمرهم به ربهم أجابوه فورا كما يدل عليه قوله: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 73» لم يتخلف منهم أحد امتثالا لأمره «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ» على ذلك المخلوق آدم عليه السلام الذي اصطفاه الله واجتباه أن يكون أبا لأكمل الخلائق وأحسنها «وَكانَ» هذا الخبيث بسبب امتناعه عن السجود «مِنَ الْكافِرِينَ 74» الملعونين المطرودين «قالَ» تعالى «يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ» على آدم الذي توليت خلقه بنفسي «أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ 75» المتفوقين عليه، والعالون صنف من الملائكة المقربين كحملة العرش والروح، قيل إن هؤلاء لم يؤمروا بالسجود

وإنما الأمر صدر من الله تعالى لعوام الملائكة، فظن هذا الخبيث نفسه منهم فلم يسجد مع علمه أنه داخل فيمن أمر بالسجود ولهذا احتج وقال «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» فلا أسجد لمن هو دوني لانك «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ 76» والنار على زعمه أشرف من الطين فيكون على ظنه أنه أفضل منه والفاضل لا يتواضع المفضول عادة ولم يعلم الخبيث خطأ قياسه الذي سنبينه في الآية 11 من الأعراف الآتية لأن النار مصيرها الرماد ولا ينتفع به والطين أصل كل نام من الحيوان والأشجار، ولا شك أن من الأشجار ما هو مثمر ومن الحيوان الإنسان، وكل منها خير من الرماد وإذا كان للنار خاصة الإحراق والضياء فللطين خواص كثيرة فلو فرض أن رجلا نسيبا مجردا من كل فضيلة وآخر غير نسيب جامع للفضائل كلها فهل يفضل ذلك عليه لمجرد نسبه كلا، وكان على الخبيث أن يمتثل لمجرد الأمر من غير أن ينطرق للسبب وللمسجود له لما هو عليه من معرفة ربه على أن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع قال ابن الوردي: إنما الورد من الشوك وما ... ينبت النرجس إلا من بصل قد يسود المرء من غير أب ... وبحسن السبك قد ينفى الدغل لكنه عليه اللعنة لم يكن هذا قصده ومغزاه وإنما أراد التكبر عليه لأنه يقول في نفسه قبل أن يصرح بما انتحله من السبب والعلة أنه لو فرض أنه خلق من النار ما سجدت له لأنه مثلي فكيف وقد خلق من الطين ويريد التفوق علي فإني ان سجدت له صرت دونه ولا أرضى لنفسي الدون. هذا وجاء لفظ أستكبرت بهمزة الاستفهام وأصلها بهمزة الوصل ولكن لما دخلت همزة الاستفهام حذفتها ويجوز بدون الاستفهام لدلالة (أم) التي أتت بعدها عليها «قال» تعالى تنفيذا لما هو في سابق علمه الأزلي أن يكون «فَاخْرُجْ مِنْها» أي الجنة، وإنما رمز إليها بالضمير ولم يسبق لها ذكر لشهرة كونه من سكانها، والمعلوم دائما يرمز إليه بالضمير كما بيناه في أول سورة القدر المارة وزاد في إخسائه بقوله: «فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 77» طريد منها «وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ 78» الجزاء والحساب

[سورة ص (38) : الآيات 81 إلى 88]

ولا يقال ان غاية هذه اللعنة منتهية إلى يوم القيامة، لأنه إذا كان مطرودا في أوان الرحمة الشاملة للمؤمن والكافر فلأن يكون مطرودا في غير أوانها يوم القيامة من باب أولى لأن الرحمة فيها خاصة بالطائعين وكيف تنقطع وقال تعالى: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية 43 من الأعراف الآتية وعلى هذا فإن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له عليها من أجناس العذاب ما ينسيه إياها ويكون كأنها انقطعت عنه، والرجيم في الآية الاولى محمول على الطرد من الجنة والمعنى في الآية الثانية محمول عن الطرد من الرحمة فلا تكرار فيهما ولما أيس الخبيث ورأى ان صورته تغيرت عما كانت عليه لظهور آثار غضب الله عليه حيث اسود جسمه وازرقت عيناه بعد أن كان يباهي الملائكة بخلقه وعرف ان لا يبدل قول الله ولا يتغير لفرط حذاقته التي استعملها بالخبث «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي» أخرني ولا تمتني «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 79» يعني آدم وذريته، وقد استمهل الملعون ليتمادى في البغي والطغيان وليجد فسحة للاضلال مع علمه ان لا سبيل للبقاء ليأخذ ثأره من آدم وذريتة باغوائهم وعلى زعمه انه بإجابة دعوته ينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث موت وهو امر معروف عند الملائكة وقد كان معهم كأنه منهم ولشدة مخالفته لهم علموا أنه منهم «قالَ» تعالى: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 80» جمع الضمير مع عدم وجود منظر غيره لأن الذين يحضرون القيامة الاولى منظرون إليها بآجالهم فجعله منهم في هذه الحيثية ليس إلا وهذا الانظار «إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 81» للنفخة الأولى الموقت والمقدر لموت كافة الخلق اجمع ولما لم يفز الملعون ببغيته كما أراد صرح لربه عما في ضميره، وهو أعلم به «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 82» آدم وذريته ولما عرف أنه لم يقدر على إغواء الجميع استثنى فقال «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 83» بفتح اللام اي الذين استخلصتهم لعبادتك وبكسرها أي المخلصين لك منهم، أقسم الخبيث بسلطان الله وقهره على إغواء عامة الخلق اولا، ثم استثنى منهم من لم يقدر على اغوائه والتوصل إليه لا لأجل إخلاصهم، قاتله الله ما ألعنه «قالَ» تعالى «فَالْحَقُّ»

أنا الإله القاهر «وَالْحَقَّ أَقُولُ 84» أقسم بذاته جلت وعلت وهذا أعظم قسم به «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ» نفسك وذريتك وجنسك من الشياطين والجن والمردة «مِمَّنْ تَبِعَكَ» في الإغواء والضلالة والغواية والإضلال «مِنْهُمْ» من ذرية آدم الذين أقسمت على إغوائهم «أَجْمَعِينَ 85» توكيد للضميرين في منك ومنهم أي التابعين والمتبوعين. وليعلم القارئ الفطن أن هذه القصة قد تكرر في سور أخرى كثيرة في القسم المكي والمدني ولكن يوجد في بعضها ما لا يوجد في الأخرى للايجاز، وقد يكون فيها لفظان متحدان مآلا، مختلفان لفظا رعاية للتفنن وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال إنه أقسم مرة بعزة الله كما هنا وأخرى باغوائه كما في الأعراف الآتية في الآية 67، وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقام كإثبات الفاء هنا في (فانظرني) وتركها في الأعراف وغيرها، فالذي يجب اعتباره هو أصل المعنى ونفس المدلول، وحيث أن مقام الحكاية اقتضى ذلك وهو ملاك الأمر، فلا يخلّ تغير الألفاظ في أصل المعنى كما ترى، وسنأتي على تفصيل القصة في الآية المذكورة من الأعراف إن شاء الله بأوضح من هذا. قال تعالى يا محمد «قُلْ» لقومك ان ما أنذركم به عن الله واجب عليّ حتما تنفيذا لأمر الله به واثبه إليكم مجازا «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» ما أبدا ولا أطلب منكم جعلا البتة «وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ 86» المتعصّبين المتحلّين بما ليسوا من أهله، ولا المتخلفين المتقولين من أنفسهم، ولا من المدعين بما ليس عندهم حتى أنتحل لكم وأتقول بالقرآن والادعاء بالنبوة «إِنْ هُوَ» الذي أنذركم به ليس «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 87» أجمع، أنزله الله عليّ لأذكركم به علّكم تتعظون بأوامره ونواهيه «و» إن لم تفعلوا وعزة ربي وجلاله «لَتَعْلَمُنَّ» يا قومي ويا أيها الناس أجمع «نَبَأَهُ» الصادق وخبره الحق اليقين «بَعْدَ حِينٍ 88» أي مطلق زمن معلوم عند الله لم يظهر لأحد، إلا أن الآية تفيد أن من بقي حيا علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا، ومن يموت علمه بعد موته، والكل يعلمه يوم القيامة حقا، قال الحسن: عند الموت يأتيك الخبر اليقين. أخرج ابن عدي عن ابي برزة

تفسير سورة الأعراف عدد 39 - 7

قال: قال صلّى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم باهل الجنة، قلنا بلى يا رسول الله، قال: هم الرحماء بينهم، قال ألا أنبئكم بأهل النار، قلنا بلى يا رسول الله قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون. والمتكلف من ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم. وروى البخاري ومسلم عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الآية المارة، فعلى العاقل ان يتعظ بما تضمنه هذا الخبر الكريم. هذا، وأستغفر الله، والله أعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه واتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين إلى يوم الدين. تفسير سورة الأعراف عدد 39- 7 نزلت بمكة بعد ص، عدا الآيات من 162 إلى 170 فإنها نزلت بالمدينة، وهي مائتان وست آيات، وثلاث آلاف وخمس وعشرون كلمة، واربعة عشر الفا وعشرة أحرف، يوجد في القرآن ثلاث عشرة سورة مبدوءة بالحروف المهملة، هذه والبقرة وآل عمران ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة. أما ما بدأ بالحروف المعجمة فقد ذكرنا في سورة نون أنها هي وق، وقد اختلفوا في معانيها على أقوال كثيرة ولا يعلمها على الحقيقة إلا الله لأنها من المتشابه الذي لم يطلع على المراد منه أحد إذ استأثر به نفسه وهي من أسرار القرآن التي يجب الإيمان بها على ظاهرها ويوكل علم ما فيها إلى منزلها. قال علي كرم الله وجهه لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، ومن معجزات القرآن أنها جمعت في آية واحدة من آل عمران في ج 3 عدد 154 وهي (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) إلخ وإن عشر سور أخرى من هذا القبيل مريم والطور والخواتيم، قال أبو بكر: في كل كتاب سر،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 إلى 10]

وسر الله في القرآن أوائل السور، ولا يقال كيف يخاطب الله بما لا يفهم إذ له أن يكلفهم بما لا يعقل جزما كرمي الحجارة في الحج وعدد ركعات الصلاة وغيرها، لأن الحكمة المرادة منها لا تعرف يقينا، أما قولهم هي مواقع الشيطان الذي كلم إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام فيها يوم أراد ذبحه فهو أمر ظاهري ليس الا، وهذا من كمال الانقياد لقدرته وقدمنا بعض ما فيها أوائل سورتي ق ون المارتين وفي المقدمة في بحث الفرق بين الوحي الإلهام، وسنلمع في كل منها ما نقف عليه من معانيها في محله كما فعلنا في سورة ص المارة. واعلم أن جميع ما جاء من حروف الهجاء في أوائل السور أحد عشر حرفا مهملا وهي: ال م ص ط س ح ر ك هـ ع وثلاثة معجمة وهي: الياء والقاف والنون، وهي هنا اسم للسورة وفواتح أسماء الله الحسنى أنا الله المعبود الصبور المصور اللطيف المجيد الذي يفصل بين الخلق ويعلم ما هم عليه وما هم صائرون إليه وسر من أسراره الدائرة بينه وبين حبيبه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «المص 1» قال أهل المعرفة ما من سورة ابتدئت بالم إلا وتشتمل على ثلاثة أمور: 1- الخلق وكيفيته وهو البداية، 2- والمعاد وما فيه وهو النهاية، 3- والوسط وما يتعلق به وهو المعاش وفيه اشارة إلى مخارج الحروف الثلاثة، الحلق واللسان والشفتين، وزيد في هذه السورة حرف الصاد إعلاما بما فيها من قصص الأنبياء وغيرهم هذا «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ» ضيق وضجر «مِنْهُ» بسبب إبلاغه وتأدية ما أرسلت به منه إلى قومك ولا تنقبض من شكهم فيه وبإنزاله عليك وتكذيبهم لك وجحدهم نبوتك «لِتُنْذِرَ» متعلق بأنزل «به» أي الكتاب قومك وغيرهم من أهل الأرض «وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ 2» به المصدقين بك وبربك، وإنذار للمكذبين المنكرين فقل يا أيها الناس «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم «وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» كرؤوس الكفرة والشياطين الذين يدعونكم إلى الشرك بالله ويريدونكم على عبادة الأوثان والأهواء الفاسدة المبتدعة «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ 3» بعظة الله

ورسوله وكتابه، وما هنا لتأكيد القلة، أي أن اتعاظكم به قليل جدا ولهذا لم تنتفعوا به، ثم حذرهم من عدم التذكر ومن الإصرار على الشرك وإنكار التوحيد بقوله عز قوله «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» لعدم اتعاظها «فَجاءَها بَأْسُنا» عذابنا الذي لا يرد بحكمنا الذي لا يعقب قبل أن يصبحوا بدلالة قوله «بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ 4» ضحوة النهار لأنه أيضا وقت غفلة لا يتوقع فيه شيء بخلاف الصباح، فإن الغارات تقع فيه غالبا، وقد أهلك الله قوم لوط سحرا وقال: (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الآية 177 من الصافات في ج 2، وأهلك قوم شعيب ضحى، ونزول العذاب وقت الغفلة أشد وقعا في النفس من غيره وأفظع هولا، وفي هذه الآية تخويف لقريش وتنبية بعدم اغترارهم بما هم فيه من الحذر، لأن الله إذا أراد إنزال عذابه بهم أنزله عليهم دفعة واحدة حال غفلتهم، كما فعل بغيرهم وهؤلاء المعذبون حينما يقع بهم العذاب «فَما كانَ دَعْواهُمْ» احتجاجهم وتضرعهم ودعاؤهم «إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا» واتصل بهم عذابنا «إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ 5» أنفسنا لعدم امتثالنا أمر رسلنا، وإصرارنا على مخالفتهم، وانكبابنا على الشرك، وبعد اعتراف هؤلاء باستحقاقهم العذاب «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» يوم القيامة بالموقف العظيم على ملأ الأشهاد وليبينوا ما أجابوا به رسلنا حين دعوهم للإيمان بنا وحدنا «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ 6» أيضا في ذلك المشهد هل بلغوا رسالتنا كما أمرناهم أم لا، وهذا السؤال من الله عز وجل بمثابة الجواب للقائلين (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) الآية 18 من المائدة في ج 3 وفي معناها كثير في القرآن، مع أن الله تعالى لم يترك أمة بلا رسول، راجع الآية 24 من فاطر الآتية، وهو أعلم بما يقولون لأجل الاستشهاد على إنكارهم وتوبيخهم وتقريعهم على رءوس الأشهاد، قال تعالى «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ» ما وقع منهم كله «بِعِلْمٍ» ويقين ليتحققوا أنا كنا حاضرين عملهم «وَما كُنَّا غائِبِينَ 7» عنهم حينما بلغهم الرسل أو أمرنا راجع تفسير الآية 30 من آل عمران في ج 3، وفائدة هذا القصص إخزاء المنكرين عند ما يظهر كذبهم بالموقف بشهادة رسلهم عليهم، لا لأجل الاستثبات

مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة:

من إيقاع أفعالهم لأن الله عالم بها قبل وقوعها منهم وعالم بما في الكون كليّه وجزئيه وعلمه تعالى بظاهر الأمور كعلمه يبواطنها، راجع الآية 3 من سورة سبأ في ج 2، قال تعالى «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ» يوم السؤال هو «الْحَقُّ» العدل الكائن لا محالة. مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة: واختلف في وصف الميزان وكيفية الوزن، والإيمان بهما على ظاهرهما واجب، وأصح ما قيل فيهما أن الميزان له لسان وكفتان عظيم الحجم، والوزن هو صحائف الأعمال، بدليل ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ان الله عز وجل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له أتنكر شيئا من هذا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب، فيقول ألك عذر؟ فيقول لا يا رب، فيقول تبارك وتعالى: بل إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول احضر وزنك، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له انه لا ظلم عليك اليوم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسمه شيء. أخرجه الترمذي واحمد بن حنبل. إن هذا يثبت ما قلناه في الميزان والحكمة من إظهار العدل للناس وتعريفهم ما لهم وعليهم، وعلامة السعادة والشقاوة، وبيان أنّ الله لا يظلم عباده، وانه امتحنهم بالإيمان في الدنيا وأقام عليهم الحجة في العقبى وليتيقنوا استحقاقهم العذاب وان الله لم يحف عليهم راجع الآية 26 من ص المارة، قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» بحسناته وطاشت سيئاته «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 8» الفائزون بثواب الله الناجحون في ذلك اليوم «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» بسيئاته وطاشت حسناته «فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» فيه وعوقبوا بحرمانهم من ثواب الله وكرامته «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ 9» أنفسهم في الدنيا بجحدهم آياتنا وتكذيبهم رسلنا،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 إلى 20]

قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ» أيها الناس «فِي الْأَرْضِ» وأقدرناكم على التصرف فيها وملكناكم إياها «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» من كل ما تحتاجون في حياتكم من مشرب ومطعم وملبس ومسكن وغيره، ومع هذا أراكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ 10» صنيعي فيكم وانعامي عليكم حق شكره، وذلك أن الآية تفيد أنهم يشكرون نوعا أي قليلا جدا بالنسبة لعظم أفضال الله عليهم وان حق الشكر تصور النعمة دائما وإظهارها والثناء على المنعم، وضده الكفر وهو نسيان النعم وكتمها وكان غاية شكرهم ذكرهم النعمة عند حضورها فقط وهذا لا يخلو منه إنسان «وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ» أيها الناس من نطفة وخلقنا أباكم من تراب «ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ» في الأرحام على صورة أبيكم الذي صورناه على الأرض «ثُمَّ» أعلمناكم على لسان رسولنا بأنا «قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» عند تمام خلقه «اسْجُدُوا لِآدَمَ» «هذا الذي خلقته بيدي» «فَسَجَدُوا» له كلهم إذعانا لأمرنا «إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ 11» له استكبارا عليه وأنفة منه ومخالفة لنا «قالَ» تعالى يا إبليس «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» مع الملائكة ومن قال لك لا تسجد! ولا هنا ليست بزائدة لعدم جواز وجود زائد في القرآن ولا يقال إنها لا معنى لها لأن كل حرف في كتاب الله له معنى وهنا جيء بها للتأكيد أي أي شيء منعك أن تسجد، يؤيد هذا الآية في سورة ص، وهي ما منعك أن تسجد بدون لا، وقد سبق أن ذكرنا ما يتعلق بمثلها أول سورة القيمة وسورة البلد المارتين فراجعهما وسنأتي على تفنيد الاستناد الى الآيات المحتج بها على قولهم بأن لا فيها زائدة عند تفسيرها بحالها إن شاء الله «إِذْ أَمَرْتُكَ» بالسجود الأمر هنا للوجوب والسؤال للتوبيخ ولإظهار عناده وكفره وافتخاره بأصله وبيان حسده لآدم وتحقير أصله المبين بقوله «قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ 12» حجة قاصرة تقدم تفنيدها في الآية 76 من ص المارة إذ من المعلوم ان جوهر الطين الرزانة والهناءة والصبر والحلم والحياء والتثبت والمودة، وهذا ما دعا آدم وذريته إلى التوبة والندم والاستغفار، وجوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب والعجلة.

مطلب مقاييس إبليس:

مطلب مقاييس إبليس: وهذا ما حمل إبليس على العناد والاستكبار والافتخار، والطين عدة المسالك ومظنة الأمانة والإنماء، والنار عدة المهالك وخطة الخيانة والإفناء، والطين يطفىء النار ويتلفها وهي تصلحه وتقويه، فقد غفل اللعين عن هذه الفضائل وزل بفاسد المقاييس فأخطأ وهو أول من قاس فأخطأ، قال ابن سيرين ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، على ان الأفضلية ليست بفضيلة الأصول والجوهر بل لمن يجعله الله فضلا، لأن المؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي، وان آدم اختصه الله فجعله صفيه وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء الأشياء كلها وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية، والاستثناء في هذه الآية منقطع لأن إبليس ليس من جنس الملائكة وانما استثناه منهم لأمره بالسجود معهم ولما لم يسجد أخبر الله عنه انه لم يكن من الساجدين لا انه من الملائكة وقد ثبت انه من الجان. قال تعالى: (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 50 من الكهف في ج 2 وانه خلق من النار والملائكة من النور. قال تعالى «فَاهْبِطْ» أيها اللعين المتخلف عن أمرنا «مِنْها» أي الجنة «فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها» وتتجبر لأنها لم تخلق للمتكبرين ولا ينبغي أن يسكنها متجبر «فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ 13» الأذلاء المهانين المحقّرين لعدم امتثالك أمري. وان التعظيم في الأصل لله لا لآدم. قال ظافر الاسكندري: أنت المراد بنظم كل قصيدة ... بنيت على الأفهام في تبجيله كسجود أملاك السماء لآدم ... وسجودهم لله في تأويله فأخرج وطرد حالا ولما علم أن سقط في يده «قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 14 قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 15» تقدم تفسيرها في الآية 74 فما بعدها من سورة ص المارة والذي جرأ الملعون على هذا السؤال علمه بحلم ذي الجلال وانما أجاب جل جلاله سؤاله بالامهال ليعلم خلقه برّه وإحسانه إلى من يسيء إليه فكيف اذن عطفه ولطفه بالمؤمنين المحسنين، ولما لم يرق له هذا الإمهال للسبب المتقدم هناك أيضا

مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة:

«قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ 16» أي لأعترضن لهم على طريق الإسلام القويم كما يعترض قطاع الطريق وكما يكمن العدوّ لعدوه وأردنّهم عن طاعتك وأزيننّ لهم عصيانك «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» فأوقع الشك في قلوبهم بأمر الآخرة «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» فأرغبنّهم في الدنيا وإنما كانت خلفهم لأنهم تاركوها لا محالة وبما أنهم قادمون للآخرة حتما فتكون بين أيديهم أي أمامهم «وَعَنْ أَيْمانِهِمْ» أشبه عليهم أمر دينهم لإبطال حسناتهم التي يكتبها ملك اليمين «وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» أشهى لهم المعاصي لتزداد خطاياهم التي يدونها عليهم ملك الشمال، ذكر الخبيث الجهات الأربع لتأكيد إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم من كل الجهات والوجوه الممكنة، ومن تتمة كلام هذا الغضيب ما حكاه الله عنه «وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ 17» قال هذا القول على سبيل الظن ولكنه أصاب، قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية 20 من سبأ في ج 2 فلا حول ولا قوة إلا بالله. مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة: أخرج النسائي عن سيرة ابن ابي الفاكهة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، قعد له في طريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (أي محجر عليه) فعصاه وهاجر، وقعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد. قال: فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان عليه أن يدخله الجنة، أو وقصته (رفسته) دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة. قال شقيق البلخي ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع، أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الآية 18 من سورة طه الآتية، وأما من خلفي فيخوفني وقوع أولادي

في الفقر فأقرأ: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية 6 من هود في ج 2 وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ: (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) الآية 132 من طه الآتية، وأما من قبل الشمال فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) الآية 54 من سبأ في ج 2. وذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة مناظرة إبليس والملائكة وهي مذكورة في التوراة أيضا (قال للملائكة إني أسلّم أن لي إلها خالقا وموجدا لي وللخلق أجمع، ولكن 1- ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار. 2- ما الفائدة في التكليف مع أنه لا نفع له به ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف. 3- هب أنه كلّفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلّفني بالسجود لآدم مع علمه أني أمتنع. 4- لما عصيته فلم لعنني وأوجب عقابي مع عدم الفائدة له ولغيره ولي فيه الضرر العظيم. 5- إنه لما فعل ذلك لم سلطني ومكنني من إغواء الخلق. 6- لما استمهلته لم أمهلني ويعلم أن العالم إذا كان خاليا من الشر فهو أحسن؟ قال شارح الأناجيل فأوحى الله من سرادق عظمته وكبريائه يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أن لا اعتراض عليّ في شيء، فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل. هذا، وان هذه الشبهات ليصعب على القائلين بالحسن والقبيح العقليين الجواب عنها. قال الإمام: لو اجتمع الأولون والآخرون وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، ولهذا تجد أكثر أهل الزيف يسألون أسئلة من هذا القبيل اقتداء بسيدهم إبليس، ولو عرفوا أنه تعالى علاه لا يسأل لما سألوا. ويحكى أن سيف الدولة قال لجماعته علمت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا، فقال أبو فراس ما هو؟ قال: لك جسمي تعلّه ... فدمي لم تطلّه فابتدره أبو فراس قائلا: أنا إن كنت مالكا ... فلي الأمر كله رحم الله الاثنين. وعليه فمن عرف أن الأمر كله لله وعرف أن الله لا يسأل عما

يفعل ولا يرد ما حكم عرف أن الخير برضاه والشر بقضاه واعتقد هو أن ما وقع مراد الله. واعلم أن قصة إبليس المذكورة بوضوح آخر سورة ص المارة كررت في القرآن كثيرا وذلك لأن اعجاز القرآن بالتحدي والبلاغة، فتجيء مرة موجزة وأخرى مطنبة وكل منها يؤدي المعنى المطلوب منها والغرض المقصود في الفصاحة ليعلم أن القرآن ليس كلام البشر وأنه خارج عن قدرتهم الإتيان بمثله، لأن الألفاظ لا يقدر أن يستعملها أحد مختصرة ومطنبة مع المحافظة على بلاغتها وأدائها تمام الغرض المقصود إلا الذي خلقها وأن حضرة الرسول كان يضيق صدره من جفاء قومه المرة بعد المرة فيكرر الله تعالى عليه ما لاقى الرسل إخوانه من أقوامهم وما لاقاه آدم من إبليس ليخفف عنه بعض مابه، وان المسلمين أيضا كان يحصل لهم الأذى من الكفرة، فينزل الله تعالى ما لاقى إخوانهم أنصار الأنبياء السابقين، فيهون عليهم بعض ما هم فيه، ولأن القصة الواحدة تشتمل على أمور كثيرة فقد كر تارة ويقصد بها بعض الأمور قصدا، وبعضها تبعا وتعكس مرة أخرى، فتكرر عند كل مناسبة وكل منها تفي بالمقصود الموجزة والمطنبة. وهذا من الإعجاز الذي يكل عنه طوق البشر وقد بينا في سورة الكافرين المارة ما يتعلق بهذا فراجعه وله صلة في كل قصة تكرر في السورة الآتية. ونذكر أيضا ما يلائم المقام من الأحاديث والحكايات كما هنا «قالَ» تعالى علمه لإبليس «اخْرُجْ مِنْها» لأنك لم تقدرها حق قدرها، ولم تقدر الإله العظيم الذي أسكنك فيها لأنك خلقت مذموما «مَذْؤُماً» الذأم أشد العيب وأقبحه وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن «مَدْحُوراً» مطرودا مبعدا من رحمة الله ثم أقسم جل قسمه فقال: وعزتي وجلالي «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» أي من ذرية آدم وجواب القسم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ» أنت وذريتك ومن تبعكم من بني آدم، وفي هذه الآية تغليب ضمير المخاطب على الغائب «أَجْمَعِينَ 18» تأكيد لضمير منكم ثم التفت جل شأنه فقال: «وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» واتخذها مسكنا ومثوى لكما. والفعل على إضمار قلنا وجئن بضمير أنت لصحة العطف إذ لا يجوز العطف على المستتر «فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما» مما فيها. جاء هنا فعل كلا مقرونا

بالفاء لإفادتها الجمع على سبيل التعقيب. ولم يأت بالواو لإفادتها مطلق الجمع، والمفهوم في الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافات بين النوع والجنس المفهوم من الواو، فذكر في هذه السورة النوع وسيذكر في البقرة في ج 3 في الآية 35 الجنس تأمل «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» ولا تدنوا منها أي لا تأكلوا. فقد نهاهما عن جنس الشجرة، ولم يعينها لهما، فليس لنا أن نعينها، إذ لا طائل تحتها، لأن القصد امتثال الأمر بكف المأمور عما نهي عنه، لذلك حصل الاختلاف في نوعها، فمن قائل أنها الحنطة، ومن قائل أنها التين أو التفاح، والله أعلم بمراده فيها «فَتَكُونا» إذا أكلتما منها «مِنَ الظَّالِمِينَ 19» أنفسهم وتكونا قد فعلتما فعلا مخالفا لأمري مما هو خلاف الأولى والأفضل ولا شك أن هذا كان قبل النبوة وسيأتي أيضا ج هذه القضية في الآية 115 من طه الآتية «فَوَسْوَسَ لَهُمَا» له ولزوجته حواء «الشَّيْطانُ» بحديث مكرر مهموس ومطلي مزخرف ألقاه في قلبهما بقوة من الله تعالى يقذفها في قلب الموسوس له مثل الهواجس والخواطر التي تقضي إلى ما يقضي عنه في بني آدم، يؤيد هذا ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) وهو محمول عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وهذا أحسن ما قيل في معنى إيصال الوسوسة من إبليس لآدم، مع إنه هبط إلى الأرض وآدم في الجنة، وما قيل إنه دخل جوف الجنة فأدخلته وقال لهما ما قال مما ذكره القصاص والأخباريون، فلا قيمة له. كما أن ما قيل إنه قام على بابها فكلمهما أو تمثل لهما بصورة دابة أو أرسل أتباعه إليهما وأتاهما بصورة طاووس من الجنة فكلمها أقاويل مجردة عن الدليل، وكذلك ما قيل إنه منع من دخول الجنة على جهة التقريب والتكريم لا على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وزوجته لا عبرة به أيضا وإنما تحرش بهما «لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما» ليكشف ما غطى وستر «مِنْ سَوْآتِهِما» سمي الفرج سوأة لاستياء الإنسان بظهوره.

مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم:

مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم: الحكم الشرعي في كشف العورة حرام وهي جميع بدن الحرة عدا وجهها وكفيها وباطن قدميها، ومن الرجل والأمة، ما فوق الركبة وتحت السرة والظهر والبطن من الأمة وبدوّها من كل يبطل الصلاة، هذا، وانهما لم يصغيا اولا لوسوسته إلا أنه لما حلف لهما أن هذه الشجرة ليست التي نهيتما عنها «وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ» من الملائكة المقربين خاليين من كل عناء «أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ 20» الذين لا يموتون، أي أن علة النهي وسببه عدم جعلكما من الملائكة وعدم خلودكما في الجنة لأن في الأكل طلب الخلد قال في سورة طه (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) الآية 112 الآتية، فلهذا ولعلم آدم أن للملائكة منزلة عظمى عند الله وقربا من عرشه وأن الخلد مما يطمع به أيضا فقد حمله الطمع الذي هو من طبيعة البشر على الاستشراف بذلك محبة للعيش مع الملائكة وطول العمر بالتخليد في الجنة «وَقاسَمَهُما» حلف لهما فوق ذلك فائلا: «إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ 21» فيما ذكرته لكما، وأكد حلفه بأن واللام التأكيدتين ووقع القسم منه على صيغة المفاعلة، لأن إبليس يحلف وآدام وحواء يصدقان فصار كأنه قسم من اثنين فصدقاه لظنهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا. قال قتادة حلف لهما حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله. ونقل بعض العلماء عن ابن عمر: من خادعنا بالله خدعنا له. وقد استزلهما بذلك كله فمالا إلى قوله «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» على الشجرة المنهي عنها- من الدلالة أو من دلى الدلو في البئر- اي حطهما عن درجة الطاعة وازلهما إلى درك المعصية، وقيل من الدالة وعليه قوله: أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم أي ما زال يدلي إليهما بالنصح المزعوم بما تقدم وبقوله أنا اعلم منكما لأنكما حديثا عهد بالحياة وأنا ممن جرب الأمور وغاص عواقبها ولم يزل حتى استمالهما بما زخرفه لهما من القول مظهرا النصح لهما ومبطنا الغش، وهذا هو معنى الغرور، فضلا ت (22)

عن أنه وثق أقاويله كلها بالأيمان وهو أول من حلف بالله كاذبا لعنه الله، فانصاعا اليه وأكلا من الشجرة. قال تعالى «فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ» أخذا منها يسيرا لمعرفة طعمها «بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» حالا فتهافت لباسهما القدسي عنهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا من بعض ما قال قتادة كان لباسهما من جنس الأظفار شبه اللؤلؤ بياضا وعلى غاية من اللطف واللين والنضارة، فتقلص عنهما حتى بقي عند الأظفار تذكيرا للنعمة وتجديدا للندم «وَطَفِقا يَخْصِفانِ» يرقعان ويخيطان «عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» من ورق تينها ومرزها وكرمها وما شاكل ذلك من كبار الورق فيلزقان الواحدة جنب الأخرى ليسترا عورتهما فيه، وفي هذا دليل على قبح كشف العورة في ذلك اليوم «وَناداهُما رَبُّهُما» وبين ما هية هذا النداء بقوله «أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» وأحذركما من قربها لئلا يصيبكما ما أصابكما من هتك ستركما والسّبب لإخراجكما من الجنة دار الراحة وأنزلكما إلى الأرض دار الشقاء والعناء «وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ 21» ظاهر العداوة، لأنه لم يسجد لأحدكما حسدا، وهذا عتاب من الله جل جلاله لآدم وزوجته ولم يتشرف بالنبوة بعد، ولو كان لما رغب بمقام الملائكة لأن مقام النبوة أشرف، فما قيل إنه كان نبيا مردود بما سيأتي الآية 31 من سورة البقرة في ج 3، إذ قال بعد الأكل (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) إلخ وقوله جل قوله في طه الآتية بعد الأكل أيضا والتصريح له بالعصيان (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) الآية 122 كما تراه في تفسيرهما، فلما رأيا ما حلّ بهما من ذوقهما الشجرة وعتاب ربهما لهما «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» بمخالفة أمرك وقد غرّنا الملعون فأوقعنا بما نحن فيه «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ 23» رضاك مع خسراننا الجنة الهالكين بمخالفتك. وهذه الكلمات هي التي تلقاها من ربه المشار إليها في الآية من البقرة أعلاه على ما قاله ابن عباس. وقال ابن مسعود إنها (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) . والأول أولى

لتكرارها فيما قصه القرآن وعدم ذكر ما قاله ابن مسعود. وفي هذه الآية استدل من يقول بجواز صدور الذّنب من الأنبياء وليس بشيء لأن هذه الحادثة وقعت قبل النبوة كما تقدم وعليه جل المفسرين، ولا يوجد دليل يثبت وقوعها بعد النبوة، كيف وقد قال تعالى (ثُمَّ اجْتَباهُ) في الآية المذكورة آنفا من سورة طه أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك، وفي الآية دليل على أن صغار الذنوب تحتاج إلى طلب المغفرة أو عمل ما يكفرها، خلافا للمعتزلة القائلين بأنها مغفورة عفوا. قال قتادة: قال آدم يا رب، أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك؟ قال إذن أدخلك الجنة، وأما إبليس فسأل الإنظار بما يدل على أن امتناعه من السجود كان تجبرا، فأعطى الله كلا ما سأل. هذا، ولم يعتذر آدم بإغواء إبليس له، لأنه أقدم على تناول الشجرة مختارا وفيه إيذان بإبطال مذهب الجبرية، تأمل ترشد وراجع الآية 22 من سورة إبراهيم في ج 2، «قالَ اهْبِطُوا» خطابا لآدم وحواء وإبليس، وكرر له الأمر لعنه الله إشارة إلى عدم انفكاكه عنهما وملازمته لهما في الدنيا أما ما قاله الطبري والسدي من أن الخطاب لهم وللحية فلم أر ما يؤيده وقد سبق تضعيف القول بأن الحية أدخلت إبليس الجنة حتى تمكن من إغواء آدم وزوجته، ولم يسبق في القرآن ذكر للحية. وقيل إن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن إبليس أهبط إلى الأرض قبلهما، ومن شمل إبليس في هذا الخطاب قال إنه أهبط أولا من الجنة إلى السماء وفي هذا الأمر من السماء إلى الأرض معهما وهو وجيه، ومن لم يشمله قال بأن الجمع هو ما فوق الواحد، وعليه قاعدة المنطقيين استدلالا بقوله تعالى: (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 45 من سورة النمل الآتية وفيها ما يدلك على غيرها، على أن لغات الأجانب كلها لا تثنية فيها لأنهم يعبرون بالجمع على ما فوق الواحد «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» متعادين في الأرض كما تعاديتم في السماء «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» تمكثون فيها منها «وَمَتاعٌ» تتمتعون به فيها «إِلى حِينٍ 24» انقضاء آجالكم «قالَ فِيها تَحْيَوْنَ» لمدة المقدرة لكم «وَفِيها تَمُوتُونَ» فتدفنون إلى أجل معلوم تبقون في برزخكم

مطلب تواصي الله لخلقه والتزين للصلاة وغيرها:

«وَمِنْها تُخْرَجُونَ 25» يوم القيامة عند النفخة الثانية «يا بَنِي آدَمَ» اعلموا أنا «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ» جار مجرى التعظيم. مطلب تواصي الله لخلقه والتزين للصلاة وغيرها: وكل ما أعطاه الله لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل كما تقول رفعت حاجتي إلى الأمير فليس فيه نقل من سفل إلى علو «لِباساً» لما كان المطر سبب النبات وكان النبات سبب اللباس، لأنه يكون من النبات ومن الحيوان الذي يأكل النبات، جعله نازلا باعتبار ما يؤول إليه «يُوارِي» يستر ويغطي «سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً» تتزينون به من الأثاث والمتاع، تقول العرب تريش الرجل إذا تمول، أي كل ما نحتاجونه في دينكم، إلا أن هناك شيئا هو أعظم نفعا لكم إذا تزينتم به «و» هو «لِباسُ التَّقْوى» الذي يتحلى به الإنسان بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه «ذلِكَ» لباس التقوى وقد أشار إليه بلفظ البعد تعظيما لشأنه لأن نفعه يؤول إلى الآخرة الباقية فهو حتما «خَيْرٌ» من اللباس والرياش المختصين بالدنيا لأن غايتهما دفع الحر والقر والتنعم في هذه الدنيا الفانية إلى حين، أما لباس التقوى فإنه يقي من عذاب الله ويورث الدار الآخرة الباقية والنعيم الدائم قال: إذا أنت لم تلبس ثيابا من النقي ... عريت وان وارى القميص قميص ثم أشار إلى عظمته أيضا فقال «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» الدالة على فضله ورحمته بعباده إذ أنزل عليهم ماء أنبت به ما يكون لباسا وغذاء للحيوان الذي يكون منه ما يؤكل ويلبس وغيره من الحيوانات الناطقة وغيرها من الوحوش والطيور والحوت «لعلكم تذكرون 26» هذه النعم الدنيوية والأخروية فتشكرونها إظهارا لمنة الله الذي وقاكم من العري وستر عوراتكم وكفاكم مؤنتكم. وفي هذه الآية إشارة إلى أن الستر من التقوى وهو كذلك «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» فيوقعنّكم في المحنة إذا أصغيتم لوساوسه ويحرمنكم من الجنة بإغوائه «كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ» آدم وحواء لما انصاعا لخداعه «مِنَ الْجَنَّةِ» المعدة للطائعين

فحرمهم من نعيمها في الدنيا فانتبهوا وتيقظوا لأن من قدر على تغريرهما يستطيع أن يستميلكم إلى أهوائه ويستذلكم عن منهج الحق إلى سبيله الباطلة من باب أولى، لأنكم مهما كنتم لا تبلغون درجة أبويكم. تؤذن هذه الآية بالنهي عن الطواف بالبيت عراة إذ كانوا يفعلونه في الجاهلية «يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما الذي كانا يرتديانه في الجنة بسبب فتنته لهما، وقد أسند النزع إلى الشيطان لأنه السبب الظاهري فيه وإلا في الحقيقة هو الله «لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما» انتقاما منهما لأن أحدهما آدم هو السبب بإخراجه من الجنة فيريد الانتقام منه ومن زوجته ومن ذريتهما أيضا «إِنَّهُ» إبليس وجيشه «يَراكُمْ» أيها الناس «هُوَ وَقَبِيلُهُ» ذريته لأن قبيل المرء ذريته وعترته، والقبيلة بنو أب واحد، وقبيلة معطوف على ضمير انه لا على الضمير البارز لأنه تأكيد لضمير يراكم «مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» في دار الدنيا، وإذا كان كذلك فعلينا معشر المتقين أن نستعين عليهم بمن يراهم ولا يرونه ذلك الإله العظيم القادر الذي من لجأ اليه وقاه ومن استعاذ به حماه ومن توكل عليه كفاه لا إله إلا هو له الخلق والأمر. أما ما جاء من أن حضرة الرسول رآه وأراد ربطه بسارية المسجد كما تقدم في الآية 35 من ص فهو من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم، ورؤية ابن مسعود جن نصيبين الآتي بيانها أول سورة الجن في ج 2، فهي على غير صورهم الحقيقية، ولهذا قال الشافعي رحمه الله، من زعم أنه رآهم على صورهم التي خلقوا عليها فقد ردّت شهادته وعزّر لمخالفته القرآن. هذا وليعلم أن بني آدم يرون الجن في الآخرة وهم لا يرونهم عكس الدنيا ويكونون أي مؤمنو الجن في فنائها قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 27» بنا ليزيدوا في غيهم ومن لم يكن وليه الله سلط عليه الشيطان «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» مما يستقبح من الأفعال، والضمير، يعود إلى غير المؤمنين أولياء الشياطين ومنهم الطوافون عراة «قالُوا» لك يا حبيبي إذا نهيتهم عنها إنا «وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا» ولذلك نفعلها، هذه حجتهم الحقيقية والثانية قولهم بهت وافتراء «وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» فرد الله عليهم بقوله «قُلْ» لهم يا أكمل الرسل «إِنَّ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 إلى 40]

اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» بل بالعفة والستر والصلاح وكل ما هو من شأن التقوى «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ» أيها الكفرة «ما لا تَعْلَمُونَ 28» حقيقة استفهام انكار جيء به للتوبيخ والتقريع «قُلْ» يا رسولي «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» العدل وكل ما هو مستقيم حسن طاهر فكيف تسندون له الأمر بالفحشاء ثم قال جل شأنه على طريق عطف الأمر على الخير وهو جملة «قُلْ أَمَرَ رَبِّي» أي «و» قل لهم «أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ» لأن الكلام فيه حذف وإضمار وأمثاله في القرآن كثير وهو إيجاز غير مخل وحاشا كلام الله من الخلل والنقص والزيادة الكائنة في كلام البشر بسبب الإيجاز والإطناب. وإنما يزيده براعة وبلاغة أي توجهوا اليه «عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» تقصدون فيه عبادة ربكم «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا لغيره بالاستقامة الكاملة واعلموا أيها الناس أنه تعالى «كَما بَدَأَكُمْ» من العدم أول مرة فعدتم أحياء في هذه الدنيا «تَعُودُونَ 29» اليه يوم القيامة أحياء كاملي الخلق لأنه تعالى يعيد لكم ما طرأ عليكم من النقص في الدنيا ويجمع كل أجزائكم المتفرقة بعد الموت وتحشرون اليه المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، يؤيد هذا قوله تعالى «فَرِيقاً هَدى» وهم الذين خلقوا في الأزل مؤمنين لاتباعهم طريق الحق الذي خلقوا اليه «وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» وهم الكافرون في سابق علمه وذلك «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» باختيارهم ورضاهم وإيثارهم عليها «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ 30» بفعلهم ذلك مع ما هم عليه من الضلال، كلا ان زعمهم هذا باطل روى مسلم عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) وقوله (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فالمخلوقون للجنة لا بد وأن يختم لهم بصالح العمل وان فعلوا ما فعلوا من الشر بتوفيق الله والمخلوقون للنار لا بد وأن يختم لهم بسيئة وان عملوا ما عملوا من الخير يخذلان الله ايّاهم. قال تعالى «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» من اللباس النظيف الحسن والطيب والدهن وترجيل الشعر وتنظيف البراجم والأسنان لأن الصلاة مناجاة للرب فيستحب لمن يقف أمام ربه

أن يتزين له بكل انواع الزينة المباحة شرعا ليكون طاهر البدن والثوب والمكان طاهر القلب، فلا يليق بالمسلم إذا دعي لوليمة أو مقابلة ذي جاه أن يتزين له بما يقدر عليه حتى أن بعضهم ليستعير أو يستأجر ما يتزين به، وإذا قام بين يدي ربه قام بثياب مهنته حتى انه يؤذي جاره في المسجد من كراهة رائحته بثيابه الرثة الدنسة وجسمه أيضا لتراكم وسخه فيكون مأزورا لا مأجورا، ولهذه الحكمة كره الشارع دخول المسجد لآكل الثوم والبصل، لما يترتب عليه من أذيه من بجانبه برائحتهما الكريهة، وان ما هو مثلهما بالرائحة يكون حكمه حكمهما، حتى انه وقع لشيخنا الورع الشيخ حسين الأزهري مفتي الفرات ومدرسها ان نقض تحريمته في الصلاة لوقوف شارب تبغ بجانبه وانتشار الرائحة الكريهة منه، لأن بعضهم تكون له رائحة بحيث لا تقدر أن تصبر عليها مع أنه لا يجوز قطع الصلاة إلا لأسباب معينة، كخشية وقوع أعمى أو صغير في حفرة أو رؤية حية أو عقرب قرب غافل أو صغير أو مرور من تحت جدار متداع أو نداء والد لولده لا يعلم أنه في الصلاة، وإنه رحمه الله قطعها خوف فوات الخشوع المطلوب في الصلاة، لأن انشغاله برائحة كريهة تسبب ضياعه، والسرعة في إنهاء الصلاة قد توجب نقصا فيها. وليس المراد في هذه الآية الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد وإنما أراد الدخول لكل مسجد يقف فيه العبد بين يدي ربه لصلاة أو عبادة أو اعتكاف أو طواف بالمسجد الحرام، قال ابن عباس كانت المرأة تطوف بالبيت عارية تقول من يعيرني تطوافا اي خرقة تجعلها على عورتها ثم تقول: اليوم يبدو كله أو بعضه ... وما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية، أخرجه مسلم. وقال مجاهد كان حي من اهل اليمن إذا قدم حاجا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب عصيت به ربي فإن قدر على أن يستعير مئزرا فعل وإلا طاف عاريا فنزلت وسيأتي زيادة توضيح لهذا البحث في الآية 197 فما بعدها من البقرة في ج 3 إن شاء الله. وهذا الأمر للوجوب وفيه دليل وجوب ستر العورة بما يواريها من الثياب الطاهرة.

مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا الله لعباده فيه:

مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا الله لعباده فيه: قال تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» مما أحل لكم من أنواع الطعام وأجناسه والشراب وأصنافه، قال الكلبي كانت بنو عامر في ايام حجهم لا تأكل دسما تعظيما، فقال المسلمون نحن أحق بتعظيم الله وبيته منهم يا رسول الله فأولى أن لا نأكل، فأنزل الله هذه الآية. فلما أباح الله لهم ذلك نهاهم عما من شأنه أن يكون منهم فقال: «وَلا تُسْرِفُوا» فيما أحله الله لكم من طيبات الأطعمة والأشربة بأن تتجاوزوا حدّ الشبع وتفرطوا في تعدد أوقاته وأنواعه، فإن الأكل في اليوم مرتين من الإسراف المذموم المنهي عنه شرعا، ومن الإسراف بل والشره أن يأكل كلما يشتهي، اخرج ابو نعيم عن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة من الطعام والشراب فأنهما مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فانه أصلح للجسد وابعد من السرف وان الله يبغض الحبر السمين (لأنه لو كان يتعظ فيما علم لأضعفه الخوف من الله) ولهذا قالوا ان القاضي إذا سمن بعد توليه القضاء فهو دليل على عدم اهتمامه بأمور الناس، وان الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ومن وصايا أطباء اليابان لا تأكل اللحم إلا مرة في اليوم ولا تشرب مسكرا ولا تدخن واكتف بقليل من القهوة والشاي واستحم يوميا بالماء الساخن وارتد الصوف الخفيف صيفا وشتاء ونم باكرا وأفق باكرا لتنعش بالهواء الطلق ودع غرفتك مفتوحة ليلا واجتنب المؤثرات العقلية واحرص على الراحة يوما في الأسبوع وتزوج البكر وخالط العلماء. وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال قال صلّى الله عليه وسلم ان من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت. واخرج البيهقي عن عائشة قالت رآني صلّى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين، فقال يا عائشة أما تحبين ان يكون لك شغل إلا في جوفك، الأكل في اليوم مرتين من الإسراف. وعليه فيكون الأكل الشرعي مرة في الصباح ومرة في المساء، قال تعالى: من حق اهل الجنة (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية 62 من سورة مريم الآتية فإذا أكل نهارا مرتين وأكل مساء اخرى كان مسرفا، ولا شك ان الاكل يختلف

باختلاف الأشخاص والأمكنة. واخرج ابن ابي شيبة عن ابن عباس انه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيله. وهذا لا ينافي ما ذكره الثعلبي وغيره من الآدباء بأنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما تشتهيه الناس وهو عندي مطلوب لأن ما يأكله لا يطلع عليه أحد وما يلبسه يظهر للناس وهو من الاقتصاد بمكان. ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني فقال يوما لعلي بن واقد: أليس في كتابكم من علم الطب شىء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان؟ فقال له جمع الله الطب كله في نصف آية، قال ما هي؟ قال قال تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال وهل يؤثر عن رسولكم شيء في الطب؟ فقال قد جمع الطب كله في ألفاظ يسيرة، قال وما هي؟ قال قال (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عودته.) فقال: النصراني: والله ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. - من الكشاف- قال ومن النصائح الطبية ما قاله الحارث بن كلدة من حكماء العرب الأقدمين: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالج المريض ما احتمل بدنه الداء. هذا وقال تعالى «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31» في الأكل والشرب واللبس وغيره، والذي لا يحبه الله يبغضه فعلينا ان نجتنب ما يكرهه ربنا. واعلم ان هذه الآية والتي قبلها لا تتعارضان مع الآية 6 من سورة التكاثر المارة لأنه ليس كل شيء يسأل عنه المرء يوم القيمة يعاقب عليه فضلا عن تلك وردت عامة وهاتين جاءتا بمعرض الرد على الكفار الذين يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم. الا فلينتبه العاقل ويجتنب الإسراف المنافي لرضاء الله والويل كل الويل لمن لا يرضي الله. ويا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المتعجرفين عما أحل الله لهم من الطيبات الزاعمين تحريمها او كراهتها في بعض الأوقات والأمكنة والأحوال «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ» من الأرض وأنزلها من السماء لنفعهم من حيوان ونبات ومعدن وما يعمل ويحصل منها «وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» الذي يستلذ به الإنسان، وفي هذه الآية دليل على ان جميع المطعومات والمشروبات

والملبوسات حلال طيب، تؤيدها الآية 29 من البقرة وهي جملة (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لان الأصل في جميع الأشياء الحل والإباحة الا ان الشارع خصص هذا العام والتحليل والتحريم من خصائص الله ورسوله ليس لأحد من البشر مهما علت رتبته في العلم والمعرفة وما سمت فطنته في الحذق والفهم وما رفعت مكانته في الإمارة والسلطة ان يحل شيئا مما حرم الله ورسوله او يحرم شيئا مما أحلاه، والآية تتناول جميع اصناف الزينة ولولا ورود النص بالذهب والفضة والحرير بحديث رسول الله والخنزير والميتة والدم والخمر والميتة في كتاب الله، لدخلت في هذه الآية لعموم نصّها المؤيد بقوله جل قوله «قُلْ» يا محمد لأمتك كل ما يستلذّ ويشتهى عدا ما ورد النهي فيه هو من الطيبات التي «هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» غير خالصة لهم وحدهم لأن الكفار والفساق يشاركونهم فيها جميعها ويزيدون عليهم ولكنها «خالِصَةً لهم» أي للمؤمنين وحدهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» في جنة الله لا يشاركهم فيها أحد من أولئك الكفرة وهي لهم خالية من الكدر والتنغيص والأذى بخلاف شهوات الدنيا فمحشوة بذلك مملوءة من الأكدار، وإيجاد هذه الطيبات في الأصل للمؤمنين في الدنيا ايضا وصارت للكافرين بالتبعية ولكنها لم تصف للمؤمنين وفيه قيل: جبلت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأكدار وخالصة بالرفع على انها خبر لمبتدأ محذوف وقرأت بالنصب على انها حال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة الذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيمة والأول أوجه من حيث الإعراب والقراءة بالمصاحف على النصب لذلك كان اولى من الرفع قال تعالى «كَذلِكَ» أي مثل هذا التفصيل البديع «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضّحها ونبيّنها «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 32» حقائقها وخصائصها ويعتقدون ان الله وحده المحلل والمحرم لا غيره «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الكفار «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ» كل ما تزايد قبحه فهو فاحش «ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» سرها وجهرها «وَالْإِثْمَ» من كل ما يؤثم الإنسان فعله

مطلب معنى الإثم والبغي:

في جميع ما يطلق عليه اسم الذنب، وقد ذكر التعميم بعد التخصيص لئلا يتوهم ان التحريم مقصور على الكبائر الفاحشة من قول أو فعل لكنها صرفت في العرف الآن الى الزنى واللواطة فاذا أطلقت انصرفت إليهما والا ففي الأصل لا تقتصر عليهما. مطلب معنى الإثم والبغي: وأما ما جرى عليه بعض المفسرين من أن الإثم هو الخمر فلا دليل عليه، بل لا يصح لأن العرب لم تسمها بهذا الاسم في الجاهلية ولا في الإسلام. نعم هي داخلة تحت الإثم لأنها سببه، ولأن مرتكبها آثم، إلا أن هذا لا يصرف معنى الإثم إليها فتفسيرها بالخمر خطأ بين بل غلط واضح، وليعلم أن الخمر حرمت بالمدينة بعد واقعة أحد ولم يقل أحد بأن هذه الآية مدنية لينصرف معناها إليه ولو كان مراد الله في هذه تحريم الخمر لما وردت الآيات بعدها بالتحريم تدريجيا باسمه الصريح المتعارف، إذ لو كان المراد بكلمة الإثم لكان المنهي عنه صريحا وكان بتا، ولا داعي حينئذ لتحريمه بعد ورود الآيات متتابعة أولا في النهي عن تعاطيه تعريضا في الآية 67 من النحل في ج 2، ثم النهي عن تعاطيه في الآية 219 من البقرة بسبب نفعيته وائمه، ثم في الصلاة في الآية 42 من النساء ج 3، ثم في الكف عنه جزما في جميع الأحوال في الآية 90 من المائدة أيضا في ج 3، وهذا من مقاصد اقدامي على هذا التفسير بالنمط الذي سرت فيه ليعلم غير العالم هذا وشبهه مما هو مقدم أو مؤخر، مطلق أو مقيد، عام أو خاص، ناسخ أو منسوخ بالمعنى المراد فيهما والله الهادي الى سواء السبيل. هذا، وما استدل به بعض المفسرين من قول القائل: نهانا رسول الله أن نقرب الزنى ... وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا لا يكون حجة لأن الخمر بعد أن حرمت صارت اثما، ولأنها غير معروفة عندهم بهذا الاسم وقد خصها لينصرف المعنى إليها وكذلك الاستدلال بقول الآخر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول لأنه يتأثم به وقد نعته لينصر معناه عليه وعلى هذا جرى ابن الفارض رحمه الله بقوله: وقالوا شربت الإثم كلا وإنما ... شربت التي في تركها عندي الإثم

لا يكون دليلا على التسمية قبل التحريم وكله جار مجرى المجاز لأنها صارت إثما كبيرا بعد التحريم أما قبله فلا «وَالْبَغْيَ» أي الظلم والاستطالة على الناس وانما أفرده بالذكر مع انه داخل تحت الفواحش والإثم لعظم ارتكابه مبالغة في الزجر عن الأقدام عليه، ولو خامة عاقبته يوشك أن لا يمهل الله فاعله الى الآخرة بل يعجل عقوبته في الدنيا وفيه قيل: لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السهل والجبل وقال الآخر: ان يعد ذو بغي عليك فخله ... وارقب زمانا لانتقام باغي واحذر من البغي الوخيم فلو بغى ... جبل على جبل لدك الباغي «بِغَيْرِ الْحَقِّ» متعلق بالبغي لأنه لا يكون الا بغير الحق، فإذا كان الاعتداء بحق لا يسمى بغيا بل مقابلة وهي جائزة، أما لو بغى عليك بضربة يد فقابلته بالسيف فقد بغيث عليه، ولو شتمك بلسانه فشتمته وضربته فقد بغيت عليه لأن الله أباح المقابلة بالمثل، راجع الآية 194 من البقرة في ج 3. وقد قال تعالى في الآية 190 منها: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.) ومن لا يحبه الله يبغضه والأحسن عدم المقابلة والسكوت قال ابو نواس: خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام ربما استفتحت بالنطق ... مغاليق الحمام انما السالم من أل ... نجم فاه بلجام وقال تعالى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) الآية 134 من آل عمران في ج 2، ولهذا البحث صلة في الآية 37 فما بعدها من سورة الشورى في ج 2 فراجعه ففيه الكفاية، قال تعالى «وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ» حرم الإشراك لأنه مضاهاة للربوبية وهو أعظم المحرمات لأنه كفر، أما بقية المحرمات إذا لم يستحلها مقترفها فلا يكون كافرا بل عاصيا، أي تعبدوا شيئا «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ

سُلْطاناً» حجة أو برهانا بأن يشرك به أو معه غيره من مكوناته، وهذا على نفي الإنزال إذ لا يجوز أن ينزل سلطانا على ذلك، وهو تهكم بالمشركين لأنه لما امتنع حصول الحجة بالشرك وجب أن يكون قولهم به باطلا مطلقا «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 33» من الكذب والبهتان في اتخاذ الشريك والتحليل والتحريم والولد والصاحبة تعالى الله عن ذلك كله، أي كما حرم ما هو في صدد الآية كذلك حرم هذا أيضا لأنه افتراء محض على الله، فالذي حرم عليكم هو الحرام، وما حلله لكم هو الحلال لا مجال لكم في الخوض في ذلك البتة، قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» تلبث فيه في هذه الدنيا مع نبيها يأمرهم وينهاهم خلاله حتى إذا أصروا على كفرهم أمهلهم ليرجعوا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المقدر لتعذيبهم ولم ينتهوا أخذهم حالا إذ «لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه بل ولا لحظة لأن المراد بالساعة هنا مطلق الزمن «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 24» ساعة حذف من الثاني بدلالة الأول كما في الآية 17 من سورة ق المارة. مطلب في الساعة بقسميها: واعلم أن الساعة في عرف المنجمين تنقسم إلى مستوية وتسمى فلكية، وهو زمان مقداره خمس عشرة درجة أبدا وكل درجة أربع دقائق، وإلى معوجة وتسمى زمانية، وهي زمان مقدر بنصف سدس النهار أو الليل أبدا، ويستعمل الأولى أهل الحساب غالبا، والثانية الفقهاء واهل الكلام ونحوهم، وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا سواء كانت مستوية أو معوجة، إلا أن كل من الليل والنهار لا يزيد على اثنى عشر ساعة معوجة أبدا، ولهذا يطولان ويقصران، وقد تتساوى الساعة المستوية والساعة المعوجة عند استواء الليل والنهار، ونظير هذه الآية الجملة الأخيرة من الآية 28 من سورة يونس في ج 2، وفيها وعيد بإنزال العذاب على قريش إذا لم يؤمنوا بنبيهم وينتهوا عما نهاهم عنه، وتهديد عظيم بسوء العاقبة إذا أصروا، فيكون شأنهم شأن كل أمّة كذبت نبيّها بعذاب الاستئصال، وكان نزولها حين سألوا حضرة الرسول إنزال عليه الصلاة والسلام العذاب الذي يهددهم به فأخبرهم فيها

أن له أجلا لا يتعداء لحظة إذا سألتم استعجاله أو تأخيره مهما استغثتم به منه «يا بَنِي آدَمَ إِمَّا» هي إن الشرطية ضمت إليها ما فأدغمت لتأكيد الشرط ولذا لزمت الفعل الذي يليه النون الثقيلة والخفيفة مثل «يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم لا من الملائكة «يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» من أوامر ونواهي وقصص وأمثال، وجواب الشرط «فَمَنِ اتَّقى» ما نهي عنه واعتبر بما وقع على الأولين «وَأَصْلَحَ» نفسه باتباع ما أمر به واتعظ بما قص عليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في الآخرة مما يخافه المجرمون «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 35» على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم يرون من نعيم الآخرة الدائم ما ينسيهم تلك الزخارف الدنيوية المموهة الفانية المشوبة بالأكدار المصاحبة للهم والغم المتناولة بالكد والتعب، وهي إن خلت من حرام فلا تخلو من مشبوه كما لا يخلو أهلها من كذب وكبر والله تعالى يقول «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» ولم يؤمنوا برسلنا استعظاما عليهم وماتوا على كفرهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وهذا شأنهم وديدنهم هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 35» لا يخرجون منها أبدا «فَمَنْ أَظْلَمُ» واشنع وأفظع ظلما «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» أي تقول عليه ما لم يقله اختلاقا من لدنه من تحريم ما لم يحرم «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على رسوله المصرّحة بعدم الشريك والمثيل والولد والصاحبة له جلّ شأنه «أُولئِكَ» الذين هذه سجيتهم «يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ المدون فيه كل ما عملوا وهو حظهم مما قدر عليهم فيه وما قدر لهم في الدنيا من الرزق والعمر والبلاء «حَتَّى إِذا» فرغ ما لهم عنده من ذلك كله حتى الهواء «جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» فيسألونهم سؤال توبيخ وتبكيت لا استعلام «قالُوا» لهم رسل الموت «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الآلهة التي كنتم تعبدونها وتلجأون إليها في مهامّكم وعند الشدة، ادعوهم الآن ليدفعوا عنكم الموت «قالُوا» المتوفون المكذبون «ضَلُّوا عَنَّا» غابوا وتركونا عند أشد حاجتنا إليهم وقد تبين لنا الآن عدم نفعهم وإنا كنا مغرورين بهم ولا ندري أين هم الآن، وذلك بعد أن استعانوا بهم فلم يردوا

عليهم لذلك قال تعالى «وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ 37» جاحدين وحدانية الله ونبوة رسله وما أنزل عليهم من الكتب، واعترافهم هذا تحسر على ما فات، وهذا السؤال والجواب واجب الإيمان به بمقتضى ظاهر القرآن وانه واقع لا محالة، وعدم سماعنا له لا يكون حجة لعدم وقوعه لأن الله قادر على ان يسمع وان لا يسمع ولا تعارض بين ما في هذه الآية وآية «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» 23 من الأنعام في ج 2 لأن مواقف القيامة متعددة كما مر في الآية 60 من ص وما يرشدك لغيرها فيها وهذا غير سؤال القبر الذي يجب الاعتقاد به وهو لا يسمع ايضا أما سؤال يوم القيمة فيكون على ملأ الأشهاد ولا تردد فيه، ومنه آية الأنعام المارة ولهذا قلنا لا تعارض بينهما. هذا والطوائف مختلفة والأحوال شتى وان ما مشى عليه بعض المفسرين بأن هذا السؤال يكون يوم القيمة للكافرين من قبل ملائكة العذاب وحكمه حكم آية الأنعام ينافيه ظاهر الآية المفسرة الدالة على وقوعه في الموت، وعلى هذا يكون هنا سؤال عند الموت وآخر في القبر لا يسمعان والثالث في البعث في جميع مواقف القيمة مسموع. تدبر و «قالَ» تعالى لأولئك الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر «ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ» أي بيتها وهي التي «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» قدمهم لمزيد شرهم ولكون شرهم عدوانا «وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ» جزاء اشراككم وبهتكم في الدنيا فهي مأواكم ومقركم «كُلَّما دَخَلَتْ» النار فهم «أُمَّةٌ» جماعة أو ملة واحدة «لَعَنَتْ أُخْتَها» من اهل ملتها التي أضلتها فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة حيث زادت في عذابها «حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها» تلاحقوا واجتمعوا جميعا الأولون والآخرون «قالَتْ أُخْراهُمْ» الأتباع «لِأُولاهُمْ» المتبوعين من القادة والرؤساء «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا» في الدنيا عن الهدى وسنّوا لنا طرق الردى وأمرونا باتباعهم «فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» لأنهم ضلوا وأضلوا، والضعف في اللغة ما زاد على المثل غير مقيد بمثلين أو أكثر فأوله المثل وأكثره غير محصور لذلك يطلق على مثل الشيء وتضعيفه عند الإطلاق، فاذا أضيف لعدد اقتضى ذلك العدد

مثله فاذا قلت ضعف عشرة او ضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف «قالَ» تعالى «لِكُلٍّ» منهم ومنكم «ضِعْفٌ» اما هم فلضلالهم وإضلالهم، وأما أنتم فلضلالكم واتخاذكم المتبوعين أولياء تأتمرون بأمرهم وتنتهون بنهيهم. وهذا الضعف كالأول غير مقيد بالمثل فيشمل أضعافا كثيرة لأنه لم يضعف لعدد، تدبّر. «وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ 38» ما أعد الله لكل منكم من العذاب لان كلا منكم مشغول بما هو فيه- وقرىء لا يعلمون بالياء-. مطلب مواقف يوم القيامة وإمكان القدرة: وعليه تكون هذه الجملة منفصلة عما قبلها بسبب الالتفات في الخطاب الى البغية «وَقالَتْ أُولاهُمْ» المتقدمون عليهم في المنزلة «لِأُخْراهُمْ» المتأخرين عنهم مكانة بحسب الدنيا أي قالت الأشراف للسفلة «فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» لأنكم كفرتم فما كفرنا فنحن وأنتم متساوون في العذاب وسببه، وهذا مرتب على قوله تعالى على وجه السبب «لِكُلٍّ ضِعْفٌ» فهو يؤذن بالمساواة، والفاء جواب الشرط أي إذا كان كما قال تعالى وهو كما قال فلا فضل لكم علينا فلماذا تدعون علينا وبعد ان يزجوا فى النار ويزداد تصايحهم فيها يقول لهم تعالى قوله «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 39» في الدنيا من الأعمال الخبيثة، فيسكتون بعد سماع كلام الله الذي لا يبدل وهو القائل (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على عظمتنا وقدرتنا الموضحة لأحكام ديننا المبلغة على لسان انبيائنا «وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» فلم يعتنوا بها ويلتفتوا إليها في الدنيا «لا تُفَتَّحُ لَهُمْ» الآن كما هو الحال عند موتهم «أَبْوابُ السَّماءِ» أي لا يسمع دعاؤهم حين يستغيثون بنا في هذا الموقف كما لا يصعد لهم عمل في الدنيا ولا ترفع أرواحهم إليها إذا ماتوا لأن كلامهم وأعمالهم وأرواحهم خبيثة فهم محرومون من بركة السماء وغيرها ورحمة خالقها إذ لا يصعد الى الله الا الكلم الطيب والعمل الصالح والأرواح الطاهرة «وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» هؤلاء المستكبرون عنا في حياتهم الدنيا «حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ» يدخل «فِي سَمِّ الْخِياطِ» ومن المعلوم عدم إمكان دخوله أي لا يدخلون ابدا، وهذا من

[سورة الأعراف (7) : الآيات 41 إلى 50]

ضرب المحال كقوله لا آتيك حتى يشيب الغراب أو يبيضّ القار أو يسود الثلج، وخص الجمل لأنه أكبر الحيوانات في الجملة عندهم، حتى انهم يضربون به المثل فيقولون جسم الجمال وأحلام العصافير، لقليل العقل. ويضربون المثل الضيق المسلك بثقب الإبرة كناية عن الشيء الذي لا يكون قال: إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب ويطلق الجمل على الحبل الغليظ ولذلك فسره به بعض المفسرين لأنه مما يسلك إلا أن سلكه في الابرة محال، وعلى كل فيكون دخولهم في الجنة محالا، كما أن دخول الجمل أو الحبل الغليظ في ثقب الابرة محال، لأنه مما لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه لأنها انما تتعلق بالممكنات الصرفة، والممكن الولوج بتصغير الغليظ وتوسيع الضيق فاذا أراد الله تعالى مثل هذا فعل ما يريد وهو على كل شيء قدير. واعلم أن من فسر الجمل بالحبل قرأه بضم الجيم وتشديد الميم كي يراد به الحبل الذي ذكرناه في الآية 33 في المرسلات المارة قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ذلك الجزاء الفظيع «نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ 40» في دنياهم في الدار الآخرة وأل فيه للجنس فيشمل كل مجرم ثم بين حالتهم في النار بقوله «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ» فراش تحتهم «وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» أغطية منها ونظير هذه الآية قوله «مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» الآية 16 ص الزمر في ج 2 يعني أن النار محيطة بهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الشديد «نَجْزِي الظَّالِمِينَ 41» أنفسهم في الدنيا بالعذاب الشنيع في الآخرة وحرمانهم من الجنة «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم لهم ما يشاءون في الآخرة لا يضيّق عليهم فيها أبدا لأنا «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» بما يسهل عليها ويكون في طوقها ممّا لا حرج فيه عليها من الأعمال وهذه جملة اعتراضية بين المبتدأ وهو الموصول والخبر وهو «أُولئِكَ» أي المؤمنون بالله العاملون صالحا هم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ» في الآخرة الدائمة و «هُمْ فِيها خالِدُونَ 42» أبدا، والذي أحسن وقوعها مناسبتها للمعنى لأنه لما ذكر العمل ت (23)

الصالح الذي لا كلفة فيه ذكر أنه في وسعهم فعله، وفيه تنبيه للكفرة على أن الجنة مع عظمها يتوصل إليها بالعمل الصالح السهل إجراؤه على العامل قال تعالى «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» كان بينهم في الدنيا فلم يبق بين أهل الجنة إلا التوادد والتعاطف، قال علي كرم الله وجهه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، وما قيل أنه قال فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية لا يصح، لأن الآية مكية بالاتفاق وحادثة بدر بعد الهجرة بسنتين فيكون بينهما ما يقارب تسع سنين، هذا، وهذه الجنة التي وعدوا بها «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» ينعمون فيها دائما «وَقالُوا» لبعضهم مثنين على ربهم «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا» الفوز العظيم في الآخرة وأرشدنا إلى العمل الطيب في الدنيا «وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ» له بارادتنا وقوتنا «لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ» اليه بمنه وكرمه وفضله، وفي الآية دليل على أن المهتدي هو من هداه الله، والضال من أضله، أقسموا قائلين والله «لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا» إلينا في الدنيا «بِالْحَقِّ» الصدق حيث رأوا ما وعدوهم به عيانا وهذا من قبيل المثل السائر «ليس الخبر كالمعاينة وإلا فهم قالوا هذا القول وصدقوا به في دنياهم وهو الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من النعيم «وَنُودُوا» من قبل ملائكة الرحمة «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ التي وعدتموها فادخلوها لأنكم «أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43» في دنياكم من الأعمال الصالحة ولقد نعت الله تعالى حال أهل الجنة في الجنة كما وصف حال أهل النار في النار، ألا فلينتبه من كان له قلب، روى البخاري عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين اجر والنار فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا اذن الله لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في اجر منه بمنزله في الدنيا. وروى مسلم عنه وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا ولا تموتوا أبدا، وإن لكم تصحوا ولا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبوا ولا تهرموا أبدا، وإن لكم

تنعموا ولا تيأسوا أبدا، فذلك قوله عز وجل (وَنُودُوا) (إلخ) وروى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله في النار، وأما المؤمن فإنه يرث الكافر منزله في الجنة. زاد في رواية فذلك قوله تعالى: (أُورِثْتُمُوها) وذلك لأن الكافر ميت بدليل قوله تعالى: (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) الآية 24 من سورة النحل في ج 2 والمؤمن حي بدليل قوله جل قوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) الآية. من سورة يس الآتية والحي يرث الميت ولا يرد على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم لن يدخل الجنه أحد يعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى، لأن دخول الجنة حقيقة برحمة الله إلا أن انقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وإن المؤمن لن ينال العمل الصالح إلا برحمة الله وتوفيقه فيكون دخول الجنة برحمة الله ثوابا وجزاء على الأعمال الصالحة في الدنيا قال صاحب بدء الامالي: دخول الناس في الجنّات فضل ... من الرحمن يا أهل الأمالي ونظير هذه الآية 32 من سورة النحل والآية 63 من سورة الزخرف في ج 2 ولا يخفي ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله له ذلك. مطلب خطأ قول القدرية: قال الشيخ أبو منصور إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبروا وأبا البشر الثاني نوحا عليه السلام وأهل الجنة وأهل النار وإبليس أيضا. فالله تعالى قال: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الآية 29 من سورة الرعد في ج 3. وقال نوح وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) الآية 34 من سورة هود في ج 2. وقال أهل الجنة (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) الآية المارة. وقال أهل النار (لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) الآية 21 من سورة ابراهيم في ج 2. وقال إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الآية 15 المارة فدونك أعرض قول المعتزلة على هذه وانظر قول

الله حكاية عن قول الموحدين وهم في مقعد صدق (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) فى حال الدنيا مع قولهم (المهتدي من اهتدى بنفسه) وانظر هداك الله ما تختاره فلا شك أنك تقول الله الهادي ولا تعدل عنه ابدا إذ لا يوازي قول الله قول. ثم شرع جل شرعه فيما يقع بينهما من المحادثة فقال: «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ» وذلك بعد أن استقر كل بمكانه «أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا» على لسان رسله من النعيم المقيم «حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ» من العذاب المترتب على تكذيبكم رسلكم في الدنيا «حَقًّا قالُوا نَعَمْ» وجدناه حقا ومسنا ألمه «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» هو صاحب الصور إسرافيل عليه السلام أو غيره من الملائكة وما قيل أنه علي عليه السلام بعيد عن الصحة لعدم الدليل ولأنه كرم الله وجهه يكون إذ ذاك في حظائر القدس فكيف يكون مؤذنا في ذلك المقام فهو أكبر مقاما وأعز شأنا وأرفع مكانا وأعظم من ذلك وكيفية الأذان هي «أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 44» إعلاما بسرور أهل الجنة وخزي أهل النار. واعلم أن «أَنْ» هذه والتي قبلها مخففتان من الثقيلة أو مفسرة لكيفية المناداة وهو الأصوب لأن المخففة يعقبها اللام وهو مفقود هنا. راجع آخر سورة القلم المارة، وقرأها بعضهم بالتشديد كما قرأ (نعم) بكسر العين، هذا، وأن الذين لعنهم الله هم «الَّذِينَ» كانوا «يَصُدُّونَ» الناس في الدنيا «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» السوي «وَيَبْغُونَها» اي سبيل الله التي سنها لعباده من الحق والعدل السويين ويحاولون أن يجعلوها «عِوَجاً» مائلة الى الباطل فيبدلونها عما هي عليه. والعوج بالكسر يكون في الدين والطريق أي المذهب الذي يتدين به وما يدرك بفكر وبصيرة كالأرض البسيطة والمعاش، وبالفتح بالخلقة تقول في ساقه عوج وما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه راجع تفسير الآية الأولى من سورة الكهف في ج 2 «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ 45» منكرون لانهم لم يصدقوا بوجودها حينما كانو في الدنيا ولا يقال كيف يسمع أهل النار وهم في الأرض نداء أهل الجنة وهم في السماء، لأن الله قادر ان يقوي أصوات اهل الجنة واسماع اهل النار ويصير البعيد

قريبا ولا يعجزه شيء، وهذا النداء من العموم الى العموم، لأن الجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من الجنة ينادي من كان يعرفه في الدنيا من أهل النار الكفرة «وَبَيْنَهُما» أي أهل الجنة وأهل النار «حِجابٌ» سور وهو المذكور في قوله تعالى «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» الآية 13 من سورة الحديد في ج 3، والمراد بالرحمة الجنة وبالعذاب النار. واعلم أن هذه الآية والآية التي نحن بصددها تفيدان أن ليس بينهما سوى هذا الحجاب المعبر عنه بالسور ويؤيد هذا حديث الصراط الممدود على متن جهنم فإن من يقطعه يصل إلى الجنة مع أن الجنة في السماء والنار في الأرض فانظر قدرة القادر بعظم هذا الحجاب وإسماع أقوال الطرفين ورؤيتهما بعضهما لبعض آمنّا وصدفنا وأيقنا بأن الله تعالى قادر على أكثر من هذا وأعظم. مطلب في اصحاب الأعراف: «وَعَلَى الْأَعْرافِ» أعالي الحجاب وهو السور المذكور «رِجالٌ» من آخر المسلمين دخولا في الجنة لقصور أعمالهم وهم المرجون لأمر الله المذكورون في الآية 106 من سورة التوبة في ج 3 فإنهم يحبسون عليه فيقضون على شرفه البارزة ويقال لكل مرتفع عرف، ويبقون عليه بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم بدخول الجنة والانصراف عن النار وهؤلاء الرجال «يَعْرِفُونَ كُلًّا» من الفريقين المذكورين «بِسِيماهُمْ» علامات لهم فيهم أو بسيماهم التي صاروا إليها وهي بياض وجه المؤمن ونضارته وسواد وجه الكافر وزرقة عيونه «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ» إذا عرضوا لهم ورأوا ما هم عليه من السرور فيقولون لهم «أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» يهنونهم في هذه التحية بالسلامة من هول الآخرة وحصول الأمن لهم بدخول الجنة وهؤلاء المسلمون «لَمْ يَدْخُلُوها» أي الجنة بعد لأنهم ينتظرون أمر الله فيهم «وَهُمْ يَطْمَعُونَ 46» بدخولها لوثوق أملهم بربهم ورجاء لطفه بهم وعطفه عليهم بعدم زجهم في النار، بسبب قلة حسناتهم عن سيئاتهم ولعدم وجود دار في الآخرة غير الجنة أو النار، ولأن من نجا من النار طمع

بدخول الجنة بلا شك، وحاشا كرم الله وفضله أن يدخلهم النار بعد أن أوقفهم خارجها، لأن خيار البشر لا يرجح جهة الشر على الخير فكيف بخالق الخيار القائل «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» الآية 102 من سورة التوبة في ج 3 والخلطة لا تقتضي التسوية فقد تكون أكثر وأقل ومساوية، وعسى من جانبه جل جلاله تكون لتحقيق هذا، واعلم أن ما قيل بأن هؤلاء الذوات فقهاء أو أنبياء أو ملائكة وان درجتهم أعلى من الجنة وأن وجودهم على الأعراف ليطلعوا على حال الفريقين لا دليل يؤيده وسياق التنزيل يأباه وسياقه ينفيه لأن الله تعالى يقول «وَهُمْ يَطْمَعُونَ» أي بدخول الجنة مما يدل على أنهم لم يستحقوها بعمل مرجح بل بطمعهم بفضل الله وبمنّه عليهم يرجون ادخالهم الجنة بترجيح حسناتهم على سيئاتهم وصرف النظر عن جهة الزيادة والنقصان، وانظر ما يقول الله عز قوله «وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ» وظهر لهم حالهم وما حل بهم من العذاب أعرضوا عنهم فلم يكلموهم والتفتوا إلى من أنعم على أولئك وانتقم من هؤلاء خائفين من مصيرهم لأنه لم يتحقق لهم بعد فاستعاذوا من حالهم و «قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 47» أي باعدنا عنهم فزعا مما شاهدوه من أنواع عذابهم فإن هذه الآية تؤيد ما جرينا عليه من التفسير بان أصحاب الأعراف قوم استوت أو نقصت حسناتهم عن سيئاتهم وقد أوقفهم الله على شرف السور كما مر وليسوا بفقهاء ولا أنبياء ولا ملائكة كما جاء في ذلك القيل ولذلك صاروا يتضرعون إلى ربهم بان لا يجعلهم من أهل النار وان شدة الهول والفزع مما رأوا من عذاب جهنم أنساهم طلب الجنة لأنهم يريدون البقاء على الأعراف على أن لا يدخلوا النار فقط والله أعلم بمراده بكلامه وكأن هؤلاء يبقون موقوفين على الأعراف مشرفين على الفريقين حتى الأخير ينظرون من يدخل الجنة فيهنئونه، ومن يدخل النار فيستعيذون منه، ولهذا أخير عنه مولاهم بقوله «وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا» التنكير هنا يدل على أن المناديين عظماء معروفين بالدنيا كرؤوس الكفر، وتكرير لفظ

الأعراف مع كفاية الإضمار للفرق بين المراد منهم هنا، لأن المنادى هناك الكل وهنا البعض، ولزيادة التقرير «يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ» التي كانوا عليها في الدنيا، لأن صورة الرجل مهما شوهت لا بد أن تبقى سيماها الدالة عليها، انظر إلى صور الرجال الذين يعلنونهم في الجرائد الهزلية كيف يشوهونها ويخرجون بعضها عن صورة الإنسان إلى غيره من الحيوانات وعند ما تراها تعرفها صورة من هي، فكذلك هنا لأن الله تعالى لم يجعل شيئا في الآخرة إلا وجعل له مثالا في الدنيا إلا أن الفرق شاسع «قالُوا» أصحاب الأعراف لأولئك الرجال الكبار المشهورين «ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ» كثرتكم في الدنيا وما جمعتموه من مال ونشب واتباع وأشياع «و» ما أغنى عنكم أيضا «ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ 48» عن الإيمان بالرسل وعلى الناس أجمع في دنياكم، وهذا استفهام تقريع وتوبيخ، أي أن ذلك كله ما وقاكم من عذاب الله بل زادكم تعذيبا به. قال الكلبي ينادونهم من على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان يا فلان، لكل جحجاح فخور من فراعنة أمة محمد وهكذا فراعنة الأنبياء السالفين ينادونهم جماعة منهم الذين يعرفونهم. ثم خاطبوهم ثانيا مشيرين إلى طائفة من أهل الجنة كانوا فقراء في الدنيا يسخرون منهم ويستهزئون بهم ويضحكون عليهم قائلين «هؤُلاءِ» صهيب وسلمان وخباب وغيرهم من فقراء أمة محمد وأصحاب العفة الذين كنتم تأنفون مجالستهم في الدنيا حتى أنكم طلبتم من حضرة الرسول أن يعين لهم مجلسا على حدة لئلا يحضروا معكم تباعدا عن أوساخهم ورثاثة لباسهم «الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ» حالة كونكم في الدنيا بأنه «لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ» نراهم قد نالوها وقد قال لهم ربهم الذي كنتم تجحدونه «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» فدخلوها وأنتم الآن في النار تعذبون وهم ينعمون وقد زادهم فضلا بقوله لهم «لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ» الآن مما يخافه غيركم «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ 49» على ما فتكم من نعم الدنيا ولا مما يلاقي هؤلاء إذ لا يهمكم شأنهم الآن كما كانوا في الدنيا لا يهتمون بكم، وكذلك الذين من هذا القبيل من أتباع الرسل المتقدمة، لأن الآيات كلها عامة، وان تخصيصها بأناس لا ينفي عمومها عن شمول غيرهم،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 51 إلى 60]

تدبر، قال تعالى «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» لنطفىء به بعض حرارة هذه النار المحرقة «أو» أعطونا «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» من الأشربة الطيبة لنبلّ به غليل قلوبنا، وهذه الآية تؤيد ما ذكرناه آنفا من أن الجنة فوق النار وأن لا حاجز بينهما غير السور المار ذكره «قالُوا» مجيبين لهم «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما» أي ماء الجنة وشرابها «عَلَى الْكافِرِينَ 50» به الجاحدين رسله وكتبه وهم «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ» في الدنيا فجعلوه «لَهْواً وَلَعِباً» فحرموا ما شاءوا وأحلوا ما أرادوا وعبدوا ما زين لهم الشيطان وعملوا ما هوته أنفسهم «وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخارفها الفانية وخدعهم أملهم فيها فلم يلتفتوا إلى صانعهم الحقيقي وكتابه المنزل ولم يكترثوا برسله بل أهانوهم وكذبوهم «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ» من رحمتنا فنهملهم ولا نعتد بهم ولا نسمع دعاءهم «كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» وأهملوه فلم يعملوا صالحا لأجله ولم يعتدوا به لذلك فإني أعرض عنهم كما أعرضوا عن آياتي ورسلي «وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ 51» يكذبون بها وبالذين جاءوهم بها، وسمى الله جزاء نسيانهم نسيانا على طريق المجاز، وهو عبارة عن تركهم في العذاب وعدم الالتفات إليهم وقد تعبر العرب بالنسيان عن الترك وإلا فإن الله تعالى لا ينسى شيئا، والمعنى أنا نعاملهم معاملة الناسين عبيدهم من خيرهم لأنهم لم يعترفوا بوحدانيتنا في الدنيا وأشركوا معنا من لا يستحق العبادة ولا ينفع نفسه. هذا ما قصه الله على نبيه من حال آدم وإبليس وأحوال الذين عبدوا غيره، والذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم، وحال أهل النار وأهل الجنة وأهل الأعراف، هم التفت إلى نبيه صلّى الله عليه وسلم وقال مقسما «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ» أي قومك يا محمد «بِكِتابٍ» عظيم جليل أنزلناه عليك وقد «فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ» منا بوجه تفصيله ووضحنا حلاله وحرامه ومواعظه وأخباره وقصصه وأمثاله وجعلناه «هُدىً» لمن اهتدى به «وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 52» به فلماذا لا يؤمن هؤلاء الكفرة كي يقتبسوا من أنواره وينتفعوا بنوّاره كغيرهم ممن ذاق حلاوته، «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» أي أيتوقعون ما أوعدوا به من العذاب فيه، وما يؤول إليه أمرهم

وهو النار تصديقا لوعده، فقل لهم يا أكمل الرسل «يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ» هو يوم هلاكهم في الدنيا أو يوم عذابهم في الآخرة وإذ ذاك «يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ» إتيان تأويله وتركوا امتثال أوامره ونواهيه «قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» أي يعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف، ويقولون حين نزول الموت بهم أو وقت تعذيبهم بالآخرة «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا» اليوم مما حل بنا (على المعنيين لأن الآية صالحة لهما وموافقة لمعناهما وجائز تأويله بهما) إذ لا طريق للخلاص منه إلا بالشفاعة «أو» إذا لم تكن شفاعة أمهلنا يا ربنا بأن «نُرَدُّ» إلى الدنيا «فَنَعْمَلَ» الفاء واقعة في جواب الاستفهام مثل فيشفعوا أي نعمل عملا صالحا «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» من السيء فنبدل الكفر بالتوحيد والعصيان بالطاعة فلا يجابون إلى طلبهم، وهيهات أن يزاد في أجل المحتضر أو يرجع أحد من الآخرة ولعدم وجود الشفيع وعدم إمكان إمهالهم أو إرجاعهم إلى الدنيا فإنهم «قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» بصرف أعمارهم التي هي رأسمالهم في الشرك والمعاصي «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ 53» في الدنيا من قولهم إن الأوثان آلهة وإن الملائكة بنات الله، وادعاء أهل الكتابين عزيرا والمسيح أبناء الله تعالى عن ذلك وعدم اعتراف اليهود بنبوة عيسى ومحمد والنصارى بنبوة محمد عليهم الصلاة والسلام. مطلب في السموات والأرض والعرش وآيات الصفات: قال تعالى ردا على هؤلاء المغترّين «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» قدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 36. من سورة ق المارة إذ لم يكن زمن خلق السموات شمس ولا قمر ليعرف الزمن، وهذا على حد قوله تعالى: (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» الآية 61 من سورة مريم الآتية، أي بمقدارها في الدنيا بالنسبة لنا حسبما نعرفه لأن الجنه لا ليل فيها ولا نهار، ولهذا البحث صلة في الآية 9 من سورة فصلت في ج 2 فراجعه تعرف هذا وبدأ الأيام وآخرها وما خلق فيها، والمراد بالاستواء الاستيلاء وعليه قوله:

قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق لأن الاستواء بمعناه المعروف محال على الله تعالى وهذه من آيات الصفات التي مر ذكرها في الآية 30 من سورة ق المارة وفيها ما ترشد إليه من المواضع الأخرى الباحثة عن هذا، وخصّ العرش بالذكر مع أنه مستول على المخلوقات كافة لأنه أعظمها وأعلاها ولا يعرفه البشر إلا بالاسم وهو بما وصفه الله تعالى به نفسه فتفسيره تلاوته كما مر تفصيله وللبحث فيه صلة في الآية 4 من سورة طه الآتية. هذا وان المنقول عن جعفر الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك وغيرهم من أعلام الأئمة أن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والجحود له كفر والسؤال عنه بدعة، وقد ألمعنا إلى شيء من هذا أول سورة القمر المارة بأنه فلك الافلاك والفلك الأطلس وانه الجسم المحيط بسائر الأجسام ويكنى به عن العزة والسلطان والملك وقيل في المعنى: إذا ما بنوا مروان ثلث عروشهم ... وأودت كما أودت إياد وحمير وقول الآخر: أن يقتلوك فقد ثلث عروشهم ... بعيينة بن الحارث بن شهاب قال تعالى: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» يلبسه ظلمة حتى يذهب بنوره وكذلك يغشي النهار الليل فيغطيه بنوره حتى يمحق ظلامه ولم يؤت بالجملة الثانية لدلالة الأولى عليها كما مر في الآية 17 من سورة ق المارة «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» طلبا سريعا إذ نعقب أحدهما الآخر فيخلفه دون فاصلة ما وقيل فيه: كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جوّن وقال الآخر: وكأن الشوق باب للدجى ... ماله خوف هجوم الصبح فتح «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ» جل علاه وتعريفه من طلوعهن وغروبهن وسيرهن ورجوعهن وسرعة دورانهن بانتظام بديع يتحركن بحركة الفا الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا رفع رجله وضعها بشدة عدوه تحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل حسبما يقوله الفلكيون، ويمكن أن يكون

اكثر أو أقل لأن أقوالهم ظنية تقديرية، وهذا هو معنى الطالب الحثيث جلت قدرته الصانع الحكيم الذي جعل هذه الحركات مستمرة إلى انقضاء الدنيا وأوان خراب هذا العالم بصورة منتظمة وقد أفرد ذكر الشمس والقمر مع أنهما داخلان في النجوم بل هما منها لبيان شرفهما على سائر الكواكب، لا لزيادة نورهما الواصل إلى الأرض فقط بل لمعرفة الأوقات في سيرهما ومنازلهما وكثرة منافعهما في نمو النبات وطعمه وتلوينه وغير ذلك. مطلب التناكح المعنوي: وقد ذكر الله الغشيان هنا والإيلاج في الآية 27 من آل عمران وغيرها لأنها مكررة كثيرا والمراد بهما التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات الملمع إليها في قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية 3 من سورة الرعد في ج 3 وقبل توسع علم النبات ما كان أحد يعلم بازدواج النبات ووجود ذكر وأنثى في كل زهرة غير الله أنظر، كم من غيوب يكشفها الله لنا في هذا القرآن العظيم ونحن عنه غافلون وهذا أمر صحيح وان صح ذلك فما أصح قولهم في ضرب المثل للأمور المتوقعة (الليلة حبلى وستلد العجائب) هذا وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح والحاصل من هذا الغشيان على قولهم ما في العالم من معدن ونبات وحيوان وهو المواليد الثلاثة أو في جميع الحوادث على الإطلاق ومنه قوله: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي لكن مع العلم والإيقان بأن المؤثر الحقيقي هو الله وحده وهو الذي خلق فيها تلك التأثيرات، اما أقوال المنجمين فقد تكون صحيحة وتكون فاسدة وكل ما ذكروه من تقدير فهو بالنسبة لما يبدو لهم في المكبرات من كبر النجوم وسيرها فيبنون علمهم وأقوالهم فيه على الظن والحدس لا على اليقين والصدق، تأمل. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» فرق بينهما ليعلم خلقه أن كلامه غير مخلوق لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله ولهذا قال سفيان بن عيينة من جعل الأمر الذي هو كلامه

تعالى من جملة خلقه فقد كفر، ومن جمع بين الخلق والأمر فقد كفر فالخلق راجع لما ذكره من السموات والأرض والأفلاك، والأمر هو كلامه يأمر هذه المخلوقات وغيرها بما أراد كاملا، وكيف يكون من خلقه لها نقص أو زيادة وهو «تَبارَكَ» وتعالى «اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 54» أجمع وخالقهم ورازقهم ومدير أمورهم. راجع بحث خلق القرآن في المقدمة تعلم أن كلامه منزه ومقدس عن أن يكون مخلوقا. قال في بدء الامالي: وما القرآن مخلوقا تعالى ... كلام الرب عن جنس المقال وهذا ولما اخبر جل اخباره بأنه المنفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يتذللوا اليه لكشف مهماتهم فقال «ادْعُوا رَبَّكُمْ» أيها الخلق «تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» بما ترونه من مصالحكم الدنيوية والاخروية ولا تتجاوزوا فيها الى مضرة غيركم فتعتدوا «إِنَّهُ» ربكم الذي يجيب دعائكم «لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 55» في الدعاء على الغير أو بطلب ما لا يليق بالداعي من المقامات، لأن الدعاء على الغير من غير ظلم منه تعد وطلب ما لا يليق اعتداء، ومن الاعتداء رفع الصوت لما فيه من قلة الأدب مع المولى ومجاوزة الحد في كل شيء اعتداء. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال صلّى الله عليه وسلم: أيها الناس اربعوا «أي ارفقوا بأنفسكم واقصروا عن الصياح في الدعاء» على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم، والذي تدعونه أقرب الى أحدكم من عنق راحلته. قال أبو موسى وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم في نفسي فقال يا عبد الله ابن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت بلى يا رسول الله، قال: لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم. مطلب آداب الدعاء والقراءة: وقال تعالى في الآية 3 من سورة مريم الآتية «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» أي بما يسمع نفسه وهذا الحد كان في الدعاء كنفس الداع أما إذا كان الناس

يؤمنون على دعائه فيرفع صوته بقدر ما بسمعهم وكذلك الجهر في الصلاة قال تعالى «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها» الآية 112 من سورة الإسراء الآتية فإذا زاد على اسماع الغير فيكون عمل عملا مكروها في الصلاة، وكذلك إذا خافت الى حد لا تسمعه الجماعه، وفي الخطبة أيضا ينبغي أن يلاحظ هذا الحد، إذ المقصود اسماع الحاضرين فقط فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم، أخرج ابو داود عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب الأمر أن يقول اللهم اني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ثم قرأ «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» وهذا هو الحكم الشرعي في الدعاء ومن آدابه أنه إذا خاف الرياء أخفى وإذا أمنه جهر بقدر الحاجة وهو الأفضل ويكره إذا خيف التشويش على قارئ أو مصل أو إيقاظ نائم «أو مشتغل بعلم شرعي» ، قال تعالى «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» ايها الناس بان تقطعوا السبل وتنهبوا الأموال وتعتدوا على الخلق بضرب أو قتل فايقاع الفساد على هذا الوجه هو خراب الأرض وإهلاك أهلها وكيف تخربونها «بَعْدَ إِصْلاحِها» ببعثة الرسل وبيان الشرائع بالنهي عن الفساد والأمر بالإصلاح والدعاء الى طاعة الله وترك الكفر ودواعيه وتكذيب الرسل وجحود ما جاءوا به من عند الله فكل هذا فساد مناف للإصلاح الذي فيه قوام الكون «وَادْعُوهُ خَوْفاً» من عقابه وعدله «وَطَمَعاً» بثوابه وفضله متضرعين اليه مخبتين له ومعنى الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وتوقع مكروه يحصل، والطمع توقع أمر محبوب، وأحسنوا أيها الناس لأنفسكم وغيركم بالمحافظة على الأمن لأنه إذا فقد انقطعت الطرق وقلقت الناس، وتراحموا فيما بينكم «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 56» أعمالهم مع أنفسهم وغيرهم الذين يتأدبون بآداب الله فلا يتجاوزون حدوده في الدعاء والعمل مع الله ولا مع عباده امتثالا لامره وأمر رسوله فهؤلاء هم المحسنون، وتفيد هذه الآية أن غير المحسنين بعيدون من رحمة الله، ألا فليتق الله الذين يسيئون ويقولون الله غفور رحيم ولا

يصرفون قسما من حياتهم فى عبادة الله طلبا لهذه الرحمة والمغفرة. وينبغي أن يجمعوا في طلب الرزق من الحلال ويقولوا الله كريم، ولا شك أن الله غفور رحيم ولكن هل تجد رحمة في كتاب الله مطلقة من قيد؟ كلا، فإنها في هذه الآية مقيدة بالإحسان، وفي آية 8 من سورة طه الآتية (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ، وفي الآية 18 من سورة الجاثية في ج 2 (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، وكذلك غير هذه الآيات التي ستمر بك. مطلب في الرحمة واكتساب التأنيث والتذكير والمطر: ومعنى الرحمة بالنسبة إلينا رقة في القلب تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وبالنسبة لله إنعام وإفضال على من يشاء من عباده وإيصال الخير إليهم، وجاء لفظ قريب بالتذكير لأنه مضاف إلى مذكر والمضاف قد يكتسب التذكير من المضاف إليه كما في قوله: إنارة القلب مكسوف بطوع هوى ... وقلب عاصي الهوى يزداد تنويرا فكلمة إنارة المؤنثة اكتسبت التذكير من المضاف إليها وهو القلب ولذلك جاء وصفها مذكرا كما هنا وبالعكس كقوله: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا فقد اكتسب المضاف وهو حب التأنيث من المضاف إليه وهو الديار ولذلك جاء الضمير العائد إليه في شغفن مؤنثا، ولولا ذلك لقال في الأول مكسوفة وفي الثاني مشغف، وهذا أحسن ما قيل في معنى قريب من الآية المفسرة من أقوال كثيرة لا سيما وان الرحم مقارب للرحمة لفظا وقريب على صفة فعيل، وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول فلذلك جاء على صفة التذكير، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً» وقرىء بضمتين جمع بشير وبفتح الياء على المصدرين من بشر المخفف بمعنى بشر المشدد أي باشرات أو لأجل البشارة، وقرى بشرى كحبلى من البشارة أيضا، وهذه الرياح هي التي تؤثر بالإبرة المحدثة (باريمتر وو هي من معجزات القرآن العظيم) ، إذ كلما أحدث أهل العصر شيئا دلنا على ما فيه

مما لم تعيه عقولنا قبل، راجع الآية 4 من سورة النمل الآتية، وقرأ أهل المدينة والبصرة نشرا بالنون المضمومة وسكون الشين مثل بشرا وهي جمع نشور بمعنى ناشر وبضمتين أيضا بمعنى ناشرات ومنشورات، وهذه القراءة فيها تصحيف أي ابدال الباء بالنون، وهي شاذة مخالفة لما في المصاحف فلا عبرة بها، «بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» أي أمام الغيث «حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ» حملت تلك الرياح المبشرات غيما «سَحاباً ثِقالًا» بالمياه، وهذا من تدبير حكمته تعالى فإنه يحرك الرياح بشدة فتثير السحاب يدل على هذا قوله جل قوله في الآية 22 من سورة الحجر في ج 2 (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) ، ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد فيحيل تلك الأبخرة المتراصة إلى ماء ثم يسوقه إلى حيث يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بدليل قوله «سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ» ما حل لا كلا فيه لأجل إحيائه بالغيث وإنبات الزرع فيه، والبلاد الميتة كثيرة فقد يختص منها ما يريده وقد يعم رحمته عليها كلها «فَأَنْزَلْنا بِهِ» أي البلد الميت «الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ» أي الماء المنعصر من تلك السحب أشجارا فيها «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ» أي مثل هذا الإخراج بعد الاحياء «نُخْرِجُ الْمَوْتى» من قبورهم أحياء عند بعثهم بعد الموت، أي فكما نحي الأرض بعد موتها نحي الخلق بعد موتهم لا فرق علينا بينهما فاعتبروا «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57» بالأمثال التي نضربها لكم لتعوا المراد منها وتتعظوا به، وقد ضربنا لكم هذا المثل يا منكري البعث وجاحدي إعادة الأجسام بأرواحها ليذكروا أن النبات عندنا بمثابة الإنسان بجامع الاعادة في كل قال تعالى «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ» تراه «يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» بتيسيره حسنا وافيا «وَالَّذِي خَبُثَ» ترابه كالسبخة من الأرض «لا يَخْرُجُ» نباته بسهولة «إِلَّا نَكِداً» عسرا بمشقة وكلفة قليلا لا خير فيه، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن، وهذا الطيب والخبيث يشملان الإنسان أيضا غالبا لأن الدّن ينضح بما فيه «كَذلِكَ» مثل هذا التصريف البديع «نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها المرة بعد الأخرى «لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ 58» نعمنا على هدايتهم للتفكر في ذلك، لأن الحكمة من تكرارها سوق همّة البشر

للاعتبار في مكونات الله، وهذا مثل ضربه الله تعالى هنا للمؤمن الذي يؤثر فيه الوعظ وينتفع فيه فهو كالأرض الطيبة تؤتي أكلها ضعفين، والكافر الذي لا ينجع فيه ولا يأتمر به فهو كالأرض الخبيثة فإنها تجحد البذر ولا ينفعها السقي والحرث كما لا ينفع الكافر الزجر والنهي، وبعد هذه الأمثال شرع جل شأنه يقص على رسوله حالة إخوانه الأنبياء الماضين مع أممهم ليسليه عما يراه من قومة فقال مقسمه «لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً» بن لمك بن منوشلخ بن أخنوخ بن إدريس عليهما السلام وكان نجارا، وبعث على كمال الخمسين من عمره ودعا قومه تسعمائة وخمسين سنة لم يترك فيها طريقا من طرق النصح إلا أتاهم به، وحذر وأنذر وسلك اللين والخشوع طيلة هذه المدّة، ولم يؤمن من قومه إلا بعض ذويه، وعاش بعد إغراق قومه ستين سنة، فيكون عمره ألفا وستين سنة، وقيل له يا أطول الأنبياء عمرا كيف رأيت الدنيا؟ قال دخلت من باب وخرجت من آخر وهو أول نبي عذّبه الله قومه وأول من قاسى أشدّ الهوان وأكبر الأذى في سبيل الدعوة إلى الله، ومع أنه عمر في الدنيا ما عمر فقد ذمها وصغرها وقصر شأنها والناس لم يتعظو فيتهالكوا عليها مع علمهم أن مصيرها الفناء «إِلى قَوْمِهِ» الذين هو منهم مطلب قصة سيدنا نوح عليه السلام: «فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده واتركوا هذه الأصنام فإنها ليس بآلهة «ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» فلا تشركوا به شيئا «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن أصررتم على ما أنتم عليه «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 95» في الدنيا، يريد به الطوفان الذي أعلمه الله به وفي الآخرة التعذيب بالنار، قال عليه السلام إني أخاف مع أنه على يقين من ذلك إذ أوحى له به ربه، إلا أنه لا يعلم وقت نزوله أيعاجلها به أم يتأخر «قالَ الْمَلَأُ» الأشراف أولو الحل والعقد «مِنْ قَوْمِهِ» يا نوح «إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ» عن طريق الصواب لأنك تدعونا إلى شيء لم نعرفه نحن ولا آباؤنا فزيفك هذا «مُبِينٍ 60» واضح لا خفاء فيه ردا على نصحه لهم وانما قالوا ذلك لأنه لما خوفهم بالطوفان رأوه يصنع السفينة في أرض لا ماء فيها، أي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 61 إلى 70]

أنك تتعب دون فائدة وهذا من الضلال لأن السفينة لا تجري على اليبس، ولم يعلموا أن الذي أمره بعملها هناك قادر على إيجاد الماء لها، لهذا رد عليهم «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 61» إليكم لأرشدكم و «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» أوامره ونواهيه مما يعود لنفعكم «وَأَنْصَحُ لَكُمْ» فأرغبكم بفعل طاعته ليثيبكم عليها دار النعيم الدائم وأحذركم من معصيته لئلا يحل بكم عذابه الدنيوي ثم ترجعوا إلى عذابه في الآخرة، وهذا معنى النصح أما معنى الرسالة فهو عبارة عن تبليغ الرسول ما يوحى إليه من الذي أرسله إلى المرسل إليهم وتعريفه لهم وبيان ما يترتب عليه فعله وتركه وفعل نصح يتعدى باللام كما هنا وبغيره كقوله: نصحت بني عوف فلم يتقبّلوا ... نصحي ولم تنجح لديهم رسائلي إلا أن تعديه باللام أفصح لمجيئه بالقرآن نبع الفصاحة والبلاغة ومأخذها «وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 62» من قدرته وشدة بطشه بأعدائه «أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى» لسان «رَجُلٍ مِنْكُمْ» تعرفون نسبه ومكانته فيكم «لِيُنْذِرَكُمْ» سوء عاقبة عملكم وانكبابكم على الشرك «وَلِتَتَّقُوا» عقاب الله المترتب على عدم قبوله «وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 63» برفع العذاب المقدر نزوله عليكم في الدنيا وبإنالة الجزاء الحسن في الآخرة لأن القصد من إرسال الرسل من الله إليكم هو الإنذار بالكف عن المعاصي والركون للتقوى التي مصيرها الفوز برحمة الله «فَكَذَّبُوهُ» وجحدوا رسالته وأهانوه، فنزل بهم العذاب على الوجه المبين في الآية 40 من سورة هود في ج 2 قال تعالى «فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ آمنوا مَعَهُ» من الغرق إذ أمرناهم أن يركبوا «فِي الْفُلْكِ» التي علمناه كيفية صنعها «وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» عن بكرة أبيهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ 64» عن الحق وطرقه، يقال عم لعمى البصيرة وعام لعمى البصر، قال زهير: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي وسيأتي أن عمى البصيرة يسمى عمها وسنذكر القصة مفصلة في تفسير الآية 25 من سورة هود فما بعدها في ج 2. قال تعالى «وَإِلى» قوم «عادٍ» أرسلنا ت (24)

«أَخاهُمْ هُوداً» بن شالخ بن ارفخشف بن سام بن نوح وقيل عبد الله بن رباح ابن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح ولهذا قال أخاهم لأنه منهم، وهذه عاد الاولى وكانت منازلهم بالأحقاف، الرمل عند عمان وحضر موت راجع ما بيناه عنهم في الآية 5 من سورة الفجر المارة وذكرهم في الآية 15 من فصلت في ج 2 والآية 21 من الأحقاف أيضا «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ينعم عليكم فكيف تجعلون معه إلها آخر «أَفَلا تَتَّقُونَ 65» ففيه وتخافون عقابه فيعذبكم كما عذّب قوم نوح وذلك لان كيفية إغراقهم مستفيضة بينهم «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» المتوغلون بالكفر لأنهم كافرون ويأمرون غيرهم بالكفر بهود عليه السلام ويصدّونهم عن سماع نصحه والإيمان بربه «إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ» خفة عقل وسخافة رأي وحمق، وإنما قالوا له ذلك لأنه زيّف لهم عبادتهم ونسبهم للسفه وقلة العقل وعدم انصياعهم باتخاذ ربّ واحد فقابلوه بالمثل وزادوا عليه قولهم «وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ 66» في ادعائك الرسالة من الله لأنّك رجل مثلنا «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ» واني رجل مثلكم حقا «وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 67» أرسلني لنصحكم وأمرني «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» التي خيرني بها عليكم «وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ 68» على تبليغها كما تلقيتها، وإنما قال أمين لأن إعلامهم بامانته واجب عليه ليعلموا أن ما يأمرهم به هو من أمر الله بلا زيادة ولا نقص وانه لم يأتهم بشيء من عند ولا ليمدح نفسه ولا بمقابلة قولهم «إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ» لأن من أدب الأنبياء وحسن خلقهم ترك المقابلة بالسوء وكظم ما يسمعونه من النقد والإغضاء عن حقارتهم لهم لأن أقوالهم تصدر عن حلم وأناة، وأقوال الكافرين من قوم عن جهل وسفاهة، وفيه تعليم للمقدرين للنصح والإرشاد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم، والفرق بين قول نوح أنصح وقول هود ناصح لأن قول نوح كان متماديا ليل نهار كما أخبر عنه ربه بقوله «إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» الآية 5 من سورته في ج 2، وقول هود منقطع ولأنه لم يعش فيهم ما عاش نوح

[سورة الأعراف (7) : الآيات 71 إلى 80]

وان صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة بخلاف صيغة اسم الفاعل لدلالتها على الحال فقط. ثم قال لهم «أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ» المراد به هنا وفي الآية المنقدمة ما أرسلا به وأنزل عليهما من الله كما يقال للقرآن ذكر وقد يفسّر بالموعظة «مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ» بأس الله وعذابه قصد نجاتكم «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ» ربكم «خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» في أرضه ومكنكم إياها بعد إهلاكهم إذا لم يبق من قومه الا من ركب السفينة وهم ثمانون نسمة. وقد سميت الأرض التي نزلوا بها قرية الثمانين وهي معروفة حتى الآن بلفظ كردي «هشتاند» في الجزيرة قرب جبل الجودي الذي رست عليه «وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» طولا وقوة وكثرة عليهم، قيل كان طول أحدهم ما بين اثنى عشر ذراعا وستين ذراعا «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» نعمه المترادفة عليكم «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69» تفوزون برضائه لأن ذكر النعم يفضي إلى شكرها المؤدي إلى النجاة في الآخرة والزيادة في الدنيا، راجع الآية 7 من سورة ابراهيم في ج 2 «قالُوا أَجِئْتَنا» كان له صلّى الله عليه وسلم معبدا يتعبد به قبل الرسالة فلما شرفه الله بها جاءهم ليأمرهم وينهاهم حسب تعاليم ربه التي تلقاها لذلك قالوا له أجئتنا من معبدك «لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ» كما تزعم أن ليس رب غيره «وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة عن طريق الاستفهام الإنكاري لاستبعادهم اختصاص العبادة بإله واحد وترك الأوثان والشرك الذي نشأوا عليه من قبل بعثته. ومثله من هذه بالجهة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم إنه كان اتخذ غار حراء معبدا واعتزل قومه الذين كانوا يعكفون على عبادة الأصنام، حتى جاءته النبوة فيه فأنذر بها قومه وقالوا له مثل ما قالوا له آنفا، وقالوا له أيضا «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 70» في ادعائك الرسالة من الله إلينا وأن العذاب سينزل علينا ان لم نصدقك ونؤمن بربك «قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ» رجز أي عذاب عظيم أبدلت الزاي سينا فيه وأصل الرجس الاضطراب ثم شاع في معنى العذاب لاضطراب من يحل، به وقال بن زيد، الرجس بمعنى العذاب في كل القرآن مأخوذ من الارتجاس وهو الارتجاز «وَغَضَبٌ» سخط

وطرد «أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ» لأحجار تعبدونها «سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» آلهة وهي خلو من اسمها ومعناها، لا دليل لكم عليها باستحقاق العبادة لأنها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع، فتسميتكم لها آلهة «ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» حجة أو برهان بل ابتدعتموها ابتداعا وكذلك آباؤكم الذين قلدتموهم بعبادتها لهذا أنصحكم أن تقلعوا عنها وتؤمنوا بالإله الواحد وإذا بقيتم مصرين على ذلك «فَانْتَظِرُوا» نزول العذاب من ربي بكم «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 7» وقوعه إيفاء لوعيد الله لكم ووعده لي باهلاككم ونجاتي وفي هذا تهديد شديد لهم ان لم يرجعوا عن كفرهم ويؤمنوا به وبربه وقد أوقعه عليهم بدليل قوله «فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» لمن صدق وآمن بوعدنا ووعيدنا «وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على صدق نبينا إنجازا لوعدنا له فأنزلنا بهم العذاب المترتب على تكذيبهم لنبيهم وعدم اكتراثهم به وأهلكناهم جميعا إهلاك استئصال لأن الدابر أصل الشيء أو الكائن خلفه فقطع دابرهم كناية عن تدميرهم عن آخرهم. ولهذا فإن عادا الأولى لا خلف لها «وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ 32» بي ولا بالذي أرسلته إليهم ونفي الإيمان عنهم مع تكذيبهم اشعار بأنهم خصوا بالهلاك لإصرارهم على الكفر ولو لم يهلكهم لبقوا مصرين عليه ولم يؤمنوا، فهو كالعذر في عدم الصبر عليهم. مطلب قصة هود عليه السلام: وخلاصة القصة أن قوم هود تبسطوا في الأرض وعتو عتوا شديدا بما أعطوه من القوة والمال والكثرة، وكان لهم ثلاثة أصنام الصداء والصمود والهباء، وقد تغالوا في عبادتها وكان هود عليه السلام اعتزلهم إلى أن أرسله الله إليهم فأبدى لهم نصحه وخوّفهم وحذرهم مرفضوا الإصغاء إليه فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، وكانت عادتهم إذا نزل بهم بلاء فزعوا الى بيت الله الحرام يطلبون الفرج منه عند بيته، ولما طال عليهم الأمر أوفدوا سبعين رجلا من خيارهم الى بيت الله برئاسته قيل بن عنتر ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان مؤمنا يكتم إيمانه

مثل مؤمن آل فرعون الذي سخره الله لموسى عليه السلام، فنزلوا على معاوية ابن أبي بكر عميد العماليق نسبة الى جدهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وهم أخوال معاوية هذا، حينما كان مخيّما بظاهر مكة شرفها الله، وهو يومئذ سيد مكة، فأبطأوا عنده يشربون الخمور ويأكلون السمين ويسمعون غناء الجرادتين ومن جملة ما غنتهم به قول معاوية المذكور الذي علمه لهما وأمرهما بغنائه ليتيقظوا من غفلتهم وليحرضهم على إيفاء ما جاءوا لأجله من عند قومهم وهو: ألا يا قيل ويحك قم وهينم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد امسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس ترجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم أيامى وان الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعاديّ سهاما وأنتم هاهنا فيما أتيتم ... نهاركم وليلكم تماما فقبّح وفدكم من وفد قوم ... ولا لاقوا التحية والسلاما ولما فرغتا منه تيقظوا وقال لهم مرثد والله لا تسقون ما لم تطيعوا نبيكم هودا وأظهر إيمانه وطفق يلومهم بقوله: عصت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشا ما تبلهم السماء لهم صنم يقال لهم صمود ... يقابله صداء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد ... وأبصرنا الهدى وجلي العماء وإن إله هود هو إلهي ... على الله التوكل والرجاء فقد حكم الإله وليس جورا ... وحكم الله ان غلب الهواء على عاد وعاد شر قوم ... فقد هلكوا وليس لهم بقاء واني لن أفارق دين هود ... طوال الدهر أو يأتي الفناء ثم بادر بإرشاد الوفد لطاعة هود فلم يفعلوا وردّوا عليه شر ردّ وبقوا مصرين

على كفرهم وعبادة أوثانهم وأنفتهم من اتباع هود وقال طهمة بن البحري يرد على مرثد بن سعد. الا يا سعد إنك من قبيل ... ذوي كرم وانك من ثمود فإنا لا نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد أتأمرنا لنترك دين قوم ... ورمل والصداء مع العمود ونترك دين آباء كرام ... وذي رأي ونتبع دين هود وقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا وخرجوا الى مكة ولما توسطوا الحرم قال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وأتى على دعائه الوفد كله ثم لحق بهم مرثد حيث أطلقه معاوية بعد ذهاب الوفد من عنده ورفع يديه الى الله وقال اللهم اعطني سؤلي برا وصدقا ولا تدخلني فيما يدعونك، فأعطي سؤله، ثم جاء لقمان بن عاد وهو سيدهم أي سيد الوفد وقال: اللهم إني جئنك وحدي في حاجتي فأعطني طول العمر، فأعطى عمر سبعة أنسر، عاش كل واحد ثمانين سنة آخرهم اسمه لبيد، وقال قيل اللهم إني اختار لنفسي ما يصيب قومي، فقيل له إنه الهلاك، فقال: لا أبالي لا حاجة لي بالبقاء بعدهم، فأجاب الله لكل دعوته. هذا، وليعلم أن قلوب الكفرة لا تزال متشابهة قال تعالى (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 118 من البقرة في ج 3 لأن ردّ الكافرين لأنبيائهم قديما متشابه وحتى الآن «وقد كانت عندي خادمة من الأرمن من الذين اضطرهم الأتراك للهجرة وصاروا يأخذون منهم طائفة طائفه الى الجزيرة فتعدمهم وجئت يوما للدار فرأيت الخادمة تهيىء نفسها للسفر مع طائفتها، فقلت لها إن ذهبت قتلت وأنا أقدر على إبقائك عندي، فقالت لا عيش لي بعد قومي، فذهبت وقتلت معهم» ولما خرجوا من مكة ووصلوا الى خوصهم هلكوا معهم جميعا إذ ظهرت عليهم سحابات ثلاث حمراء وبيضاء وسوداء، فاختار قيل السوداء لزعمه أكثر ماء واستبشر بها وقد أخبر الله عنهم في الآية 24 من سورة الأحقاف في ج 2 بقوله «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» فجاءهم ريح عقيم استمرت سبع ليال وثمانية أيام، فأهلكتهم جميعا وارتحل مرثد مع جملة المؤمنين صحبة نبيهم هود

الى مكة وبقوا فيها الى أن ماتوا جميعا رحمهم الله. قالوا: وان كل نبي إذا منا أهلك الله قومه يأتي إلى مكة مع قومة المؤمنين يعبدون الله فيها حتى يموتوا، وقد في المقدمة أن هذه القصص لا يعتمد على صحتها لأنها من نقل الأخباريين، وانا نأخذ خلاصة ما لا مبالغة فيه وننبه القارئ ليكون على علم منه ونكفيه مؤونة تشوقه لقراءتها في تفاسير أو قصص مشحونة بما لا يعقل، وممزوجة بما لا يجوز قراءته: قال تعالى «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» في النسب لا في الدين وهو ابن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن جاوز بن ثمود ابن غابر بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» على صحة رسالتي وهي «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ» أخرجها «لَكُمْ آيَةً» على صدقي «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» من ضرب أو منع من شرب أو مرعى فاذا فعلتم بها شيئا من ذلك «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 73» لا تطيقه أجسامكم ولا يقيكم منه أحد ولا مرد له من الله «وَاذْكُرُوا» يا قوم «إِذْ جَعَلَكُمْ» الله ربي الذي ادعو لعبادته «خُلَفاءَ» في الأرض «مِنْ بَعْدِ عادٍ» وقد علمتم ما حل بهم من العذاب «وَبَوَّأَكُمْ» أنزلكم «فِي الْأَرْضِ» أي أرض الحجاز لأن ثمد نسبة الى ماء بين الشام والمدينة من أرض الحجاز وجعلها منازل لكم وملككم إياها «تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً» ذات غرف عالية تصيفون فيها «وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً» ناحية ذات حجر تشتون فيها، وهذا مما يدل على زيادة ترفهم ونعيمهم في الدنيا بالنسبة لوقتهم «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» نعمه المترادفة عليكم طلبا لدوامها، وفيها حث من الله لعباده على شكر نعمه وحق لها أن تشكر لأن الشكر يزيدها كما نوهنا عنه آنفا في الآية 69 المارة فراجع ما ذكرناه هناك «وَلا تَعْثَوْا» تكثروا الفساد وتأتوا بأشده وأفظعه «فِي الْأَرْضِ» التي منحكم الله إياها وغيرها مما كانت في تلك الغير حالة كونكم «مُفْسِدِينَ 74» فيها فإن مطلق الإفساد يزيل النعم عنكم ويعرضكم للهلاك ولا تكفروا فان الكفر يمحقكم «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» عن دعوة صالح الصالحة وأنفوا من إرشاده الحق «مِنْ

قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» الفقراء مالا ورجالا «لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» به عليه السلام من المستضعفين وهذه الجملة جاءت بدلا من الجملة قبلها على طريق الاستفهام الإنكاري «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بهم لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ومعتقدون به، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر، إذ لم يقولوا لهم، نعم بل «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ 75» مصدقون وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا لهم نعلم بإرساله. وبما أرسل به ولا نشك بما جاء به ونخبركم انا مؤمنون به لأن الإيمان به واجب فهل تؤمنون به مثلنا فأجابوهم أيضا بمثل جوابهم بمقتضى الظاهر فبذل ان يقولوا لهم انا بما أرسل به مؤمنون «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لأولئك المستضعفين «إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 76» وفائدة هذا الرد على ما قاله. المؤمنون من جعلهم إياه معلوما ومعلما عندهم، أي أن الذي فلتموه ليس معلوما عندنا ولا مسلما، وبما أن جواب المؤمنين لم يزدهم إلا عتوا اتفقوا على مخالفة رسولهم «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ» التي هي آيته أي قطعوا عروقها وهم قد ذبحوها ذبحا وسمي النحر عقرا لأن الناحر يعقر البعير أولا ثم ينحره أي أنهم عقروها ثم ذبحوها «وَعَتَوْا» ازداد استكبارهم «عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب الذي تهددنا به «إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ 77» من قبل الله كما تزعم فدعا ربه «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» خفقان القلب من أثر الزلزلة الشديدة الناشئة من الصيحة إذ جاء في 43 من سورة الذاريات في ج 2 الآية وكذلك في سورة المؤمنين الآية 41 «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» والصيحة الشديدة يحصل منها الخفقان من شدة الخوف لأنها خارقة للعادة كيف لا وهي من السيد جبريل عليه السلام الذي وصفه الله بالقوة فلا بدع أن تزلزل الأرض منها ويضطرب من عليها «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ 78» على ركبهم ميتين وهم قعود، والجثوم للناس والطير ولبقية الحيوانات البروك «فَتَوَلَّى» صالح «عَنْهُمْ» لما رأى ما حل بهم وصار يخاطبهم آسفا على عدم ايمانهم به وهو مدبر عنهم وهذا كما فعل رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم مع أهل القليب، راجع الآية 8 من سورة الأنفال في ج 3

«وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي» بإرسالي من لدنه إليكم «وَنَصَحْتُ لَكُمْ» بأن تؤمنوا به وحذرتكم غليظ عذابه «وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ 79» بل تبغونهم وتعادونهم شأن أمثالكم الكفرة. مطلب قصة صالح عليه السلام: وخلاصة القصة أن قبيلة ثمود لما ملكت الأرض بعد عاد كثروا وعمروا كثيرا فعكفوا على عبادة الأصنام، وأفسدوا في الأرض، فأرسل الله لهم صالحا فصار يدعوهم الى طريقه السوي ويأمرهم بترك الإفساد فلم يقبلوا ولم يؤمن منهم الا قليل من فقرائهم، وقد كبر سنه عليه السلام وألح على قومه بترك عبادة الأوثان والإفساد فطلبوا منه آية على صدقه بأن يخرج لهم من صخرة كبيرة عند الحجر تسمى الكائية ناقة عشراء جوفاء وبراء مخرجه تشاكل البخت من الإبل، ذات السنامين ويؤمنوا به، فقبل منهم وأخد عليهم العهود والمواثيق على ذلك فصلّى ودعا ربه، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له فأجاب الله دعاءه وخيّبهم وأوثانهم، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل ذات السنامين ويؤمنوا به، فقبل منهم وأخذا عليهم العهود والمواثيق على ذلك. فصلّى ودعا ربه، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له، فأجاب الله دعاءه او خيبهم وأوثانهم، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل رجعلها الله معجزة عظيمة له وهي نفسها معجزة أيضا، لأن ثمود لهم ماء يشربون منه هم وحيواناتهم يوما وهي تشرب بقدر ما يشربون جميعا، وكانوا يحلبونها يوم شربها فيكفيهم حليبها كلهم وكانت تمنع الحيوانات عن شرب الماء في نوبتها وهذه الخصال دلت بأنها من أعظم المعجزات وأكبر الآيات فآمن به قليل من قومه وازداد الآخرون عتوا، وبما أنهم الأكثر قر رأيهم على ذبحها فذبحوها بداعي أنها تقاسمهم الماء وكأن الحليب الذي يأخذونه منها لا يكفيهم عنه قاتلهم الله. روى البخاري ومسلم عن عيد بن زمعة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال صلّى الله عليه وسلم «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» أي قام بسرعة لها رجل عزيز عادم «أي خبيث شرير» منيع «أي ممتنع طويل لا يقدر عليه من أراده» في رهطه مثل أبي زمعة وتقدم ما فيه، في الآية 11 من سورة والشمس المارة. قال الأخباريون والقصاص إن إهلاكهم كان يوم الأربعاء وان عاقرها قدار بن سالف اغرته عنيزة بنت غانم

بإحدى بناتها إن هو عقرها ففعل، فقالوا ان سقبها أي حوارها لما رأى ما حل بأمه هرب، وأخبر صالحا به أهل البلدة حينما جاءوا يعتذرون منه لعدم مباشرتهم عقرها، فقال لهم أدركوا فعيلها لعل الله أن يرفع عنكم العذاب. فلحقوه فاذا هو قد اعتصم بجبل عال عجزوا عن تناوله، فذهب اليه صالح فلما رآه صار يبكي ثم رغا ثلاثا وانفجرت الصخرة التي خرجت منها أمه، فدخلها وانضمت عليه، كما ابتلعت أمه الأرض، وأنزل الله بهم العذاب المذكور. انظروا أيها الناس، أخرج الله لهم ناقة حسب طلبهم معجزة لنبيهم وصاووا يشربون كلهم من حليبها، فقتلوها بحجة أنها تصيف في الحر في ظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم، وتشتي في بطنه فتهرب منها مواشيهم، فتهلك من الحر والبرد، وكان لا مأوى لدوابهم غير ذلك الوادي في أرض الله الواسعة. والحق إن الذي حدا بهم لقنلها لا قضية الماء ولا المواشي بل هو غضب الله عليهم وسخطه من أعمالهم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال لما مر رسول الله بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم رفع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي. وللبخاري أنه لما نزل صلّى الله عليه وسلم الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها، فقالوا قد عجنا منها وملأنا أسقيتنا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهرقوا ذلك الماء. وروى أن أشقى الأولين عاقر الناقة، وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله وجهه. والفرق بين جزاءيهما كالفرق بين الناقة وعلي قال تعالى «وَلُوطاً» ابن هاران بن تارخ بن أخي ابراهيم عليهما السلام «إذ قال لقومه حين أرسل إليهم بعد أن هاجر مع عمه إبراهيم إلى الشام ونزل إبراهيم بفلسطين ولوط بالأردن بقرية تسمى سدوما «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» اللواطة بالذكور سميت فاحشة، لأن هذه الفعلة الخبيثة غاية في القبح ولم تعهد قبلا كما يدل عليه قوله تعالى «ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ» قبلكم وجيء بمن للتأكيد مثل قوله تعالى (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ) الآية 21 من سورة المائدة في ج 3 تأكيدا للنص «مِنَ الْعالَمِينَ 80» أي بعضهم لأن منهم من لم تخلق فيهم الشهوة فكانت هنا للتبعيض ثم وبخهم بالاستفهام

[سورة الأعراف (7) : الآيات 81 إلى 90]

التقريعي بقوله عز قوله «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ» أي أترون أن أدبار الرجال أشهى لكم من فروج النساء لا ليس الأمر كذلك «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ 81» متجاوزون الحلال إلى الحرام ولذلك آثرتم الدبر على الفرج، وإنما ذمهم الله لأن القصد من وضع الشهوة في الإنسان طلب الولد وبقاء النوع الإنساني وتكاثره لعمران الدنيا إلى أجل أراده الله، فإذا عدل عن هذا القصد تعطل الكون وكانت تلك الشهوة بهيميّة محضة، ولهذا خصهم الله بالإسراف لأنه وضع الشيء بغير محله «وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه تعنيفه لهم على قبح فعلهم ونصحه لهم بتركه «إِلَّا أَنْ قالُوا» بعضهم لبعض «أَخْرِجُوهُمْ» أي لوطا ومن آمن به «مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ 82» من صنيعكم ويتنزهون مما أنتم عليه. قال ابن عباس عابوهم بما يمدح به قال تعالى «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لأنها لم تؤمن به وكانت تخبر قومها بمن يأتيه من الضيفان وتحرضهم عليهم لذلك «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ 83» الباقين مع المعذبين من قومها ولم يقل من الغابرات، لأنها هلكت مع الرجال المغلّب ذكرهم على النساء، والغبر البقاء يقال غبر في داره إذا بقي «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» عظيما مهولا لأنه مطر عذاب لا مطر رحمة، والننوين يدل على شدة فظاعته، وقلّ أن يأتي المطر بمعنى الغيث بل قد لا يوجد في القرآن إلا بمعنى العذاب، وأمطر بمعنى أرسل، ومطر بمعنى أصاب، فيكون مطر الرحمة وأمطر للعذاب «فَانْظُرْ» أيها العاقل المفكر «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ 84» فهي شيء عظيم لا تتصوره العقول، هذا ما قصه الله علينا من خبر لوط عليه السلام مع قومه. مطلب قصة قوم لوط عليه السلام: وقال الأخباريون كانت المؤتفكة خمس مدائن بين الشام والمدينة مخصبة ذات زروع وثمار، فآذاهم الناس بالأخذ منها فعرض لهم إبليس وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا (ودعاهم إلى نفسه فلاطوا به علّمهم لعنه الله هذه الفعلة الخبيثة ابتداعا من حيث لم تخطر ببالهم، فهو أول من ليط به لأنه كان يظهر لهم على صورة البشر)

امتنعوا من التعدي على ثماركم ونجوتم بها، فأطاعوه وعملوا بما أشار به عليهم فهو أول من سن هذه السنة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وصاروا كلما مرّ بهم أحد تعاونوا عليه وفعلوا به، فكان لهم ما قال اللعين، لأن الناس امتنعت حتى من المرور على قراهم لأنهم رأوا ما لم يسمعوا به من الخزي والعار، وداموا عليه حتى استحكم فيهم هذا الفعل القبيح، واستحسنوه حتى صاروا يفعلونه ببعضهم وبنسائهم أيضا، فأهلكهم الله بعد أن وقع منهم التعدي على لوط وضيفانه من الملائكة، كما سيأتي في تفسير الآية 77 من سورة هود في ج 2، وكيفية إهلاكهم كما قال مجاهد أن جبريل عليه السلام نزل إلى الأرض فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها من تحت الثرى ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بما أمطروا من الحجارة. الحكم الشرعي: الحرمة القطعية ويكفر مستحله. قال في التتارخانية نقلا عن السراجية: اللواطة بمملوكه ومملوكته حرام، وكذا امرأته، إلا أنه لا يكفر مستحلّه، وهذا بخلاف اللواطة بالأجنبية والأجنبي فإنه يكفر مستحلّه قولا واحدا، قال الإمام الأعظم لا حدّ بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه. وقال الإمامان: إن فعل بالأجانب حدّ كحد الزنى، وإن في عبده وأمته وزوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حدّ اجماعا، كما في الكافي وغيره بل يعزّر في ذلك كله ويقتل من اعتاده، وروي عن علي كرم الله وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط بإمطار الحجارة عليهم، وقد أخرجه البيهقي وصححه الحاكم وعليه فيكون حدّه الرجم. هذا، وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله سبعة من خلقه فوق سبع سموات فردد لعنته على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحدة لعنة لعنة، فقال ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط) الحديث. وجاء أيضا (أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخطه) وعدّ منهم من يأتي الرجل-. وزعم علي بن الوليد المعتزلي أنه لا يمتنع أن تجعل اللواطة في الجنة لزوال المفسدة، ولأنها من جملة

الملاذ وليس هناك أذى أو قطع نسل ولذلك أبيح شرب الخمر فيها للذة إذ ليس هناك زوال عقل ولا عربدة، فقال له أبو يوسف القزويني الميل إلى الذكور عادة قبيحة والمحل (الدبر) لم يخلق للوطء، فلم تبحه شريعة ما، بخلاف الخمر فإنه خلق للشرب وأباحته بعض الشرائع قبل الإسلام، بل أوله كان مباحا، ومهما كان فلا يقاس قبح اللواط بالخمر. مطلب رد أبي يوسف على المعتزلي: وانكار قبح اللواطة مكابرة، وكانت الجاهلية مع ارتكابهم كافة المفاسد تعيّر بها فيقولون فلان معفر استه بمعرض الذم، وإذا كنت يا ابن الوليد ترضى به اليوم فهل ترضى به غدا في الجنة، وذلك لأنه كان مأبونا قد ألف ذلك واعتاده والعياذ بالله، فجرّه اعتياده إلى الجرأة على القول بأن هذه الفاحشة الخبيثة من ملاذ الجنة المطهرة من الأرجاس، قبحه الله وقبح فاعليها ومحبذيها. وقد صحح العلماء الأعلام أنها لا تكون في الجنة قطعا لأن الله سماها فاحشة هنا وخبثا في الآية 73 من سورة الأنبياء في ج 2، والجنة منزهة عن الفواحش والخبائث، قال بعض العارفين والله الذي لا إله إلا هو لو لم يذكر الله عمل قوم لوط في كتابه ما خطر ببالي كونه واقعا أو يقع، وذلك لطهارة سريرته وكماله، لأن الكامل لا يرى النقص، وألحق بعض العلماء السّحاق باللواطة، وبدأ أيضا في قوم لوط، لأن رجالهم لما استغني بعضهم ببعض بعد أن ألفوا اللواطة تركوا نساءهم، فصارت المرأة منهم تأتي الأخرى. جاء عن حذيفة رضي الله عنه قال: إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وعن أبي عمرة قال: قلت لمحمد بن علي، عذب الله نساء قوم لوط بعمل رجالهم، فقال له: الله أعدل من ذلك، استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فعذبهن كما عذبهم جزاء وفاقا. وعن علي كرم الله وجهه قال على المنبر سلوني، فقال ابن الكواء هل تؤتى النساء في أعجازهن؟ فقال سفلت وسفّه الله بك، ألم تسمع قوله تعالى (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) هذا وإن العلماء صرحوا بأن حرمة اللواطة أشدّ من الزنى عقلا وطبعا وشرعا،

أما عقلا وطبعا فإن العقول السليمة والطبيعة الطاهرة لم تألفه لشدة قبحه فعلا ومحلا، وأما شرعا فلأن حرمة الزنا تزول بالتزويج والحد والشراء إذا كان المفعول به رقيقا ولا يمكن شيء من ذلك في اللواطة. وقول الإمام بعدم الحدّ تعليظا لأن الحد مطهر عنده، وبه قال أكثر العلماء، وعليه فيلقى الله من أجري عليه الحد خاليا مما عمله بخلاف ما لا حد فيه كاللواطة، فإنه يلقى الله فاعلها ملوثا بجرمه. هذا، وإن بعض السفهاء والفسقة خبيثي النفوس نجسي العقيدة كابن الوليد المذكور أخزاهم الله جميعا وأذلهم، يفتخرون بمثل هذه الفعلة الفظيعة ومنهم يفعلها انتقاما انتقم الله منه في الدنيا والآخرة، ومن المفعول بهم من اتخذها مهنة، أهانه الله، ومنهم من يقدم نفسه لبعض الخبثاء أمثالهم من الموظفين ومن هو واسطة لهم لعنهم الله وأزال نعمه عنهم ليوظفه أضافه الله لإخوانه قوم لوط، وفضحهم في الدنيا وعذبهم في الآخرة، ومنهم من ابتلي بها والعياذ بالله حتى أنهم ليعطون مالا لمن يفعل بهم وهم كثيرون في زماننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، لأنهم تقوا بنعمتك على معصيتك. قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» بن ثوبب بن مدين بن إبراهيم عليهما السلام، أي أرسله إلى قومه ولد مدين ومدين صارا اسما للقبيلة، وكان عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وكانوا كافرين ينقصون الكيل ويبخسون الميزان، فبادر بنصحهم وتحذيرهم عاقبة أمرهم «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ» موعظة «مِنْ رَبِّكُمْ» فاتعظوا بها، ولم تذكر لسيدنا شعيب معجزة في القرآن والقول بأنه لم يكن له معجزة غلط لأن الفاء في قوله جل قوله «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ» أتت لترتيب الأمر على مجيء البينة، والقول بأنها عاطفة على (اعْبُدُوا) بعيد لا يكاد يقوله عارف، وعدم ذكرها في القرآن لا يدل على عدم تخصيصه بشيء من المعجزات التي لا بد لكل نبي منها دلالة على صدق دعوته مما من شأنه أن يعجز البشر على مثله، ومن المعلوم أن ليس كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن العظيم وما من عموم إلا وقد خصص، وروي أنه لما كان موسى عليه السلام عنده

يرعى بغنمه حاربت عصاه التنين، وهذه العصا أعطاه إياها شعيب عليه السلام وهي عصا آدم، وقد وقعت على يد موسى سبع مرات وهو عند شعيب، وقد وعد موسى بأن يكون له الدرع من أولاد غنمه، فولدت كلها درعا، وهذه معجزة أيضا إذ لم يسبق أن أغناما كثيرة تلد كلها درعا على نمط واحد، ولم يكن موسى إذ ذاك نبيا لتكون هذه المعجزات له، فتكون كلها لشعيب. هذا، وبعد أن أهلك الله قومه أرسله إلى أصحاب الأيكة فأهلكهم الله بعذاب يوم الظلة كما سيأتي في الآية 189 من سورة الشعراء الآتية، ولم يبعث الله نبيا مرتين غيره فهذا من خصائصه أيضا وهي فضيلة عظيمة، وقيل إنه بعث مرة ثالثة إلى أصحاب الرّس المبينة في الآية 12 من سورة ق المارة، وإن إهلاك قومه مرتين لعدم اجابتهم دعوته بعد معجزة أيضا. مطلب في عمى شعيب عليه السلام: وهنا مسألة وهي أن العلماء نصّوا على أن الأنبياء سالمون من كل عيب ونقص حسي أو معنوي، ولا شك أن العمى نقص حسي، ومما هو شائع أن سيدنا شعيب كان أعمى، فإذا صح ذلك فيكون هذا طارئا عليه بعد النبوة كبلاء أيوب وعمى يعقوب عليهم السلام، إلا أن بلاء أيوب وعمى يعقوب زالا بحياتهما بنص القرآن لأنه من جملة ما ابتلى به أصفياءه ليختبرهم أي ليظهر للناس حالهم معه مع وجود البلاء وإلا فهو عالم بهم قبل، فلو كان عمى شعيب من هذا أقيل لذكره الله في القرآن كما ذكر بلاء غيره، وإذ لم يذكره فلا محل للقول بعماه، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 84 من سورة يوسف في ج 2 والآية 25 من سورة القصص الآتية، فظهر من هذا أنه لو كان أعمى حقيقة لما أغفله القرآن، وعليه فإن القول بعماه غير صحيح، قال تعالى «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ: أَشْياءَهُمْ» حقوقهم في الكيل والوزن والذرع وغيره أي لا تقصوها، أدوها كاملة وافية فإنه أبرأ الذمة. وأمرأ للقلب «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بأن تسلبوا أو تقتلوا أو تؤذوا المارة والقارّة من العباد «بَعْدَ إِصْلاحِها» ببعثة الرسل الذين أقاموا فيها العدل بين الناس وحاربوا الفساد والظلم، بل اسلكوا طريقهم أيها الناس في الإصلاح النافع

ذكره في الدارين «ذلِكُمْ» عدم البخس والنقص والإفساد «خَيْرٌ لَكُمْ» عند بارئكم وأنمى لأموالكم وأصلح لنفوسكم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 85» بالله وما أقوله لكم عنه «وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ» طريق عام أو خاص والباء هنا للملاصقة والملابسة، والأولى أن تكون بمعنى، على، لمناسبة فعل قعد، أي لا تقعدوا على مطلق طريق بدلالة التنوين «تُوعِدُونَ» من آمن بي وتهدّدونه لتعيدوه إلى الكفر الذي أنتم عليه وتمنعون الآخرين من الإيمان بالله وبما جئتكم به منه «وَتَصُدُّونَ» العامة والخاصة «عَنْ» سلوك «سَبِيلِ اللَّهِ» المستقيمة الحقة «مَنْ آمَنَ» به «وَتَبْغُونَها» أي طريق الله العادلة «عِوَجاً» مائلة عن الصواب، وتلتمسون الزيغ لها وتصفونها للناس بالاعوجاج وعدم الاستقامة لئلا يسلكونها، راجع الآية 45 المارة والآية الأولى من سورة الكهف في ج 2، قال ابن عباس كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى إليهم أن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم، وهكذا كانت قريش تفعل بمحمد صلّى الله عليه وسلم كما سيأتي في الآية 70 من سورة النمل الآتية أيضا «وَاذْكُرُوا» يا قوم توالي نعم الله عليكم وأفضاله «إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ» في العدد والعدد والقوة والمال والأولاد والعز لأن كثر المشدد يدل على التكثير، قالوا إن مدين بن ابراهيم تزوج بنت لوط فرمى في نسلها البركة وهذا مما يستوجب شكر الله، يا قوم فمالكم تكفرون به ولا تفكرون بعاقبة أمركم فتلتفتوا «وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 86» من الأمم السالفة حيث أهلكهم الله حينما كذبوا رسلهم «وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» في التوحيد والتصديق بالنبوة والمعاد واجتناب المناهي وامتثال الأوامر «وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا» بشيء من ذلك أو اختلفتم بينكم من أجل الإيمان بذلك وعدمه «فَاصْبِرُوا» انتظروا أيها المعاندون «حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا» وتروا حكمه كيف يعزّ المؤمن ويذل الكافر «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ 87» لأنه منزه عن الجور والحيف في حكمه وهو الحاكم الحقيقي الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ له، وما سمي الناس حكاما إلا مجازا «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» جوابا لنصحه وتهديده، والله إن لم ترتدع

«لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» ما دمت مناوئا لنا ولآلهتنا وعاداتنا «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» فتكون مثلنا تعمل ما نعمل وتترك ما أنت عليه، كلفوه عليه السلام اختيار أحد الأمرين مع أنه لم يكن على ملتهم قط حتى يكلفوه العودة إليها. ولكن الذين آمنوا به كانوا على ملتهم فخاطبوه تبعا لهم، وقال بعض المفسرين إنّ عاد بمعنى صار واستشهد بقول القائل: فإن لم تك الأيام تحسن مرة ... اليّ فقد عادت لهن ذنوب أي صارت وعليه يكون المعنى أو لتصيرنّ على ملتنا «قالَ» لهم شعيب عليه السلام على طريق الاستفهام الإنكاري «أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ 88» أي أتريدون أن نفعل أحد الأمرين كرها لأن الواو هنا للحال، وكأنهم قالوا له نعم كرها فقال عليه السلام «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما وعظناكم به «إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ» الضالة المهلكة «بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» واتضح لنا بطلانها وقد نظم نفسه في جملة المؤمنين مع أنه كان بريئا مما كانوا عليه لأن الكفر على الأنبياء محال، ولكنه تكلم بلسان قومه المؤمنين مجريا الكلام على حكم التغليب «وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها» وهي ملة الكفر ونترك الحق الذي نحن عليه «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» خذلاننا ومنعنا من الطاقة القدسية، فحينئذ يمضي فينا قضاؤه وقدره تنفيذا لسابق علمه، وهذا القول من شعيب على لسان قومه المؤمنين أيضا الذين لا يقدرون أن يردوا عليهم لضعفهم وهو من قبيل الاستسلام لمشيئة الله، لأن الأنبياء والكاملين دائما يخافون العاقبة وانقلاب الأمر لعلمهم ان الإله لا يقيد ولا يسأل عما يفعل، فإن العبد كلما ازداد قربا من ربه ازداد خوفا منه ومعرفة بعظمته. قال الخليل عليه السلام «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» الآية 35 من سورة ابراهيم في ج 2 وكان محمد صلّى الله عليه وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ومن المعلوم بداهة ان ابراهيم يجتنب الأصنام وان محمدا ثابت قلبه على دين ربه، وعليه يكون معنى الاستثناء: إلا أن يكون قد سبق في علمك ومشيئتك أن نعود فيها. يدل على هذا قوله «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ت (25)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 91 إلى 100]

بما كان قبل أن يكون وما سيكون قبل تكوينه. ونظير هذا قول إبراهيم في الآية 80 من سورة الأنعام في ج 2 لأنه لما ردّ الأمر الى المشيئة وهي غيب عليه مجد الله بالانفراد بعلم الغيب، وكذلك شعيب لما رد المشيئة الى الله مجده بقوله وسع إلخ وقال «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» في أمورنا كلها فقد أظهر عجزه لله واعتماده عليه وحده وأعرض عن المفاوضة مع الكافرين إذ رأى إصرارهم وأيس من ايمانهم، ثم قال هو والمؤمنون به «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا» الذين لم يؤمنوا بك وهم مكلفون أن يؤمنوا إيمانا «بِالْحَقِّ» الواجب عليهم اتباعه وسلوكه «وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ 89» الحاكمين، وفتح هنا بمعنى حكم وقضى بلغة اليمن وفرقة من حمير ومراد قال قائلهم: ألا أبلغ بني عصم رسولا ... فإني عن فتح حكم غنيّ أي غني عن قاضيهم وإن اهل عمان يسمون القاضي فاتحا، ويؤذن قوله عليه السلام بانه ترك الأسباب الى مسبها واقبل الى ربه بمن معه «وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» لبعضهم «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً» وتركتم دين آبائكم الذي عليه أسلافكم من قبل «إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ 90» مغبونون لخلافكم اوائلكم وحرمانكم من فوائد البخس والتطفيف الذي ينهاكم عنه فلما أظهر الله للناس إصرارهم على الكفر والمعاصي أهلكهم «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ 91» تقدم تفسيره آنفا في الآية 78 المارة قال تعالى «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا» أي ذهبوا وكأنهم لم يوجدوا في الدنيا دهرا طويلا برغادة عيش وهذا معنى غنى وضده الفقر قال حاتم.. غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلا سقاناه بكأسهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ 92» أنفسهم ونشبهم في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة «فَتَوَلَّى» شعيب «عَنْهُمْ» أي المهلكين «وَقالَ» آسفا على عدم إيمانهم ومبيّنا تقصيرهم وعدم تقصيره بإرشادهم «يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى» أحزن وأتوجع «عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ 93» أي

لا يجب على ذلك لأني لم آل جهدا في نصحهم، وانما قال هذا لأنه كان يتوقع منهم الإيمان وكانوا كثيرين لذلك أحس بالحزن عليهم واشتد به الأمر حتى قال ما قال وعزّى نفسه بأنهم هم الذين اهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر وعدم التفاتهم الى نصحه وقد تقدم إليهم بالمعذرة وهكذا عاقبة كل أمة لم تؤمن برسولها وهو شأن صغار العقول الذين يقال فيهم: إذا الأحوال دبّرها شباب ... فإن مصيرها صاح الرزايا متى تصل العطاش الى ارتواء ... إذا استقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا وانّ ترفّع الوضعاء يوما ... على الرفعاء من بعض البلايا إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا مطلب قصه سيدنا شعيب عليه السلام: هذا ما قصه الله علينا في أمر شعيب وقومه وكيفية إهلاكهم، اما ما ذكره القصاص فخلاصته أنه عليه السلام أرسله الله الى اصحاب الأيكة فلم يؤمنوا فأرسل عليهم حرا شديدا أخذ بانفاسهم وحبس الريح عليهم سبعة أيام ولم يجدوا ما يقيهم منه حيث لا واقي من أمر الله فهربوا إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة وهي الظلة المذكورة في الآية 189 من سورة الشعراء الآية، فاجتمعوا تحتها كلهم فالهبها الله نارا عليهم ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا جميعا، ثم أرسله إلى أهل مدين الذين كان ملوكهم أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وكان ملكهم حين إهلاك الظلة، كلمن، فلما دعاهم الى الإيمان ولم يؤمنوا أيضا أرسل عليهم جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة أخذتهم الرجفة من هولها فأهلكوا جميعا كما جاء في الآية 37 من سورة العنكبوت ج 2 وقالوا ان كلمن رثته بنته عند نزول العذاب بهم بقولها: كلمن قد هدّد كن ... هلكه وسط المحلة سيد القوم أتاه ... الحتف نار تحت ظلة جعلت نارا عليهم ... دارهم كالمضمحلة

وليس هذا مما يعول عليه، والأحرى عدم صحته لأن العذاب نزل دفعة واحدة فمتى تمكنت من إنشاء هذه الأبيات، وعلى القول بأنها كانت مع المسلمين، فإن أباها لم يهلك بالظّلة لأن أصحاب الظلة أهل الأيكة الذي ذكرهم في الآية 189 من سورة الشعراء وأبوها هلك بالصيحة مع قومه أهل مدين، وهذه الزيادة أسقطت اعتبار صحة الأبيات فيها على فرض أنها مسلمة لم تهلك، وهكذا الأخباريون أحيانا يهرفون بما لا يعرفون، ولذلك لا يوقن بنقلهم قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ» تشير هذه الجملة بالإجمال إلى سائر الأمم وأحوالها مع أنبيائها وفيها تخويف لقريش وتحذير من أن تكون عاقبتهم الإهلاك إن لم يؤمنوا كسائر الأمم الكافرة، وفيها حذف وإضمار أي فكذبوه «إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ» الفقر ودواعيه «وَالضَّرَّاءِ» المرض ولوازمه «لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 94» إلى ربهم فيرجعون عن كفرهم فيؤمنوا فيقبلهم ويعفو عنهم، وفي هذه الجملة زجر لكافة الكفرة بأن يقلعوا عما هم عليه وإلا فمصيرهم التدمير. وتعريف لحضرة الرسول بأحوال الأنبياء مع أممهم وسنة الله فيهم تسلية له ليهون عليه ما يلاقيه من قومه من الأذى والتكذيب «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ» أي بدل البلاء والمحنة والشدة التي كانوا عليها بالسعة والصحة والرخاء مما يستدعي الإيمان بنا والانقياد إلى طاعتنا شكرا لنعمنا عليهم بدفع السيء عنهم وجلب الحسن لهم «حَتَّى عَفَوْا» كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وعفى تأتي بمعنى زاد قال تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الآية 229 من البقرة في ج 3 وبمعنى كثر ونمى كما هاهنا، أما ما جاء في الحديث أعفوا اللحى واحفوا الشارب، بمعنى اتركوا اللحى لا تحلقوها وليس المراد لا تقصوا منها شيئا إذ يجوز أخذ ما زاد منها على القبضة والمراد بإحفاء الشارب الأخذ منه أيضا بحيث تظهر حواف الشفة، وقد غلط من فسّره بالحلق، لأن الرسول لم يفعله ولأنه مثلة والشريعة جميلة مجملة لا تأمر بما هو مثلة، ولهذا البحث صلة في الآية 187 من هذه السورة. أما ما فسره أبو مسلم بأن المراد من عفوا اعرضوا عن الشكر، فليس بيانا للمعنى اللغوي بل أخذا من معنى الآية وليس بشيء

«وَقالُوا» لما غفلوا عن استدراجنا إياهم ولم يعلموا كيفية إملائنا للظالم وأخذه على غرّة، واننا تارة نأخذ العاصين بالشدّة وطورا بالرخاء، وظنوا أن عادة الدهر هكذا مرة سيئا وأخرى حسنا، وأن الشدة لم تكن عقوبة، قال بعضهم لبعض اثبتوا على ما أنتم عليه كما ثبت آباؤكم من قبل إذ «قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» مثلنا فصبروا ولم يغيروا دينهم بسبب ما أصابهم، ولما أظهروا ما انطوت عليه سرائرهم إثر إنعامنا عليهم ولم يصغوا لنصح رسلهم أوقعنا بهم ما هدّدوا به «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 65» بشيء من المخاوف لأنهم كانوا في مأمن من العذاب بزعمهم ولم يخطر مكروه ببالهم قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا» بالله ورسله وعملوا ما أمروا به وانتهوا عما نهوا عنه «وَاتَّقَوْا» الكفر والإفساد في الأرض «لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ» من رياح لينة وغيث نافع «وَالْأَرْضِ» من نبات وثمر ولصببنا عليهم الخيرات من كل جهة «وَلكِنْ كَذَّبُوا» آياتنا ورسلنا «فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 96» من الأعمال الخبيثة وعاقبناهم بأنواع العذاب «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى» كفار مكة وأضرابهم فيشمل كل أهل قرية كذبت الرسل وأنكرت ما جاءتهم به «أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا» عذابنا «بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ 97» أي لا يأمنوا وقوع العذاب بهم على غرة وغفلة «أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ 98» حالة كونهم لاهين عما يراد بهم خائضين بالكفر معرضين عن الإيمان، وفي هاتين الآيتين تهديد شديد وزجر ووعيد لكل من هذا شأنهم «أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ» استدراجه إياهم بالنعم وأخذه لهم على بغتة ليلا أو نهارا، وأنهم متى ما أمنوا مكر الله هلكوا «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ 99» أنفسهم وأهليهم وأموالهم في الدنيا والسعادة الدائمة في الأخرى، لأن الله تعالى إذا أسدى نعمه على عبده وجب عليه شكرها فإذا لم يفعل كان كافرا لها جاحدا المنعم بها، وحينئذ عليه أن لا يظن أنها نعمة حقيقية لخيره بل نقمة محضة لشره، قالت ابنة الربيع بن هيثم: يا أبت ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال يا بنتاه إن أباك يخاف البيات، أراد الآية المارة، رحمه الله

[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 إلى 110]

رحمة واسعة، فيجب على كل عاقل أن يخاف هذا، لأن الموت يأتي بغتة والقيامة كذلك، فإذا حلّ الأجل لا يستطيع القائم القعود ولا القاعد القيام، ولهذا حث الشارع على الوصية، فلا ينبغي له أن ينام إلا ووصيته تحت رأسه، لئلا يفاجئه الموت فلا يتمكن من بيان ماله وما عليه، وما يريد أن يخصّ منه لأرحامه ولوجوه البر فيندم من حيث لا ينفعه الندم قال تعالى «أَوَلَمْ يَهْدِ» يتبين من أحوال الأمم السابقة «لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ» إهلاك «أَهْلِها» بنوع من أنواع العذاب الذي قصصناه عليك يا أكمل الرسل بأنا «لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ» أخذناهم «بِذُنُوبِهِمْ» كما أخذنا من قبلهم «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلا نتركها تعي منافع الإيمان ونهملها وشأنها حتى تختار الكفر والشرك كما فعلنا بمن قبلهم من الأمم الباغية وإذا ختمنا على قلوبهم منعناها من قبول الإيمان «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ 100» المواعظ الحسنة سماع قبول، أي لا يقبلونها لأنا لا نريد إيمانهم لخبث طويتهم وإصرارهم على الكفر قال تعالى «تِلْكَ الْقُرى» التي بينا لأهلها طريقي الخير والشر كقوم نوح وعاد وصالح وهود ولوط وشعيب الذين ختمنا على قلوبهم لعلمنا بخبثها فلم ندعها تقبل نصح رسلهم وأهلكناهم ببغيهم «نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا محمد «مِنْ أَنْبائِها» أخبار أهلها وأمر رسلهم معهم لتعلم ماهية مقاومتهم للرسل وعاقبة أمرهم معهم وتتيقن أنا ناصروك على قومك كما نصرناهم، ومهلكو من لم يؤمن بك كما أهلكنا من لم يؤمن بهم «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» مثلما جئنهم بالمعجزات «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» بعد رؤية ما أظهروه لهم من المعجزات «بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مجيء الرسل إليهم ورؤية آياتهم، بل استمروا على كفرهم وأصروا على عنادهم، وفاجأوا رسلهم بالتكذيب، ولم يلتفتوا إلى معجزاتهم، فكانت حالتهم بعد مجيء الرسل كحالتهم قبلها كأن لم يبعث إليهم أحد ولم يؤمروا ولم ينهوا وهذه الآية قريبة في المعنى من قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 28 من سورة الأنعام في ج 2، أي لو أحييناهم بعد معاينة العذاب لم يؤمنوا «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ 101» الذين

سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون من قومك ولو جاءتهم كل آية وأنهم يختارون الكفر عنادا «و» من جملة أخلاقهم الذميمة وخصالهم المستهجنة نقض العهد والميثاق لأنا «ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ» أي الأمم الخالية «مِنْ عَهْدٍ» أوفوا به لنا في عالم الذر، كما أنهم لم يوفوا بعهدهم لرسلهم، لأنهم كلما عاهدوهم على الإيمان نقضوا، فلا وفاء لهم البتة. مطلب في تفاوت حروف الجرّ.. وألقاب الملوك: وجيء، بمن، هنا للتأكيد والإحكام كما نوهنا به في الآية 80 المارة ولا يعبّر عن مثل هذا بسيف خطيب أن زائدة لأنه قول زائد، إذ لا نزاع بأن قولك ما جاءني من أحد أبلغ من قولك ما جاءني أحد، وعليه يكون وجودها له معنى بليغ في النفوس والأسماع لا يكون بغيرها، وبني كلام الله على البلاغة لأنها من معجزاته وانظر لهذا الجناس التام المماثل بين قوله وما وجدنا وبين قوله «وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ 201» خارجين عن طاعتنا ناكثين ميثاقنا الذي أخذناه عليهم حين أخرجنا ذراريهم من ظهور أبيهم آدم عليه السلام المبين في الآية 170 الآتية، قال ابن عباس إنما أهلك الله أهل القرى لأنهم لم يحفظوا ما وصاهم به، وإن في صدر هذه الآية مخففة من الثقيلة وخبرها ضمير الشأن واللام، في لفاسقين اللام الفارقة بين أن النافية والمخففة حيث أوجبوا وجود اللام بعد أن المخففة، لئلا تلتبس بالنافية التي لا يأتي اللام بعدها، والمعنى أنه أي الحال والشان وجدنا أكثرهم فاسقين راجع الآية 45 المرة، وقال بعض المفسرين إنّ إن بمعنى ما واللام بمعنى إلّا، أي ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين وهو وجيه وفيه من البلاغة ما لا يوجد في التفسير الأول، وسياق صدر هذه الآية بواتي المعنى إلا أن مجيء اللام بمعنى إلّا شاذّ، لهذا قدمنا الأول مع اختيارنا للثاني لولا ذلك المانع، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ» «مُوسى» بن عمران بآياتنا التسع الآتية بعد في هذه السورة «إِلى فِرْعَوْنَ» الوليد بن مصعب بن الريان ملك مصر المبالغ في الكبرياء والجبروت والإفراط حتى ادعى الإلهية وكلمة فرعون علم لكل من يملك القبط، كما أن النجاشي لمن يملك الحبشة

وقيصر للروم، وخاقان للترك، وكسرى للفرس، والخليفة للمسلمين، والعزيز لمصر، وحمير لتبّع، وحمى للهند، وجالوت للبربر، ونمرود للصابئة، ومقوقس للاسكندرية «وَمَلَائِهِ» خص أشراف قومه بالذكر لأنهم إذا آمنوا آمن أتباعهم ولأن أتباعهم يشقون بعدم إيمانهم ويقتلون بعدم طاعتهم ويهانون لأجلهم «فَظَلَمُوا بِها» كفروا وجحدوا وأجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 12 من لقمان في ج 2، «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 103» بالأرض حيث أمرهم إلى الهلاك، ثم شرع يبين له ما وقع لموسى مع قومه ليهون عليه ما يلاقيه من قومه بقوله جلّ قوله «وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 104» إليك وإلى قومك «حقيق» جدير فمن «عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» لأني رسوله والرسول لا يقول إلا الذي أرسل به ومن شأن كل رسول أن يكون أمينا على ما أرسل به وأن يؤديه كما أمر به إذا كان من مثله لمثله فكيف إذا كان من عند الله فهو حتما لا يتصور فيه إلا الحق والصدق. وقرأ نافع عليّ بالتشديد وعليها يرتفع الجار والمجرور بالابتداء ويكون خبره أن لا أقول. وقرأ عبد الله (حقيق بأن لا أقول) على تقدير حرف الجر وهو على أو الباء فيكون التقدير (أنا حقيق بأن لا أقول) فتكون على بمعنى الياء كما كانت الباء بمعنى على في، قوله تعالى: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) الآية 85 المارة. ومن المعلوم أن حروف الجر تخلف بعضها أي تأتي من بمعنى الباء، والياء بمعنى على، وعلى بمعنى في وهكذا وقرأ أبي (بأن لا أقول) والأولى فيها وجوه 1- أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير: كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا ... قوادم حرب لا تلين ولا تمري وتلحق خيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمرى أي وتشقى الضياطرة بالرماح والضياطرة الرجال العظام فتكون كقراءة نافع. 2- تكون على حد ان ما لزمك فقد لزمته أي فلما كان قول الحق حقيق عليه

كان هو حقيقا على قول الحق لإزماله 3- أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هجني بمعنى ذكرني. 4 وهو الأوجه الأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لاقتضاء المقام، لا سيما وقد روي أن فرعون قال له إني رسول من رب العالمين فقال له موسى أنا حقيق على قول الحق واجب علي أن أقوله ولا يرضى الحق إلا بمثلي قال تعالى: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ» حجة واضحة «مِنْ رَبِّكُمْ» أضاف الاسم الجليل إليهم مع عدم اعترافهم به لتأكيد وجوب الإيمان، وإيذانا بأن ما يزعمونه من الألوهية باطل «فَأَرْسِلْ» يا فرعون «مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ 105» يعقوب عليه السلام لأنهم سكنوا مصر زمن يوسف عليه السلام، الذين خذلتهم بقهرك وتعمدت إذلالهم بظلمك وقصدت احتقارهم بكبريائك فدعهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة وطن آبائهم وخل سبيلهم من الرق بمقتضى أمر الحق وإلا سينزل بك وبقومك ما لم يكن بالحسبان كما وعدني ربي، وإنما سلطه الله عليهم بعد أن كانوا ملوكا قادة حكاما بسبب اختلافهم ونبذهم دين آبائهم، أي خل عنهم وأطلقهم وسلمني إياهم لأني من ولد إسرائيل وقد أرسلني الله لأخلصهم منك وأرشدك وإياهم إلى الايمان به وحده. مطلب كيفية معجزة موسى وأنواعها: قالَ فرعون يا موسى «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ» تدل على رسالتك وصدقك «فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 106» بقولك لتثبت دعواك عندنا ونتبعك «فَأَلْقى عَصاهُ» بين أيديهم «فَإِذا هِيَ» بلا معالجة واستعمال أسباب وأدوات واعية للتبدل كما يفعله السحرة «ثُعْبانٌ مُبِينٌ 107» ذكر واضح من الحيات الكبار، واعلم أن لا معارضة بين هذه الآية والآية 31 من القصص الآتية لأنها بمجرد إلقائها صارت في عظم الجثة كالثعبان في الجسم، لهذا وصفها هنا به، وفي صفه الحركة كانت كالحية الصغيرة لذلك وصفها هناك بالجان، أي الحية الصغيرة، قال ابن عباس والسديّ لما ألقى موسى عصاه وصارت حية عظيمة خضراء شقراء فاغرة فاها، ما بين لحييها ثمانون ذراعا، وقامت على ذنبها مرتفعة عن الأرض بقدر

ميل، واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، فتوجهت نحو فرعون لتأخذه، فوثب عن سريره هاربا، وأحدث، وانهزم الناس المجتمعون، وقتل بعضهم بعضا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها، وأرسل معك بني إسرائيل وأومن بك، فأخذها فعادت عصا كما كانت دون عمل أي شيء، ثم نكث عهده ولم يؤمن وطلب منه آية أخرى، فقام «وَنَزَعَ يَدَهُ» أخرجها من تحت إبطه «فَإِذا هِيَ» دون توسط شيء ما من وضع عقاقير أو غيرها أيضا ظهرت «بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ 108» بباضا عجيبا خارقا للعادة لها شعاع يفوق نور الشمس، ولما كان البياض المفرط عيبا في الجسد لأنه من نوع البرص، قال تعالى في الآية 23 من سورة طه (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي برص، وهذا مما يعجز عنه البشر أيضا ولذلك سميت معجزة وهي على قسمين 1- قسم على نوع قدرة البشر ولكنهم عجزوا عنه لتدل على أنها من فعل الله وعلى صدق النبي كتمني الموت في قوله تعالى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 94 من البقرة في ج 3، فلما صرفوا عن تمنيه مع قدرتهم عليه علم أنه من عند الله ودل على صدق الرسول. 2- القسم الثاني ما هو خارج عن قدرة البشر كاحياء الموتى وقلب العصا حية حقيقية لا بتمويه السحرة، وإخراج الناقة من الصخرة وكلام الحجر والشجر والحيوان، ونبع الماء من بين الأصابع، وتكثير القليل واحالة الماء صخرا والمشي عليه كما وقع لسيدنا عيسى ومحمد وموسى وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ومما هو خارق للعادة ويعجز البشر عن مثلها، فإذا أتى النبي بشيء من هذه علم على أنه من عند الله وأن الله أظهرها على يده لتكون برهانا على صدق ما يخبر به عن ربه، راجع أول سورة القمر المارة تجد تفصيل بحث المعجزات. هذا وقد ثبت بالحجة والعقل أن الله تعالى قادر على خلق الأشياء وإبداعها من غير أصل سابق وإخراجها من العدم، وأنه قادر على قلب الأعيان فبالأحرى أن يكون قادرا على خلق المعرفة والإيمان في قلوب عباده من غير واسطة، ولكنه جلت قدرته أرسل إليهم رسلا ليعرفهم معالم دينه وتكليفاته وجعلهم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 111 إلى 120]

واسطة بينه وبينهم ليبلغوهم كلامه ويعرفوهم أحكام دينه، وقد تكون الواسطة من غير البشر كالملائكة مع الأنبياء، ومن جنس البشر كالأنبياء مع الأمم، ولا مانع من هذا عقلا، والمراد بالعقل هو السليم الذي يصدر عنه الفكر السامي والتدبير النافع، وإلا فلا يسمى عقلا بل طيشا، كما أن النفس لا تكون طاهرة، إلا إذا كان لها مبدأ شريف تحلى بمكارم الأخلاق ناشيء عن قلب طيب ولا يكون القلب طيبا إلا إذا كان له حب طاهر في الأمور النافعة وإلا فهو رجس، فإذا جاز هذا في العقل، وقد جاءت الرسل بمعجزات دلت على صدقهم وجب تصديقهم في جميع ما يأتون به، لأن المعجزة مع التحدي من النبي قائمة مقام قول الله عز وجل، صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه، وتختلف عن الكرامة بعدم دعوى التحدي وتخالف السحر بعدم الدوام، قال تعالى «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» وهم أهل الحل والعقد من عماله بعد رؤية هاتين الآيتين «إِنَّ هذا» الساحر موسى «لَساحِرٌ عَلِيمٌ 109» ماهر في السحر لأنه يأخذ بأعين الناس ويخيل لهم قلب العصى حية والسمرة بياضا ناصعا، وكان عليه السلام آدم اللون أسمر وقد أراهم يده السمراء بيضاء تتوقد نورا وكان في ذلك الزمن السحر غالب على كل ما يدعى من الفضل كما كان الطب في زمن عيسى والبلاغة في زمن محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يعارض هذه الآية ما جاء في سورة الشعراء الآتية انها من قول فرعون لملائه لأن الكلام متبادل بينهم فتارة هو يقول لملائه كما في الآية 34 منها وأخرى هم يقولون له كما في هذه الآية لما بهرهم مما رآوا، وهذا من باب اتحاد الرأي وتوارد الخاطر في الكلام، ولإعلام العامة أن هذا سحر ليس كما يقول موسى معجزة «يُرِيدُ» هذا الساحر موسى «أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» أيها القبط وطن آبائكم «فَماذا تَأْمُرُونَ 110» به من الرأي، أشيروا عليّ بما يجب أن أعمله لحفظ كيانكم وبلادكم وعلو كلمتكم لأن هذا يريد سلب ملككم ونعمتكم ويستعيدكم كما استعبدنا قومه «قالُوا» لما رأوا فرعون هم بقتله وتوقف على أخذ رأيهم «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» هرون، لأنه كان معه إلا أنه لم يتول شيئا ولم يتكلم لأن الله أرسله مصدقا لأخيه وعونا له ونائبا عنه بغيابه

أي أخرهما لا تقتلهما ليتبين حالهما للناس أنهما ساحران، وقال بعض المفسرين أرادوا حبسهما، ولذلك قال صاحب روح البيان إنه لم يكن قادرا على حبسهما لما رأى من المعجزتين، وهو وجيه، ولكن يرده ما جاء في سورة الشعراء بعد نظير هذه الآية في الآية 35 منها (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وما قيل إن آية الشعراء هذه نزلت قبل آية الأعراف هذه غير سديد لأن الشعراء لم تنزل بعد وأن الطواسيم نزلت متوالية، أما إذا أراد أنه في علم الله غير قادر على حبسهما فمسلم والواقع يؤيده إذ لم يثبت أنه حبسهما، ثم قالوا له «وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ 115» من شرطتك يجمعون لك السحرة من كافة المدن، واشتقاق المدينة من مدن بالمكان إذا أقام به وأمرهم بحزم وعزم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ 112» بالسحر ماهر بفتونه ليتبارون معه، فإن كان ما عنده من السحر غلبوه وظهروا عليه وبان للناس أنه وأخوه ساحران، فإذا قتلتهما بعد ذلك فلا لوم عليك لأنهما مفسدان والمفسد يجوز قتله، أما قتلهما الآن قبل أن يظهر كذبهما للعامة ففيه ما فيه من التعدي والظلم وسوء السمعة على الملك ونحن لا نريد أن تسام بالظلم، وان تقتل دون أن يتحقق استحقاق القتل لمن تقتله. وجاء في الآية 27 من الشعراء سحّار بالمبالغة وهو الذي يدوم سحره ويعلّم الناس السحر، والساحر من يكون سحره منقطعا وقتا دون وقت، قال ابن عباس والسدي وابن اسحق: لما رأى فرعون من سلطان الله وقدرته في العصا واليد قال لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحرا فبعث غلمانا من بني إسرائيل إلى مدينة الغوصاء ليعلموهم السحر، وضرب لموسى موعدا للمباراة بعد أن تعلموا جاءوا ومعلموهم، فقال فرعون للمعلم: ما صنعته؟ قال علمتهم سحرا لا يطيقه أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فلا طاقة لهم به ثم بعث من مماليكه حسبما أشار عليه ملؤه، فلم يترك ساحرا إلا أتى به، قال مقاتل، جمع اثنين من القبط وسبعين من بني إسرائيل، ثم قال الملأ لفرعون إن غلبوا موسى علمنا والناس أجمع أنه ساحر وإذ ذاك إذا قتلتهما فلا لوم عليك لما في بقائهما من الفساد والإفساد، وإن غلبهم صدقناه واتبعناه، فلم يرد على كلامهم لأن الشق الأخير منه لم يعجبه لأنه

بفطنته علم أن ما جاء به موسى من عند الله وفي تصديقه ذهاب ملكه، ولولا خشيته ذهاب الملك لآمن به، لأن ما هو عليه من حذق ومهارة لا يخفى عليه السحر من غيره. مطلب ما وقع بين موسى والسحرة: «وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا» يا فرعون أ «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» عندكم تعطونا إياه «إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ 113» لموسى وأخيه ولا يقال هنا إن حق الكلام أن يقال (فقالوا) لأن الكلام فيه حذف وإيجاز وهو من محسنات البديع في الكلام والتقدير كأن سائلا سئل ما قالوا إذ جاءوا إليه فأجيب بقوله قالوا ومثله كثير في القرآن وهذه جرأة من القائل راجع الآية 67 من يونس في ج 2 وما ترشدك إليه «قال» فرعون بحضور ملأه لأن القول الفصل له وإنما لملائه إبداء الرأي فقط، وهكذا يكون الوزراء مع الملوك راجع الآية 32 من سورة النمل الآتية «نَعَمْ» إن لكم عندنا لأجرا وتكرمة «وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ 114» عندنا رفعة ومكانة إذا غلبتم موسى، وأخذهم لأرض الميعاد وجاء موسى وأخوه وتفاوض مع السحرة وأبدى لهم نصحه، وأخبرهم أن ما جاء به ليس بسحر، بل هو من عند الله، وأكد لهم ذلك، وأرشدهم للكف عما جاءوا به، فلم ينجع بهم لما يؤملونه من فرعون وهم لم يروا بعد من موسى شيئا «قالُوا» كف عنا ما تقول «يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» عصاك أو غيرها مما عندك من أنواع السحر «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ 115» ما عندنا من أصناف السحر، وإما هنا بكسر الهمزة لأنها للتخيير وهكذا تكون مكسورة في الشرط والشك أيضا، ومفتوحة في الأمر والنهي والخبر، وإنما قدموه وجعلوا له الخيار في التقديم للإلقاء تأدبا معه لما علموا منه أثناء المفاوضة أنه على علم عظيم ومناظرة مفحمة، حتى أنهم لولا الخوف من فرعون لما ناظروه إذ حصل لهم شبه اليقين أنه ليس بساحر ولذلك منّ الله عليهم بالإيمان والهداية، مكافأة لاحترامهم نبيه موسى وتأدبهم معه، وإنما أمرهم أن يتقدموا عليه بالإلقاء بإلهام من الله لظهور معجزته وبيان غلبه «قالَ أَلْقُوا» ما عندكم إن كنتم

ترون أنكم محقون في مباراتي وان ما تفعلونه حق لا تمويه «فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي وغيرها، وتمثلت للناس بغير ما هي عليه، إذ «سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ» وحرّفوها عن إدراك الحقيقة بالتمويه والتخييل، ولذلك لم يقل جل قوله سحروا الناس لأن السحر صرف العين عن إدراك الشيء وقلبه إلى صورة أخرى بأعينهم، والمعجزة قلب الأعيان حقيقة وبقاء الجوارح على حالها «وَاسْتَرْهَبُوهُمْ» أي طلبوا بذلك التخيل إيقاع الرهبة والخوف في قلوب الناس من شدة ما أروهم من سحرهم الموصوف بقوله تعالى «وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ 116» بأعين الناس إذ أروهم الحبال حيات عظيمة والأخشاب جبالا شامخة وقد تراكمت الحيات بعضها على بعض وملأت الوادي وتشامخت الجبال حتى لا يكاد يدركها الطرف فخاف الناس وفزعوا لهول ما رأوا وذلك لأنهم طلو الجبال بالزئبق وحشوا الأخشاب به أيضا، قبل طلوع الشمس، حتى رآها الناس أنها حبال وأخشاب، وصاروا يدمدمون عليها حتى طلعت الشمس وارتفعت، فلما وصلت حرارتها إلى العصي التوى بعضها على بعض، وارتفعت هي والأخشاب، وكذلك الأحبال بتأثير الزئبق وتطاولت وكلما ازدادت حرارة الشمس ازدادت حركاتها وعظمها، فخيّل للناس أنها صارت حيات وجبالا حقيقية، قالوا وكانت الأرض التي وقعت فيها المباراة ميلا بميل، فلما امتلأت بذلك ضاقت بالناس وتباعدوا فزعا مما رأوا، إذ غلب على ظنهم حقيقة ما رأوا من حركات العصي والأخشاب والأحبال وتعاظمها، وذلك قوله تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) الآية 94، وقوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الآية 65 من سورة طه الآتية، وإنما خاف عليه السلام أن يصدق الناس ما رأوه حقيقة ولهذا خاف ليس إلا لأنه بتعليم الله إياه علم أن ذلك سحر وهو موقن أنه يغلبهم لعلمه بحقيقة عملهم فخاف لفزع الناس واضطرابهم، وخوفهم أن يتفرقوا قبل أن يشاهدوا معجزته، وهو إنما أمر السحرة بالتقدم عليه ليرى الناس عظمة ما جاءوا به، ويكبروها، حتى إذا ألقى عصاه وأبطلت ما جاءوا به لأن الله جعل فيها قوة تلقف الزئبق من حبالهم وعصيهم وأخشابهم، قال تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 121 إلى 130]

الآية الآتية وهو الزئبق لا نفس العصي والأحبال والأخشاب بل ما طليت به وتعيدها إلى حالتها الأولى، فظهر للناس كذب السحرة وأن ما فعلوه لا حقيقة له ويعترفون بعظمة معجزة موسى وإكبار غلبه لهم، ولو أنه تقدم بالإلقاء لم يظهر أن الغلب له ولقال الناس أنهم لم يقدروا عليه فقط، فلم يظهر غلبه للعامة بمثل هذه الكيفية العظيمة الباهرة، قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ» فألقاها حالا «فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ 117» أي تبلع ما زوّروه بأعين الناس وخيّلوا لهم به قلبه عن حقيقته فعاد الحبل حبلا والعصى عصى والخشب خشبا كما كانت وتمثلت عصى موسى بالصورة المارة في الآية 107 فظهر حق موسى وبطل السحرة «فَوَقَعَ الْحَقُّ» من الله على يد رسوله «وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 118» من السحر، واتضح أمر السحرة بين الناس وظهر لهم كذبهم وتمويههم وتخييلهم وعجزهم عن مناواة موسى «فَغُلِبُوا هُنالِكَ» في ذلك المشهد العظيم وقهروا وخسئوا «وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ 119» أي فرعون وجماعته باندحار السحرة، وذلوا بأعين الناس لظهور عجزهم عن مقابلة موسى وأخيه، ولما عرف السحرة أن ما جاء به موسى ليس من عنده ولا هو من نوع السحر الذين هم أعلم بطرقه، وما هو إلا من عند الله سحبتهم العناية الإلهية والألطاف الربانية المقدرة لهم في علمه الأزلي على هذه الحادثة تابوا من كفرهم توبة نصوحا وآمنوا بموسى، قال تعالى «وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ 120» لله تعالى استغفروا من ذنوبهم بمقابلة رسوله الذي تحقق لديهم صدقه، إذ لو كان ما جاء به سحر لبقيت حبالهم وعصيهم وأخشابهم على حالها ولا يضرهم أن يأتي موسى بمثلها أو أعظم منها ولكان غاية ما في الأمر أن يقول الناس جاء كل من الفريقين بسحر عظيم ولهذا حلت الهداية قلوبهم عند ما عاينوا قدرة الله في عصي موسى الباهرة مما هو ليس في طوق البشر ثم «قالُوا» بأعلى صوتهم على مسمع من فرعون وملاءه والناس أجمعين «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ 121» ليعلم الناس كلهم حقيقة غلبة موسى واندحارهم، وأن موسى صادق وهم كاذبون وأنهم لم يخشوا فرعون ولا غيره بقول الحق، فقال لهم فرعون تعنوني قالوا لا وإنما

نعني غيرك لأنا أعلنا إيماننا بالله «رَبِّ مُوسى وَهارُونَ 122» زادوا هرون لئلا يتوهم أنه المقصود بذلك لأنه ربى موسى فأزالوا توهمه وأكدوا إليه إيمانهم بالله، وأن قصدهم برب موسى أنه هو الإله الذي لا رب غيره دون أي فزع وخوف «قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالإيمان وآمركم به «إِنَّ هذا» الذي صنعتموه ودبرتموه بينكم «لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ» أنتم وموسى «فِي الْمَدِينَةِ» قاعدة مصر والإسكندية كما قيل أن الحادثة كانت فيها قبل خروجكم للمناظرة وقد عملتم هذه الحيلة «لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» وهم القبط وتستولوا عليها أنتم وموسى وقومه، ولهذا لم تقدموا بما يكون فيه الغلب لنا عليه «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 123» عاقبة أمركم هذا، وما سأفعله بكم أنتم وموسى الذي أغواكم. ساق لهم هذا الوعيد والتهديد بطريق الإجمال للتهويل وهو من بديع الكلام، ثم عقبه بالتفسير تفصيلا فقال وعزتي «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس «ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ 124» أنتم وموسى وهرون، تشهيرا بكم وتنكيلا لأمثالكم. قال ابن عباس: أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل مخالفة هو فرعون «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ 125» عائدون إليه إذا فعلت ذلك بنا أو لم تفعله، وإنا لا نبالي بما تفعله بعد علمنا بأنا صائرون إلى الآخرة، وأن مردنا إلى الله، فلأن نأته مقتولين في سبيله أولى من أن نأتيه ميتين حتف أنفنا باقين على كفرنا. بارك الله فيهم فكأن قائلهم يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مضجعي ويقول أيضا: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد ويقول مهددا لفرعون: إلى ديان يوم العرض نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم ثم خاطبوه قائلين «وَما تَنْقِمُ مِنَّا» أي تكرهه وتطعن به علينا وتعيبنا

به وتنتقم منا بسبه ومالنا عندك ذنب فتعذبنا عليه «إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» على يد رسوله موسى وهذا مما نفتخر به لأنه أصل المحاسن كلها فافعل بنا ما بدا لك إذا كان هذا ذنبا على حد قوله في الآية 18 من سورة طه (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) وفي هذه الآية من أنواع البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، ثم انهم أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا إلى الله والتجئوا إليه وسألوه بقولهم «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على ما يوقعه بنا من التعذيب الدنيوي واغمرنا بالصبر وأفض علينا من عنايتك لنثبت على الإيمان بك «وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ 126» لك قائمين على دينك لا يؤثر بنا وعيد فرعون وتهديده بما يعدنا ليصرفنا عن دينك القويم. قال ابن عباس كانوا أول النهار سحرة كفرة وآخره شهداء وبررة، ولهذا قال الكلبي ان فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وقال غيره إنه لم يقدر عليهم لأن الله قال في الآية 35 من سورة القصص الآتية (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) وهو الصواب والله أعلم، وسيأتي لهذا البحث صلة عند تفسير هذه الآية إن شاء الله «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» لفرعون بعد أن عاينوا ما عاينوا وعرفوا ان بقي الحال على ما هو عليه ذهب ملكهم، كما أخبرهم فرعون قيل «أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ» بني إسرائيل على ما هم عليه وتركهم احياء، بعد أن تعظموا بما وقع في موسى فتذعهم على حالتهم هذه ولا تنتقم منهم وقد شاع بين الناس علو كلمة موسى على السحرة المنتخبين من قبلك بعد أن آمنوا به والتحقوا مع قومه بعد غلبهم لأنه إذا تركهم وشأنهم تقوى شوكتهم وتعلو كلمتهم، ويلتحق بهم غيرهم «لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» التي هي ملكك ويأمرون الناس بمخالفتك والخروج عليك وينبذون طاعتك فتدارك الأمر قبل الفوات. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل. وهذه الآية تشير إلى ما أشارت اليه آية القصص الأنفة الذكر من أنه لم يسلط على السحرة لأن الله لم يقدره أن يفعل بهم شيئا فضلا عن موسى وأخيه وأن الله ت (26)

تعالى لم يذكر لنا عن تنفيذ وعيده بهم شيئا «وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» فينبذ كما جميعا ويذر بالنصب عطفا على ليفسدوا أو نصب بجواب الاستفهام بعد فاء السببية أو واو المعية وعلى هذا قول الخطيئة: ألم أك جاركم ويكون ببني ... وبينكم المودة والإخاء قال ابن عباس: كانت لفرعون بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها، ولذلك صاغ لهم السامري عجلا لأنه من جنس معبودهم، ولذلك عكفوا عليه وانكبوا على عبادته دون ترو. وقال السدى: كان فرعون اتخذ أصناما لقومه يأمرهم بعبادتها ويقول لهم أنا ربكم الأعلى أي ربكم ورب هذه الأصنام راجع الآية 24 من سورة النازعات في ج 2 وهذا والمراد من قوله تعالى على لسان ملأ فرعون (يَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وقيل إنه كان يعبد ولا يعبد استدلالا بالآية 38 من سورة القصص الآتية وهي قوله تعالى: (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وكان دهريا ينكر الصانع. وقيل إنه عني بالآلهة الشمس والقمر، لأنه يعبدها وعلى كل فهو كافر ملعون جبار خبيث متعنت عات عنيد، ولذلك قال مجيبا لملأ «سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ» الذكور «وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» للخدمة كما كنا نفعل بها قبل ظهور موسى ثم جاهر بكبريائه فقال: «وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ 127» غالبون لم نتغير ولا يغرنا ما جاء به موسى وهم تحت أيدينا لا قدرة لهم على مقاومتنا إذ لا عدد لهم ولا قوة قصد المتهوّر الطائش، ان بني إسرائيل تعلم فعله السابق بهم من قتل الذكور وترك الإناث منذ حمل بموسى، وكيفية استرقاقهم قبل وذلك أنه لما رأى عجزه عن الانتقام من موسى بما أوقعه الله في قلبه من الهيبة له صار يندد بهم بذلك ففجر بنو إسرائيل خوفا من أن يفعل بهم ما ذكره، ففزعو إلى موسى وشكوا أمرهم إليه ليبين لهم المخلص منه «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ» عليه «وَاصْبِرُوا» على ما أنتم عليه، فإن الله مانعه منكم «وإِنَّ الْأَرْضَ ليست لفرعون وإنما هي «لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ» المحمود «لِلْمُتَّقِينَ 128» وأنتم منهم فيكون لكم النصر عليه والظفر بأرضه لا محالة وصا

يمنّيهم بهلاك فرعون وقومه ويطمعهم باستملاك أرضه تسلية لهم وتثبيتا لعزمهم «قالُوا» يا موسى «أُوذِينا» من قبل فرعون وقومه «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» أوذينا أيضا أي قبل ولادتك وبعدها فمتى يكون ما توعدنا به وذلك لأن قلوبهم مقطعة من أذى القبط قبلا وبوجود موسى خفت وطأتهم عليهم وبعد حادثة السحرة خافوا أن يوقع بهم ما هدّدهم به من استيناف الحالة الأولى قتل الذكور واسترقاق الإناث واستخدام الآخرين، وطالبوه إنجاز ما وعدهم به يظنون أن الأمر بيد موسى والذليل المحتقر أمثالهم، يظن أن العزيز مثل موسى قادر على كل شيء «قالَ» لهم موسى إن الأمر بيد الله ينجزه بالوقت المقدر له في علمه الأولى وليس بيدي كما تزعمون لأوقعه بهم حالا، فاصبروا يا قوم «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ» قبل أن يمكنه من إيقاع شيء فيكم «وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ» بدله ويجعلكم ملوكا على أرضه أمناء على عباده، وهذا توكيد لما سلّاهم به على أبلغ وجه وهو عنده واقع جزما لأنه من وعد الله الذي لا يخلف وعده، وعسى هنا للقطع وعبر بها تأدبا مع ربه ولهذا قال «فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 128» إذا خلفتم فيها أتحسنون الخلافة في عباده وأرضه أم لا، وهل تشكرون أم تكفرون بعد. وفي هذه الآية رمز للبشارة بتنفيذ ما وعدهم به، ولكنهم لضعف إيمانهم وصغر نفوسهم التي تربت على الذل لا يصدقون ويريدون الأمر فورا، ثم شرع تعالمت شرائعه في تفصيل مبادئ إيقاع الإهلاك في فرعون وقومه فأوحى إلى موسى أن يحدث قومه بما هو فاعل بهم، قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ» القبط خاصة لأنه منهم وأضاف إليه لفظ آل مع أنه خاص بالأشراف بمقابل أهل في غيرهم، لما له من الشرف الدنيوي بين قومه وان كان في نفس الأمر، خسيسا وإن الكلمات التعظيمية للملوك جارية حتى الآن سواء كان كتابيا أو وثنيا فضلا عن المسلم «بِالسِّنِينَ» جمع سنة، والمراد بها سني القحط والجدب ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم في دعائه على قريش: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. وفي رواية: سنينا كسنين يوسف، فالأول منون على لغة بن عامر وبنو تميم يقولون سنين بلا تنوين

[سورة الأعراف (7) : الآيات 131 إلى 140]

ويجرون إعرابها على النون بالحركات كحين عند من يعربها، وعليه فإن النون لا تخذف بالإضافة كما جاء أعلاه وعليه قول الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا واللغة المشهورة إعرابها بالحروف لأنها من ملحقات جمع المذكر السالم، وتقول العرب مستهم السنة إذا أخذهم الجوع، قال الأبو صيري: وأحيت السنة الشهباء دعوته ... حتى حكت غرة بالأعصر الدهم مطلب ما أوقع الله يفرعون من الآيات: وهذه أول آية أوقعها الله فيهم وفيها إعلام بأنه لم يمهل فرعون وقومه بعد أن صمّموا على تنفيذ خطتهم القديمة وهو أكرم من ذلك، والآية الثانية قوله «وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» من زروعهم وأشجارهم إذ أوقع عليها آفات أفسدتها قال قتادة السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات لأهل المدن «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 130» أن ذلك بسبب إصرارهم على الكفر وظلمهم لبني إسرائيل علهم يرجعون عما صمموا عليه، لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله فيلجأون إليه، قال تعالى حاكيا ما وقع منهم بقوله «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ» في خصب وسعة وصحة «قالُوا لَنا هذِهِ» استحقاقا ولم يردوها إلى الله ولم يروها منه «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب وضيق ومرض «يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ» من بني إسرائيل فيقولون ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم تشاؤهما بهم، وهذا دليل على أنهم لم يتعظوا ولم ينتبهوا بما صب عليهم من العذاب، أدخل جل شأنه على الحسنة لأن وقوعها كالكائن، ولأن جواب إذا يكون حقيقة غالبا، وإن على السيئة المنكرة لندرة وقوع جوابها إذ قد يكون شكا. قال سعيد بن جبير: عاش فرعون ستمائة وعشرين سنة ملك منها أربعمائة سنة لم ير فيها مكروها قط في بدنه ولا في ماله وملكه فلو جعل له وجع يوم أو حمى ليلة أو جوع ساعة لما ادعى الربوبية، قال تعالى ردا عليهم «أَلا» أداة تنبيه على أن شؤمهم ليس من موسى وأصحابه «إِنَّما طائِرُهُمْ»

شؤمهم «عِنْدَ اللَّهِ» وحده بسبب كفرهم، وأداة الحصر تشعر بذلك «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 131» كونه من عند الله لأنهم يضيفون الحوادث للأسباب الظاهرة لا إلى قضاء الله وقدره، وبما أن موسى يحذرهم وينذرهم مقت الله إن لم يطيعوه فيسندوا ما يصيبهم إليه، وتفيد الآية أن بعضهم يعلم حقيقة ذلك ومنهم فرعون ولكن لا يعملون بما يعلمون «وَقالُوا» القبط لموسى بعد انقشاع الآيتين المارتين «مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ» بيان لهما وسموها آية على طريق الاستهزاء تبعا لتسمية موسى سخرية به، ولو اعتقدوها آية لما قالوا «لِتَسْحَرَنا بِها» فتصرفنا عن ديننا بضروب سحرك وإنا إن فعلت ما فعلت «فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 132» لسحرك ولا مصدقين لأنه زائل، ومهما هذه اسم شرط على الصحيح في الأصل ومحلها رفع الابتداء، وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو كلاهما على اختلاف في ذلك، ويجوز أن تكون ظرفا قال ابن مالك إنه مسموع من العرب وأنشد: وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا على أنها هنا ظرف بمعنى متى خلافا لمن منع ذلك ولهذا استعملها المنطقيون بمعنى كلما وجعلوها سورا للكلية لإفادتها العموم. أما في الآية فليست ظرفا البتة وأصلها ما الجزائية ضمت إليها ما المزيدة المذكورة للجزاء ثم قلبت ألف ما الأولى هاء لعدم تكرار الحرفين المتجانسين لاستثقاله عندهم فصارت مهما وموضعها النصب بتأتنا، والضمير في به وبها يعودان للآية، وأنت الثاني باعتبار المعنى، فاغتاظ موسى عليه السلام واعترته الحدة، فدعا عليهم لأنهم فضلا عن أنهم لم يتعظوا بالآيات المتقدمة العصا واليد اللتين كسرت شوكتهم وأذلتهم، والقحط والنقص اللذين أوقعا فيهم ما أوقعاه رموه بالشؤم وأيأسوه من الإيمان بدلالة معنى مهما وأفادتها ذلك، فأجاب الله دعاءه بانزال عقاب آخر عليهم وهي الآية الثالثة وتكون الخامسة مع آيتي اليد والعصا بينه بقوله «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ» بأن فجرنا الأرض عيونا وأرسلنا السماء بالمياه الغزيرة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا الى تراقيهم قالوا ولم يدخل بيوت بني إسرائيل شيء منه، مع أنها مختلطة مع بيوتهم ودام ذلك سبعة أيام،

فمن جلس منهم غرق ومن بقي قائما نجا وبقي معذبا لا يقدر أن يستريح أو يتحرك من موضعه خشية الغرق، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك لئن كشف عنا هذا آمنا بك وأرسلنا معك بني إسرائيل، فدعا ربه فرفعه عنهم وأنبت لهم الكلأ والزرع، وضاعف لهم الثمر بصورة لم يروها قبل، فكلفهم الإيفاء بوعدهم فأبوا وقالوا ما كان ذاك عذابا وإنما هو نعمة، ونكثوا عهدهم وازداد طغيانهم، فدعا عليهم بقوله يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وطغى، وان قومه قد نكثوا العهد، رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة، فبعث عليهم عذابا سادسا بينه بقوله «وَالْجَرادَ» المعروف فأكل زرعهم وثمارهم وثيابهم وسقوف دورهم، ولم يدخل دور بني إسرائيل، فضجوا إلى موسى وفزعوا لشدة ما حل بهم وأعطوه العهود والمواثيق بأنه إذا كشف عنهم هذا الضر يؤمنون به ويرسلون معه بني إسرائيل، فدعا ربه فكشفه بعد أن دام سبعة أيام وقبل أن يقضي على البقية الباقية من مواشيهم، فلما كشف عنهم، قالوا بقي لدينا ما يكفينا ما نحن بتاركي ديننا من أجلك ونكثوا عهودهم، فدعا عليهم فأرسل الله عذابا سابعا ذكره بقوله «وَالْقُمَّلَ» القمل المعروف وقيل هو الدّبى أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها وقيل البراغيث أو كبار القراد أو السوس الذي يخرج من الحنطة والحشمان نوع من الجراد أو صغار الذر، وكان الحسن يقرأها بفتح القاف وسكون الميم بما يدل على أنه القمل، وبه قال عطاء الخراساني، فملأ طعامهم وشرابهم وآلمهم بقرحة وأكل منهم شعور رؤسهم وأهدابهم وحواجبهم، ولم يصيب بني إسرائيل شيء منه، فاشتد عليهم البلاء أكثر من ذي قبل، فعجوا إلى موسى واستغاثوا به ووثقوا إليه العهود وعظموا له الايمان بأنه إذا كشف عنهم هذه المرة يؤمنون ولا يعودون إلى الكفر ويرسلون معه بني إسرائيل، وذلك بعد أن دام عليهم سبعة أيام أيضا، فرق لهم موسى ورحمهم ودعا ربه، فكشف عنهم، فلم يبق منه واحدة، فقالوا ما كنا نوقن أنه ساحر مثل اليوم! كيف ذهب ما كنا نراه بكلمة واحدة، ونكثوا عهدهم، ونقضوا أيمانهم، فدعا عليهم، فأرسل عذابا ثامنا بينه بقوله

«وَالضَّفادِعَ» حيوان معلوم بري وبحري والفرق بينهما وجود غشاء رقيق بين أصابع البحري ليستعين به على العوم في الماء والبري خلو منه لعدم الحاجة، إليه جلت عظمته أعطى كل شيء ما يحتاجه، هدى كل خلقه لمنافعهم وأحسن كل شيء خلقه، فلا نقص ولا اعوجاج فيما خلق فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأوانيهم وأطعمتهم منها، حتى صارت تثب عليهم إذا تكلموا، فتدخل أفواههم، ولم يصب بني إسرائيل شيء منه، لأنه مرسل إلى القبط خاصة والقبط قانعون بأنه معجزة مسلطة عليهم فقط لأنهم يرون أن بني إسرائيل سالمون منه، ولكنهم طغاة معاندون حريصون على بقاء ملكهم مع الكفر لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ودام سبعة أيام أيضا حتى ذاقوا العذاب الأليم والبلاء العظيم فوقعوا على موسى باكين شاكين مستغيثين به قائلين: هذه المرة نتوب ولا نعود أبدا، وأكثروا له من العهود والمواثيق، وغلظوا له الأيمان بأنه إذا كشفه عنهم يؤمنون ويرسلون معه بني إسرائيل، ولا يعودون الى الكفر فدعى فكشفه عنهم حتى لم تر واحدة منها فقالوا هذا سحر مثل القمل فأين ذهبت هذه الضفادع لو كانت حقيقية؟ ولم ينتبهوا أن الذي أحدثها عليهم بلحظة واحدة قادر على إزالتها عنهم بمثلها، ولكنهم لا يعقلون بقلوبهم ولا يتذكرون ذلك، ونكثوا ونقضوا أيضا، فاشتد غضب موسى عليهم ودعا الله ربه، فأرسل عليهم عذابا تاسعا إذا عد القحط ونقص الثمرات اثنين أما أذاعوا واحدا كما قال قتادة في الآية 30 المارة آنفا فتكون هذه الآية ثامنة وبينها بقوله «وَالدَّمَ» الرعاف كما قاله زيد اني اسلم وقال غيره سال النّيل عليهم دما عبيطا وانقلبت مياه الآبار والعيون وغيرها كذلك على القبط خاصة، حتى أن القبطي والاسرائيلي إذا اجتمعا على ماء واحد فيكون من جهة القبطي دما وما يلي الاسرائيلي ماء، وهكذا إذا تناول القبطي من أمام الاسرائيلي ماء انقلب دما وإذا تناول الاسرائيلي دما من القبطي انقلب ماء، ومع هذا كله لم يعتبروا ولم يجزموا أنه من عند الله، ولكنهم لما يرونه ملازما لهم يراجعون فرعون أولا فيقول لهم سحركم موسى بضروب السحر وقوي عليكم، فيقولوا، له من أين سحرنا

والأمر كما ترى؟ فيقول اصبروا وكان نفسه يمضغ الأشجار فتعصر في فيه دما، ولكنه لشدة عتوه يتحمل ويمّني قومه لئلا يروا ضعفا فيه، ودام الحال عليهم سبعة أيام ولما لم يروا من فرعون ما ينقذهم وهو يمنّهيم بالصبر، شأن كل مرة، رجعوا الى موسى شاكين باكين متذللين خاضعين، فرقّ لهم لكثرة ما يوثقون له الأيمان فطمع بصدقهم فدعا الله فأزاله عنهم وكذلك لم يؤمنوا لسابق شقائهم مع رؤيتهم هذه المعجزات «آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» واضحات دالات على صدق نبوة موسى وقد ذاقوا عذابها كلها، ولم ينجح بهم، مع انها معجزات لا تحتاج الى فكر وروية ملموسة حسية ظاهرة تبع بعضها بعضا، قالوا وكان بين كل آية وأخرى شهر واحد، مرتبات، كما يستفاد من قوله هنا مفصلات «فَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان بها وبمن أنزلها وأنزلت عليه مع أن كل منها كافية للتصديق والإيمان ولكن ما كان الله ليهدي قوما خلقوا في الأزل ضلالا «وَكانُوا مُجْرِمِينَ 133» بإصرارهم على الكفر وانفتهم عن الإيمان وبعد أن يكون الإنسان مجرما لم يبق له إلا الحكم عليه، وهكذا إذا أوقع أحد جرما يكون أولا مدعى عليه ثم ظنينا ثم متهما ثم مجرما ثم محكوما، هذا وقد اشتد غضب موسى فدعا عليهم بما ألهمه ربه، فأجاب دعاءه بما ذكره بقوله عز قوله «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» الموت قال سعيد بن حيدر هو الطاعون وهذا هو العذاب الأخير وهو الآية التاسعة على قول قتادة فمات منهم في اليوم الأول سبعون الفا فأمسوا لا يتدافتون روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه. وهذه الرواية الأولى على بنى إسرائيل لا يستدل بها على ما نحن فيه لأن الرجز هذا خاص بالضبط كسائر الآيات المتقدمة أما على الرواية الثانية وهي على من قبلكم فيصلح دليلا لما هنا. هذا ولما رأو ما حل بهم نسوا فرعون والسحر وعجوا واقعين على الأقدام «قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» وأوصاك به من النبوة والمرحمة،

وهذه الياء للقسم الاستعطافي كذا يستعطفونه عليه السلام وهم باكون ضاجون قائلين والله ربك «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» الموت الذي حل بنا بافترائنا عليك وكذبنا بمواثيقنا ونفقنا عهودنا فالآن وعزة ربك وجلاله «لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ 134» وو الله ربك لا يسعنا بعد هذا إنكار أو تكذيب أو القول بأنه سحر لأنه الموت يا موسى ذقناه ولمسناه هذا، الذي لا رجوع بعده بخلاف الآيات الأول لأنا نراها تزول فتتغير عقب زوالها وتعود الى الكفر وننقض عهودنا ومواثيقنا بسبب رؤيتنا عودة الحالة السابقة إلى طبيعتها، أما الآن فلا وأكثروا من العويل والاستكانة وتمسكوا به خاضعين خاشعين، ولما رأى اعترافهم بالآيات وآنس منهم الصدق في هذه المرة حنّ عليهم وقبل رجائهم فدعى الله مولاه بكشفه عنهم فأجاب دعائه أيضا. قال تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ» أتى بالظاهر موضع المضمر للتأكيد وقد أخرناه «إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ» وهو وقت إغراقهم بالبحر المعلوم وقته عنده والذي هم واصلون اليه لا محالة «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ 135» ما أعطوه من إيمان وعهود ومواثيق، وعاد إلى الطعن والتكذيب شأنهم في كل مرة ولا يقال إن الله تعالى عالم بأن آل فرعون لم يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، فلم والى عليهم هذه المعجزات لأنه نظير قوله جل قوله: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً. قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الآية 164 الآتية. مطلب جواب الله ورسوله عمّا يقال: هذا هو جواب الله إلى هذا المعترض وجواب لرسول. هو قوله تعالى: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) يفعل ما يشاء ربكم ما يريد، وهذا جواب أهل السنة والجماعة، أما جواب المعتزلة القائلين برعاية الأصلح إن الله علم من قوم فرعون أن بعضهم يؤمن بتوالي المعجزات وظهورها فلذلك والاها عليهم والله أعلم بمراده وهو قول وجيه لو لم يقترن برعاية الأصلح أي أن فعل الأصلح للعبد واجب على الله عندهم ومذهب أهل السنة والجماعة بخلافه. قال صاحب الجوهرة: وما قيل إن الصلاح واجب ... عليه زور ما عليه واجب

وقال في بدء الأمالي: وما أن فعل أصلح ذو افتراض ... على الهادي المقدس ذي التعالي ومعنى النكث في الأصل فل طاقات الغزل ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه. راجع تفسير الآية 91 من بعدها في سورة النمل في ج 2، وجواب لما مقدر تؤذن به إذا الفجائية أي فاجئوا بالنكث، وما قيل بأن جوابها الجملة المقترنة بها فيه تساهل وتسامح وكلا من لما وإذا معمول لذلك الفعل المقدر الأولى ظرفه والثاني مفعوله وذلك محافظة لما ذهبوا اليه من أنه يجب أن يكون الذي يلي لما من الفعلين ماضيين لفظا أو معنى إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا الفجائتين في موقع المفعول به للفعل لأن لما تجاب بإذا الفجائية الداخلة على الجملة الاسمية فلا لزوم إلى هذا التكليف بتقدير الفعل قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» أي فرعون وقومه ومناصريه جزاء نكثهم المترادف «فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ» معظم ماء البحر وسلبنا نعمتنا منهم وأهلكناهم. قال ابن قتيبة: اليم سرياني معرب وما قيل إنه أسم خاص للبحر الذي غرق فيه فرعون وقومه ليس بشيء، قال الألوسي في روح المعاني إن هذا القول غريق في يم الضعف وإنما جعلنا هذا الإغراق عقوبة لهم «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على صدق نبينا «وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ 136» لاهين لاعبين لم يتفكروا بمن أظهرها ولم يتذكروا بها ولم يبالوا بمن أنزلها وأنزلت عليه ولم يتعظوا بنزول النقمة بهم المسببة عن الأعراض عن تلك الآيات وعدم التفاتهم إلى زجر نبيّهم واعراضهم عما يؤول اليه أمرهم واتباع من كان السبب فيها، فكأنها لم تكن، والغفلة ليست من فعل الإنسان، على أن من شاهد مثل تلك الآيات لا ينبغي له التكذيب بل التصديق والانقياد قال تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ» أي يستذلون ويسترقون ويهانون وهم بنوا إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة ولا أعظم من هذا اهانة وهوانا فجعلنا نحن إليه الكل من الذكور الذين كانوا مملوكين ملوكا وأنبياء وملكناهم «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» اي جهاتها بما فيها بيت المقدس ومصر والشام وهذا أولى من الاقتصار على ارض

مصر التي كانوا فيها عبيدا هم ونساؤهم، وهذه الأرض هي «الَّتِي بارَكْنا فِيها» بكثرة الثمار والزروع والأشجار والخصب وسعة الرزق وكونها مساكن الأنبياء والصالحين ومرقدهم، وكلها كانت داخلة في ملك داوود وسليمان وهما من بني إسرائيل ولم يقتصر ملكهما على مصر والشام بل بيت المقدس وما حواليه واليمن وغيرها هذا، وقد جاء في فضل الشام أحاديث كثيرة اخترنا منها ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال: ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام. واخرج ابن عساكر عن حمزة ابن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها اسرى به إليها. وهذا مؤيد بإسراء حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم ومهاجرة ابراهيم ولوط عليهما الصلاة السلام، لانهم ليسوا منها. مطلب ما جاء في مدح الشام: واخرج احمد عن عبد الله بن خولة الأزدي أنه قال يا رسول الله خر لي بلدا أكون فيه، قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده. واخرج ابن عساكر عن واثلة ابن الأصقع قال: سمعت رسول الله يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من عباده. وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام. وجاء من حديث أحمد والترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم أيضا عن زيد بن ثابت أنه صلّى الله عليه وسلم قال: طوبى، للشام، فقيل له ولم؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها. هذا، والأحاديث في فضل الشام كثيرة، إلا أن فيها مقالا فمنها الضعيف والمنكر والموضوع، وسبب وضع بعضها ما كان يتملّق به بعض المنافقين زمن الأمويين، والشام اسم للاقليم المعروف من حدود الحجاز إلى الترك، ومن مصر إلى العراق، قال في القاموس الشام بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا أي تياسروا إليها ولأنها مساكن سام بن نوح وأن السين تقرأ بالعبرية شينا. أخرج ابن ابي لحاتم عن ابي الأعمش وكان قد أدرك أصحاب رسول الله أنه سئل عما بورك من الشام، أي مبلغ حده فقال: أول حدوده

عريش مصر، والحد الآخر طرف الثنية، والحد الآخر الفرات، والحدّ الآخر جعل فيه قبر هود عليه السلام. وان دمشق أو جلق المعروفة الآن بالشام فهي داخلة هذا الإقليم، وفيها خاصة ما قاله بعضهم: دمشق غدت جنة للورى ... زها وصفا العيش في ظلها وفيها لدى النفس ما تشتهي ... ولا عيب فيها سوى أهلها وقال آخر: تجنب دمشق ولا تأتها ... وإن شاقك الجامع الجامع فسوق الفسوق بها نافق ... وفجر الفجور بها ساطع وهذا القائل تشابه قلبه مع قلب من حرّف ما كتب على معرض دمشق عام 1934 عبارة معرض دمشق وسوقها بعبارة: معرص دمشق وفسوقها، وهكذا قلوب المنافقين تتشابه كقلوب الكافرين ألا تراهم على وتيرة واحدة في أفكارهم ومداهنتهم راجع الآية 118 من البقرة في ج 3. وقال آخر: قيل ما يقول في الشام حبر ... شام من بارق الهنا ما شامه قلت ماذا أقول فى وصف أرض ... هي في وجنة المحاسن شامه وفي الحقيقة هي الآن قبة الإسلام ومعهد العلوم وباب التقوى ومعدن حلق الذكر وتداول كتاب الله ومركز أهل الفضل والصلاح وكنانة الله في أرضه وملاك الخيرات. أما ما يتفوه به بعضهم فله نوع من الصحة لأنها بلدة عظيمة فيها الغث والسمين، وكل يعمل على شاكلته: (لكل امرئ في دهره ما تعودا) ... (وكل إناء بالذي فيه ينضح) والطيور على أشكالها تقع، فنسأل الله أن يولي الأمور خيارها ويوفقهم وسائر المسلمين لإزالة ما وصمهم به عدوهم، قال تعالى «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى» التي هي النصر على العدو وانجاز الوعد بتمكينهم في الأرض واستخلافهم فيها وتلك منّة جلّى «عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» من الله إذ ذاك، أما الآن فنسأله بحرمته أن يدمرهم ويذيقهم أشد ما لاقاه آباؤهم ويطهر الأرض المقدسة منهم ويولي عليهم من يعيد لهم زمن فرعون إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، لأنهم لم يقدروا

نعم الله الذي جعلهم بعد الرق أحرارا وبعد الذل أعزاء وجعل منهم ملوكا وأنبياء بعد العبودية «بِما صَبَرُوا» اولا على الأذى والقتل والأسر، إعادة الله عليهم وذلك لأنهم انتظروا وعد نبيهم موسى عليه السلام بالفرج الذي مناهم به أربعين سنة، ولا شك أن الانتظار أشد من النار، قال تعالى «وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ» من البنايات العالية والقصور الشامخة في مصر وغيرها «وَما كانُوا يَعْرِشُونَ 137» من الكرم وغيره في الجنان، وجاز ضم راء يعرشون والكسر أفصح، وقد حصل هذا التدمير باغراقهم بالبحر وتركهم ديارهم وجناتهم وبالطوفان الذي أوقعه الله عليهم المنوه به في الآية 123 المارة، وهذا آخر ما قصه الله علينا في هذه السورة بما جرى بين فرعون وموسى، وانظر ما يقصه الله علينا مما أحدثه بنو إسرائيل بعد ألطاف الله عليهم التي يجب أن يقابلوها بالشكر، قال تعالى «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» بعد انجائهم منه وإغراق فرعون وقومه وخلفناه وراء ظهورهم وأمنوا من كيد فرعون وقومه الذي قطع أمعاءهم كما سيأتي في القصة مفصلا بالآية 53 من سورة الشعراء الآتية «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ» قال قتادة هم طائفة من لخم كانوا نزولا على الرقة أي ساحل البحر لا الرقة التي على شاطىء الفرات من أعمال دير الزور، ولعلها سميت رقة لهذا السبب أيضا، وقال غيره هم الكنعانيون الذين أمر الله موسى بقتالهم ولما رأوهم «قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» تماثيل من الأصنام وكانت على صورة البقر أي ليعبدوها مثلهم، قاتلهم الله استحسنوا عمل أولئك الكفرة وطلبوا مثله ولم وتجفّ أقدامهم بعد من انجائهم من البحر «قال» موسى زجرا لهم وتعجبا من حالهم وقولهم هذا بعد رؤية تلك الآيات التي خلصتهم من عبودية القبط وأهلكت أعداءهم دونهم على مرأى منهم، إذ كانوا في البحر جميعا، وصادف خروج آخر واحد منهم دخول آخر واحد من القبط فيه، ولما رأى عليه السلام طيشهم هذا «قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138» عظمة الله وقوة سلطانه ولا تقدرون نعمه، أتريدون أن تشركوا بالله وتكفروا نعمه بعد أن نجاكم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 141 إلى 150]

من الذل والعار والخزي والقتل والغرق «إِنَّ هؤُلاءِ» الذين ترونهم يعبدون الأصنام ويتخذون عبادتها قربة إلى الله، الذين تريدون أن يكون لكم مثل ما لهم من الأوثان «مُتَبَّرٌ» مدمّر هالك «ما هُمْ فِيهِ» من الحال ويؤدي إلى تدميرهم وليس بدين يتدين به وأن الله سيقدرني على تحطيم أصنامهم هذه وتبديدها وتصييرها فتاتا، لأن عبادتهم لها كفر محض واشراك مع حضرة الربوبية ومثل هذا الطلب محرم وهؤلاء قوم حمق «وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 139» من صنعها وعبادتها فهم كفار يجب قتالهم، لأنهم لم يريدوا بعبادتها وجه الله ثم «قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً» كلا لا إله غيره «وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 140» في زمانكم وهو المستحق للعبادة وحده لأنه النافع الضار، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر فكيف تريدون عبادتها وهي لا تدفع شرا عن نفسها هذا جزاء الله منكم أيها الفسقة. أخرج الترمذي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين امرّ بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا (أي طائفة ممن معه) اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلّى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) والذي نفسي بيده لتركين سنن من قبلكم، الحديث. ثم شرع يعدد عليهم نعمه فقال «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ» يولونكم ويكلفونكم ويبغونكم «سُوءَ الْعَذابِ» أشده وأقساه ثم بينه بقوله «يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» العذاب المهين محنة فظيعة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ 141» لا أعظم منه في الدنيا فهو غاية الذل ونهاية الخزي والعار، فالرب الذي أنجاكم من وأهلك عدوكم وملككم أرضه وماله، أليق بكم أن تشتغلوا بعبادته طلبا لرضاه وشكرا لما أولاكم وأجدر أن لا تشركوا معه شيئا أبدا، لا أن تقولوا اجعل لنا إلها من أحجار وأخشاب ومعادن جامدة أو من حيوان عاجز، انتهوا عن هذا واستغفروا لئلا يحل بكم غضبه، قال تعالى «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» للتشرف بمناجاتنا وهو شهر ذي القعدة «وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» من ذي الحجة «فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ

أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» مع يوم العيد الذي هو يوم الوعد، وذلك أنه عليه السلام بعد أن نجى الله قومه وعبر بهم البحر وزجرهم على ما وقع منهم، وكان وعد قومه بأنه إذا أهلك الله عدوهم يأتيهم بكتاب من عند ربه فيه ما يأتون وما يذرون. ولما تمّ له ذلك طالبه قومه به، فسأل ربه انجاز وعده، فأمره أن يصوم ذا القعدة ثلاثين يوما فصامها، وأنكر خلوف فمه، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك، ثم أمره أن يصوم عشرة أيام من أول ذي الحجة ويحضر لمناجاته وإنزال الكتاب عليه، فصامها وتوجه إلى المحل الذي أمره أن يحضر فيه «وَقالَ ... لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» مدة ذهابي لمناجاة ربي «وَأَصْلِحْ» أمورهم واحسن خلافتي فيك وفيهم وراقبهم في حركاتهم وسكناتهم «وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ 142» منهم، وقد أعطى هذه الأوامر أخاه وهو يعلم أنه يصلح ولا يسلك سبيل من أفسد منهم ولكنه من قبيل التوكيد لشدة حرصه عليهم، ولعلمه بصغر عقولهم، ولأنهم قوم ترّبوا على الذل والصغار لا يأمن أن يستميلهم الأشرار، وتوصية لهرون الذي لا يتصور منه وقوع ما أوصاه به، وحذره عنه، على حد قول سيدنا إبراهيم (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية 260 من البقرة في ج 3، وعلى حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية 134 من سورة النساء، أي اثبتوا على إيمانكم وداوموا عليه، فكأنه يقول لأخيه دم على أخلاقك وإصلاحك شأنهم كما كنت أنا وأنت دائبين عليه، وكأنه عليه السلام نفث في روعه أنهم سيزيغون عن عبادة الله بما يسوله لهم شرارهم فأوصى أخاه بما أوصاه لأن الأنبياء ملهمون، وسبب وصيته هذه أن الرئاسة كانت لموسى دون هرون، وقال الشيخ محي الدين العربي الأكبر في فتوحاته ما معناه إن هرون نبي أصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل إن هذا كان كما يقوله أحد المأمورين بمصلحة واحدة إذا أراد الذهاب لحاجة كن عوضا عني، أي ابذل جهدك ووسعك بحيث يكون عملك عمل اثنين، وهو وصية لأن هرون مثل موسى مرسل لبني إسرائيل أيضا.

مطلب ميقات موسى وتكليمه: قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» الذي عينّاه له في طور سيناء «وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ» من غير واسطة ولا كيفية. وقد ذهب الحنابلة ومن تابعهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، وذهب المتكلمون إلى أنه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وهي صفة أزلية قديمة، وعليه فإن القائلين بهذا القول قالوا إن موسى سمع تلك الصفة القديمة الأزلية حقيقة وقالوا: فكما أنه لا تبعد رؤية ذاته وليست جسما ولا عرضا، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنه ليس بصوت ولا حرف، ومع هذا فإنه لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور من ذلك، أما من قال إن تكليمه تعالى عبارة عن خلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظا في الألواح، وهو ما ذهب إليه الزمخشري ومن على طريقته من المعتزلة فهو قول باطل، لانه يقضي بأن تقول الشجرة التي كلمه منها أو الجرم الذي كلمه عليه إنني أنا الله، وإن هذه الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول ذلك فظهر فساد مذهبهم في هذا. وإن مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه جمهور العلماء وبعض من المتكلمين سلفا وخلفا، هو أن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله، والحقيقة أن الله تعالى كلم موسى بلا واسطة ولا كيفية، وأسمعه كلامه ومناجاته، فاستحلى ما سمع وطمع في رؤيته لغلبة شوقه إليه «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» سأل عليه السلام ربه أن يريه ذاته المقدسة مع علمه بأن الله لا يرى في الدنيا بسائق ما هاج به من الغرام في لذة المناجاة وما فاض عليه من الجلال حتى استغرق في بحر محبّته، فسأل الرؤية، ولعل هذه أيضا من جملة ما ألهم بأنه سيأتي نبي بعده يرى ربه بأم عينه فطمع بذلك وطلبها، أو أنه طلب التمكن من الرؤية مطلقا بالتجلي والظهور وهما مقدمان على النظر ومسببان له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم فيكون المعنى: مكني من رؤيتك أو تجلّ علي فأنظر إليك وأراك، ولم يرد إيجاد الرؤية لعلمه باستحالتها في الدنيا فأجابه ربه بالمنع «قالَ لَنْ تَرانِي» وأنت على ما أنت عليه لأن البشر لا يطيق

النظر إليّ في هذه الدار، وفي هذا دليل لأهل السنة والجماعة على جواز الرؤية في الآخرة، لأن موسى اعتقد أن الله يرى، فسأل الرؤية لأنها جائزة واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر، ولأنه تعالى لم يقل لن أرى ليكون نفيا للجواز ولو لم يكن مرئيا لأخبر بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان، قال تعالى «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» طور سيناء الذي هو قريب منه واسمه زبيد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» بعد أن تجلى عليه وبقي كما هو عليه الآن «فَسَوْفَ تَرانِي» إذا تجليت عليك أيضا، وهذا دليل أيضا على جواز الرؤية لأنه علقها باستقرار الجبل وهو ممكن وتعليق الشيء بالممكن دليل على إمكانه كالتعليق بالممتنع دليل على امتناعه، والدليل على أن استقرار الجبل ممكن قوله (جَعَلَهُ دَكًّا) ولم يقل اندك، وما أوجده الله تعالى كان جائزا أن لا يوجد لو لم يوجده، لأنه مختار في فعله، ولأنه تعالى ما آيسه من الرؤية ولا عاتبه على طلبها كما عاتب نوحا بقوله: (أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الآية 46 من سورة هود في ج 2، ولا يقال أن محمدا من البشر وكيف رأى ربه وقوي على رؤيته، لأن الله تعالى أودع فيه قوة على ذلك مكنته من الرؤية لأنها من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم كما خص موسى بالتكليم وقواه على سماع كلامه مشافهة دون غيره، فلا مناقشة في هذا وما عموم إلا خصص. هذا، ومن قال انّ (لن) للتأييد والدوام واستدل على عدم جواز الرؤية حتى في الآخرة فقد أخطأ إذ لا شاهد له بالعربية على قوله، ولا دليل له في الكتاب والسنة وأن الدلائل لإثبات الرؤية في الآخرة صريحة في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 24 من سورة القيامة المارة، وجاء في الصحيحين أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ومما ينقض قوله أنّ لن للنفي ألا يرى قوله تعالى في نعت اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) الآية 95 من البقرة في ج 3، مع أنهم يتمنونه يوم القيامة في قوله تعالى (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الآية 77 من الزخرف في ج 2، وقوله (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الآية 17 من سورة الحاقة في ج 2، وقوله في الآية 25 من سورة مريم الآتية (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) ت (27)

فظهر لك من هذا كله أنّ لن ليست للتأييد، قال تعالى «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ» أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه بعد أن جعله مدركا، لذلك قال الشيخ أبو منصور نقلا عن الأشعري، أنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلما ورؤية حتى رأى ربه، فلما رآه جلت رؤيته «جَعَلَهُ دَكًّا» مفتوتا ساوى به الأرض بحيث لم يبق له أثر، والدّكّ والدق أخوان وكذلك الشك والشق، وهذا نص بكونه مرئيا ثابت لا مرية فيه، ونص بجهل منكر الرؤية كما مرت الإشارة إليه، ولا يستغرب هذا، لأنه داخل في قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 44 من سورة الإسراء الآتية، فظاهر هذه الآية يستلزم كون جميع الأشياء حية مدركة بحياة وإدراك لا يقين بها، وكل بنسبة عالمه، وإذا دققت النظر في مغزى اسمه القادر هان عليك ما لا يقبله عقلك أو تنصوره مخيّلنك، اللهم بصرنا وأرشدنا إلى ما به النجاة من الحيرة. هذا، والاحتجاج بجمادية الجبل لا قيمة له، لأن الله تعالى قال في الآية 9 من سورة سباء في ج 2 (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) فالذي أقدر الجبال على التسبيح مع داود عليه السلام أقدر هذا الجبل على الفهم والتعقل وخلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحلول الحياة له والعقل فيه فهكذا هنا، فلم يبق مجال للقول بإنكار الرؤية وجوازها بعد أن بان لك تبعتها بالدلائل العقلية والسمعية، وعلمت بأن ما جاء به منكر الرؤية مصدره التأويل والتفسير راجع تفسير الآية 102 من سورة الأنعام في ج 2، قال ابن عباس: ظهر نور الربوبية للجبل فصار ترابا «وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» صائحا مغشيا عليه ساقطا على الأرض من هيبة الربوبية وعظمتها التي لا تكيف «فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ» تعاليت وتنزهت عن المثالية والمشابهة لخلقك وعن أن يثبت أحد لمشاهدتك «تُبْتُ إِلَيْكَ» عن سؤال الرؤية في الدنيا ومن أن أسألك شيئا بغير إذنك «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ 143» بأن البشر لا يطيق رؤيتك في الدنيا إلا من قربته منك وقويته بمعونتك وأيدته بتأييدك وخصصته بها دون سائر خلقك، وكان رمز إليه بأنه سيظهر نبي بعدك يرى ربه «قالَ يا مُوسى

إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ» اخترتك وميزتك «عَلَى النَّاسِ» الموجودين على الأرض في زمنك «بِرِسالاتِي» التي أرسلتك بها لتبلغها لعبادي وهي الصحف التي أنزلتها إليك قبل أسفار التوراة التي أنزلها عليك الآن «وَبِكَلامِي» لك دون واسطة «فَخُذْ ما آتَيْتُكَ» من هذه الفضائل التي خصصتك بها وحدك ولم تكن لأحد قبلك فاقبلها واعمل بها «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ 144» نعمائي من تشريفك بالرسالة وتتويجك بالتكليم، ولا يضق صدرك من منعي لك الرؤية لأنها لم تقدر لك في أزلي، فرضي موسى، وشكر ربه، قال تعالى «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ» المسطور عليها التوراة «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» يحتاج إليه هو وقومه من أمر ونهي وحلال وحرام وحدود وأحكام «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم «وَأْمُرْ قَوْمَكَ» يا رسولي «يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» عند وقوع شيء له جهتان، كالعفو فإنه أحسن من القصاص، والصبر فإنه خير من الانتقام والضجر، والكظم فهو أولى من الانتصار، والصلة فهي أحسن من القطيعة، وهذه موافقة لشريعتنا قال تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية 55 من سورة الزمر في ج 2، والقرآن كله حسن وإنما الفرق بين الحسن والأحسن كثرة الثواب، ويستدل من هذه الآية أن التكليف كان على موسى أشد منه على قومه إذ لم يرخص له ما رخص لهم من الأخذ بالأحسن بل خصصه بالحزم، وهو من أولي العزم إذ يقول له (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) وكذلك كلف صلّى الله عليه وسلم بأكثر مما كلفت أمته فكلف بقيام الليل على سبيل الفرض ومنع من تطليق نسائه ومن الزواج عليهنّ، إلى غير ذلك. مطلب أعمال الكفرة ورؤية موسى ربه: هذا، وقد أمره ربه في مناجاته هذه بعد أن أقر عينه بالاصطفاء أن يمرّن قومه على الأخلاق الفاضلة لعلمه بما يصدر عنهم بخلافها لتكون عليهم الحجة ولهذا نبههم بقوله «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ 145» الخارجين عن الطاعة الذين يؤثرون الأخلاق السافلة على العالية، فليعتبر قومك يا محمد بالأمم الماضية كيف دمرناها لما

أصروا على الكفر، وعليهم أن يتعظوا قبل أن يحل بقومك ما حل بهم من الوبال والتنكيل وليعلموا أني «سَأَصْرِفُ عَنْ» فهم ومعرفة معنى «آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ» على خلقي «بِغَيْرِ الْحَقِّ» حسبما تسوّل لهم أنفسهم فيظلمون ويبغون على الناس بمقتضى دينهم الباطل الذي اختلقوه وتلقوه من آبائهم الضالين «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ» من آياتي التي أظهرتها لهم على أيدي رسلهم «لا يُؤْمِنُوا بِها» ولا يزيدهم نزولها وتبليغها لهم من قبل رسلهم إلا إنكارا وإصرارا على الكفر «وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» بل يعرضون عنه «وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» عنادا وعتوا لا جهلا لأن كل من عنده لمحة من إدراك يميز بين الرشد والغي، كما يميز بين الظلمة والنور فيعرف الأول نافعا والثاني ضارا ولكنهم لا يريدون إلا الانكباب على عوائدهم الشائنة «ذلِكَ» اختيارهم طريق الشر على طريق الخير، وإيثارهم الكفر على الإيمان «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الواضحة الدالة على حسن ما أمرناهم به بواسطة رسلنا «وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ 146» غير مفكرين بها ولا ملقين لها بالا، لاهين عن الاتعاظ بها معرضين عنها «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ» فجمعوا بين التكذيب والجحود أمثال من تقدمهم من الأمم المهلكين، المصرفين عن فهم حقائق آياتنا والتصديق بالبعث والحشر «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها بالدنيا من برّ وصلة وقرى ضيف وفك أسير وإغاثة ملهوف وإقالة عثرة ومطلق إحسان، مما يثاب عليه المؤمن في الآخرة من عوائدهم الحسنة التي كانوا يفعلونها بطلت ومحق ثوابها، لأنهم لم يفعلوها لوجه الله في الدنيا ولذلك لم ينتفعوا فيها بالآخرة، وقد حرموا من ثوابها بسبب تكذيبهم وكفرهم، ولأنا قد كافأناهم عليها في الدنيا بكثرة الأموال والأولاد والصحة والأمن والجاه لأنا لا نضيع أجر من أحسن عمله، فإن كان مؤمنا أثبناه عليه في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا كافيناه عليه في الدنيا فقط وما له في الآخرة من نصيب، فانظروا «هَلْ يُجْزَوْنَ» هؤلاء وأضرابهم يوم القيامة «إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ 147» بدنياهم فيجازون عليه إن خيرا فخير، وان شرا فشر، إلا أن الكافر يعجل له

ثواب عمله الصالح في الدنيا ليلقى الله ولا حسنة له راجع تفسير الآية 20 من سورة الأحقاف في ج 2، والمؤمن يدخر له هذا. مطلب إشارات القوم في الرؤية: وقد اختلف المفسرون والعلماء بأن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا؟ فذهب الأكثر إلى عدم الرؤية لا قبل الصعق ولا بعده، وقال الشيخ الأكبر إنه رآه بعد الصعق، لأنه كان موتا، أخذا من قوله تعالى: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية 68 من سورة الزمر في ج 2، أي أنه حين صعق مات فرأى ربه وسأله عما جاء في الآية وأجابه بما جاء فيها، ووافقه على هذا، القطب الرازي. أخرج الحاكم والترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فقال: قال الله يا موسى إنه لن يراني حيّ إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم. وجاء في الخبر الذي رواه أبو الشيخ عن ابن عباس: يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا، قال موسى رب ان أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا. وجاء في باب الإشارات: (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) قال هيهات ذلك وأين الثريا من الثرى ومن يد المتناول أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الانانية، فإذا أردت ذلك فخل نفسك وأتني، فهان عليه الفناء في جانب الرؤية للمحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذا رأى عزة المطلوب، فبذل وجوده وأعطاه موجوده، فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه برؤيته، وكان وما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطغى المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الانس في رياض القدس (ينعم) ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرقّ من النسيم إذا سرى وأباح طرفي نظرة أمّلتها ... فغدوت معروفا وكنت منكرا فدهشت بين جماله وجلاله ... وغدا لسان الحال عني مخبرا وقد أبدع ابن الفارض في تائيته الكبرى فمن شاقه البحث فليراجعها، ففيها

ما تقرّ به العين ويشرح الصدر وترتاح له الجوارح، وإن كتب الصوفية العارفين كالرسالة القشيرية والأبريز والإنسان الكامل وغيرها مما تقدم ذكره في المقدمة ملأى من هذا، فمن أراد الوصول إلى حضرة القبول، فليخل نفسه ويتوجه بكلية قلبه ولبه إلى ربه، وإلّا لا وصول ولا قبول. قال عيسى عليه السلام: لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، ولن يلج ملكوت السموات إلّا من ولد مرتين. هذا، وإن السادة الصوفية قالوا بصحة الصعق الذي يحصل لبعضهم عند سماع آية رغبة أو رهبة أو ما في معناهما من هذا، كما أشرنا إليه في تفسير الآية 14 من سورة المزمل المارة. وأرى أن لا يعترض عليهم في ذلك كما لا يعترض على ما جاء في كتبهم من عبارات قصر الفهم عن إدراك معناها ووقف العقل عن تناول مغزاها. مطلب الصعق وتحريم النظر في كتب القوم لغيرهم: فقد جاء في ص 294 في الجزء الثالث من حاشية الدر المختار لابن عابدين ما نصه: (نحن قوم يحرم النظر في كتبنا) وذلك لأنهم تواطأوا على ألفاظ اصطلحوا عليها فيما بينهم وأرادوا بها غير معناها المتعارف، فمن حملها على معناها الظاهر فقد كفر. وقد سئل بعضهم عن هذا فأجابه بما نصه: (الغيرة على أن يدعي طريقنا من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس من أهله) وقد سئل العلامة عز الدين بن عبد السلام عن ابن العربي وكان يطعن فيه ويقول هو زنديق، فقال هو القطب، فقال لم تطعن فيه، فقال لا أخون ظاهر الشرع، أي أنه كان يرى منه ما يخالف الشرع ظاهرا فيطعن فيه من هذه الجهة. راجع تفسير الآية 42 من سورة والنجم، ومن هذا القبيل كان اعتراض موسى عليه السلام على الخضر. راجع الآية 65 فما بعدها من سورة الكهف في ج 2، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 27 من سورة الزمر في ج 2. هذا، وقد ذهب الشيخ ابراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دكّ الجبل عند التجلي، واستدل بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ،

وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال: مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين، وجمع بين هذا وبين قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود. بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى الله عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق، كما أن الكلام الذي إعطاء لموسى كذلك بخلاف رؤية موسى فإنها لم تجتمع له مع البقاء، وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال أنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت، هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما، ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين، أي بعد أن يصل إلى درجة الأبرار فتموت نفسه فتنقل إلى رتبة المقربين فتحيا بها فيرى أن ما كان منه في الدرجة الأولى خطأ ينبغي الاستغفار منه والتوبة عن مثله، لما هو من العمل الذي ولد عليه في رتبة المقربين. ولهذا قالوا حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا والله أعلم. واعلم أن الذاهبين إلى عدم الرؤية مطلقا، وهو ما ذهبت إليه يجيبون عما ذكر في حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر المارين آنفا، بأن الثاني ليس فيه أكثر من اثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام في غير رؤية، إذ لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور، وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام، لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تجليات شتى غير ذلك، فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحته واحد منها وقد يقطع بذلك، فإنه سبحانه تجلى عليه بكلامه واصطفائه وقرب منه على الوجه الخاص اللائق به، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الابصار، وهذا أولى مما قيل إن اللام في لموسى للتعليل، ومتعلق تجلى محذوف، أي لما تجلى الله للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر، وهذا الحق الذي لا محيص عنه. أما الزمحشري فقد بالغ في عدم إمكان الرؤية وأصر على أنّ لن للتأييد ولدوام النفي وتأكيده،

وقال إن قول موسى (تبت إليك) دليل على خطأه بسؤال الرؤية، وقال في كشافه أعجب من المتسمين بالإسلام المسميين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة (أي قولهم إن الله تعالى يرى بلا كيفية مثل الحوقلة والبسملة والصلعمة وغيرها) فإنه من مصنوعات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم: وجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري مؤكفه قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه ويريد بهذا هو وجماعته ومن تابعهم من المعتزلة نفي الرؤية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم ليلة الإسراء المجمع عليها، لأنه من غلاة منكريها والتشنيع على القائلين بها، وقد رد على قولهم هذا تاج الدين السبكي رحمه الله بقوله: عجبا لقوم ظالمين تلقبوا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه ... تعطيل ذات الله مع نفي الصفة وتلقّبوا عدلية قلنا نعم ... عدلوا بربهم فحسبهم سفه وقال صاحب مبدأ الأمالي: يراه المؤمنون بغير كيف ... وإدراك وضرب من مثال فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال أي من نعمة الرؤية لأن جزاءهم حرمانها، قال تعالى «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ» أي بعد ذهابه للمناجاة وتخليف أخيه هرون عليهم مدة غيابه «مِنْ حُلِيِّهِمْ» جمع حلي كندى وهو ما يتزين به من الذهب والفضة والجواهر «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» صياح صوت كصوت البقر. مطلب أصوات الحيوانات وقصة العجل: حيث يسمى خوارا، كالثغاء للغنم، واليعار للمعز، والينيب للنيس، والنباح للكلب، والسحيل. والنهيق للحمار، والزئير للأسد، والعواء والوعوعة للذئب، والضباح

للثعلب، والصنّى للفيل، والثغيم للضبي، والقباع للخنزير، والمواء للهرة، والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للخيل، والرغاء للناقة، والضغيب للأرنب، والعرار للظليم ذكر النعام، والعرمرة للبازي، والغقغقة للصقر، والصفير للنسر، والهديل للحمام، والسجيع للقمري، والسقسقة للعصفور، والنعيق والنعيب للغراب، والصقاع والزقاء للديك، والقوقاء والنقنقة للدجاج، والفحيح للحية، والنقيق للضفدع، والصّئيّ للعقرب وللفأر، والصرير للجراد، إلى غير ذلك. وقرأ عليّ كرم الله وجهه جوار بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد كالصياح والصراخ، وهي تصحيف خوار بلا زيادة في الحروف. وخلاصة القصة أن بني إسرائيل كانوا استعاروا حلي القبط ليتزينوا به في عيدهم وذهبوا مع موسى إلى البحر قبل أن يردّوه إليهم، وقد هلك القبط في البحر حينما تبعوهم ونجوهم منه وبقي حليهم عندهم فصار ملكا لهم، لأن الاستيلاء على مال الكفّار يوجب زوال ملكيته عنهم وصيرورته ملكا للمتولى عليه، لذلك نسبه الله إليهم، وهذا مما هو موافق لشريعتنا من شريعة موسى عليه السلام إذا كان لا يعد من الغنائم الحربية لأنها لم تحل لبني إسرائيل ومن شريعتهم حرقها، أما في شريعتنا فهي حلال ومن خصائص الأمة المحمدية الخمس المختص بحضرة الرسول الآتي بيانه في الآية 158 الآتية، ولما مر على ذهاب موسى عليه السلام ثلاثون يوما ولم يعد إليهم ولم يعلموا أن الله زاده عشرة أيام أخر ويعلمون أن موسى لا يخلف وعده، وكان السامري من قوم موسى منافقا وكان رجلا حاذقا وهو كما قيل رباه جبريل عليه السلام واسمه موسى أيضا وفيه وفي موسى عليه السلام قال القائل: إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت ... عقول مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل وكان يرى جبريل عليه السلام ويرى أن حافر فرسه كلما وطىء شيئا اخضرّ فعرف المغزى من ذلك وهو إحياء الأرض الميتة بوطىء حافر فرسه فأخذ شيئا من تراب أثر فرسه واحتفظ فيه، وكان مطاعا في بني إسرائيل فوسوس إليه الشيطان أن يصنع صنما لهم فكلفهم بإحضار الحلي الذي استعاروه من القبط بداعي أنه لا يجوز

لهم أخذه، فأحضروه له فصاغه عجلا وأخرج ذلك التراب فوضعه في هيكل العجل فصار له صراخ كصراخ العجل، فقال لهم هذا هو الإله الذي قصده موسى قد نسيه هنا، لأن المدة المعينة مضت ولم يحضر وأغراهم بذلك وأمرهم بعبادته، وصاروا كلما صاح سجدوا له. وهذا الذي خطر على قلب موسى في توصية أخيه وخوفه على بني إسرائيل الضلال. قيل إن تصويته كان يحصل من أنابيب صاغها في بطنه وكلما دخل فيها الهواء صوتت، والأول أصح على القول بأنه وضعت فيه حياة خاصة بسبب التراب المار ذكره، والثاني أجدر بالقبول للعقول لما للهواء من التأثير في المكونات التي اطلع عليها البشر، وخاصة أهل هذا الزمن والعجل لولد البقر خاصة، ولولد الناقة حرار، والفرس مهر، والحمار جحش، والشاة حمل، والمعزى جدي، والأسد شبل، والفيل دغفل، والكلب جرو، والظبي خشف، والأرنب خرنق، ويضرب فيه المثل بالنعومة قال: إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضّاها ولا تملق واعمد لأخرى ذات دلّ مونق ... ليّنة اللمس كمس الخرنق ولولد الضبع فرعل، والدب دسيم، والخنزير فنوص، والحية حويش، والنعام رأل، والدجاجة فروج، والفأر ردوص، والضب حسل، فرد الله على السامري بقوله «أَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء السفهة «أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ» هذا العجل «وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا» لأنه لا يعقل ولا يفهم «اتَّخَذُوهُ» ليرشدهم إلى طريق الصواب أم ليدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا كآحاد البشر، وهذا تقريع وتشنيع على فرط ضلالهم وإضلالهم بالأمور النظرية «وَكانُوا ظالِمِينَ 148» باتخاذهم إياه وإعراضهم عن عبادة الله مع علمهم بأنه صورة مصنوعة لا تقدر على شيء ومن كان كذلك فهو ناقص والناقص لا يصلح للألوهية، وهذه الآية كالآية 89 من سورة طه الآتية من حيث المعنى، وقد أنّبهم هرون عليه السلام بما فى معناها وأمرهم بالكف عنه والرجوع لعبادة الله فلم يفعلوا كما سيأتي في الآيتين 90 و 91 من سورة طه أيضا، ولما ينغهم قدوم موسى أحسّوا بسوء صنيعهم وعرفوا أنهم على ضلال فأنزل الله قوله جل قوله

«وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» هذا مثل تقوله العرب لكل نادم على أمر لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده ويضرب بها على فخذه فتصير يده ساقطة والسقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل، لذلك يقولون لمن هذا شأنه سقط في يده «وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا» تيقنوا وعلموا أن عبادتهم العجل خطأ صراح، وندموا على ما وقع منهم وعدم التفاتهم إلى نصح هرون عليه السلام في ترك عبادته، ولاموا بعضهم فانقسموا شطرين شطرا مع السامري عكفوا على عبادته، وشطرا مع هرون امتنعوا عنها ثم ندم بعض الذين أغواهم السامري حيث عرفوا الحق مع هرون بعد أن أكثر لهم من إسداء النصح وتفنيد الصورة المصنوغة وطلبوا من هرون العفو وسؤال المغفرة من الله «قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا» ذلتنا هذه «لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ 149» في الدنيا والآخرة اعترافا منهم بالذنب وإظهارهم الرغبة إلى الله رهبة منه وطلبا لإقالة عثرتهم، قال تعالى «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ» من طور سيناء حيث أخبره ربه بما فعل قومه كما سيأتي في الآية 84 من سورة طه أيضا، وكان عليه السلام «غَضْبانَ أَسِفاً» شديد الحزن على ما وقع من قومه أثناء مناجاة ربه بما أوجب تركها ورجوعه لإنقاذهم مما هم فيه «قال» مخاطبا لهم جميعا أو لكل من الفريقين على حدة، لأن منهم من لم يزل منكبا على عبادة العجل حتى شاهدهم بنفسه كما قال تعالى في الآية 99 من سورة طه حينما كلفهم هرون بالانكفاف عنه قالوا (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) «بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» وهذا صالح لخطاب الطرفين لعبدة العجل والسامري، لأنهم كفروا بعبادة العجل وتركهم عبادة الله وإلى هرون ومن معه إذ لم يمنعوهم ويحولوا دون عبادتهم للعجل فيحجبونهم عن الكفر فقال الظالمون تأخرت عن موعدك وظننا أن هذا هو الإله الذي ذهبت إليه فعبدناه، قال موسى «أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ» فتقدمتم به قبل وقته. وهذا معنى العجلة، ولذلك صارت مذمومة بخلاف السرعة لأنها عمل الشيء أول وقته فلا تكون مذمومة وعليها قوله تعالى في الآية من سورة طه: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ولما سمع

[سورة الأعراف (7) : الآيات 151 إلى 160]

منهم جوابهم اشتد غضبه عليهم «وَأَلْقَى الْأَلْواحَ» المسطور عليها التوراة، وضرب المثل: (ليس الخبر كالمعاينه) ينطبق هنا لأن الله أخبره بأن قومه عبدوا العجل ولم يلق الألواح بل استمر على سماع المناجاة، وفي مجيئه لم ير زيادة على ما أخبره به ربه، ولكن الرؤية لها وقع شديد وتأثير بليغ لهذا اشتد غضبه عليه السلام فترك الألواح «وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» لزيادة موجدته، ولأنه لم يرسل إليه خبرا بفعلهم هذا ليرجع ويتلافى الأمر، فاعتذر إليه هرون بقوله الذي قصه الله الَ يَا بْنَ أُمَّ» لم يقل يا ابن أبي أو يا أخي مع أن أباهما واحد أيضا طلبا لترقيقه عليه ولأن أمه هي التي قاست بتربيته ما قاست من أجله، فلعله أن يرحمه بسائق رحمة أمه له، لهذا استعطفه بذلك ليرق قلبه عليه ثم أوضح له معذرته وسبب الإقامة معهم وعدم لحوقه ليخبره بصنيعهم بقوله «إِنَّ الْقَوْمَ» بعد ذهابك يا ابن أمي قد «اسْتَضْعَفُونِي» فلم يلتفتوا لقولي ولم يصغوا إلي «وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي» حينما شددت عليهم بالمنع من عبادة العجل «فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» بما توقعه بي فتسرهم بما ينالني من مكروه (والشماتة الفرح ببلية العدو) «وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 250» أنفسهم بعبادة العجل والتشويق لعبادته، ولا تؤاخذني بعدم إخبارك لأني لما أردت ذلك هددوني بالقتل ولم أقدر أن أنفكّ عنهم، ولما سمع موسى من أخيه معذرته وعلم أنه تعدى عليه «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما فعلناه بأخي لأنه من أجلك وتبين لي أنه لم يستوجب جزاء ما «وَلِأَخِي» اغفر أيضا لعدم قدرته على منعهم وعدم تقصير في نصحهم وعدم تركهم له لإخباري «وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» الواسعة لمثل ما وقع منا وأعظم «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 251» فاشملنا برحمتك يا إلهنا واغمرنا بعفوك الضافي، ثم قال تعالى مخاطبا لأولئك الظالمين اعلم يا موسى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» وعبدوه من دوني «سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ» في الآخرة إن لم يتوبوا وتقبل توبتهم «وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أيضا بأن يعترفوا بخطيئاتهم ذليلين حقيرين، يعلوهم الصغار بإسلام أنفسهم للقتل «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ 152» علينا، وهذا مما أخبر الله به موسى أثناء

المناجاة بدليل صرف الاستقبال في سينالهم بالنسبة لوقت الإخبار. وقد أخبرنا الله عن كيفية توبتهم في الآية 54 من سورة البقرة في ج 3، وهذه من الأمور الشاقة المبينة في الآية 156 الآتية المخصصة بشريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن التوبة تقبل قولا وتتم بحسن النية، أما اليهود فلا تقبل توبتهم إلا باستئذان من الله ولا تكون إلّا فعلا، فيا حسرتهم لم يؤمنوا به ولم يتبعوه كي يستفيدوا من هذا التخفيف، وان أسلافهم الكرام، لما أخبرهم موسى بقبول توبتهم على أن يقتل بعضهم بعضا رضوا بحكم الله فقتل بعضهم بعضا حتى أن الأب صار يقتل ابنه والابن أباه والأخ أخاه، وهكذا حتى ماتوا شهداء تائبين رحمهم الله، ولا يتصور بعد هذا أن ينالهم غضب وذلة لأن الحد مزيل للعقوبة ومطهر منها ولا حد أكبر من القتل ولا أفظع منه بالصورة المذكورة، والله تعالى أكبر من أن يجعل على عباده عذابين، وخاصة بعد أن خضعوا لأمره وأنابوا لمراده وهذا أحسن وجه للتفسير، وما قاله ابن جريح من أن الغضب والذّلة لمن مات على عبادة العجل أو فر من القتل وجيه، ولكن المفسرين على خلافه، ولذلك جرينا على أن الغضب لمن لم يتب منهم ولم تقبل توبته، أي بأن كان حال يأس، ومن قال ان المراد بهم اليهود الذين في زمن المصطفى صلّى الله عليه وسلم ومن قال ان المراد بهم أولاد الذين عبدوا العجل على عهده صلّى الله عليه وسلم، وفسر الغضب بعذاب الآخرة مطلقا والذلة بالجزية. ومن قال أن الآية على حذف مضاف أي سينال أولادهم ذلك يأباه سياق التنزيل، ولا يوجد ما يؤيده من أمارة أو دليل، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق ولم يوجد في مكة بين الرسول واليهود أخذ، وردّ، وإنما هذا من جملة ما قصه الله على رسوله من أخبار الماضين، وهذه الأقوال ناشئه من عدم النظر إلى ترتيب نزول السور قال أبو قلاية هذه الآية جزاء كل مفتر الى يوم القيامة بان يذله الله في الدنيا ويغضب عليه في الآخرة، وقال سفيان بن عينية هي في كل مبتدع إلى يوم القيمة. وقال مالك بن انس: مامن مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية، قال والمبتدع مفتر في دين الله.

مطلب عظيم عفو الله وتكسير الألواح: ومما يؤيد ما اخترناه لتفسير هذه الآية على الوجه المار ذكره، قوله تعالى «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 153» لأن حكمها عام يدخل فيه عبدة العجل وغيرهم مهما عظمت جنايتهم، وهي من أعظم البشارة للمذنبين التائبين، لأن الذنوب مهما عظمت فعفو الله أعظم وما أحسن ما قيل: أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي ... هو غافر هو راحم هو عافي قابلتهن ثلاثة بثلاثة ... وستغلبن أوصافه أوصافي وقول أبي نواس: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بان عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم وقوله أيضا: إذا كنت بالميزان أوعدت من عصى ... فوعدك بالغفران ليس له خلف لئن كنت ذا بطش شديد وقوة ... فمن جودك الإحسان والمن واللطف ركبنا خطايانا وعفوك مسبل ... وهلا لشيء أنت ساتره كشف إذا نحن لم نهفو وتعفو تكرما ... فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو وقول الشافعي رحمه الله: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلّما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما قال تعالى مبينا بقية ما وقع لموسى مع قومه «وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ» أي سكنت ثورته استعاد السكوت للسكوت لأنه بمعناه وقرأ معاوية ابن قرة سكن وهي تصحيف أيضا «أَخَذَ الْأَلْواحَ» التي القاها على الأرض حال شدة الغضب عند مشاهدة طائفة من قومه عاكفين على عبادة العجل «وَفِي نُسْخَتِها» المكتوب عليها التوراة «هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ

يَرْهَبُونَ 153» يخافون من شدة عذابه، قالوا انها لم تتكسر حين ألقاها أولا حال الغضب، إذ لم يوجد حديث صحيح أو خبر صادق يمكن الاحتجاج به على تكسيرها، والقول بأنها تكسرت ثم عادت في لوحين بعد أن كانت في سبعة الواح، وبعد أن صام أربعين يوما، ننقله على علاته، إذ لم نقف على ما يؤيده، وكذلك القول، بأنها تكسرت ولم تعد، وأن النسخ في الآية من شذاذها المكسرة، وأحسن هذه الأقوال القول ببقائها نفسها لم يطرأ عليها شيء حين الإلقاء، وبليه القول بانها عادت بعد التكسير لحالتها الأولى لموافقته ظاهر القرآن إذ يقول الله تعالى (أَخَذَ الْأَلْواحَ) بلام التعريف بما يدل على أنها هي نفسها لأن المعرفة إذا أعيدت تكون غير الأولى، بخلاف النكرة كما بيناه في سورة الانشراح المارة والمراد بنسختها ما نسخ في اللوح المحفوظ منها وكتب فيها، فالفعلة هنا بمعنى المفعول كالخطبة ومن قال انها تكسرت استند لهذه الآية إذ قال في آية أخذ الألواح المارة عدد 145 (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وفي هذه الآية الكائنة بعد الإلقاء قال وفي نسختها هدى ورحمة فقط ولهذا قالوا إنها كانت سبعة أسباع، واحد فيه الأحكام والحدود المعبر عنها بالرحمة والهدى للخلق لتعلقها في مصالحم وهي الباقية، والستة التي فيها تفصيل كل شيء من بداية الخلق لنهايته تكسرت ووضع رذاذها في التابوت، وإليه الإشارة في الآية 246 من سورة البقرة في ج 3، وعلى هذا فالعلوم التي أوحاها الله لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم مما هو خاص بنفسه لم يبثها، أما الذي هو خاص بالبشر فبلغه إليهم والله أعلم. ثم إن بني إسرائيل لما رجعوا وتابوا لم يعرف عليه السلام مناط قبول توبتهم وكيفيتها فلهذه الغاية ولقبول اعتذار هارون عليه السلام ومن كان معه الذين لم يحولوا بين العجل وعابديه ولم يخبروا موسى بالأمر. مطلب الميقات الثاني الذي وقته الله لموسى: أوحى الله إلى موسى ما ذكره بقوله «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا

لِمِيقاتِنا» فيها حذف الجار واتصال الفعل بالمجرور، والأصل من قومه وهذا من باب الحذف والإيصال، وعليه قول الفرزدق: منا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا هبّ الرياح الزعازع والمراد بالميقات هنا الميقات الثاني الذي خصصه به ربه لمناجاته من توبة التابعين للسامري واعتذار المعتذرين المذكورين، وقد استصحب هذا العدد المختار من قومه معه وتوجه لمناجاة ربه بخلاف ذهابه للميقات الأول الذي ذهب به لأجل استلام التوراة التي وعده بها كما مر ذكره في الآية 141، وهؤلاء المختارون كلهم ممن كان مع هرون ولم يعبد العجل، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ثم دخل بهم في الوقت الذي وقته له ربه ما بين الغمام والجبل في طور سيناء وقال لهم أدنوا مني فدنوا حتى دخلوا كلهم فسجد وسجدوا معه وسمعوا كلام الله لموسى، فطمعوا وقالوا (أرنا الله جهرة) حتى نؤمن لك فما أتموا كلامهم حتى أخذتهم الصاعقة ورجف بهم الجبل فماتوا جميعا، وهذا أصح ما قاله المفسرون في هذه الآية، كما سيأتي تفصيلهم في تفسير الآية 55 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء الله «فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» ورآهم موسى جثثا هامدة «قالَ» وقد أخذته الدهشة لموتهم «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ» خروجهم معي إلى ميقاتك هذا حين فرطوا في النهى عن عبادة العجل ولم يفارقوا عبدته حين إصرارهم على عبادته «وَإِيَّايَ» أهلكت أيضا قبل أن أخرج بهم إليك. وهذا تواضع منه إلى ربه وتسليم إليه، أي وأهلكتنى أيضا حين طلبت منك الرؤية التي أدت إلى طلبهم إياها وكان لحقه وهم من أن يتهمه بنو إسرائيل بقتلهم لأنهم قوم بهت ظنّان، وصار يتضرع إلى ربه ويبكى ويقول «أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ» عبدة العجل الظالمون «مِنَّا» دون رضا واختيارنا، لا يا رب لا تفعل ذلك ولا تأخذنا بذنب غيرنا وأنت لا تقاصص أحد إلا بما اقترفه، وصار يردد أقوالا كهذه، وهو يعلم أن البلاء يعم الصالح والطالح لأن الصالح إذا لم يردع الطالح يكون راضيا بعمله فيستحق الجزاء من هذه الحيثية ولهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة الأنفال في ج 3، لأن المسبب للذنب

والحاث عليه والمهيء أسبابه يعاقب كالفاعل في شريعته، وفي شريعتنا يعاقب لكن ليس كالفاعل، ولهذا دأب يتحنّن ويستعطف ربه بإحيائهم حتى أحياهم له جميعهم بمنه وفضله، ولما اطمأن بحياتهم وقد أخذ منه الخوف مأخذه قال في حال شدته وارتعاده «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» اختبارك وما افتتن أولئك الجهال إلا بمحنتك وابتلائك لعبادك وهذه الفتنة «تُضِلُّ بِها» عن طريقك السوي «مَنْ تَشاءُ» إضلاله فيضل وفاقا لما هو في علمك الأزلي «وَتَهْدِي بها مَنْ تَشاءُ» هدايته فيهتدي طبقا لما هو مكتوب في أزلك «أَنْتَ وَلِيُّنا» لا ولي لنا غيرك ولا مرجع لنا في كشف مصابنا إلاك «فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 155» فضلا منك، وغيرك قد لا يغفر إلا لغرض ولا يعفو إلا لعوض، وذلك بمحض اللطف منك، والناس لطلب السمعة والرياء ونشر الصيت أو لدفع ضر حاضر أو لأمل مستقبل، طلب عليه السلام المغفرة له لإقدامه على الحضرة المقدسة بقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ولقومه لجرأتهم على طلب الرؤية، وقد سمعوا ما وقع عليه من أجلها «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً» بالحياة الطيبة فيها «وَفِي الْآخِرَةِ» حسنة أيضا وحذفت من الثانية لدلالة الأولى عليها وقد تقدم مثله في الآية 17 من سورة ق المارة وبعدها كثير، ومن هنا فما بعد أكثر أي المثوبة الحسنى وهي الجنة «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» تبنا توبة نصوحا من أن نسألك ما لا ترضى وما لا يجوز طلبه، مشتق من هاد إذا رجع وتاب قال: إني امرؤ مما جنيت هائد ... ربي اغفر إني إليك عائد ولهذا ومنذ ذلك اليوم سمو يهودا، وقيل كانوا يدعون بأسباطهم، وما قيل أن منهم من اسمه يهوذا كان ملكا وسموا باسمه، فهو بعد هذا لأنهم قبله كانوا عبيدا «قالَ» تعالى يا موسى قل لقومك هذا الحكم الذي فضيته عليهم بقبول التوبة هو «عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» لا اعتراض لأحد عليّ فيما أفعل، ولا راد لحكمي فيما أحكم، وفيه إشارة إلى غلظ عقوبة عابدي العجل، لأنه القتل كما سيأتي في الآية المنوه بها آنفا من سورة البقرة. واعلم يا موسى كما أن عذابي شديد فإن عفوي ت (28)

عظيم «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» وفيها إعلام بشمول رحمته قبول عذر المعتذرين وفي نسبة العذاب بصيغة المضارع، ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات، والعذاب مقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة فى جانب الرحمة أيضا. أما عدم التصريح بها فقيل تعظيما لأمر الرحمة، وقيل إشعار بغاية ظهورها، ولما نزلت هذه الآية بلفظها العام قال إبليس عليه اللعنة! أنا شيء أيضا يريد بذلك شموله بالرحمة، أخزاه الله، وتطاولت نفسه الخبيثة إليها فنزع ذلك من وهم قوله تعالى «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» الكفر وللفواحش «وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لعيالي، وخص الزكاة بالذكر مع دخولها في معنى التقوى تعريضا لقوم موسى لأن إنفاق المال عليهم شاق لشدة حرصهم ومزيد حبهم للدنيا «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ 156» لا يجحدون شيئا منها أبدا، فأيس الخبيث من هذه الرحمة، ثم طمحت نفوس أهل الكتابين فقالوا نحن نتقي ونزكي ونؤمن بالله فنزع الله منهم هذا الظن بقوله «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ» محمدا بدليل وصفه في قوله «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» ولا نبي أمي غيره. مطلب تخصيص الأمة المحمدية بالرحمة والأمور الشاقة على أهل الكتابين: ثم أكد وصفه بقوله «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» سأبين تعريفه وما يتعلق به في الآية 104 من سورة آل عمران في ج 3 ليعملوا به «وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» ليجتنبوه وسيأتي تفسير هناك أيضا «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ» من كل ما استطابته النفس عدا ما نص على تحريمه، وهو عام في كل طيب، والمراد هنا لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر لأهل الكتاب، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام للعرب، وتشمل كل ما حرموه على أنفسهم مما هو في التوراة والإنجيل وما هو من عندياتهم ومفترياتهم وسيأتي تفصيل هذا في الآية 136 من سورة الأنعام في ج 2 والآية 102 من المائدة والآية 93 من آل عمران في ج 3 «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» كالميتة والد ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله والربا والرشوة والخمر والميسر، وكل ما خبث

من الفعل والقول والعمل «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» التكاليف الشاقة، كقطع عضو المذنب في غير السرقة، وعدم قبول التوبة إلّا بالقتل، وقطع الثوب المتنجس، وإحراق الغنائم، وتعيين القصاص في الخطأ، وعدم قبول الدية، وعدم قبول العفو، وعدم جواز الصلاة إلا في الكنائس، ومؤاخذة المتسبب كالفاعل، وتحريم العمل يوم السبت والأحد، وعدم التطهير بغير الماء، وحرمة أكل الصائم بعد النوم، ومنع الطيبات عنهم بما اكتسبوا من الذنوب، وغير ذلك «وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» المتقدم ذكرها، المقيدين بها الموجودة في التوراة لأن الإنجيل لا أحكام فيه غير تحليل بعض ما حرم على اليهود لقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في الآية 50 من آل عمران في ج 3، ولهذا فإن النصارى تابعون في الأحكام إلى التوراة، قال عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية ليحبس نفسه على العبادة وذلك قوله تعالى «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ» بهذا الرسول الموصوف بالأوصاف المذكورة وهو لا شك محمد صلّى الله عليه وسلم «وَعَزَّرُوهُ» عظموه ووقروه «وَنَصَرُوهُ» على أعدائه وعلى إقامة ما جاء به من الدين «وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ» وهو القرآن العظيم منور القلوب والأخلاق، وإنما قال معه لأنه أنزل مع النبوّة مع جبريل عليه السلام إليه صلّى الله عليه وسلم «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 151» الفائزون بكل خير، الناجون من كل شر، وهذه الرحمة الموصوفة يفوز بها كل مؤمن بالله متبع رسوله سواء كان من بني إسرائيل أو غيرهم ولا يمكن تخصيصها فيمن كانوا على زمن موسى إلى إرسال عيسى لأنه لا يجوز أن يتبعوا شرائع نبي لم يبعث بل يجوز أن يعتقدوا نبوته حسبما وصفه الله في التوراة، كما أنه من المعلوم أن الإنجيل لا وجود له حسا في ذلك الزمن، فيكون المراد منه أمة عيسى الذين سيجدون نعته صلّى الله عليه وسلم مكتوبا في الإنجيل الذي سينزله الله عليهم، إذ من المحال أن يجدوه قبل نزوله. وذكره قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.

مطلب وصف الرحمة وصفة الرسول في الكتب القديمة: أما اللاحقون زمانه في هاتين الأمتين فلا تكتب لهم هذه الرحمة إلّا باتباعه بأن يؤمنوا به وينصروه ويعظموه ويتبعوا ما جاء به، وقد وصفه الله بأنه الرسول أي الواسطة بينه وبين خلفه لتبليغ أوامره ونواهيه وشرائعه، وبأنه النبي المخبر عن الله وهو من أعلى المراتب وأشرفها وصفا، وأنه الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من أسنى التعظيم وصفا لإتيانه بالقرآن العظيم بأفصح اللغات، ومن أكبر البراهين على رسالته لأنه لو كان يقرأ ويكتب لاتهم بأنه تعلمه من الغير وكتبه عنهم وقرأه عليهم، وهذه النسبة أحسن من النسبة لأم القرى أو إلى الأم بحيث لم يخرج عما ولدته عليه أمه لقوله صلّى الله عليه وسلم: نحن أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب. واعلم أن الأمّية كمال مادي يعود نفعه على المعاش وليست بكمال روحي، ولهذا فإنها بحق الرسول كمال لتنزهه عن الصنايع العملية التي هي من أسباب المعاش، أما بحقنا فنقص لاحتياجنا لذلك، ولهذا البحث صلة في الآية 47 من سورة العنكبوت في ج 2 فراجعها تجد تفصيله بصورة أوسع. روى البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول الله في التوراة، فقال أجل إنه موصوف في التوراة ببعض صفته بالقرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب (كثير الصياح) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء (الكافرة لأن الاعوجاج ضدّ الاستقامة) بأن تقول لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما وقلوبا غفلا، (لا يصل إليها شىء ينفعها، كأنها في غلاف عن سماع الحق) ومثله في رواية البخاري وغيره. وجاء من حديث أخرجه ابن مسعود وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهيل مولى خيثمة قال: قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنه لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، لا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس

قميصا مرقوعا. ومن فعل ذلك فقد بريء من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد. وفي الزبور أيضا راجع الآية 104 وسورة الأنبياء في ج 2، وإنما لم يذكره الله هنا لأن بني إسرائيل سابقا ولا حقا يقرأون التوراة والإنجيل فقط، لذلك اقتصر عليهما، ولأن الزبور خلو من الأحكام مقتصر على الأمثال والأدعية، والتنزيه، وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب ابن منبه قال: إن الله تعالى أوحى في الزبور: يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتي يوم القيامة، ونورهم مثل نور الأنبياء. وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الأنبياء قبلهم، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا اؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعافا مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا، أو قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة. يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا وبما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار. وإلى غير ذلك من الأخبار الناطفة بأنه صلّى الله عليه وسلم مكتوب نعته في الكتب السماوية قبل أن يطرأ عليها التبديل والتغيير، ومن راجع الآية 47 من سورة العنكبوت في ج 2 يجد ما يغنيه عن غيرها.

مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم: قال تعالى «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك وللخلق أجمع «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ» وحده «وَرَسُولِهِ» محمد «النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» مما نزل عليه منها ومما نزل على الأنبياء قبله من أسفار وصحف وكتب، وقرأ بعضهم (كلمته) وأراد بأنها عيسى بن مريم تعريضا باليهود، وتنبيها على أن من لم يؤمن به ويعتقد بأنه من روح الله وأمه صدّيقة طاهرة عذراء لا يعتبر إيمانه، بل هو كافر لأن من لم يؤمن به على هذه الصفة لم يؤمن بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم، وان جاحدهما لا شك بكفره. وهذه القراءة جائزة لأنها من حيث الرسم موافقة، وغاية ما فيها قصر الميم، والقراءة إذا لم يكن فيها نقص حرف أو زيادته لا بأس بها «وَاتَّبِعُوهُ» جميعكم عربكم وعجمكم يهودكم ونصاراكم مجوسكم وصابئتكم، على اختلاف مللكم ونحلكم وأجناسكم وألوانكم والسنتكم «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158» بهديه إلى طريق الصواب. تشير هذه الآية بوضوح لا مزيد عليه بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من الله مرسل إلى البشر كافة رسالة عامة، لعموم اللفظ المخاطب به، والأمر فيها للوجوب، مما يدل على صحة دعواه عموم الرسالة للإنس والجن أيضا، راجع تفسير أول الفرقان الآتية والآية 28 من سورة سبأ في ج 2 والآيتين 15 و 69 من سورة المائدة في ج 3 تعلم بأنه مرسل لمن على الأرض على الإطلاق، لا خصوص العرب كما يقوله بعض أهل الكتاب والمبتدعة والزنادقة وغيرهم ممن لا نصيب لهم في معرفة كتاب الله ولا حظ لهم في الآخرة، وتعلن أيضا بأن الذي أرسله هو مالك الملك والكون ومدبره الإله الواحد الذي لا شريك له القادر على الإحياء والإماتة، ومؤكدة لزوم الإيمان به أولا لأنه الأصل ثم برسوله الموصوف بوصف يميزه عن غيره، ويخصصه بأنه محمد بن عبد الله لا غيره، لأن الإيمان به فرع عن الإيمان بالله، وملزمة عامة الخلق باتباعه فيما يأمر

وينهى، رجاء الوصول إلى الرشد والصواب، وهذة المتابعة واجبة بالأقوال كلها أما بالأفعال فيفعل ما كان يفعله الرسول من واجبات لم يخص بها نفسه، أما ما خص به نفسه كصوم الوصال والتزوج بأكثر من أربعة وعدم الوجوب عليه في القسم وما شاكل ذلك فلا، راجع الآية 144 المارة، وأن يتابعه على طريق الندب بما يفعله أيضا مما لم يختص به ويتأدب بآدابه. روى البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة. وفي رواية وبعثت إلى الناس عامة بدلا من كل أحمر وأسود. والمراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب أو الإنس والجن. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فضلت على الأنبياء بسته أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون. وعليه فقد ثبت عموم رسالته بالقرآن والحديث قال تعالى «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ» جماعة عظيمة وطائفة طاهرة مؤمنة «يَهْدُونَ» الناس «بِالْحَقِّ وَبِهِ» أي الحق «يَعْدِلُونَ 159» بين الناس في أحكامهم. مطلب ما قضى به صلّى الله عليه وسلم والمراد من قوم موسى: وهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية إمّا قوم متمسكون بدين موسى قبل تبديله وتغييره وماتوا عليه، وإما أن تكون بحق من أسلم منهم وحسن إسلامه على عهد محمد صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وعلى هذا تكون هذه الآية من قبيل الآيات المغيبة أي إخبار حضرة الرسول بغيب لم يقع قبل وقوعه، لأن وقت نزول هذه الآية لم يكن عبد الله ولا غيره مسلما من اليهود، والأول أوجه لشموله كل من مات قبل بعثة محمد على دين موسى وعيسى الحقيقيين، والله أعلم، لأن لفظ الآية يدل على الكثرة، وعبد الله وأصحابه فليلون، وما قيل بجواز إطلاق

الكثرة عليهم بسبب إخلاصهم في الدين على حد قوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) الآية 120 من سورة النحل في ج 2 فوجيه، أما ما قيل بأن أحد الأسباط الذين لم يشترك بقتل الأنبياء كان يتبرأ من بقية الأسباط الذين اشتركوا في قتلهم، وسأل الله أن يبعده عنهم، ففتح الله نفقا عبروا منه إلى ما وراء الصين أو هم قوم بأقصى الشرق على نهر يسمى الأردن، وأن رسول الله رآهم ليلة الإسراء وأبلغوه سلام موسى عليه السلام ووصفوهم بأوصاف كاملة وأن الرسول أقرأهم عشر سور من القرآن وأوصاهم بالصلاة والزكاة وبالجمعة وترك السبت، فلم يرد به نقل صحيح، وفيه ما ينفيه لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وكذلك الجمعة لم تقم إلا هناك، وغير معقول أن يأمرهم بشيء لم يؤمر به بعد وكان نزول أكثر من عشر سور فكيف يقتصر على تعليم عشر فقط وهو مأمور بأن لا يكتم من وحي الله شيئا على أحد، وهذا كاف لبطلان هذا القول والنقل، ومما يدل على عدم صحته أنه صلّى الله عليه وسلم لم يذكر شيئا عن هؤلاء الجماعة في جملة ما ذكره مما رآه ليلة الإسراء لأن هذا أيضا من جملة العجائب، فلو كان لذكره لقومه لهذا لا عبرة به، لأنه من نقل الأخباريين والقصّاص فهو أضعف من الضعيف لا يلتفت إليه البتة، وإنما نقلناه ليطلع عليه القارئ ويردّ على من تكلم به ويفنده له والله أعلم. قال تعالى «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً» قبيلة من اثنى عشر ولدا وهم أولاد يعقوب عليه السلام المبينين في تفسير الآية 9 من سورة يوسف في ج 2، والسبط ابن الولد ويقال له حفيد كما في الآية 72 من سورة النحل في ج 2 ولم تتكرر في القرآن، والسبط جاء في سورة البقرة أيضا فقط، والاستعمال الجاري بين الناس أن الحفيد ابن الابن والسبط ابن البنت «أمما» جماعات وطوائف وهو بدل من اثنى عشر والمميز ماعدا العشرة يكون مفردا فعلى القاعدة النحوية يقتضي أن يكون سبطا ولكنه لما كان بمعنى القبيلة وهو المراد هنا والقبيلة أسباط لا سبط واحد وضع أسباط موضع القبيلة «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ» بالتيه لأنهم عطشوا وليس لديهم ماء وفسر الإيحاء بقوله «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 إلى 170]

الْحَجَرَ» فضربه عليه السلام «فَانْبَجَسَتْ» ترشحت عن ماء قليل وهو معنى الانبجاس ولم تكرر هذه في القرآن أيضا، وجاء في الآية 60 من البقرة في ج 3 (انفجرت) أي خرج منها ماء كثير، قال يعبر بالانبجاس اعتبارا بأول الخروج، وبالانفجار اعتبارا بنهايته «منه» أي الحجر المضروب «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» لكل سبط عين «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» منها على حدة لئلا يدخل سبط على الآخر فيأخذ من سقائه فيختلفوا والله أكرم من أن يجعل على عباده عذابين، عذاب التيه وعذاب الاختلاف، ثم شكوا إلى موسى بعد أن أمن لهم شربهم عدم وجود ما يظلهم من الشمس فدعا الله ربه فأجابه بقوله: «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ» بحيث صار يسير معهم إذا ساروا ويسكن إذا وقفوا ثم شكوا إليه الجوع إذ نفد ما عندهم فدعا ربه فأجابه بقوله «وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» المنّ معروف شيء حلو لزج يضرب إلى البياض، والسلوى نوع من الطير يسمى الآن السمن أميز من العصفور، جلّت قدرته هو الذي شردهم جزاء مخالفتهم، وهو الذي تلطف بهم وتعطف عليهم وقال لهم «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من الماء العذب والمن الحلو والسلوى الدسم والظل الوافر طيلة مدة تيهكم «و» هؤلاء لما كفروا بهذه النعم الجليلة التي تأتيهم دون تعب وقالوا قد سئمنا منها، كما سيأتي في الآية 61 من البقرة من ج 3 «ما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160» بتضجرهم وعدم صبرهم كأن لهم علينا منّة ويتطلبون ما تهوى أنفسهم، ولم يعلموا أنا إنما نعاقبهم لسوء أعمالهم. ونرحمهم لعلهم يرجعون إلينا تائبين، لأن المكلف إذا مر بشيء فعدل إلى غيره كان هو الجاني على نفسه، وهو الظالم لها، لأنه أوردها للشرّ، فيكون وبال ظلمه عليه لا على غيره. مطلب أسباب تشرد بني إسرائيل والآيات المدنيات: ثم شرع جل شأنه يقص علينا أسباب تشردهم وعملهم الذي أوجبه فقال (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) بواسطة نبيهم عليه السلام «اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» بيت المقدس

المبارك «وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ» من ثمارها وفواكهها وحبوبها وبقلها «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا شكرا للنعم الموجودة فيها، مما لم يكن لكم مثله قبل «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» تعظيما للبيت وإجلالا لربه الذي أنعم عليكم بدخولها ومنحكم من خيراتها وبركاتها «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ» المتراكمة عليكم وأحسنوا لأنفسكم وغيركم لأنا «سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ 161» على المغفرة ثوابا من إفضالنا، وخيرا مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» أو أمرنا هذه ولم يقدروا نعمنا عليهم وقالوا «قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فبدل الحطة قالوا خطة، وبدل أن يدخلوا الباب ساجدين احتراما لنا خاضعين لأوامرنا دخلوه زحفا على أستاههم «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ» بسبب مخالفتهم هذه «رِجْزاً» عذابا شديدا نازلا عليهم «مِنَ السَّماءِ» وهو الموت والفرق بين أنزلنا وأرسلنا أن الإرسال يدل على الكثرة، والإنزال على القلة وذلك «بِما كانُوا يَظْلِمُونَ 162) أنفسهم لخروجهم عن الطاعة وسيأتي زيادة تفصيل لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية 58 من سورة البقرة من ج 3. وهذه أولى الآيات المدنيات في هذه السورة، وهي كما ذكرنا في مثلها مغرضة بين ما قبلها وما بعدها كالمستطردة قال تعالى (وَسْئَلْهُمْ) يا أكمل الرسل يريد اليهود الموجودين معه في المدينة «عَنِ الْقَرْيَةِ» هي طبرية وقيل مدينة بين مدين والطور أو مصر والمدينة أو بين مدين وعيوني على الساحل «الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» قريبة منه على ساحله والحاضرة المدينة الكبيرة المرتبط بها غيرها من القرى والقصبات، ويقال لساكنها حضريّ ضد البادية فالمخيم بها بدويّ «إِذْ يَعْدُونَ» يتعدون حدود الله ويتجاوزون أوامره التي سنّها لهم وأوجبها عليهم «فِي السَّبْتِ» الذي حرم عليهم العمل فيه ثم بين تعديهم بمناسبة ذكرى مخالفتهم المذكورة آنفا فقال «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً» ظاهرة متتابعة على وجه الماء «وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» وهذا من قبيل الإلهام لهذه الحيوانات كأنها تعلم أن أحدا لا يعارضها يوم السبت فتظهر

مطلب الرضى بالمعصية معصية

وتتلهى على الساحل وتعلم أنها تصاد في غيره فتختفي «كَذلِكَ» مثل هذا الاختبار والابتلاء «نَبْلُوهُمْ» نمتحنهم «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 163» يخرجون من طاعتنا ونحن أعلم بما يقع منهم قبل الاختبار، ولكنا نظهره لعبادنا ليعلموا حال المخالفين لهم، وإنا لا نعذب أحدا بغير ذنب وقد نثيب بغير عمل تفضلا منا. وهذه الآية من الأخبار بالغيب معجزة له صلّى الله عليه وسلم تجاه يهود زمانه إذ أخبرهم بما وقع في أسلافهم بمخالفة الله أدت لمسخهم قردة وخنازير كما في الآية 165 الآتية ونظريتها الآية 60 من سورة المائدة من ج 3 فقد أخبرهم صلّى الله عليه وسلم ما اقترفه آباؤهم زمن سيدنا داود عليه السلام، مع أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يخرج من مكة طيلة عمره حتى هاجر إلى المدينة وفي المدينة لم يطلع على كتب الأقدمين لعدم معرفته القراءة، وهم يعلمون ذلك، وسبب مسخهم أنهم كانوا حفروا حياضا وسقوا لها ساقية متصلة بالبحر فصارت الأسماك تدخلها يوم السبت على حسب عادتها لعدم المعارضة لها ولم تعرف ماحيك لها من الحيل، فسدّوا عليها طرف الساقية من جهة البحر يوم السبت وتركوها حتى إذا دخل يوم الأحد اصطادوها، فعاقبهم الله بالمسخ، ولهذا قال بعض العلماء من أكل الربا بالحيلة حشر يوم القيامة على صورة القردة والخنازير، كما سيأتي في الآية 274 من البقرة من ج 3، قال تعالى «وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ» جماعة «مِنْهُمْ» أي يهود ذلك الزمن لأنهم بعد اقترافهم هذا الذنب بالحيلة والمكر افترقوا ثلاث فرق: فرقة تطاولت فتعدت حدود الله باقترافهم صيد السمك على تلك الصورة، وفرّقة سكتت ولم تشاركهم في خداعهم هذا ولم تنههم عنه، وفرقة نهت وامتنعت من المشاركة وحذّرت الفاعلين غضب الله. كما كانت حالتهم في عبادة العجل إذ افترقوا ثلاث فرق أيضا كما مر في الآية 148. مطلب الرضى بالمعصية معصية : فقال الساكتون للناجين «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» في هذه الدنيا جزاء عملهم القبيح «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة على ذلك ولم تتركوهم وشأنهم (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) غدا في الآخرة إذا سئلنا عن ذلك، لئلا نكون قد

فرطنا في واجبنا المطلوب منها وهو النهي، لئلا نعد راضين بفعلهم، لأن الساكت عن فعل منهى عنه كالراضي به، والراضي كالفاعل. وفيه تقريع للفرقة الساكتة، لأن سكوتهم قد يعد رضى وإقرارا في بعض الأحوال. لهذا روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وجاء في حديث آخر: (ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من لا ينكر عليهم إلا عمّهم الله بعذابه) . ثم قال تعالى على لسان الناهين «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 164» الله فيما فعلوا فيرجعوا إليه خوفا من عقابه وينتفعوا بموعظتنا، وإنا طمعا بارتداعهم وتوبتهم نصحناهم قياما بالواجب المترتب علينا، قال تعالى «فَلَمَّا نَسُوا» هؤلاء المخالفون «ما ذُكِّرُوا بِهِ» من قبل الناهين ولم يقبلوا موعظتهم «أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» لأنهم قاموا بما هو مترتب عليهم ولم يسكنوا ليؤاخذوا بسكوتهم الذي يعد رضى منهم «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ» عظيم محزن مخز «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 165» يخرجون عن طاعتنا والفرق بين يفسقون ويظلمون أن الظالمين من وصفوا بالظلم والفاسقين من خرجوا عن الطاعة، وإنما عد تركهم نسيانا لإهمالهم الأخذ بنصح جماعتهم وتشبيه التارك بالنّاسي استعارة، والجامع بينهما عدم المبالاة في كل، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقته السببية، ولم يحمل على ظاهره لأن النسيان في شريعتنا لا يؤاخذ عليه، والترك عن عمد يترتب عليه العقاب. روى ابن ماجه عن البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أما في شريعة موسى عليه السلام فالنسيان مؤاخذ عليه، وكذلك الخطأ، كما مرّ في تفسير الآية 157، وقوله صلّى الله عليه وسلم رفع، يدل على عدم العذاب في شريعتنا على الثلاثة الواردة في الحديث والعقاب على من قبلنا عليها وإلا لم يقل رفع، تأمل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فلا أدري ما فعل الله بالفرقة الثالثة الساكتة وجعل يبكي، فقال عكرمة جعلني الله

فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما عليه الفرقة المقترفة وقالوا للفرقة الناهية لم تعظون إلخ الآية، إنه وإن لم يقل أنجيتهم فلم يقل أهلكتهم، فأعجبه قولي وأمر لي ببردين وكسانيهما، وقال نجت الساكتة يؤيده قول يمان بن رباب نجت الطائفتان وهو قول الحسن أي الآمرة والساكتة، أما ما قاله ابن زيد وروي عن أبي عبد الله: نجت الناهية فقط فمستبعد هذا على شريعتنا، أما على شريعة موسى فلا وعلى كل فالله تعالى أكبر وأكرم قال تعالى «فَلَمَّا عَتَوْا» أبوا الرجوع «عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ» تكبرا وأنفة «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ 166» أذلاء صاغرين منسوخين فكانوا كذلك. مطلب في خزي اليهود ورفع عيسى عليه السلام: قال تعالى «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ» أعلم وفيه معنى التوعد والتهديد لافترانه بالقسم الدالّ عليه وجود لامه في قوله «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ» أي اليهود، لأنهم بدلوا وغيروا أحكام التوراة وأجروا أحكام ما بقي منها على الضعيف دون القوي، وحرّفوا كثيرا منها، وكذلك فعل النصارى في الإنجيل لما رأوا أن حضرة الرسول يخبر عما فيهما، وكانوا قبلا يحورون ما يتعلق بالأحكام فقط، فلما ظهر الرسول صاروا يرفعون منها ما يتعلق بأوصافه صلّى الله عليه وسلم قصد نهي اتباعهم له والإيمان به، مع أن الواجب عليهم إبقاؤها والإيمان بما جاء فيها مصدقا للقرآن أخزاهم الله، ولهذا أقسم الله جل شأنه على الجزم بأنه ليرسلنّ عليهم «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ» يكلفهم على الدوام «سُوءَ الْعَذابِ» أقساه وأشده مما لا رحمة فيه «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» إذا شاء عقاب أمثال هؤلاء في الدنيا فضلا عن عذاب الآخرة «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 167» لمن آمن ورجع عن كفره ودخل بالإسلام فلم يعاقبه ولم يسأله عما فعل لعظيم مغفرته وكبر عفوه، لأن الإسلام يجبّ ما قبله. ومن جملة إذلال اليهود وإصغارهم أنهم صاروا يؤدون الجزية إلى المجوس لما سلّط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وملوك الروم، فساموهم وأهانوهم، ولم يزالوا كذلك محتقرين إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم، فقبل من أسلم منهم ومن لم يسلم قبل منه الجزية

فأدوها له صاغرين، وهي ملازمة لهم إلى يوم القيامة إن شاء الله، ولولا أن الله تعالى منعه من قتالهم لدمرهم ولم يبق منهم أحدا، ولكن لله حكم لا تعيها عقولنا وهم في زماننا محقّرون أيضا مهانون يعطون أضعاف الجزية التي كانوا يؤدونها للمسلمين إلى الانكليز والأمريكان الذين لا يقيمون لهم وزنا كالإسلام الذين ساووهم في كافة الحقوق اتباعا لقوله صلّى الله عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم أخزاهم الله أعداء الداء للإسلام، لا يذكرون معروفهم ولا يعترفون بإحسانهم، وإن العز الذي يتوقعونه في فلسطين بواسطة المذكورين في هذا الزمن الذي نحن فيه ويتطاولون إليه سيكون إن شاء الله الذل والصغار لهم فيه، لأنه إنما يكون- لا كونه الله لهم- تحت رقابة الأمريكيين وهو الاستعمار بعينه، راجع الآية 7 من سورة الإسراء الآتية، فنسأل الله أن يجمع كلمة الإسلام ويهلك الصهيونيين، وإن من بقي مشردا منهم بآخر الزمن يتبعون الدّجال ويدعون إلهيته، فيزدادون كفرا على كفرهم، لأنهم يزعمونه المسيح الذي أخبر به موسى عليه السلام وأوجب عليهم اتباعه، ولم يعلموا بل يعلمون ويجحدون أن المسيح عيسى بن مريم الذي كذبوه وناوءوه عتوا وعنادا وحبا ببقاء الرئاسة لهم وقصدوا قتله قاتلهم الله، فأنجاه منهم ربه وحفظه من أن تنال قدسيته أيديهم القذرة، فألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه لقاء دراهم معدودة، مثل قيمة يوسف عليه السلام التي ابتاعه فيها اخوته قبل تشرّفهم بالنبوة، راجع تفسير الآية 9 من سورة يوسف في ج 2، إذ ما من نبي إلا وله منافق، يدلك على هذا قوله تعالى في الآية 31 من سورة الفرقان الآتية فقد جعل الله لموسى السّامري، ولمحمد عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا لعيسى عليهم السلام، فقتل هذا الخبيث جزاء وفاقا وصلب وبصق عليه وسخر به، إذ يقولون له أنت المعلم لماذا لا تخلص نفسك وكنت جئت بخلاص العالم ولم يقبلوا منه ما اعتذر به بأنه ليس المعلم (أي عيسى إذ كانوا يسمونه معلما) أنا الذي دللتكم عليه، فيزيدونه لكما ولطما وصفعا وبصاقا، ويقولون له الآن تنكر نفسك وكنت تدعي النبوة وخراب الهيكل إلى غير ذلك، كما سيأتي توضيحه في الآية 158 من

سورة النساء في ج 3 وذلك أن الله تعالى الكامل إذا جعل شيئا جعله كاملا فلما ألقى شبهه على يهوذا صار كأنّه هو عيسى نفسه، ولذلك فإن أمه والنساء معها لم ينكرن أنه هو حقيقة، لذلك صرن يبكين عليه وحزنّ لأجله، إذ لا يستطيع أحد أن يقول ليس هو بعيسى، هذا وإن الله تعالى سيهلك الدجال مسيح اليهود وأتباعه على يد مسيح المسلمين الذي سمي مسيحا لأنه يمسح بيده المريض والأعمى والأكمه والأبرص فيبرأ بإذن الله تعالى حالا، بخلاف مسيح اليهود الذي هو الدجال، فإنه إنما سمي مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى أعور أشقر، فأين هذا من ذاك، وإن الله تعالى لا بدّ وأن يسلط على يهود زماننا من يهلكهم ويزيد في ذلهم وصغارهم، وسنورد الأحاديث الصحيحة الدالة على نزول عيسى وقتله الدجال واقامة القسط في الأرض بين الناس في الآية 61 من سورة الزخرف في ج 2 إن شاء الله تعالى القائل «وَقَطَّعْناهُمْ» أي اليهود قطعهم الله وأخزاهم «فِي الْأَرْضِ أُمَماً» فرقا وطوائف مشتتين محقرين فلا تجد أرضا خالية منهم أخلاهم الله منها ولا بلدا إلا وفيها منهم غير حماة، ولذا قيل حماها الله من كل ظالم أي كل يهودي لأنه لا يكون إلا ظالما، وهذا حتى تستقيم القاعدة (ما من عموم إلا وخصص) ولا يعلم السبب في حماية حماة من اليهود إلا أهل حمص الذين قلدوهم بذلك، لأن كلا من أهالي هاتين البلدتين يعرف خبايا الآخر على الحقيقة وزيادة (وهذه نكتة أتينا بها هنا) قال تعالى «مِنْهُمُ» اليهود الأولون على زمن موسى فمن بعده حتى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم «الصَّالِحُونَ» الذين ثبتوا على دينهم فلم يغيروا ولم يبدلوا حتى ماتوا عليه قبل بعثة عيسى عليه السلام، والذين أدركوا عيسى وآمنوا به وبقوا على إيمانهم حتى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم وماتوا على ذلك، والذين أدركوا محمدا وآمنوا به وماتوا على إيمانهم فهم صالحون من أهل الجنة، لأن الله تعالى لا يظلم حق أحد والقرآن كلام الله لم يغمط حق أحد أيضا ولا يغفل ذكره كيف وهو القائل في كتابه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام في ج 2 «وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» فسقة ومخطئون، لأنهم خالفوا بعض الأوامر وامتثلوا بعضها وماتوا قبل بعثة عيسى

ومحمد- عليهما السلام- على الصورة المذكورة أعلاه، ومنهم كفرة وهم الذين غيروا وبدلوا وحرفوا وكفروا بعيسى ومحمد وكتابهما، وهؤلاء لم يشر إليهم القرآن هنا اكتفاء بما ذكر قبلا وبما سيذكر بعد، ودائما هم متفرقون إلى ثلاث فرق منذ التحاقهم بموسى إلى اليوم فرّقهم الله وشتت كلمتهم، قال تعالى «وَبَلَوْناهُمْ» امتحناهم واختبرناهم «بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ» لأن النعمة إذا شكرت ترغب بالطاعة فتدعوا إلى الإيمان والشدة يخاف عاقبتها فتدعو إلى الإيمان أيضا، أي إنا بلوناهم بكلا الأمرين «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 168» عن غيهم فلم ينجع بهم «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» الخلف القسري الذي يجيء بعد قرن كان قبله، أي حدث من بعدهم حدث سوء تبدل عما كان عليه، وهو بسكون اللام وإذا فتحت قيل خلف خير خلف صدق أما ما جاء في قول زهير: لنا القوم الأولى إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع وما جاء في قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب فاسكان اللام بالأول وهو في معرض المدح وفتحها في الثاني وهو في معرض الذم فلضرورة الشعر. وقال البصريون يجوز تحريك اللام وسكونها في الرديء وفي الجيد التحريك فقط، وهؤلاء هم الفرقة الثالثة الكافرة المشار إليها في الآية 165 المارة لأنها لم تذكر فيها، قال تعالى في ذمّهم إنهم «وَرِثُوا الْكِتابَ» التوراة بانتقالها لهم من آبائهم فلم يعملوا بها وصاروا «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا» الشيء «الْأَدْنى» من حطام الدنيا الذميمة كالرشوة القبيحة، وقد تنزه القرآن عن التصريح بها لخساستها ودناءة آخذيها، راجع الآية 128 من البقرة في ج 3 كي يبدلوا أحكام التوراة التي آلت إليهم بطريق الإرث ويحرفونها ويغيرون ما فيها لقاء عرض تافه حقير، والعرض بفتح الراء يطلق على جميع متاع الدنيا، فيقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، وأما بسكونه فكل ما يطلق عليه لفظ مال غير النقدي «وَيَقُولُونَ» مع عملهم هذا «سَيُغْفَرُ لَنا» ما نفعله، يتمنون ويطمعون

[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 إلى 180]

بالمغفرة أماني باطلة «وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ» أيضا حلالا كان أو حراما، مصرين على عملهم غير تائبين منه، أي ان الذين كانوا من هذه الفرقة يعيبون المرتشين المحرفين المغيرين المبدلين، إذا جاءهم عرض مثل عرض سلفهم لا يمتنعون عن أخذه أيضا، فوبخهم الله تعالى بقوله «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» في العهد والصدق في المواثيق التي أخذها الله عليهم في التوراة «وَدَرَسُوا» والحال أنهم قد قرأوا «ما فِيهِ» من تلك العهود والمواثيق «وَالدَّارُ الْآخِرَةُ» واطلعوا في التوراة أيضا على ما أعده الله لأهل طاعته من الثواب، ولأهل معصيته من العقاب المرتب على الامتثال والانقياد، والتغيير والتبديل والتحريف فيها، وعرفوا أن العمل الصالح لتلك الدار «خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» العمل السيء هناك في تلك الدار الآخرة «أَفَلا تَعْقِلُونَ 169» أن ما فيها من الخير خير وأبقى مما يأخذونه في الدنيا من الرشوة. أخرج الترمذي عن شداد بن أوس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: الكيس من دان نفسه (حاسبها) وعمل لما بعد الموت. (قبل أن يحاسب عليها) والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. والشاهد فيه أن اليهود يعضون الله ويطلبون مغفرته، قال تعالى «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» ويعتصمون به ويعملون بما فيه «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم لأن هذه من الآيات المدنيات كما ذكرنا، وخص الصلاة بالذكر مع أنها داخلة بالتمسك تنبيها على عظم شأنها لأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله ورسوله «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ 170» أنفسهم الثابتين على صلاحهم، نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا في المدينة من يهودها، فطوبى لهم ولمن يثبت على الإسلام ويموت عليه، ثم ندّد في بني إسرائيل السابق ذكرهم بمناسبة ذكر الصالحين منهم فقال «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ» الطور أو جبلا غيره، وهذه الجملة عطف على جملة وإذ قيل لهم المارة في الآية 161 المكية وكلمة نتقنا لم تكرر في القرآن وسيأتي في الآيتين 63، 93 من سورة البقرة في ج 3 ما يتعلق بهذا، أي رفعناه وصيرناه «فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» خيمة كبيرة ت (29)

أو سحابة غيم عظيمة، أي اذكر يا محمد لقومك ويهود زمانك حين خلعنا الجبل من أصله من الأرض، ورفعناه فوقهم إلى جهة السماء، وجعلناه كالسقف على المعاندين من أسلافهم الموجودين عندك الآن. وكل ما يقي من الشمس يسمى ظلة حتى الشمسية المتعارفة لأنها تقي من وهج الشمس والمطر، ولذلك تسمى ظلة ومظلة «وَظَنُّوا» تيقنوا وجزموا «أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة إن لم يمتثلوا ما أمروا به وقلنا لهم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم أي تقبلوا أحكامه جبرا عنكم «وَاذْكُرُوا ما فِيهِ» كله لا تنسوه واعملوا به فإن عدم العمل به يؤدي إلى النسيان، والنسيان يؤدي إلى الهلاك، وإذا أردتم النجاة داوموا على ذكره «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 171» وقوع الجبل عليكم وسبب ذلك أنهم أبو قبول أحكام التوراة لمشقّتها فلما رأوا الجبل ساقطا عليهم لا محالة سجد كل منهم على خدّه وحاجبه الأيسرين وجعل ينظر إلى الجبل بعينه اليمنى خوفا من سقوطه عليه إلى أن زيح عنهم، ولذلك إذا اقتضى أن يسجدوا لله شكرا أو لصلاة اعتادوها سجدوا كذلك على تلك الصفة. انتهت الآيات المدنيات. مطلب كيفية أخذ العهد على الذرية: قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ» وبين كيفية الإشهاد بقوله «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» مربّيكم ومالك أمركم وليس لأحد دخل في شأنكم غيري «قالُوا بَلى شَهِدْنا» على أنفسنا بذلك، وهنا يحسن الوقف لأنه من تتمة كلام الذرية، ومن استحسن الوقف على بلى قال إن شهدنا من كلام الملائكة، أي قال لهم اشهدوا على خلقي هؤلاء قالوا شهدنا، والأول أولى بالنظر لسياق الآية وعدم ذكر الملائكة قبلها يؤيده قوله تعالى «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» حين نسألكم عن هذا العهد «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا» الميثاق «غافِلِينَ 172» أي لم ننتبه إليه حين أخذه علينا «أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ» زماننا هذا وقد سنّوا لنا الشرك بالتاء على الخطاب للذرية وهي القراءة المختارة في المصاحف، أما القراءة بالياء على الغيبة فيتجه ولكنه

ليس مختارا، لأن الله تعالى صرف الخطاب عن حبيبه محمد إلى نسم الذرية كافة لئلا يحتجوا بعد فيقولوا «وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» لم نهتد إلى طريق التوحيد ورفض الشرك «أَفَتُهْلِكُنا» يا ربنا «بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 113» أسلافنا وهذا الخطاب لجميع الخلق الموجودين ومن بعدهم ومن تقدمهم على طريق التغليب، أي فعلنا ما فعلنا من أخذ هذا العهد عليكم أيها الناس، لئلا يبقى لكم عذر، ولا يسعهم الاعتذار إذ ذاك، ولا تقبل لهم حجة لثبوت أخذه عليهم كلهم في الأزل ولأن الرسل المتتابعة ذكرتهم به فضلا عن أنه مما يتذكر به بمجرد العقل، لأن العاقل يفهم بادىء الرأي أن شيئا لا ينفع ولا يضر لا يستحق الاحترام والتعظيم فكيف يستحق العبادة، وان إلها قادرا على الإحياء والإماتة خالفا لهذه المكونات الذي هو من جملتها، هو المستحق للعبادة وحده، كيف وقد جبلت النفوس على حبّ النفع وكره الضر، فكيف لا يتيقظون لذلك؟ ولهذا قطع الله قبول عذرهم في هذه الآية التي ذكر بها رسوله محمدا وأخبره بهذا العهد المأخوذ من البشر فردا فردا، وخلاصة القول في كيفية هذا العهد على ما قاله الأنبارى من مذاهب أصحاب الحديث وغيرهم، وما استنبط من بعض الآيات والأحاديث وأقوال كبار العلماء، أن الله جلّت قدرته أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده إلى يوم القيامة بعضهم من بعض بحسب ما يتوالد الأبناء عن الآباء، ولذلك لم يقل من ظهر آدم مع أن الذرية في الحقيقة كلها من ظهره، وإذا تنبهت إلى معنى قوله تعالى في الآية 98 من سورة الأنعام في ج 2، وهو جملة (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) عرفت ذلك بداهة كما سيأتي في تفسيرها. ثم أخذ عليهم الميثاق بأنه خالقهم وأنهم من مصنوعاته وحده، وأن لا رب لهم يستحق العبادة غيره، فاعترفوا بذلك وأذعنوا بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، وقبلوا ما كلّفوه، كما جعل للجبال عقولا خاطبهم بها، راجع تفسير الآية 10 من سورة سبأ والآية 11 من سورة فصلت والآية 68 من سورة النحل والآية 80 من سورة الأنبياء في ج 2 تعلم حقيقة هذا، إذ جعل الجماد والحيوان صالحا للخطاب بما ركب فيهما من عقل

كيف وهو الذي جعل النملة تتكلم بما ينم عن رفع الضر عنها وعن جماعتها وجلب النفع لهم، كما سيأتي في الآية 18 من سورة النمل الآتية بما ركب فيها من عقل، وجعل البعير والظبي والحجر والشجر تكلم حضرة الرسول بما أودع فيها من فهم لرفع ظلامتها إليه، وسعي الشجرة إليه، وانشقاق القمر بإشارته، إذا فلا يمتري من عنده لمحة من عقل أن يتردد في هذا العهد وأخذه من نسم الذرية وإجابتهم لخالقهم بما ذكر، اعترافا بالعبودية له وإذعانا لعظمته، وإن هذا العهد لقطع العذر يوم القيامة، وعدم قبول الاحتجاج بعدم علمهم به حينما يسألون عنه، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية الموافق لمذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح والخلف الناجح، وهو مؤيد بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم بن يسار الجهني بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) الآية قال: سئل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار، فيدخل النار- أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وقال حديث حسن، وأخرج الطبري نحوه عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي أيضا وقال حديث حسن صحيح ولا منافاة بين الآية والحديث من حيث أن الحديث يقول من ظهر آدم والآية تتضمن من ظهر ذريته لما مر تفصيله في تفسيرها آنفا، وقد بين الله تعالى سبب أخذ العهد آخر الآية وخاطبهم بإيجاب الاعتراف بربوبيته عليهم على طريق الاستفهام التقريري وإجابته بأسرها بالإيجاب، وأوجب على الرسل تذكير أقوامهم ومن أرسلوا إليهم بهذا العهد، وان الرسل لا شك نبهوهم له وأرشدوهم للمحافظة عليه، لئلا يبقى لهم عذر، فمن أنكر كان معاندا ناقضا عهده لا عذر له البتة، قال تعالى

«وَكَذلِكَ» أو مثل هذا التفصيل البليغ «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضحها ليتدبرها الناس فيعرضوا عن الكفر ويرجعوا إلى الإيمان «وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 174» إلى تذكر ميثاقهم الأول فيعملون بمقتضاه حتى لا تحق عليهم كلمة العذاب. هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى رسوله بتذكير قومه في هذا العهد العظيم وبين كيفيته ذكّره بقضية أخرى ليذكرها لقومه على سبيل الاتعاظ والانتباه والتحذير فقال عز قوله «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «عَلَيْهِمْ» أي قومك. وقال بعض المفسرين على اليهود، وهو غير سديد، لأن الآية مكية ولا مخاطبة بينه وبين اليهود بمكة، على أن لا مانع من شمولها اليهود وغيرهم لأنها جاءت بلفظ عام ولأنه مرسل إلى الخلق كافة ولا سيما أنه تلاها عليهم عند وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة لا عند نزول الآية، فالقول باختصاصهم بها لاصحة له. أي أخبرهم «نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» من علماء بني إسرائيل. مطلب قصة بلعام ابن باعوراء وسببها: قيل إنه من الكنعانيين من بلد الجبارين، أو من مدينة البلقاء، واسمه بلعام أو بلعم بن باعوراء أو باعراء أو ابن امرئ، اوتي علما ببعض كتب الله المنزلة على الرسل قبله وفي زمانه فكفر بها ونبذها وراء ظهره «فَانْسَلَخَ مِنْها» انسلاخ الجلد عن الشاة، ويقال لكل من فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه. وفي هذه الآية دلالة على أن العلم لا ينزع من الرجل لقوله جل شأنه انسلخ لا انسلخت منه، يؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب الرجال، وإنما يكون بفقد العلم بموت العلماء) . والقرآن يفسر ببعضه وبالسنة تدبر قوله جل قوله «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» لحقه وأدركه، وفيه تلميح المبالغة باللحوق إذ جعل كأنه أمام الشيطان والشيطان مبالغ في اتباعه وهو من الذم بمكان على حد قوله: وكان فتى من جند إبليس فارتقى ... به الحال حتى صار إبليس من جنده

«فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ 175» بعد أن كان من المهتدين الراشدين، قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها» بتلك الآيات التي علمها إلى منازل الأبرار ومراتب الأخيار «وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ» ركن ومال ملازما «إِلَى الْأَرْضِ» أي الدنيا رغبة بملاذّها، ونزولا لشهواتها الوضيعة، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل فسّر به كما فسرت الأرض بالدنيا لأنها حاوية لشهواتها، وبالطلب منها أنه يخلد إليها فخلد «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بإيثار الدنيا على الآخرة «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» بالخساسة والدناءة لأنه يرجع من قيئه ويأكل القذرة والجيفة أحب إليه من اللحم الغريفي، قال الإمام الشافعي رحمه الله: ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وليتنا ما نرى مما نرى أحدا إن الكلاب لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا وقال الفقيه منصور في شعب الإيمان: الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسة ممّن ينازع في الريا ... سة قبل أوقات الرياسة والكلب المضروب به المثل «إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ» لتزجره أيها الإنسان وتشد عليه وتطرده «يَلْهَثْ» يدلع لسانه بالنفس الشديد، وهو طبع في الكلب لأنه لا يقدر لنقص الهواء المتسخّن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده، بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء «أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» فاللهث غريزة فيه لا تنقيد في حال التعب والعطش وشدة الحر، إلا أن الحالة تزداد معه فيها «ذلِكَ» المثل الذي ضربه الله عز وجل لعباده فيمن آتاه الحكمة وتركها وعدل عنها فترك آخرته وآثر دنياه في الخسة والضعة، بأخس الحيوانات في أحسن أحواله، لأن الكلب حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه وهذا هو «مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي مثل العالم الذي اتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه، لأن الحريص على الدنيا إذا وعظته لا ينجع به وإن لم تعظه، فهو باق على حرصه فصار الحرص على الدنيا

طبعا له غريزيا، وهذا المثل الذي ضربه الله للمكذب بآياته يعم كل مكذب بها لأنهم إذا جاءتهم الرسل بالهداية لم يهتدوا فهم ضلال في كل حال «فَاقْصُصِ» يا سيد الرسل على قومك هذا «الْقَصَصَ» من أخبار الكافرين بآياتنا «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176» فيها فيتعظون، ولفظ الكلب لم يأت في القرآن إلا هنا وفي الآيتين 17 و 23 من سورة الكهف في ج 2، «ساءَ مَثَلًا» أي بئس المثل مثل «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» وقدم المفعول للحصر فقال «وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 177» لا غيرها لأن وبال تكذيبهم خاص بهم، قال تعالى «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ» منكم أيها الناس «فَهُوَ الْمُهْتَدِي» حقا وثواب هدايته له «وَمَنْ يُضْلِلْ (منكم) فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 178» دنياهم وآخرتهم، ولا أضر من هذا الخسران. وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون ونقله ابن عباس ومحمد بن اسحق والسدي وغيرهم هو أن موسى عليه السلام لما قصد الجبّارين نزل أرض كنعان من الشام، فقال أهلها إلى بلعام، وكان عنده اسم الله الأعظم إن موسى صنديد ومعه جنود كثيرة وأنت رجل مجاب الدعوة، فادع عليه ليرد نفسه وجنوده عنا لئلا يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بني إسرائيل، فقال لهم هذا نبي وإن فعلت معه ما تريدون ذهبت دنياي وآخرتي، قالوا لا بد أن تفعل، فقال حتى أستأمر ربي، قالوا لا بأس، فاستخار ربه فأري أن لا يدعو عليه، فأخبر قومه، فألحوا عليه وأهدوا إليه هذايا وطلبوا منه أن يدعو عليه، فاستأمر ربه ثانية فلم يؤمر بذلك، فأخبرهم فراجعوه، وقالوا لو كره ربك لنهاك عنه، ثم تضرعوا إليه وأغروه بما قدموا له من المال حتى فتنوه، فركب أتانه وتوجه إلى جبل هناك يسمى حسانا ليظلع عليه بني إسرائيل ويدعو عليهم، فربضت الأتان فصار يضربها فقامت ثم ربضت أيضا، وهكذا عدة مرات، ولما آلمها قالت له إنك تسوقني والملائكة يردونني، ويلك كف عني، أتذهب ويحك إلى مناوأة نبيّ الله الذي علمك اسمه لتستجلب به رضاه أو سخطه فتدعو على نبيه، فلم ينزع عن ضربها، فألهمت بمطاوعته كما ألهمت معاكسته، فانطلقت به وصعدت الجبل، فترجل عنها ونظر

إلى بني إسرائيل حتى إذا أشرف عليهم صار يدعو باسم الله الأعظم أن يخذلهم، فانصرف دعاؤه إلى قومه، وصار كلما دعا على قوم موسى بشيء أوقعه الله على قومه ولا يدعو لقومه بشيء إلا صرفه الله إلى قوم موسى، وذلك أنه صار ينطق بغير اختياره فقال له قومه: ويلك يا بلعام إنما تدعو لهم وعلينا فقال هذا مما لا أملكه، فقد غلبني الله عليه، ولم يزل يدعو لقومه وعلى بني إسرائيل وهو يجاب بالعكس حتى اندلع لسانه وقال لهم ذهبت دنياي وآخرتي ولم يبق لكم إلا المكر والحيل، وسأبين لكم ما يكون به إليكم الغلبة عليه، فقالوا كيف قال: جمّلوا نساءكم واتركوهن بين معسكرهم وأوصوهن أن لا يمنعن أحدا من الزنى بهنّ فإن زنى واحد منهم بواحدة منكم كفيتموهم، ففعلوا وطافت نساؤهم بين عساكرهم فمرت امرأة تسمى كستى بنت صور من أجمل النساء على رمزي بن شلهوم من عظماء بني إسرائيل فاقتادها، قرآه موسى فقال هي حرام عليك لا تقربها، فلم ينته، وأدخلها قبته وضاجعها، فأرسل الله الطاعون على قوم موسى، وكان صاحب أمره فخاص ابن العيزار غائبا، فلما حضر وبلغه ذلك دخل عليهما بالقبة وانتظمهما بحربته، ورفعهما إلى السماء وقال اللهم هذا فعلنا بمن عصاك فأرنا فعلك في عدونا واكشف عنا ما ابتلينا به بسببه، فرفع الله عنهم الطاعون، وقد بلغ من مات من حين ضاجعها إلى زمن قتلهما سبعين ألفا. وفي بلعام المذكور نزلت هذه الآية على حضرة الرسول ليقصها على قومه، وهي من الإخبار بالغيب معجزة له صلّى الله عليه وسلم. وتروى هذه القصة بصورة أخرى. وهي أن ملك البلقاء كلف بلعاما أن يدعو على بني إسرائيل وموسى وكان ما كان مما قصصناه أعلاه وفيها أن الله استجاب دعاءه ووقع موسى وقومه في التيه، وأن موسى قال رب كما استجبت دعاءه فاستجب دعائي عليه وانزع منه اسمك الأعظم والإيمان، فاستجاب الله دعاءه وسلخه من المعرفة، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء، ولا يقال كيف يدعو موسى بسلبه الإيمان ويرضى له بالكفر مع علو منصبه وأمره بدعوة الناس إلى الإيمان ذلك لأنه لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده كفره وارتداده عن الإيمان بدعائه عليه وعلى قومه وإيثاره الدنيا على الآخرة

إلا أن هذه الرواية بعيدة عن الصواب بحق موسى، لأن التيه قدره عليهم بسبب مخالفتهم لأمره في حرب الجبارين وكان عليه روح وراحة، وهذا مما لا شك فيه في حقه، أما على قومه، فكان فيه بعض المشقة والكلفة جزاء مخالفتهم أمره وكان هذا بدعائه عليهم لا بدعاء بلعام كما سيأتي في الآية 25 من المائدة في ج 3، قال الألوسي في تفسيره روح المعاني أنا أعجب من هذا الشقي لم لم يدع على ملك البلقاء ليخلص من شره ويدعو على موسى، ما هي إلا جهالة سوداء. هذا، وما جاء في كلام أبي المعتمر من أن بلعاما أوتي النبوة مردود لأن الأنبياء معصومون مما وقع من بلعام وان بلعاما كفر وهم معصومون من الكفر، ولعل هذا أراد ما أوتيه من الآيات والاسم الأعظم، على حد قوله صلّى الله عليه وسلم من حفظ القرآن فقد طوى النبوة في جنبيه. مطلب قصة أمية بن الصلت: وقال عبد الله بن عمر وبن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إن هذه الآية نزلت في أمية بن الصلت الثقفي، وكان قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله مرسل رسولا ورجا أن يكون هو، فلما شرف محمدا بالرسالة حسده وكذبه وقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه، قاتله الله ألم يعلم أن النبي مرسل للقريب والبعيد، وأن الكافر عنده كافر سواء كان من أقربائه أو من أعدائه، لأن الجامع فيما بينه وبين الناس هو الإيمان، فلما مات أتت أخته ضارعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسألها عن كيفية وفاته فقالت: نزل عليه اثنان من السقف فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه أوعى فقال وعى، قال أذكى قال أبى، فسألته عن هذا فقال خيرا أريد بي فصرف عني ثم قال: كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا ليتني قبل ما قد بدا لي ... في خلال الجبال أرعى الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا فقال لها صلّى الله عليه وسلم بعد أن سمع هذا منها أنشديني ما سمعت من شعره، فقالت سمعته يقول ذات يوم:

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد من قصيدة طويلة أتت على آخرها ثم قالت أيضا: وقف الناس للحساب جميعا ... فشقىّ معذب وسعيد حتى أتت على آخرها ثم قالت أيضا: عند ذي العرش يعرضون عليه ... يعلم الجهر والخفاء الخفيّا يوم يأت الرحمن وهو رحيم ... إنه كان وعده مأتيا رب إن تعف فالمعافاة ظني ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا فقال صلّى الله عليه وسلم: إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه. مطلب قصتي النعمان والبسوس: وقيل إنها نزلت في النعمان بن صيفي الراهب، كما روي عن ابن أبي حاتم بأنه رجل ترهب في الجاهلية وقدم المدينة على حضرة الرسول، فسأله عن دينه فقال صلّى الله عليه وسلم الحنيفية ديني ودين جدّي إبراهيم عليه السلام، فقال له أنا عليها، فقال صلّى الله عليه وسلم: لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فلست عليها، فقال له: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا، وخرج إلى الشام واستنفر المنافقين، وطلب من قيصر النجدة لمحاربة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلم يجبه ولم يوفق لمطلبه وبقي مقهورا حتى مات بالشام طريدا وحيدا. إلا أن هذه لا تصح أن تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية والحادثة هذه وقعت في المدينة، وإنما تنطبق في المعنى على هذا وأضرابه من كل من آثر دنياه على آخرته كما تقدم في تفسيرها، ولأن بين نزول هذه الآية وحادثة النعمان هذا الذي سلب الله نعمته وأهلكه بحكمه على نفسه سنين كثيرة راجع تفسير الآية 107 من سورة التوبة في ج 3. وقيل إنها نزلت في البسوس، وهي رواية عن ابن عباس، وخلاصة القصة أنه كان رجلا له زوجة وثلاثة أولاد وقد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، فقالت له زوجته اجعل لي منها واحدة ففعل، فقالت أدع

الله أن يجعلني أجمل امرأة، فدعا فصارت فرغبت عنه، فدعا عليها فصارت كلبة، فقال أولادها لأبيهم إن الناس تعيرنا بأمنا فادع الله أن يردّها إلى حالتها الأولى ففعل، فذهبت دعواته فيها. وليست بشيء لأن البسوس امرأة لا رجل، ويضرب فيها المثل فيقال أشأم من البسوس (وحرب البسوس) وهي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرّة الذي قتل ابن عمه كليب بسبب قتله ناقتها التي دخلت في حماه، فشكته إلى جساس فاغتاظ منه واستحين الفرصة من كليب، ولا زال يترصده حتى رآه خرج إلى حماه أعزل فتبعه وطعنه من قفاه بحربته فوقع صريعا على الأرض، ولما رآه وعرفه أنه ابن عمه طلب منه ماء فأعطاه طعنة أخرى فقال كليب: المستجير بعمر وعند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فذهبت مثلا ومات كليب فطلب ثأره أخوه المهلهل ودام الحرب بينهما أربعين سنة، وقصتها مشهورة بالتواتر ولم يذكر لنا التاريخ بسوسا غير هذه. وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أن الذي نزلت فيه هذه الآية رجل من علماء بني إسرائيل كان يقدمه موسى عليه السلام في الشدائد ويكرمه وينعم عليه، فبعثه إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان به، وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى وتبع دين ملك مدين، قال المرحوم السيد محمود الآلوسي: هذه الرواية أولى عندي بالقبول ووجه اختياره لها، والله أعلم أن نظم التنزيل جاء مطلقا وتنطبق الآية على من هذا شأنه، لأن الرواية جاءت مطلقة في رجل من بني إسرائيل والآية مطلقة أيضا فلذلك اختارها. وقال الحسن وابن كيسان إن المراد بهذه الآية منافقو أهل الكتاب، وهذا بعيد أيضا إذ لا منافقين في مكة والآية مكية، وأبعد منه قول أبي مسلم إن المراد به فرعون وبالآيات الحجج والمعجزات التي ظهرت على يد موسى والأول أولى، قال تعالى «وَلَقَدْ ذَرَأْنا» خلقنا وهذا قسم من الله أي وعزتنا لقد هيأنا «لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» الكافرين منهم ولا تنافي بين هذه الآية وقوله: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 57 من الذاريات، لأنه تعالى خلق للعبادة من علم أنه يعبده، وخلق لجهنم من علم

أنه يجحده وكم من عام يراده به الخصوص، ومن قال أن هذه اللام التي فى لجهنم لام العاقبة كاللام في قوله تعالى: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) الآية 88 من سورة يونس في ج 2، وكاللام في قول صاحب الزبد: له ملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب بمعنى أنه لما كانت عاقبتهم جهنم جعلوا كأنهم خلقوا لها فرارا عن إرادة المعاصي. لا عبرة به، لأنه عدول عن الظاهر، ولأن اللام واقعة في جواب القسم كما ذكرنا، والآية الأخرى والبيت المستشهد به لا قسم فيهما. على أن هذه الآية نفسها حجة واضحة لمذهب أهل السنة القائلين: إن الله تعالى خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها بصريح اللفظ قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 97 من الصافات في ج 2، ولا زيادة على بيان الله، ثم وصف هؤلاء المخلوقين لجهنم بقوله عز قوله «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها» لأن معنى الفقه الفهم والعلم ثم جعل علما على علم الدين، وهؤلاء لا يفهمون المراد من خلقهم ولا يعلمون ما يصيرون إليه «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» طريق الهدى والرشد ولا ينظرون بها آيات الله وأدلة توحيده في سمائه وأرضه «وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» المواعظ سماع قبول لأنهم صمّ فإنهم للشر أسمع من الخير، ولكنهم قوم صرفوا حواسهم كلها إلى الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، لذلك حرموا نعم تلك الحواس فيما يؤول به إلى خيرهم فلم ينتفعوا فيها قال الشاعر: وعوراء الكلام صممت عنها ... وإني إذ أشاء لها سميع ولهذا قال ابن الفارض رحمه الله: إذا نظرت ليلى فكلي أعين ... وإن نطقت ليلى فكلي مسامع «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «كَالْأَنْعامِ» البهائم العجم «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» منها لأنها تعرف ما ينفعها ويضرها ولهذا تراها تجتنب بعض الأعشاب ولا تلقي نفسها من الصعدات، وتخاف كل صيحة، وتنقي ما تراه من أسورة وغيرها فتتنبه وتقف وترجع إلى الوراء وتجتنب الحفر والمياه، وهؤلاء لا يعرفون عاقبة ما يضرهم ولا

نفع ما يسرهم معرفته حقيقة، مع أنهم أعطوا ما لم تعطه الحيوانات من القوة العقلية «أُولئِكَ» المشبهون بالأنعام «هُمُ الْغافِلُونَ 178» عن فهم هذه الأمثال المضروبة لمن يعقل عله يتعظ بها. مطلب في أسماء الله الحسنى: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» تأنيث الأحسن اسم تفضيل، لأنها أحسن أسمائه وكل أسمائه حسنة، إلا أن هذه تدل على معاني حسنه من تحميد وتمجيد وتقديس وتنبىء عن معاني كثيرة ومغازي شريفة لا تدل عليها غيرها. قال مقاتل: إن رجلا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم دعا الله ودعا الرحمن، فقال أبو جهل قبحه ولعنه الله: يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما لهذا يدعو إلهين؟ جهلا منه بصفات الله، فنزلت هذه الآية. أما ما قيل من أنها نزلت حينما قرأ رجل في صلاته (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية قبل الأخيرة من سورة الإسراء الآتية، فغير وجيه لأنها لم تنزل، بعد وسنأتي على معاني أسماء الله الحسنى في أوائل سورة طه الآتية إن شاء الله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر) وفي رواية، من أحصاها. وفي رواية أخرى إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر، وهي معلومة محصورة في نوعين الأول عدم افتقاره إلى غيره والثاني افتقار غيره إليه «فَادْعُوهُ بِها» أيها الناس لا بغيرها من الأسماء، وفي هذه الجملة دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية، ويؤكده عدم جواز قولك الله سخي بدل جواد، وعاقل بدل عالم، وطبيب بدل حكيم، وعارف بدل خبير، وعدم جواز الدعاء بغيرها لقوله جل قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» لا تقلدوهم بما يقولون واتركوهم وشأنهم إذا لم يمتثلوا أمركم بالميل عن الإلحاد الذي هو عدول عن القصد والاستقامة إذ لا يجوز أن تطلق أسماء غيره عليه ولا أسماءه على غيره ولا نسميه بما لم يسم به نفسه مما لم يرد في قرآن أو سنة، فلا يجوز أن تقول يا ضار يا مانع يا خالق القردة

[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 إلى 190]

يا هدام الديار على الانفراد، بل إذا قلت هذا فقل: يا ضار يا نافع يا معطي يا مانع، يا خالق الخلق يا جبار القلوب، تأدبا معه جل جلاله، وإن كان في الحقيقة تلك من أسمائه لأنه هو المدمر والمخرّب والمحرّك، ولكنها ليست من الأسماء الحسنى، وكذلك لا يجوز أن نسميه باسم لا نعرف معناه كما جاء في الطلاسم والتعاويذ والرقى، فقد يكون مما لا يليق بجنابه العظيم فنعرض أنفسنا لما لا يرضاه مما يشير إليه قوله تعالت قدرته «سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 119» أولئك الملحدون في أسمائه، وفيها من الوعيد والتهديد ما لا يخفى على بصير. أما ما ذكره الشيخ علي محفوظ في الفصل التاسع من كنابه (الإبداع في مضار الابتداع) من أن من يسميه تعالى بغير اسم ورد في القرآن أو السنّة فقد كفر، ففيه ما فيه من المبالغة وحمل على السادة الصوفية وتنديد بهم، فهو قول مغالى فيه لا محل له من القبول، لأن التكفير أمر عظيم لا يكون إلا بإنكار أحد أركان الإسلام، وقال العلماء المنصفون لو وجد تسع وتسعون قولا بالتكفير وواحد بعدمه يفتى بالواحد، إذ لا يخرج الرجل من الإسلام إلا بإنكار ما دخل به فيه، قال تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ» جماعة إلى الجنة وهذا بمقابل (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) في الآية السابقة ونظيرتها الآية 159 المارة، وهذه الطائفة المباركة هم الذين دأبهم أنهم «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» ويرشدون الناس إلى طريقه «وَبِهِ يَعْدِلُونَ 180» بأحكامهم على أنفسهم وعلى غيرهم لا يفرقون في الحق بين قريب وغريب وعدو وصديق وحقير وشريف. قال ابن عباس يريد بهذه الآية أمة محمد صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن معاوية قال وهو يخطب: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) . وفي الآية هذه والحديث هذا إشارة إلى أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» من أي أمة كانت لأن الصيغة للعموم فتتناول الكل إلا ما دل الدليل على استثنائه فهؤلاء «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» شيئا فشيئا إلى الهلاك «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 181» ما يراد بهم ولا يشعرون بمصيرهم ولا يحسون

بمنقلبهم حتى يستأصلوا بالعذاب على غرّة، وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم الدنيا ويزيدهم من نعيمها ما عليه يغبطون، وإذا أقدموا على ذنب أو عملوا جرما فتح عليهم أبواب الرزق ليزدادوا تماديا في الشرّ ويحسبون أنه أثرة من الله آثرهم بها على غيرهم وينسيهم سيئاتهم حتى لا يرجعوا عنها ويستغفروا منها ويظنوا أن الله لا يحاسبهم عليها وهم لا يعلمون أن ذلك كله عربون لأخذهم بغتة وإهلاكهم على حين غفلة، إذ يفاجئهم بأمر لا محيص لهم منه، ويدل على هذا قوله «وَأُمْلِي لَهُمْ» أمهلهم بإطالة أعمارهم ولا أعاجلهم بالعقوبة حتى يظنوا أنهم أهملوا، ولم يذكروا «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 182» قوي شديد لا يجارى ولا يبارى، ومن جملة هذا الكيد أن أغلق عليهم باب التوبة، فلا أجعلهم يتصورونها. وأراد بالكيد هنا الأخذ وإنما سمي كيدا تشبيها به من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الباطن خذلان ثم شرع يندد في كفار قريش بقوله عز قوله «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا» هؤلاء الذين يصمونك بالجنة أيها الكامل مع أني أقول لهم «ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» فكيف ينسبونك إلى الجنون وأنت مصاحب لهم ليل نهار ويعلمون يقينا أنك أكمل البشر وأقول لهم «إِنْ» ما «هُوَ» صاحبكم «إِلَّا نَذِيرٌ» لكم يخوفكم من أن يأخذكم ربكم بعذاب شديد لا تطيقونه إن أصررتم على كفركم ولم تؤمنوا به وهو «مُبِينٌ 183» لكم طريق الخير وموضح لكم سبل الصواب ومرشدكم لكل ما به نفعكم واجتناب ما يصركم، نزلت هذه الآية حينما وقف صلّى الله عليه وسلم على الصفا ودعى قريشا فخذا فخذا وحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إن لم يؤمنوا به، وأنه ينزل بهم من العذاب ما أخذ به من قبلهم، فقال بعضهم لبعض إن هذا لمجنون دعوه يصوت حتى الصباح فأكذبهم الله فيها، طفق يحثهم على دلائل وحدانيته مما يؤدي لإيمانهم إن كانوا يعقلون، فقال «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وعظمتهما وما فيهما من المنافع، والملكوت هو الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة مثل جبروت ورحموت مبالغة في التجبر والرّحمة، ويتأملوا «فى ما خَلَقَ اللَّهُ» فيهما وبينهما وما فوقهما وتحتهما «مِنْ شَيْءٍ» ذكر الشيء ليعم فيشمل جميع الأشياء

العلوية والسفلية، إذ في كل منها عبر توجب التفكر والتدبر والنظر لدلالتها على آثار قدرته في مكوناته وعجائب صنعه في مخلوقاته: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد أي لماذا لم يتذكر الناس فيما برأه ربهم في هذين الهيكلين العظيمين وما خلقه لهم فيهم «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» فيموتوا على كفرهم فيخسروا آخرتهم كما خسروا دنياهم، فيا سيد الرسل إذا لم يؤمنوا بك وأنت الذي لا نبيّ ولا كتاب بعدك «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 184» لأنك خاتم الأنبياء وكتابك خاتم الكتب، أي أنهم لا يؤمنون البتة لأن اعراضهم هذا لسابق ضلالهم وأنهم في علم الله خبثاء لا يتوقع منهم الهدى لأن «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» أبدا إذ طبع الله على قلوبهم فمالوا عن الحق إلى الضلال وقد أعماهم عن سلوكه لأنه يريدهم إلى ما قدره إليهم في أزله «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 185» لا يدركون شيئا في بصيرتهم كما لا يرونه بأبصارهم فهم دائما متحيرون لا يهتدون إلى صواب: إلى الماء يسعى من يغص بلقمة ... إلى أين يسعى من يغص بماء مطلب في الساعة ومعنى احفوا الشارب: ثم إن من كفرة قريش من سأل حضرة الرسول عن الساعة التي يخوفهم بها لأنهم ينكرونها فيقولون له متي تكون فأنزل الله «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ» سؤال سخرية واستهزاء لأنهم لا يصدقون بها لهذا يقولون لك هؤلاء الكفرة «أَيَّانَ مُرْساها» يريدون متى تأتي، لأن الإرساء هو الوقوف والإثبات، فإذا جاءت فكأنها ثبتت أمامهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل أنا لا أعلم وقت مجيئها «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» وحده لا يعلمها غيره، فكما أنه أخفى عليكم أجل موتكم فقد أخفاها عليّ وعلى الناس أجمع ليكونوا كلهم على حذر دائم من وقوعها، فإخفاؤها أدعى لملازمة الطاعة والمثابرة عليها والمبادرة إلى التوبة والمباعدة عن المعاصي «لا يُجَلِّيها» ليظهرها ويكشف أمرها «لِوَقْتِها» المقدر لها كي يراها الناس «إِلَّا هُوَ» وحده، واعلموا أيها الناس إن الساعة قد «ثَقُلَتْ» عظمت وكبرت وقيل

خفيت لأن الشيء إذا ثقل خفي فأبدل اللفظ به، وعليه فإن في الآتية بمقام على، أي اشتد هو لها على من «فِي السَّماواتِ» من الملائكة «و» على من في «الْأَرْضِ» من الثقلين الإنس والجن وأهمهم شأنها وأخافهم هولها، وهنا حذف لفظ أهل وهو من بديع الكلام ولذلك قدرنا (من) لفظ قبل السموات والأرض، واعلموا أيها الناس إنها «لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» فجأة على غرة وغفلة من الناس أجمع. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة الوالدة حديثا) فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط (يطين ويصلح) حوضه فلا يسقى فيه، ولنقومن الساعة وقد رفع أكلته (بضم الهمزة اللقمة) إلى فيه فلا يطعمها. ومن هنا قال بعضهم إن الساعة تؤلف ولا تؤلفان لأن حروف بغتة بحساب الجمل ألف وثمانمائة واثنان والصحيح انها وأربعمائة واثنان، لأن التاء مكررة فيها والمكرر لا يحسب عادة ولكن تضاف حروف الكلمة لها فتكون 1406، ونحوها قوله تعالى (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 76 من الإسراء الآتية، فإن حروفها عدا المكرر 1399 وحروفها 11 فتكون 1410 تدبر. وأعلم أن هذا لطريق الاستنباط لا غير، وفي الحقيقة لا يعلم مداها إلا هو «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» بليغ في علمها شديد السؤال عنها، أي. يسألونك عنها كأنك حفي بها ففيه حذف والإحفاء هو الاستقصاء بالشيء ومنه حديث احفوا الشارب المار ذكره في الآية 95 أي استقصوا في قصه حتى يكون كالحاجب بأن تكون له حواف، أي تبدو منه حواف شفته. وقد أخطأ صنعا من زين شاربه استدلالا بهذا الحديث لزعمه أن معنى الإحفاء هو ذاك، مع أنه مع بقاء اللحية مثلة، وحاشا رسول الله أن يأمر بها، ألم يعلم هذا المتحفف أن رسول الله لم يزّين شاربه بالموسى ولا بالمقصّ بل كان يأخذ منه مازاد على الشفة، وأنه لا يأمر بما لا يفعل، وأن الاقتداء به هدى والمخالفة له ضلال. قرأ ابن مسعود (حفيّ بها) أي كأنك عالم بها مراعاة لمعنى الباء المؤدية لمعنى ت (30)

عن في الآية المارة، وهي قراءة إن صحت عنه فهي شاذة لا يجوز أن تقرأ لما فيها من إبدال حرف بغيره متباينين في المعنى، وقيل إن معنى حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله، واستقصاه إذا اعتنى به، وعليه قول الأعشى: فإن تسألوا عني فيا رب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا والأول أولى، راجع الآية 95 المارة في بحث الإحفاء وعلى كل «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» كرر الجواب جل شأنه لتكرار السؤال تأكيدا للحكم وتقديرا له واشعارا بعلّته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن استتباعها بصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم، فالسؤال الأول عن بيان وقت قيام الساعة، والثاني عن بيان أحوالها الشافة، ولهذا قال جل شأنه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 186» معنى اختصاص علم الله بها، فبعضهم ينكرها رأسا ولا يسأل عنها إلا تلاعبا، وبعضهم يعلم أنها واقعة، ولهذا قال أكثرهم: ويزعم أن محمدا واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بها من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها بأن يقول كيف يدعي الرسالة ويخوفنا القيامة ولا يعرف متى تقوم، وبعضهم واقف على جلية الحال ويسأل امتحانا فهو ملحق بالجاهلين لعدم علمه بعمله وعمله بعلمه. هذا، ولما سأل أهل مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم ألا يخبرك ربك بالأسعار لنتيقن ونتحقق الربح، وبالجدب والخصب لنأمن على أنفسنا وحيواناتنا من الجوع والعطش، أنزل الله «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا» لأني بشر مثلكم فلا أقدر على دفع الضر وجلب الخير «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» لي من ذلك أن أملكه بتمليكه إياي، وهذا غاية في إظهار العبودية ونهاية في التبري عن خصائص الإلهية ومبالغة في إظهار العجز، وبما أن ذلك من العلم بالغيب أتبع هذا التبرّي بقوله «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ» كما تظنون «لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» الذي يمكن التقصي عنه بالتوقي من موجباته ولم أكن مغلوبا لكم في بعض الأحوال، وهذا قبل أن يطلعه الله على بعض مغيباته ولما أطلعه أخبره، قال تعالى: (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ

أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآيتان 26 و 27 من سورة الجن الآتية، ثم أكد نفي ذلك بقوله «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ» للكافرين أمثالكم من أن يلحقهم غضب الله إن لم يرجعوا عن كفرهم «وَبَشِيرٌ» بالثواب العظيم من الله «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 187» بي ويصدقون رسالتي، ثم ذكرهم بأصل خلقهم بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «وَجَعَلَ مِنْها» من نفسها زوجها» حواء لأنها خلقت من نفس آدم، لذلك قال منها أي من جنسها، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى، ونظير هذه الآية من حيث المعنى الآية الأولى من سورة النساء في ج 3 والآية 97 من سورة الأنعام في ج 2، أما كيفية خلقها فعلى ما هو عند الله تعالى مما هو مجهول عندنا، والله لا يعجزه شيء وقال تعالى في الآية 72 من سورة النحل في ج 2 (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) وعليه ينبغي أن تكون من هنا ابتدائية، ويكون المعنى من جنسكم أيضا، ويحتمل أن تكون تبعيضية، فيصير المعنى من جسدكم، فالمعنى الأول ينطبق على آدم وسائر البشر، وعلى الأخير لا ينطبق إلا على آدم، وسنأتي على تفصيل كل من هذه الآيات في محله إن شاء الله «لِيَسْكُنَ إِلَيْها» يأوي ويأنس بها واللام للعلة الغائبة، أي يطمئن إليها. مطلب أدب التعبير وحمل حواء الأول: وقد ذكّر الضمير في ليسكن ولم يؤنثه باعتبار النفس كما هو الظاهر لأن المراد منها آدم، ولو أنث الضمير على الظاهر لتوهم نسبة السكون للأنثى وهو خلاف المقصود من قوله «فَلَمَّا تَغَشَّاها» والغشي منسوب للذكر قولا واحدا وهو أحسن كناية عن الجماع وأكثر أدبا فيه، لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة، وفي هذا تنبيه لحفظ اللسان من الكلام البذيء ولو كان لا بأس به، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: تأدبوا بآداب الله كي ينزه الإنسان دائما لسانه عن ذكر ما فيه فحش ولو حلالا، وهذا من جملة آداب القرآن، ويقال له أدب التعبير في علم البلاغة «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» بادىء بدء لأنه عبارة عن نطفة فلا يحس بها ثم يتدرج إلى علقة فمضغة وهكذا إلى

كماله، ولهذا قال تعالى «فَمَرَّتْ بِهِ» أي بحملها لخفته لأن كبره في الرحم تدريجيا والثقل التدريجي لا يحس به غالبا، وقرأ أبو العالية مرت بالتخفيف مثل ظلت، في ظللت أو من المرية أي شكت في حملها، لأنه شيء لم يعهد عندهما قبل وقرأ ابن الجحدري فمارت من مار يمور إذا جاء وذهب يريد به الحمل لأنه يتقلب بالمشيمة، وكل هذه القراءات جائزة إذ لا زيادة فيها ولا نقص والتصحيف لا بأس به. أما ما نقل عن ابن عباس أنه قرأ استمرت ففيها زيادة حرف وتبديل حرف فلا يجوز قراءتها «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» بكمال الحمل وارتفاع البطن وصارت تتألم لضرب الولادة «دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» تضرعا وإخباتا لأنهما رأيا شيئا عجيبا لم يصرفا مصيره وخافا عاقبة الأمر واهتما بحال خروج الولد، فتوجها إلى مالك أمرهما وطلبا منه حسن العاقبة فقالا «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً» بشرا سويا مثلنا سالما من النقص والزيادة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 188» لنعمائك دائبين عليه، وذلك لأنهما لم يريا أحدا من جنسهما ولم يكن إذ ذاك غير الجن والحيوان والوحش والطير، فخافا أن يكون من جنس أحدهما فرغبا إلى ربهما أن يكون على شكلهما ولونهما «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً» كما أرادا «جعلا» أي نسلهما وأولاده على حذف مضاف مثل قولك سال الوادي وتريد ماءه، ومثل قوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهلها، وحذف المضاف متعارف عند العرب واتخذا «له» للإله الواحد «شُرَكاءَ» من الملائكة والبشر والحيوان والجماد وغيرها من مخلوقاته وأشركوها بعبادته «فِيما آتاهُما» أي أولادهما وأنفسهما من النسل إذ أضافوا ذلك إليهما، وإنما ثني الضمير باعتبار أن الذي أتاهما ذكر وأنثى، وعبر بما بدل من لأن هذين الصنفين عند ولادتهما ملحقان بما لا يعقل وإنما أسند الجعل للنسل كله مع أن البعض لم يجعل لنلبسه بمحض الإيمان لأنهم الأكثر على حد قولهم (بنو تميم قتلوا فلانا) والقاتل واحد، وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ) الآية 67 من سورة مريم الآتية وليس كل إنسان يقول ذلك «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 189» معه من لا يستحق العبادة، وجمع الضمير على عوده للنسل الذي أشرك، وفيه تغليب

المذكر على المؤنث إيذان بعظم الشرك ولأن من جوّز الشريك الواحد جوز الشركاء، وقد أضاف جل شأنه في هذه الآية فعل الآباء إلى الأبناء متهكما فيما آل إليه أمر ذريتهم، كما أضاف فعل الأبناء إلى الآباء في قوله اتخذتم العجل. وقتلتم نفسا. الآيات 51 و 92 و 72 من سورة البقرة في ج 3 إذ خاطب فيها اليهود الذين على زمن محمد صلّى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم زمن موسى عليه السلام وهذا أحسن الأقوال في تفسير هذه الآية. ولا يقال إن هذا من قبيل الرأي وتفسير على خلاف الظاهر، لما ذكرنا في المقدمة من لزوم اتباع الظاهر حسب المستطاع، إذ لا استطاعة هنا ولا مخلص إلا بالأخذ على خلاف الظاهر، لأنه أليق بالمقام وأوفق للمعنى، ولأنه إذا تعذرت الحقيقة وجب الجنوح إلى المجاز، ولأن إعمال الكلام ولو تأويلا عند جواز المعنى أولى من إهماله. وبلي هذا القول قول من قال إن الضمير في خلقكم يعود إلى قريش آل قصي، إذ لا يجوز عوده لآدم عليه السلام، لأن إسناد الشرك إليه محال، كيف وهو نبي معصوم! واستدل بضمير الجمع في (يُشْرِكُونَ) لأنهم خلقوا من جنس قصي وزوجته القرشية بنت سيد مكة من خزاعة، وقد سميا أولادهما عبد مناف وعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار، بدلا من عبد الله وعبد الرحمن مثلا، فيكون المراد بهذه الآية هما وأعقابهما الذين اقتدوا فيهما بالشرك، وأيد قوله هذا بقول أم معبد: فيا لقصي ما روى الله عنكم ... به من فخار لا يبارى وسؤدد حتى قال جماعة من العلماء إنه تفسير حسن لا إشكال فيه. نعم هو وجيه إلا أنه يرد عليه عدم علمنا بقصي وزوجته بأنهما وعدا الله عند الحمل بما ذكر في الآية، لأنهما كانا كافرين وكانت قريش متفرقة، ثم جمعها قصي ولذلك سمي مجمعا، فلم يخلق المذكورون من نفسه فضلا عن أنه لا محل لاستغرابهما الحمل مثل آدم وزوجته. أما ما قاله بعض المفسرين من أن الإشراك بالتسمية فقط وهو لا يعد شركا وجوزوا إطلاقه على آدم عليه السلام وزوجته، واستدلّوا بما قاله عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء ولكن كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان وقال لهما، إن سركما أن

يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث يعني نفسه، لأنه كان بين الملائكة يسمى حارثا ففعلا فعاتبهما الله على ذلك بما ذكر بالنسبة لمنصبهما، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقول الآخرين من أنه يفهم من قوله تعالى أثقلت، أن حواء كانت تسقط حملها قبل كماله، فلما كمل في هذه المرة دعوا الله بما قصه في هذه الآية، واستدل بما أخرجه الترمذي وأحمد وحسنه الحاكم وصححه عن سمرة بن جندب قال: قال صلّى الله عليه وسلم: لما ولدت حواء طاف إبليس وكانت لا يعيش لها ولد، فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته، قال القطب: لا بعد هذا شركا لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية، ولكن أطلق عليها لفظ الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون أمر عظيم. وقال الطيبي: هذا أحسن الأقوال لأنه مقتبس من مشكاة النبوة. وقال غيرهم إنه موافق لسياق الآية المنزلة بحسب الظاهر، ولا يصار لغيره إلا بدليل، أقول نعم لو كان هذا الحديث مسلما بصحته أما لا فلا: لأن في سنده عمر بن ابراهيم المصري، قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به متروك وفضلا عن هذا فإنه ليس مرفوعا بل هو موقوف على سمرة، والموقوف على الصحابي فيه ما فيه، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط الاستدلال به، وقد جاءت روايات أخرى عن معمر عن الحسن، وعن ابن جرير عن الحسن، وعن قتادة عن الحسن كلها مختلفة باللفظ متضاربة بالمعنى، وإن هكذا روايات لا تخلو عن الدس من أهل الكتاب، لأنه لو ثبت عن الحسن ما نقلوه عنه لما فسرت هذه الآية على غير ما روي عنه، وهناك رواية أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحارث خرجها ابن جرير عن الخبر، بما يدل على أن هذه وتلك منقولة عن أهل الكتاب لما قيل إنها نزلت في اليهود والنصارى، لأنهم هوّدوا ونصّروا أولادهم إلى غير ذلك من الأقوال التي لا ترتكز على ما يطمئن له الضمير ويركن إليه العقل، وشكّ أن الآية من المشكلات وقد تضاربت فيها آراء المفسرين، وأحسن شي ما أثبتناه في تفسيرها وهو ما اعتمده جهابذة المفسرين، ولو كان هناك حديث صحيح لا غبار عليه يفهم منه تفسيرها على غير ما جرينا عليه لاتبعناه، قال الشافعي رحمه

[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 إلى 200]

إذا صح الحديث فهو مذهبي، وعلى هذا أكثر المفسرين من أساطين الإسلام الذين هم أعلى رتبة وأسنى مقاما من مخالفيهم. هذا، وكان يولد لهما في كل بطن ذكر وأنثى وكانا يزوجان ذكر البطن الأول البنت من البطن الثانية وذكر البطن الثانية البنت من البطن الأول، وهكذا تناسلا وكثرا، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 27 من سورة المائدة في ج 3، ومن هذا النسل من جرأ واتخذ لحضرته سبحانه شركاء، من الأصنام والنجوم والملائكة والنار والبقر وغيرها من مخلوقاته تعالى الله عن ذلك وتنزه، وأشركا ذلك النسل فيما أتاهما من الأولاد إذ أضافوا ذلك إليهم، وعبّر هنا أيضا بما دون من لأن هذه الاضافة وقعت منها عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل كما أشرنا إليه آنفا، وإسناد الجعل للنسل على العموم، مع أن البعض لم يجعلوا جاء على ما هو متعارف عند العرب كما مر في تفسير الآية 189 ومثله قوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية 16 من سورة عبس المارة والمراد بعض الإنسان تدبر وقل «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 190» فيه ذلك النسل الذي جعل له شركاء، وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذانا بعظم إشراكهم، قال منددا صنيعهما على طريق الاستفهام الإنكاري «أَيُشْرِكُونَ» بي وأنا خالقهم «ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً» من الأشياء أصلا، ومن حق المعبود أن يكون خالقا وهؤلاء «وَهُمْ يُخْلَقُونَ 191» بصنع أيدي مخلوقي وجاء ضمير الجمع على صفة من يعقل بناء على اعتقاد الكفار بأن الأصنام تعقل وتنفع وتضر، فأجراها مجرى من يعقل، وفي قوله «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة شركاء لي «هم» لعابديهم عند حاجتهم لهم «نَصْراً» مما يحل بهم من أمر مهم أو خطب ملمّ «وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ 192» أيضا إذا وقع عليهم تعد من كسر واهانة «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها الكفرة «إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ» هذا بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم بالنص، والهدى مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تجعل للطالب، راجع تفسير الآية 17 من سورة فصلت في ج 2 «سَواءٌ عَلَيْكُمْ» أيها المشركون بهم «أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ

صامِتُونَ. 193» وهذا مثل ضربه الله تعالى في عدم الإفادة منهم في الدعاء وعدمه، أي أن دعاءكم لهم في عدم الإفادة وسكوتكم عنهم سيان، فلا يتغير حالكم في الحالتين كما لا يتغير حالهم في الحالين، لأنها جماد والجماد يستوي فيه الحالان، وقال بعض المفسرين إن ضمير تدعوهم يعود لحضرة الرسول على سبيل التعظيم، أو له وللمؤمنين وضمير المفعولين في (تدعوهم) و (أدعوتموهم) للمشركين والمراد بالهدى دين الحق، أي إن تدعو المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم. إلا أن سياق النظم الكريم وسياقه لا يساعد هذا البتة كما ترى، لأنه لو كان كذلك لقال عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الآية 10 من سورة يس الآتية، لأن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة للداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة، وإن من نقل هذا القول عن الحسن لم يتثبت بنقله ولم يترو بصحته. أما من نقله عن الطبرسي فإن صح فليس بشيء لأنه رحمه الله لم يحقق ما ينقله حتى قيل عنه إنه (حاطب ليل) ومما يقرر ما جرينا عليه ويؤكده قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونهم آلهة ليسوا بآلهة إنما هم «عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» مسخّرون مذلّلون لله ومن جملة مملوكيه قرأ ابن سعيد بتخفيف (إن) ونصب عباد على حد قول القائل: إن هو مستوليا على أحد ... إلا على أضعف المجانين وقرأ آخرون بنصب أمثالكم أيضا على أنّ أن المخففة تنصب الجزأين المبتدأ والخبر على حد قوله: إذا اسودّ جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خفافا إن حراسنا أسدا والقراءة الأولى أولى وهي التي عليها المصاحف المختارة على غيرها إذ ذكرنا غير مرة إن القراءة إذا لم تكن تبدل أو تغير فتجوز وإلا فلا لأن التخفيف والتشديد والمد والإمالة لا تغير الحروف ولا الكلمات ولا المعنى وكل ما كان كذلك فلا بأس به «فَادْعُوهُمْ» أيها المشركون «فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» ما تدعونهم به «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 194» في زعمكم أنهم ينفعونكم، وهذا تحقيق لمضمون ما قبله وتبكيت

لهم بما يدّعونه فهم من القدرة والهدى والضلال، ومما يؤكد هذا ويزيد في التوبيخ ونفي ما يتوهمونه في أوثانهم قوله جل قوله «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» حتى تخاطبوهم؟ وترجوا نصرهم كأناس أمثالكم، كلا ليس لهم حواس كحواسكم وجوارحكم فليس لكم مصلحة بهم أصلا، فيا أكمل الرسل «قُلِ» لهؤلاء الأغبياء «ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» واستعينوا بهم لينصروكم أو يدفعوا عنكم ضرا، إن كان ما تتصورونه بها حقا «ثُمَّ كِيدُونِ» جميعا أنتم وشركاؤكم بما تستطيعون من أنواع الحيل والمكر فإن قدرتم علي «فَلا تُنْظِرُونِ 195» لحظة واحدة ولا تمهلوني لأستعين بأحد عليكم، وإذا تحققتم عدم نصرتها وعدم إجابتها دعاءكم وظهر لكم عجزها وعجزكم أيضا عن أن تمسوني بشيء لأن معبودي يملك النصر ويجيب الدعاء فلا يمكّنكم من إيصال كيدكم إلي، وذلك «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ» القوي العزيز القاهر لكل شيء الحافظ لمن يتولاه الخاذل من يتكل على غيره المذل من عاداه هو الإله «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ» علي وشرفني بالنبوة «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 196» أمثالي لعمارة هذه الأرض ويطهرها من الشرك ويحفظني ومن اتبعني من كيد الكائدين وينصرنا على من يناوثنا «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أنتم وأمثالكم أوثانا «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ 197» كررت هذه الآية بالمعنى بزيادة بعض الكلمات زيادة في التقريع والتوبيخ، وفيها بيان أن الفرق بين من من تجوز عبادته وهو الله، ومن لا تجوز وهي أوثانكم المشار إليها بقوله «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى» لما به نفعكم واجتناب ضركم في الدنيا والآخرة «لا يَسْمَعُوا» دعاءكم لأنها جماد أو حيوان «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ» أي يخيل إليك يا حبيبي أن الأصنام تبصر من ينظرها بعيونها المصنوعة من الجواهر المتلألئة «وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ 198» لأن قوة النظر لا تكون بشيء مما يصوغونه من مكوناتنا، وإنما هي من قدرة الإله الخالق الذي أعجز جميع خلقه عن معرفة المادة الموجودة في الأعين ولا يزالون عاجزين إلى أن يشاء الله. هذا ما يقتضيه

سياق الآية بالنسبة لما قبلها، ونقل عن الحسن أن الخطاب في (وإن تدعوهم) إلى المؤمنين وضمير المفعول للمشركين، على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى (يَنْصُرُونَ) خاتمة الآية قبلها وعليه يكون المعنى: وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم. وعليه يحسن تفسير السماع بالقول، وجعل وتراهم خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد، ويكون في الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد، وهو وجيه أيضا. مطلب: في مكارم الأخلاق التي يأمر بها الله رسوله: قال تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» الميسور من أخلاق الناس مما يسهل عليهم ولا تستقص عليهم فينفروا منك، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا، أي لا تكلفهم بما يشق عليهم واقبل منهم ما تيسر وعليه قوله: خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب يريد سكوتها عند ثورة غضبه، وفي رواية: في صورتي أي لا تقابليني بما أتكلم عليك. ويجوز أن يكون المراد اعف عن المذنبين من أصحابك، وعاملهم بالعفو، وهو أولى لموافقة الظاهر وما يوافق الظاهر أظهر. روى البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس، ومعنى العفو لغة الفاضل الزائد على قدر الحاجة من المال، ولذلك قال ابن عباس: معناها هنا خذ ما عفا من أموال الناس مما آتوك به لا تكلفهم غيره. وهذا قبل نزول آية الصدقات عدد 266 من سورة البقرة في ج 3، وأخرج أبو الشيخ عن الجوهري أنه قال: لما نزلت هذه الآية كان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفاضل، إلى أن نزلت آية الزكاة «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» المستحسن من الأفعال والأقوال فإنه أقرب إلى قول الناس، لأن الأمر بالجميل من الأقوال والأفعال وكل ما يرتضيه العقل والشرع من الخصال إذا كان بالمعروف يتلقى بالقبول، وجاء في باب التأويل: وأمر بكل ما يأمرك الله به وعرفته من الوحي وهو كما ترى «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ 199»

بمقالك وكتابك وربك، ولا تكافئهم على سفههم ولا تمارهم على جدالهم، وعاملهم بالحكمة وأغض عما يسوءك منهم وعن مساوئهم، وقابلهم بأخلاقك لا بأخلاقهم، فإنه أجدر بمقامك وأوقع بمكانتك وأليق بمخاطبتك ودم على هذا حتى يأتي الوقت الذي ستؤمر فيه بقسرهم، وهذه الآية أجمع آية في القرآن العظيم لمكارم الأخلاق، ففي أخذه بالعفو صلة من قطيعة والصفح عن من ظلمه، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وغض البصر عن المحارم وصون اللسان عن الكذب، وفي الإعراض عن الجاهلين تنزيه النفس عن السفهاء ومنازعة اللجوجين، ولا شيء منها إلا وهو داخل في هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم، هذا وان ما قاله السدي بأن هذه الآية منسوخة بآية القتال لا وجه له، ولا توجد ضرورة داعية إلى دعوى النسخ لأنها عبارة عن تحري حسن المعاملة والمعاشرة مع الناس وتوخي تبدل الجهد وإفراغ الوسع في الإحسان إليهم والمداراة لهم فيما لا يضر بالدين ويجلب إلى المودة وتحسين العلائق معهم. مطلب في النسخ والنزغ ومعناه. وأساس هذا كله المحبة للحق، ومن دواعي المحبة وملاكها هذه المعاملة المبيّنة أعلاه والمعاشرة التي هي أساس كل خير وخلاصته، وإذا علم أن للقرآن العظيم مادة عامة ومادة خاصة وان استعمال كل في موقعه من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل حكيم محاكم لأمره ناظر عاقبته أيقن أن لا نسخ في هذه الآية وأشباهها مما أشرنا إليه قبلا سنشير به بعد، وقد علم كل أناس مشربهم ولكل وجهة، فالسعيد من لا يتعدى بوجهته ظاهر كلام الله ما وجد له محملّا خشية أن يقع بما لا يرضيه، وفقنا الله لرضاه. هذا. وما أحسن وقع هذه الآية الجليلة بعد تعداد أباطيل المشركين وقبائحهم بما لا يطاق حمله: قال ابن زيد لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم: كيف بالغضب يا رب؟ فأنزل الله جل انزاله «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» أي نخس بوسوسة يروم إبقاءها في قلبك الشريف على خلاف ما أمرت به في هذه الآية وما قبلها مما أنزل عليك من الوحي فلا تمل إليه ولا تركن لما ينخسك به ولا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 إلى 206]

تطعه بوساوسه في كل ما هو مخالف لشرعك وأخلاقك التي أمرت بها، وإذا ضاق صدرك مما ينزغه ولم تقدر على دفعه «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» بالالتجاء إليه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لإجابة استعاذاتك به سريع لقبولها بأن يعصمك من نزغه وينزعه من قلبك فلا يترك فيه شيئا منها لما فيه من الخطر على مقام النبوة الذي تكلف الله بعصمته فلا يثبت فيه شيء لا يرضاه لك، ومعنى النزغ لغة شك الجلد بالابرة أو بطرق العصاة وكذلك النخس والنسغ وقد يكون بمعنى الإفساد وهو بالنسبة لحضرة الرسول باعتباره المجازي عبارة عن اعتراء الغضب ليس إلا «عَلِيمٌ 200» بك وبما ينالك من جميع خلقه ليسمع تضرعك إليه ويعلم ما تريده منه قبل استعاذتك به، روى مسلم عن ابن مسعود قال: قال صلّى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا وإياك يا رسول الله، قال وإياي إلا ان الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير (قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم أي صار مؤمنا لا يأمر إلا بخير، وبفتحها أي أسلم من فتنته وشره، واختاره الخطابي، ورجح القاضي عياض الأول وقال: الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وهذا الحديث يشير إلى التحذير من فتنته ووسوسته واغوائه وهذا الخطاب قد يراد به غير الرسول لأنه صلّى الله عليه وسلم معصوم من النزغ وهو جار على حد قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 65 من الزمر في ج 2 لأنه معصوم من الشرك قطعا وعليه يكون المراد بالآية جنس الإنسان ومثله فيما نحن في تفسيرها أي مطلق إنسان ونظير هذه الآية 36 من سورة فصلت في ج 2 فإنهما مطلقتان بطلب الاستعاذة في جميع الأحوال أما آية النحل عدد 99 في ج 2 فهي خاصة بالقراءة والمراد فيها مطلق قارئ لا مطلق إنسان كما هنا، تدبر، إذ يخاطب صلّى الله عليه وسلم بشيء ويراد به غيره وهو جار بين العرب حتى ضرب به المثل وهو «إياك اعني واسمعي يا جارة» قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم ورسخت التقوى بقلوبهم واتصفوا بها «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ» لمّة ألمت به «مِنَ الشَّيْطانِ» لأن الطائف ما يطوف بالإنسان ويلم به وقرىء «طيف» وهو مثله بالمعنى ويفيد الوسوسة أو تسمى طيفا أو طائفا

إيذانا بأنها لا تؤثر بالأنبياء البتة، فكأنها تطوف حولهم فلا تمسهم ولا تؤثر فيهم بل لا تصل إليهم ولهذا عبر بالنزغ بحقهم لأنه أول الوسوسة، وبالمس بحق المتقين لأنه لا يكون إلا بعد التمكن من النزغ فيهم، فيعقبه المس، ولهذا جاءت هذه الآية تأكيدا وتقريرا لوجوب الاستعاذة المارة عند حدوث الوسوسة لئلا يتخطى الأمر إلى المس، وإنباء بأن عادة المتقين إذا اعتراهم المس وأحسوا به ركنوا إلى ذكر الله استنادا لقوله «تَذَكَّرُوا» أوامره ونواهيه فيما طرأ عليهم منه فيلجأون إلى الله من مكايد الشيطان ومكره «فَإِذا هُمْ» بسبب الذكرى التي أمروا بها عند وقوع غفلة أدت إلى الوسوسة أو اعراض سبب المس «مُبْصِرُونَ 201» مواقع خطاهم فيعدلون عنها إلى السداد ويدفعون خطراته بعد أن يزنوها بميزان الشرع ويعرضوها على أصوله وقواعده ويستغفروا ربهم منها إذا ظهر لهم مخالفتها فيغفرها لهم. وقد بينا الحكم الشرعي في الاستعاذة في المقدمة فراجعها تعلم سنيتها في سائر الأحوال. هذا، ولما ذكر الله تعالى حال الأنبياء والمتقين شرع في بيان حال من يقبل نزعات الشيطان ويؤثر فيهم مسه فقال عز قوله «وَإِخْوانُهُمْ» الجاهلين المبعدين من طرق التقوى وهم الشياطين قرناء الفسقة من البشر «يَمُدُّونَهُمْ» يكونون لهم مددا وعدونا «فِي الغَيِّ» وطرقه فيزيدونهم على غيهم غيا قصد ضلالهم وإضلالهم. وقرأ الجحدري يمادّونهم من باب المفاعلة، أي كأن الشيطان يعاضدهم بالإغراء وتهوين المعاصي بأعينهم على إغواء البشر أيضا فهم يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال «ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ 202» لا يمسكون عن إغوائهم ولا يكفون عن مسهم فيصروا على تلك الوساوس ولا يرجعوا عنها إن استطاعوا، حتى إذا تمكنوا منها عمدوا إلى المس فيتدرجوا فيه إلى أن يوقعوه في الغيّ والإغواء فيصير من صنفهم وقد علمت أن ضمير الجمع المضاف إليه أولا في إخوانهم والمفعول ثانيا في يمدونهم يعودان إلى الجاهلين، وضمير الفاعل في يقصرون يعود إلى الشياطين إخوان الجاهلين، فالخبر جاء على غير ما هو له على حد قوله: أقوم إذا الخيل جالوا في كويتها ... قال تعالى «وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ» معجزة باهرة ظاهرة «قالُوا» لك المشركون

يا سيد الرسل «لَوْلا اجْتَبَيْتَها» اختلقتها وأنشأتها كما أتيت بغيرها استهزاء وسخرية بك «قُلْ» يا حبيبي أنا لا أفتري شيئا من عندي، ولا أقدر على إجابة طلبكم إظهار آية ما «إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ» وأتلقاه «مِنْ رَبِّي» دون اقتراح عليه بإنزال الآيات، إذ ليس لي ذلك أبدا، وإذا كنتم تفنعون بالآيات وتؤمنون بها فدونكم «هذا» القرآن الذي أنزله علي وبلغتكم إياه فهو أعظم آية وأكبر معجزة وهو «بَصائِرُ» دلائل وحجج وبراهين قاطعة «مِنْ رَبِّكُمْ» تبصركم بصدقي وتنير لكم طرق الحق وتريكم الهدى والرشد لأنها نفسها «هُدىً» لمن أراد الاهتداء لسلوك العناية الإلهية «وَرَحْمَةٌ» من الرحيم ونعمة من المنعم لعباده ومنّة من المنّان «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 203» به ويتبعون رسله، أما الكافرون فهو لهم ضلال في الدنيا وعذاب في الآخرة لأن هذا القرآن نور لأناس ظلمة لآخرين بآن واحد، إذ يسمعه اثنان فيكون لأحدهما نور وللآخر همى كما سيأتي في تفسير الآية 44 من فصلت في ج 2 والآيه 11 من الأحقاف أيضا فراجعهما. مطلب الناس على ثلاث مراتب: ومن هنا يعلم أن الناس على ثلاث مراتب: فالذين بلغوا غاية علم التوحيد حتى صار لهم كالمشاهدهم أصحاب عين اليقين فهم السابقون المقربون، فالقرآن في حق هؤلاء بصائر، والذين بلغوا درجة الاستدلال والنظر هم أصحاب علم اليقين فهم أصحاب اليمين، فالقرآن في حقهم هدّى، والذين ليسوا من الطريقين وهم عامة المسلمين فهم أصحاب اليقين وهم المقلدون لأهل العلم الماشون على طريقهم، فالقرآن في حقهم رحمة والذين دون هؤلاء إذا ماتوا على الإيمان فهم ناجون لأن من زحزح عن النار فقد فاز، وإلا فالعياذ بالله هم الخاسرون في الدنيا والآخرة مع إخوانهم الكافرين إخوان الشياطين. وهكذا كما يتفاوت الناس في العلم والعمل والمكانة في الدنيا يتفاوتون في الآخرة بالمنازل والدرجات في الجنة، وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا البحث في سورة التكاثر المارة.

مطلب وجوب الاستماع والسكوت عند القراءة: قال تعالى «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» أيها الناس بتفكر وتدبر وأصفوا له بكليتكم لتفهموا معانيه وتعوا مواعظه «وَأَنْصِتُوا» عند قراءته ليقر في قلوبكم وتلهموا مبانيه لأن الكلام عند سماعه لا يجوز إذ يضيع المغزى المراد منه لذلك أمركم ربكم بالسكوت، وهذان أمران ظاهرهما الوجوب، فيكون الاستماع والسكوت واجبين عليكم أيها المؤمنون عند قراءة القرآن بدليل هذه الآية، وكلمة أنصتوا لم تكرر إلا في الآية 29 من سورة الأحقاف ج 2، قال الحسن وأهل الظاهر (إذا قرىء القرآن في أي وقت وموضع يجب على كل واحد الاستماع والسكوت لعموم الأمر، ولذلك قال عروة ابن الزبير والقاسم بن محمد إن المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام ولا يقرأ إذا جهر وهو رواية عن ابن عمرو، هذا بالنسبة للتفسير أحسن من رواية من رأى وجوبها في حالتي الإسرار والجهر إذ قال به الأوزاعي وذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ، وحجتهم أن الآية نزلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية، ويستدلون بالأخبار الواردة بقراءة الفاتحة، وأحسن من روايته من رأى عدم القراءة في الحالتين وهو مروي عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقال الحسن وأبو حنيفة رحمهما الله وحجتهم ظاهر هذه الآية لأنه لا يعدل عن الظاهر إلّا بمسوغ أقوى ولا يوجد، وإن القول الأول هو الحالة الوسطى وخير الأمور أوساطها، لأن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلّت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السرّ جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وإذا أنعم النظر وأمعن الفكر وجد هذا القول أحسن الأقوال، فاتبعوه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204» باقتضاء ما أمرتم به وابتعاد ما نهيتم عنه، وإن وجوب الاستماع هو سبب نزول هذه الآية لمناسبة السباق وموافقة السياق، وقيل نزلت في تحريم الكلام في الصلاة إذ كانوا يتكلمون فيها فمنعوا، وقيل إنها نزلت في ترك الجهر خلف الإمام إذ كانوا

يجهرون خلفه:، وهذه روايات وأقاويل بعيدة عن الثبوت ولا شيء يؤيدها، لأن الصلاة لم تفرض بعد على القول بأن الإسراء وقع في السنة العاشرة من البعثة عند نزول أول سورة الإسراء الآتيه وهو الصحيح، أما على القول بأن الإسراء كان في السنه الخامسة أو السادسة عند نزول سورة والنجم المارة المنوه بها في بحث الإسراء صراحة فسديد، ولكن يا للأسف لم نجد ما يؤيده حتى الآن، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا البحث آخر سورة والنجم فراجعه، واعلم أن الآية عامة مطلقة في القراءة دون الصلاة مما يطلب الاستماع إليها والإنصات لها، أما ما روي عن ابن مسعود أنه سمع أناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إلخ كما أمركم الله فهو لا يؤيد سبب النزول ولا دليل فيه عليه وإنما ينصرف على لزوم الإنصات عند قراءة الإمام وهو واجب بلا شك، وإذا كان الإنصات دون الصلاة واجب ففيها من باب أولى، وان ابن مسعود قال هذا القول في حادثة أناس يقرأون مع الإمام في المدينة لا في سبب النزول الكائن في مكة: لأنه لا يعرف تاريخ قوله هذا ليستدل به على النزول فإن في مكة فهو غير صحيح وإن في المدينة لا دليل له عليه، وأضعف من هذه الأقوال القول بأنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة، لأن هذه الآية مكية قطعا وإنما وجبت الجمعة في المدينة، تأمل هذا واعرف مزية هذا التفسير الذي جاء على ترتيب نزول القرآن وعرفك المقدم والمؤخر، وإلا لغرقت في أقوال ينسيك آخرها أولها ولا رتبكت واحتججت بروايات تضارب إحداها الأخرى فتفحم من غير غلب وتحقر من غير ذنب فتسكت للواقع وأنت محق في المواقع، فاحمد الله. مطلب في الذكر السري وحالة الخوف والرجاء: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ» سرالا تسمع به غيرك، وهذا خطاب لخاصة الرسول وعامة المؤمنين، لأن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع على هذه الصفة لقربها من الإخلاص وبعدها من الرياء، لا سيما إذا كان الذاكر استحضر في قلبه عظمة المذكور لما فيه من الإشعار بقرب العبد من ربه عز وجل.

وفي هذه الآية إيذان بمقام الرجاء لأن لفظ الرب يشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام ربه عليه وإحسانه إليه يقوى مقام رجائه، وإذا كان الذكر باللسان فقط عاريا عن حضور القلب كان عديم الفائدة التي هي استشعار عظمة المذكور واستحضاره وتخيلك بين يديه وتصورك بلا كيف وجود عظيم الوجود أمامك وجلاله وكبريائه فوقك. وبعد أن بين الله تعالى مقام الرجاء في صدر هذه الآية أعقبه بالإشارة إلى مقام الخوف فقال وإذا ذكرت ربك فاذكره «تَضَرُّعاً» إليه بإظهار الذل والخضوع وإبداء الاستكانة إلى المذكور «وَخِيفَةً» من هيبته لأنك في حال مخاطبته في حضرته، ومن عرف عظم المقام وجب أن يكون في حالة خوف ورهبة وخشية لا محالة، وإذا حصل هذا في قلب الذاكر وكان بين الخوف والرجاء، قوي إيمانه وتنور قلبه وثبت جنانه فتفجرت منه الحكمة، فعلى العاقل أن لا يفارق حالة الخوف والرجاء في الشدة والرخاء وأن يصاحبهما في جميع حالاته لا في حالة الذكر فقط، إلا أنه يستحب له أن يغلب حالة الخوف على الرجاء في حالة الصحة والرفاء، وحالة الرجاء على الخوف في حالة المرض والاحتياج، لأن مقام الموت والحاجة مقام رجاء ومقام الصحة والرفاه مقام خوف فى الغالب لأنه لا يدري ما يحل به ويفجأ به. قال أنس رضي الله عنه: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا يجتمعان (الخوف والرجاء) في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي-. ومن هذه الآية الكريمة أخذ السادة الصوفية بارك الله فيهم الذكر السري وجعلوه من أورادهم وهو دليل واضح لهم لا يحتاج إلى تعليل مؤيد لقوله صلّى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي وخير المال ما يكفي- أخرجه أحمد- فمن تقول بعد هذا النص القاطع بأن الذكر الخفي لا أجر فيه لذاكره فقد أخطأ وهو لا أجر له على اجتهاده هذا بل يأثم، والله أعلم إذ لا اجتهاد في مورد النص وإنما يجتهد في المشكلات والمتشابهات مما لا نص قطعي فيها ففي مثلها إذا أخطأ يكون له أجر وإذا أصاب أجران ت (31)

لأن اجتهاده فيما لا نص فيه غاية وسعه ونهاية جهده في بذل فكرته وقدح فطنته أما الأمور الظاهرة كهذه فلا محل للاجتهاد فيها. هذا، وقد جاء النص هنا بلفظ الأمر الدال على الوجوب ولا صارف له عن حقيقته فالمعترض عليه غير مصيب، تنبه، ثم بين جل شأنه حالة ثانية لذكره جل ذكره فقال «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» أي مقتصدا، أرفع من الذكر الخفي وأدنى من الجهري لما فيه من رعاية الأدب مع المذكور، لان ارتفاع الصوت بحضرته غير جائز لما فيه من سوء الأدب، وهذه الحالة مطلوبة في الصلاة أيضا، قال تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) الآية 110 من سورة الإسراء الآتية ومطلوبة في الدعاء أيضا قال صلّى الله عليه وسلم لأناس يرفعون أصواتهم بالدعاء (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) ومرغوبة في كل حال قال تعالى (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) الآية الثانية هن سورة الحجرات في ج 3، هذا ومن كمال فقه الرجل لزومه هذه الحالة في هذه الأحوال وغيرها، ومن تأدبه مراعاتها في مخاطبة الناس ولا سيما للعلماء العاملين لأنهم ورثة الأنبياء والمشايخ الكاملين لاقتقائهم آثارهم. ثم بين جل شأنه أحسن الأوقات لذكره بقوله «بِالْغُدُوِّ» أول النهار بكرة «وَالْآصالِ» آخره عشيا والغدوة من طلوع الفجر أو طلوع الشمس وتمامها من طلوع الشمس إلى الضحوة والآصال جمع أصيل ما بين العصر والمغرب، فإذا قام الإنسان بذكر ربه في هذين الوقتين ختم نهاره بخير كما بدأه بخير وإذا سلمت الغاية والمغيا فالله أكرم بالعفو عما يقع بينهما، وإنما خص هذين الوقتين لأن الإنسان يقوم صباحا من نومه الذي هو أخو الموت ليتداول عمله نهارا فينبغي له أن يذكر الله فيه شكرا على نعمة نومه وافاقته وأنه لم يتوفاه فيه قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية 42 من سورة الزمر في ج 2، وكذلك ينبغي له أن نذكره بعد المساء بعد فراغ أشغاله وخاصة عند النوم ليختم يومه بخير شكرا على نعمة إبقائه وراحته من أعماله، لأنه قد لا يقوم من نومه فيموت على ذكر الله، قال صلّى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه

لا إله إلا الله دخل الجنة، ففيه بشارة عظيمة للذاكر فإذا فعل هذا بات مطمئنا قرير العين فمن تلبس بهاتين الحالتين وداوم عليهما كان ناجيا ومن تركهما يخشى عليه الهلاك لذلك ختم الله تعالى هذه الآية المشتملة عليهما بقوله عظم قوله «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ 205» عن الذكر في هذين الوقتين المقربين إلى الله فتعتريك الغفلة عن ذكره فتكون بعيدا عنه، والبعد عنه والعياذ بالله هلاك ما بعده هلاك لأن مقام الغفلة خطر عظيم، إذ ربما أن كان الأجل الذي أخبرنا الله بإتيانه على بغته، فإياك أيها العبد أن تغفل عن ذكر ربك الذي سواك فعدلك ولم يجعلك كالبهائم الغافلة عما يراد بها، ودوام على ذكره في كل الأوقات والأحوال وان فاتك الذكر لأمر ما في هذين الوقتين فاقضه في غيرهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من سورة الفرقان الآتية. ترشد هذه الآية إلى أن من فاته الذكر النهار قضاه ليلا ومن قامه ليلا قضاه نهارا لأن الليل يخلف النهار وبالعكس، وانظر إلى مدح الله عباده الذاكرين في قوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية 191 من آل عمران في ج 3 وفي قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) الآية 16 من سورة السجدة في ج 2، فمن فعل هذا كان قريبا من الله وحصل على ملاك الخير في الدنيا والآخرة ودخل في جملة من مدحهم الله وهنيئا لمن كان في عدادهم ثم أخبر الله عباده أهل السماء ليقتدوا بهم فقال «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة المقربين مكانة ومنزلة لأقرب مكان ومنزل، فهم مع علو مراتبهم ورفعة شأنهم وقربهم من ربهم بالزلفى والرقى «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» ولا يلتفتون لغيره بل يتذللون لعظمته ويخضعون لهيبته، فيؤدون العبادة له حسبما أمروا بها أمام كبريائه لأنهم عبيد طائعون منقادون لسلطانه وقد قال في وصفهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (الآية 7 من سورة التحريم ج 3) طوعا واختيارا وحبا بقربهم منه طلبا لمرضاته وليتصف عباده أهل الأرض بصفة عباده أهل السماء «وَيُسَبِّحُونَهُ»

ينزهونه عما لا يليق بجنابه ويقدسونه ويمجدونه بما هو أهله «وَلَهُ يَسْجُدُونَ 206» خضوعا وخشوعا لجلاله ويفوزون بهذه الصفات المحمودة المرضية. مطلب ما قاله بعض الأكابر في هذه الآية: قال بعض الأكابر إن قوله واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية إشارة إلى أعلى المراتب وهي صفة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه (ودون الجهر) رمز إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة وقوله جل قوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ايماء الى مرتبة النازلين من السالكين وقال مشيرا إلى كلمة (خيفة) : أشتاقه فإذا بدا ... اطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله وقوله عز قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم المقربون من الملائكة والمفنون أنفسهم به من البشر الباقون به سبحانه وهم أرباب الاستقامة أهل المقام العظيم (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لعدم احتجابهم بالأنانية وانمحاقهم بالكيفية والكمية (ويسبحونه) بنفيها (وله يسجدون) بالفناء التام وطمس البقية الباقية من مهجهم، وهذه السجدة من عزائم السجود واجبة على القارئ والمستمع كما نوهنا به آخر سورة والنجم المارة وقد بينا فيها وفي سورة العلق كيفية السجود وما يقرأ فيه بصورة مفصلة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فقرأ سورة فيها سجدة فسجد وسجدنا معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم في السجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأببت فلي النار. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة، هذا، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

[الجزء الثاني]

[الجزء الثاني] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تفسير سورة الجن عدد 40- 72 نزلت في مكة بعد الأعراف، وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمائة وسبعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة نوح، وبينا السور المبدوءة بكلمة قل وما يتعلق فيها في سورة الكافرين فراجعها. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لقومك وغيرهم من الإنس والجن والملائكة «أُوحِيَ» اليوم «إِلَيَّ» من ربي «أَنَّهُ اسْتَمَعَ» قراءة القرآن بدلالة ذكره بعده وهذا مما حسن حذفه «نَفَرٌ» قال في المجمل النفر والرهط يستعمل إلى الأربعين، وقد وهم الحريري بقوله إنه يطلق على ما فوق العشرة وغلط غيره القائل بأنه ما بين الثلاثة إلى العشرة، واعلم أنه لا يختص بالرجال ولا بالناس كما قاله الآخرون لإطلاقه هنا على الجن، والفرق بينه وبين الرهط بأن الرهط يرجعون لأب واحد والنفر لآباء متفرقين، وهما اسما جمع لا واحد له من لفظه «مِنَ الْجِنِّ» وهم فصيلة على حدة قال تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ (مِنْ قَبْلُ) مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية 28 من سور الحجر في ج 2، وقد نسب إبليس عليه اللعنة إلى هذه الفصيلة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 52 من سورة الكهف في ج 2 أيضا. هذا، وقد أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه رضوان الله عليهم واقعة الجن هذه معه ويطلعهم عليها، ليعلموا عموم رسالته، وأنه كما هو مبعوث إلى الإنس مبعوث إلى الجن أيضا، ولتعلم قريش بأسرها هذا وتحدث به غيرها، وليفطنوا أن الجن مع تمردهم وعتوهم لما سمعوا القرآن

يتلى من قبله عرفوا أنه قول معجز لجميع الخلق وأنه لا يكون إلا من الله جل شأنه، فآمنوا به، وإعلام لقريش وغيرهم بأن المؤمن من الجن يدعو غيره للايمان لشدة تأثيره في قلبه، عكس كفرة مكة وغيرهم من المشركين فإنهم يعرضون عن سماعه ويصرفون غيرهم عن الإيمان به، وينفّرونهم من سماعه لإيذاء حضرة الرسول قصد تكذيبه، وهو الصادق المصدوق الأمين المؤتمن. وخلاصة ما جاء في هذه القصة هو ما رواه محمد بن اسحق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرفي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، جلس لأشرافهم ودعاهم إلى الله والإيمان به بالقول والفعل، وأعلمهم بأنه رسوله إليهم كما هو لغيرهم، فلم يرد الله بهم خيرا، وذلك في بدء السنة العاشرة من البعثة، فأغروا به السفهاء والعبيد وآذوه بالقول والفعل، ولما أيس منهم صلى الله عليه وسلم رجع حتى كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جنّ نصيبين (سبعة أو تسعة لم يثبت عددهم على الحقيقة والآية عامة والنفر يطلق على الواحد حتى الأربعين كما مر بك) كانوا قاصدين اليمن حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب أكثر من ذي قبل احتراما لمبعث الرسول ومعجزة له وإكراما، فاستمعوا لقراءته حتي فرغ من صلاته، فآمنوا به صلى الله عليه وسلم إجابة لما سمعوه من القرآن. وقال قتادة ذكر لنا ابن مسعود حين قدم الكوفة فرأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم، قال أظهروا فقيل له إن هؤلاء قوم من الزط. فقال ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وفى رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد الله بن مسعود، قال ولم يحضر معه أحد غيره، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثل النسور تهوي، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت غبشة أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته،

ثم طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول الله منهم مع الفجر، فانطلق إليّ فقال تمت؟ قلت لا والله يا رسول الله، لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول لهم اجلسوا، فقال لو خرجت (من خطتك) لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئا؟ قلت نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض، قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة، قالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا (فنهى صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث) فقلت يا رسول الله سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن قد تدارأت (أي اختلفت فيما بينها وتدافعت في الخصومة) في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق (هذا ينافي قول من قال إنه صلّى الله عليه وسلم ما عرف ماذا قال الجن وأي شيء فعلوا) بل تفيد أنه صلى الله عليه وسلم فهم منهم وأفهمهم، وإلا لما جاز أن يقضي بينهم، لأن القضاء لا يجوز إلا بعد معرفة قول المدعي والمدعى عليه، ولا يكون إلا بالإقرار أو البينة أو الحلف، وينافي القول أيضا بأنه لم ير الجن، فإذا كان ابن مسعود وهو محجّر عليه بعيد عنهم وآهم، فكيف به صلى الله عليه وسلم وقد أحاطوا به كالهالة في القمر؟ أما إذا قيل إنه صلّى الله عليه وسلم لم يرهم على صورتهم التي خلقوا عليها فيجوز، لأنهم يتكيفون بصور مختلفة وهيئات متباينة، وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلم رآهم. بصفة الإنس كما مر في قول ابن مسعود رضي الله عنه، وكذلك كان يرى الملك بصورة دحية كما مرّ في بحث الوحي في المقدمة، قال ثم تبرز صلى الله عليه وسلم وأتاني فقال هل معك ماء؟ قلت يا رسول الله معي أداوة (إناء فيه ماء كالجود للمسافر) فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاني فصببت على يده فتوضأ وقال ثمرة طيبة وماء طهور. هذا، وقد ضعف هذا الحديث جماعة كما ذكره البيهقي في كتابه (الخلافيات) بأسانيد وأجاب عنها كلها، والذي صح عن علقمة قال: قلت لابن مسعود وهل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال ما صحبه منا أحد (فمن هنا ظهر ضعف حديث التوضؤ بنبيذ التمر إذ يقول فيه إن ابن مسعود صحب النبي صلّى الله عليه وسلم فقط بعد أن قال ما قال، وهنا يقول هو نفسه ما صحبه منا

مطلب رواية الجن ورمي النجوم:

أحد اللهم الا أن يريد ما صحبه غيره، تدبر. على أن ابن تيمية قال إن ابن عباس علم مادل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وابو هريرة من إتيان الجن له صلّى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه، وواقعة الجن هذه كانت قبل الهجرة بأكثر من ثلاث سنين قال الواقدي إنها وقعت سنة إحدى عشرة من النبوة، والصحيح ما ذكره البرزنجي أنها في العاشرة، لأنها قبل الإسراء، والإسراء وقع في العاشرة، فلا يصح أن تكون حادثة الجن بعده لأنها قبله على الصحيح. وقالوا إن قصة الجن وقعت مع النبي صلّى الله عليه وسلم ست مرات) رجوع إلى قول ابن مسعود: وقال ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فقصدناه فالتمسناه في الأودية والشعبات فقلنا استطير أو اغتيل، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا شر ليلة يأت بها قوم، قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار منازلهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون عليه لحما وكل بعرة علفا لدوابكم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فانهما طعام إخوانكم الجن. زاد في رواية: قال الشعبي وكانوا من جن الجزيرة- أخرجه مسلم في صحيحه. - مطلب رواية الجن ورمي النجوم: هذا وإن في الحديث الأول إثبات رؤية الجن له صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث أيضا، إلا أن ابن عباس أنكرها فيما رواه عنه البخاري ومسلم قال ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، ولكن انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا ما لكم، قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب! قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن

استمعوا اليه وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم (فَقالُوا يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأنزل الله على نبيه (قُلْ أُوحِيَ) إلخ، زاد في رواية: وإنما أوحي اليه قول الجن- أخرجاه في الصحيحين- قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس: هذا معناه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، أي استراق السمع صادف هؤلاء النفر رسول الله يصلي بأصحابه، وعلى هذا فهو صلّى الله عليه وسلم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه الله عز وجل بما أوحى اليه من قوله قل أوحي إلخ، وإنما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجنّ آخرون ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 29 من سورة الأحقاف في ج 2 والحاصل من الكتاب والسنة أن الجن موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على ما يليق بحقهم وحالهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو رسول إلى الإنس رسول إلى الجن، فمن آمن به فهو مع المؤمنين في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كفر به فهو مع الشياطين والكافرين المبعدين المعذبين في جهنم، وانه صلّى الله عليه وسلم وآهم رؤية بصرية لا بصورتهم الحقيقية كما في هذه الأحاديث وفيما أوردناه في تفسير الآية (200) من الأعراف المارة- في الجزء الاول- وفي لآية 25 من سورة ص المارة أيضا. ويفهم من هذا الحديث أن الرجم بالنجوم لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على أن الزهري روى عن علي بن الحسن رضي الله عنهما عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم، وروى عن معمر قال قلت المزهري أكان الرمي بالنجوم في الجاهلية؟ قال نعم قلت رأيت قوله تعالى (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) الآية الآتية، قال غلّفت وشدد أمرها حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم. وقال ابن ابن قتيبة مثله، وبهذا ارتفع التعارض بين الحديثين ويظهر من هذا كله أن الجن موجودون وأن النبي رآهم وأنهم مكلفون مثل البشر، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم وأن رميهم بالشهب كان قبلا وزاد بمبعثه، وان الاعتقاد بذلك كله واجب

وأن العرب كانت تعرف الرمي قبل الإسلام لوجود ذكره في أشعارهم في الجاهلية قال بشر ابن أبي حازم: والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفها انقضاض الكوكب وقال اويس بن حجر: وانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طينا وقال عوف بن الجزع يصف فرسا: يرد علينا العير من دون الفه ... أو الثور كالدري يتبعه الدم فهؤلاء جاهليون لا مخضرم فيهم فلو لم تكن قبلا لما نطق بها هؤلاء أما ماهية الجنّ فمختلف فيها، فمنهم من قال إن الجن جسم هوائي يتشكل بأشكال مختلفة، ومنهم من قال انها جواهر ليست بأجسام ولا أعراض وتختلف ماهيتها بعضها عن بعض، فمنها خيّرة كريمة محبة للخيرات، ومنها خسيسة دنيئة شريرة ولعة بالقبائح والآفات، ومنهم من قال إنهم حاصلون في الحيّز موصوفون بالطول والعرض والعمق، فمنهم اللطيف ومنهم، الكثيف، والعلوي والسفلي، ولا يمنع من هذا أن يكون لهم علم مخصوص وقدرة مخصوصة على الأفعال العجيبة التي يعجز عنها البشر كما أشار اليه في سورة ص الآية 27 المارة، وما سيأتي في الآيتين 16/ 39 من سورة النمل، والآيتين 11/ 12 من سورة سبأ والآية 82 من الأنبياء في ج 2، وغيرها مما نورده في محله إن شاء الله، وذلك بإقدار الله إياهم، فمن أنكر شيئا مما تقوم فهو على غير طريقة أهل السنة والجماعة، وإنّ ما أجمعوا عليه في هذا الشأن مستند للكتاب والسنة كما علمت، وان ما تمسّك به المنكرون من أنه لا بدّ من صلابة البنية حتى تكون النفس المتلبسة بها قادرة على الأفعال الشاقة وأن البنية شرط للحياة ولا حياة بلا بنية، كلها أقوال واهية استدرجوا بها لإنكار وجود الجنّ ولم يعلموا أن انكارهم إنكار للقرآن إن كانوا مسلمين وللتوراة والإنجيل ان كانوا يهودا أو نصارى، وهو كفر بحت والعياذ بالله، لأن القادر على خلقهم قادر أن يضع فيهم صلابة بالبنية وحياة فيها، وقدرة على الأفعال

الشاقة وغيرها، على أن هناك جمعا عظيما من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات اعترفوا بوجودهم وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية، هذا وقد اختلف العلماء فيما سمعوه من القرآن أيضا قيل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وقيل غيرها، إلا أن ما قيل إنه سورة الرحمن لا يصحّ لأنها نزلت بالمدينة وقضية الجنّ في مكة بلا خلاف، وما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال لقد قرأتها ليلة الجن على الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد، أخرجه الترمذي وقال حديث غريب، وفي رواية كانوا أحسن منكم ردا فإنه أي هذا الحديث على فرض صحته عبارة عن حكاية ذكرها لأصحابه حضرة الرسول لا يعلم تاريخها فلا يصح الاستدلال بها لاحتمال وقوعها في المدينة وهو الأقرب للمعقول، لأن الرسول اجتمع كثيرا مع الجن وقد ذكرنا آنفا انه اجتمع معهم ست مرات، وأنت خبير بأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أبطل الاستدلال به، تأمل هذا: واعلم أن القرآن ذكر حادثتين في استماع الجن في هذه السورة وفي الآية 39 فما بعدها من سورة الأحقاف في ج 2، وأن الله قصّها علينا بواسطة رسوله على طريق الحكاية، ولا يبعد أن حضرة الرسول قرأ عليهم غيرها في مكة أو المدينة بعد أن ذكروا أن الاجتماع بهم كان ست مرات، قال تعالى حاكيا ما قاله الجن عند سماعهم قراءة رسوله «فَقالُوا» بعضهم لبعض «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» 1 ما سمعنا مثله، بديعا في حسن نظمه، بالغا في صحة معانيه، لطيفا في تركيب مبانيه، مباينا لكلام البشر، وجدير أن يتعجب منه لأنه «يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» الحق والصواب والعدل والسداد، يقرأ بسكون الشين وضمها وبفتح الراء والشين وضمها «فَآمَنَّا بِهِ» لما سمعناه إذ تحقق لدينا أنه كلام الله، وأن البشر يعجز عن مثله، وإنا رجعنا عن الإشراك بمنزل هذا القرآن «وَلَنْ نُشْرِكَ» من الآن فصاعدا «بِرَبِّنا أَحَداً» 2

ولا شيئا من كافة الأوثان، وتدل هذه الآية على أن هؤلاء الجن كانوا مشركين، لذلك تبرأوا من الشرك ونزهوا ربهم عما يقوله الظالمون من اتخاذ الصاحبة والولد بقولهم «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» 3 كما يزعمه المشركون، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس والمعونة، والله منزه عن ذلك كله. قال أنس: كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم. ويطلق الجد على الغني، منه قوله صلى الله عليه وسلم : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا» إبليس عليه اللعنة لتعريفه بالإضافة إليهم، وقيل إن الضمير في سفيهنا يعود إلى المردة منهم، فتكون الإضافة للجنس، وهو بعيد لأن الظاهر يأباه «عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» 4 كذبا تجاوزا عليه عدوانا وكفرا إذ تبين لنا كذب قوله من إسناد الشريك والصاحبة والولد إليه تعالى عن ذلك «وَأَنَّا ظَنَنَّا» قبل أن نسمع هذا القرآن من الرسول محمد «أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» 5 لأنهم يقولون لنا ذلك ويؤكدون أقوالهم بالإيمان بأن لله ولدا وصاحبة وشريكا، وكنا نصدق لأنا لا نعرف أن أحدا يحلف بالله كاذبا، وقد ظهر لنا الآن أنه منزه عن ذلك كله، وأنهم كانوا يكذبون علينا وعلى خالقهم جل شأنه «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» وذلك أن الجاهلية كانوا اعتادوا إذا أمسى أحدهم في أرض قفر يقولون إنا نعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيقول عظماء الجن سدنا الإنس أيضا. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي السائد الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذاك أول ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله، فإذا الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فأنزل الله على رسوله بمكة هذه الآية «فَزادُوهُمْ رَهَقاً» 6 الرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم. قال الأعشى: لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... لا يشتفي رامق ما لم يصب رهقا

والمعنى أن الإنس زادوا الجن طغيانا وسفها وكبرياء بسبب استعاذتهم بهم «وَأَنَّهُمْ» كفرة الجن وسفهاؤهم «ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ» يا معشر الكفار من الإنس، هذا على عود الضمير في أنهم وفي ظنوا للجن، وضمير ظننتم للإنس، وهو أولى من عود الأولين للإنس والثالث للجن مراعاة للسياق، أي أن كفار الجن كالإنس كانوا تيقنوا قبل سماعهم القرآن «أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» 7 بعد موته، أي أنهم كانوا ينكرون بالبعث أيضا مثل الكفرة من الإنس وأنهم اهتدوا ورجعوا عما كانوا عليه حال سماعهم القرآن، فما بالكم يا كفار قريش لم تؤمنوا وقد سمعتم كثيرا من كلام الله، أما آن لكم أن تكونوا مثلهم فتؤمنوا بالبعث بعد الموت وتتركوا الإشراك بالله وتفردوا ربكم الإله الواحد بالربوبية وبكل ما تأملونه من خير الدنيا والآخرة؟ ألم تساووا الجن بالإيمان بالرسول وما جاء به من عند الله؟ قال تعالى حكاية عنهم أيضا «وَأَنَّا لَمَسْنَا» وجسسنا «السَّماءَ» طلبا لبلوغها واستماع كلام من فيها كما كانت العادة قبلا «فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً» من الملائكة أكثر من ذي قبل بأضعاف كثيرة جدا «وَشُهُباً» 8 تنقض من نجومها المضيئة علينا بكثرة أيضا خلافا لما كانت عليه قبلا «وَأَنَّا كُنَّا» قبل مبعث النبي محمد «نَقْعُدُ مِنْها» أي السماء «مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ» فنسترق ما يقع فيها من بعض القول حيث كنا نجد أمكنه في السماء خالية من الحرص وبعض المواقع منها عارية من الشهب، أما الآن فكلها ملأى من الحرس والشهب بكثرة لم تعهدها قبل، لذلك ماعدنا نقعد فيها خوفا أن نحترق «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ» بعد مبعث حضرة الرسول وإلى ما شاء الله «يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» 9 يرمى به حالا فكان الشهب تترصد من يطلب الاستماع في السماء فترميه حالا وتحرقه. قال ابن عباس كانت الجن تصعد الى السماء لتستمع الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا فيحدثون ويبلغونها الى الكهنة، فلما بعث صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولهذا كانت الناس تتهافت على الكهنة تهافت الفراش على النار فيعظمونهم ويحترمونهم ويسألونهم عن مصالحهم الحاضرة والمستقبلة، لأنهم قد يصدقون لأن ما يلقيه الجن

[سورة الجن (72) : الآيات 11 إلى 20]

إليهم من الكلام إذا صادف الحادثة تناقلها الناس بأن الكاهن أخبر بالغيب، فيعكفون عليه ويأخذ الشهرة بسببها، فإذا زاد عليها تسع كذبات يسمع منه ويصدق به أيضا من أجل صدقه في تلك، فيكونون قد ضلوا وأضلوا (وقد ذكرنا آنفا أن رمي النجوم بالشهب قديما وإنما زاد بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم) فقال لهم إبليس ما هذا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده يتحرون الخبر، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين (أراه قال بمكة) فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وتقدم ما بمعناه بأوضح منه «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ» حتى حرست السماء ورميت بالشهب ومنعنا من استراق السمع وحرمنا من أخبارها التي تلقيها الكهنة ليفيضوها على العامة «أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» 10 من خير ورحمة وهدى «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ» في معاملتهم بعضهم مع بعض وسائر الخلق لا يريدون إلا الخير «وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ» يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا مع أنفسهم وغيرهم لانا «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» 11 جماعات متفرقين وأصنافا متقطعين مسلمين كاملين ومسلمين فاسقين وآخرين كافرين مثل الإنس الآن، إذ منهم المؤمن والكافر والفاسق وبين ذلك، كالنصيرية والدروز والإسماعيلية والعلوية والرافضة والقدرية والمرجئة والكرامية والدهرية وغيرهم، فرقا متباينة بالأخلاق والعادات والتدين «وَأَنَّا ظَنَنَّا» تحققنا وأيقنا، وهكذا كلّ ظن في القرآن يكون معناه اليقين «أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ» إذا فررنا في أقطارها فإنا نكون في قبضة متى أراد «وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» 12 إلى آفاق السماء ولانا تحققنا أنه قادر علينا أينما كنا لانفلت من قبضته ولا مقر لنا منه أبدا كيف وهو جل جلاله يقول (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الآية 66 من سورة الزمر في ج 2 هذا «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى» من حضرة الرسول «آمَنَّا بِهِ» أي القرآن الذي قرأه علينا المعبر عنه بالهدى جزمنا بأنه من الله وآمنا به وبمن أنزله عليه المرسل لهداية الخلق إنسهم وجنهم

«فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ» بعد أن رأى أن الإيمان به واجب حق ايمانا كاملا «فَلا يَخافُ بَخْساً» نقصا في عمله وفي ثوابه «وَلا رَهَقاً» 13 يغشاه من إثم ومذلة أو مكروه مطلقا، أنظروا أيها الناس جنّا آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم لأول وهلة رأته وسمعت منه دون حاجة أتردد، فكر، وإنسا تتلى عليهم آيات الله منه ليل نهار، وهو معروف عندهم في صدقه وأمانته ونسبه ولم يؤمنوا، صدق الله (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الآية 17 من سورة الكهف في ج 2 «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ» الجائرون من أسماء الأضداد، إذ يأتي بمعنى العادلين المستقيمين على الحق والعادلين عنه والعادل من الأضداد أيضا لأنه بمعنى المائلين عنه، والمائلون من الأضداد أيضا لأنه يقال مال إلى الحق ومال عنه، واعلم بأن قسط بمعنى جار فحسب، وأقسط بمعنى جار وعدل، ولا يقال اعدل في الحكم بل عدل به، ويحتمل المعنيين «فَمَنْ أَسْلَمَ» نفسه إلى ربه وآمن بما جاء به رسوله وسلم الناس من لسانه ويده «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» 14 طلبوا لأنفسهم الهدى والصواب، لأن من يجتهد طلبا للحق يوفق إليه، وكلمة من في صدر هذه الجملة تحتمل الجمع والإفراد ولذلك قال أولئك باعتبار معنى الجمعَ أَمَّا الْقاسِطُونَ» الكافرون الذين بقوا على كفرهم فلم يسلموا وماتوا على ذلكَ كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» 15 في الآخرة وقودا لها. مطلب فتح أن وكسرها في هذه السورة: هذا، وقد اختلف القراء في فتح أن وكسرها من أول السورة إلى هنا عدا التي بعد القول إذ لا قول فيها، فقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة، ووافقهم أبو جعفر في ثلاث منها وهي: 1- وأنه تعالى، 2- وأنه كان يقول، 3- وأنه كان رجال. واتفقوا على الفتح في أنه استمع، وأن المساجد لله، لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحي للنبيّ خاصة، وقالوا يصح بالبواقي الفتح والكسر، فوجه الكسر بالعطف على إنا التي هي بعد قالوا من عطف الجمل، ووجه الفتح على المفعولية. ومن المعلوم أن

ان تفتح في عشرة مواضع وتكسر في عشرة أيضا، فراجعها في كتب النحو وأوضحها مغني اللبيب. واعلم أنه لا دليل في هذه الآية لمن لا يرى ثوابا للجن، وذلك لأن الله تعالى ذكر هنا عقابهم على عدم الإيمان وسكت عن ثوابهم إذا آمنوا، لأن الله تعالى قال: (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) وهذا كاف لثبوت الثواب لذكر سببه وهو تحري الرشد، وإذا وجد السبب يوجد المسبب والله أكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد، بل من مقتضى عدله إثابته، لأن الرشد لا يأتي إلا بخير والخير ثوابه الجنة. أما قوله فإنهم خلقوا من النار، والنار لا تكون عذابا لمن خلق منها كالسمندل مثلا فإنه يرى نفسه منعما فيها لأنه يبيض ويفرّخ فيها كالبخ في الثلج والسمك في الماء والطير في الهواء، سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى كلا لما خلق له وحبّبه فيه، فبغير محله لأنهم بعد ما آمنوا واستحقوا الجنة، فقد تغيروا من تلك الهيئة وصاروا خلقا آخر، فتكون النار عذابا لكافرهم الذي لم يتبدل خلقه ليذوق ألمها، والجنة ثوابا لمؤمنهم الذي تبدل خلقه ليذوق نعيمها، على أن الله قادر على أن يعذب النار بنار أشد منها إذا فرض بقاؤهم على هيئتهم الأولى، وبعد أن بين الله من أول السورة إلى هنا ثلاث عشرة حقيقة على لسان الجن شرع جل شرعه بيان الحقائق التي يجب أن يحاط بها علما وهي سبع من هذه الآية لآخر السورة، وقد قسم فيها العباد على ثلاثة: مسلم ومؤمن وقاسط، تدبر. قال تعالى «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ» المستقيمة ملّة الإسلام وأن هنا مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وضمير استقاموا يعود إلى الإنس والجن معا، وقرأ الأعمش بضم واو لو، أي والحال والشان لو استقاموا «لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» 16 كثيرا فوسعنا عليهم أرزاقهم التي أصلها من الماء قال تعالى: (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية 30 من سورة الأنبياء في ج 2، وقال بعض المفسرين إن هذه الآية خوطب بها أهل مكة على طريق الالتفات بعد أن أتم الخبر عن الجن أي لو استقام أهل مكة على الطريقة السمحة المعروفة طريق الحق والإيمان والهدى والرشد لأكثرنا عليهم الماء الذي هو أصل معاشهم وفي كثرته تكثير

الخيرات التي هي أصل سعة الرزق، والأول أولى نظرا للسّياق والسّباق «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» أي الماء المسبب عنه كثرة الرّزق فنختبرهم به أيشكرون أم يبقون على كفرهم. والذي خصّ هذه الآية بأهل مكة أراد أنها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الآية 96 من آل عمران المارة وهو وجيه لو لم يكن فيه الالتفات وتغيير نسق العطف دون حاجة فضلا عن استقامة المعنى بالنسبة لما قبل الآية وبعدها واتباع الظاهر أظهر، قال تعالى «وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ» الذي ذكر به عباده من آيات وعبر ولم يوحده حسبما أمر وعكف على إشراك غيره معه وأصر ومات على ذلك وانقبر «يَسْلُكْهُ» يدخله «عَذاباً صَعَداً» 17 شاقا يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، راجع تفسير الآية 17 من سورة المزمل المارة، وهنا يتبادر لي أن التفسير من قوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) إلى هنا على طريق الالتفات الذي ذكر آنفا أولى، لأن إعادة الضمير من هناك إلى هنا إلى الجن مطلقا أو إلى القاسطين منهم على رأي البعض أو لمن ثبت منهم ومن الإنس على الكفر على قول الآخر أولى لأن الجن لا ينتفعون بالماء انتفاع الإنس، ولأن استعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وجعل النعمة استدراجا من غير قرينة على الاستدراج مخالف لظاهر القرآن، فضلا عن أن الطريقة جاءت معرفة فانصرافها إلى الطريقة المثلى وهي ملة الإسلام طريقة الهدى والرشد أولى من صرفها إلى طريقة الضلال والكفر على غير ظاهرها من غير دليل، لهذا لم أره موفقا لمخالفة نسق التنزيل. وبما أن هذه الآية معطوفة على قوله تعالى (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) أي أوحي إلي أنه استمع وأوحي إلي (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس لذلك فإن إعادة الضمير إلى الجن فقط بغير محله، كما أن حصره بالإنس فقط غير موافق، فيكون الأحسن والأجمع للقولين عوده للجن والإنس معا تبعا لبعض المفسرين العظام، فيكون إسقاء الماء للإنس بطريق التغليب على الجن والاستقامة للإنس والجن معا ومثله كثير ووجيه اتباعه والأخذ به والله أعلم.

قال تعالى «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» عطف أيضا على أنه استمع، أي وأوحي إليه صلى الله عليه وسلم أن البيوت المبنية للعبادة هي خاصة له تعالى لا علاقة باختصاص أحد فيها غيره، ولا يختص بها لأجل التعبّد واحد دون آخر، فيستوي فيها الكبير والصغير والعظيم والحقير والمالك والمملوك والغني والصعلوك، وهذا لا يمنع تسمية الجامع باسم بانيه لما فيه من هضم حقه وتقليل الرغبة لغيره لأن معنى لله هو ما ذكرناه من تساوي الناس فيه ليس إلا، ويدخل في هذا المعنى كنائس النصارى وكنيس اليهود والبيع والخلوات العامة، أما المحلات التي يتخذها غير أهل الكتب السماوية لعبادتهم المزعومة فلا تدخل فيها لأنها لم تنشأ لعبادة الله وإذا علمتم أيها الناس أن هذه المساجد خاصة لله «فَلا تَدْعُوا» فيها ولا خارجها بأن تنادوا أو تعبدوا «مَعَ اللَّهِ أَحَداً» 18 في الدعاء وغيره فتشركون وتدخلون في معنى الآية 17 المارة، قال سعيد بن جبير: المراد بالمساجد أعضاء الإنسان السبعة، أي الجبهة واليدين والرجلين والركبتين التي يسجد عليها، لأنها مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره. وهذا قول صحيح لكنه لا يصح أن يكون تفسيرا للآية لمخالفة الظاهر دون دليل أو حاجة، وإنا عهدنا على أنفسنا أن لا نحول في تفسيرنا هذا عن ظاهر القرآن ما وجدنا مخرجا البتة، وهذه الأعضاء وإن ورد فيها أحاديث صحيحة لكن لا على أنها تفسير لهذه الآية. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكفّ شعرا (كف الشعر عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة) ولا ثوبا (بأن نؤخره عن المسجد إذا وقع عليه) والمراد بالأعضاء السبعة ما ذكرناه آنفا «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معطوف أيضا على أنه استمع «يَدْعُوهُ» بقراءة القرآن في الموقع الذي مر ذكره قبلا. هذا، وما جاء بالخبر من أنه كان يصلي بأصحابه صلاة الصبح عند تفسير الآية 9 المارة يحمل على صلاة كان يصليها تعبدا وهي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشيّة فرضت عليه خاصة، لأن الصلاة لم تفرض بعد ولأن حادثة الجنّ وقعت قبل الإسراء كما أشرنا آنفا إلا أن يقال إن الإسراء في السنة الخامسة عند نزول سورة والنجم، أو أن الإسراء

[سورة الجن (72) : الآيات 21 إلى 28]

نزلت متأخرة عنه، فتكون من الذي تقدم حكمه على نزوله، وقوله على فعله وحينئذ يكون المراد بهذه الصلاة، الصلاة المفروضة، وكذلك كل صلاة ورد ذكرها بعد سورة والنجم، ولم أجد ما يؤيد هذا ولم أحظ بجواب من العلماء فيه وهو مما توقفت فيه حيث لم أجد قولا من المفسرين الذين اطلعت على تفاسيرهم في هذا، فأسأل الله أن يوفقنا قبل إتمامه على ما هو الصواب لنضعه فيه ومن الله التوفيق «كادُوا» أي الجن والإنس المذكورون في الخبر المار ذكره «يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» 19 متلبدين يركب بعضهم بعضا من شدة الازدحام على رؤيته واستماع القرآن منه، كي لا يفوتهم شيء مما قرأه عليهم. وهذه الآية تدل على أنهم كانوا أكثر من سبعة أو تسعة كما في الخبر، ويؤيد الكثرة أن معنى النفر ينصرف إلى الأربعين كما نوهنا به أول السورة، ثم ان كفار مكة لما رأوا حضرة الرسول رجع من الطائف حزينا لما رأى من قسوتهم وما أصابه من أذاهم وردّ دعوته لهم بالإيمان، قالوا يا محمد لقد جئت بأمر عظيم، فارجع عنه إلى دين آبائك ونحن نجيرك من أهل الطائف وغيرهم ونحميك منهم ونكفيك أمر الدنيا، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بما أوحى الله تعالى إليه «قال إنّما أدعوا ربّي» وحده وأحصر عبادتي وحمايتي وإعانتي وكفايتي بحضرته المقدسة، وقرىء قُلْ بلفظ الأمر، وهي قراءة جائزة إذا لا زيادة فيها ولا نقص في المعنى واللفظ غير مد القاف «وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» 20 من خلقه في العبادة والنصرة والطّلب، فلم تتعجبون مما جئت به ولا جله، تطبقون على عداوتي «قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا» إذا بقيتم على كفركم «وَلا رَشَداً» 21 إذا آمنتم بالله وحده، ومعنى رشدا هنا نفعا لأنها بمقابلة ضرا، أي لا أقدر على شيء من ذلك كله، لأنه من خصائص الله الذي أرسلني إليكم منذرا لا مسيطرا ولا كفيلا «قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ» إذا أنا رجعت إلى دينكم وأرادني بسوء فلن يقدر أحد على دفع عذابه عني، وهذا كقول صالح لقومه (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) الآية 62 من سورة هود في ج 2 «وَلَنْ

أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» 22 نفقا أدخل فيه إلى الأرض ومحترزا اختبئ فيه أو ملجأ ألجأ إليه من عذابه، وقد يراد به اللحد وفيه قال: يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحدا أي مقبر وهو يريد مدخل اللحد «إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ» استثناه من قوله لن أجد وهو غير جنس المستثنى منه، أي لن ينقذني إلا تبليغ ما أرسلت به إليكم بلا زيادة ولا نقص «وَرِسالاتِهِ» بأن أعلنها لكم بلا توان، وهذا على جعل (بلاغا وما بعده) بدلا من ملتحدا، وعلى كون الاستثناء منقطعا لأن البلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله ملتحدا، وعلى كون الاستثناء متصلا فيكون استثناء من مفعول (لا أملك) وتكون جملة قل لن يجيرني إلخ اعتراضية مؤكدة لنفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه وكمال تفويضه جميع أموره خالقه، وعليه يكون المعنى (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) وإنما أملك إبلاغ رسالات الله إليكم فقط بالبشارة إن أطعتم، والنذارة إن عصيتم فلا أقدر على ضركم إن أبيتم ولا على نفعكم إن قبلتم، والأول أولى يؤيده قوله تعالى «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فلم يأتمر بأمرهما ولم ينته بنهيهما أي لم يطعهما ولم يصدق بما جاءه عنهما «فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ» خاصة وقد أفرد الضمير هنا رعاية للفظ من «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» 23 لا يخرجون منها وجمع الضمير هنا رعاية لمعناها إذ تطلق على الجمع معنى كما تطلق على المفرد لفظا، وهكذا في كل موضع من هذا القبيل، ويفهم من هذه الآية أن من يطع الله ورسوله، فإن له الجنة خالدين فيها أبدا «حَتَّى إِذا رَأَوْا» هؤلاء الكفرة «ما يُوعَدُونَ» به من العذاب على لسان رسلنا «فَسَيَعْلَمُونَ» عند حلوله بهم «مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» 24 هم أم المؤمنون، لأن المؤمنين ينصرهم الله، والكافرين لا ناصرهم «قُلْ» ما «إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ» به من العذاب «أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً» 25 أجلا بعيدا لوقت معلوم عنده ونظير هذه الآية الفقرة الأخيرة من الآية 109 من سورة الأنبياء في ج 2، أي إنكم معذبون لا محالة، ولكن لا يعلم وقت نزول العذاب بكم إلا هو «عالِمُ

الْغَيْبِ» وحده بالرفع وقرى بالنصب على المدح والاختصاص «فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» 26 من خلقه «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» فإنه يطلعه على بعض غيبه معجزة له وبرهانا على صدقه، والتنوين فيه للتعظيم «فَإِنَّهُ» جل شأنه «يَسْلُكُ» يدخل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي ذلك الرسول المرتضى «رَصَداً» 27 حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين حينما يريد اطلاعه على غيبه، ويحفظون ذلك الغيب من أن يتخطّفه الجن والمردة فيصونه من أن يخلطوا به ما ليس منه، كما يفعلونه مع الكهنة عند استراقهم السمع، فإنهم إذا تلقفوا الكلمة خلطوا معها تسعة أمثالها كذبا فيخبرونهم بها من حيث لا يعلم الصدق من الكذب «لِيَعْلَمَ» ذلك الرسول المراد به هنا وهو محمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم، لأنه هو المخاطب في هذه السورة والمعهود فيها، وقرىء بكسر اللام وضم الياء، أي ليعلم غيره بذلك الغيب وقرىء بالمجهول، أي ليكون ذلك الغيب معلوما «أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا» أي الملائكة المخصصون بتبليغ الوحي رسل الله في أرضه والمراد بعضهم وهو جبريل عليه السلام لأنه المخصوص بذلك، أي أخبروا رسل الله «رِسالاتِ رَبِّهِمْ» كما تلقوها حرفيا مصونة من اختطاف الجن والشياطين وعارية عن خلطهم بها ما ليس منها. ويجوز عود الضمير إلى الله وعليه يكون المعنى ليعلم الله جل شأنه أن الرسل قد أبلغوا رسالاته خلقه مثلما أخذوها منه، وهو عالم بذلك قبل ذلك، وعلى عوده إلى محمد بمعنى آخر، وهو ليعلم محمد أن الرسل قبله أبلغوا رسالات ربهم كاملة كما هي، وأن الله حفظهم ودفع عنهم شر أعدائهم وأهلكهم نصرة لهم وخذلانا لأمثالهم الخارجين على الأنبياء صلوات الله عليهم، وخير الأقوال الثلاثة آخرها، وهناك قولان آخران أحدهما أشدّ ضعفا من الآخر وهو عود الضمير إلى من كذب وأشرك، أي ليعلم هؤلاء أن الرسل أبلغوا، والثاني عوده لإبليس، أي ليعلم أن الرسل قد أبلغوا إلخ، وهما ليس شيء والله أعلم «وَأَحاطَ» الله جل جلاله «بِما لَدَيْهِمْ» أي الرسل وعلمه محيط بهم وبجميع خلقه وأحوالهم من جميع جهاتهم قبل خلقهم وإرسالهم، ولم يزل عليما بهم فلا يخفى عليه شيء من

مطلب في كرامات الأولياء وعمر رضي الله عنه:

أطوارهم، يعلم وجود الشيء كما كان يعلمه قبل وجوده، وأعاد بعض المفسرين ضمير لديهم إلى الرصد وليس بشيء «وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» 28 من جميع ما خلقه وعلم كيفيته وكميته أيضا من حيوان وجماد وقطر وورق شجر وزبد بحر وذر وغيره، والله تعالى يعلم ما وراء ذلك مما لا يعلم البشر، ولم يسمع به، ولم يخطر بباله. مطلب في كرامات الأولياء وعمر رضي الله عنه: قال بعض المفسرين: إن هذه الآية مبطلة لكرامة الأولياء لأنهم مهما علت رتبتهم وسمت معارفهم فلن يبلغوا درجة الرسل، وإن الله خص بغيبه بعض المرسلين المرضيين عنده بالاطلاع على بعض غيبه، ومبطل للكهانة والتنجيم والتنويم وغيرها من باب أولى، لأن أصحابها أبعد شيء عن الارتضاء وأقرب شيء للسخط، حتى قال الواحدي إن في هذه الآية دليلا على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غيرهما فقد كفر بالقرآن. هذا ما قاله هذان وغيرهم تبعا هم كثيرون، أما الذي أجمعت عليه أهل السنة والجماعة فهو إثبات وقوع الكرامة للأولياء ودليل لوجودها ويجب هذا عقيدة أيضا، قال صاحب مبدأ الأمالي: كرامات الولي بدار دنيا ... لها كون فهم أهل النوال وهو من الماتريديّة. وقال صاحب الجوهرة في الأشعرية مثله، وجميع المسلمين تابعون لهما في العقيدة، إذ قالوا إن ما جاز وقوعه معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة للولي، إذ لا مانع من أن يلهمهم الله وقوع بعض الحوادث المستقبلة فيخبرون بها من إطلاع الله إياهم لا من أنفسهم، يدل على هذا ما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: لقد كان فيمن مضى قبلكم من الأمم أناس محدثون (ملهمون) من غير أن يكونوا أنبياء، وإن يكن من أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب- أخرجه البخاري- وإنما خصه صلى الله عليه وسلم لنطقه بأشياء نزل بها القرآن وهي معلومة، وسنأتي عليها في محلها إن شاء الله في سورة النور ج 3 وغيرها، وروى مسلم عن عائشة مثل هذا الحديث، ومن كراماته رضي الله عنه إسماع صوته زمن خلافته من المدينة إلى القادسية حينما قال (يا سارية الجبل) وهي مشهورة أيضا، وكتابته

تفسير سورة يس عدد 41 - 36

الكتاب إلى النيل وهو من أكبر الكرامات وغيرها كثير، وقصة الخضر مع سيدنا موسى عليهما السلام، وقصة أصحاب الكهف الآتية في الآيات 10 و 9 و 72 وما بعدها من سورة الكهف في ج 2، وقصة مريم الآتية في الآية 22 فما بعدها من سورتها، وقصة بلقيس في الآية 80 من سورة النمل الآتية، وهذا القدر كاف على ثبوتها للأولياء عدا إشارات القرآن الأخرى ورموز حضرة الرسول. والفرق بين النبي والولي من هذه الحيثية هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرونة بالتحدي، وأن الكرامة أمر خارق للعادة مع المعارضة وعدم التحدّي، لأن الولي إذا ادعى خرق العادة مع التحدي كفر، وقد يظهر على يده أمر خارق للعادة من غير دعواه، وفيها دليل على ثبوت نبوة النبي أيضا التابع له ذلك الولي الذي ظهر على يده أمر خارق، فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر على يد من تابعه أمر خارق للعادة، فخرج بهذا الكاهن والمنجم والمنوم، لأن الأول ليس تابعا لرسول لانسداد باب الكهانة بمبعثه صلى الله عليه وسلم، والمنجم يتبع بإخباره ما يظهر له من حركات النجوم وسيرها وطلوعها وغروبها، والمنوم يتبع بإخباره ما يظهر له من قراءة الأفكار حينا والشعوذة حينا، وإنما خص الولي لتوغله بعبادة ربه وإخلاصه له وقطع نفسه إليه، وهؤلاء ليسوا كذلك فحكمهم حكم الكاهن، فمن ادعى منهم علم الغيب فهو كاذب كافر، وقد سبق لنا بحث واف في هذا الباب في سورة والنجم فراجعه تقنع، وله صلة في تفسير الآيات المشار إليها آنفا وفي الآية 37 من سورة آل عمران في ج 3. هذا، ولا يوجد سورة بالقرآن. مختومة بما ختمت به هذه السورة، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين. تفسير سورة يس عدد 41- 36 نزلت بمكة بعد سورة الجن عدا الآية 45 فإنها نزلت بالمدينة، وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وعشر كلمات، وثلاثة آلاف حرف، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.

[سورة يس (36) : الآيات 1 إلى 10]

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم بلفظ: «يس» 1 وجاء في الخبر أن الله سماني أحمدا ومحمدا وطه ويس. وقال ابن عباس معناه بلغة الحبشة وفي رواية عنه بلغة طي (يا إنسان) وقال غيره الياء للنداء والسين قائمة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه، ونظيره ما جاء في الحديث: كفى بالسيف شا ... أي شاهدا. وقال آخر هو اسم من أسمائه عليه السلام، مستدلا بقول السيد الحميري: يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة ... على المودة إلا آل ياسين وقيل هو مقطع حروف سميع منان قدير وشبهها من أسماء الله تعالى، وقد قال العلماء إن لله عزّ شأنه أن يطلق على ذاته المقدسة وعظماء خلقه ما أراد من الأسماء. وتحمل حينئذ على التعظيم سواء كانت حروفا أو حرفا، مصغرة أو مكبرة، قال ابن الفارض رحمة الله: ما قلت حبيبي من التحقير ... بل يعذب اسم الشيء بالتصغير والكلام فيه من حيث الإعراب والبناء كالكلام في أوائل السور المتقدمة والحروف المتقطعة، وجاء في تتمة الخبر السابق والمزمل والمدثر وعبد الله، وقد ذكرت في القرآن هذه الأسماء كلها كما في هذه السور والسور المتقدمة وسورة الصف، الآية 7 في ج 3، وطه ومريم الآتيتين، وعبد الله في سورة الجن المارّة، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» 2 في معانيه ومبانيه، العظيم في مقاصده ومراميه وهو مبالغة حاكم، وجواب القسم قوله عز قوله «إِنَّكَ» يا سيد الرسل المخاطب هنا بلفظ يس الذي هو من جملة أسمائك الكريمة التي سمينك بها في هذا القرآن «لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» 3 إلى الخلق كافة حقا، يدل عليه التأكيد بكاف الخطاب وإن واللام، وذلك لأن هذه الآية نزلت ردا على الكفرة القائلين لست مرسلا، وكفى بالله شهيدا على رسالته العامة السائدة «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 4 عدل سوي لا اعوجاج فيه ولا ميل، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه عليك «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ» الغالب على خلقه القوي في ملكه «الرَّحِيمِ» 5 بعباده الرؤوف بهم

وإنما أرسلناك يا محمد «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» الأقدمون من قبل رسولهم إسماعيل عليه السلام، وهذا على جعل ما موصولة مفعولا ثانيا لتنذر، وعليه يكون المطلوب الأمر بتبليغهم شريعة إبراهيم عليه السلام التي أنذر بها أسلافهم، أو العذاب الذي خوف به آباءهم الأولين، وإذا جعلت ما نافية يكون المعنى أنذرهم بما أمرت به، لأن آباءهم الأدنين بعد إسماعيل وجيله لم يأتهم نذير قبلك، وهذا أبلغ وأوفق لقوله تعالى «فَهُمْ غافِلُونَ» 6 عن طريق الهدى ومسالك الرشد الذي جئتهم به، إذ لم ينذرهم ويخوفهم عذاب الله الذي أنذر به آباؤهم الأقدمون أحد بعد إسماعيل عليه السلام، ولم يرسل إليهم نبي بعده، ولم يترك لهم كتابا يتبعونه لذلك أرسلناك يا محمد إليهم لتنذرهم وتخوفهم عاقبة أمرهم إذا لم يؤمنوا بك، وزد في عظتهم وذكرهم بأحوال من قبلهم المكذبين، علّهم يعتبرون بما وقع عليهم، فهذا كله على جعل ما نافيه وهو الأنسب بالمقام والأليق للتأويل، إذ على المعنى الأول وهو جعل ما موصوله لا يستقيم هذا، وذلك لأن شريعة إبراهيم عليه السلام التي جاءهم بها إسماعيل لم يبق لها أثر عندهم ولا يعرفون شيئا عنها البتة لعدم تركه كتابا بها بدليل قوله تعالى (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) الآية 44 من سبأ في ج 2 لهذا، فأن الأمر تبليغهم شريعة إبراهيم لا معنى له ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 3 من سورة السجدة في ج 2 والآية 23 من سورة فاطر الآتية. ثم أقسم ثانيا فقال وعزتي وجلالي «لَقَدْ حَقَّ» وجب وثبت ووقع «الْقَوْلُ» في سابق أزلي وقديم علمي. والمراد بهذا القول العظيم قوله عز قوله لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الآية 19 من سورة هود ونظيرها الآية 11 من سورة السجدة في ج 2 والآية 17 من سورة الأعراف المارة، وهذا القول قضى به «عَلى أَكْثَرِهِمْ» أما الأقل فهم في رحمة والأقل هو الأحسن من كل شيء قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية 13 من سورة سباء وقوله تعالى (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) الآية 41 من سورة هود في ج 2 وقوله (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) الآية 25 من سورة ص المارة

وهكذا القليلون هم الخيرون قولا وعملا من كل ملة والأكثرون هم المسيئون الداخلون في ذلك القول «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» 7 بك بل يموتون على كفرهم إذ بت في أمرهم قبل وجودهم، والمراد بهم صناديد قريش المعارضون لحضرة الرسول وقد قتل أكثرهم في غزوة بدر، على الكفر تصديقا لقوله تعالى وليس المراد عموم قريش لأن أكثرهم آمنوا به صلى الله عليه وسلم، وسبب عدم إيمان أولئك «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا» لئلا يلتفتوا الى الحق ولا يعطفوا أعناقهم نحوه ولا يميلوا اليه «فَهِيَ» ملزقة برقابهم واصلة «إِلَى الْأَذْقانِ» متصلة برؤوسهم «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» 8 رافعون رؤوسهم بسببها لا يقدرون على إرخائها إلى الأسفل لينظروا أمامهم، وذلك لأن الغل عبارة عن طوق حديد يجمع به اليدان إلى العنق ويكون في ملنقى طرفيه حلقة فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن وهو محدّد فلا يتركه يطاطىء رأسه خوفا من نخسه، فيضطر لإبقاء رأسه مرفوعا بالطبع، فصار كأنه متصل برأسه. قال السيد علاء الدين علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي في تفسيره لباب التأويل في معاني التنزيل نزلت هذه الآية في أبي جهل وأصحابه المخزوميين، لانه حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخنّ رأسه، فأتاه في المسجد ليدمغه بحجر في يده، فلما رفعه انثنت يده الى عنقه ولزق الحجر بيده، فأخبر أصحابه بما رأى، فقال له رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه ليرميه به، فأعمى الله بصره عنه، فرجع إلى أصحابه وقال ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل (يطلق على الذكر من كل حيوان وخصه بعضهم بالذكر القوي في الدواب ويراد به هنا والله أعلم ذكر الأفعى بدليل قوله) يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله فيهم هذه الآية وهذا إنما يصح إذا كان صلى الله عليه وسلم يتعبد بصلاة يتعاطاها كما سبق في الآية 18 من سورة الجن المارة، فراجعها ففيها ما فيها. ولا يخفى أن الآية هنا عامة وأن شمولها لهذه الحادثة على فرض صحتها لا يخصصها فيها بل يدخل فيها أبو جهل وغيره من كل من لم يؤمن به قال تعالى «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا»

أي قدامهم «وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا» من ورائهم «فَأَغْشَيْناهُمْ» بالسدين المذكورين وغطيناهم بهما غطاء محكما، وقرىء فأعشيناهم بالعين من العشاء وهو ضعف البصر، والأول أبلغ وقرىء سدا بضم السين وفتحها، وقيل ما كان من فعل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله فهو بالضم، وقيل بالعكس «فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» 9 سبل الهدى لانهم يتعامون عن النظر في آيات الله فلا يستطيعون الخروج من الكفر الى الإيمان. واعلم أن المانع من النظر بآيات الله قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه بالغلّ الذي يجعل صاحبه مقحما لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه كما مر آنفا، والمراد من جمع الأيدي الى الأذقان المشار إليه أعلاه عبارة عن منع التوفيق إلى الهدى، ولهذا استكبروا عن الحق، لأن المتكبر يوصف برفع العنق، والمتواضع بضده قال تعالى: (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) الآية 5 من سورة الشعراء الآتية، وقسم يمنع النظر في الآفاق فشبّه بالسد المحيط بالشيء فإن الشيء انحاط به لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات، فمن ابتلي بهذين القسمين حرم من النظر بالكلية، وان الله تعالى شبه تصميم هؤلاء الكفرة على الكفر بالأغلال، وشبه استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه بالأقماح لأن القمح لا يقدر أن يطأطىء رأسه، وقوله تعالى إلى الأذقان تتمة للزوم الإقماح لهم، وشبه عدم نظرهم في أحوال الأمم السابقة بسد منيع من خلفهم، وشبه عدم نظرهم بالعواقب المستقبلة بسد عظيم من أمامهم ولذلك نفى الله عنهم الإبصار لأن من كان هذا حاله بعيد عن إبصار الحق لعماء بصيرته عن التفكر فيه، وان هذا وصف لما سينزله عليهم من العذاب الأخروي حين يلقون في النار، أجارنا الله منها. قال تعالى «وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ» أولئك الكفرة الموصوفين آنفا «أَأَنْذَرْتَهُمْ» يا محمد وخوفتهم عاقبة أمرهم إن لم يؤمنوا بك «أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» بما أمرت به فهم «لا يُؤْمِنُونَ» 10 بك ولا ينتفعون بوعظك وزجرك، إذ يستوي عندهم الحالان فوجود إنذارك وعدمه سواء لديهم، فلا تزعج نفسك بالإلحاح عليهم، لأنهم ضالّون أزلا، ومن يضلل الله فلا هادي له

[سورة يس (36) : الآيات 11 إلى 20]

وإنك يا سيد الرسل «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ» المنزل عليك وهو القرآن العظيم ليعمل بما فيه وينتفع باتباعه رغبة بك وبدينك وربك، وعبر بلفظ الماضي لتحقق وقوع اتباعهم له، لأنهم من الناجين فى علم الله الأزلي، ومن يهد الله فهو المهتد لا يقدر أحد على إضلاله، وهذا بمقابلته (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) لأن أولئك من غضب الله عليهم، وهؤلاء من رحمته بهم ورضاه عنهم «وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» خافه سرا وجهرا إذ لم يره وداوم على عبادته ولم يغتر برحمته لأنه مع عظيم رأفته أليم عذابه، قال تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) الآية 51 من سورة الحجر في ج 2 فهذا الذي يهابني ولم يرني «فَبَشِّرْهُ» يا محمد «بِمَغْفِرَةٍ» واسعة لذنوبه مهما عظمت «وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» 11 زيادة على المغفرة والأجر وأوله الجنة ونعيمها، وآخره رؤية المولى وهو الجواد على عباده بها، كيف لا وهو الكريم الذي يعطي لا لغرض أو عوض؟ وقل يا أكرم الرسل لمنكري الحياة الأخرى «إِنَّا» نحن إله السموات والأرض اللتين خلقهما أكبر من خلق الناس قادرون على أن «نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى» مرة ثانية للحشر والحساب كما أحييناهم من النطفة، وكما نحيي الأرض الميتة بالماء والقلوب الغافلة بالذكر، لأن القلوب الميتة بأدران الشرك لا تحيا إلا بطهارة الإيمان. مطلب فيما بكتب من آثار الخلق: «وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا» في دنياهم من خير وشر «وَ» نحصي «آثارَهُمْ» التي أبقوها بعدهم لنخلّدها لهم ليبقى ذكرهم إن كان حسنا كوصية لا جور فيها، ووقف لوجوه البرّ، وعلم ينتفع به، وتعليم الخير للغير، وكتاب صنفوه في أمر الدين، وبناء رباط، أو جامع، أو مستشفى، أو مدرسة، فيكون ذكرهم حسنا. وإن كان سيئا كمال تركوه حراما، وحكم حكموه جورا، ومظالم ارتكبوها يكون ذكرهم سيئا. روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام

سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وعلى هذا يستحق على الأولى المدح والثناء والترحم، وعلى الثانية الذم والتحقير والشتم، وما قيل إن هذه الآية نزلت في بني سلمة استدلالا بما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى (تخلى) المدينة فتترك عراء فضاء لا يسترها شيء فقال يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟ فأقاموا. ولما روى مسلم عن جابر قال خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة ان ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم بلغني انكم تريدون ان تنتقلوا قرب المسجد؟ فقالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال بني سلمة (أي يا بني سلمة) الزموا دياركم تكتب آثاركم: فقالوا ما يسرّنا إذا تحولنا (أي لعدم رضاء حضرة الرسول) ورويا عن أبى موسى الأشعري قال قال صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام. لا يصح لأن هذه الآية مكيّة بالاتفاق اما ما نقله بعض المفسرين من أنها مدنية فغير صحيح، لأنه لم يذكر المنقول عنه، وإنما قال بمدنيتها ليجعلها سبب النزول، وعلى الناقل صحة النقل حتى يكون حجة وإذا لم يكن حجة فلا احتجاج، وان ما جاء في هذه الأحاديث عبارة عن حكاية حال وقعت في المدينة، والآية عامة ولا يوجد ما يخصصّها فيدخل في معناها بنو سلمة وغيرهم من كل من يترك آثارا حسنة أو سيئة كما ذكرنا (وكلّ شيء) من أعمال الخلق خيرها وشرها هزلها وصحيحها «أَحْصَيْناهُ» عليهم وعددناه وبيناه للملائكة بعد أن حققناه وأثبتناه لدينا «فِي إِمامٍ» لوح من اللوح المحفوظ الذي هو أصل الكتب كلها فلا شيء مما كان ويكون الا وهو مدون فيه فهو المقتدى وفيه المنتهى والمبتدأ «مُبِينٍ» 12 واضح ظاهر فيه كل شيء إلى يوم القيمة وكيفية هذا اللوح العظيم الذي لم يأت ذكره إلا في سورة البروج المارة أما الألواح المذكورة في سورة الأعراف ثلاث مرات في الآيات 143 و 149 و 153 المارات فهي ألواح التوراة

مطلب قصة رسل عيسى عليه السلام:

وهي أيضا من جملة ما هو مدوّن في هذا اللوح الجليل لم يرد فيها ما يفيد القطع عن ماهيته وكميته وكيفيّته غير وصفه بهذا الاسم، لذلك ينبغي الإمساك عنه وان نكل علمه الى الله كالآيات المتشابهات، وغاية ما قيل فيه عند المسلمين انه جسم، ولا يخفى أن كل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة، وان ما كان وسيكون الى يوم القيامة متناه كما تشهد به الآثار، والمطلق منها محمول على المقيد هذا وقد فسر بعض العلماء الامام بعلم الله الأزلي كما فسر أمّ الكتاب في قوله تعالى «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» الآية 39 من سورة الرعد قوله «هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» الآية 7 من سورة آل عمران ج 3 والآية الرابعة من سورة الزخرف في ج 2 فيكون بمعنى كل شىء على العموم بحيث يشمل ما في الدنيا وما في الآخرة وأحوال الجنة وما يتجدد فيها لأهلها دون انقطاع ولا تناه وكذلك النار قال صاحب أبدال الامالي: ولا يفنى الجحيم ولا الجنان ... ولا أهلوهما أهل انتقال وكذلك أحوال النار وأهلها وجميع ما يقع في الدنيا من التجدد على نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع على طراز أعلى وأشرف، ولهذا قال غير واحد إن القرآن الكريم يشتمل على كل شيء في الدنيا حتى على أسماء الملوك ومدد ملكهم وأسباب انقراضهم، ويشتمل على ما في الآخرة أيضا. مطلب قصة رسل عيسى عليه السلام: قال تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا» أي صف لهم يا محمد «أَصْحابَ الْقَرْيَةِ» جزم أكثر المفسرين بأنها انطاكية أي كيف كان أهلها «إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» 13 من قبل عيسى عليه السلام ليدعوهم إلى ترك الأوثان وعبادة الرحمن والإخلاص في توحيد الملك الديان، فاذكر لقومك يا سيد الرسل قصتهم «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ» ردأ لعيسى وعضدا لانهاض دعوته وتقوية لبعثها في النفوس رجلين «اثْنَيْنِ» من حوارييّه. هذا إذا كان المرسل هو الله عز وجل، أو أن عيسى عليه السلام أرسلهما بأمر الله تعالى كأنه كان هو المرسل، لانّ

أمر المأمور بما أمره به آمره أمر لآمره، وهو اولى من القول بأن عيسى نفسه أرسلهما من تلقاء نفسه، لأن الرسول لا يعمل شيئا إلا بوحي من مرسله. وهذان الرسولان على ما قيل هما حنا وبولس عليهما السلام، فلما قربا من القرية رأيا حبيبا النجار يرعى أغنامه، فسلما عليه فقال: من أنتما؟ قالا رسولا عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه، فقال: ما جاء بكما إلى هنا من القدس؟ قالا: أتينا لندعوكم لعبادة الله وحده، ونحذركم من عبادة الأوثان، فقال: ما آيتكما على ذلك؟ قالا: آيتنا إبراء الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله، وان الذي أرسلنا يفعل هذا ويحيي الموتى بإذن الله. فأخذهما إلى منزله وعرض عليهما بنته المريضة المزمنة، فلمساها بيدهما فقامت بإذن الله صحيحة سليمة، ثم أتى لهما بمرضى آخرين فلمساهم فشفاهم الله على يديهما، فحلت به العناية وأسلم، وشاع خبرهما في المدينة بأنهما يشفيان المرضى دون عقاقير، فاستدعاهما ملك المدينة إذ ذاك واسمه انطيخش وقال لهما أولنا دون آلهتنا آلهة؟ قالا نعم. قال من هو؟ قالا الذي أوجدك وآلهتك. فأخذهما وحبسهما وضربهما. وهذا مغزى قوله تعالى «فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» قويناهما بإرسال رسول ثالث وهو على ما قيل شمعون عليه السلام، وذلك أن عيسى عليه السلام لما استبطأهما ولم يأت خبر منهما ولا عنهما أرسل بأمر الله رسولا آخر ليسير خبرهما ويبصر ما جرى لهما، فتوجه إلى انطاكية ودخلها متنكرا، وبعد أن استقر صار يختلط مع عامة أهلها ليقف على حالهم ويتعرف على رفيقيه، ولم يزل حتى عرفهما بالسجن من أجل دعوتهما وجود إله هو إله الملك والخلق أجمع، فاتصل بحاشية الملك وصار يعاشر كلا منهم بما يليق به ويكلم كلا بحسب مقامه بما آتاه الله من حنكة وحكمة ولين جانب وخلق واسع، حتى استمال الجميع من الخادم إلى الوزير ثم صار يعرض لهم أنه يود مقابلة الملك وأنه يحبه، وقد أنسوا به ولم يريدوا فراقه، فرفعوا أمره للملك وأخبروه بما هو عليه من لياقة ولباقة، فاشتاق إليه واستحضره، فلما كلّمه أنس به وأكرمه ورضي عشرته وأثنى على حاشيته الذين قدموه له نظرا لما كان يعاملهم به من التقية توصلا

لإنقاذ صاحبيه، وصار يجالس الملك ويقص عليه ما يؤنسه، حتى جاء على ذكر الرسولين في جملة حديثه معه وسأله عنهما وسبب حبسهما، فقال له الملك إنهما تجارأا وذكرا أن لهما إلها غير آلهتنا حتى انهما دعوني لعبادته، فأنفت منهما وأمرت بحبسهما. قال له حينما دعواك إلى غير دينك هل سألتهما وسمعت منهما عن آلهتهما شيئا؟ قال لا إذ حال الغضب بيني وبين ذلك حتى اني أمرت بضربهما. قال إن رأى حضرة الملك إحضارهما ليطلع على ما عندهما من هذه الدعوة العظيمة، فدعاهما بالحال وفوضه بخطابهما، فقال لهما من أرسلكما إلى هنا؟ قالا الله الذي خلق كل شيء لا شريك له. قال لهما صفاه لنا وأوجزا، قالا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال شيء عظيم هذا، ما آيتكما عليه؟ قالا ما يتمناه الملك، فتذاكر مع الملك صرا وقال لهما عندنا غلام مطموس العينين فهل تقدران أن تجعلاه بصيرا؟ قالا نعم، فأمر الملك بإحضاره فدعوا له، فانشق له موضع العينين فعملا بندقتين من طين ووضعاهما في موضع العينين، ودعوا الله فصارتا مقلتين يبصر بهما ذلك المطموس، فتعجبا من ذلك، ثم همس شمعون في أذن الملك، وقال لو سألت آلهتك تصنع مثل هذا لكان لك بها الشرف، فقال الملك ليس عليك سر مكتوم إن آلهتنا نفسها لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، فكيف لمثل هذا تصنع؟ فلم يرد أن يطعن بآلهته ليستدرجه على الإيمان ولئلا يتهمه مبدئيا بأنه ليس على دينه، وأراد أن يظهر شيئا يقسره على الإيمان عفوا، فقال له لنمتحنهما بأكثر من هذا، قال الملك هيا، فقال لهما شمعون إن أحيا إلهكما ميتا آمنا به وتركنا كما، قالا هات، فقال له الملك إن ابن الدهقان مات منذ سبعة أيام، فقال شمعون مر بإحضاره، فأمر فأحضروه له، فصارا يدعوان علانية ويطلبان من الله إحياءه، وصار شمعون يدعو ربه سرا ويؤمن على دعائهما، فأحياه الله، فقال لهما شمعون كلّماه، فإذا كان حيا حقا فليذكر لنا شيئا عن موته، فسألاه فقال: أيها الملك إني مت منذ سبعة أيام على الشرك الذي تدين به أنت، وأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذركم ما أنتم عليه، وآمنوا أيها الناس كلكم يا لله رب هؤلاء، فإني رأيت السماء

فتحت ونظرت فيها شابا حسن الوجه يشفع إلى هؤلاء الثلاثة، وأشار إلى شمعون وصاحبيه. فعجب الملك من ذلك وآمن بهم وآمن معه خلق كثيرون من قومه، وأصر الآخرون على كفرهم. هذا ما نقله الأخباريون بقصص الأنبياء عن هؤلاء الرسل الثلاثة أخذا من قوله تعالى (فَكَذَّبُوهُما) أما ما قصه الله تعالى على نبيه فيهم فهو ما بينه بقوله جل قوله «فَقالُوا» الثلاثة إلى أهل أنطاكية «إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» 14 من قبل الله أو من قبل رسوله على الوجهين المارّين، فأجابوهم بقولهم «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» لا مزية لكم علينا توجب اتباعنا لكم واختصاصكم بما تدعونه «وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ» الذي تدعونه إلها لكم ولسائر الخلق «مِنْ شَيْءٍ» من الوحي ولم يرسل رسولا كما تزعمون، وكان هذا بمقابلة قولهم لهم أتينا ندعوكم لعبادة الرحمن، ثم قالوا «إِنْ» ما «أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» 15 بدعواكم هذه «قالُوا» لهم أيضا «رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» 16 استشهدوا بربهم إذ لا شاهد لهم من أهل القرية على ذلك، لأنهم لم يتعرفوا على أحد من أهلها أول مجيئهم وأكدوا قولهم بأن الدالة على التوكيد واللام المؤكدة لها، لأنه جواب عن إنكار يحتاج لزيادة التأكيد بخلاف قولهم الأول في الآية 14 المارة لأنه إخبار ابتداء، ثم قالوا لهم إنا لم نأت لقسركم على ما نريده بكم من الخير لأنا لم نؤمر بذلك «وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 17 الظاهر المكشوف الذي لا غبار عليه الموثق والموضح بالآيات الدالة على صدقنا «قالُوا» أهل القرية لهم «إِنَّا تَطَيَّرْنا» تشاءمنا «بِكُمْ» لأنكم تدعون إلى إله واحد وترفضون الأوثان وإنا لا نعلم بوجود آلهة غير آلهتنا وقد هالنا ما سمعناه منكم وو الله «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا» عن مقالتكم هذه وتتركونا وما نحن عليه «لَنَرْجُمَنَّكُمْ» بالأحجار «وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» 18 خبر ما وحرفا تتمنون معهما الموت «قالُوا» لا تتشاءموا بنا إذ ما بنا شؤم لأنا رسل الله وإنما «طائِرُكُمْ» الذي تتشاءمون منه هو «مَعَكُمْ» لأنه ناشىء عن كفركم وتكذيبكم لما جئناكم به دون أن تسألونا عن آية صدقنا «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ» فيما به سعادتكم في الدنيا ونجاتكم في الآخرة أطيرتم وصرتم

[سورة يس (36) : الآيات 21 إلى 30]

تهددوننا بسببه لا، لا تفعلوا شيئا «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» 19 في الضلال متجاوزون الحد في الشرك والعصيان، مفرطون فيما يعود لنفعكم، لأنا لم نعمل معكم شيئا يوجب رجمنا «وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى» يهرول اسمه حبيب النجار المار ذكره في القصة، الذي رأى آيات الرسولين وأنس بهما قبل حضور الرسول الثالث، وكان في غار يتعبد فيه عند فراغه من عمله، قالوا وكان يتصدق بنصف ما يربح، وقد مر في القصة أنه كان راعيا، إذ علم أن قومه كذبوا الرسل وقصدوا قتلهم، وهذا على القول بأنهم لم يؤمنوا، أوهم الذين لم يؤمنوا مع الملك لأن نسق الخطاب لا ينطبق على نسق القرآن، لأن الحكاية ذكر فيها أن التكذيب والضرب والحبس وقع على الرسولين الأولين فقط وأنهم آمنوا بعد حضور الثالث، والقرآن يسكت عما وقع مع الأولين ويتكلم عن الثلاثة معا «قالَ» الراعي حبيب «يا قَوْمِ» اتركوا الرسل لا تعتدوا عليهم فيصيبكم منهم معرة، وإذا أردتم الخير لأنفسكم «اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ» 20 إلى ما يدعوكم إليه بغية نجاتكم من عذاب الله وكأنه التفت إلى الرسل وقال لهم أتطلبون أجرا على ما تدعون الناس إليه قالوا لا نحن أبعد الناس عن طلبه فالتفت إلى قومه وقال «اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً» على إرشادكم لطريق الهدى والسداد «وَهُمْ مُهْتَدُونَ» 21 من قبل الله الذي أرسلهم فاقبلوا هدايتهم مجانا إلى خير الدنيا والآخرة واتبعوهم على ما هم عليه تربحوا رضاء الله خالقكم من غير أن تخسروا شيئا من دنياكم فقالوا له إذا أنت على دينهم مؤمن بربهم الذي فطرهم على هذا الدين الذي جاؤا يدعوننا إليه، ولذلك تحبذ دعوتهم فقال لهم «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي» خلقني وهو رحمه الله يعبد الذي فطره وإنما أرادهم بذلك، أي وما لكم لا تعبدون الذي فطركم مثلي لأني أعبده حقا أي أيّ شيء خذلكم وصرفكم عن عبادته «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 22 حتما في الآخرة، لأن مصير الكل إليه خاطب نفسه رحمه الله في هذه الجملة وهو يريدهم فيها لأنه أبلغ في الزجر، وأمعن في الوعظ، وأحرى للقبول، وأبعد عن اللجاجة، ثم قال لهم «أَأَتَّخِذُ مِنْ

دُونِهِ» أي الإله الواحد الذي آمنت به «آلِهَةً» أصناما مثلكم لا تضر ولا تنفع، كلا لا أفعل، وإنما أتخذ الله الإله الواحد الفعال لما يريد الذي لا رب غيره إلها لي وهو إله الخلق أجمع، واعلموا يا قومي إني «إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ» إله هؤلاء الرسل وإلهي وإله العالمين وخالق الكون وما فيه «بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ» أي شفاعة الأوثان التي اتخذتموها آلهة وترجون شفاعتها فلا تنفعني إذا حل بي الضر من الإله الواحد القادر «شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ» 23 من مكاره الدنيا ولا من عذاب الآخرة لأنها أحجار وأخشاب لا تعصم نفسها من التعدي عليها فكيف تنفع غيرها؟ وإذا كان كذلك فكيف أتخذها آلهة «إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 24 لا يقبل التأويل لشدة وضوحه ولا يخفى على أحد، ثم أقبل على الرسل وخاطبهم علنا بقوله «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» 25 واشهدوا على إيماني فلا أبالي بما يصيبني منهم. أخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه قال لما قال صاحب يس (حبيب النجار المذكور إذ شهر بذلك) : يا قوم اتبعوا المرسلين، خنقوه ليموت، فالتفت إلى الأنبياء فقال: آمنت بربكم فاسمعون، فأسرع إليه قومه فقتلوه رجما بالحجارة. قال السدي رموه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي، حتى مات. وجاء في الحديث انه نصح قومه حيا وميتا، رحمه الله فلما مات شهيدا ولقي ربه «قِيلَ» له من قبل ملائكة الرحمة «ادْخُلِ الْجَنَّةَ» فأدخلت روحه فيها رحمه الله ودفن جثمانه في سوق انطاكية بالمحل الذي قتل فيه، وقبره معروف حتى الآن يزوره الغادي والبادي، ولما أحست روحه الطاهرة بنعيم الجنة ورأت ما فيها من السرور والروح تتصل بجسدها أحيانا «قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ» 26 ما صرت إليه من النعيم «بِما غَفَرَ لِي رَبِّي» ما اقترفته من الذنوب وستر لي ما جنيته من العيوب وما أكرمني به في الجنة الدائمة، فلو علموا ذلك لآمنوا بالرسل، والله يعلم أنهم لم يؤمنوا، إذ لم تكتب لهم السعادة. وما هنا، مصدرية، أي بالغفران الذي غفره لي وعظمته وما ينتج عنه من خير وأجاز بعض القراء كونها استفهامية، أي بأي شيء غفر لي وهو هجره دينهم والصبر على أذاهم.

وقال الكسائي لو كان ذاك أي جعل ما استفهامية، لقال بم بدون الألف مثل عمّ يتساءلون، وبمثل قوله: علام أقول الرمح أثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت على الاستفهام لأن اللغة الفصحى حذف الألف إذا جرت بحرف الجر فرقا بينها وبين ما الموصولة، ولا تثبت الألف مع حرف الجر إلا ضرورة لقوله: على ما يشتمني لئيم ... كخنزير تمرّغ في رماد وقول الآخر: إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء فقيما يكثر القتل فأثبتت ما للضرورة في البيتين، ولا ضرورة هنا لأنه ليس بشعر فتبين أنها هنا مصدرية والله أعلم «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» 27 فيها وذلك لما رأت روحه من إكرام الملائكة لها وإكرامهم إياها تمنى رحمه الله المغفرة والكرامة لقومه رحمة بهم وشفقة عليهم ليرغبهم في الإيمان ويحملهم على طاعة الرسل، فلما قتلوه ولم يسمعوا نصحه ولم يلتفتوا إلى رأفته بهم غضب الله عليهم، فعجل عقوبتهم المبينة في قوله جل جلاله «وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ» لأن أمر إهلاكهم أيسر لدينا من ذلك «وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» 28 جندا من الملائكة لإهلاكهم لأنهم أخس من ذلك «إِنْ كانَتْ» عقوبتهم في الإهلاك ما هي «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من بعض أملاكنا فأمر جبريل فصاح بهم «فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» 29 جميعا لا حراك بهم، القاعد قاعدا والقائم قائما والمضجع مضجعا. روي أن الله تعالى بعث عليهم جبرائيل عليه السلام فأخذ بعضادتي باب مدينتهم وصاح بهم صيحة فماتوا جميعا، وقد شبهت الصيحة بالنار على سبيل الاستعارة المكنية وجيء بالخمود وتخييل لها وقوله خامدون رمزا إلى أن الحي كشعلة من نار، والميت كالرماد، وهو كذلك قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوءه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع وما المال والأهلون الا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع

[سورة يس (36) : الآيات 31 إلى 40]

قال تعالى «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» إذا لم يؤمنوا بالرسل ويا ويلهم من يوم الحسرة راجع تفسير الآية 29 من سورة مريم الآتية، ثم بين سبب هذه الحسرة بقوله عز قوله «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 30 يسخرون من قوله لا يسمعون نصحه، وهذه نظير الآية 10 من سورة الحجر في ج 2، ومعنى الحسرة العم والندم على ما فات لأن الإنسان من شدة الندم على صنعه الضر وتضييعه فرصة تلاقيه بالخير، وإهماله أوقاته سدى يركبه غم لا نهاية له بعده، ونزلت الحسرة منزلة العقلاء بإدخال حرف النداء عليها كأنه قال يا حسرة احضري، فهذه الحال من الأحوال التي يجب أن تحضري فيها لأهميتها والمعنى أنهم أحقاء بان يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون لرفضهم الخير الذي جاء إليهم من الله عفوا دون طلب، ثم التفت الى أهل مكة بعد الانتهاء من هذه القصة فقال عز قوله «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الخالية من أهل كل عصر. وسموا قرونا لاقترانهم في الوجود، والرؤية هنا علمية لا بصرية لأن أهل مكة لم يحضروا هلاك من قبلهم من الأمم الخالية حتى يروه عيانا بل علموه بالأخبار المتناقلة عن الأجيال بمشاهدة آثار المهلكين من أطلال مساكنهم، اما أهل الفيل أبرهة ومن معه فلا يعدون من القرون الخالية لأنهم كانوا في زقهم وآبائهم ومنهم من شاهد ما وقع بهم، راجع تفسير سورة الفيل المارة «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» 31 لان الهالك في الدنيا لا يرجع إلى الدنيا، وإنما مصيره الآخرة ينم على هذا قوله «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا» أي الأوان هنا بمعني لا النافية أي ما كل إلا جميع لدينا، قيل إنها مخففة وما زائدة وعليه يكون المعنى انه إي الحال والشان كل جميع لدينا، والأول أولى إذ لا زائد في كتاب الله «جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» 32 يوم القيمة للحساب والجزاء أفلا يعتبر أهل مكة بهم ويتحققوا أن مصيرهم كمصيرهم بل انهم سيموتون ويرجعون إلينا فنحاسبهم ونعاقبهم، وقرىء لما بالتخفيف، وعليه تكون ما للتأكيد وان مخففة من الثقيلة، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه، ويكون المعنى ان

كلهم مجموعون محضرون ليوم الدين «وَآيَةٌ لَهُمُ» لمنكري البعث أهل مكة وغيرهم دالة على إحياء الأموات «الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ» الجافة اليابة التي لا نبات فيها قد «أَحْيَيْناها» بعد موتها بانزال المطر وإخراج النبات فيها «وَأَخْرَجْنا مِنْها» من النبات الخارج فيها بسبب الغيث «حَبًّا» نكره ليعم جميع الحبوب مما يأكله الإنسان والحيوان «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» 33 جميعهم وقدم المتعلق بالكسر على المتعلق بالفتح لإفادة الحصر أي كأنهم لا يأكلون غيره، لأن مغظم أكلهم منه «وَجَعَلْنا فِيها» أيضا بسبب الغيث جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ» 34 الكثيرة مياها متدفقة غزيرة لا تنضب وانما فعلنا ذلك «لِيَأْكُلُوا» كافه خلقنا من ثمره الحاصل من حبه ومن الأشجار الأخرى وذلك كله بسبب الغيث المسبب لحمأة الأرض، وأعاد بعض المفسرين ضمير ثمره الى الله جل شأنه وتوجيهه أن الثمر نفسه فعل الله وخلقه إلا أن فيه آثارا من فعل البشر، فيكون أصل الكلام من ثمرنا كما قال تعالى وفجرنا فنقل الكلام في التكلم الى الغيبة على طريق الالتفات، والأول أولى وأليق بالمقام وأنسبه للسياق، إذ لا داعي هذا التكلف مع ظهور المعنى على الأول «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» أي ذلك الحب والثمر البديع الصنع بل هيّء لهم بصنع الله لأن الزرع ليس زرعهم بل من فعل الله والغرس ليس غرسهم بل من عمل الله وان أتعابهم التي صرفوها في ذلك هي من قدرة الله، لأنه لو لم يقدرهم على ذلك لما قدروا على شيء أصلا ولو شاء لحرمهم منه بتسليط آفة سماوية عليه أو أرضية فيقطع عنهم الماء أو يرسل حرا أو بردا أو آفة فيدمره، راجع تفسير الآية 63 فما بعدها من سورة الواقعة الآتية والآية 96 من سورة الصافات في ج 2 ويجوز أن يكون المراد ليأكلوا من ثمره رأسا أو مما عملته أيديهم منه كعصير العنب والبرتقال والثمر وسائر الفواكه وما يعقدونه منها أو يخرجونه بغيره كالحلويات والمعجنات وغيرها من أنواع السكاكر والمأكولات، فهذه كلها من الدلائل على صحة الإحياء بعد الموت «أَفَلا يَشْكُرُونَ» 35 نفعا هذه عليهم واثباتنا لها

بالحجج والدلائل لإفناعهم على الإيمان بالإله الواحد والرسل والحياة الأخرى ووجود الجنة لمن أطاعنا والنار لمن عصانا، وهذا استفهام انكار لانكارهم وجحودهم واستقباح لعدم شكرهم نعم الله عليهم وكأنهم لم يكتفوا بهذه البراهين على ذلك «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من أصناف الحيوان والجماد والنّبات «مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» 36 مما لم يطلعهم الله على علمه ومعرفته ولم يتوصلوا لها بعد لعدم وقوفهم على عظيم قدرته وسعة ملكه وما عرفه الناس المادة الكهربائية الا عثورا، ومن يعش ير لأنا رأينا أشياء لم يرها أسلافنا ولم يحلموا بها، ولو ذكرت لهم لكذبوها فقد كذبوا حديث الدجال من أنه إذا ظهر يبلغ خبره المشرق والمغرب بيوم واحد، وها ان المذياع (الراديو) يسمع أخباره أهل المشرق والمغرب بلحظة واحدة، وسيرى أحفادنا ما لم نره نحن من عظيم مكونات الله التي سيطلع عليها خلقه بأوقاتها المقدرة عنده، فسبحان من لا يحيط بعلمه غيره، ثم ذكر برهانا على إمكان الحياة الأخرى بقوله عظم قوله «وَآيَةٌ لَهُمُ» على قدرتنا باعادة الخلق كما بدأناه ليتيقن هؤلاء المنكرون عظمتنا وحجة ما جاءهم به رسلنا «اللَّيْلُ نَسْلَخُ» نكشط ونقشط ونكشف (ويأتى بمعنى السّرى والتنفس) «منه النّهار» فلا نبقي معه شيئا من ضوء الشمس مثل نزع القميص الأبيض عن الزنجي الأسود، لأن ما بين الأرض والسماء ظلمة فيكسو بعض ذلك الفضاء ضوء شمس فيكون كيت مظلم أسرج فيه سراج، فاذا انطفأ السراج أظلم البيت «فَإِذا هُمْ» أي جميع المخلوقات التي كساها ضوء الشمس «مُظْلِمُونَ» 37 بعد انسلاخ النهار بظلام الكون في المحيط الموجودين فيه، وينصرف أيضا للقسم الآخر منه، إذ تكون الحال في موضع ليلا وفي آخر نهارا وفي موضع صبحا وفي غيره مساء، وفي قطر ضحى وآخر عصرا وهكذا، ثم ذكر آية ثالثة لهؤلاء المنكرين على الحياة الآخرة بقوله عز وجل «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» لمقدار تنتهي إليه في منازلها بالنظر لما نراه لأن سيرها محدود غايته المستقر الذي قدره الله لها وقد صرح إمام الحرمين وغيره بأن الشمس تطلع عند

قوم وتغرب عند آخرين فبآن واحد طالعة في مكان غائبة في غيره، فيطول الليل عند أناس ويقصر عند آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي أقصى بلاد البلغار قد يطلع الفجر قبل غياب الشفق، فلا وقت لصلاة العشاء عندهم إلا أنهم يقدرونه تقديرا بحسب الساعات، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية ولا تزال غاربة في البروج القبلية، فنصف السنة في ذلك المكان ليل ونصفها نهار وقامت الأدلة على عدم سكونها عند غروبها والا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على ان غروبها في أفق، طلوع في غيره وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها، أما ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ابي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» قال مستقرها تحت العرش، فالمستقر اسم مكان، وظاهر الحديث الذي لا غبار عليه أن للشمس مستقرا أي قرارا حقيقيا، وقال النووي وجماعة من أهل العلم بظاهره أيضا لا سيما وأنه مروي عن أبي ذر وهو من عرفت مكانته وما هو عليه من الصدق والأمانة، والآية نصت على أن جريانها لمستقر لها أيضا، ولا يمكن التوفيق بين الآية والحديث وبين ما يقوله أهل الهيئة إلا إذا قلنا إن الشمس وسائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن هذا قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» الآية الآتية ومثلها الآية 34 من سورة الأنبياء في ج 2 حيث لسند الفعل الى ضمير العقلاء مثله في قوله «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً» الآية 4 من سورة يوسف في ج 2 حيث جمعها جمع من يعقل أيضا، وما جاء في هذا الحديث في رواية أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب؟ قال الله ورسوله أعلم. قال إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) - أخرجاه في الصحيحين- والمتبادر من الاستيذان

مطلب في انسلاخ الأنفس:

ما يكون بلسان القال دون لسان الحال كفيرها من الجمادات التي خاطبها الله تعالى ومكنها من الإجابة حسبما أراد، راجع تفسير الآية 73 من سورة الأعراف المارة بما يتعلق بهذا البحث، هذا وما يقال أن الله جل شأنه خلق فيها الإدراك والتمييز حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها، بعيد غاية البعد ولا حاجة الى مثل هذا. والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصيه كثرة. والعترة نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون ممن مضى ونجد (أي بقي) والمراد بها هنا (آل الرسول ورهطه وعشيرته) والبروج المار ذكرها بيناها في سورة البروج المارة فراجعها تر بعضها يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص، وبعضها يدل على ثبوته لها في العموم أو بالغاية، إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان، بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة. مطلب في انسلاخ الأنفس: اثبت الحكماء النفس للفلك، وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا كل ما في العالم العلوي والسفلي من الكواكب الأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حيّ ناطق، والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ من الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما تمثل جبريل عليه السلام وظهر لحضرة المصطفى وأصحابه بصورة دحية الكلبي أو بصورة بعض الأعراب كما جاء بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاسند ركبته إلى ركبتيه ودفع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال صدقت، فتعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته

وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربّنها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، ثمّ انطلق فلبثت مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. فقد ثبت في هذا الحديث أن جبريل جاء بصورة اعرابي، ثم تذهب تلك الصورة المنسلخة عن الجسد الظاهر حيث يشاء الله عز وجل، مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يصدر عن أصلها المنسلخ منها. ومن هذا القبيل ما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع، وبدنها الأصلي في موضع آخر وهذا من قبيل الكرامة التي يظهرها الله تعالى لهم وانا أشهد بهذا وأصدق وأنت أيها المنكر: إذا لم تر إهلال فصدّق ... لأناس رأوه بالأبصار وذلك أني سمعت هذا من أناس أثق بصدقهم وصلاحهم وهم من أهل هذا لا تقل دارها بشرقي نجد ... كل نجد للعامرية دار وهذا أمر مقدر عند السادة الصوفة مشهود فيما بينهم بالتواتر وهو غير طي المسافة المقرر عندهم أيضا والثابت وقوعه لديهم تواترا أيضا، ولا يسعنا إلا التصديق لأن إنكار هاتين الخصلتين عليهم مكابرة لا تصدر الا عن جاهل بحقيقتهم أو معاند لهم، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة كابن مقاتل المشهور انه حكم بالكفر على معتقد ما روي عن ابراهيم بن أدهم قدس الله سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية (ثامن ذي الحجة سمي بذلك لأن ابراهيم عليه السلام رأى الرؤيا فيه بذبح ابنه) وأنه رئي ذلك اليوم بمكة وبنى حكمه هذا على زعمه أنه من جنس المعجزة العظيمة وهي مما لا تثبت كرامة للولي، وهذا حكم فاسد لا يلتفت اليه ولا يعول عليه، لان المعتمد عند أهل السنة والجماعة جواز ثبوت الكرامة مطلقا

للولي، وان كل ما جاز وقوعه معجزة للنّبي جاز أن يكون كرامة للولي إلا إذا ثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل القرآن، والتحدّي به، لأن ذلك من خصائص الرسالة، فمن أنكر هاتين الخصلتين أو إحداهما خرج عن دينه ولو طار بالهواء لانه بادعاء إحداهما يكون مدعيا الرسالة ولا رسالة بعد خاتمها، تدبر، حفظك الله من الزيغ وغرور النفس والحسد، فإن كلا من هذه الثلاثة داع للانكار، راجع الآية 147 من سورة الأعراف المارة، وما ترشدك اليه، هذا وقد أثبت غير واحد خبر نقل النفس وتطورها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وادعى أنه عليه الصلاة والسلام يرى في عدة مواضع في وقت واحد، مع كونه في قبره الشريف يصلي، وضح أن موسى عليه الصلاة السلام يصلي في قبره مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم رآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة ليلة الإسراء كما بحث في تفسير أول الإسراء الآتية، وعليه فلا قيمة لما يقوله بعض من لا ثقة بعلمه ولا وثوق بذاته من إنكار هذه القضية البالغة من التواتر دون معارضته من أهل العلم العاملين، وما تعلل به من كون موسى عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره في الأرض مما لم يقل به أحد جزما، لأن القول به احتمال بعيد، بل لا بد أن يكون بصورة أخرى عنه، وقد رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري بروحه وجسده الى السماء جماعة من الأنبياء في السموات أيضا مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا من الأرض إلى السماء على قياس ما سمعت آنفا، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس لواحدة أكثر من بدن واحد وحيّز واحد، بل هو أمر ممكن كما لا يخفى على من نور الله بصيرته، فعلى هذا لا يقال إن الشمس نفس مثل تلك الأنفس القدسية وانّها تنسلخ عن الجرم المشاهد مع بقاء سيرها وعدم سكونها حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم، ويكون ذلك إذا غربت وتجاوزت الأفق الحقيقي بالنسبة لكل قطر وانقطعت رؤية سكان المعمور في الأرض لها، ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه، لأن ما ذكرت من كون السجود

مطلب منازل الكواكب وكيفية جريانها:

والسكون باعتبار النفس المنسلخة الممتثلة بما شاء الله، لا ينافي الجرم المعروف، بل لو كان السجود والسكون نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا بالنسبة لكل مدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر، إلا الذي يغلب على الظن ما يأتي بعد في تفسير قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» وإذا علمت هذا تيقنت أن لا تعارض بين الحديث الصحيح المار ذكره في الشمس وبين كلام أهل الهيئة وما يقتضيه الحس أيضا والله أعلم اهو من روح المعاني وغيره بتصرف واختصار وتبسط «ذلِكَ» الجري البديع والمستقر الشان «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» 48 به بحساب يكل النظر عن استخراجه وتتحير الافهام في استنباطه، لانه فعل الغالب بقدرته على هذا الجريان حسبما تفتضيه إرادته، فانظر رعاك الله في هذين الشخوص والهبوط المستمرين في الكون على المنوال المذكور في هذه الآية الكريمة، وتفكر هل كان أحد في عهد نزول القرآن العظيم اطلع عليها وهل علمها أحد قبل إنشاء المراصد الفلكية واختراع المكبرات الرصدية غير صانع هذا الكون وبارئه على غير مثال سابق. وقد أخبرنا به المنزل عليه محمد صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا عن ربه عز وجل، ولا أبين من بيان الله في حق هذا القرآن الجليل، كيف لا وقد قال فيه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية 90 من سورة النحل في ج 2، قال تعالى «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» جمع منزلة والمراد بها المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهو لا يتعداها من أول ليلة إلى الثامن والعشرين ثم يستكن ليلة إذا كان تسعا وعشرين وليلتين إذا كان ثلاثين يوما. مطلب منازل الكواكب وكيفية جريانها: وقال أهل الهيئة إن المنازل سبعة وعشرون وثلث، وقد حذفوا الثلث لنقصه عن النصف كما هو مصطلح المنجمين. ويراد بالمنازل والله أعلم مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء الممطرة، وهي ثمان وعشرون منزلة: 1 الشرطان، 2 البطين، 3 الثريا، 4 الدبران، 5 الهقعة، 6 الهنعة، 7 الذراع، 8 النثرة، 9 الطرف، 10 الجبهة، 11 الزّبرة، 12 الصرفة،

13 العوّا، 14 السماك، 15 الفقر، 16 لزّباني، 17 الإكليل، 18 القلب، 19 الشّوله، 20 النعائم، 21 البلدة، 22 سعد الذابح، 23 سعد بلع، 24 سعد السعود، 25 سعد الأخبية، 26 فرع الدلو المقدم، 27 فرع الدلو المؤخر، 28 الرشا. ولكل منها معنى وتعريف خاص بها سنأتي على بيانه في تفسير الآية 15 من سورة الحجر في ج 2 إن شاء الله إذ أننا أطلنا البحث هنا فيما يتعلق بانسلاخ الشمس الذي نشأ عنه الانسلاخ القوسي. هذا، واعلم أنه إذا كان القمر في آخر منازله رق وتقوس ولهذا أشار إليه تعالت إشارته بقوله «حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ» أحد شماريخ عذق النخل «الْقَدِيمِ» 49 الذي مر عليه الحول، لأنه لشدّة يبسه يكون رفع من العرجون الحديث «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ» فتجتمع معه وتداخله في سلطانه ليلا، ولا يتمكن هو من الاجتماع معها ليشاركها في سلطانها نهارا «وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» أيضا بل يتعاقبان بنظام بديع وحساب معلوم لا يتغير ولا يخطىء، لأنه إذا أدرك أحدهما الآخر اختل نظام الكون وقامت القيامة، قال تعالى: (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) الآيات من 8 إلى 11 من سورة القيامة المارة، أي يقال هذا القول يوم القيامة الذي يحار الإنسان فيه ويذهل عن ذويه وخاصته «وَكُلٌّ» من الشمس والقمر وما ينشأ عنهما من الليل والنهار وما يرتبط بسيرهما من الكواكب «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» 40 يسيرون، وكررت هذه الجملة في الآية 33 من سورة الأنبياء في ج 2، بما يدل على أن سير هذه كلها مقطوع بها حتما لا سبيل لانخرامه، تدبر، وفيها إشارة إلى أنها كلها عائمة بالهواء في الفضاء ليست مرتكزة على شيء ولا متعلقة بشيء كجريان السمك بالماء لجواز أن تكون السماء كلها لطيفه أو مجرى الكواكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه يجري به كما تجري السمكة الكبيرة أو الصغيرة في البحر أو في النهر أو في ساقية منه. أما ما يقوله الفلاسفة بانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لقعر فلك القمر وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة

[سورة يس (36) : الآيات 41 إلى 50]

الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء فلا قيمة له، إذ لم يقم لهم دليل قاطع على شيء من ذلك، وهو عبارة عن حدسيات وشبهات توغلوا فيها لإنكار عروج صاحب الرسالة، وقد بينا ما يتعلق في هذا في تفسير سورة والنجم المارة في الآية 18، ولهذا البحث صلة أول سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه كفاية، على أنه يجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير والكواكب فيه تجري بجريانه، وهناك أخبار تشير إلى صحته. أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية هذه فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل، والنجوم في فلكة كفلكة المغزل، فلا تدور إلا بها. وقال الشيخ لأكبر في فتوحاته المكية: جعل الله السموات ساكنة وخلق فيها نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباقها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص، وجعلهم عاقلة سامعة مطيعة بدليل قوله جل قوله (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الآية 14 من سورة فصلت في ج 2، ثم إنه تعالى شأنه لما جعل السباحة للنجوم أحدث لكل منها طريقين في السماء هو قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) الآية 8 من سورة الذاريات في ج 2، قسمت تلك الطرق أفلاكا، فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير فتخرق الهواء الماس السماء فيحدث منه أصوات ونعمات مطربة، لكون سيرها على وزن معلوم وتجري بعادة مستمرة، وقد علم بالرصد مقادير سيرها على التقريب، وكذلك دخول بعضها على بعض ظنا إذ لا يعلم ذلك على التحقيق إلا الله الذي جعل يسيرها عبرة للناظرين بين بطء وسرعة وتقدم وتأخر في أماكن من السماء معلومة بصورة بديعة. ثم ذكر برهانا رابعا على عظيم قدرته فقال «وَآيَةٌ لَهُمْ» على بالغ قدرتنا وبديع صنعنا «أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ» أي ذرية آبائهم الأقدمين قبل نوح عليه السلام «فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» 41 سفينة أبيهم الثاني إذ ملأها به وبأهله ومن آمن به معه ومن عموم الحيوانات زوجين اثنين حتى من الطيور

راجع تفسير الآية 37 من سورة هود في ج 2. ويجوز أن يراد بالذرية أولاد المخاطبين، إذ كانوا يبعثونهم بالسفن البحرية الشراعية للتجارة، لأن أصل الذرية الصغار من الأولاد ويقع بالتعارف على الكبار والصغار، ويستعمل للواحد والجمع وفي الأصل هو للجمع فقط، وفي قوله المشحون إشارة إلى البواخر المحدثة بعد عهد نزول القرآن التي أصلها سفينة نوح عليه السلام هذه، لأنها مشحونة بالأشخاص والأموال ومشحونة أيضا بالبخار الذي بسوقها ولا شيء يمتلىء امتلاء البواخر بالبخار، يدل على هذا قوله جل قوله «وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ» أي ذلك الفلك المشحون «ما يَرْكَبُونَ» 42 فيه بالبحر من السفن والبواخر الكبار في الهواء من الطيارات المتنوعة وفي البر من الحيوانات وخاصة الإبل إذ يسمونها سفن البر، والسيارات والدراجات والعجلات لتنوعة مما يركب ويحمل عليه، وكل هذا داخل في قوله تعالى من مثله كالقطارات، لأن هذه الإشارة تشمل الجميع ولأن بيوت بخارها مثل بيوت بخار البواخر المشار إليها بكلمة ذريتهم وهم أبناء هذا الزمان، وهذا كله من الإخبار بالغيب الذي يقصه الله علينا في كتابه ولا تناهي لمعجزاته، قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) الآية 53 من سورة فصلت في ج 2، أي آفاق السموات والأرض ولا يخترق هذه الآفاق إلا هذه المحدثات، وما ندري ما يحقق لنا القرآن فيما بعد مما يتصوره العقل من الجائزات، ولعل يكون ما قاله أبو الحسن الأشعري من أنه يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة الأندلس، وقد تحقق ذلك بعد أن ظهر المذياع المصور بكسر الواو الذي يسمع فيه صوت القارئ وترى صورته، والله على كل شيء قدير، ومن قدرته أقدار خلقه على مثل هذه الأشياء مما لا يكاد يقبله العقل ولا يتصوره مع وجوده، راجع الآية 10 من ص المارة والآية 95 من سورة الصافات في ج 2، قال تعالى «وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ» في البحر هم وسفنهم مهما عظمت إذ سماها الله جواري وشبهها بالجبال في قوله: (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الآية 24 من سورة الرحمن في ج 3، ونظيراتها الآية 31 من سورة الشورى في ج 2، وكذلك إذا شاء يقلب القطارات ويوقع الطائرات بسبب وبغير سبب،

وإذا أغرقهم أو أسقطهم أو قلبهم «فَلا صَرِيخَ لَهُمْ» أي لا مغيث يستغيث لهم، وسمى المغيث صريخا لأنه ينادي من ينجيه مما حل فيه فيصرخ بأعلى صوته ولا أحدا يغيثه من قدر الله «وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ» 43 ينجون منه لأن من يقدر هلاكه الله لا محيد له عنه البتة، لأن البشر عاجز عن الحؤول دونه «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا» نحن الإله القادر على إغاثتهم بالنظر لما هو في علمنا الأزلي فنيسر لهم من يغيثهم أو نحفظهم من الهلاك وقتا مقدرا «وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» 44 انقضاء آجالهم قال أبو الطيب: ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام وفي هاتين الحالتين ننقذهم نحن، وغيرنا لا يقدر على إنقاذهم إذا لم نشأه، حد قوله: إذا نحن نؤمنك تأمن غيرنا وإذا ... لم تأخذ الأمن منا لم تزل حذرا وهذه الآية المدنية من هذه السورة، قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ» لمنافقي المدينة «اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» مما يتوقع حصوله من العذاب الدنيوي إذا أصررتم على نفاقكم كالأمم الماضية التي أصرت على كفرها «وَ» اتقوا أيضا «ما خَلْفَكُمْ» مما توعدون به من عذاب الآخرة، ويجوز أن يكون على العكس بأن يراد ما بين أيديهم عذاب الآخرة، لانهم مقبلون عليه، فكأنه بين أيديهم وبما خلفكم عذاب الدنيا لأنهم تاركوه وراءهم، ولكن الأول أولى وأنسب بالمقام، أي احذروا هذين العذابين المتوخى نزولهما بكم «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» 45 أي ترجون رحمة الله، وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية والخطاب لكفار قريش أي اتقوا الوقائع التي ابتليت فيها الأمم المكذبة لانبيائها، واتقوا إنكار أمر الساعة وآمنوا بنبيكم علكم تصيبكم رحمة ربكم، وجواب إذا محذوف تقديره: فأعرضوا ولم يلتفتوا إلى هذا القول، على كلا القولين والمعنيين، ويدل على حذف الجواب قوله تعالى «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» الدالة على قدرته وصدق نبيه «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» 46 دأبهم في كل آية فيها إنذار وبشارة «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا» أيها المتمولون على فقرائكم «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» وأحسنوا إليهم كما أحسن الله إليكم «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» المأمورون بالإنفاق من أهل مكة

وغيرهم «لِلَّذِينَ آمَنُوا» القائلين لهم أنفقوا «أَنُطْعِمُ» رزقنا الذي حصلنا عليه بكدنا «مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» أي كيف نطعمه وقد أفقره الله؟ فليطعمه الذي أفقره وهو استفهام إنكار، أي لا نفعل ذلك أبدا، والكلام مسوق لذمّهم على البخل وعدم شفقتهم على ذويهم وأبناء جنسهم من فضل ما منّ الله به عليهم إثر ذمهم بإنكار البعث والنبوة والمعاد، ثم لم يكتفوا بما قالوا بل أتبعوه بقولهم «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 47 لأنكم تأمروننا بإعطاء رزقنا لمن لم يرد الله إعطاءه، وهذا أولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول الله أي قال تعالى لهم إن أنتم إلخ، وأولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول المؤمنين لهم لمخالفتها سياق الآية وسياق الحكاية، قالوا كان العاص بن وائل السهمي وبعض كفار قريش المتزندقين إذا سألهم المساكين من فضول أموالهم، ومما زعموا أنهم جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم كما سيأتي بيانه في الآية 136 من سورة الأنعام في ج 2 فما بعدها، قالوا له اذهب إلى ربك فهو أولى بك منا، أيمنعك هو ونعطيك نحن؟ كلا، لا نفعل هذا، فلو أراد رزقك لرزقك كما رزقنا، فنزلت فيهم هذه الآية. وقد تمسك بقولهم هذا البخلاء أسوة بسادتهم أولئك إذ يقولون لا نعطي من حرمه الله، وهو قول باطل يلجأ إليه كل عاطل من فعل الخير إخوان المنزل فيهم هذه الآية، لأن الله تعالى أغنى أناسا وأفقر آخرين ابتلاء واختبارا لا بخلا ولا استحقاقا، وأمر الغني بالإنفاق ليمتحنه أيقدر شكر نعمته عليه أم لا، وقد هدد الغني في الحديث القدسي: (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي.) وامتحن الفقير بهدر ماء وجهه ليختبره أيصبر أم لا، ألا فليتعظ الأغنياء ويتعظوا قبل أن يحل بهم ما لا كاشف له إلا الله. وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا صحة له لأنها مكية بالاتفاق كسائر هذه السورة إلا الآية المستثناة 45 المارة على قول بأنها مدنية والأرجح عندي أنها مكية أيضا كما مر لك في تفسيرها الثاني والله أعلم، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» هؤلاء الكفرة يا محمد «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به أنت وأصحابك من نزول العذاب

مطلب في النفختين والذي لا يبلى من البشر:

وقيام الساعة والحساب والجزاء في يوم البعث من القبور، قد طال علينا أمده أخبرونا وقته على الحقيقة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 48 بقولكم، قال تعالى قل لهم يا سيد الرسل إنه قريب بالنسبة لما عند الله وأنه على حين غفلة سيأتيكم غرة لأنه تعالى يقول: مطلب في النفختين والذي لا يبلى من البشر: «ما يَنْظُرُونَ» هؤلاء المستعجلون على شرهم «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من عبدنا جبريل الموكل بالنفخة الأولى والثانية «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» 49 فجاءة أثناء مخاصمتهم في بيعهم وشرائهم ومنازعتهم في أمورهم لدنيوية المنهمكين بها، وحينذاك «فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً» في شيء من أمورهم لأن كلا منهم يموت على حالته التي هو فيها حين سماعه الصيحة ولهذا قال تعالى ولا إلى أهلهم يرجعون 50» إذ ليس باستطاعتهم لرجوع إذا كانوا خارجين لشأنهم وفي هذا تنبيه عظيم على عظمة هذه الصيحة التي لا تمهل القائم أن يقعد ولا القاعد أن يقوم إذ يموت كل بمكانه على هيأته دون حركة، ولا عجب من ذلك لأنه من فعل الله. قالوا كان شبيب الحروري إذا صاح في القوم لا يلوي أحد على أحد وفيه يقول: إن صاح يوما حسبت الصخر منحدرا ... والريح عاصفة والموج يلتطم فإذا كانت صيحة عبد من عبيده في الدنيا تفعل هكذا، فما بالك في صيحة ملك عظيم من ملائكته. روى مسلم من حديث عمرو ابن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا (أي مال عنقه لان الليت صفحة العنق) فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله (أي يصلحه ويطينه) فيصعق وبصعق الناس، وقدمنا في تفسير الآية 185 من سورة الأعراف حديث أبي هريرة المتعلق بهذا مطولا فراجعه، قال تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» أي النفخة الثانية للبعث والحساب وبينهما على ما قيل أربعون سنة «فَإِذا هُمْ» الأموات الذين ماتوا قبل النفخة الأولى جميعهم والذين ماتوا بعدها قائمين «مِنَ الْأَجْداثِ» المدافن أعم من القبور «إِلى رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَنْسِلُونَ» 51 يخرجون أحياء يتسابقون إلى الموقف وراء المنادي

قالوا لبعضهم متعجبين من حالتهم التي كانوا غافلين عنها في الدنيا ومنكرين وجودها «يا وَيْلَنا» يا هلاكنا «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» الذي كنا فيه لأنهم يرون ما كانوا فيه من عذاب البرزخ بالنسبة لما شاهدوه من الهول هينا وكأنه في جنب شدة القيامة نوما، وهنا وقف لازم، أي سكنة خفيفة، فرقا بين كلامهم وكلام الملائكة القائلين لهم «هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ» به خلقه في الدنيا على لسان رسله «وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» 52 بما قالوا لكم عنه بأنكم تموتون ثم تحيون وتسألون عما عملتم في دنياكم وتعاقبون وتثابون فكذبتموهم. ويوجد ثلاث سكنات أخر مثل هذه ينبغي للقارئ أن يسكت سكتة خفيفة عند تلاوتها: الآية 14 من سورة المطففين، والأولى من سورة الكهف ج 2، والآية 27 من سورة القيامة المارة، يقال: (من. راق) كما سنبينها في مواضعها «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» أي تلك النفخة من ملكنا جبريل عليه السلام «فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» 53 أولهم وآخرهم في الموقف للحساب والجزاء عما كان منهم في الدنيا من خير وشر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت، قالوا أربعون شهرا، قال: أبيت، قالوا أربعون سنة، قال: أبيت (يقول رضي الله عنه كلما سئل عن بيان الأربعين وتمييزها أبيت أي أمتنع عن القول، وذلك لانه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هي الأربعون، لانه أمين على ما سمع، فينقل ما سمعه بلا زيادة ولا نقص جزاه الله عنا خيرا. ومع هذا الحرص على حفظ كلام الرسول وأمانته عليه من أن يدخل فيه ما ليس منه ما لم يتحقق سماعه، فإن بعض من لا خلاق له من العلم يتهمه بسبب كثرة روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اعتذر لهم بأنه كان ملازما حضرة الرسول، وإخوانه بالأسواق وغيرها يتلهون بأعمالهم، لذلك صار أكثر رواية منهم أللهم حسن ظننا بعبادك المخلصين) ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ويأمر الله تعالى كل ذرة أينما كانت في البر أو البحر أو الهواء بالاتصال بجسدها التي انفصلت منه، وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا

عظما واحدا هو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة قال صاحب الجوهرة: والجسم يفنى غير عجب الذنب ... وغير شهيد الحرب ونبي وهذا أيضا جاء على قاعدة ما عموم إلا وخصص. هذا، وحينما يتظاهر أهل الموقف بالضجر مما يشاهدونه من الهول وعدم علمهم بما يؤول إليه أمرهم يقول الله تعالى «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ» منكم أيها الخلق «شَيْئاً» مما عملتموه في دنياكم برة كانت نفسكم أو فاجرة حسنا كان عملها أو سيئا «وَلا تُجْزَوْنَ» جنّكم وإنسكم «إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فيها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ثم طفق يصف للناس أصحاب الخير بعد حسابهم بقوله جل قوله «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ» من معانقة الأبكار على ضفاف الأنهار وزيارة الأخيار عند سيد الأبرار وضيافة الملك الغفار في مشهد تحار فيه الأفكار والأبصار، مما لا توصف لذته ولا تقدر فرحته «فاكِهُونَ» 55 متلذذون متنعمون «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ» المؤمنات في الدنيا وما من الله عليهم من الحور والولدان جميعهم «فِي ظِلالٍ» من أكناف القصور والمواقع التي لا تقع عليها الشمس تسمى ظلالا في الدنيا أما الآخرة فلا شمس فيها قال تعالى «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» الآية 13 من سورة الرحمن في ج 3، وإنما سميت ظلالا بالنسبة لما نعرفه من ظلال الأشجار وغيرها وكلهم «عَلَى الْأَرائِكِ» السور في الحجال أو الفراش في الحجال وحكى الطبرسي أن الأريكة هي الوسادة، وهذا مما يقبله الضمير قال تعالى «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» في صدر الآية المارة والاتكاء عادة في الدنيا يكون على الوسائد، وما الدنيا إلا أنموذج الآخرة «مُتَّكِؤُنَ» 6 5 وهذا مما يؤيد أن الأريكة هي الوسادة، وقال الزهري كل ما اتكئ عليه فهو أريكة. قال في الصحاح الأريكة سرير منجّد مزين في قبة أو بيت، وقال ابن عباس لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة ولا حجلة إذا لم يكن السرير فيها والحجلة كالقبة وموقع مزيّن بالثياب والستور للعروس. وعلى كل فإن المراد بها الوسادة، لأن السرير لا يكون بدون وسد فالذي يجلس عليه يتكىء على ما فيه من الوسد

مطلب تحية الله لعباده وتوبيخ المجرمين:

«لَهُمْ فِيها» أي الجنة «فاكِهَةٌ» يتفكهون بها من أنواع الثمار والخضار «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» 57. ويطلبون من أصناف المآكل والمشارب مما يتمنون ويشتهون. مطلب تحية الله لعباده وتوبيخ المجرمين: وزيادة على هذا فإن الملائكة غير الحافين بهم تبلغهم من ربهم تحية وهي «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» 58 أو انه جل جلاله يطلع عليهم بذاته المقدسة يدل على هذا ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر ابن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع نور لهم فرفعوا رؤوسهم، فاذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله عز وجل سلام إلخ ينظر إليهم وينظرون اليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون اليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم قال صاحب بدء الامالي: يراه المؤمنون بغير كيف ... وادراك وضرب في مثال فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال ومن هذه النعمة العظيمة رؤية الحق جل جلاله لانهم يتكرونها في الدنيا والآخرة فعوقبوا بحرمانهم منها راجع بحث الرؤية في تفسير الآية 143 من الأعراف المارة، ثم شرع ينعت أهل النار أجارنا الله منها بقوله «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» 59 اعتزلوا عن المؤمنين لانهم صاروا إلى ما وعدوا به في الدنيا على لسان الرسل، وبمجرد صدور هذه الكلمة بل قبل تمامها اعتزل جميع أهل النار من كل الملل عن أهل الجنة، لان أمره بين الكاف والنون وصار يوبخهم ويقرعهم بما هو أشد من عذابهم وأمر فقال لهم «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ» وأنتم في عالم الذر راجع تفسير الآية 172 من الأعراف المارة وأقول لكم «أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» وافردوني وحدي بالعبادة وألم أقل لكم «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» 60 العداوة، إذ بدأها بأبيكم آدم فاحذروه

[سورة يس (36) : الآيات 61 إلى 70]

ولا تشركوا بي أحدا ولا شيئا، كيف وقد أعطيتموني هذا الميثاق وشهدتم به على أنفسكم وأشهدت عليكم ملائكتي وقد نقضتموه وعبدتم غيري «وَأَنِ اعْبُدُونِي» وحدي لا تشركوا بي شيئا «هذا» الذي عهدت به إليكم من وجوب طاعتي وعبادتي ومعصية الشيطان وترك الشرك هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 61 لو اتبعتموه لنجوتم الآن لأنه سوي بليغ بالاعتدال لا اعوجاج فيه فلو تمسكتم به لكفى في إلزام أنفسكم طاعتي قال الآلوسي رحمه الله: تفسر بعض الناس عنك كناية ... خوف الوشاة وأنت كل الناس لأن الأصل الاستقامة، ولا يكون إلا باتباع الطريق المستقيم فمن اتبعه نجا ومن حاد عنه هلك، قال تعالى مخاطبا الخلق كلهم «وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ» أيها الناس «جِبِلًّا كَثِيراً» أي خلقا، لان الجبل الجماعة العظيمة والأمة التي لا تقل عن عشرة آلاف تشبيها لها بالجبل العظيم. مع كثرة إرسال الرسل إليكم لارشادكم «أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» 62 ما بلغوكم به عنّا لتستعدوا ليومكم هذا استفهام توبيخ وتقريع لعدم اتعاظهم بما جرى على الأمم الضالة قبلهم تكذيبهم رسلهم وطاعتهم عدوهم إبليس ثم التفت لأهل النار وقال لهم «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 63 بها من قبل الرسل في الدنيا والتي كانوا يخوفونكم بها وأنتم تكذبونهم ثم يقال لهم على سبيل الإهانة والتحقير من قبل ملائكة العذاب «اصْلَوْهَا الْيَوْمَ» أدخلوها لتكونوا وقودها «بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» 64 بالله ورسله وتجحدون هذا اليوم ولما أرادوا أن يتكلموا الجمهم عن الكلام بقوله «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ» لئلا يتكلموا بها لانا سنأمر جوارحهم بالاعتراف عما فعلت «وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ» بما بطشت وما أخذت وأعطت «وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ» بما مشت ورمحت وهكذا كافة أعضائهم تنطق «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 65 في الدنيا وذلك أنهم أرادوا أن يعتذروا إلى الله بأنهم انقادوا لأكابرهم وأنهم لم يكذبوا رسله ولم يشركوا به، كما مر في الآية 59 فما بعدها من سورة ص وما سيأتي في الآية 23 من سورة الأنعام في ج 2

فيمنعون من الكلام إذ لا فائدة لهم به. روى مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، (أي تبسم لأنه كان لا يضحك وكلما نقل عنه أنه ضحك فالمراد به تبسم) فقال هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال في مخاطبة العبد ربه، فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول بلى، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي الا شاهدا منّي (أي لا أقبل شاهدا عليّ من الغير) قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا «والآية في الإسراء بلفظ حَسِيباً» مما يفهم أن الاستشهاد بغير الآية، قال فيختم على فيه ويقال لاركانه: انطقي، قال فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل (أدافع وأخاصم ومعنى هذا هلاكا) والمراد بالختم على الأفواه ليس عدم شهادتها بل منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسن نفسها، وكيفية شهادة الجوارح أن يجعل الله تعالى القادر على كل شيء فيها علما وإرادة وقدرة على التكلم، فتتكلم وتشهد وأصحابها مختوم على أفواههم راجع كيفية هذا الختم في الآية 24 من سورة النور في ج 3، ولا نص فيها عن الأفواء كما أنه لا نص في هذه الآية على الألسنة أي لا ختم على الأفواه هناك ولا على الشهادة بالألسنة هنا وعليه فيجوز أن يكون المحدث عنهم في السورتين واحدا قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا» مسخنا «عَلى أَعْيُنِهِمْ» كما أغشينا قلوبهم الباطنة بأن نجعلها كأنها غير مشقوقة، وهذا أبلغ من أعميناها أو أغشيناها «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» بادروا طريقهم المألوف لهم ويجوز أن يكون الكلام من باب الحذف والإيصال بان حذف الجار وهو إلى واتصل الفعل بالمجرور وهو الأصل فاستبقوا إلى الصراط «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» 66 طريقهم وهم عمي القلوب عمي الأعين معا «وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ» حجارة بأن قلبنا ماهيتهم أو صيّرناهم قردة وخنازير كما فعلنا بأصحاب السبت أشار إليهم في الآية 163 من سورة الأعراف المارة والآتي ذكرهم في الآية 60 من سورة المائدة في ج 3 قالوا ان مسخ الحيوان أو تحويله إلى

مطلب أوزان الشعر ومخالفة القرآن لها:

أحجار يسمى رسخا وإلى نبات يسمى فسخا وإلى حيوان يسمى نسخا أي لغيرناهم عن خلقهم وهم «عَلى مَكانَتِهِمْ» المكانة كالمكان مثل المقامة والمقام ويكون بمعنى المنزلة العالية في غير هذا المكان أي لو أردنا مسخهم لمسخناهم في منازلهم «فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا» عنها فلا يقدرون ان يبرحوها ويتخلصوا منها من ويل ما وقعوا فيه «وَلا يَرْجِعُونَ» 67 إلى ما كانوا عليه قبل النسخ أي عجزوا على الحالتين معا. واعملوا أيها الناس ان طول الأعمار وقصرها بايدينا وفق ما هو في أزلنا «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ» منكم زيادة على غيره «نُنَكِّسْهُ» أي نقلّبه «فِي الْخَلْقِ» فلا يزال يتزايد ضعفه وتنقص بنيته وتضعف قواه، وقد يقل عقله عكس ما كان عليه لأنه في بدأ طفولته كان يتزايد في الكبر والقوة والعقل والعلم، لأنه يكون عند ولادته عاريا عن ذلك كله فإذا بلغ أشده استكمل قوته وعقله وعلمه، وأنكس قلب الشيء على رأسه، والمنكوس الولد الذي تخرج رجلاه قبل رأسه والنكس عود المرض بعد النّقه وكل ما كان مقلوبا فهو منكوس ولهذا قال ننكسه أي نرجعه على حالة الطفولة من جهة نقص القوى وضعف الجوارح والنكس الشيخ المدرهمّ الساقط العاجز من الكبر بعد الهرم، والناكس المطأطئ رأسه من أجل ذلك «أَفَلا يَعْقِلُونَ» 68 هؤلاء بأن من قدّر تعريف أحوال الإنسان بالصورة المذكورة وهي مدونة ومشاهدة، ألا يقدر على إحياء من يميته ويبعثه حيّا مرة ثانية، أفلا يعتبرون ويقيسون ما كان على ما يكون، أفلا يتدبرون هذا نظرا وفكرا؟ ثم التفت إلى كفار قريش الذين اتهموا نبيه صلى الله عليه وسلم بكونه شاعرا بعد أن قالوا ساحر وكاهن ومعلم، لأنه هو المقصود بإنزال هذا القرآن بل من خلق الله كله فقال مكذبا لهم «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» والكلام المنزل عليه لا يضاهي الشعر لأنه غير موزون بأوزانه. مطلب أوزان الشعر ومخالفة القرآن لها: أن الشعر عبارة عن تخيلات مرغبة أو منفّرة، وهو معدن الكذب ومقر الهزل في كثير من الأحيان ولهذا قيل في مدحه (أعذبه أكذبه) وهو مبني على

ستة أصول (1) سبب خفيف وهو كل حرف متحرك وراءه ساكن مثل من وعن وقد (2) سبب ثقيل وهو كل حرفين متحركين مثل لم بما من (3) وتد مجموع وهو كل حرفين متحركين بعدهما ساكن مثل غزا ورمى وعلا (4) وتد مفروق وهو كل حرفين متحركين بينهما ساكن مثل سار، قال، باع (5) فاصلة صغرى وهي كل ثلاثة أحرف متحركات بعدها ساكن مثل ذهبا خرجا أكلا (6) فاصلة كبرى وهي كل أربعة أحرف متحركات مثل خرجتا، ذهبتا، أكلتا وهو عبارة عن ستة عشر بحرا لكل منها وزن خاص لا يتعداه وله أصول يتقيد فيها كالخبن والجزء. وهو علم خاص له فروع في عروضه وضروبه وقوافيه، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في النثر، ومتى خرم في أصوله ووزنه بشيء لا يسمى شعرا. وهذا القرآن العظيم كله حكم وعقائد وشرائع وأمثال وقصص وأمر ونهي منزه عن الهزل، وكله قول حق وصدق قال تعالى «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» الآيتان 13 و 14 من سورة الطارق المارة وإذا كان منزّها من الهزل فبراءته عن غيره أولى، وليس على أوزان الشعر وقوافيه وأصوله فأين الثرى من الثريا، وأين الثريا من يد المتناول، وإذا لم يكن هذا القرآن شعرا، وهو كذلك، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، لأنه لا ينطق عن الله بغير ما يوحيه إليه، فما يقوله هؤلاء الكفرة وأضرابهم وتلوكه ألسنتهم من الشعر غرضهم منه وصمه صلى الله عليه وسلم بالشعر مع أن ما جاء به ليس بشعر وحاشاه ثم حاشاه «وَما يَنْبَغِي لَهُ» ولا يليق به الشعر. ولا تعلمّه ولا نطق به، لأنه قد يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، وهذا ليس كذلك. والشعر أحسنه المبالغة في الوصف والمجازفة والإغراق في المدح والإفراط بتحسين ما ليس بحسن والتفريط في تقبيح ما ليس بقبيح، وهذا مما يستدعي الكذب أو يحاكيه وجلّ جناب الشارع عن ذلك روي عن عائشة رضي الله عنها وقد قيل لها هل كان النّبي شاعرا يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحه ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود ... ......

أخرجه الترمذي، وفي رواية غيره قالت كان الشعر أبغض الحديث اليه صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم منه إلا ببيت أخي قيس طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هكذا يا رسول الله، فقال إني لست بشاعر ولا ينبغي لي، وروى عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا. فقال أبو بكر يا نبي الله انما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا. أشهد أنك رسول، وتلا هذه الآية وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لان يمتليء جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتليء شعرا وما صح من حديث جندب بن عبد الله أنه قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابه حجر فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت ومن حديث أنس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لهمّ إن العيش عيش الآخرة ... فأكرم الأنصار والمهاجرة وما روى أنه قال: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب فهو من جملة كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق كذلك عفوا من غير قصد الشعرية وان كان موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس ومحاوراتهم ورسائلهم، كلام موزون مقفى يدخل في بحور الشعر وأوزانه اتفاقا، وقد جاء في القرآن العظيم ما هو بوزن شطر منه مثل قوله تعالى: «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ» الآية 21 من سورة طه الآتية وقوله جل قوله: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» الآية 25 من سورة الأحقاف في ج 2 وغيره كثير كما في الآية 14 من سورة النمل، والآية 33 من سورة فاطر الآتيتين. فهل يسمى هذا شعرا؟ كلا، على أن الخليل قال المشطور من الرجز ليس بشعر، وهذا كله من

مشطور الرجز، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت من الأحاديث والأخبار، ولعله قال ذلك بالتفضيل بين شعر وشعر كما قال حين أعجبه شعر أمية ابن الصلت (آمن شعره وكفر قلبه) وكما قال حين سمع قول النابغة: بلغنا السماء بحدنا وسناؤنا ... وانا لنرجو بعد ذلك مظهرا قال له إلى أين قال إلى الجنة يا رسول الله، فأعجبه ولما بلغ في قصيدته قوله: ولا خير في علم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن ... حليم إذا ما أورد الأمر اصدرا قال له لا يفضض الله فاك. قالوا إنه عاش مائة وثلاثين سنة لم يسقط له فيها سن هذا، وان القرآن العظيم امتاز عن كلام البشر بما تقدم، وبنظم آياته على نظام السجع المستمر أو النثر من الشعر وبضرب الأمثال وسوق القصص وتكرارها بغير النسق الأول مع إعطاء المعنى كاملا، وهذا مما يعجز عنه البشر وعدم التزامه أسلوبا واحدا في الأداء والبحث فكما تجد في السورة الواحدة عدة أبحاث تجده في الآية الواحدة أيضا، وكما أن كثيره معجز فقليله معجز، فهو في هذه الحيثية لا يتجزأ كالنور فإنه إذا تجزا لا يخرج عن طبيعته كله لأن جزء النور نور وهكذا القرآن جل منزله. ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 226 من سورة الشعراء نستقصي فيها ما لا بد منه في هذا الشأن إن شاء الله تعالى، ولما نفى جل جلاله أن يكون نبيه شاعرا وأن يكون كلامه شعرا قال «إِنْ هُوَ» أي ما الذي علمناه لحضرة رسوله «إِلَّا ذِكْرٌ» من لدنا أنزلناه عليه ليذكر به عبادنا ويعظمهم به «وَقُرْآنٌ» يقرأه عليهم «مُبِينٌ» 69 ظاهر واضح بأنه ليس من قول البشر ويلقم من تصدى لمعارضته الحجر كتاب سماوي لا مثل لمثله، تحدى الخلق كلهم ليأتوا بسورة مثله فعجزوا، وهو مصوغ صوغا إلهيا يباين كلام الإنسان ويخالف ما في الشعر من أصول وأوزان، موضح للحدود والأحكام، ومبين للحلال والحرام صادر عن حضرة الملك العلام القائل «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 80]

يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» الآية 88 من سورة الاسراء الآتية، فأين هو بعد هذا مما يتقوله المتقولون من مضاهاته للشعر المربوط بأوزان لا يتجاوزها، وبحور لا يتعداها، وهو من همزات الشياطين وأقاويل الكافرين ليمدحوا عليه أو ينالوا به شيئا من حطام الدنيا، إذ كان متعارفا بينهم للمدح والذم المبالغ فيهما، هذا وإنما أنزل الله جل شأنه هذا القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم «لِيُنْذِرَ» بأوامره ونواهيه ويرشد «مَنْ كانَ حَيًّا» قلبه تنجع فيه النذر وتؤثر فيه المواعظ «وَيَحِقَّ الْقَوْلُ» بوجوب العذاب «عَلَى الْكافِرِينَ» 70 الذين لا ينتفعون بالذكرى. ثم شرع يعدد نعمه على خلقه الذين لا يجدر بهم ان يجحدوا كتابه ورسوله لو كان لهم ألباب فقال «أَوَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء المعارضون لرسولنا «أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً» من الإبل والبقر والغنم وغيرها وخص الأنعام، مع أن غيرها مثلها وأحسن كالخيل والبغال والحمير والبراذين التي لا غنى لهم عنها إذ ذاك، لأنها أكثر أموالهم، ولهذا قال تعالى «فَهُمْ لَها مالِكُونَ» 71 يتصرفون فيها كيفما شاءوا أو أرادوا. مطلب آيات الصفات ونعمة إذلال الحيوانات: هذا، وقد سبق أن ذكرنا في تفسير الآية 54 من الأعراف والآية 30 من سورة ق المارتين بان آيات الصفات كهذه الآية مما لم يقطع بتفسيرها، إذ أن السلف أبقوها على ظاهرها وأطلقوا معناها عليه، وتأولها بعض الخلف وقال المتكلمون وبعض أهل الرأي أنه جل شأنه له يد لا كالأيدي ورجل لا كالأرجل وهكذا وهو مما طعن فيه أكثر الخلف لشدة تنزيههم الحضرة الإلهية عن مثله، وكل ما هو من شأن البشر، ولهذا فإنهم أولوا اليد بالقوة والنعمة والقدرة تحاشيا عن ذلك، قال تعالى «وَذَلَّلْناها لَهُمْ» جعلنا هذه الأنعام مسخرة منقادة لخلقنا لتمام الانتفاع بها إذ لو جعلت متوحشة كغيرها من الحيوانات لم يقدروا على ضبطها ولحرموا منافعها وهذا من أكبر نعم الله على خلقه، فانك تجد الطفل المميز

يقود البعير بخطامه ويتابعه حيث أراد، ولولا تذليله لعجز عنه الجماعة ولأتلف بضربة من رأسه الطائفة من الناس فله الحمد والشكر على هذا التسخير «فَمِنْها رَكُوبُهُمْ» عليها بسبب تذليلها وحملها الأثقال «وَمِنْها يَأْكُلُونَ» 72 الرجل يذبح الثور والجمل فيأكل ويبيع ويهدي من لحمه وشحمه، ولولا تسخير الله لما تمكن من ذلك «وَلَهُمْ فِيها» غير الركوب والحمل «مَنافِعُ» كثيرة من أوبارها وأشعارها وصوفها وجلدها لباسا ومن نسلها قنية وتجارة إذ يبيعونها ويشترون بثمنها لوازمهم ويستكثرون بها مما يجب الشكر والحمد لمذللها «وَمَشارِبُ» من حليبها ولبنها وزبدها وسمنها وجبنها ولباها واقطها ومخيضها أكلا وشربا وبيعا وادخارا «أَفَلا يَشْكُرُونَ» 73 هذا الرب الكريم على إنعامه هذا عليهم، فضلا عن باقي نعمه التي لا تعد ولا تحصى، قال صلى الله عليه وسلم اتقوا الله لما يغذوكم به. أي إن لم تتقوه لنعمة الحياة والسمع والبصر وبقية الجوارح والحواس وخوف المرض والفقر والعذاب فاتقوه على الأقل لنعمة الأكل والشرب واللبس التي لولاها لهلكتم، إذ فيها قوامكم فهذه كلها نعم من الله تعالى يجب عليكم شكرها فما بالكم تقابلونها بالكفر وتنكرون نعمها «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» من صنع أيديهم من الأحجار والأخشاب وعبدوها «لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» 74 إذا أضربهم أمر من خوف وجدب أو حلّ بهم ضر من مرض وفقر كلا «لا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة «نَصْرَهُمْ» على غيرهم لأنها عاجزة عن نصر نفسها لأنها من صنعهم بدليل قوله واتخذوا «وَهُمْ» هؤلاء الكفرة الراجون من هذه الآلهة المزيفة نصرا ويعبدونها من دون الله مع علمهم أنها لا تضر ولا تنفع ولا عن أنفسها شرا تدفع ومع هذا تراهم «لَهُمْ جُنْدٌ» أعوان لأوثانهم وخدم «مُحْضَرُونَ» 75 مهيئون يحمونها ممن يتعدى عليها ويرجون خيرها ويخافون شرها ولا ينظرون لخالقهم ورازقهم وحافظهم فيا سيد الرسل اتركهم الآن واصبر عليهم «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» بانك ساحر أو كاهن أو شاعر

مطلب تفنيد من كفر القارئ انا بالفتح:

وان كتابك سحر وشعر وكهانة، ووصم ربك بالشريك والولد والصاحب «إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ» لبعضهم ويكنون في قلوبهم من العداء لك والحسد على ما خولك ربك والحرص على إهلاكك «وَما يُعْلِنُونَ» 76 في ذلك كله وتسافههم عليك وعكوفهم على عبادة أصنامهم على مرأى منك، واتهامك بالكذب، وتهديدك بالجلاء والقتل، وغير ذلك مما نحن عالمون به قبل إظهاره لك. واعلم يا أكمل الرسل أنا مجازوهم على ذلك كله لأنهم بوصمك هذا يكذبون الذي أرسلك ويجحدون آياته. راجع تفسير الآية 32 من سورة الأنعام في ج 2، ولذلك فإنا نجعل كيدهم في نحرهم وننصرك عليهم وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على بصير وفيها أيضا وعد وتسلية من الله لرسوله ليقشع عنه ما لحقه من هم وحزن من قومه بسبب تقولاتهم هذه وإصرارهم على الكفر والتكذيب ورميهم له بما لا يليق بجنابه وليس في هذه الآيات ما ينم على حزنه نفسه بسبب ما تابه من أذاهم وإهانتهم وإنما على عدم قبولهم الايمان ورفضهم كتاب الله وإنكارهم رسالته وجحدهم الإله الواحد لأنها على حد قوله تعالى «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» الآية 88 وقوله ولا تدع مع الله إلها آخر الآية 89 من سورة القصص الآتية ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لا يظاهر الكافرين ولا يكون من المشركين ولا يدع مع الله إلها وان المخاطب فيها على الحقيقة غيره وانما خاطبه بها لإلهاب القلوب وركونها إلى المحبوب وجنوحها عن الأغيار وميلها عن مصاحبة الأشرار ولهذا البحث صلة في تفسير الآيات المذكورة إن شاء الله تعالى. مطلب تفنيد من كفر القارئ انا بالفتح: قال بعض المفسرين من قرأ انا هذه بالفتح فسدت صلاته وإذا اعتقد معناها كفر، وهو قول مبالغ فيه فلو اقتصر على تخطيئه أو غلطة لكان الأمر فيه ما فيه ولكن الكفر أمر عظيم لا يليق أن يجنح إليه عالم ما وجد مخرجا لعدم تكفير المسلم لأنه إذا وجد لمن يصدر عنه قول ظاهره الكفر احتمالا ما، يجب صرفه لهذا الاحتمال إذ لا يجوز تكفير المسلم حتى أن العلماء رحمهم الله قالوا إذا وجد قول

بعدم التكفير وتسع وتسعون قولا بالتكفير، يصار إلى عدم التكفير، وهنا يمكن حمل الكلام على حذف لام الفعل أي لأنا نعلم، ومثله كثير في القرآن وفي غيره أكثر، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا إذ يقول أن الحمد والنعمة لك بفتح الهمزة من أن وقد قرأها الشافعي رضي الله عنه بالفتح وأبو حنيفة بالكسر ولكل منهما تعليل وتوجيه لانه إذا قرأتها بالفتح على أنها بدل من قوله «فَلا يَحْزُنْكَ» بحيث يكون المعنى فلا يحزنك علمنا ما يسرون وما يعلنون ففساده ظاهر لان هذا لا يحزنه بل يسره وفيه ما فيه وهذا المعنى يكون مع كسر إن أيضا إذا جعلتها مفعولة للقول أي كلمة قولهم لأن المصدر يعمل عمل فعله وعليه فيظهر من هذا أنه تعلق الحزن يكون الله عالما به وعدم تعلقه بذلك لا يدوران على فتح انا وكسرها وانما يدوران على تقديرك أنت أيها المتفحص وعليك أن تفعل فان فتحت انا قدرت معنى القليل لا معنى البدل لأن فيه الفساد كما علمت، وان كسرتها أي همزه إنا تفصل أيضا بأن تقدر معنى التعليل لا المفعولية وبهذا ننجو من الخطإ والفساد. وليعلم القائل بالتكفير بان المسلم لا يكفر إلا بجحد ما يجب الإيمان به قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ» منكر البعث وهو أبي بن خلف الذي نزلت فيه الآية حينما أخذ عظما باليا من الأرض وقال يا محمد أترى ربك يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال نعم ويبعثك ويدخلك جهنم. وانما أغلظ عليه في هذه الجملة لأنه صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه وانما إذا انتهكت حرمات الله أو استهزأ بها كما هنا يغضب ويشتد غضبه ولهذا قال له ما قال وقيل أن القائل العاص ابن وائل وقيل غيره إذ يجوز أن تكون الآية واحدة لأسباب كثيرة وعموم لفظها لا يقيدها بمن نزلت فيه لأن لا عبرة بخصوص السبب فضلا عن أن الإنسان جاء معرفا بأل الجنسية فتشمل الواحد والمتعدد من جنس الإنسان ويجوز أن تكون أل فيه للاستغراق فيراد بها كل فرد من أفراد الإنسان أي أو لم يبصر هذا الساخر «أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ» زهيدة حقيرة وسويناه رجلا كاملا منها «فَإِذا هُوَ» بعد خلقنا له إعطائه القوة والعقل «خَصِيمٌ» لنا بما أنعمنا به عليه من الخلق والرزق «مُبِينٌ» 77

مطلب خلق النار من الشجر وكيفية أمر الله:

في خصومته معلن لها يجادلنا بالباطل وينكر علينا إعادته كما بدأناه ولا يتفكر في كيفية إنشائه وما كان عليه من الضعف في قواه وجوارحه (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا) بالعظم البالي وبغتة لرسولنا جاحدا قدرتنا على احيائه كما كان «وَنَسِيَ خَلْقَهُ» من تلك النطفة اليسيرة وتصييره تدريجا هيكلا عظيما على أحسن صورة وأبلغ خلقة مما هو أعظم وأقرب من إحياء العظم البالي فلان يتعجب في ماهيته وأدوار حياته وإعطائه القوة بعد الضعف والنطق بعد البكم أولى من أن يتعجب من احياء العظم وما إعادته بأهون علينا من بدايته وما بدايته بأهون علينا من إعادته ان كان له حجى يعقل به أو نهى يتدبر به أو لب يتذكر به. ثم ذكر مقالته القبيحة بقوله الحسن الجليل العظيم «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» 78 أو لا يذكر هذا الحيوان أن الإعادة أهون من الإبداع لأن الله خلق الإنسان على غير مثال سابق فبالأحرى أن يعيده على مثل ما خلقه عليه وانه خلقه من التراب وانه مهما بلي ورمم: لا يصير الا ترابا فيخلقه منه كما بدأه قال تعالى «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» الآية 28 من الأعراف المارة ثم التفت الى حبيبه فقال يا أكمل الرسل «قُلْ» لهذا السائل «يُحْيِيهَا» أي العظام البالية وغيرها «الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» قبل أن تكن شيئا وبعد أن كانت فمن باب أولى فانه يعيدها كما كانت «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» 79 ليس خلق الإنسان فقط الذي لا تخفى عليه أجزاؤه المفتتة المتفرقة ولا يعجزه جمعها من البر والبحر وبطون الوحوش والهوام والحيتان والطيور ولا كيفية إعادتها على خلقها لأنه عالم بذلك على التفصيل وهو قادر على ما يعلم وقادر على إعادة كل ذرة لجسدها سواء كان إنسانا أو غيره لا يتعاظمه شيء ولا يعزّ عليه شيء مما تتصوره العقول البتة، - راجع تفسير الآية 53 المارة- واعتقد ولا تستكثر على الإله شيئا أبدا ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 259 من سورة البقرة في ج 3. مطلب خلق النار من الشجر وكيفية أمر الله: كيف يتصور وهو الإله القادر الجبار «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ

[سورة يس (36) : الآيات 81 إلى 83]

الْأَخْضَرِ ناراً» تنتفعون بها منافع جمة لا تحصى «فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ» أيها الناس «تُوقِدُونَ» 80 للتوضئة والطبخ وتليين المعادن وتقويتها وصنعها فالإله الذي يقدر على جمع الماء والنار في الشجر وهما ضدان ألا يقدر على إعادة ما خلقه كما خلقه بلي والعجز من شيمة وصفة المخلوق لا الخالق، واعلم انما ضرب الله تعالى المثل بالنار لما كان في علمه أنه ينشأ منها ما لم يكن يعرف قبلا، فقد نشأ منها القوى الكهربائية التي هي أعظم قوة وقف عليها البشر حتى الآن، وهي جامعة بين الأضداد كالحرارة والبرودة، والجمع والتفريق، والحركة والسكون، فهي العامل الوحيد الآن لأكثر لوازم الإنسان والحيوان، وما ندري ما ينشأ عنها بعد، فتفكروا أيها الناس في آلاء الله تعالى تفتح أبصاركم وتنور بصائركم لمعرفة مكنونات ربكم في هذه الأرض التي أمر نبيكم بالتماس خباياها وفي عجائب مصنوعاته في السماء التي جعل فيها رزقكم وما وعدكم به. قال ابن عباس: أراد الله تعالى في هذه الشجر شجرتي المرخ والعفار الموجودتين في أرض الحجاز فمن أراد إذكاء النار قطع منها غصنين فيسحق المرخ على العفار فتخرج منها النار وهما خضراوان يقطران الماء، ولهذا تقول العرب في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار أي استكثر منها، هذا خلق الله أيها الناس وخلق السموات والأرض أكبر من خلقكم، فالذي يفعل هذه الأشياء إبداعا ألا يقدر على إعادة خلقكم من رميمكم البالي كما بدأكم؟ ثم ذكر مثلا أعظم من الأول فقال «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» بما فيهما من جبال وأودية وبحار وأنهار وكواكب وشموس ومناسك وبروج «بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» لأنهم بالنسبة لذلك لا يعدّون شيئا، قل أيها الإنسان قسرا «بَلى» قادر على أكثر من ذلك «وَهُوَ الْخَلَّاقُ» الموجد لأنواع المخلوقات العظيم «الْعَلِيمُ» 81 بكيفية خلقها أولا وإعادتها ثانيا لا يعجزه شيء ولا يحتاج في تكوينها إلى شيء من عقاقير ومحللات ومركبات. واعلم أيها الكامل «إِنَّما أَمْرُهُ» في الإيجاد «إِذا أَرادَ شَيْئاً» يوجده «أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 82 حالا كما أراد لا محالة بين الكاف والنون، وكذلك إذا أراد إعدام شيء أعدمه

بقول كن أيضا، لا فرق عنده فيهما، هذا وقد عبر جل تعبيره عن إيجاد الأكوان بقول كن، من غير ان كان منه كاف ونون لسرعة الإيجاد، فكأنه جلّت قدرته يقول كما أنه لا يثقل قول كن عليكم أيها الناس فكذلك لا يثقل عليّ إبداء الخلق وإعادتهم، وهو يمثل لنا لتأثير قدرته تعالى في مراده بالأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء، وإذا نظرت إلى قوله تعالى «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» الآية 40 من سورة النمل الآتية عرفت بعض قدرة ذلك الرب العظيم على كل عظيم بأقل من لفظ كن والظاهر من الآية أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن، وإليه ذهب معظم السلف، وذهب غيرهم إلى أن لا قول أصلا، وقال بعض العلماء إن هناك قولا نفسيا، والأحسن أن تضرب عن هذه الأقوال صفحا لأن شؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام، فلا تشغل نفسك أيها العاقل العارف بمثل هذا الكلام وقل «فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» من كل شيء يتصرف به كيفما يشاء ويختار، وقد زيدت الواو والتاء في لفظ ملكوت للمبالغة كما زيدت في جبروت ورحموت في مبالغة الجبر والرحمة وقد أشرنا في تفسير الآية 18 الأعراف إلى ما يتعلق بهذا فراجعه. «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 83 أيها الناس بعد الموت كسائر خلقه لا محيد لكم عنه. أخرج الامام أحمد وأبو داود والنسائي وغير عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يس قلب القرآن. وأخر أبو النصر السنجري في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند الله ويدعى صاحبها (حافظها الشريف عند الله تعالى، يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول صلى الله عليه وسلم قال سورة يس تدعى في التوراة المعمّة تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة أي تدفع وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضى له كل حاجة واخرج الخطيب عن أنس مثله وعن معقل بن يسار قال قال صلى الله عليه وسلم: اقرأوا على موتاكم يس أخرجه أبو داود وغيره. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

تفسير سورة الفرقان عدد 42 - 25

تفسير سورة الفرقان عدد 42- 25 نزلت بمكة بعد سورة يس وهي سبع وسبعون آية، وثلاثمائة واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثون حرفا، ويوجد في القرآن سورتان مبدوءتان بلفظ تبارك هذه وسورة الملك، ومنها الآيات 68 و 69 و 70 نزلن بالمدينة، وما قيل إنها نزلت في مسجد قباء بالمدينة لا صحة له، وإنما قرأها صلى الله عليه وسلم بالمدينة، عند هجرته إليها كسائر السور التي نزلت بمكة للاطلاع عليها والتقيد بما فيها من أمر ونهي وغيره. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «تَبارَكَ» علوه وتعالى عزّه وتعاظم مجده، وتسامى جلاله، وتكاثر خيره، وتعمم عطاؤه وبره، وتنزه عن صفات خلقه جنابه، وتبرأت عن كل نقص حضرته، واعلم أن فعل تبارك وتعالى لا يسندان لغيره عز وجل ولا ينصرفان غالبا لمشابهتهما اسم الفعل، وكرر في الآيتين 10 و 61 منها، وفي الآية 35 من الأعراف المارة، وفي الآية 43 من الزخرف وفي الآية 63 من المؤمن وفي الآية 14 من المؤمنين في ج 2 وفي الآية 78 من من سورة الرحمن، وأول تبارك الملك في ج 3. قال الحسن معناه تزايد خيره وتكاثر عطاؤه، وذلك لأنه مأخوذ من البركة لمجمع الماء ولذلك قالوا: معناه دام لدوام الماء فيها عند كبرياء «الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» الفارق بين الحق والباطل ولفظه يدل على الكثير، لأنه مصدر فرق فرقا، وهذا فرقان، وزيادة المبني تدلّ غالبا على زيادة المعنى، والفرق الفصل بين الشيئين بما يدركهما البصر أو البصيرة وقيل إذا كان بين الأجسام يقال تفريق، وإذا كان بين المعاني يقال فرق. والمراد به القرآن العظيم بدليل قوله جل علاه «عَلى عَبْدِهِ» محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أحب أسمائه إليه ولهذا كرره في سورة الكهف وفي الآية 36 من سورة الزمر في ج 2 وفي الآية 10 من سورة الحديد والآية 23 من البقرة والآية 41 من الأنفال في ج 3 وفي الآية 10 من سورة النجم والآية 19 من سورة الجن المارتين. وقد

أضيف إلى ضمير المتكلم والغائب وإلى اسم الكريم إضافة تشريف، ولا شك أن العبودية أفضل من العبادة لبقائها في الآخرة، وإنما أنزلنا على عبدنا هذا القرآن «لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» 1 محظرا ومخوفا وزاجرا ومحذرا من سوء العاقبة لمن لم يؤمن به في العالمين أجمع أحمرهم وأخضرهم، أسودهم وأبيضهم، إنسهم وجنهم، لان أل فيه للجنس، فيعم جميع أفراده، وفيها دليل قاطع لا يحتمل التأويل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل برسالة عامة للخلق كافة خلافا لما يقوله من لا ثقة به من أن رسالته خاصة بالعرب. وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية 158 من سورة الأعراف وله صلة في تفسير الآية 28 من سورة سبأ في ج 2، وتدل هذه الآية صراحة على أنه مرسل لجميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم. وقرأ ابن الزبير للعالمين بالتثنية، يريد الإنس والجن وقراءتها بالجمع أحسن، وعليها المصاحف. وفي تقديم الجار والمجرور على المتعلق تشويق للسامع بانتظار ما بعده، ومراعاة لفواصل الآي، لأن أكثرها جاءت على نسق واحد في هذه السورة كالإسراء وطه ومريم الآتيات والقمر والمرسلات المارتين وسورة الرحمن والإنسان في ج 2. ثم وصف نفسه تعالت نفسه بقوله «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يتصرف فيهما وفيما بينهما وما فوقهما وتحتهما كما يريد ويختار، لا ينازعه فيها أحد إذ الكل تحت قبضته. واعلم أن لفظ الملك يطلق على الأرض، والملكوت على السماء، وما فيهما على الانفراد، وفي حالة الجمع كما في الآية 75 من سورة الأنعام ج 2 والآية 174 من سورة الأعراف المارّة، ويجوز استعمال أحدهما مكان الآخر، راجع تفسير الآية 89 من سورة الأنبياء في ج 2 «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» كما يقوله الظالمون لعدم حاجته إليه «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» يعاونه على تدبيره أو لا يعاونه، لأنه العظيم المدبر له وحده الجليل المنفرد في أمره الرحيم المستقل بشؤونه. وفيها ردّ على من يقول من العرب واليهود والنصارى بأن الملائكة وعزير والمسيح أبناؤه، وعلى التنويه القائلين بتعدد الآلهة وبأن خالق النور غير خالق الظلمة، وخالق الخير غير خالق الشر، تعالى الله في ذلك وتنزه

«وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» من المكونات الأرضية والسماوية «فَقَدَّرَهُ» هيأه لما يصلح إليه، وما يليق به وما يكون منه «تَقْدِيراً» 2 بديعا لا يبلغ كنهه أحد سبحانه خلق ووفق وسوى وهيأ لكل حيوان وشيء ما يناسبه ويحتاجه وقدر سائر مخلوقاته، وأحسن كل شيء خلقه، وهداه لما يحتاجه ويسر له ما يلزم، فهيأ للإنسان الفهم والإدراك والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد واستنباط الصنايع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة، وجعل له فكرا واسعا كلما استعمله انصقل وازداد في المعارف الكونية، وهكذا سائر مخلوقاته يسرها لمنافعها ، وسهل عليها ما تحتاجه «وَاتَّخَذُوا» مع هذا كله «مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» من الجماد والحيوان ومما صنعته أيديهم «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» البتة إنسانا ولا حيوانا ولا جمادا «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» من قبل عبدتهم لأنهم ينحتونها ويصوغونها ويصورونها وينجزونها بأيديهم وهم مخلوقون بخلقنا، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 91 من الصافات الآتية «وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» فعجزهم عن نفع وضر غيرهم من باب أولى، لأن من لا يستطيع أن يحفظ نفسه فكيف يدافع عن غيره «وَلا يَمْلِكُونَ» كرره تأكيدا لبيان عجزهم وضعفهم «مَوْتاً» لأحد في الدنيا لأنهم ميتون فيها «وَلا حَياةً» لمن يموت في الدنيا «وَلا نُشُوراً» 3 في الآخرة ليحيوا فيها حياة دائمة في الجنة، فالإله الذي يستحق العبادة هو من يقدر على أن يميت في الدنيا، ويحيي في الآخرة من يميته، وينعمه بالجنة إذا كان صالحا، ويعذبه بالنار إذا كان كافرا، فالذي لا يقدر على شيء من هذا كالآلهة المتخذة، يجب أن تهان وتداس لأنها لا ترضي ولا تخشى، فكيف يليق أن تكون آلهة فأعرضوا أيها الناس عن هذه الأوثان، واعبدوا الإله القادر على كل شيء الفعال لما يريد، مالك الملك والملكوت، المنصرف به إيجادا وإعداما، النافع الضار، المحيي المميت الذي يؤمل خيره ويخشى ضره ويحذر شره «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ» ما «هَذا» الذي يتلوه عليكم محمد ويحسنه لكم ويرغبكم فيه ويأمركم باتباعه على أنه كلام الله ما هو «إِلَّا إِفْكٌ» كذب محض «افْتَراهُ» اختلقه من تلقاء نفسه واخترعه من تصوراته

وليس كما يزعم أنه كلام الله أنزله عليه، كلا وإنما زوره هو «وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» يعنون عدّاسا وعايشا مولى حويطب بن عبد العزّى ويسار مولى العلاء ابن الحضرمي وجبر مولى عامر، لأنهم من أهل الكتاب يحسنون قراءة التوراة والإنجيل والزّبور، وكان صلى الله عليه وسلم يتعاهدهم رأفة بهم، لا أنه يتعلم منهم، فهم أعجز من أن ينطقوا بآية من القرآن لأنهم أعاجم، وقال المبرد عنوا جماعة من المؤمنين، لأن لفظ آخر لا يكون إلا من جنس الأول، وقد غفل عن أن الاشتراك في الوصف غير لازم، ألا يرى قوله تعالى (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) الآية 13 من سورة آل عمران في ج 3، فإن الأخرى فيها ليست من جنس الأولى من حيث الوصف، مما يدل على أن اللزوم الذي ذكره غير لازم كلزوميات المعرّي إذ سماها لزوم ما لا يلزم، وذلك أنه ألزم على نفسه فيها أن يكون حرف الرويّ وما قبله من جنس واحد من كل ما نظمه هناك، وهو غير لازم في أصول الشعر. وما قيل إن المراد بهم اليهود فغير صحيح، لأن اليهود لم يجالسوا الرسول في مكة، وكل ما وقع منهم معه في المدينة وهذه السورة مكية عدا الآيات المستثنيات الآتية وهذه ليست منها، وقال جل المفسرين إنها نزلت في النضر بن الحارث بن عبد الدار وجماعته رؤوس الكفر القائلين إن هذا القرآن ليس من عند الله وإنما هو من نفس محمد وأعوانه، فأكذبهم الله بقوله «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً» لجعلهم العربي الفصيح يتلقن من الرومي والبربري، وكلام الله أعجز البلغاء بيانه وأفحم العقلاء معناه، وهؤلاء لا يقدرون على فهمه فضلا عن تعليمه فما جاءوا به تعسفا «وَزُوراً» 4 لاتهامهم حضرة الرسول بنسبه ما هو بريء منه، كما هو منزه عما وصموه به من السحر والكهانة وشبهها في آيات أخرى «وَقالُوا» أيضا ما هذا القرآن إلا «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» خرافاتهم «اكْتَتَبَها» عن غيره «فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» 5 صباح ماء ليحفظها خفية قبل أن ينتشر خبرها بين الناس، وبعد انتهائه من كتابتها صار يتلوها علينا ويقول إن الله أوحاها إليه. واعلم أن هذه وأشباهها مما فيها لفظ أساطير الأولين

قد قال فيها ابن عباس إنها من جملة ثمان آيات في معناها، نزلت في النظر المذكور أعلاه ويراد بها أخبارهم البالية غير المخطوطة المحققة، كما تقول الآن عند ما تسمع حكاية غير معقولة هذه خرافة وإسرائيلية، أي لا قيمة لها لعدم الجزم بصحتها لانها لم تنقل عن حديث صحيح وسند حسن، ولهذا أمره الله بأن يردّ عليهم بقوله عز قوله «قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ» كل أمر خفي عن القلب فضلا عن غيره مما هو «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ومما تسرونه أنتم وليس كما تزعمون وتقولون «إِنَّهُ كانَ غَفُوراً» دائم المغفرة أزلا وأبدا «رَحِيماً» 6 مستمر الرحمة لعباده لا يعجل العقوبة ويمهل عباده علهم يتوبوا ويرجعوا، ولا يهمل من بصر على كفره، وأحب شيء إليه رجوع عبده إليه، فقد جاء عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) - رواه الشيخان والترمذي-. أما الذي لا يتوب ومات على كفره فقد أعد له من العذاب ما لا تقواه قواه، والمعنى أن الذي أتلوه عليكم أيها الناس هو كلام الله، فمن اتبعه أوصله إلى الجنة، ومن كفر به أدى به كفره إلى النار، فآمنوا به لعلكم تفوزون في الدنيا والآخرة «وَقالُوا» أيضا مدعمين أقوالهم الواهية المارة بما هو أوهى منها وهو «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ» كما نأكل «وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» كما نمشي يبتغي الرزق مثلنا فمن كان رسولا يجب ان يكون ملكالا بشرا مثلنا يأكل ويتطلب الرزق ويحتاج إلى البشر «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ» ردا له إذا لم يكن هو ملكا، وهذا على زعمهم أنهم نزلوا إلى درجة أدنى مما قبلها والحال أنها أكبر «فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» 7 للبشر ليصدقه في قوله ويقويه في أمره ثم تنزلوا إلى ما هو أدنى أيضا بوهمهم فقالوا أو يلقى إليه كنز من السماء يكتفي به عن السعي كآحاد الناس إذ لا يليق بمن يدعي هذه الدعوة أن

مطلب اجتماع أشراف قريش مع حضرة الرسول.

يساوي الناس، بل يجب أن يتنزه عن مضاهاتهم في المأكل والمشرب والملبس والعمل، ثم تنزلوا عما هو أقل من ذلك كله «أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» على الأقل فيسدّ بها حاجته ويمتاز بها عما من شأن الغير وهم يعلمون أنه ما احتاج قط إلى غيره منذ نشأته بينهم إلا لربّه «وَقالَ الظَّالِمُونَ» وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم في قولهم «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» 8 مخدوعا مجنونا وقد وصموه بهذا بعد أن وصموه بالشعر والكهانة ووصموا كلام الله بأنه مفترى، وأنه من أساطير الأولين، وانه تعلمه من الغير وانه مملى عليه، إلى غير ذلك. مطلب اجتماع أشراف قريش مع حضرة الرسول. أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود ابن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية ابن خلف والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابني الحجاج، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه إذا لم يقبل منكم ما تعرضو عليه من الأمر، فبعثوا إليه ان أشراف قومك اجتمعوا ليكلموك فاحضر، فجاء ولما استقر به المقام، قالوا يا محمد، إنا بعثنا إليك لنعتذر منك، فان كنت إنما جئت بهذا الأمر تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنانا وإن كنت تطلب الشرف نسوّدك بأن نجعلك سيدا علينا، وان كنت تريد الملك أيضا ملكناك علينا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لي مما تقولون ما جئنكم بما جئنكم أطلب أموالكم أو الشرف فيكم أو الملك عليكم، ولكن الله بعثني رسولا إليه وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون بشيرا بجنته ورضاه إن أطعتم، ونذيرا من سخطه وعذابه إن أبيتم، وإني بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئنكم به فهو حظكم بالدنيا والآخرة، وان تردّوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم بيني وبينكم. قالوا يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه

عليك فاسأل لنفسك ربّك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، أو سله أن يجعل لك كنزا أو جنة تغنيك عما تبتغي حتى نعرف فضلك لديه، ومنزلتك عنده، إن كان ما تزعمه صحيحا، لأنه لا يجدر بك وأنت على دعوتك هذه أن تمشي بالأسواق وتلتمس المعاش مثلنا فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه، وما بعثت إليكم بهذا، وما أنا إلا بشر مثلكم. فتفروا منه وقالوا ما قالوا قال تعالى «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» التي لا علاقه لها بالرسالة ولا فائدة لهم بها فضلا عن أنها غير معقولة «فَضَلُّوا» بها طريق الهدى ومنهج الصواب «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» 9 يخرجون منه لضعف حجتهم، ولا يقدرون أن يستدلّوا بدليل على ما قالوه وان ما وصموك به لا حجه لهم به ولا برهان كما انهم لا طريق لهم للرشد فلا يؤمنوا بما انزل إليك ولا يقدرون على مباراتك، وإنا نعلم قولهم هذا كما نعلم جوابك لهم القاطع لقلوبهم قبل أن تقوله لهم «تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ» يا سيد الرسل «خَيْراً مِنْ ذلِكَ» الذي عرضه عليك قومك وخيرا مما اقترحوه عليك وكلفوك بقبوله «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» دائمة مستمرة في جنان الدنيا والآخرة، لا جنة فانية مثل جنان هذه الدار «وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً» 10 بديعة من صنعه لا من صنع خلقه، عظيمة يعجز عن إنشاء مثلها البشر أجمع مثل قصور الآخرة، وهو قادر على أن يجعل لك ذلك كله في الدنيا، ولكن لا يريده لك فيها، بل إنه هيأها لك، خبأها للدار الآخرة، وذلك لعلمه جل علمه أنه صلى الله عليه وسلم غير ميّال إلى الدنيا وزخارفها، لذلك قال إن شاء، وإلا لكونها له حال سؤالهم له. يدل على هذا ما جاء عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك. وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو شئت «ما كلفني به ربي» لسارت معي جبال مكة ذهبا، جاءني ملك ان حجزته تساوي الكعبة «مقعد

[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 إلى 20]

إزاره أو موضع التكة في السروال وهو كناية عن عظمته لأنه إذا كان ذلك منه يساوي الكعبة فكيف بجثته؟ وهو بضم الحاء وسكون الجيم وفتح الزاي أو بفتحها معناه الظلمة أو الذين يحولون دون المتنازعين يمنعون التعدي «ويفصلون بينهم بالحق» فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام وبقول إن شئت نبيّا عبدا وإن شئت نبيّا ملكا، فنظرت إلى جبريل فأشار إليّ أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا، يقول أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد. ذكر هذين الحديثين البغوي في سنده قال تعالى «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ» وهي حق ثابت وقد جحدوها وهذا أعظم مما وصموك به لأنه ليس بشيء بالنسبة لانكار وجود القيامة وإعادة الأجساد إلى ما كانت عليه، وعليه فان ما قالوه لك ليس بعجيب، لاتيانهم بأعجب منه وهو جحودهم الآخرة التي أمرناك أن تهددهم بها «وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» 11 لأن تكذيبك بها تكذيب لنا قال تعالى «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» الآية 30 من سورة الأنعام في ج 2 وقد هيّأنا لهم هذه النار التي لا تنطفيء لبعد مداها وكثرة وقودها بأمثالهم «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» بمرأى الناظرين أمثالنا ولا يقال كيف تراهم وهي ليست من أصحاب الرؤية لان الذي سعرها قادر على خلق الرؤية فيها فتراهم من مسيرة أعوام، لأنها تشرف لأهلها، أو ان رأتهم بمعنى قابلتهم فتكون بمرأى منهم وإذا رأوها فكأنها رأتهم، قال تعالى «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» الآية 91 من سورة الشعراء الآتية والمعنى أنها لا تخفى على أحد وقريء تراهم أي زبانيتها ولا مندوحة فيه «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً» 12 غليانا شديدا وصوتا من تلهبها غير صوت تغيظها من توقدها يشبه الغليان بالغيظ بجامع علو الصوت في كل لأن الغضبان يرتفع صوته لحرارة الغضب في جوفه والغليان له صوت يسمع أيضا لحرارة النار والزفير خروج النفس بشدة، ضد الشهيق الذي هو نزوله بشدة أيضا قال عبيد بن عمير تزخر جهنم يوم القيامة زخرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل

مطلب لمعة من أسباب النزول:

إلا خرّ على وجهه لهول ما يسمع ويرى فيا ويل أهلها، ويا سعادة من زحزح عنها اللهم أجرنا منها وأبعدنا عنها «وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً» شديدا لعذابهم إذ فيها مواقع ضيقة وأخرى واسعة ومتوسطة ولكل منها ناس «مُقَرَّنِينَ» بالسلاسل مصفدين بالحديد بجوامع تجمع بين أيديهم وأعناقهم قال ابن عباس: تضيق عليهم كما يضيق الزج بالرمح، والكرب مع الضيق أشد منه مع السعة كما أن الروح مع السّعة أروح منه مع الضيق «دَعَوْا هُنالِكَ» في ذلك المكان الضيق الهائل منها تمنوا أن يصيبهم «ثُبُوراً» 13 هلاكا قاضيا عليهم ليتخلصوا مما هم فيه وأشد من الموت ما يتمنى معه الموت، وأول بعض المفسرين دعوا ينادوا، أي قالوا يا هلاكاه والأول أولى. أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على صاحبه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه، ويقولون يا ثبورهم، حتى يقف على النار فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم، وفي بعض الروايات: أول من يقول ذلك إبليس، ثم يتبعه أتباعه. وظاهره شمول الاتباع كفرة الإنس والجن. مطلب لمعة من أسباب النزول: قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي جهل خاصة مع ان هذا الحديث يفيد أنها في إبليس وأتباعه ولا يخفى أن الآية عامة فدخل فيها إبليس وأبو جهل وأتباعهما وغيرهم ممن قدر عليه ان يعذب فيها فلا تختص فيمن نزلت فيهم إذ لم يوجد ما يقيدها أو يخصصها في أبي جهل أو إبليس أو غيرهما ويعلم أن جل الأقوال الواردة في أسباب النزول منشأوها موافقة الآية، لمن جعلوها نازلة فيه أو تلاوتها عند ما يناسبها، وان مطلق التلاوة لمطلق سبب مناسب للآية لا يكون سبب النزول كما ان الموافقة لا تكون مدارا للتخصيص، وإنما المخصص هو منزل الآيات، فما وجدنا فيها صريحا في ذلك أو صريحا من قول المنزل عليه صرفناه إليه، وإلا لا لأن غالب كلام الله عام والماضي منه قليل، وذلك لأن القرآن العظيم لم يخص الله

تعالى به زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقط بل عام لكل الأزمان وموافق لكل العصور ومطابق لجميع الدهور، بخلاف الكتب المتقدمة لأن لها حدا بنزول ما بعدها غالبا، والقرآن خاتمه الكتب الإلهية، وقد أنزل على خاتم النبيين، فهو صالح لكل أوان لآخر الدوران، جعلنا الله من المتمسكين به العالمين بما فيه المنتفعين بأوامره ونواهيه قال تعالى «لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً» من هول النار وكنتم تجحدونها «وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» 14 لا غاية له فليس بنافع دعاؤكم اليوم لأنكم لم تنتفعوا بدعاء الرسل أمس قال تعالى «فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» الآية 50 من سورة المؤمن فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الذين لا ينظرون عاقبة أمرهم «ذلِكَ» المذكور في العذاب الموصوف بالسعير الموعود به المكذبون «خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» بها المصدقون بما جاءكم به رسلهم من الله «كانَتْ لَهُمْ» بمقابل تصديقهم الرسل وامتثالهم أوامرهم «جَزاءً وَمَصِيراً» 15 لهم الآن في الآخرة، وجاء بلفظ الماضي بدل المضارع المناسب الإخبار بالمستقبل لتحققه، لأن وعد الرسل من وعد الله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) الآيتين 87 و 122 من سورة النساء في ج 3 (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية 111 من سورة التوبة «لَهُمْ» أي أولئك المنقون «فِيها ما يَشاؤُنَ» مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من كل ما يخطر بالبال في الآخرة، لأن بالهم الدنيوي بعيد عن تلك الخطرات الأخروية لأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فخطرات الآخرة غير خطرات الدنيا وبينهما ما بينهما «خالِدِينَ» في نعيمها دائمين دائبين إذ لو انقطع لكان مشوبا بشيء من الغم والآخرة لا غم فيها لأنه غير منقطع، قال: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا وقد «كانَ» وجود ما يريدونه فيها «عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» 16 عنه للطائعين الذين كانوا يقولون في الدنيا (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) الآية 194 من آل عمران والاستفهام في صدر الآية المفسرة تقريري يفهم جوابه من المقام لأن

مطلب استعمال من لمن لا يعقل وما لمن يعقل وبراءة المعبودين من العابدين:

انعدام الأخيرية في النار معلوم، والقصد توبيخ الكفرة المقصودين بالآية السابقة وأمثالهم وتقريعهم على ما هم متلبسون به، قال تعالى «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» كالملائكة وعيسى بن مريم وعزير عليهم السلام والإنس والجن والأوثان والشمس والقمر والكواكب والحيوان. مطلب استعمال من لمن لا يعقل وما لمن يعقل وبراءة المعبودين من العابدين: ذلك لأن لفظ (ما) هنا يتناول العقلاء وغيرهم باعتبار الوصف، وفي كل محل يراد بها الوصف لا تخص بالعقلاء، وقد تأتي على قلّة فيهم كما تأتي من على قلّة في غير العقلاء، راجع آية السجدة من سورة النحل، والآية 53 من سورة يوسف في ج 2، وآية السجدة من سورة الحج في 3، كما سنبينه في تفسير هذه الآيات إن شاء الله، لذلك كان المراد في هذه الآية نحشرهم ومعبوديهم جميعا بدليل قوله تعالى (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) الآية 40 من سورة سبأ في ج 2، وقوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) الآية 116 من سورة المائدة في ج 3، وقوله تعالى (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) الآية 12 من سورة إبراهيم في ج 2، وقوله تعالى أيضا «فَيَقُولُ» الله عز وجل للمعبودين كلهم، لأن إطلاق الآية يفيده «أَأَنْتُمْ» غلب العقلاء بخطابه على غيرهم. وقد سبق أن ذكرنا أن الله تعالى ينزل في بعض خطابه ما لا يعقل منزلة من يعقل، وقد يجعله عاقلا لفهم مراده، وهو القادر على أكثر من ذلك، راجع الآية 65 من سورة يس المارة «أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ» في الدنيا يفيد هذا الخطاب الجليل والإشارة العظيمة أنه عزت قدرته جعل المعبودين صفّا والعابدين صفّا مقابلا ليسمع كل منهم خطاب الآخر وخطاب ربه عند مقابلتهم بعضهم ببعض، أي أأنتم دعوتم هؤلاء لعبادتكم «أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ» بأنفسهم لإعراضهم عن الذين أرسلناهم لإرشادهم فلم يسلكوا طريقهم لعدم استعمالهم النظر الثاقب في ملوكيتنا والفكر الصحيح في عبادتنا «قالُوا» المعبودون، وهو أعلم بما يقولون وإنما السؤال والجواب عبارة عن التبكيت بهم

وإطلاع الأمم على ما سيقع منهم، فابتدءوا بالتنزيه لحضرته المقدسة قائلين «سُبْحانَكَ» أن يكون معك آلهة أو أن يدعى غيرك أو يعبد أحد دونك كيف وأنت يا ربنا إله الكل، وكيف يجدر بالعاجزين أمثالنا ادعاء الربوبية القاهرة لكل شيء ونحن من جملة المقهورين لربوبيتك وعزتك يا ربنا «ما كانَ يَنْبَغِي لَنا» أن نجرا على ذلك ولا على «أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ» فكيف ندعو الغير إلى ولاية غيرك ونحن عبيدك المخلصون وكيف نأمرهم بعبادتنا أو نحملهم على أن يتولوا أحدا غيرك من دونك «وَلكِنْ» يا مولانا هؤلاء هم الغافلون بطبيعتهم لأنك يا ربنا «مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ» من قبلهم بالنعم وطول العمر على ما هم عليه من الجحود والكفر «حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ» وغفلوا عن الإيمان بذكرك ولم ينتبهوا إلى من ذكرهم به من المرشدين وظنوا أن ما هم عليه حسن، فتشبثوا به ولم يقلعوا عنه «وَكانُوا» في ذلك «قَوْماً بُوراً» 17 بائرين جمع بائر مثل عائدين جمع عائد، وأولوه بمعنى هالك، أي أنهم هلكوا إذ غلب عليهم الخذلان، وذلك أن بورا مصدر وصف به الفاعل مبالغة فينوى فيه الواحد والجمع قال: فلا تكفروا ما قد ضنعنا إليكم ... وكافوا به فالكفر بور لصانعه وقال ابن الزبيدي: يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور ثم يقول تعالى للعابدين بعد أن أسمعهم قول معبوديهم على زعمهم مواجهة انظروا «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ» من زعم هؤلاء أنهم آلهة وأنهم دعوكم في الدنيا لعبادتهم فما تقولون؟ وهذا زيادة في التقريع والتوبيخ فيصمتون، ثم يخاطبهم الله تعالى بقوله «فَما تَسْتَطِيعُونَ» الآن «صَرْفاً» أي دفع العذاب عنكم بوجه من الوجوه كما يقتضيه التنكير، أي لا بالذات ولا بالواسطة «وَلا نَصْراً» 18 لكم ولا عونا من أحد، أي لا أنتم ولا الذين اتخذتموهم آلهة، فكلاكما بالضعف والعجز سواء، وقرىء بالياء، وعليه يكون المعنى فما يقدرون هؤلاء الذين عبدتموهم في الدنيا بصورة من الصور ولا بنوع من الأنواع، دفع العذاب عنكم بأنفسهم

وليس لهم أعوان بذلك، فهم عاجزون أنفسهم وغيرهم أعجز، ثم التفت جل شأنه بخطابه إلى كافة المكلفين فقال «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ» نفسه أيها الناس فيشرك به «نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» 19 على شركه، لأن يظلم هنا بمعنى يشرك لذلك عظم عذابه، إذ لا يكون العذاب الكبير إلا على الشرك، لأن مطلق الظلم لا يستوجب ذلك، وقد سمى الله الشرك ظلما بقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 12 من سورة لقمان في ج 2، ولأن من الظلم ما هو كبيرة يفسق بها مرتكبه، والفاسق لدى أهل السنة والجماعة لا يخلد بالنار، والمراد بقوله تعالى كبيرا أي مخلدا فيصرف هنا بسبب هذا القيد إلى الشرك، ولا قيمة لقول من يقول إن مرتكب الكبيرة يخلد في النار لمخالفته إجماع الأمة وما عليه عقائدهم، قال صاحب الشيبانية: ولا تبصر في نار الجحيم موحدا ... ولو قتل النفس الحرام تعمدا أي دون استحلال لأنه به يكفر فيخلد إذا لم يتب. وسيأتي لهذا البحث صلة في تفسير الآية 72 من سورة مريم الآتية، ثم التفت جلت عظمته إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم ليسليه عما قلوه فيه «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» مثلك لأن هذا من شأن البشر فلا مبرر لهم أن يعيروك فيه لانك لم تدع غير البشر به كي يتوجه إليك قولهم. ولأن جميع الرسل قبلك كان هذا شأنهم ولك بهم أسوة، وبما أن ذلك كان عادة مطردة مستمرة لا يستغنى عنها البشر فليست محلا للطعن، وهذا الخطاب وان كان موجها لحضرة الرسول إلا أنه جاء بمعرض الرد لقومة فكأنه قال قل لهم هكذا ولا تلتفت إلى تقولهم «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» بلاء ومحنة واختبارا وامتحانا، قالوا نزلت هذه الآية في ابتلاء الشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم رأي الوضيع أسلم قبله فيقدم عليه بالإسلام فيأنف عن الإسلام محتجّا بسابقته والفضل له عليه، فيصر على كفره، ولم يعلم أن التفضيل يكون بالأعمال الصالحة والآداب الكاملة، لا بمطلق الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض، وقال غير واحد إنها نزلت في الذين عيّروا حضرة الرسول

[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 إلى 30]

بالفقر تسلية له، كالآية قبلها إذ نزلت في الذين عيّروه بالأكل والمشي «أَتَصْبِرُونَ» على هذه الحالة أيها المؤمنون من التعيير بالفقر وغيره، وعلى الأذى الواقع بكم من الكفرة والشدة التي أنتم فيها أم لا؟ وفي هذا الاستفهام معنى التهديد على عدم الصبر كما لا يخفى، فاصبروا على هذا كله ليزداد أجركم وتقوى عزيمتكم، وإلا فيزداد همكم وحزنكم. هذا على جعل الخطاب للمؤمنين كافة، أما إذا كان لحضرة الرسول فقط فيكون الخطاب على جهة التعظيم، لأنه جاء بلفظ الجمع وهو أولى بمن يعظمه ربه، ويكون المعنى: جعلتك يا محمد فقيرا تحتاج إلى طلب الرزق في الأسواق كغيرك من البشر فتنة لقومك المعاندين، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان أو كان معك ملك لانقادت الناس إليك عفوا وأطاعتك قسرا طلبا لما عندك في الدنيا أو خوفا من القوة، لا طاعة خالصة لنا ولا خوفا من عذابنا وطمعا برحمتنا، ويجوز أن يكون ذلك الافتتان علة للجعل، أي ابتلينا الغني بالفقير والشريف بالوضيع لنختبركم على حد قوله تعالى «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» الآية 2 من سورة الملك في ج 2، وعلى كل فالمعنى أخبروني عن اختياركم الصبر أم الضجر، وهو خبير بما يقولون ويكنّون بدلالة قوله «وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» 20، بك وبهم عالما بالصابر والجازع فلا يضيق صدرك يا سيد الرسل بما يقولون ولا تعبا بهم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم. هذا لفظ البخاري، لمسلم: انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعم الله عليكم. وفي تكرير لفظ المال والجسم في رواية البخاري إشارة إلى أنه يطلب من الناس النظر إلى من هو فوقهم في الدين والتقوى وهو كذلك قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» في الآخرة لأنهم ينكرون البعث أي يخافون بلغة تهامه وهي أيضا من لغة هذيل وهذا الفعل إذا كان مع الرجاء جحد، أي نفي ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون فلان لا يرجو ربه أي لا يخافه ففية معنى الجحد ومنه قوله تعالى «ما لَكُمْ لا

تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» الآية 44 من سورة نوح وإذا قالوا فلان يرجو ربه فليس فيه معنى الجحد ويكون معناه يسأله ضد يأس ويجوز هنا أن يكون بمعنى لا يتوقعون ولا يعتقدون وجود الآخرة التي فيها لقاء الله والحساب والعقاب على ما كان منهم في الدنيا وهو أولى «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» فتخبرنا بصدق محمد «أَوْ نَرى رَبَّنا» عيانا فيخبرنا بذلك لآمنا بهذا الرسول وصدقناه قال تعالى مستعظما عليهم قولهم «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» هؤلاء الكفرة وعدوها كبيرة بأعينهم وعظموا شأنهم في هذا القول العظيم والله أجل وهم أحقر من أن ينزل عليهم ملائكته أو يكلمهم أو يرونه فقد فسقوا بقولهم هذا «وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» 21 فتجاوزوا الحد في مقالهم هذا. ولام لقد واقعة في جواب قسم محذوف، أي وعزتي وجلالي لقد رأى هؤلاء الكفرة أنفسهم كبيرة حتى جرأوا على قولهم هذا، يا سيد الرسل قل لهؤلاء المنحطّين «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ» لا يستطيعون التكلم معهم لأنهم لا يرونهم إلا عند الموت الذي فيه صك أسنانهم، وعند البعث في الآخرة وفيه تذهل عقولهم، مما يلاقونه من الهول «لا بُشْرى» في هذين الوقتين «يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» بل لهم الخزي والخوف والذّل والهوان، وفي هذا القيد بشارة للمؤمنين بالفرح والأمان، لأن الملائكة عند الموت وفي البعث تبشرهم بما لهم عند الله من الكرامة، فيهون عليهم الأمر فيهما، كما تقول الكفار لا بشرى لكم بل الويل والثبور، فيزيد ذعرهم. يدل على هذا قوله تعالى «وَيَقُولُونَ» لهم الملائكة «حِجْراً مَحْجُوراً» 22 أي أنتم ممنوعون من بشارة الخير منعا باتا أيها الكفرة. قال ابن عباس حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. ومعنى الحجر المنع، وكانت العرب إذا نزل بهم شدة أو كرب أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجرا محجورا، فهم أيضا يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة لأنهم يكرهونهم، لعلمهم أنهم يوقعون بهم العذاب الشديد الدائم قال المتلمس: حنّت إلى النحلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس

مطلب ما يؤجر عليه من العمل وما لا يؤجر:

أي الدواهي لأنهم يستعملون هذه الكلمة بمعنى الحرمان إذا سألهم سائل ويقولونه بمعنى الاستعاذة وعند رؤية ما يخاف منه، أي حرام عليك التعرض وقرىء بفتح الحاء وهو الأصل في اللغة إلا أنهم لما خصوه بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول عن معناه الأصلي وهو المنع، ولما تغير لفظه عما هو عليه، فنقل من الفتح إلى الكسر. وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك بضم الحاء، وكل منها جائزة على المعنى المؤدية له. مطلب ما يؤجر عليه من العمل وما لا يؤجر: قال تعالى «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ» عظيم عندهم كانوا يرجون ثوابه في الدنيا كصلة رحم، وإقراء ضيف، وإغاثة ملهوف، ورد ظالم ومظالم، ورحمة فقير، ولطف بحقير، واطلاق الأسير دون فدية منّا، وما ضاهاها من الأعمال الحسنة التي جبل عليها العرب قبل الإسلام وازدادت به شرفا ونفوذا على غيرها حسا ومعنى «فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» 23 ذرا متفرقا بالهواء وهذا كناية عن بطلان ثواب أعمالهم وعدم مكافأتهم عليها مهما كانت طيبة حسنة كثيرة، لأنهم عملوها حال كفرهم مشوبة بالسمعة والرياء والفخر والأنانية ولم تكن حالة الإيمان لتكون خالصة لله تعالى، والله طيب لا يقبل إلا الطيب المخلص من الطيب المخلص، وأصل الهباء ما يرى في الظل فهو شيء وليس بشيء وقد سبقه صدقة الكافر به، لأنها من حيث الحسّ صدقة وعمل صالح محمود، ومن حيث المعنى لا ثواب لها، فكأنها لم تكن، وهكذا كل شيء لم يبتغ به وجه الله، قال صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ. ولكن الله الكريم الذي لا يضيع عمل عامل كما جاء في الآية 195 من آل عمران في ج 2 الذي تعهد بالمكافأة على الذرة كما يأتي في سورة الزلزلة في ج 3 قد كافأهم على أعمالهم المذكورة في الدنيا بإطالة أعمارهم وسعة رزقهم ومعافاتهم حتى يلقونه وليس لهم عنده حسنة يرجون ثوابها، كما أن المؤمنين يمحو الله سيئاتهم بمقابل تحملهم الفقر والمرض والذلة في الدنيا حتى يلقوا الله، وليس عليهم سيئة يعاقبون عليها، وله الحمد هذا ما مر لك أيها القارئ الكريم من حال

أهل النار، أجارنا الله منها أمّا «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ» يوم يكون ما يكون من الشر للكافرين في الآخرة فيكون مستقرهم الذي يأوون إليه لتناول ملاذهم، فيقولون إنه «خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا» وأشرف مقرا هذا المكان، فيقيلون به للاستراحة من الراحة لا عن تعب ونصب لأن الجنة لا شيء فيها من ذلك «وَأَحْسَنُ مَقِيلًا» 24 ذلك المكان العالي الشان في تلك الجنان، والقيلولة النوم وسط النهار أو الاضطجاع للراحة نام أو لم ينم، والكلام مسوق لبيان راحتهم على طريق التشبيه بأحوال الدنيا، وإلا فإن الجنة لا نوم فيها ولا تعب والأفضلية هنا للتقريع والتهكم لمن ذكر في الآية قبل من أهل النار كما في قوله تعالى (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) الآية 15 المارة إذ لا يتصور أن يقال نزل أهل الجنة خير من نزل أهل النار، كما لا يقال العسل أحلى أم الخل مثلا، وقد يكون لمطلق الزيادة قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك وغيرهم «يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» حقيقة كما هو المستفاد من ظاهر الآية، ولأنها تبدل بغيرها قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات الآية 18 من سورة إبراهيم في ج 2 وقال بعض المفسرين يطلع منها سحاب فيظهر عليها فيتبين للرائي كأنها تنشق به، والأول أولى والله أعلم وأنسب بالنسبة لقوله «وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا» 25 من السماء إلى أرض الوقف ومن الملائكة حملة العرش، قال تعالى «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» الآية 12 من سورة الحاقة في ج 2، مما يدل على انشقاق السماء حقيقة، قال ابن عباس تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تشقق الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا وكذلك حتى تشقق السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على التي قبلها، ثم تتنزّل الكروبيون، ثم حملة العرش، ومن بين الملائكة ملائكة يحملون صحائف أعمال العباد. وفي رواية عن ابن عباس ثم ينزل ربنا جل جلاله في ظلل من الغمام قال تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» الآية 210 من سورة البقرة في ج 3 ومما يدل على

هذا قوله جل قوله «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» أي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا، بحيث لا يزول أبدا ولا يغيب سرمدا هو ثابت «لِلرَّحْمنِ» وحده وهناك يزول ملك كل ملك ولا يبقى إلا ملك المالك الأعظم، فينادي المنادي «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فلا يجيب أحد فيقول العظيم الجبار الجليل الغفار الستار «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» الآية 16 من سورة المؤمن في ج 2 فيجيب نفسه بنفسه، وفي اتصافه تعالى بعنوان الرحمانية بشارة لمن مات مؤمنا به ونذارة بعدم التّهوين على الكافر في قوله «وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» 26 شديدا عسره بالغا شره، وفيها إيذان بأنه يسير على المؤمنين، إذ خصّ عسره بالكافرين الذين لا تشملهم رحمته المتناهية في ذلك اليوم العظيم المنوه به بقوله «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ» حسرة وندامة على ما فاته من عمل الخير في الدنيا لا أعظم منه لأنه يوم الحسرة، والموقف كله يوم واحد ولكنه بالنسبة لطوله ولاختلاف ما يقع فيه من الأهوال التي تشيب الوليد يعد أياما لكل عذاب يوم، ولكل مجادلة يوم، ولكل محاسبة يوم، وذلك تقديري على نسبة أيام الدنيا، وهذه الآية عامة في كل ظالم لنفسه في الدنيا بحرمانه من الإيمان بالله. وقد صرفه بعض المفسرين للظالم المعروف بالظلم الموبق به عقبة بن معيط خليل أمية بن خلف الذي كان أسلم أولا فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا. فارتدّ عن الإيمان، وتابعه على الكفر. وقد جاء بالآية معرفا لتخصيصه به ونزول هذه الآية فيه. ولكن تخصيصها لا يمنع عمومها لكل ظالم كما علمت من أن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب «يَقُولُ» في ذلك اليوم العسير «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ» في الدنيا «مَعَ الرَّسُولِ» محمد صلى الله عليه وسلم «سَبِيلًا» 27 إلى النجاة من هول هذا اليوم، ليتني اتبعته ومت مؤمنا على دينه، فأتخلص من هذا العذاب المحيط بي، ثم طفق يدعو على نفسه بقوله «يا وَيْلَتى» يا هلاكاه على ما سلف من ارتدادي إلى الكفر ومتابعة أمية بن خلف «لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً» يريد أمية المذكور على خصوص الآية في عقبة المرتد، وعلى

إطلاقها تشمل كل ظالم ومضل كائنا من كان، لأن خصوص السبب لا يقيد الآيات «خَلِيلًا» 28 مأخوذ من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة لأنها تتخلل في النفس وتؤثر فيها تأثير السهم في الرميّة وتأثير الدم في العروق وعليه قوله: تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلا ثم قال هذا الضال وعزتك يا رب «لَقَدْ أَضَلَّنِي» ذلك المضل «عَنِ الذِّكْرِ» قبول القرآن الذي هو ذكر الله وعن الإيمان به وبمن أنزل عليه «بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» من قبل رسولك واتبعته «وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» 29 يوقع من يطيعه في المهالك ثم يتبرأ منه، وهذا معنى الخذول لأنه يقول يوم القيامة لا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية 22 من سورة إبراهيم كما قال في الدنيا لمن خذلهم «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ» الآية 48 من الأنفال في ج 3 وقد سمي خليله شيطانا تشبيها بفعله بجامع الإغواء في كل أو انه نسب الجنوح إلى قول خليله إلى الشيطان إذ ينسب إليه كل فعل قبيح وهو المضل لخليله فكأنما أضله فعلا، وحكم هذه الآية عام في كل خليل أو حبيب اجتمعا في الدنيا على معصية الله فإنها تنقلب إلى عداوة وندامة وحسرة قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» الآية 67 من الزخرف في ج 2 فلينظر أحدكم أيها الناس من يخالل، فإنه يحشر معه، لأنه غالبا يكون على دينه، لأن هذا الذي نزلت فيه هذه الآية بعد أن دخل في الإسلام وتمكن به اغواه صاحبه حتى ردّه عنه فهلكا جميعا قال: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي فإذا كنت أيها العاقل لا تحب العزلة أو لا تقدر عليها فعليك بصحبة الصادقين، قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» الآية 120 من سورة التوبة في ج 3، ولبحث الصحبة صلة في تفسير الآية المذكورة آنفا من سورة الزخرف، فراجعها. «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ» وهذا من طريق بعث الشكوى من محمد صلى الله عليه وسلم إلى مولاه على قومه اثر ما شاهد منهم من العتو والطغيان

[سورة الفرقان (25) : الآيات 31 إلى 40]

والأعراض عن إجابة الدعوة ومقول القول «إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ» الذي أنزلته لخيرهم وصلاحهم وأمرتني أن آمرهم به وأنهاهم لمنفعتهم «مَهْجُوراً» 30 متروكا لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون بهديه ولا ينظرون لرشده. ومعنى الهجر القول السيء، وذلك أنهم وصموه بالسحر والشعر والكهانة وخرافات الأولين، فجعلوه بمثابة الهجر، وفي هذه الآية تخويف لقريش لأن الأنبياء إذا شكوا أقوامهم إلى ربهم أو شك أن يحلّ بهم عذابه ويكدون أن لا يمهلوا قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما جعلنا لك يا محمد أعداء من قومك «جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» أمثالهم، وهذا كالتسلية له صلى الله عليه وسلم لئلا يكبر عليه ما جبهه به قومه وليصبر عليهم كما صبر أولئك الرسل على أقوامهم حتى يأتي وعد الله فيهم «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً» لعباده إلى ما خلقوا له «وَنَصِيراً» 31 لك عليهم. ثم ذكر جل شأنه نوعا آخر من أباطيل المشركين فقال «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ» الذي يدعي إنزاله عليه من ربه «جُمْلَةً واحِدَةً» كالتوراة والإنجيل والزبور المنزلة على من قبله «كَذلِكَ» كمثل ما أنزلنا على من قبلك الكتب جملة واحدة لأنهم يحسنون القراءة والكتابة فلا يعزب عنهم شيء منه ويسهل عليهم تلاوته، وبما أنك أمي فقد جمعنا لك الأمرين فأنزلناه أولا جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزّة، ثم أنزلناه عليك مفرقا «لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» فنقرّه به أولا بأول لنعيه وتحفظه، لأنه نظم بديع عظيم، ولو لم نقو قلبك بقوة منا لما قدرت على حفظه لأن القوى البشرية لا تقوى على حفظه دفعة واحدة فضلا عن أنه يتلى عن ظهر الغيب بخلاف الكتب الأخرى فإنّها تتلى بالصحف وحتى الآن لا تجد من يستظهر الإنجيل أو التوراة، وهذا من معجزات القرآن إذ تجد الآلاف تستظهره فضلا عن أن الكتب القديمة لا تضاهيه ولا تحتوي على ما فيه وهو شامل لما كان ويكون مما فيها وفي غيرها من الصحف المنزلة على بقية الأنبياء ومما يحدث بعد إلى يوم القيامة وما يقع فيها من أحوال أهل الجنة والنار وما بعد ذلك، ولهذا ولكونك أمّيّا أنزلناه مفرّقا ليسهل عليك تلقيه وحفظه، وإن

إنزاله هكذا بحسب الحوادث والوقائع أبلغ في النفوس وأوقع بالأسماع «وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» 32 بيناه تبيانا واضحا بتثبيت وترسّل آية فاية وخمسا فخمسا وسورة فسورة، ولولا هذه الأسباب لأنزلناه عليك جملة واحدة، لان هذا في مصلحتك مما هو موافق لما في علمنا فكنت من حيث الإنزال جملة كمن قبلك ومن حيث إنزاله مفرقا زيادة على غيرك من هؤلاء الكفرة على ربهم الذي لا يسأل عما يفعل وما يفعل إلا لحكمة ومن جهلهم عن مراده يعترضون عليه وليس لهم ذلك لانه ليس من خصائصهم قال تعالى «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ» من أسئلتهم الواهية وتدخلهم فيما لا يعنيهم وما ليس لهم به علم «إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ» الواضح والجواب القاطع لتبطل به شبههم الباطلة بقول فصل لا محيد عنه ولا مرد له «وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» 33 بيانا وكشفا لأن برهانك قوي وحجتهم قاصرة ضعيفة وجوابك قاطع، وأسئلتهم لا شأن لها وكلمة تفسيرا لم تكرر في القرآن. ثم ذكر ما يؤول إليه أمرهم في الآخرة التي يجب أن يسألوا عنها ويعملوا لأجلها لأن مصيرهم إليها فقال «الَّذِينَ يُحْشَرُونَ» سحبا تحقيرا لهم «عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ» وأمثالهم «شَرٌّ مَكاناً» من غيرهم «وَأَضَلُّ سَبِيلًا» 34 أخطأ طريقا، لأن جهنم دركات كل واحدة شرّ من الأخرى وأشد عذابا من التي فوقها، كما أن الجنة درجات وكل درجة أحسن من التي تحتها. روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم، قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك. وهذا يحتمل أنهم حينما يسحبون على وجوههم يصيبهم ذلك، ويحتمل أنهم ينكسون نكسا فتكون رؤوسهم التي فيها وجوههم مما يلي الأرض، والأول أولى لموافقته ظاهر القرآن ولهذا البحث صلة بتفسير الآية 97 من سورة الإسراء الآتية. ثم شرع يقصّ على رسوله أخبار من تقدم من الرسل، وما لا قوه من أقوامهم ليهون عليه ما يرى

من قومه تسلية له فقال «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» المعهود وهو التوراة «وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً» 35 معينا له لأن الوزير من يؤازر غيره ويعينه على تنفيذ ما يريده، وإن الشريعة خاصة لموسى بدليل تخصيصه بالكتاب، وهرون تابع له فيها اتباع الوزير لسلطانه، «فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ» القبط الذين يرأسهم فرعون «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» التسع العظام وغيرها وأرشدهم إلى طريقنا فذهبا، ولم يجد معهم إرشادهما نفعا وكذبوهما «فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» 36 إهلاكا هائلا عجيبا لا يدرك كنهه البشر «وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ» قبله وهم إدريس وشيث وأتباعهم المؤمنين ثم كذبوا نوحا أيضا، ولهذا جاء بلفظ الجمع إيذانا بأن من كذب رسولا واحدا فكأنما كذب الرسل كلها، وهو كذلك، ولهذا فلا مقال على مجيء الآية بلفظ الجمع بسبب أن المذكور واحد «أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً» عظيمة ليعتبروا بها هم ومن بعدهم «وَأَعْتَدْنا» هيأنا «لِلظَّالِمِينَ» منهم في الآخرة «عَذاباً أَلِيماً» 37 مبرحا شديدا غير عذاب الدنيا، وإنما وصفه بالأليم لأن عذابه لا يقادر قدره في الشدة، أجارنا الله منه «وَعاداً» قوم هود «وَثَمُودَ» قوم صالح «وَأَصْحابَ الرَّسِّ» قوم شعيب أهلكناهم كلهم لمخالفتهم أو أمرنا وعدم انقيادهم لرسلنا وإصرارهم على الكفر. وقد تقدمت قصصهم في الآية 58 فما بعدها من سورة الأعراف المارة وسيأتي لقصصهم صلة في الآية فما بعدها من سورة هود في ج 2 «وَقُرُوناً» دمرناهم أيضا «بَيْنَ ذلِكَ» بين نوح وشعيب «كَثِيراً» 38 منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص كما سيأتي في الآية 71 من سورة المؤمن في ج 2 أيضا «وَكُلًّا» من الجاحدين والمعاندين المار ذكرهم والآتي، لأن التنوين في كلا للعرض أي لكل منهم «ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ» في إقامة الحجة عليهم من أخبار الأولين «وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً» 39 مزقناهم تمزيقا هائلا يتعجب منه لا تتصوره عقول البشر لعدم إجابتهم الدعوة أيضا «وَلَقَدْ أَتَوْا» أي طائفة من قومك يا محمد «عَلَى الْقَرْيَةِ» التي كانت مسكنا لقوم لوط المسماة سذوما باسم قاضيها

[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 إلى 50]

سذوم، وجاء في المثل: أجور من سذوم. أعاذنا الله مما وقع عليها. وإنما ذكر هذه القرية دون غيرها لأنها على طريقهم حين يذهبون إلى الشام وقد مروا بها مرارا كثيرة وتناقلت لهم أخبارها فهي «الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ» بالحجارة النازلة من السماء بعد أن قلبت وجعل أسفلها أعلاها «أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها» أجهلوها ألم يعلموا سبب تدميرها «بَلْ» رأوها وعرفوها وبلغهم ما وقع بأهلها ولكنهم «كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً» 40 بعثا بعد الموت ولا يتوقعون حصوله وجهدهم هذا في إصرارهم على فعل الفحشاء أسّ عنادهم وأصل عتوهم ومنشأ عذابهم وسبب إهلاكهم «وَإِذا رَأَوْكَ» يا سيد الرسل ما «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ» هؤلاء الكفرة «إِلَّا هُزُواً» سخرية ويقولون «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» 41 استخفافا به قاتلهم الله، نزلت هذه الآية في أبي جهل وأضرابه، إذ كانوا إذا مرّ بهم حضرة الرسول قالوا ذلك الكلام وقالوا أيضا «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا» وقد قرب وأوشك من تنفيذ مراده بها «لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها» بتحملنا تأنيب محمد وأصحابه وتعريضهم بها وبنا، ولكنا لم نلتفت إليهم، فثبتنا ودمنا على عبادتها، وإلا لصرفنا عنها بما أوتيه من بلاغة وفصاحة ولين جانب، وهذا دليل على فرط مجاهدته صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله، ولهذا هددهم فأنزل فيهم هذه الآية وختمها بقوله «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» إذا لم يقلعوا عما هم عليه «حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ» ال فيه للجنس، فيشمل عذابي الدنيا والآخرة «مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا» 42 هم أم نحن بل هم حقا حقا يا أكمل الرسل «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» بأن أطاع هوى نفسه فيما يأتي ويذر وأطلق لها العنان فلم يقيدها بقيود الشريعة ولم يصغ إلى نصح الرسل «أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» 43 تراقبه وتحفظه من عبادة ما يهواه كلا لا تقدر على ذلك «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ» الوعظ والإرشاد سماع قبول «أَوْ يَعْقِلُونَ» معنى ما يذكرون به من الحجج والدلائل كلا «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ» في عدم الانتفاع بالذكرى، وعدم التدبر والتفكر بالمصير، وعدم

صرف جوارحهم إلى ما خلقت لها «بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» 44 من الأنعام لأنها تهتدي لمرعاها ومأواها وتتقي الحر والبرد، وتصرف الضار من النبات، والنافع والعذاب والمالح والمر من الماء، وتنقاد لمن يتعهدها، وتنفر من غيره، وتسبّح ربها بما ألهمت به من أنواع التسبيح كما سيأتي في الآية 43 من سورة الإسراء الآتية، وهم لا يعقلون شيئا من ذلك، مع علمهم بأن الله خلقهم ورزقهم، ولم ينقادوا إليه، ولم يتبعوا رسله. ونظير هذه الآية، الآية 171 من البقرة في ج 3 من حيث المعنى، ثم طفق يذكر لهم بعض دلائل توحيده فقال عز قوله «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وهو ما تنسخه الشمس من طلوعها إلى الزوال والفيء ما ينسخ الشمس من الزوال إلى الغروب، فهو عكسه، وكل منهما متحرك بحركة لطيفة لا تدرك، فهو من قبيل الموجود المعدوم كفلكة المروحة لا تكاد تراها وهي موجودة. قال الإمام الغزالي في تشبيه الدنيا من حيث تلقيها بالظل: إنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر بل بالبصيرة الباطنة (ص 186 ج 3 في كتاب ذم الدنيا) أي ألم تر أيها الإنسان إلى صنع ربك البديع، إذ ليس المقصود هنا رؤية الله تعالى ذاته، لأن الرؤية هنا بصرية بدليل تعديتها بإلى «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» ثابتا دائما لا تذهب الشمس، وفي هذا تنبيه على أن لا دخل للأسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على للقول بأن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر والشمس أو ما بين غروبها وطلوعها، أو قيام الشاخص الكثيف على القول بأن المراد مطلق الظل وهو الأولى على ظاهر القرآن، وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة الإلهية وحدها «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا» 45 فلولاها لما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» 46 جدا أي أزلناه بعد ما أنشأناه بتسليط الشمس عليه شيئا فشيئا، بصورة محسوسة فعلا غير محسوسة نظرا لدقة السير، ذلك صنع الخالق المبدع من غير عسر عليه دلالة على توحيده، وجاء الخطاب في هذه خاصا كما هو شأن كل خطاب مثله،

بخلاف الخطاب بقوله (أَفَلا يَنْظُرُونَ) فإنه للعام، لأن المراد تقرير رؤيته عليه السلام لكيفية مدّ الظل بينها إلى أن نظره عليه الصلاة والسلام غير مقصود على ما يطالعه من الآيات في آثار الله وصنايعه، بل مطمح أنظاره صلى الله عليه وسلم معرفة شؤون الصانع المجيد، وفي هذه الآية الجليلة إشارة إلى التصوير الشمسي لأن الشمس دالة عليه وتقبضه الآلة الآخذة بسهولة عند مقابلتها لشخص الإنسان، وهذا من أسرار القرآن التي لم يطلع عليها البشر قبل اختراع آلة التصوير، ومن أموره الغيبية التي يطلعنا الله عليها، وكم من أسرار ستظهر بعد للبشر من مكوناته وكان التصوير قبلا بطريق النحت والتجميل، وهذه هي المنهي عنها صنعا واتخاذا. هذا ومن دلائل توحيده قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً» غطاء ساترا لكم بظلمته كالثوب يستر لابه فيختفي فيه من أراد الاختفاء عن عيون الناس «وَالنَّوْمَ سُباتاً» لأجل الراحة لا عمل فيه للقوى الحيوانية «وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً» 47 ينتشر فيه الناس لمصالحهم ابتغاء فضل الله، ويطلق النشور على الانبعاث من الموت، كما يطلق على اليقظة من النوم، وكذلك السبات يطلق على الموت لأن النوم أحد التوفيتين الواردة في قوله تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» الآية 42 من سورة لزمر قال لقمان لابنه: كما تنام توقظ كذلك تموت فتنشر. وهذا مما اتفقت عليه عامة أهل الكتب السماوية كوجود الآله والاعتراف بالرسل، وأنكره من لا دين له كالدهرية. ومن دلائل توحيده قوله جل قوله «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً» لعباده بنزول الغيث ولهذا فأن الإبرة المخصوصة الدالة على تقلبات الجو المسمات (بارومتر) وتشير إلى وقوع المطر خلال أربع وعشرين ساعة بسبب هذه الرياح، وقد يقع خلالها إذا لم يتغير الجو فتبشر بها الناس. وقريء نشرا بالنون أي ناشرات السحاب وباعثات له، لأنها تجمعه لا من النشر بمعنى التفريق، لأنه غير مناسب للمعنى، إلا أن يراد به معنى السوق مجازا، ولا محل هنا للمجاز، فأصبحت الحقيقة «بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» أي قدام المطر على طريق الاستعارة، بجامع الخير الكثير والنفع العام في كل من

رحمته وغيثه استعارة مليحة لأنه ريح فسحاب فمطر «وَأَنْزَلْنا» بعد إنزال وإثارة الغمام «مِنَ السَّماءِ» الجهة العلوية وكل ما علاك فأظلك فهو سماء «ماءً طَهُوراً» 48 في نفسه مطهرا لغيره «لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» أرضا لا نبات فيها، وتطلق البلدة على الأرض وعليه قوله: أنيخت فألفت بلدة بعد بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها أي خباؤها، راجع تفسير الآيتين 57، 58 من سورة الأعراف المارة، والآية العاشرة من سورة طه الآتية. قال تعالى «وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» 49 من أهل البوادي والقرى وغيرهم، وأهل البوادي أحوج من غيرهم إليه، لأن القرى والأمصار لا تكون إلا على الماء غالبا من نهر أو عين أو مسبح أو بئر أو صهاريج وأناسيّ جمع أنيسي مثل كرسي وكراسي، وما قيل إنه جمع إنسان أو جمع ناس فغير وجيه، وقال سيبويه إنه جمع إنسان وعلله بأن أصله أناسين، فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها. وقال صاحب الخازن جمع ناسي. وقري ونسقيه بفتح النون. وسقى وأسقى لغتان وما جرينا عليه أوجه «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ» على أنحاء وأوقات مختلفة، وهذا معنى التصريف واللام في لقد للقسم، والمعنى وعزّتي وجلالي لقد قسمنا مياه الأمطار «بَيْنَهُمْ» أي الناس بحسب الحاجة على البلدان المتغايرة والأوقات المختلفة والصفات المتفاوتة، راجع الآية 27 من سورة السجدة في ج 2 «لِيَذَّكَّرُوا» في قدرتنا كيف نرسله إلى محل دون آخر ووقت دون وقت، مرة وابلا وأخرى طلا أي مطرا شديدا وخفيفا وطورا ديمة يداوم أياما، وتارة طشا متقطعا كالمزن أو متصلا، وأوانا رذاذا، على مقتضى الحال والحاجة المحل الذي ينزل فيه، ومع هذا «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» 50 بنعمنا المترادفة عليهم، وعدم التذكر بآلاءنا ولم يكتفوا بذلك حتى أسندوه إلى مخلوقاتنا، إذ يقولون مطرنا بنوء كذا، روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهمي أنه قال قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في اثر سماء من الليل، فلما انصرف أي سلّم أقبل على الناس فقال

[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 إلى 60]

أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر مؤمن بالكواكب، والمراد بالأنواء مطالع النجوم في المشرق عند سقوط ما يقابلها بالمغرب، وكانت العرب تسند بعض الحوادث كالأمطار والرياح وغيرها إلى تلك الأوقات، ويطلق النوء على النجم أيضا إذا مال إلى الغروب وقدم في هذه الآية الأنعام على الناس لا لفضلها، بل لأنها قنية الناس وعامة منافعهم ومعايشهم منها من تقويم الأسباب على المسببات كما قدم أحياء الأرض على إسقاء مخلوقاته لأنه السبب في حياتها قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» 51 ينذرهم بأسنا ويخوفهم عقابنا، فما بالهم استكثروا علينا إرسالك عليهم يا خاتم الرسل ألم يعلموا أن من قدر على إرسال واحد يقدر على إرسال أكثر إذ لا يعجزنا إرسال الأنبياء الكثيرين كما فعلنا ذلك في بني إسرائيل ومن قبلهم، ولكن قضت حكمتنا أن نختم الرسل بك ونعمم رسالتك إلى كافة الخلق وإجلالا لشأنك، وقد حملناك ثقل إنذار العامة خلافا للرسل قبلك، إذ أرسلناهم خاصة لأناس دون آخرين لتستوجب لدينا بصبرك عليهم واجتهادك على نصحهم وعنايتك وجدك بما عهدناه إليك، ما أعددناه إليك من الكرامة العظيمة والدرجة الرفيعة وحسن المنقلب في دار كرامتنا «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ» فيما يريدونك عليه من الإمساك عن كلامنا الذي نوحيه إليك لإرشادهم، وما يندبونك إليه من اتباع دينهم المعوج، وهذا في حقه محال إلا أن فيه تهيج وإلهاب المؤمنين على التصلب بدينهم تجاه الكفرة وتحريكهم إلى التقدم في أمر دينهم كما يدل عليه قوله تعالى «وَجاهِدْهُمْ بِهِ» عظهم بالقرآن بكل جهدك وازجرهم وأغلظ عليهم بالوعظ «جِهاداً كَبِيراً» 52 شديدا يقطع أملهم عما يريدونه من الميل إلى دينهم ويستميلهم إلى الإيمان بالله وحده. مطلب بيان البرزخ بين العذب والمالح: ومن دلائل توحيده قوله «وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ» أرسل «الْبَحْرَيْنِ» في

مجاريهما متجاورين متلاحقين بقدرته وأهل المرج الخلط يقال مرج الأمر إذا اختلط والمرج المكان الواسع الجامع للكلأ والماء، وفيه أنواع كثيرة من النبات، ويسمى المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه «هذا عَذْبٌ» حلو ماؤه «فُراتٌ» قاطع للعطش لشدة عذوبته المائلة للحلاوة «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» ضد الأول على طرفي نقيض، والأجاج الشديد الملوحة المائل إلى المرارة، وفي الإشارة إشارة إلى بعدها عن بعضها بدليل قوله جل قوله «وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً» حاجزا عظيما يمنعهما من التمازج. وجاء بالفارسية كلمة (برزة) بمعنى برزخ وجاء في سورة الرحمن بينهما برزخ لا يبغيان الآية 20 في ج 3 فالتنوين في هاتين الآيتين يدل على عظم هذا البرزخ الفاصل بينهما وهو كذلك حيث يوجد بينهما مسافات كثيرة قبل التلاقي «وَحِجْراً مَحْجُوراً» 53 تنافر مفرطا كأن أحدهما يتعوذ من الآخر، وقد ذكرنا في تفسير الآية، المارة أنهم يستعملون هاتين الكلمتين مقام الاستعاذة عند طروء ملمة أو هجوم عدو أو وقوع نازلة أو حدوث مهم، والمراد من إيجاد هذا البرزخ العظيم بين العذب والملح لزوم كل منهما صفته التي هو عليها، لئلا ينقلب العذب ملحا ولا الملح عذبا، وهو في مكانه لم يختلط بغيره مهما بقي، وذلك من كمال قدرة الله لا بطبيعة الأرض ولا بطبيعة الماء، وإلا لكان الكل عذبا أو ملحا. وما قيل إنهما بحران متلاصقان حلو ومالح لم يشاهدهما أحد، أو أن أحدهما في الأرض والآخر في السماء وأنهما يلتقيان في كل عام كما ذكره بعض المفسرين قيل لا يرتضي ولا ينبغي أن يقال، لأن الله كلم الناس على لسان نبيه بما يفهمون ويعقلون وهو لا يعجزه جعلها كذلك، لأنه القادر على أكثر من ذلك، إلا أنه لا حاجة لذكر غير المعقول والجنوح إليه عند وجود المعقول المشاهد، على أنه لا ينكر وجود عيون ماء حلو تنبع في وسط البحر وعلى شواطئه تشرب منها الناس وتذهب إليها بالزوارق كما في البحرين، حيث يوجد نبع ماء فيه يتدفق بقوة وينساب مع ماء البحر على سطحه ويمتاز عنه بلونه ويصير كالخط المستطيل، إلى أن يندمج فيه. ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 14 من سورة فاطر الآتية

ومن دلائل توحيده قوله «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ» المني وأطلقه بعض المفسرين على الماء الذي خمّر به طينة آدم عليه السلام ولكنه لا ينطبق على المعنى لأن آدم لم يخلق من الماء وحده بل من الماء والطّين تأمل «بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً» ينسب إليه كالذكور من نوعه «وَصِهْراً» يصاهر به الغير كالإناث، أي أنه جل شأنه قسم البشر المخلوق من النطفة للقسمين المذكورين قال تعالى «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» الآية قبل الأخيرة من سورة القيامة المارة «وَكانَ رَبُّكَ» سابقا ولاحقا «قَدِيراً» 54 على ما أراده وجعله طبق مراده، فجعل من المني الواحد المعرفة بالماء وهو النطفة المختلطة من ماء الزوجين ذكرا وأنثى، وقد يكونا في بطن واحدة، وجعل النسب المذكور فيقال فلان بن فلان وفلانه بنت فلان، والصهر للأنثى فيقال فلان صهر فلان إذا تزوج ابنته وأخته، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية الأولى من سورة النساء في ج 3، هذا وقد ذكر الله تعالى خمس آيات، من ألم تر إلى هنا مدعمات بالدلائل على عجائب قدرته وبديع صنع وحدانيته، ليتذكر بها من تذكر من الذين أرسل إليهم محمد إبان نزولها وبعده وإلى قيام الساعة، وكأنها مع الأسف لم تتل عليهم ولم يسمعوا بها ولم يلقوا لها بالا لقوله تعالى «وَيَعْبُدُونَ» أولئك الكفرة مع بيان هذه الآيات المعجزات والبيّنات أوثانا يخصونها بالعبادة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» خالقهم وخالقها ومانحهم هذه النعم العظيمة «ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ» عبدوها أولا لأنها جماد لا تحس بعبادتهم لها، ويتركون عبادة النافع الضار الإله الواحد ويجحدون وجوده «وَكانَ الْكافِرُ المتوغل بكفره «عَلى رَبِّهِ» الذي يرى آثار نعمه عليه ويحس بها عند الحاجة قال تعالى (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) الآية 67 من سورة الإسراء الآتية، وينسونه عند الفرج ويكون «ظَهِيراً» 55 معينا لنفسه وللشيطان على ربه اللطيف به المعطوف عليه، وذلك أنه يتابع الشيطان بما يوسوس إليه على عبادة الصنم ويعاونه في إغوائه على معصية الله فيغفله وينساه حتى إذا أدركته الشدة رجع إليه واعترف بربوبيته، فإذا زالت تلك الشدة عنه،

وأغدق عليه من المال والولد وغمره في خيره وأقر عينه، نسى ربه وأعرض عنه ولجأ إلى أوثانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وهذه الآية عامة في كل كافر هذا شأنه، وما قيل إنها نزلت في أبي جهل وإخوانه الكفرة على فرض صحته لا يخصصها بهم بل تبقى على عمومها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ ما لم يقيد أو يخصص، وما قيل إن ظهيرا بمعنى مهين أخذا من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك، ويكون المعنى حينئذ وكان الكافر مهينا عند الله لا خلاق له عنده، بداعي أن فعيلا بمعنى مفعول كما ذكره الطبري ونقله عنه غيره فهو قيل غير معروف، لأن المعروف أن ظهر بمعنى معين لا بمعنى مظهور به وهو كما ترى، قال تعالى «وَما أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسل «إِلَّا مُبَشِّراً» بالثواب العميم لأهل الإيمان «وَنَذِيراً» 56 بالعقاب الجسيم لأهل العصيان المصرين على كفرهم «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الذين يقولون لك نجمع لك مالا لتكون أغنانا كما مر في الآية الثامنة «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» على تبليغكم هذا القرآن «مِنْ أَجْرٍ» لي مطلقا «إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ» بإنفاق شيء من ماله لصلة رحمه أو فقراء قومه أو غيرهم من أبناء السبيل واليتامى والأرامل إنفاقا خاصا «إِلى رَبِّهِ» يبتغي بذلك الإنفاق «سَبِيلًا» 57 طريقا طلبا لمرضاته وليوصله إلى نعيم جناته، لأن هذا من جملة ما أوحى إلي به ربي وأمرني بتبليغه وجعل عليه الخير الكثير والأجر الكبير، قل لهم هذا يا حبيبي «وَتَوَكَّلْ» في جميع أمورك «عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ» فهو أحق من يتوكل عليه وأوجب من يفوض الأمر إليه، لأن من يتوكل على من يموت انقطع أمله منه بموته، ومن يتوكل على الميت طبعا كالأصنام فهو أشر حالا وأسوأ مآلا أيضا. أخرج ابن الدنيا في التوكل والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن أبي بثيث قال: مكتوب في التوراة لا توكل على ابن آدم فإن ابن آدم ليس له قوام، ولكن توكل على الحي الذي لا يموت. ولما قرأ بعض السلف هذه الآية قال لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وكيف يثق به وهو متقلّب إن لم يمت يرجع عن قوله، فتوكل على الله وحده أيها العاقل «وَسَبِّحْ

مطلب الأيام الستة ومعنى فاسأل به خبيرا:

بِحَمْدِهِ» ليزيدك من أفضاله «وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ» ما ظهر منها وما بطن وما كان منها عن قصد أو خطأ أو إكراه أو رغبة «خَبِيراً» 58 بها لأن الخبرة معرفة بواطن الأمور ومن علم البواطن فهو في علم الظواهر أعلم. وفي هذه الآية وعيد وتهديد فكأنه جل جلاله يقول: إذا خالفتم أمري يكفيكم علمي بما تستحقونه من العقوبة إذ لا يخفى عليّ شيء مما تفعلون أو تتصورون. مطلب الأيام الستة ومعنى فاسأل به خبيرا: واعلموا أن ذلك الإله العظيم القادر هو «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» زمانية بحسب تقديركم أيها الناس، والقصد من خلقها في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة هو أنه جعل لكل شيء حدا محدودا لا يتعداه، فلا يدخل شيء من مخلوقاته في الوجود إلّا بالوقت الذي قدره لدخوله فيه، ولفائدة أخرى هي تعليم عبادة التؤدة والتريث في الأمور والتأني بفعلها. قال عليه الصلاة والسلام: التأني من الله والعجلة من الشيطان. ولفائدة ثالثة وهي أن الشيء إذا فعل دفعة واحدة ظن وقوعه اتفاقيا، وإذا حدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة. والقول الفصل في هذا وغيره مما هو من شأن الله أن أفعال الله لا تعلل، اقرأ قوله جل قوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) الآية 23 من سورة الأنبياء في ج 2، ولا شك أن الله تعالى قادر على إبادة هذا الكون بما فيه علوه وسفله وإنشائه كما كان أو على شكل آخر في لحظة واحدة، لأن أمره بذلك عبارة عن كن، قال تعالى: (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الآية 50 من سورة القمر المارة، راجع الآية 82 من سورة يس، والآية 54 من سورة الأعراف المارتين، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 9 من من سورة فصلت في ج 2، «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» استواء يليق بذاته ويراد به الاستيلاء والله أعلم «الرَّحْمنُ» بالرفع بدلا من ضمير استوى «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» 59 بكل ما خطر ببالك وما لم يخطر، قال تعالى (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) الآية 14 من سورة فاطر الآتية، قيل الخبير هنا هو جبريل عليه السلام

أو من له علم في الكتب القديمة، وعلى هذا يعود ضميريه إلى الرحمن ويكون المعنى اسأل رسولي أو من له خبرة بما أنزلته من كتاب يعلمك أفعالي بمن كذب الرسل وصدقهم، والأول أولى وأحسن، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أولى بمن يسأل ربه وهو أعلم بربه من غيره، راجع الآية 40 من سورة النحل الآتية، واعلم أن فعل سأل يتعدى بعن إذا ضمن معنى التفتيش، ويتعدى بالياء إذا ضمن معنى الاعتناء، ويتعدى بإلى إذا ضمن معنى الطلب، وإذا كان كذلك فلا حاجة للجري على القول بأن الباء هنا بمعنى عن لأن لك أن تجعلها بمعنى من وإلى أيضا، وغير خاف عليك أن حروف الجر تخلف بعضها كما سننوه به في الآية 71 من سورة طه الآتية، قال علقمة بن عبيدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب فقد ضمن الباء هنا معنى عن، وأمثاله كثير في القرآن والحديث والضمير راجع إلى الرحمن كما ذكرنا، وقيل يعود إلى ما ذكر من الخلق الاستواء، والمعنى إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيله فاسأل عليما به معتنيا بصيرا عظيم الشان محيطا بظواهر الأمور وخوافيها، عارفا بها، يخبرك بقدرته، ومن هذا الخبير الذي يسأله محمد صلى الله عليه وسلم غير ربه جلّ وعلا؟ أي كأنه يقول له اسألني أخبرك لأن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق، والنسق الرائق، بتدبير متين، وترتيب مبين، في أوقات معينة مع كمال الإبداع، لجدير بالإخبار عن ماهيتها وبيان ما أودع فيها من حكم جميلة وغايات نبيلة لا تقف على تفاصيلها العقول، وهو أحق أن يسأل لأنه هو وحده القادر على خلقها دفعة واحدة في أقل من لحظة، وهو جدير بأن يطلعك على جليلة أمرها ووضوح حقائقها لا غير، قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ» لا نعرفه يا محمد من هو، وإنما نعرف رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، وهذا كقول فرعون لموسى (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) الآية 23 من سورة الشعراء الآتية، صدق الله بقوله (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 118 من البقرة في ج 3، لأن ردّ الكفرة للأنبياء من لدن نوح إلى محمد جاء

[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 إلى 70]

على وتيرة واحدة، وسؤالهن هذا من تجاهل العارف لأنه مذكور في الكتب المتقدمة بالعبرانية بلفظ رحمان كما ذكر موسي (موشى) . وقالوا على طريق الاستفهام الإنكاري «أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا» يا محمد؟ كلا لا نفعل أبدا «وَزادَهُمْ» طلب السجود والأمر به «نُفُوراً» 60 عن الإيمان بالله ورسوله وجاهروه بعدم الامتثال. واعلم أن هذه السجدة من عزائم السجود فتجب على القارئ والسامع، وقدمنا ما يتعلق بالسجود لله في الآية الأخيرة من سورة الأعراف وص والنجم المارات فراجعها. مطلب البروج وأقسامها وما يتعلق بقضاء الورد: قال تعالى «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً» قال ابن عباس هي منازل الكواكب السيارات السبع وقد بيناها أول سورة البروج المارة وسميت بروجا تشبيها لها بالمنازل لمنازل هذه الكواكب، ومعناها القصور، فالأسد بيت الشمس، والسرطان بيت القمر، والحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهي مقسومة على الطبائع الأربع فالحمل والأسد والقوس مثلثة ناريّة، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية، وقسمنا في الآية 38 من سورة يس المارة ما يتعلق بالمنازل مفصلا فراجعها، ولهذين البحثين صلة في الآية 16 من سورة الحجر في ج 2 تستكمل به ما يتعلق بها ان شاء الله «وَجَعَلَ فِيها سِراجاً» شمسا «وَقَمَراً مُنِيراً» 61 مضيئا راجع الآية 13 من سورة الإسراء الآتية تجد تمام هذا البحث «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً» لبعضهما يعقب الواحد الآخر ويقوم مقامه بالعمل، فإذا فات الإنسان عمله بالليل قضاه بالنهار، وإذا فاته بالنهار أتى به بالليل، والمراد هنا اختلافها في الزيادة والنقصان أيضا والسواد والبياض وذهاب أحدهما ومجيء الآخر دون فاصلة، وانما جعلهما يخلف كل منهما الآخر لمقتضى الحكمة والمصلحة «لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ» في عبادة ربه فيهما وما فاته من ذكره أو نسيه في أحدهما أو لم يتمكن من إتمام

الأذكار المأثورة التي رتّبها على نفسه في الليل قضاه في النهار، وكذلك بالعكس روى الطيالسي وابن أبي حاتم أن عمر رضي الله عنه أطال صلاة الفجر، فقيل له صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ قال إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه. وتلا هذه الآية. ومن التذكر المأجور عليه أن يتفكر في كيفية تسخيرهما واختلافهما وانتظام سيرهما، ويستدل بذلك على عظمة مبدعهما ومدبرهما، ويستفاد من ظاهر الآية أن الأوراد التي قد اعتادها السادة الصوفية بارك الله فيهم لها أصل في النوع مقتبس من هذه الآية المؤيدة بفعل عمر رضي الله عنه، وفيهما دليل على تقننها وأن قضاء ما فات منها لازم على النفوس الطاهرة التي ترى ما التزمته على نفسها من الذكر واعتادته لازما عليها قضاؤه استنباطا من الأصول الفقهية مثل من شرع في نفل وأبطله وجب عليه قضاؤه، مع أنه نفل «أَوْ أَرادَ شُكُوراً» 62 بأداء نوع من العبادة وردا خاصا له شكرا لنعم ربه وإفضاله عليه لانه لو استغرق زمنه كله في شكر ربه لم يؤد حقه ورحم الله الشيخ بشيرا الغزي إذ يقول في مقدمته منظومة الشمسية في علم المنطق: لو أن كل الكائنات ألسنة ... تثني على علاه طول الأزمنه لم تقدر الرحمن حق قدره ... ولم تؤد موجبات شكره ويؤذن عطف إرادة الشكر على التذكر إرادة فعل النافلة بعد الفريضة وتلاوة الأذكار المأثورة بعدها والتفكر في بدايع صنع الله مما ينور القلب ويطلعه على علم ما لم يعلم. فاغتنم أيها العاقل واستكثر من الذكر المشروع ولا تنظر لأقوال المتطفلين على الدين الذين (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) الآية 7 من سورة الروم في ج 2 أجارنا الله من الغفلة وحمانا من العطلة، ووفقنا لما به الفلاح والنجاح هذا وقد قرأ زيد بن علي وطلحة وغيرهما (أَنْ يَذَّكَّرَ) بالتخفيف مضارع ذكر وهي قراءة جائزة وتؤيد ما ذكرناه، ومما يوثقه أيضا وصف الله تعالى عباده بقوله «وَعِبادُ الرَّحْمنِ» الذين دأبهم ذكره وشكره العارفون به «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» بالسكينة والوقار متواضعين

لا يمرحون ولا يختالون ولا يتبخترون. راجع الآية 36 من الإسراء الآتية، وقد أضافهم جل شأنه لنفسه للعلم بأنهم المخصوصون بإفضاله المنعم عليهم بصفة كماله، لأن العبودية فعل المأمورات وترك المنهيات، لا لرجاء الثواب والنجاة من العقاب الذين تقتضيهما معنى العبادة، بل لمجرد إحسان الله تعالى ومطلق أمره ونهيه، استحقاقا لذاته المقدسة «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» 63 أي ومن صفاتهم أيضا يقولون قولا يدل على المتاركة والإغضاء عند ما يجابههم السفيه وقليل الأدب والساخر والمستهزئ بما لا ينبغي أن يقال لمثلهم، ولفظ الجاهل يدخل فيه ما ذكرنا إذ لم يرد فيه في هذه الآية من هو دون البلوغ ولا عديم العلم، وهذا الجواب الذي علمه الله لخيرة خلقه على نهاية من الاستحسان أدبا ومروءة، وأسلم للغرض، وأوفق للورع، ولا وجه لقول من قال أن المراد به السلام المعروف لأنه جاء في الآية 92 من سورة النساء مع أن سورة النساء مدنية وهذه مكية ولم يؤمر فيها بعد بالسلام بل هو سلام متاركة وتوديع لا سلام تحية واستقبال مثله قول سيدنا إبراهيم لأبيه (سلام عليك) الآية 48 من سورة مريم الآتية وفسره بعضهم «بسداد» أي أراد قولا من سداد القول ولينه، وهو داخل فيما ذكرته أي أنهم يحلمون ولو تعدى عليهم ولا يسفهون وإن تسوفه عليهم، ولا يجهلون وإن جهل عليهم، ولا يتمثلون بقول صاحب المعلقة عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فؤق جهل الجاهلينا وذلك لأنهم تركوا نفوسهم وأقبلوا على ربهم فلم تبق عندهم أنفة الجاهلية، ولهذا نهي عن مخالطة الجهال بذلك المعنى لئلا يكون في عدادهم قال علي كرم الله وجهه: فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليما حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه

مطلب إحياء الليل والآيات المدنيات وكلمات لغوية:

وقال الآخر: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي مطلب إحياء الليل والآيات المدنيات وكلمات لغوية: وهكذا كان شأنهم بالنهار، وانظر كيف وصفهم ربهم بما يكون منهم بالليل بقوله جل قوله «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً» 64 أي أنهم يجعلون بدل النوم الصلاة، لأنهم يتلذذون بالتشوق إلى المعبود أكثر من التذاذهم بالنوم، والبيتوتة لا تختص بالنوم، بل إن يدركك الليل تمت أو لم تنم وقيام الليل من السنن التي دأب عليها الصالحون، لأنه وقت اجتماع المحب بالمحبوب، والطالب بالمطلوب، وإحياء الليل أنواع أفضلها إحياؤه كله بالصلاة والذكر، ثم الاقتصار على ثلثيه، فعلى ثلثه، فسدسه، فعلى ما يتيسر منه، كما مر في آخر سورة المزمل قال الفقهاء: من قرأ شيئا من القرآن في الليل في صلاته فقد بات ساجدا. روى مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل، ومن صلى الفجر بجماعة كان كقيام ليله كله. وقريء سجودا على وزن قعودا، وهي أوفق بالنسبة لذكر قياما من حيث اللغة، إلا إن سجدا يدل على التكثير أكثر من سجودا فهو أنسب بالمقام وأبلغ في المعنى. ومن أراد الوقوف على الأوراد وأوقاتها وفضلها فليراجع الباب الأول من كتاب عين العلم للأستاذ الملا علي القاري رحمه الله، ففيه كل ما يريده ويتصوره، قال تعالى في وصف دعائهم «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً» 65 لازما دائما لا ينفك، وهذا الغرام يراد منه الامتداد والاستمرار، فيختص بالكفار أجارنا الله منه، مثله مثل ملازمة الغريم مدينه، ومعناه الجزاء بأكثر مما يستحق. ثم وصف الله تعالى جهنم بقوله «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» 66 فبئس الموضع موضعها وبئس المقام مقامها وأنت الضمير لتأويل المستقر بجهنم أو لأجل المطابقة للمخصوص بالذم، ثم وصف الله صدقاتهم فقال «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا» أي بأن

يتجاوزوا بها قدرتهم أو يعطوها لغير مستحقيها، فإن هاتين الخصلتين من الإسراف، فكيف بمن ينفق ماله في معصية الله إذا جيء به يوم يؤخذ بالنواصي، يوم يفوز الطائع ويهلك العاصي، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، أما نفقات الرياء والسمعة فسيأتي ذكرهما في الآية 264 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء الله «وَلَمْ يَقْتُرُوا» على الفقراء مما أنعم به الله عليهم فيعطوهم حقهم وافيا مما افترضه الله عليهم لهم وقريء بكسر التاء مع فتح الياء، وبضم الياء وكسر التاء، وبضم الياء وفتح القاف، وتشديد التاء وكسرها وعلى كل، فمعنى التقتير التضييق على الفقراء بمنع الحق الذي فرض لهم على الأغنياء «وَكانَ» إنفاقهم «بَيْنَ ذلِكَ» الإسراف والتقتير «قَواماً» 67 وسطا وهذا مما يدل على أن الإسراف مجاوزة الحد لأن يصل به إلى حد التبذير، وبالإقتار التقصير عما لا بد منه حتى يصل إلى منع عيال الله وعياله من حقهم، وهو أوفق لسياق الآية، ولهذا البحث صلة في تفسير الآيات 26 و 31 من سورة الإسراء الآتية والآيات 260 فما بعدها من البقرة، أخرج الإمام أحمد عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من فقه الرجل رفقه في معيشته. واعلم أن معنى هذه الآية عام في نفقة الرجل على نفسه وأهله ومن هو تحت وصايته وولايته وغيرهم، ومعنى القوام غير الوسط العدل، وقوام الرجل قامته، وبكسر القاف ما أقامك من الرزق، ومن هذا القبيل حجام بالفتح الفرس، وبالضم المكوك، وحصان بالفتح العفة من النساء، وبالكسر الجواد، والذل بالكسر ضد الصعوبة، وبالضم ضد العز، والطعم بالفتح الشهوة، وبالضم الطعام، والجرم بالكسر البدن، وبالضم الذنب، والسلم بالكسر الصلح وبالفتح الاستسلام، والأرب بالفتح الحاجة، وبسكون الراء الدهاء. وقد بينا شيئا من هذا في تفسير الآية 17 من سورة التكوير والآية 169 من سورة الأعراف وله صلة في تفسير الآية 59 من سورة مريم الآتية، وكلمة قوام لم تكرر في القرآن وهذه الآيات المدنيات قال تعالى «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» أي أن صفتهم في تنزيه معبودهم عدم إشراكهم أحدا معه في

دعائهم ووصفهم في عدم التعدي على الغير بقوله «وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» المزيل لحرمتها وعصمتها كالكفر بعد الإيمان والزنى بعد الإحصان والقصاص «وَلا يَزْنُونَ» أي أنهم مبرّءون من هذه الخبائث التي كان عليها الجاهليون وأنهم مطهرون من كل سوء، وهذا تعريض بالمشركين الذين كانوا يعملون الكبائر القبيحة كهذه «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» كله أو شيئا منه بأن يزني أو يقتل بغير حق أو يرتد عن دينه والعياذ بالله «يَلْقَ أَثاماً» 68 عقابا كثيرا لا يقادر قدره وقري يلق بضم الياء وتشديد القاف وفتح اللام، وقريء ابن مسعود أيامى بالياء أي شدائد يقال إلى يوم أيام أي شديدا عظيما، ويلقى بالألف المقصورة، كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرّت الألف، وقد ذكرنا غير مرة أن هذه القراءات التي لا زيادة فيها ولا نقص من حيث الحروف جائزة، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال قال رجل يا رسول الله أي الذّنب أكبر عند الله؟ قال أن تدعو مع الله ندا وهو خلقك. قال ثم؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال ثم؟ قال تزني بحليلة جارك. فأنزل الله هذه الآية تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم. والأثام قد يأتي بمعنى الجزاء قال عامر بن الطفيل: وروينا الأسنة من صداء ... ولاقت حمير منها أثاما هذا وإن من يفعل هذه الأشياء «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بحسب مضاعفته عصيان ربه وتعدد المعاصي «وَيَخْلُدْ فِيهِ» أي العذاب لأن الكفر والشرك واستحلال قتل النفس والزنى تقتضي التخليد بالنار إذا لم يتب ومات مصرا على ذلك كما سيأتي، وقرىء فيه بإشباع الهاء بالكسر ولا يوجد في القرآن مثله وكذلك كلمة «مُهاناً» 69 أي ذليلا حقيرا مخزيا «إِلَّا» استثناء من الجنس في موضع النصب لا استثناء المؤمن قد بدل اعتبار الكفر في المستثنى منه «مَنْ تابَ» ومات على توبته «وَآمَنَ» بربه وكتابه ورسوله إيمانا صادقا «وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» فيما بينه وبين ربه وبين الناس بعد توبته.

مطلب تبديل الحسنات بالسيئات وشهادة الزور:

مطلب تبديل الحسنات بالسيئات وشهادة الزور: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» فيبدل شركهم بالإيمان، وقتل المؤمنين بقتل الكافرين الحربيين والزنى بالإحصان والعفة، وليس ببعيد على الملك الديان أن يبدل ما عملوه في الدنيا من السيئات بحسنات بالآخرة. روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار، رجل يؤتى به يوم القيمة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وادفعوا عنه كبائرها، فتعرض عليه صغارها، فيقال له عملت يوم كذا، كذا وكذا فيقول نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبائر ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول يا رب عملت أشياء لا أراها هنا، قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه، وسبب ضحكه أن الرجل كان خائفا من كبار ذنوبه ولذلك اعترف بصغارها، فلما رآها تبدل بحسنات أراد أن يعترف بالكبائر لتبدل أيضا «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» 70 بعباده بما يمن عليهم بذلك الفضل العميم. واعلم أن هذا التبديل لا يكون إلا لمن اتصف بما ذكر في الآيات المارات بدليل الإشارة إليها بقوله أولئك، ثم عمم بعد التخصيص فقال «وَمَنْ تابَ» من ذنوبه من العاصين أجمع «وَعَمِلَ صالِحاً» تحقيقا لتوبته «فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» 71 أي يرجع إلى ربه بعد الموت رجوعا حسنا أفضل من غيره، فالتوبة الأولى عن أمهات الكبائر وهي الموبقات السبع الثلاثة المبينة في الآية المارة وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، والسحر، وشهادة الزور، والثانية عن فروعها من مقدمات الزنى، والقتل، والتعديات الأخر، والمراد بهذه التوبة الرجوع إلى الله والندم طلبا للمجازات والمكافآت إذا أريد بهم التائبون المستثنون أو عن مطلق الذنوب إذا أريد غيرهم «وَ» من صفة أولئك العباد أيضا «الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» خصصها بعد التعميم لعظمها عند الله، ولما فيها من تضييع الحقوق وفساد الأخلاق، لأنها لا تكون إلا بالمقابلة أو بالعصبية أو الرشوة، وكلها مذمومة. روى البخاري ومسلم عن

أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.. وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطوف به بالأسواق. فليتنا نفعل بعض هذا في هؤلاء الذين تجارأوا على الله في شهاداتهم وأتلفوا حقوق ذوي الحقوق. اللهم سخر عبادك لاتباع الهدى وسلوك سنن الصلاح واجعلهم داخلين في قولك «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» 72 معرضين عنه لا يلتفتون إليه ولا يلقون له بالا، وأسرعوا عن أهله تنزيها لأنفسهم الطاهرة من أن يسمعوا كلام الغواة المتفحشين بالكلام البذيء الذي يجب أن يتباعد عنه وعلى العقلاء أن يعرضوا عن أهل اللغو ولا يجالسوهم ولا يرافقوهم حفظا لكرامتهم وهيبة لوقارهم واحتراما لمكانتهم وإهانة لهم، أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا ولم يقف فقال صلى الله عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما، ثم تلا هذه الآية. فالوقوف مواقف هؤلاء والخوض معهم قد يؤدي للانخراط معهم ولذلك وصف صلى الله عليه وسلم ابن مسعود بالكرم لإعراضه عن اللهو، فمن أراد أن يكون كريما عند الله وعند الناس فلا يقفنّ مواقف التهم. ولا معنى لقول من قال أن هذه الآية منسوخة بآية القتال لأن الإعراض عن مثل هذا مطلوب قبل الأمر بالقتال وبعده ثم ذكر صفتهم عند ما يوعظون فقال «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» أو زجروا فيها وحذروا مخالفتها فسمعوها سماع قبول بدليل قوله «لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها» أي يسقطوا وينكبوا «صُمًّا وَعُمْياناً» 73 بأن لا يلقوا لها بالا، بل يتلقون تلك الآيات التي ذكروا بها بالقبول، ويعوها بالإذعان، ويرعوها بالطاعة، ويخروا لها سجدا وبكيا، بآذان واعية وقلوب منكسرة وقوالب خاضعة مخبته، لا كالكفرة الذين لا يسمعونها إذا تليت ولا يعقلونها ولا ينظرون إليها ولم يقبلوها ولم يستكينوا لربهم.

مطلب قرة العين وسخنها والذرية:

مطلب قرة العين وسخنها والذرية: ثم ذكر صفة دعائهم لأنفسهم بقوله «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا» أولادهم وأولادهم واجعلهم لنا «قُرَّةَ أَعْيُنٍ» أبرارا صالحين أتقياء فائزين تقر أعيننا بهم لما هم عليه من عمل صالح وخلق كريم وذكر حسن. واعلم أن ليس أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده وأحفاده طائعين لأوامر الله مطيعين له ليطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره بهم في الدنيا والآخرة، وإقرار العين بردها لما يرد على صاحبها من الفرح والسرور، فتدمع دمعا باردا لشدة انشراح صدره، لهذا يقال أقرّ الله عينيك. وضدّه حمانا الله، أسخن الله عينيك. واسخان العين حرها لما يرد على صاحبها من الضيق والحزن فتدمع دمعا حارا لما حل به من الكرب وضيق الصدر، قال أبو تمام: فأما عيون العاشقين فأسخنت ... وأما عيون الشامتين فقرت وقال الآخر: نعم الإله على العباد كثيرة ... وأجلهن نجابة الأولاد وقال تعالى هنا، أعين جمعا للعيون الباهرة، لأن لفظ العيون في القرآن العظيم كله جمع للعيون الجارية. وقرئ ذرّيتنا بالإفراد وقرئت بالجمع قال تعالى «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» 74 يقتدى بنا في أفعال الخير اللهم اجعلنا منهم وقرّ أعيننا بأولادنا وأحفادنا يا الله يا الله يا الله بجاهك على نفسك، وحرمة كتبك وحق أنبيائك ومكانة أوليائك عليك وإمام يستعمل مفردا وجمعا واختير على أئمة المطابق لما قبله لكونه أوفق للفواصل التي قبله وبعده، والمراد هنا الجمع رعاية لمفعول جعل قال تعالى «أُوْلئِكَ» الذين هذه صفاتهم الممدوحة «يُجْزَوْنَ» من ربهم يوم الجزاء «الْغُرْفَةَ» الدرجة العالية في الجنة، لأن الغرف تطلق على البيوت الفوقية والحجر على السفلية والبيت عليهما، وذلك الجزاء الحسن ينالهم «بِما صَبَرُوا» على طاعة ربهم وعن شهوات أنفسهم في الدنيا هذا على أن الباء في بما سببية أو بدل صبرهم على أنها مصدرية وعليه قوله:

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا وعلاوة على الجزاء الحسن الذي يعطونه ويرون ثوابه فإنهم يكرمون عليه «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» 75 من كل مكروه ولا مكروه في الجنة أي دعاء بالبقاء فيها ودعاء بالسلامة، والسلام من الله وملائكته ومن بعضهم أيضا، وهؤلاء يبقون في هذا النعيم «خالِدِينَ فِيها» أي الجنة الموصوفة بالغرفة التي هي أعلى منازلها وتسمى محل الأمن من الأكوار قال تعالى «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» الآية 78 من سورة سبأ في ج 2 «حَسُنَتْ» تلك المنزلة الكريمة «مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» 76 كرمت مقاما وقرارا وهذا بمقابل «ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» الآية 66 المارة بسياق أهل العذاب الجهنميين «قُلْ» يا أكرم الرسل إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس بها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم، ولولاها لم يعتدّ بهم كغيرهم، كما أن أولئك الساقطين بتلك البلايا القبيحة التي يتباعد عنها المتباعدون إنما عوقبوا عليها بما عدد من مساويهم الخبيثة ولولاها لكانوا كغيرهم منعمين، ولهذا أكد عليهم يا حبيبي وقل لهم «ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي» ما يصنع وما يبالي بكم «لَوْلا دُعاؤُكُمْ» إياه عند الشدائد الملمات، ولكن لا ينفع هذا نفعا دائما إلا إذا آمنتم به وبرسوله وبكتابه، فإذ ذاك يظهر لكم عند ربكم وزن وقيمة ويعلو قدركم وتسمو مكانتكم عنده، لأنه لم يخلق الخلق إلا ليعبدوه ويحمدوه ويشكروا آلاءه لا لحاجة بهم- راجع تفسير الآية 56 من الذاريات في ج 2- لأن معنى عبأ ثقل والعبء في الأصل ثقل، والنفي منه معناه عدم الاعتناء والاعتداد والاكتراث بالشيء. أي أيّ اعتداد يعتد بكم ربكم إذا لم يكن لكم عنده قدر، فوجودكم لديه وعدمه سواء، وجواب لولا محذوف وتقديره لما اعتد بكم، لأنه لولا ما يقع منكم من الدعاء لكنتم والبهائم سواسية، وهذا بيان لحال المؤمنين من هذا الخطاب العام، أما حال الكفرة منهم فقد ذكره بقوله «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» برسولي وكتابي أيها الكفرة وجحدتم ربوبيتي ورفضتم توحيدي وعبادتي وكذبتم بي وأصررتم على مخالفة حكمي، ولم تقتدوا بأولئك الطائعين الصالحين من عبادي،

تفسير سورة فاطر عدد 43 - 35

الذين بوأتهم دار كرامتي بإنابتهم وإخباتهم لأوامري. قالوا قرأ ابن عباس وابن الزبير وعبد الله «فقد كذّب الكافرون» وهذه ان صحّت عنهم فإنهم عنوا بها تفسيرا لا قراءة، وإلا فهي قراءة لا يعتدّ بها ولا يجوز نقلها لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف المجمع عليها. على أن الآية تؤدي هذا المعنى دون حاجة للجنوح إلى هذه القراءة غير الصحيحة المخالفة للإجماع. أما ما قاله بعض المفسرين من أن الخطاب لكفرة قريش خاصة، وأن المعنى ما يعبأ بكم لولا إرادته لدعائكم له لعبادته لما عبأ بكم ولا خلقكم، فلا ينافي ما ذكر في تفسيرها، لأن الخطاب فيها عام يشمل كفرة قريش وغيرهم كما يشمل المؤمنين صدرها عامة أيضا، وقد أوضحنا هذا أعلاه، ثم هدد الكافرين المرادين بقوله «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ» بقوله جل قوله «فَسَوْفَ يَكُونُ» عذابي لكم «لِزاماً» 77 لا يفارقكم ولا ينفك عنكم بل يحيق بكم ويلزمكم حتى يكبكم في النار ويصليكم فيها، وهذا غاية في التهديد ونهاية في الوعيد لأن المعنى أن التكذيب لازم لمن كذب فلا يعطى التوبة كي ينال جزاءه، أجارنا الله من ذلك ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن إلا هنا وفي الآية 129 من سورة طه الآتية فقط. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تفسير سورة فاطر عدد 43- 35 نزلت بمكة بعد سورة الفرقان وهي خمس وأربعون آية، وتسعمائة وسبعون كلمة، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا، وتسمى سورة الملائكة وقد ذكرنا في أول سورة الفاتحة المارة ما يتعلق بأولها، ومثلها في عدد الآي سورة ق. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المحمود بكل مكان، المعبود في كل زمان، حمد نفسه بنفسه، جلت عظمة ذاته وقسمه تكريما لقدره، وتعليما لعباده، كي يمجّدوا خالقهم ورازقهم ومانحهم نعمه «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» بفتقها بعضها عن بعض، لأن الفاطر معناه الشاق وأصل الفطر

مطلب جواز إضمار الموصول ولا مجال في طلب الرزق:

الشق طولا، تقول فطره أي شقه قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» الآية 20 من سورة الأنبياء في ج 2 راجع تفسيرها لأنها من معجزات القرآن والأمور الغيبية. ثم تجوز فيه لكل شق، والمعنى أنه موجد خلقهما والعوالم التي فيهما لكونهما من الممكن، والأصل في كل ممكن العدم ليشير إليه قوله تعالى «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» الآية من آخر سورة القصص الآتية، ونظيرتها الآية 37 من سورة الرحمن في ج 3 من حيث المعنى وقوله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقد صرح بذلك فلاسفة الإسلام بقولهم: الممكن في نفسه ليس ... وهو عن علته ايس فذلك الإله الذي ابتدعها على غير مثال سابق، وشقها بعضها عن بعض، هو المستحق وحده للحمد. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما إني فطرتها أي ابتدأتها بالشق يعني هو الذي حفرها أولا وهو أحق بها. وهو كذلك شرعا إذا كانت الأرض التي فيها غير مملوكة للغير وإلا فلا «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» منه إلى أنبيائه يبلغونهم أوامره ونواهيه وغيرها بالوحي والتكليم، أما الإلهام والرؤيا الصادقة اللذان من جملة أقسام الوحي فليسا بواسطة الرسل- راجع بحث الوحي والإرهاص والفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة. مطلب جواز إضمار الموصول ولا مجال في طلب الرزق: وقريء فطر وجعل ماضيين، على إضمار اسم الموصول على مذهب الكوفيين، وأجازه الأخفش وذهب إليه ابن مالك، وحجتهم قوله تعالى «آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآية 46 من سورة العنكبوت في ج 2 أي والذي أنزل إليكم وقول حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ... وينصره ويمدحه سواء أي ومن ينصره ومن يمدحه، ومثله قول الآخر: ما الذي دأبه احتياط وعزم ... وهواه أطاع يستويان

أي الذي هواه أطاع. ولم يجز البصريون حذف الموصول الاسمي البتة، وان ابن مالك اشترط لجوازه أن يكون معطوفا على موصول آخر موجود، كما هو في الآية والبيتين وما نحن فيه ليس كذلك، لعدم وجود هذا الشرط في هذه الآية، تدبّر. ثم وصف الله تعالى ملائكته هؤلاء بكونهم «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى» اثنين اثنين «وَثُلاثَ» ثلاثة ثلاثة «وَرُباعَ» أربعة أربعة. واعلم أن العدد هنا ليس للتقييد، فالآية على حد قوله تعالى فمنهم من يمشي على رجلين الآية 49 من سورة النور في ج 3 لأن من الملائكة من له ستمائة جناح كما روى عن جبريل عليه السلام، ويوجد في الحيوانات من لها سبع وسبعون رجلا، ولكن العمدة على أربع. هذا، واعلم أنه لا يستنبط من هذا أن من الملائكة من له تسع أجنحة، وإن كان يجوز وجوده، وعليه فلا يصح الجمع هنا بين الأصناف الثلاثة ويجزم يكون ملكا له تسعة أجنحة على رأي من ضم هذه الأعداد بعضها لبعض في سورة النساء الآية 3 في ح 3، إذ لا يصح أن يجمع أحد بين تسع نسوة، راجع تفسيرها هناك تجد ما يقنعك على أن اللغة العربية تأبى الجمع في مثل هذا، تأمل قدرة القادر فإنه «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» لم يتقيد بعدد ونوع مخصوص أو جنس من أجناس الخلق كله من حسن وقبيح، وهذه الزيادة تتفاوت في الخلق والخلق والصوت والملاحة في العين والأنف والوجه وخفة الروح وجعودة الشعر وفلج الأسنان وطلاقة الوجه وبشاشته وحلاوة المنطق والطول وأضداد ذلك، وفي الصنعة من خياطة وصياغة وحياكة وتجارة وحجامة ونجارة وغيرها، وفي الصفة في الدين والفقر والغنى والمال والعلم والجهل والعقل، وغيرها من كل شيء، لأن الآية عامة تشمل الأوصاف الحسية والمعنوية «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1 وهذا تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور، أي أن شمول قدرته تعالى بجميع الأشياء مما يوجب قدرته جل شأنه على الزيادة في الخلق كله قال تعالى «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ» رزق وصحة وولد ومطر وغيره من جميع ما يشمله معنى الرحمة «فَلا مُمْسِكَ لَها» من أحد ما البتة «وَما يُمْسِكْ» من تلك

الرحمة الشاملة «فَلا مُرْسِلَ لَهُ» أبدا إذ لا يستطيع أحد إمساك ما يرسل كما لا يقدر أن يرسل ما يمسك «مِنْ بَعْدِهِ» كيف يجرؤ أحد أو يقدر على شيء من ذلك «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل أحد وعمله «الْحَكِيمُ» 2 الذي لا يعمل إلا ما تقتضيه حكمته من إعطاء ومنع ووضع ورفع، روى مسلم عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. والجد هنا الغنى والبخت أي الحظ، فلا ينفع الغني والمبخوت حظه وغناه، لأنها منك، وإنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك. أنظر رعاك الله ما أدعى هذه الآية إلى الانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عما سواه والإجمال في طلب الرزق اتباعا لأمر الرسول فيه القائل: أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما كتب له منها. فإذا علم هذا وكان من المؤمنين مال إلى إراحة نفسه وسكون باله عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليالي. أخرج ابن المنذر عن عامر ابن عبد قيس قال: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي: هذه الآية، وقوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الآية 108 من سورة يونس، وقوله تعالى (ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية 7 من سورة هود في ج 2، وقوله تعالى (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) الآية 8 من سورة الطلاق في ج 2. هذا، وبعد أن بين الله تعالى بأنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق كيفما يشاء أمر أهل مكة قوم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بشكر نعمه التي من جملتها اختصاصهم به، فقال «يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» التي من جملتها تشريفكم بنبي منكم وجعلكم من أمته ، وأسكنكم حرمه، وأمنكم بمنع غارات الناس عليكم، فأنتم محميّون بحمايته ويتخطف الناس من حولكم فانظروا وتفكروا «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» غيثا ونباتا لكم ولأنعامكم. وهذا استفهام إنكاري لإنكار التصديق وإنكار الحكم، وهو جائز كما في المطول وحواشيه،

أما قول الرضي بأن هل لا تستعمل للإنكار فإنه يريد الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) الآية 40 من سورة الإسراء الآتية، والمعنى هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو لغيركم؟ كلا، لا خالق سواه البتة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» 3 أي من أين يأتيكم البهت والافتراء والاختلاق بإنكار البعث والتوحيد مع أن الله يأمركم بهما ومع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم، فكيف يتوقع منكم التكذيب والإنكار، وما سبب صدوره منكم؟ قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا سيد الرسل فلا يهمنك شأنهم ولا يكن تكذيبهم عليك غمّة «فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» من قبل أقوامهم وفي هذه الآية تعزية لحضرة الرسول بقومه وتسلية بمن قبله من الأنبياء الكثيرين الذين كذبتهم أقوامهم وأهينوا وقوتلوا مثله، فله أسوة بهم، وفي قوله تعالى «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» 4 تهديد للكفار، لأن الله تعالى يقول لا تعبأ بهم فمصيرهم إلينا وإنا سنجازي المكذب منهم بما يستحقه. وفيها نعي لكفار قريش بعدم تلقيهم آيات الله بالقبول «يا أَيُّهَا النَّاسُ» ثقوا وتيقنوا «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ثابت واقع لا محالة لا يجوز تخلفه، وهذا الوعد هو الملمع إليه بجملة (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخارفها وطول الأمل فيها والصحة في الأبدان وكثرة الأرزاق والأمن «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ» من حيث أنه غفور رحيم رؤوف كريم عطوف لطيف مما يمليه عليكم «الْغَرُورُ» 5 من النفس والجن والإنس، فكلها تغركم وكل مبالغ في العزة والأنفة فهو غرور، وأغر كل غرور هو الشيطان الذي يستولي على قلوبكم بوسوسته، لغفلتكم عن ذكر الله في أعمالكم وأقوالكم، فاحذروا خداعه ومكره، ولا تلتفتوا إلى إغوائه وإغرائه، ولا تركنوا إلى الدنيا التي يزيّنها لكم. ثم صرح بذلك الغرور فقال «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ» قديم تأصلت عداوته فيكم، فلا تكاد تزول حتى يزول هو وليس بزائل إلا عند الأجل الذي ضربه الله له، ولستم بمدركيه لأن موعده النفخة الأولى التي لا يحضرها إلّا شرار الناس، فاهجروه رحمكم

الله وقوا أنفسكم من عذاب الله، وإذا أردتم التغلب عليه «فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» مبين العداوة واعفوه في كل ما يوسوس به إليكم، لأنه لا يأمر بخير، وعليكم بطاعة ربكم الموجه لفوزكم في الدنيا والآخرة، لأن الشيطان عليه اللعنة «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ» أشياعه وأنصاره الذين يصغون لوساوسه «لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» 6 معه جزاء عصيانه وعداوته المتتابعة من لدن أبيكم آدم عليه السلام وهذا تنبيه على أن غاية غرضه من دعوة إتباعه إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا، لتوريطهم باقتراف المعاصي فيستحقون معه التخليد في العذاب في تلك النار المسعرة، فالذين يوافقونه ويجيبون دعوته هم «الَّذِينَ كَفَرُوا» بالله ورسوله وكتابه وهؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» لا يطيقه البشر، راجع الآية 33 من سورة لقمان في ج 2 «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فيخالفون المغرور وأعوانه ويلجئون إلى ربهم ليعصمهم منهم ويحفظهم من دسائسهم فأولئك «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» 7 على إيمانهم الصادق وأعمالهم الصالحة، وقد زادهم الله على المغفرة الأجر، لأنهم زادوا على إيمانهم أعمالا صالحة فهم المؤمنون حقا المستحقون لكرم الله وإيفاء وعده بما لهم من الكرامة. وهو وعد حقّ ثابت. هذا ما يؤول إليه حال المؤمن، أما ما يؤول إليه حال الكفرة كأبي جهل وأضرابه الذين هم على شاكلته إلى يوم القيامة، الذين يستحلون دماء المؤمنين وأموالهم ويهينونهم فهم المعنيون بقوله تعالى «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» بسبب التزيين وقد حذف الخبر وهو كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح (أي ما هما متساويان) لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم إياه ونظير هذه الآية من جهة عدم حذف الخبر قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ الآية 65 من سورة محمد ونظيرتها الآية 113 من آل عمران، ومثلها من سورة الرعد في ج 3، وقوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) الآية 123 من سورة الأنعام في ج 2 وغيرها هذا، وإن شأن هذا الكافر المزين له سوء عمله وهو

مطلب أصل الهدى والضلال من الله تعالى:

أبو جهل على قول بعض المفسرين بأن هذه الآية نزلت فيه، وهي بعمومها تشمل كل من هو على شاكلته) شأن المغلوب على عقله الحائر في أمره مسلوب التمييز، الذي يأتمر برشد ولا يطيع المرشد، وهو أحد الأصناف الثلاثة. والثاني رجل ترد عليه الأمور فيسدّها برأيه، والثالث رجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي، وكأن أبو نواس أشار إلى الأول بقوله: اسقني حتى تراني ... حسنا عند القبيح وذلك نهاية في الضلال «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» حتى يكون كذلك فتحق عليه الكلمة فيدخل فيهم «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» فيريه الأمور على حقائقها الحسن حسنا فيتبعه والقبيح قبيحا فيتجنبه فيوفق إلى ما وعده الله من المغفرة والأجر فيدخل الجنة. مطلب أصل الهدى والضلال من الله تعالى: واعلم أن هذه الآية تصرح بأن الضلال والهدى من الله وحده لا دخل للعبد فيهما، لأنه مقدر عليه في أصل الخلقة يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم حينما قيل له ما فائدة العمل يا رسول الله؟ قال اعملوا فكل مسير لما خلق له. راجع تفسير أول سورة القلم المارة، وتفسير الآية 17 من سورة الأنعام في ج 2، والآية 41 من سورة الرعد في ج 3، وهذا ما يحله أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة القائلين بخلافه، إذ لا دخل للاختيار فيما اختاره الله، تدبر. ولهذا البحث تفصيل في الآيتين 77 و 78 من سورة النساء في ج 3 فراجعه، أما المصرّون على ضلالهم فهم هالكون لا محالة «فَلا تَذْهَبْ» بفتح التاء والهاء، وقريء بضم التاء وكسر الهاء، ونصب نفسك على المفعولية وعلى الأول رفعها على الفاعلية تدبر «نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» فتكثر غمك على كفرهم وإهلاكهم يا سيد الرسل، دعهم فإنهم خلقوا أشرارا لعدم انتفاعهم بما وهبوا من العقل الذي أعطوه ليميّزوا فيه الخبيث من الطيب، ويخلصوا أنفسهم من ذلك ولهذا البحث صلة في الآية 12 من سورة الشعراء الآتية، وكلمة حسرات حال من نفس محمد صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنها كأنها

مطلب الفرق بين ميت وميت وأن العزة من الله:

صارت كلها حسرات لفرط تحسره عليهم وعليه قول جرير: شقّ الهواجر لحمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلاكلا وصدورا الكلكل ما بين الترقوتين أو باطن الزور وهو من المحزم إلى ما يمس الأرض من الحيوان إذا ربض أو من الصدر، وعليه يكون العطف بيان والهواجر جمع هجر وهو نصف النهار عند الزوال. والمعنى أن مشي الإبل في ذلك الوقت لم يبق منها إلا كلاكلها وصدورها، وهذا ما ذهب إليه سيبويه في البيت، وقال المبرد إن الكلاكل والصدور تمييز محول عن الفاعل، أي حتى ذهب كلاكلها وصدورها وعليه قوله: فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي مقام ولكل وجهته، وقال تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الذي خلقهم أزلا «عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» 8 قبل أن يصنعوه وعليم بما يصنعونه بعد وما هم صائرون إليه، وإنما أظهر صنعهم لخالقه ليعرفوه. وهذا آخر ما نزل في أبي جهل وإخوانه في هذه السورة. وقال الضحاك إن القسم الأخير منها نزل في عمر رضي الله عنه فهو الذي هداه الله والحق العموم فيهما وفيمن هو على شاكلتها إلى يوم القيمة، ثم ذكر شيئا من كمال قدرته فقال: مطلب الفرق بين ميّت وميت وأن العزة من الله: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ» بالتشديد وقريء بالتخفيف وهما بمعنى واحد على المشهور. وقد خصص بعضهم المخفف بالميت حقيقة والمنقل والمائت بالذي لم يمت بعد، الذي على وشك الموت أي يكاد يموت، واستدل بقول القائل: ومن يك ذا روح فذلك ميّت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل وقول الآخر: ليس من مات فاستراح بميّت ... إنما الميّت ميّت الأحياء إنما الميّت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء

والمعوّل على الأول. والإثارة خاصة بالرياح «فَأَحْيَيْنا بِهِ» أي الغيث الناشئ عن السحاب المثار، وعبر عن الميّت بقوله «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات الناشئ عن هطول الغيث عليها «كَذلِكَ» مثل هذا الإحياء للأرض يكون «النُّشُورُ» 9 للأموات من البشر حين يقومون من قبورهم فكيف يجحدون البعث بعد أن شاهدوا ما هو من نوعه؟ روى ابن الجوزي عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال هل مررت بواد أهلك محلا، ثم مررت به يهتزّ خضرا؟ قلت نعم قال كذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه. قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ» فليطلبها من الله لا من غيره «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» فليعتزّ بطاعته من يربدها وليمتنع بمنعته لا بالأصنام التي يبتغي الكافرون الشرف بها، لأن الآية نزلت فيهم قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) الآية 91 من سورة مريم الآتية وقال في حق قليلي الإيمان (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) الآية 138 من سورة النساء في ج 3 ولا ينافي هذا التأكيد قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 9 من سورة المنافقين في ج 3 لأنها لله بالذات ولرسوله بواسطة قربه منه وللمؤمنين بواسطة قربهم من حضرة الرسول واتباعهم سنّته، ولهذه الإشارة (أعيد الجار وكرر) جاء في مجمع البيان أن أنسا رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز، ومن قدر فليطلبها من الله تعالى، فإن الطلب منه إنما يكون بالطاعة والانقياد. وقد تكون بالشجاعة والكرم والعلم، فهذه الثلاثة هي مصدر العزة، إلا أنه إذا لم يقصدها بتقوى الله فلا خير فيها، إذ تكون عزّة دنيوية موقتة مصيرها إلى الذلّ الدائم في الآخرة إذا لم تنزع منه في الدنيا. وجدير بأن ينزعها الله منه، فاذا نزعت يجتمع عليه ذلان، ولهذا قال تعالى قوله «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» بجمع أنواعه صعودا حقيقا سرا كان أو جهرا قولا أو فعلا، لأن له جل شأنه تجسيد المعاني وكيفية صعوده من

[سورة فاطر (35) : الآيات 11 إلى 20]

المتشابه المفوض تأويله إلى الله، وقدمنا ما يتعلق فيه عند تفسير الآية 30 من سورة ق المارة، وسنوضحه ونسهب البحث فيه في تفسير الآية 8 من آل عمران ج 3 إن شاء الله، وإن هذا الصعود على تأويل الخلف مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم، أو استعارة تشبيهية أي تشبيه القبول بالصعود، وعلى طريقة السلف صعود يعلم كيفية هو، وعلينا الإيمان به «وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» إليه ويقبله جل شأنه، وأعاد بعض المفسرين ضمير يرفعه إلى الكلم الطيب، وضمير النصب الذي هو الهاء إلى العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح. ومنهم من أعاد ضمير يرفعه إلى العمل الصالح، وضمير المفعول منه إلى الكلم الطيب وعليه يكون المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب وما جرينا عليه أولى. قال تعالى «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ» يعملونها قصدا لأن مكر لازم لا يتعدى إلا ضمن معنى القصد أو العمل أو الكسب «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» بسبب مكرهم ذلك «وَمَكْرُ أُولئِكَ» الماكرين «هُوَ يَبُورُ» 10 في الدنيا، ويبطل مفعوله مهما كان، وإذا كان كذلك ففي الآخرة فساد محقق، أما مكر الله فيهم فهو ثابت لا يزول، وقد مكر بهم إذ أخرجهم من مكة بواقعة بدر فأرداهم وطرحهم في قليب بدر وسيعذبهم في الآخرة عذابا عظيما. وأصل البوار فرط الكساد، قال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من بوار الأيّم (كالكيس هي من لا زوج لها بكرا أو ثيبا ومن لا مرأة له كذلك) وما قيل إن هذه الآية نزلت في الذين اجتمعوا في دار الندوة لتداول المكر به صلى الله عليه وسلم من قتل أو حبس أو نفي، لا صحة له، لأنه لم يحن بعد وقت التداول فيها، لأنها وقعت قبل الهجرة في آخر نزول القسم المكي من القرآن كما سنبينه آخر سورة العنكبوت في ج 2 إن شاء الله والحق أن هذه الآية عامة في كل ماكر سيء، وسنبيّن تفصيل حادثة الندوة في تفسير الآية 30 من سورة الأنفال في ج 3 إن شاء الله إذ ذكر فيها هذه الحادثة صراحة، وقد ألمع إليها قبل وقوعها بثلاث سنين في سورة الإسراء الآتية في الآية 76 كما ستطلع إن شاء الله. ثم ذكر دليلا آخر

مطلب لكل حظه من خلق آدم وأن العمر يزيد وينقص:

على صحة البعث والنشور فقال «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» أي خلق أصلكم آدم عليه السلام بدليل قوله «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ» خلقكم أنتم يا ذرية آدم «مِنْ نُطْفَةٍ» مكونة من ماءي الرجل والمرأة. مطلب لكل حظّه من خلق آدم وأن العمر يزيد وينقص: وقد شمل ضمير خلقكم في هذه الآية ذرية آدم مع أنهم لم يخلقوا في التراب باعتبار ابتداء الخلق منه في ضمن خلق آدم خلقا إجماليا، لأن كلمتي مستقر ومستودع الواردة بعد قوله (أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) في الآية 98 من سورة الأنعام في ج 2، والملمع إليها في الآية 189 من سورة الأعراف المارة، تشعر بذلك، وعلى هذا يكون بطريق التسلسل لكل إنسان حظّ من خلق آدم كما سيأتي تفصيله هناك إن شاء الله «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» ذكرانا وإناثا، وزوج بعضكم بعضا لتوالدوا فتكثروا فيباهي بكم الأمم «وَ» اعلموا أيها الناس أنه «ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ» ما تحمله أو تسقطه قبل تمام أجله «إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ» يمد في عمره ويطيله «وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ» من سنين وشهور وأيام وساعات ودقائق وثوان ولحظات «إِلَّا فِي كِتابٍ» مدوّن مثبت عند الله في لوحه المحفوظ الحاوي على أعمال العباد وتقلّباتهم في أصغر من الذرة إلى ما شاء الله من الكبر «إِنَّ ذلِكَ» الذي تزعمونه أيها الناس من كتابة أعماركم وآجالكم وأحوالكم ومعرفة ما يزيد منها وما ينقص وما يبدل أو يغير منها جدا عليكم صعب، لا تتمكنون من إجرائه ولكنه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 11 سهل لأن الكون بما فيه بمثابة شيء واحد عند الله القائل (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية 38 من سورة لقمان في ج 2 واعلم أن زيادة العمر ونقصه يكون بالنسبة لأسباب مختلفة لا تعلم إلا عند وقوعها، وهي ثابتة عند الله فلا تكون إلا بعلمه وتقديره، مثلا جاء في الحديث الصحيح أن الصدقة تزيد في العمر وأن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار، وقال كعب لو أن عمر رضي الله عنه دعا الله تعالى آخر أجله.

أي لزاد له فيه لما يعلم من أنه مجاب الدعوة، وأن وجوده يعلي شرف الإسلام، إلا أن هذا لا يلزم منه تغيير التقدير الأزلي، لأن في تقديره تعالى تعليق أيضا، وإن كان ما في علمه الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو، فلو شاء لم يوفق المتصدق للتصدق وصلة الرحم وسائر الأعمال التي ورد في الأحاديث أنها تزيد في العمر، على أن الأجل ينقص شيئا فشيئا من حيث لا يحس به، لأن الإنسان لا يعلم أمده حتى يحسب ما مضى من عمره، وقيل في المعنى: حياتك أنفاس تعد فكلما ... مضى نفس منها انتقصت به جزءا والعادّ لها هو الله وسنوفي هذا البحث في تفسير الآية 39 من سورة الرعد في ج 3 إن شاء الله تعالى في بيان ما يمحوه الله من أعمال وأعمار العباد وأقوالهم وأرزاقهم وما يثبته، وأسباب ذلك ومستنداته. قال تعالى «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ» هنيء مريء يرطب القلب، ويشرح الصدر، وتستريح له الجوارح ويصلح للنبات كله «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» قريب إلى المرارة يحرق القلب، ويقطب الريق، وتعافه النفس، وتنفر منه، عديم الإرواء والإنبات، ضار غير نافع شربه للخلق والنبات، وحتى أنه يضر في مواد البناه، هذا مثل ضربه الله إلى المؤمن والكافر، من أنهما وإن اشتركا في بعض صفات الخلقة فإنهما لا يستويان عند الله وكل منهما نسبة ما شبه به «وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا» من أنواع حيواناته غضا جديدا خلقه لكم أيها الناس، وقد سماه الله لحما، والسمك بالعرف ليس بلحم ولهذا قال الفقهاء من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث لعدم إطلاق اسم اللحم عليه عرفا، كما لو حلف لا يركب دابة فركب إنسانا لا يحنث مع أن الإنسان داخل في معنى الدواب لغة، قال تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) الآية 13 من سورة الأنفال في ج 3 وقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية 57 منها أيضا إلا أنه لا يسمى دابة عرفا ولا يخفى أن الأيمان مبناها على العرف، لذلك لا يحنث، وقد سموه الآن اللحم الأبيض وأدخلوه مع الطيور لخفته، وقال مالك

والنووي الحالف بالأول يحنث لظاهر الآية، والفتوى على الأول، لأن الحالف حينما يحلف على عدم أكل اللحم يتصور لحوم الأنعام فقط، كما أن الحالف في الركوب لا يتصور ركوب الإنسان بل ما يطلق عليه اسم دابة حقيقة «وَتَسْتَخْرِجُونَ» من البحرين المذكورين كما هو ظاهر العطف «حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» فمن الملح اللؤلؤ والمرجان واليسر وغيرها، ومن الحلو الصدف وعظام السمك التي يصنع منها قبضات السيوف والخناجر وأزرة الألبسة وغيرها، وقد يوجد في بعض الصخور التي في مجاري المياه ماس، قال تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الآية 22 من سورة الرحمن في ج 3، ولا يبعد أن يوجد شيء من ذلك في النهر العذب، لأنه قد يوجد في البحر الملح عيون عذبة تخرج فيه، فيكون منها اللؤلؤ، ومن هذا ما هو موجود الآن في البحرين حيث يوجد فمن البحر كما صرح به الشيخ محمد خليفة في تاريخه لجزيرة العرب في ص 240 عدة عيون ماء حلو يذهب إليها بالقوارب ويستقى منها كما ذكرناه في تفسير الآية 52 من سورة الفرقان المارة وقد أخبرني السيد كامل العاص الرجل الصالح الكريم من أهالي جباة الزيت التابعة لقضاء القنيطرة (من أعمال دمشق) إذ كنت فيها، أنه أثناء وجوده في أمريكا شاهد زمن سيره في البحر ماء حلوا منسابا فيه ويمتاز على ماء البحر بلونه فماء البحر في ذلك المكان يضرب إلى الزرقة بل إلى السواد لشدة عمقه، والماء الحلو المنساب فيه التابع منه يضرب إلى البياض، وهو رجل صادق والله لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير. وقال بعض المفسرين إن الحلية لا تكون إلا من الماء المالح، وأن ما جاء في آية الرحمن المارة هو على طريق التغليب وإسناد ما للبعض إلى الكل وهو غير وجيه لمخالفة ظاهر الآية وحملها على التأويل دون ضرورة، ولأنه لو فرض أنه لم يخرج من الماء الحلو إلا الصدف لكفى، لأنه حلية من وجه داخلة في قوله تعالى تلبسونها «وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ» أي ماءي الحلو والمالح، كما هو مشاهد، فلا يقال إنها خاصة بالملح أيضا إلا أن الكبار العظام خاصة في البحر والصغار منها فيه وفي الأنهر «مَواخِرَ» تمخر أي

تشق المياه شقا يجريها فيها مقبلة ومدبرة وذلك «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الربح بالتجارات وتزوروا البلدان الناثية والجزر وغيرها، ولتطلعوا على مصنوعات ربكم فيها «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 12 نعمه عليكم في ذلك كله. واعلموا أن هذا الإله العظيم «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» يدخل أحدهما بالآخر حتى يصير أحدهما بقطرنا مزائدا على الآخر أربع ساعات وكسور بصورة تدريجية، فيبلغ النهار بالصيف أربعة عشرة ساعة ونصف تقريبا، والليل تسعة ونصف، وعلى العكس بالشتاء ثم يتساويان شيئا فشيئا، وهكذا بعيد الكرة أحدهما على الآخر إلى أن يأذن الله لهذا النظام البديع بالانقراض. وفي بعض الأقطار أكثر من قطرنا وأنقص حتى يبلغ كل منهما اثنين وعشرين ساعة تقريبا «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ» منهما «يَجْرِي» في محوره المخصوص ومسافته المقدرة له، وهكذا يستمران بسيرهما «لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عند الله لا يعلم غيره «ذلِكُمُ» أيها الناس الإله العظيم القادر المبدع «رَبُّكُمْ» الحق لا البشر والملائكة ولا النجوم والحيوان ولا الجماد والأوثان فهو وحده «لَهُ الْمُلْكُ» يتصرف فيه كيف يشاء «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الآلهة «ما يَمْلِكُونَ» من هذا الملك وما فيه وفوقه وتحته «مِنْ قِطْمِيرٍ» 13 قدر لفافة النواة ولا أقل منه وإنما مثل به لأن كل تافه يقال له قطمير قال الشاعر: وأبوك يخصف نعله متوركا ... ما يملك المسكين من قطمير وهو على حد الذرة والنقير والفتيل وأف وما ضاهاها ونظير صور هذه الآية 29 من سورة لقمان في ج 2 والآية 27 من سورة آل عمران والآية 6 من سورة الحديد والآية 61 من سورة الحج في ج 3، وقدمنا في الآية 47 من سورة يس ما يتعلق بزيادة الليل والنهار وقصرهما بصورة مسهبة، قال تعالى مندّدا بأوثانهم «إِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها المشركون «لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» لأنها جماد «وَلَوْ سَمِعُوا» على سبيل الفرض والتقدير أو الذين من أهل السمع منهم «مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» دعاءكم لأنهم عاجزون ومملوكون لله الذي خلقكم

وخلقهم، فكيف يقدرون على شيء مما في ملكه أو يشاركونه في شيء منه في هذه الدنيا، كلا لا يقدرون البتة «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» ترونهم «يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» فيجحدونه ولا يعترضون به حيث يضع الله فيها قوة التكلم تبكيتا لعابديها، فتتبرأ منهم ومن عبادتهم «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» 14 يعني نفسه المقدسة جلت وعظمت، أي لا يخبرك أيها السامع بحقيقة الأمر مثلي، أنا الله الذي لا يخفى عليّ شيء في سمواتي وأرضي، ومن أصدق من الله راجع الآية 56 من سورة الفرقان المارة «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ» في جميع أموركم الظّاهرة والباطنة وأنتم محتاجون إليه فيها «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ» عنكم وعن أعمالكم وعن كل ما في كونه «الْحَمِيدُ» 15 المستحق الحمد بإنعامه عليكم، فاحمدوه واشكروه وحسن ذكر الحميد بعد الغنى لمناسبة ذكره بعد الفقر إذ الغنيّ لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما، وهو كالتكميل لما قبله وعليه قول كعب الغنوي: حليم إذا ما الحلم زيّن أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب وذلك الإله الغنى الحميد «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس فيفنيكم بلحظة واحدة «وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» 16 غيركم بلحظة أيضا يعبدونه لا يشركون به شيئا «وَما ذلِكَ» الإذهاب والإتيان «عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» 17 صعب أو ممتنع بل هين جدا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن ما يأتي به من الخلق أبدع مما هو موجود الآن وهو كذلك لأن القادر المبدع لا يعجزه شيء ولا يرد على هذا قول حجة الإسلام (ليس في الإمكان أبدع مما كان) لان ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية في كلام ذلك الحجة بمعنى آخر تصورة بفكره الثاقب ولم يبيّنه أو لم نقف عليه ولسنا من رجاله لنرد عليه، وسيأتي توضيح أكثر لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية 27 من سورة إبراهيم في ج 2. مطلب لا تزر وازرة وزر أخرى:

قال تعالى «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل كل نفس إلّا وزرها وقد مر تفسيرها في الآية 38 من سورة والنجم المارة، وهاتان الآيتان لا يتنافيان مع الآية 88 من سورة النمل والآية 14 من سورة العنكبوت في ج 2 وهي (لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) لأن هذه في الظالمين المضلين لانهم يحملون إثمهم وإثم من يضلونهم «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ» بالأوزار في ذلك اليوم الذي يفر فيه الأخ من أخيه والأب من ابنه والزوجة من زوجها «إِلى حِمْلِها» الذي أثقلها ليحملوا منه شيئا يخففون به عنها مما جنته من الذنوب في الدنيا «لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ» إذ لم يجبها أحد ممن تستنجد به وتستغيث، لان كلا مشغول برزره حائر في أمره «وَلَوْ كانَ» من تدعوه أو ترجوه «ذا قُرْبى» منه، فإنه لا يجيب دعاءه ولا يحمل عنه شيئا. قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول (كل منها) يا بني احمل عني بعض ذنوبي، فيقول لا أستطيع حسبي ما عليّ. وظاهر الآية نص في الحمل الاختياري فيكون ردا لقول المضلين ولتحمل خطاياكم، يؤيده سبب النزول وهو كما روى عن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعليّ وزركم فنزلت هذه الآية، إلا أن المنفي عام وعمومه ينافي اختصاصه بالاختيار، لأنه يعم أقسام الحمل، جبرا أو اختيارا. قال تعالى يا أكرم الرسل «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يروه فهم الذين تنفعهم الذكرى بوعظك وإنذارك لاولئك المشركين «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» معك ابتغاء مرضات الله فيصلون معك من غير أن أفرضها عليهم اقتداء بك ونأسيا بأفعالك، وذلك أن الركعتين اللتين فرضهما الله على رسوله كانتا خاصتين به يؤديهما في الغداة والعشية ولم يأمر أحدا من أصحابه بفعلها لان الله لم يأمره بذلك وكان بعض أصحابه يفعلونها تأسيا بفعله ليس إلا، وهذا المراد والله أعلم من هذه الصلاة لان الصلاة المكتوبة لم تفرض بعد كما نوهنا به غير مرة عند كل ذكر لفظ الصلاة «وَمَنْ تَزَكَّى» من أوزار المعاصي بفعل الطاعات والقربات وصلى معك هذه الصلاة من غير أن تفرض عليه قصد

[سورة فاطر (35) : الآيات 21 إلى 30]

التطهير لنفسه وتزكيتها «فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ» خاصة لأنه هو المنتفع بها. وقرأ ابن مسعود وطلحة (أزكى) بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في ابتداء، وهي قراءة شاذة لا عبرة بها لما ذكرنا غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه أو تبديله لا قيمة لقول من يقول بها «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» 18 لا إلى غيره فيجازى الدنس على رجسه والمتزكي على طهارته، ثم ضرب الله مثالا آخر للجاهل والمؤمن فقال «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» 19 وللكافر والمؤمن بقوله «وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ» 20 وللجنة والنار بقوله «وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ» 21 ولمن ينتفع بدعوة الرسل ومن لا ينتفع بها بقوله «وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ» مطلب في إسماع الموتى: وختم هذه الآية العظيمة وكل آيات الله عظيمة، بجملة فعلية تعود لكل من هؤلاء وهي «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ» إسماعه سماع قبول فيتعظ بما يسمع ويهتدي به، أما الذين لم يشأ إسماعهم فلا تقدر يا أكمل الرسل على إرشادهم لأنهم في حكم الأموات ولذلك قطع رجاءه منهم بقوله «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» 22 فكما أن الموتى لا يجيبون الدعوة فكذلك هؤلاء، وهذه الجملة ترشيح للمصرين على الكفر. ولهذا فيكون المعنى لا تحرص يا حبيبي وتجهد نفسك على دعوة قوم مخذولين، قد سبق لهم الشقاء في علم الله «إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ» 23 لهم ومبلغ لا مجبر ولا مسيطر عليهم، فمن سمع منك إنذارك سماع قبول انتفع به وأرشد، ومن أعرض عنه فقد هلك وفسد فاتركه لا تأسف عليه. ولا يرد على هذه مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم قتلى بدر في القليب، لأن المراد نفي الإسماع بطريق العادة، وذلك على طريق المعجزة وهي خارقة للعادة، وما يدريك أن الله تعالى هو الذي أمره بخطابهم على حجة التبكيت والتوبيخ والتقريع بهم، وبأمثالهم إذ ذاك، لأنه لا ينطق عن الهوى، وما يدريك أن الله أسمعهم كلامه أيضا وأعطاهم قوة الرد عليه وإسماعه جوابهم وهو على كل شيء قدير «إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسل لهؤلاء وغيرهم «بِالْحَقِّ بَشِيراً» بالوعد وإنجازه للطائعين «وَنَذِيراً» بالوعيد

مطلب عدم انقطاع آثار الأنبياء وعدم تكفير فاعل الكبيرة:

وتنفيذه للعاصين «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» 24 من نبي أو رسول أو خليفة لهما، وهذا عموم خص منه العرب ما بين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، إذ لم يرسل إليهم رسول ولا خليفة رسول ولم يترك لهم كتاب، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى من سورة السجدة والآية 44 من سورة سبأ في ج 2، وقد مرّ شيء عنه في تفسير الآية 16 من سورة يس المارة. مطلب عدم انقطاع آثار الأنبياء وعدم تكفير فاعل الكبيرة: ولا يقال إن أكثر الأمم بين إبراهيم وموسى، وموسى وعيسى، وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم لم يسلف فيها نذير وقد خلت من النبوة، لأن آثار الأنبياء فيهم باقية، وما وقع من العذاب على الكافرين منهم تنافله الخلق عن السلف، ولم ينقطع التعبد بصحف إبراهيم وإرشاده إلى زمن موسى، ولا بالتوراة إلى زمن عيسي، ولا بالإنجيل إلى زمن محمد بالنسبة لأهل الكتاب، وكذلك من قبلهم إذ دامت وصايا الأنبياء فيهم بالتناقل، وعلى هذا لم يخل وجه الأرض من آثار النبوة إذ كلما اندرست تعاليم نبي أعقبه الآخر فيحدد عهده وينشر أوامر ربه فيهم، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث قبل تمام اندراس أحكام التوراة والإنجيل، فجدد ما اندرس من ذلك شأن الأنبياء قبله وبعد أن آتاه القرآن عمم أحكامه وأمر برفض ما يخالفه، لأنه الحكم الأخير القاطع الساري على أهل الأرض إلى وقت إبادتهم، فهو خاتم الكتب السماوية، كما أنه خاتم الرسل والأنبياء، وآثار إنذاره وإرشاده الحسي والمعنوي مما جاء به من عند ربه، وما سنّه لأمته باق بتمامه إلى اليوم وبعده وإلى أن يرث الأرض ومن عليها بارئها، وقد تعهد الله له بحفظ كتابه إلى اندراس هذا الكون وحتى لا يبقى من يقول لا إله إلّا الله. قال عليه الصلاة والسلام: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق- وفي رواية لا يضرهم من خالفهم- حتى يأتي أمر الله القائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 10 من سورة الحجر في ج 2، حتى إذا جاء أمره بخراب هذا الكون رفعه بموت أهله وعدم تعلمه، واكتفى بهذه الآية بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرها مقرونين في أولها، لأن

النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكرها عليها، قال بعضهم: إن عموم هذه الآية وقوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) الآية 29 من سورة الانعام في ج 2، يفيد أن في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرونهم. وهو قول باطل لا تخفى سماجته على البهائم أمثال هذا القائل. وما نقل عن الشيخ محي الدين قدّس سره في هذا المعنى لا يكاد يصح، وإذا كان موجودا في كتبه فهو من جملة ما دس فيها عليه من الجمل التي يبعد أن تصدر عن مثله. قال محمود الآلوسي في تفسيره رأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر وأنا أقول إذا لم يكن كفرا فهو قريب منه، والأولى أن لا يكون كفرا لاحتمال التأويل في ذلك وكل ما احتمل فيه التأويل لا يكفر به، وعلى فرض أنها كبيرة ففاعلها لا يكفر راجع تفسير الآية 76 من سورة يس والآية 19 من سورة الفرقان المارتين، قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم وآذوهم كما فعل بك قومك وقد «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الواضحات مثل ما جئتهم به «وَبِالزُّبُرِ» الصحف المكتوبة على الألواح المنزلة من لدنا على أنبيائهم السابقين «وَبِالْكِتابِ» الذي أنزلناه جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور «الْمُنِيرِ» 25 كل منها بأوضح وأفصح الدلائل على توحيدنا ومع ذلك لم يؤمنوا، فلا تذهب نفسك حسرات عليهم. وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من نكد قومه ليخفف عنه بعض همه عليهم واهتمامه بهم، لاستعجال إيمانهم، وإن شأنه شأن من قبله من الأنبياء مع أقوامهم، وان له أسوة بهم في عدم قبول الدعوة وتحمل الأذى «ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بهم وبكتبهم بعقوبات متنوعة بعد إمهالهم مددا يتذكر فيها من يتذكر «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» 26 عليهم وتعذيبي لهم إنه كان شيئا عظيما لم يتصوروه، ولم يقدر على إنزال مثله غيري أنا الإله المنتقم ممن كفر بي، وفي هذه الآية تهديد لقريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا لم يؤمنوا يحل بهم ما حلّ بغيرهم من النكال «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» في الخضرة والحمرة والصفرة

مطلب خشية الله تعالى:

وغيرها مما لا يحصر لونا وجنسا وشكلا ونوعا، مع أنها تخرج من أرض واحدة وتسقى بماء واحد، وتتفاوت بالنمو وتختلف بالحجم والطعم، وتنضج بسبب واحد، وتختلف بذلك كله، فسبحان البالغ بالقدرة والصنع «وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ» طرق جمع جادة، ويأتي بمعنى النهر وطريقه، وخطط مختلفة اللون أيضا منها «بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها» لأن كل طريق على لون أرضه، وكل لون يتشعب منه ألوان كثيرة من الزرقة والصّفرة «وَغَرابِيبُ سُودٌ» 27 يقال أسود حالك لشديد السواد تشبيها بالغراب، كما يقال أبيض ناصع وأحمر قاني، وما أشبه ذلك، والغربيب أبعد لون في السواد، وجاء في الحديث: إن الله يبغض الشيخ الغريب الذي يخضب شعره بالسواد ويتمادى في السّفه أو الذي لا يشيب لسفاهته وعدم اهتمامه بآخرته، وفي مثله يقول الشاعر: العين طامحة واليد شامخة ... والرجل لائحة والوجه غربيب يريد أن شعره أسود حالك وكلمة سود بالآية بدل من غربيب المعطوفة على بيض، وهي لم تتكرر بالقرآن «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أيضا لأنها كلها من الأرض، والأرض متنوعة فتتبع أصلها «كَذلِكَ» كاختلاف الأثمار والجبال. وهنا تم الكلام فيما يتعلق بذلك. مطلب خشية الله تعالى: ثم يبدأ بقوله «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» قال ابن عباس: إنما يخافني من علم جبروتي وعزتي وسلطاني. وقال مقاتل: أشد الناس خشية لله أعلمهم به. وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله ليس بعالم. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: صنع رسول الله شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فو الله إني لأعلمهم به وأشدهم له خشية (ومعنى ترخّص أي لم يشدد فيه، وتنزه تباعد عنه وكرهه) ورويا عن أنس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم

كثيرا، فغطى أصحاب رسول الله وجوههم لهم خنين (بكاء مع غنة) والمراد بالعلماء هنا المخلصون العارفون بالله العالمون بما يليق به من صفات وأفعال حق العلم والمعرفة، لا العالمون بالمنطق واللغة والهندسة والرياضيات والكيمياء والسحر وغيرها، لأن هذه وإن كانت علوما يطلب تعليمها لمصالح الدنيا، إلا أنها لا تكون مدارا لخشية الله المنوه بها في الآية التي كلما ازداد بها العالم معرفة ازداد معرفة بالله، وكان أكثر خشية له من غيره. نعم إن في علم الطب وتشريح الأعضاء والوقوف على كامل خلق الله ما يوجب الخشية لله والرجوع إليه، وجدير بالكافر أن يؤمن إيمانا كاملا لما يرى من بديع صنع الله في خلقه، ولكن قليل ما هم أولئك الذين يتفكرون في ذلك. روى الدارمي عن عطاء قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه. قال يا رب أي عبادك أغنى؟ قال أرضاهم بما قسمت له. قال يا رب أي عبادك أخشى؟ قال أعلمهم بي. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنا أخشاكم لله وأتقاكم له. وقرأ بعضهم برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء، وأول يخشى بيعظم، وليست بشيء لأن يخشى لا يأتي بمعنى يعظم من حيث اللغة فضلا عن انها قراءة بخلاف الظاهر، ولذلك لا عبرة بها، وإن كان المعنى صحيحا لما فيها من التكليف دون حاجة، والتأويل دون مستند ومعناها على الوجه الذي ذكرناه أولى وأليق «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب كامل القدرة على الانتقام ممن لا يخشاه «غَفُورٌ» 28 لمن خشيه وأناب إليه. واعلم أنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، ومن كان كذلك فحقه أن يخشى، قالوا أنزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه إذ ظهرت عليه خشية الله حتى عرفت فيه، وهو أحق وأولى أن تنزل فيه الآيات، إلا أن الآية عامة، ولا دليل يخصصها بأحد فيدخل فيها أبو بكر دخولا أوليا، وكل من يخشى الله إلى يوم القيامة خشية حقيقية قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ» مع حضرة الرسول قبل أن تفرض عليهم تأسيا به «وَأَنْفَقُوا» تطوعا على الفقراء والمساكين من قراباتهم وغيرهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته «مِمَّا

[سورة فاطر (35) : الآيات 31 إلى 40]

رَزَقْناهُمْ» من فضلنا مما هو فاضل عن كفايتهم «سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ» بذلك الإنفاق «تِجارَةً» مع الله تعالى فقد نيل ثوابه «لَنْ تَبُورَ» 29 تكسد بل تتداول دائما، وقد تعهد الله لمثل هؤلاء على لسان رسوله بقوله واعدا مؤكدا «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ» كاملة على أعمالهم هذه «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة عظيمة، وما بالك بزيادة الله أيها القارئ فهي وهو أعلم كما قال ابن عباس مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم تخطر على قلب بشر «إِنَّهُ غَفُورٌ» كثير المغفرة لذنوب عباده المنفقين في سبيله «شَكُورٌ» 30 لعملهم هذا «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْكِتابِ» هو من كلامنا الأزلى ليس بسحر ولا كهانه ولا شعر، وإنما «هُوَ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه وقد أنزلناه «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب المتقدمة لاشتماله عليها وزيادة كثيرة لم تذكر فيها ولم تنزل على أحد قبلك، لأنه خاتمة الكتب أنك خاتم الرسل وهو ناسخ لكل ما يخالفه مما في الكتب القديمة «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» 31 ببواطن الأمور وظواهرها، يحيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمرهم «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» أمتك المخلصين الجارين على طريقك، لأننا اصطفيناهم لك من بعدهم كما اصطفيناك لهم من بعد الرسل، قال ابن عباس يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه اصطفاهم على سائر الأمم، واختصّهم بكرامته، بأن جعلهم اتباع سيد الرسل، وخصّهم بأفضل الكتب، وجعلهم خير الأمم ثم قسمهم جل شأنه أقساما ثلاثة فقال «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» وهم المرجون لأمر الله مثل الآتي ذكرهم في الآية 108 من سورة التوبة في ج 3 فهؤلاء إن شاء عذّبهم بعدله، وإن شاء عفا عنهم بفضله «وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهؤلاء مقطوع لهم بالنتيجة بأنهم من أهل الجنة، لقوله تعالى «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» الآية 104 من سورة التوبة لأن عسى فيها للتحقيق وهكذا كل عسى بالبينة لله تعالى «وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» وهؤلاء يدخلون الجنة بغير

حساب، المرادون في قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الآية 102 من التوبة أيضا، كما سنبين هذا كله في محله في تفسير هذه الآيات وآخر سورة الواقعة الآتية إن شاء الله تعالى قال عمر رضي الله عنه على المنبر بعد تلاوة هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له، وجاء أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، وأما الظالم فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو، ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة- رواه أبو الدرداء- وقال ابن عباس: السابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها. وقال الربيع بن أنس: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما. فوافق هذا التأويل القرآن والحديث والأثر وقول السلف الصالح، فتدبر وانظر لنفسك أي الدار تختار. واعلم أن المتلبس بإحدى هذه الخصال الثلاث، ما كان تلبسه إلا «بِإِذْنِ اللَّهِ» وأمره وإرادته وتوفيقه وقضائه وقدره «ذلِكَ» إيراث الكتب والاصطفاء لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» 32 الذي لا أكبر منه، إذ لم يعطه أحدا قبلهم، فكل الأمم لم تختص بما خصت به هذه الأمة كما أن رسولها خص بأشياء لم تختص بها الأنبياء قبله، راجع تفسير الآية 158 من سورة الأعراف المارة، وأي فضل أعظم من هذا، لأن السابقين منهم يدخلون الجنة فور خروجهم من قبورهم، والمقتصدين بعد الحساب، والظالمين بعد العذاب. ثم بين جل بيانه بعض ذلك بقوله «جَنَّاتُ عَدْنٍ» إقامة دائمة «يَدْخُلُونَها» بمحض الفضل لا دخل للكسب فيها «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً» مرصعا فيها، ومن هنا تعلم أهل الدنيا ترصيع الذهب بالأحجار الكريمة «وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» 23 ناعم زيادة في التنعم والترف، ولما رأى أهل الجنة ما غمرهم به الله من فضله شكروه «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» الذي كنا نكابده في الدنيا خوف عاقبة هذا اليوم في عدم قبول الأعمال والمؤاخذة على ما صدر منّا. روى البغوي عن أبي عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس

مطلب نذر الموت ومعنى الغيب:

على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» 34 ومن فضله وكرمه لعباده أنه يغفر الذنب العظيم ويشكر العمل القليل «الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ» وهي الجنة لأنها دائمة لا يبرح عنها أهلها ولا يفارقونها عطاء «مِنْ فَضْلِهِ» ولطفه وعطفه، لأن العمل مهما كان كثيرا لا يؤهل صاحبه ما ذكره الله له هنا. ومن تمام النعمة أنه «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ» تعب ولا مشقة «وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» 35 كلال وملالة ولا فتور وإعياء، ولم تكرر هذه الكلمة إلا في الآية 28 من سورة ق المارة وهذه الأحوال لا تحصل إلا بنتيجة العناء، وهذا من جملة ما من الله به على عباده المؤمنين. هذا أيها الناس حال أهل الجنة جعلنا الله من أهلها، أما حال أهل النار فانظروا ماذا يحلّ بهم من المنتقم الجبار واسألوا الله العافية. مطلب نذر الموت ومعنى الغيب: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ» بعذابها «فَيَمُوتُوا» مرة ثانية ويستريحوا منه «وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» فيها بل يبقى مشتدا عليهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع الذي لا تقواه القوى «نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» 36 لآياتنا جحود لنعمنا، مكذب لرسلنا، ثم بين حالهم فيها أجارنا الله منها بقوله «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها» يتصايحون من شدّة الألم ودوامه بأصوات عالية، ولما لم ينفعهم ولما يرد عليهم، يعودون فيستغيثون قائلين «رَبَّنا أَخْرِجْنا» من هذا العذاب وأعدنا إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً» كما تحب وترضى فنطيع الرسل، ونصدق الكتب، ونؤمن باليوم الآخر، ونعترف لك بالوحدانية الفردة، ونعمل يا ربنا «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» في الدنيا قبلا من التكذيب والجحود والإشراك، فيوبخهم الله تعالى بقوله «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» في الدنيا «ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» لو أردتم ذلك لأنا أمهلناكم مدة كافية ما بين الخامسة عشرة من أعماركم إلى الستين، فأكثر وأقل، ولم يجدر

بكم ذلك الإمهال. وقيل المراد بهذا العمر هو سن البلوغ الثامنة عشرة سنة فقط، أو سن الكمال الأربعون سنة، أو سن الانتهاء الستون فما فوق، وقد ذكّرناكم على لسان رسلنا وخوفناكم سوء العاقبة فلم تتذكروا ورفضتم كتبي ورسلي وأنكرتم وحدانيتي «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» من قبل فأبيتم قبول إرشاده، ولم تعتبروا بما جرى على من قبلكم، ولم يؤثر فيكم ما ترون من علامات الموت، وأصررتم على ظلمكم «فَذُوقُوا» عذاب النار التي كنتم تكذبون بها لأنكم ظلمة «فَما لِلظَّالِمِينَ» اليوم لدينا «مِنْ نَصِيرٍ» 37 يخلصهم مما هم فيه. هذه الآية جواب من الله عز وجل للظالمين وتوبيخ لهم على عدم رجوعهم إلى الله في الدنيا مع تمكنهم منه خلال المدة التي عاشوها فيها. أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة والنسائي وغيره عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة. وعنه بإسناد الثعلبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين. والنذير في الآية يطلق على النبي فكل نبي نذير لأمته من بين يدي عذاب أليم ويطلق على القرآن لأن فيه من التحذير والأمر والنهي ما يكفي لمن كان له قلب، ويطلق على الشيب لأنه نذير الموت فقد جاء في الأثر: ما من شعرة تبيضّ إلا قالت لأختها استعدي للموت. ويطلق على كلّ واعظ آمر بالمعروف ناه عن المنكر. ونذر الموت غير الشيب كثيرة، منها المرض والحمى وموت الأقران والأقارب وبلوغ سن الهرم وقيل فيه: رأيت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير وقائلة تخضّب يا حبيبي ... وسود شيب شعرك بالعبير فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسودا وجه النذير قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مع خفائه ودقته فعلم كل شيء في العالم داخل في هذا العلم، لأنه ظاهر بالنسبة لذلك، لأن السرّ والعلن عنده سواء، وهذا الغيب هو بالنسبة للملائكة والجن، وإلا فلا غيب عليه البتة راجع الآية 26 من سورة الجن المارة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 38

والذي يعلم خفايا القلوب، لا يخفى عليه علم غيرها وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذي الموضوع لمعنى الصحبة، أي فمن جملة علمه تعالى يعلم أنهم بعد اعترافهم بهذا العذاب (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الإنكار والجحود والتكذيب- راجع تفسير الآية 29 من سورة الأنعام في ج 2 قال تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» يخلف بعضكم بعضا «فِي الْأَرْضِ» كلما انقرض جيل خلفه غيره، فالأحرى أن تعتبروا بمن سلف من الأمم الخالية، لأن مصيركم سيكون مثلهم، فمن آمن فله ثواب إيمانه، وكذلك «فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» يعاقب بمقتضاه «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً» بغضا وكرها شديدا في الدنيا، واحتقارا وذلا وحرمانا من كل خير «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» 39 في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين وكرر الجملة تأكيدا وإيذانا بأن مصير الكفر اقتضاءان قبيحان مرّ ان: المقت في الدنيا والخسارة في الآخرة، فلو لم يكن الكفر مستوجبا غير هذين لكفى به شرا، فكيف إذا كان يستوجب أشياء أخر؟ «قُلْ» يا سيّد الرسل لهم هذا لعلّهم يرجعون إليّ قبل أن يمتنع عليهم لا يمكنهم الرجوع، ثم يقول لهم جل قوله تبكينا وتقريعا مما يزيد في أسفهم «أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من جميع الأوثان النامية والجامدة «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى يكونوا شركاء فيها، أروني أي جزء من أجزائها خلقوه حتى جعلتموهم شركائي في العبادة وصيّرتموهم آلهة وعبدتموهم: فإذا كانوا لم يخلقوا شيئا منها فأخبروني «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» معي وهل خلقوا منها شيئا، وهل يعلمون ما فيها وما مصيرها؟ وإذا لم يكن لهم شيء من ذلك أيضا، فأعلموني «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً» ذكر فيه أن لهم شيئا من ذلك «فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ» حتى يظنّوا بأن لهم علاقة في خلق السموات والأرض أو شركة فيها «بَلْ» ليس لهم شيء فيها أصلا ولا علم لهم بما فيهما، وان ما اتخذوه من تلقاء أنفسهم جمادا عنادا، وما انتحلوه من عبادة الملائكة وغيرهم

[سورة فاطر (35) : الآيات 41 إلى 45]

زورا لأنهم، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولا على حفظ أنفسهم من التعدّي ولكن ما «إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً» من نفع وضرّ وخير وشر وقوة وضعف «إِلَّا غُرُوراً» 40 وخداعا في قولهم بعضهم لبعض إنها شفعاؤهم عند الله، وغير ذلك. مطلب الأرض عائمة كالسماء: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» فيمنعهما من الوقوع بإمساكه إياهما إمساكا قويا لا يقدر عليه الثقلان، ولا تنصوره العقول، ولا يكيف كيفيته أحد. وهذه الآية الجليلة تدل على أن الأرض كالسماء غير مستقرة على شيء بل هي طائفة عائمة في الفضاء، وأنه تعالى كما أنه يمنع السماء المبنية على غير عمد أو على عمد غير مرئية كما يأتي في الآية 10 من سورة لقمان ج 2 والآية 2 من سورة الرعد في ج 3، من أن تسقط أو تنخفض أو ترتفع بسبب إمساكه إياها، فكذلك يمنع الأرض من أن تميد أو تتحرك أو تنخفض عن مستواها أو ترتفع عن مستقرها بسبب ذلك الإمساك المحكم أيضا «وَلَئِنْ زالَتا إِنْ» ما «أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» أي لا يمسكهما أحد سواه البتة، وتفيد أيضا بأن الأرض كبقية الأجرام السماوية لا عمد تقلها ولا دسار ينظمها كما ثبت أخيرا عند علماء الفلك، وإن زوال جرم ما من هذه الأجرام من مركزه يفضي إلى تهافتها كلّها وعدم رجوعها إلى مركزها لاستحالة تأثير قوى التجاذب فيها بعد اختلاف موازنتها وفك ارتباط بعضها عن بعض. وسيأتي هذا اليوم لا محالة وهو الملمع إليه بقوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، الآية 1 من سورة الانفطار (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، الآية 1 من سورة التكوير، (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الآية 8 من سورة المعارج، (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) الآيتان من سورة الطور، وهذه وما قبلها وبعدها من الآيات القاطعات المشعرة بخراب هذا الكون وانقراض أجزائه، وهذا من الأمور الغيبية التي لم يعلمها في عهد نزول القرآن أحد إلا مكوّنها، وكم من علوم مكنونة فيه لم يطلع

عليها أحد «إِنَّهُ كانَ» ولم يزل «حَلِيماً» لا يعجل العقوبة على عباده علهم يرجعوا إليه رحمة بهم «غَفُوراً» 41 لما سبق منهم إذا تابوا وأتابوا، وتشير هذه الآية العظيمة إلى أن كفر هؤلاء يكاد تهد السموات وتغور الأرض منه، لعظمته عند الله لولا أن قدرته البالغة ممسكة لها قال تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) الآية 82 من سورة مريم الآتية، أي أن ما هم عليه من الشرك والكفر يكاد يسبب ذلك لولا عظمة الله الحائلة دونه. هذا، ولما جاهر مشركو العرب بقولهم لعن الله اليهود والنصارى كيف أتتهم رسل الله فكذبوهم وحلفوا لو جاءهم رسول لاتبعوه، فأنزل الله «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» نبي يرشدهم إلى السداد «لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» يعني اليهود أو النصارى أو الصابئة لانهم من أهل الكتاب أيضا ثم اختلفوا بعضهم مع بعض في التحليل والتحريم وقولهم هذا كناية عن شدة التمسك بما يدعوهم إليه ذلك النذير الذي تمنوه قال تعالى مكذبا لهم «فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ» وأي نذير كريم أمين خطير منهم معروف لديهم بالصدق، لأنهم خلقوا قبل مبعثه «ما زادَهُمْ» مجيئه إليهم وهديه لهم وجهده عليهم لإنقاذهم مما هم فيه من الشرك والكفر «إِلَّا نُفُوراً» 42 عنه وتباعدا عن رشده، وإيذاء له فوق ذلك، لا لأنه لم يكن نبيا وصادقا في دعواه، بل كان نفورهم منه «اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ» طلبا للكبرياء فيها فتعاظموا عن قبول الإيمان به عنادا لمرسله وحسدا له على ما خصّه الله به من بينهم، ولامر آخر وهو «وَمَكْرَ السَّيِّئِ» أي عملهم القبيح الذي هو اجتماعهم على الكفر والإشراك بالله واتفاقهم على تكذيب رسوله وخداعهم له وتحين المكر فيه «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فيونعهم فيه سوء عاقبته. وجاء في المثل من حفر لأخيه جبّا وقع فيه مكبا، فيا ترى هل أرادوا بمكرهم هذا أن جحودهم لما جاءهم به من عند ربه خيرا لأنفسهم؟ كلّا بل شر وأي شر لقوله تعالى «فَهَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء المخالفون لرسولنا محمدا «إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ» وهي أن كل أمة كذبت

رسولها حاق بها عذاب الاستئصال، ولا محيص لها من الخلاص عنه «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ» التي أمضاها على خلقه بقضائه وقدره «تَبْدِيلًا» عن مجراها الطبيعي أبدا ولا تغييرا، وهؤلاء قومك يا سيد الرسل إذا أصرّوا على كفرهم نزل بهم العذاب لا محالة «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» 43 عن وقتها المقدر لها في الإهلاك وغيره، بل تقع حتما فيه وقد نال بعض هؤلاء الكفرة يوم بدر ما نالهم من العذاب قتلا وأسرا ونشريدا، وهذا عذابهم الأدنى وسينالهم العذاب الأكبر في الآخرة راجع الآية 21 من سورة السجدة في ج 2 قال تعالى «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» فيعتبروا بأخبارهم وآثارهم وكيفية إعلاكهم وأسباب تدميرهم؟ وهذه الآية كالاستشهاد والاستدلال على جريان سنة الله المبينة في الآية قبلها، والاستفهام إنكاري، أي لم يسيروا وينظروا أو يسمعوا بهم، «وَكانُوا» أولئك المهلكون من الأمم قبلهم «أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» وأعظم بأسا وأجساما، وأكثر أموالا وأولادا، فلا يغتر قومك يا حبيبي بقوتهم وأموالهم وأولادهم، فهم دونهم بكثير، راجع الآية 21 من سورة غافر، والآية 35 من سورة سبأ في ج 2، والآية 70 من سورة التوبة في ج 3، ومهما كانت قوتهم فليست عند الله بشيء «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ» مهما كان عظيما مما كان «فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» لأنهما وما فيهما من خلق الله، ومن خلق شيئا لا يعجزه إبادته، ولا يصعب عليه كيف يسوقه إلى قبضته «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «عَلِيماً» بذلك كله لا يحتاج الدلالة والاعانة من أحد «قَدِيراً» 44 على خلقه وجميع مكوناته، لا يفلت أحد من قبضته، كيف وقد قال جل قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الآية 67 من سورة الزمر في ج 2، ومن كان كذلك فلا يعجزه شيء. قال تعالى «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا» من الآثام والمعاصي والمخالفات «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها» أي الأرض التي يوقعون فيها المنهيات كلها من الإنس والجن وغيرهما

تفسير سورة مريم عدد 44 - 19

«مِنْ دَابَّةٍ» تدب عليها بما يشمل الإنسان والحيوان والحوت والطير وغيرها «وَلكِنْ» يحلم عليهم فيمهلهم علهم يتوبوا فيغفر لهم ولذلك «يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا يطلع عليه غيره «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المحتوم ولم يرجعوا إليه وبقوا مصرين على ما هم عليه، أوقع بهم عذابه جزاء أعمالهم الخبيثة، وإذ ذاك «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ» في ذلك اليوم كما هو الآن وقبل وبعد «بَصِيراً» 45 بمن يستحق العقوبة ممن يستحق الكرامة، لم تخف عليه حقيقة أحد منهم. هذا، ولا يوجد سورة في القرآن مختومة بمثل هذه الكلمة غير هذه والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة مريم عدد 44- 19 نزلت بمكة بعد سورة فاطر عدا الآيتين 58 و 71، وتسمى سورة كهيعص، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، وهي ثمان وتسعون آية، وسبعمائة وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعمائة حرف. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى «كهيعص» 1 كلمة مؤلفة من مبادئ أسماء الله تعالى الحسنى كريم وكبير، وهاد، ورحيم، وعليم، وصادق، وصبور، ولا يعلم معناها الحقيقي إلا الله والمنزل عليه هذا القرآن، راجع تفسير المص تجد ما يتعلق بها، وهذا الذي نتلوه عليك يا أكرم الرسل «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» 2 حينما دعا ربه بطلب الولد وأنعم عليه به بعد كبر سنه وعقر زوجته وكبرها على عقمها، فاذكر لقومك معجزة ربهم لرسوله زكريا كيف رحمه وأجاب دعاءه «إِذْ نادى رَبَّهُ» سأله واستغاث به «نِداءً خَفِيًّا» 3 سرا بينه وبين ربه، لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص، ولئلا يلومه قومه إذا سمعوا منه طلب الولد من ربه مع شيخوخته وعقم زوجته، لأنهم يرون ذلك طلبا تافها عقيما محالا، ولا ينبغي لمثله وهو على ما هو عليه من المركز بينهم أن

يفعل ذلك، لعدم معرفتهم بقدرة الله الذي له خرق العادات لضعف إيمانهم، ثم ذكر صفة دعائه بقوله عز قوله «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ» دق وضعف من الكبر «الْعَظْمُ مِنِّي» وإذا كان العظم صار كذلك، فما بالك باللحم وغيره من قوام وجوده؟ وزاد لفظة (مني) مع أنه لو قال عظمي لكفى بالمقصود، لأنه أحوج في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا وهي أفصح ما يمكن أن يقال في هذا المقام وقد أخذ ابن دريد قوله: واشتعل المبيّض في مسودّه ... مثل اشتعال النار في جمر الغضا في قوله «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» 3 تمييز محول عن الفاعل، أي اشتعل شيب الرأس، شبه عليه السلام كثرة الشيب في رأسه في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر، وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ففي الكلام استعارتان: تصريحية تبعية في اشتعل ومكنية في الشيب، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول، وإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف المخاطب، فقولك اشتعل نارا يفيد احتراق جميع ما فيه، دون اشتعل نار بيته، تأمل. وما قيل إن شيبا مصدر لاشتعل لأنه بمعنى شاب، أو حال بمعنى شائب، غير سديد كما لا يخفى. ثم قال عليه السلام فيما يحكيه ربه عنه «وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» 4 بعدم الإجابة لدعوتي هذه، بل كنت سعيدا لأني كنت مستجاب الدعوة عندك مقبولا، فلا تخيبني الآن بما دعوتك به حسبما عودتني قبلا فأشقى، وحاشاك إلا إدامة كرمك على عبدك. ثم بين سبب طلبه بقوله «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ» يريد أخواته وبني عمه إذ كانوا أشرارا لا يصلحون للخلافة بعده على إقامة دين الله، وخاف عليه السلام إن استولوا بعده على الخلافة أن يغيروا معالم الدين ويبدلوا ما كان عليه. واعلم أن كل من يلي أمر الرجل من قرابته وذويه يطلق عليه لفظ مولى، ويطلق على السيد والعبد أيضا، ويعرف بالقرينة والخطاب قال:

مطلب في الأسماء وما يستحب منها ويجوز ويحرم:

ولن يتساوى سادة وعبيدهم ... على أن أسماء الجميع موالي وحيث أن زكريا عليه السلام كان أمينا على إقامة الدين حال وجوده بما أعطاه الله من ملكة قال «مِنْ وَرائِي» أي بعد موتي «وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً» فضلا عن أنها عجوز «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا» 5 يلي أمر الناس من بعدي لإقامة دينك ممن يرضون بحكمه لأنه «يَرِثُنِي» النبوة التي شرفتني بها «وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» النبوة والعلم والحكمة لأنه عليه السلام بن آزر وقيل بن برخيا من أولاد هارون أخي موسى عليهما السلام وهما من سبط يهوذا أولاد يعقوب والنبوة في عقبه لأنه إسرائيل الله صفوته من عباده وزوجته ايساع أخت مريم بنت عمران من ذرية داود عليهم السلام، وبما أن النبوة والملك محصوران في أولاد يعقوب، أراد أن يكون ابنه الذي سيمنّ عليه به ربه وارثا للجهتين النبوة والملك لأن زكريا كان نبيا ورسولا لا ملكا، ومن قال إنه أراد وراثة المال فقد أخطأ وعن الحقيقة مال، لأن الأنبياء لا يورثون، قال عليه الصلاة والسلام نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. ومن البعد بمكان أن يشفق نبي من أنبياء الله على مال الدنيا، وكذلك القول بأن المراد أن يلي الخلافة بعده أي شخص كان فقد زل لأنه عليه السلام أراد ولدا ذكرا من صلبه، يؤيد هذا قوله تعالى (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) الآية 38 من آل عمران في ج 3 «وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» 6 برا تقيا أرضاه وترضاه ويرضاه خاصة خلقك، وهذا أيضا يؤيد أن المراد بالولي ولدا صلبيا، ومما يؤكد هذا استجابة دعوته ومناداته له على الفور من قبل ربه مطلب في الأسماء وما يستحب منها ويجوز ويحرم: «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى» وهو أسم خصصناه به «لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ» في الدهور الماضية «سَمِيًّا» 7 قط تشريفا له وفيه إعلام بأن الغريب جدير بالأثرة وكان ذلك لأنه لم يكن له مثل في أنه يعص الله قط ولم يهمّ بمعصية قط، وانه ولد بين شخصين هرمين، وأنه كان حصور لا يأتي النساء مع القدرة، لأن الأنبياء كاملين لا يعتريهم خلل، ولم يشرب الخمر

مع أنه غير محرم عليه، ولم يلعب مع الصبيان. قالوا كانت العرب تسمي بالأسماء النادرة لهذه الغاية، قال بعضهم في مدح قوم: شنع الأسامي مسبلي أزر ... حمر تمس الأرض أهدابها وقيل للصلت بن عطاء: كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك؟ فقال: لأني غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم. وكانت تختار الأسماء التي يتفاءل بها بعيدهم: كسعد وسعيد ومبارك ورزق ومرزوق ومسعود ومهنأ وبشير وشبهها، ويختارون الأسماء الدالة على الغلظة والشر لأنفسهم: كغضبان وعذاب وجدعان ومرار وذباح وهامة ونمر وفهد وما أشبه ذلك. ولما قيل لهم في ذلك قالوا إن اسماء عبيدنا لنا فنختار الأحسن، وأسماؤنا لأعدائنا فنختار لهم ما يوقع مهابتنا فيهم، مثل الضاري والسبع والهيثم والعادي، أما الأسماء المطلوبة في الإسلام فهي كما قال عليه الصلاة والسلام: خير الأسماء ما عبد وحمد كعبد الله وعبد الرحمن وعبد اللطيف ومحمد وأحمد ومحمود وما أشبه ذلك، وكرهوا اسم نافع ورابح وخير وشبهها لتفاؤل الشر بنفيها من قولهم لا نافع ولا رابح ولا خير في الدار إلى غير ذلك، وحرموا التسمية بعبد الحارث وعبد العزى وعبد الدار وغيرها من اسماء الجاهلية لما فيها من نسبة العبودية لغير الله تعالى «قالَ رَبِّ أَنَّى» كيف «يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا» 8 يبسا وعساوة في المفاصل والعظام وصرت في حالة يأس، وهذا الاستفهام منه عليه السلام ليس على طريق الاستبعاد، وسيأتي توضيحه في تفسير الآية 40 من آل عمران في ج 3 إن شاء الله فراجعه، إذ جاءت هذه القصة فيها أوضح من غيرها في سائر السور، وهكذا نؤخر بيان القصص إلى السور التي هي فيها أوسع لأنها أوفى بالمقصود منها «قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ» مثل هذا الأمر الذي ترونه صعبا أولا يكون «هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» ليس بشيء كيف «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ» يحيى يا رسولي «وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» 9 موجودا أو خلقت أباك آدم من العدم، أفلا أخلق لك ولدا من أبوين مهما كانا

في الهرم؟ وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المعدوم ليس بشيء كما هو معتقد أهل السنة والجماعة قال في بدء الأمالي: وما المعدوم مرثيا وشيئا ... لفقه لاح في بمن الهلال فما قاله الغير من أن المعدوم شيء لا قيمة له لمخالفته الإجماع. ومفهوم هذه الآية كما قال بعض المحققين. المراد، ابتداء خلق البشر إذ هو واقع إثر العدم المحض المستفاد من قوله (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) لأن ما كان بعد ذلك كان بطريق التوالد المعتاد، فكأنه قيل وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم، ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا، بل كنت عدما بحتا. وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) وقد المعنا إليه في تفسير الآية 10 من سورة فاطر المارة، وسنأتي على توضيحه في تفسير الآية 49 من سورة الأنعام في ج 2 إن شاء الله، وإنما لم يقل وقد خلقنا أباك آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد لقياس حال ما بشر به على حاله عليه السلام، لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبّه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السلام من العدم، لأنه أبدع أنموذج طوي على سائر آحاد جنسه، فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه إلى آخر الدوران، ولما كان خلقه عليه السلام على هذا النمط المساوي إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصودا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه، وأدلّ على عظيم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته، وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنده، وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشّر به لينسب الخلق المذكور إليه، كما نسب الخلق المذكور إليه، كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الآية 10 من سورة الأعراف المارة توفية لمقام الامتنان في حقه، وقرأ الكسائي وغيره خلقناك على التعظيم، وإنما جوز هذه القراءة لما يقصد فيها من تعظيم العظيم ليس إلا، وإلا فالقياس عدم جوازها لما فيها من تغيير التاء بالنون وزيادة الألف، والشرط

مطلب ذكر الليالي دون الأيام:

في القراءات عدم الزيادة والنقص والتغيير كما أوضحناه في بحث القراءة في المقدمة وفي مواقع أخر ستمر عليك «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» على حمل زوجتي بما بشرتني به «قالَ آيَتُكَ» على ذلك «أَلَّا» تستطيع ولا تقدر بحسب الطبع أن «تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» 10 كاملات متتابعات، وجاء في آل عمران (ثلاثة أيام) الآية 41 في ج 3 وعدم استطاعتك على تكليم الناس خلال هذه المدة من غير بأس فيك كخرس أو مرض أو غيره حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح. روى عن أبي زيد أنه لما حملت زوجته عليه السلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا مع أنه يقرأ التوراة، حتى إنه إذا أراد مناداة أحد لم يطق. مطلب ذكر الليالي دون الأيام: وكلمة سويا تفيد معنى آخر وهو ما ذكرناه من أن الليالي مع أيامها كاملات والعرب تتجوز أي تكتفي بذكر أحدهما عن الآخر ولهذا جاء هنا ليالي وفي آل عمران أيام، والنكتة في ذكر الليالي هنا والأيام هناك، أن هذه السورة مكّيّة سابقة النزول، وتلك مدنية متأخرة النزول، والليالي عندهم سابقات الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية تعرف بالأهلّة، ولذلك اعتبروها بالتاريخ. وقال تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) الآية 60 من سورة يس المارة، فأعطى السابق للسابق، لأن هذه الآية تفيد أن الليل لا يسبق النهار من جهة لحوقه به وعدم إدراك أحدهما الآخر، إذ يقول في صدر الآية (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) فلا حجة في الآية على نفي ذلك، لأنه متعارف مشهور حتى إنك تقول ليلة كذا ولا تقول نهار كذا، وتريد فيه الليل الذي يليه بخلاف ذلك. والليالي جمع ليل على غير قياس كأهل وأهالي، أو جمع ليلاة وتجمع على لياليل. قال تعالى «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ» موضع خلوته وتعبده «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ» أشار إليهم بأصابعه لعدم قدرته على تكليمهم وقيل كتب لهم ذلك إذا

يطلق الوحي على الكتابة عند العرب قال عنترة: كوحي صحائف من عهد كسرى ... فأهداها لأعجم طمطميس وقد فسر ما أشار به إليهم بقوله «أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» 11 أي نزهوا ربكم عما هو من شأن كافة الحوادث صباح مساء، ففعلوا، قالوا فكان الحمل وكانت الولادة عند تمام مدتها، وقال تعالى مخاطبا لذلك المولود المبارك عند ولادته «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ» التوراة، لأنه لم ينزل بعد موسى كتاب فيه أحكام غيرها، أما الزبور الذي أنزل على داود فيه أذكار وأمثال، وأما الإنجيل فلم ينزل بعد حيث أنزل على ابن خالته عيسى عليه السلام الذي بعده بستة أشهر، أي خذه أخذا «بِقُوَّةٍ» جد وحزم وعزم، واجتهد أن تعمل به وتأمر قومك بالعمل به، قال تعالى «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» 12 أي النبوة التي لم تعط لمثله قبله قط ولا بعده إلا لعيسى عليه السلام، لانها مبنية على خرق العادة، ولله أن يعطيها من يشاء من خلّص من عباده بمحض الفضل، فإذا ثبت هذا وهو ثابت محقق فلا يمنع صيرورة الصبي نبيا لان نبوته على صغره أمر خارق للعادة أيضا ولا شك أن الله تعالى أحكم عقله وأهله لوحيه. روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذلك إنه أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين. وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أنه قال قال العلمان ليحيى بن زكريا عليهما السلام اذهب بنا نلعب، فقال اللّعب خلقنا؟ اذهبوا نصلي فهو قوله تعالى (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وأكثر المفسرين على أن الحكم الذي أعطاه الله إياه هو النبوة، وما ذكر أنه الفهم بسبب قراءته التوراة وهو صغير مستدلا يقول بعض السلف: من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فقد أوتي الحكم، ليس بشيء. قال تعالى «وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا» أعطيناه أيضا رحمة ورأفة وشفقة على أبويه وغيرهما، لأنه نبي مرسل وهذه الصفات من مقتضيات النبوّة. قال الحطيئة يخاطب عمر رضي الله عنه تحنن عليّ هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا أي ترحم. ويطلق الحنان على الله جل شأنه، ولا وجه لمن منع إطلاقه عليه

لوروده في بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم حتى عده بعضهم في الأسماء الحسنى، ولكنه بالتشديد ليس بالتخفيف كما هنا ليدل على التكثير وبعضهم لم يعده قال المنذر بن درهم الكلبي وأحدث عهد من أمينة نظرة ... على جانب العلياء إذ أنا واقف تقول حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب، أم أنت بالحي عارف وقال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض فكل هذا مما يؤيد أن الحنان بالتخفيف بمعنى الرحمة، وقيل مأخوذ في الأصل من حنّ بالتشديد بمعنى اشتاق وارتاح «وَزَكاةً» أعطيناه أيضا طهارة من مقارفة الذنوب ومقاربة العيوب، وقيل بركة، أي جعلناه نفاعا مباركا معلما للخير. وجاء في الإنجيل ما لفظه مبارك من الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب. وفيه يقول السيد عيسى عليه السلام لم يقم أحد من بين المولودين أعظم من يوحنّا المعمدان. ويحيى عليه السلام المعمدان لأنه كان يعمد الذين يسلمون على يده وأولادهم بأن يأمرهم بالاغتسال. وهو عمّد أي غسل السيد عيسى عليهما السلام. والتعميد بمعنى التغسيل لعة متعارفة عند النصارى «وَكانَ تَقِيًّا» 13 مطيعا مخلصا متجنبا كل ما يلهي عن الله، وهذه الصفات التي أخبر الله بها تؤيد تشريفه بالنبوة حال صباه، لانه لا يتحلى بها إلا الكاملون «وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ» لأنه علم بتعليم الله إياه أن لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من برّ الوالدين. قال تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الآية 21 من سورة الإسراء الآتية، ثم نفى الله عنه ما قاله بعض قومه أنه خرج على غير طريقهم تجبرا عليهم وعصيانا لهم، فقال جل قوله «وَلَمْ يَكُنْ» ممن تحلى بهذه الصفات الحميدة الجليلة «جَبَّاراً عَصِيًّا» 14 بل كان متواضعا لين الجانب سهل المأخذ يسر المخاطبة كثير الطاعة لوالديه، لأن نفي الصنفين الكائنين بلفظ المبالغة يثبت عكسهما له عليه السلام بلفظ المبالغة أيضا «وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا» 15 وهذا كله باق دائم له من جانب ربه في أحواله

الثلاث المهمة، أي أنه لم ينله الشيطان يوم ولادته، وإنه يحميه من فتاني القبر إذا مات، ومن الفزع الأكبر والعذاب حين ينشر من قبره، وهذه المواطن الثلاث أوحش ما يلاقيه الإنسان، يوم يولد يرى نفسه خارجا مكرها من مقره فيسقط باكيا، ويوم الموت يرى من الأشباح والآلام ما ترتعد له الفرائص وترتج لهوله القلوب، ويوم البعث يرى مشهدا لا يوصف ما فيه من الشدة والكرب، راجع تفسير الآية الأولى من سورة الحج في ج 3، وهذه البشارة الواردة في القرآن العظيم خصّت به وبالسيد عيسى عليهما السلام، ولا أعظم منها بشارة «وَاذْكُرْ» يا محمد لقومك وغيرهم قصة مريم بعد قصة يحيى العجيبتين «فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ» بنت عمران التي قصتها أعجب من قصة ابن أختها يحيى «إِذِ انْتَبَذَتْ» اعتزلت وتنحت، وأصل النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، أي أنها لم تبال بنفسها حيث انفردت وتباعدت «مِنْ أَهْلِها» ومن الناس أجمع «مَكاناً شَرْقِيًّا» 16 من دار أهلها وقريتها لتغتسل وتتخلى للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض، ويؤيد هذا القيل معنى قوله تعالى «فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً» ساترا لها لئلا يراها أحد حين اغتسالها على القول بأن ابتعادها لهذه الغاية، أو حائطا أو جبلا على القول بأن اعتزالها كان لمحض العبادة، ولكن لفظ الاتخاذ يؤيد الأول ويؤكده قوله تعالى «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا» جبريل عليه السلام، وإنما سمي روحا لأن الدين يوحى به، لأنه واسطة الوحي وتبليغه للرسل، والإضافة للتشريف، أو لأنه محبوب الله ومقربه وأمين وحيه، كما تقول لحبيبك أنت روحي لفرط محبتك له، وقرىء روحنا بفتح الراء، وإنما سمي به لانه سبب الروح للعبادة، ولأنه من جملة المقرّبين الموعودين بالروح في قوله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الآية 40 من سورة الواقعة الآتية، وقرىء روحنّا بتشديد النون اسم ملك، وليست بشيء، ولا وجه لمن قال إن المراد بروحنا عيسى عليه السلام محتجا بقوله تعالى (وَرُوحٌ مِنْهُ) الآية 170 من سورة النساء في ج 3، لأنه لم يكن بعد فكيف يرسله، وينافيه قوله تعالى «فَتَمَثَّلَ لَها» ذلك الملك

المسمى بالروح فكيف يتصور أنه عيسى ولم يخلق بعد؟ وما قيل إن ضمير تمثل يعود إلى ملك غير مذكور يأباه سياق النظم الكريم، فكان عليه السلام حينما تمثل لها «بَشَراً سَوِيًّا» 17 كامل الخلق لئلا تنفر منه ولتستأنس بكلامه، لأنه لو جاءها بصورته الحقيقة لما استطاعت النظر إليه لما أعطاه الله من بداعة الخلق والهيبة والصفة العجيبة- راجع تفسير الآية 21 من سورة التكوير المارة- وما قيل إنه تمثل لها بصورة البشر لتهيج شهوتها قيل خاطئ تتنزه عنه السيدة مريم ويكذبه قولها حين رأته أقبل عليها وهو «قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» 18 تخاف الله فتباعد عني ولا تقربني، فهذا شاهد عدل على أنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما البتة، وقولها هذا غاية في كمال عفتها ونزاهتها عليها السلام، مع أنه إذ ذاك كان غير محذور اختلاط النساء بالرجال ومكالمتهم فلا مانع ولا شبهة فيه، ولم يحرم النظر على الأجنبية إلا زمن عيسى عليه السلام، كما جاء في الاصحاح 5 من إنجيل متى، وسنبينه في تفسير الآية 29 من سورة النور في ج 3 إن شاء الله. أما الحجاب فلا ذكر له قبل عهد المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ديانة وإن كان يستعمله أكابر الناس قبلا كما سنبينه في تفسير الآية 58 من سورة الأحزاب في ج 3 أيضا إن شاء الله بصورة كافية شافية. وما قيل إن (تقيا) اسم رجل شقي معروف عندهم في ذلك الزمن أو رجل صالح كيوسف النجار فغير صحيح، وهو من مخترعات القصاص وأخبار الأخباريين وأكاذيبهم، لأن الأول لا يجرؤ على الوصول لبنات الأنبياء والأعاظم كمريم عليها السلام، والثاني مشهور بالعفة يمنعه دينه من الوصول إليها وغيرها. فأجابها جبريل عليه السلام «قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ» ليس ممن يتوقع منه الشرّ الذي توهمينه حتى تستجيري بربك مني لأني رسول الذي استجرت به واستعذت أمرني أن آتيك «لِأَهَبَ لَكِ» بإذنه تعالى الذي أرسلني إليك، إذ أمرني أن أنفخ في جيبك ليكون هذا النفخ سببا في حصول الولد الذي سيكون «غُلاماً زَكِيًّا» 19 طاهرا نقيا فطنا. وأسند ضمير أهب لنفسه، لأن الله أرسله بذلك، وفعل الرسول ينسب إلى المرسل «قالَتْ» متعجبة مما سمعته «أَنَّى

[سورة مريم (19) : الآيات 21 إلى 30]

يَكُونُ لِي غُلامٌ» كيف يتصور ذلك «وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» 20 لأن الولد لا يكون إلا بنكاح أو سفاح، وكلاهما لم يكن، وهذا استفهام تعجب. وهناك أي استفهام زكريا المار في الآية 8 استفهام استطلاع عن الكيفية والتذاذ بسماع الجواب السّار «قالَ كَذلِكِ» إن الأمر كما ذكرت لك، ولا أعلم غير ما أمرت به. ولكن «قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» وإن كان مستحيلا عادة إتيان الولد من غير مس، لأن الله تعالى يأتي بالمستحيل من غير حاجة إلى الأسباب ألا تعلمين أنه خلق آدم من لا شيء وخلق حواء منه، فالذي يخلق من غير أم وأب ومن غير أم ألا يقدر أن يخلق من غير أب وهو الفعال لما يريد؟ بلى يسهل عليه ذلك، ثم قال لها وإن ربك قال «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ» كما جعلنا آدم وحواء قبله آيتين للخلق في زمنهما من الملائكة والجنّ، كذلك نجعل الولد الذي سيكون منك آية لهم دالة على قدرة ربك البالغة «وَرَحْمَةً مِنَّا» لمن يؤمن به ويتبعه «وَكانَ» ابنك هذا مكتوبا في أزل ربك بأنه يكون من هذه النفخة بأمره «أَمْراً مَقْضِيًّا» 21 محكما مبرما لا يبدل ولا يرد. فلما سمعت هذا وعرفته أنه من الله سكتت، فتقدم جبريل عليه السلام وأخذ درعها من الأرض ورفعه فنفخ فيه وأعطاه إياها، فلبسته بعد أن اطمأنت إليه «فَحَمَلَتْهُ» أحست بحمله حالا، ولما بدأ حملها خافت أن يعرف الناس ذلك وهي مشهورة بالعفّة والطهارة ومن بيتهما، وعرفت أنها إذا قالت من الله بواسطة الملك لا يصدقونها، فصمّمت على الخروج من القرية لترى ما يرى الله لها «فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا» 22 بعيدا عن قربتها وأهلها لئلا يعيروها، والباء في (به) للمصاحبة والملابسة لأنه في بطنها كقوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) الآية 22 من سورة المؤمنين في ج 2، وعليه قول المتنبي في وصف الخيل: فمرت غير ناظرة عليهم ... تدوس الجماجم والرؤوسا أي اعتزلتهم «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ» الجأها أو فاجأها وجع الولادة المسمى طلقا بعرفتا «إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» الكائن في بيت لحم في فلسطين وهو يبعد

عن قريتها الناصرة بأربعة مراحل تقريبا، ولذلك وصفته بالبعد في الآية لانه في ذلك الزمن يعد بعدا بعيدا، وكان الجذع بالبرية على مستوى من أرض بيت لحم يابسا، فاستندت إليه وتمسكت به عند شدة الطلق، ولما رأت وحدتها وما حل بها وتفكرت بما سيصمها به قومها «قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» الأمر الذي حل بي الذي سيصيبني منه ما يصيبني «وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا» 23 لم أذكر ولم أولد، فولدته عند ذلك، وقد سمع كلامها «فَناداها مِنْ تَحْتِها» قائلا لها يا أماه «لا تَحْزَنِي» على وحدتك وما سيتفوه به الناس فيك، وافرحي «قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» 24 عبدا شريفا رفيعا سيدا كريما، ومن تأت بمثل هذا ينبغي لها أن تفرح لا أن تحزن. وقال بعض المفسرين إن (سريا) جدول ماء جار هناك بمحل الولادة، ومعنى لا تحزني على الطعام والشراب معتدلا بالآية 25 الآتية وهو بغير محله، ولا طائل تحته، إذ يبعد على مثلها أن تحزن على الطعام والشراب. وأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه عن البراء من أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السريّ، فقال هو الجدول، وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه، فلم يصح، وإذ لم يصح لا يتخذ حجة لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال وأسقط حجيته، وإن اطلاق السريّ على جدول الماء الجاري من حيث اللغة صحيح معروف، وجاء في قول لبيد: فتوسطا عرض السريّ فصدعا ... مسجودة متجاوزا قلامها يصف عيرا وأتانا. وأنشد ابن عباس: سهل الخليقة ماجد ذو نائل ... مثل السري تمده الأنهار إلا أنه غير مراد هنا وأراه غير موافق للواقع أيضا، إذ لا يوجد هناك في بيت لحم نهر جار البتة لا في محل الولادة ولا في غيرها، بل يوجد آبار ولعلها كانت قريبة التناول، وكانت عينّا معينا. أما ما جاء في الآية 50 من سورة المؤمنين في ج 2 وهي قوله تعالى (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) فهو غير مراد هنا بل هو في محل هجرة عيسى عليه السلام مع أمه كما سيأتي توضيحه هناك،

حتى إن محل الولادة لا يوجد فيه ربوة وإنها الآن ينزل إليها بدرج تحت الأرض وقد شاهدته بعيني سنة 1935 في شهر مايس عند زيارتي للقدس الشريف والخليل، وذلك المحل المبارك. وعلى هذا والله أعلم أنه لم يرد ذلك المعنى بالسريّ، وإنما معناه ما ذكرناه وهو الموافق للسياق والسباق. وإن استعمال السريّ بمعنى السيد الكريم هو من فصيح الكلام كما أن عود الضمير في ناداها إلى السيد عيسى كما جرينا عليه أوفق وأنسب للمعنى من قول إنه يعود إلى جبريل، لأن نطقه حال ولادته من معجزاته التي جاوبها، وعلى هذا جهابذة المفسرين كالحسن وابن زيد وأبي حيان والجبائي ومجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير، ونقله الطبرسي عن الحسن يؤيده قراءة الأبوين والابنين عاصم والجحدري «من» بفتح الميم أي الذي تحتها، وروى أن الحسن وابن عباس قرأ كذلك، وفي الأسئلة النجمية كذلك أيضا، ومن قال على هذه القراءة يراد به جبريل لأنه كان تحت الرّبوة التي ولدت عليها لا دليل له على ذلك، ولا يساعده نظم التنزيل وظاهره ولا يعدل عن الظاهر إلا لأمر قسريّ، ولا يوجد، وأضعف من هذا قولهم إنه كان عليه السلام تحتها يتلقى الولد، وهذا مما لا يليق بجنابه وأمانته على وحي ربه، وعفتها وطهارتها، ومما يتأدب عنه وعن القول به كل تقي، هذا، واختلف في سنّها عند الحمل وفي مدة الحمل وزمنه أيضا على أقوال، فقيل إن سنها كان يتراوح بين العشر سنين وخمس عشرة ومدة حملها ما بين ساعة وتسعة أشهر، والمشهور أنها ثمانية، لهذا قالوا لم يعش مولود على رأس الثمانية أشهر غير عيسى عليه السلام، وذلك أن جملة المنجمين يزعمون أن النطفة تقبل البرودة في الشهر الأول من زحل فتجمد، وتقبل القوة النامية في الثاني من المشتري فتأخذ في النمو، وتقبل في الثالث القوة الغضبية من المريخ، وفي الرابع قوة الحياة من الشمس، وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة، وفي السادس قوة النطق من عطارد، وفي السابع قوة الحركة من القمر، فتتم خلقة الجنين، فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل، فإن ولد في التاسع عاش، لأنه قبل قوة الحياة من المشتري، وذلك من الخرافات لأن هذه المكونات لا تأثير لها إلا

بإرادة الله تعالى، فمن قال هذا قبل قوله كقولهم إن الثمار تنضج بتأثير الشمس، وألوانها تكون بتأثير القمر، وأطعمتها تكون بتأثير النجوم. أما من نسب ذلك لها بقوة جعلها الله فيها وإرادته لذلك فلا بأس بقوله، لأن الله تعالى يضع ما يريده من قوى فيما يريده من مخلوقاته الجامدة والحساسة، كما يضع قوة الذبح في الموسى عند إرادة الذبح، وكما يخلق قوة الشبع والرّي عند الأكل والشرب، يفعل ما يشاء ويختار. ومن أسند هذه القوى لنفس النجوم فقوله مردود عليه ويخاف عليه من سلب الإيمان والعياذ بالله، وقد صرفنا النظر عن الأقوال الواردة في سن مريم ومدة حملها، إذ لا طائل تحتها، وأحسنها القول بأن سنها كان خمس عشرة سنه، ومدة الحمل تسعة أشهر، لأن القول بأن حملها وولادتها في ساعة واحدة يأباه نظم القرآن، إذ لو كان كذلك لما ذهبت من الناصرة إلى بيت لحم، بل وضعته حالا في مكانها، وهذا كاف لردّ هذا القول. وأما زمن الولادة فهو وقت الزوال على ما جاء في أحسن الأقوال، وما قيل إنه في منتصف الليل لم يثبت ولعلها أحست بالطلق في منتصف الليل وولدته وقت الزوال. ثم قال لها عيسى عليه السلام «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا» 25 ناضجا حان قطافه، وهذه معجزة لسيدنا عيسى عليه السلام إرهاصا لنبوته أو كرامة لأمه لا معجزة لفقد شرطيها وهو النبوة والتحدي، ووجه كونها كرامة أو إرهاصا لسيدنا عيسى أو كرامة لأمّه عليها السلام لأنها كانت يابسة والولادة كانت في موسم الشتاء (25 كانون الأول سنة 4004) من ولادة آدم كما قيل، والشتاء ليس بموسم لقطف الثمر، وفيها إشارة إلى ما يؤول إليه حاله بأنه عليه السلام (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) كما وصفت النخلة لأنه ولد في الأرض ورفع إلى السماء وأنه سيحيي الموتى بإذن الله كما أحييت النخلة الميتة، وفي الأمر بالهزّ دليل على وجوب السعي لتحصيل الرزق وإلا فالذي أحيا النخلة قادر على إسقاط ثمرها دون هزّ، وما أحسن ما قيل في هذا:

ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه ... إليها ولكن كل شيء له سبب «فَكُلِي» من هذا الثمر «وَاشْرَبِي» من الماء الموجود هناك وهذا ما حدا ببعض المفسرين على تفسير السريّ بالنهر كما أشرنا إليه آنفا «وَقَرِّي عَيْناً» طيبي نفسا، والعرب تكنى بقرة العين أي بردها عند السرور والفرح وسخنها عند الغم والحزن، راجع تفسير الآية 74 من سورة الفرقان المارة تجد هذا مفصلا بما يكفيك عن مراجعة غيره، هذا وعلى ما جرينا عليه يكون المعنى إجمالا: لا تحزنى وافرحي بولدك لأنك جئت بما يرضيك، واتركي الحزن فإن الله قد أظهر لك ما يبرىء ساحنك مما كنت تتوهمينه قالا وحالا. يؤيد هذا ما روي عن ابن زيد قال قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني، فقالت كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة، فأي شيء عذري عند الناس؟ ليتني متّ قبل هذا، فقال لها عليه السلام أنا أكفيك الكلام، قال تعالى (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) عند ذهابك لأهلك وقريتك وأراد أحدا أن يتكلم معك في هذا الشأن «فَقُولِي» لهم «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً» عن الكلام لدلالة المقام عليه، وكان صوم الصمت عن الكلام عندهم معروفا ومن جملة العبادات لدى الإسرائيليين، وهو حتى الآن كذلك، وإنما أمرها بالصمت ليتكلم هو عنها ولئلا تجادل السفهاء بنفسها لأنها مهما قالت لهم لا يصدقوها، لأنه أمر لم يقع وهو فوق العقل، فكان سكوتها واجبا لحفظ كرامتها. ثم فسر الصوم بقوله قولي «فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» 26 وإنما أناجي ربي وأكلم الملك وابني هذا، أي قولي لهم هذا الكلام واسكتي. فطاب خاطرها وعلمت حجة قول ابنها، لأن تكليمه إياها فوق العقل أيضا، وإذ حصل لها اطمئنان بما سمعت من ابنها، عنّ لها أن ترجع إلى قريتها قال تعالى «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ» إلى بلدتها النّاصرة، فلما رأوها حزنوا لما يعلمون من صلاحها وطهارتها وأصلها، لأنها من قوم صالحين، وكان رجوعها إليهم حال كونها حاملة ولدها، قالوا وكان رجوعها

إليهم بعد الولادة بأربعين يوما لا من غيابها لأنها تركت قريتها الناصرة بعد أن ظهر حملها وذهبت إلى بيت لحم خوفا من كلام السفهاء إلى محل لا يرونها لبعده إذ ذاك، لأنه لا يوجد وسيلة للنقل وركوب الإبل وغيرها من الحيوان، وبقيت هناك حتى ولدت وانقضت مدة نفاسها على أصح الأقوال المعول عليها «قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» 27 منكرا عظيما وأمرا بديعا تحتجين به، مع ما أنت عليه من الصلاح وكريم المحتد «يا أُخْتَ هارُونَ» يا شبيهته في العفة والتقوى والورع والصلاح وطيب العنصر، لا في النسب لأنها من نسل داود واسمها مريم واسم أبيها عمران، وهرون أخو موسى اسم أخته مريم أيضا، وأبوه عمران وهو من بيت الصلاح، فمن هنا جاءت النسبة، والعرب تقول أخو تميم وأخو تغلب لرجل منهم، روى مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت خراسان سألوني فقالوا لي إنكم تقرءون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم، ولذلك شبهوها به. وما قيل إن هرون آخر كان في بني إسرائيل فاسقا فشبهوها به قول باطل ينافيه سياق الكلام ومبناه لا مستند له ولا مناسبة، ومن تتمة خطابهم لها ما ذكره الله عز ذكره «ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ» شقيا ولا زانيا «وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» 28 بل كانا عفيفين طاهرين منزهين، وكان اسم أمها حنّة، مشهورة بالطهارة ومن بيت العفة، والأجدر أن يتبع الفرع أصله، فلماذا جئت على خلاف ضئضئك ومن أين أتاك هذا الولد؟ وهنا انتهى كلامهم لها فكان جوابها لهم ما ذكره الله عز ذكره «فَأَشارَتْ إِلَيْهِ» بأن كلموه هو وأشارت إلى عيسى ليكلمهم فظنوا أنها تهزأ بهم وتسخر عليهم فغضبوا وخاطبوها بعنف «قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» 29 ولم تجر العادة أن يكلم مثله أو يتكلم، ولا يرد على هذا أن كل إنسان كان في المهد صبيا ثم كبر وتكلم، لأنه كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح للقريب والبعيد، وهو

[سورة مريم (19) : الآيات 31 إلى 40]

هنا للقريب خاصة، لأن الكلام مسوق للتعجب، وكلام الكبير الذي كان في المهد قبل سنين لا يتعجب منه، فهو إيراد تافه، كما أن القول بأن كان زائدة واه إذ لا زائد في القرآن، وهي هنا تامة. ولما سمع كلامهم مع أمه التفت إليهم عليه السلام وقطع رضاعه وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته على ما قالوا فقال لهم «قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ» الإنجيل لأنذركم به «وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» 30 حال صباي وإن معجزتي كلامي معكم وأنا طفل. قال الحسن كان في المهد صبيا وكلامه معجزة له. وقال أكثر المفسرين إنه أتي الإنجيل وهو صغير، وكان يعقل عقل الكمل وعبر بالماضي عن المستقبل، إما باعتبار ما سبق في أزله تعالى أو باعتبار المحقق وقوعه كالواقع. وقيل معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا، وهو إخبار عما كتب له في اللوح. كما قبل لحضرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيا قال: كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه. وروي عن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه، وهما كما ترى. وبعد أن أخبر الله بأنه أعطاه الكتاب فلا حاجة للجنوح إلى ما جاء في الحديثين بل علينا أن نعتقد أنه كما ولد بأمر الله من غير أب وأنطقه وهو طفل أعطاه الكتاب وعلمه إياه بإلهام منه وهو طفل أيضا. ومن عرف الله بأنه الفعال لما يريد القادر على كل شيء لا يحتاج إلى التأويل والتفسير، وعلى العاقل أن يصدق بكل ما جاء من عنده، وهذا طريق السلام، قال عليه السلام «وَجَعَلَنِي مُبارَكاً» نفاعا قاضيا للحوائج آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، أبرىء الأكمه والأبرص وأشفي المرضى بإذن الله وهذا هو المبارك ولا أعظم بركة من هذه البركة التي شرفه الله بها، فالإله الذي يعطيه ذلك ويعطيه إحياء الموتى أيضا وخلق الطير أفلا يعطيه الإنجيل ويحفظه إياه؟ بلى وهو على كل شيء قدير «أَيْنَ ما كُنْتُ» ليس في أرضكم وبلدكم هذه فقط بل في كل مكان حللت فيه وزمان وجدت فيه أكون هكذا معلما للخير مباركا نفاعا «وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» 31 في الدنيا لأن الآخرة

لا عبادة فيها، والصلاة والزكاة عبادة تنقطع بالموت، لذلك جعل نهايتها الحياة وهذان الفرضان تعبّد الله بهما كل أنبيائه وأممهم وكذلك الصوم والقصاص إلا أنها كانت مفرقة على الأنبياء على غير هذه الصفة والقدر المبين في شريعتنا، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم جاء بشريعة جامعة لما تشتت من شرائع الأنبياء قبله، ولم تجمع الصلوات الخمس إلا له ولأمته، فالصلاة والزكاة من حيث الأصل فرضت على جميع الأنبياء وأممهم كما يفهم من الآية 183 من سورة البقرة في ج 3، ولكن تختلف في الكيفية والكمية عما فرض علينا «وَبَرًّا بِوالِدَتِي» أوقرها وأكرمها وأعظمها على سائر الناس، وفي تخصيص برّه بوالدته اشعار صريح بأنه لا والد له وإيذان ببراعتها مما رموها به، وإشارة بطهارتها وعفافها، ولهذا استحقت البر منه «وَلَمْ يَجْعَلْنِي» ربي الذي منّ علي بما ذكرته لكم «جَبَّاراً شَقِيًّا» 32 متكبرا عاقا عاصيا، وفي قوله جبارا إعلام بنزاهة أمه أيضا مما وصمت به بسببه، قال بعض العلماء لا تجد العلق أي ابن الزنا إلا جبارا. ولهذا نفى عنه عليه السلام هذه الصفة الخبيثة «وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» 33 تقدم تفسير مثلها في الآية 15 المارة، وقد أخبر بهذه الآية قومه بأنه عليه السلام آمن عند ربه في هذه المواطن الثلاثة التي قل من يأمن منها، وفي بدء جوابه عليه السلام لقومه اعتراف على نفسه بالعبودية لله، كأنه نفت في روعه أن من الناس من يتخذه إلها فنبّه قومه مقدما بأنه عبد الله من جملة عيده تبرأ مما سيقوله المتوغلون في حبه واعتذارا مقدما إلى ربه ليكون حجة له عنده وحجة على الذين يتخذونه إلها فمن قومه من قنع وصدق، ومنهم من استعظم وكذب، ونشأ صلى الله عليه وسلم على أكمل الأوصاف في غاية من التواضع ونهاية في الأدب يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ولم يتخذ مسكنا له ويتصدر لقومه ويقول سلوني عن أموركم فإني لين القلب صغير النفس، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 45 فما بعدها من آل عمران في ج 3، قال تعالى «ذلِكَ» الذي خلقناه من روحنا على الوجه المار ذكره والذي وصف نفسه بتلك الصفات هو «عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» نبيّنا

مطلب وصية عيسى عليه السلام وما يقوله فيه قومه:

ورسولنا وعبدنا لا إله ولا جزء من الإله ولا شريك معه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. أقول لكم هذا أيها الناس «قَوْلَ الْحَقِّ» على قراءة النصب وهي الواردة في القرآن، وعلى قراءة الرفع يكون المعنى ان هذا الذي قلته في عيسى عبدي هو قول الحق الصدق «الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» 34 يشكون ويختلفون فيقولون الأقاويل الكاذبة فيه وهو عبد الله ورسوله ولد من مريم بلا أب على الوجه المار ذكره والصفة المبينة، لا مرية فيه أبدا، وعليه فإن ما تقوله اليهود بأنه ساحر وما يرمونه به كذب محض، وما تقوله النصارى من أنه ابن الله افتراء بحت، وما يقوله الغير من وصم أمه الطاهرة الزّكية بهت ظاهر، وقد بين الله كذبهم كلهم بما تقدّم من الآيات وما سيأتي في الآيات المبينة آنفا وغيرها، وحققه بقوله جل قوله «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ» البتة لعدم الحاجة إليه وقد نزه نفسه عنه بسورة الإخلاص المارة وفي الآية الأخيرة من سورة الإسراء الآتية وغيرها «سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً» كهذا وغيره مهما كبر وعظم عند خلقه إذ لا يعظم عنده شيء «فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 35 حالا لا محالة وهاتان الآيتان من ذلك إلى هنا من كلام الرب عز وجل جاءتا اعتراضا بين قوله على لسان عيسى قبلها وبين قوله: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا. مطلب وصية عيسى عليه السلام وما يقوله فيه قومه: وفي قوله هذا وقول ربه المار ذكره ردّ صريح على من قال إنه إله أو ابن الإله «هذا» الذي أخبرتكم به أيها الناس من براءة أمي وتبرؤ مما سيقال في، وإني عبد الله ورسوله وإن الله ربي وربكم ورب العالم أجمع لا شريك له ولا وزير ولا صاحبة ولا ولد «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 36 فاسلكوه وتمسكوا به لئلا تضلوا فتهلكوا لأنه الطريق السوي الموصل إلى الخير في الدنيا والآخرة، فمن قال بعد هذا إن عيسى ابن الله أو إله أو ثالث ثلاثة أو شريك مع الإله أو إن أمه لم تحمل به على الصورة المذكورة، فقد افترى على الله وعلى رسوله عيسى وعلى أمه مريم

وأبهتهم باختلاق أقوال كاذبة انتحلها من نفسه. فمن أذعن وصدق فقد فاز ونجا، ومن جادل وكذب فقد هلك وخسر. قال تعالى «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ» بدل أن يتفقوا بعد هذا البيان الكافي في وصيته عليه السلام لهم، وهذا الاختلاف حدث «مِنْ بَيْنِهِمْ» من بين قوم الموصي لهم بالاتفاق على وصيته على أقوال اتبع كل فرقة ما سوّلت لهم أنفسهم، فقالت النسطورية هو ابن الله أظهره ثم رفعه، وقالت اليعقوبية هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت الملكانية هو عبد الله ونبيه. ولهذا قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) الآيات 19/ 75 و 76 من المائدة والآية 170 من النساء في ج 3 وسيأتي تفسيرها فيها إن شاء، إذ كان في عهد نزول القرآن من لا يقول هذا وإلا لما خصص هذين الأمرين، ويوشك أن يكون الآن ممن لا يقول بهما ويعيب على من يقول بهما حتى الآن. وقالت اليهود ليس بنبي إنما هو رجل تعلم السّحر ويزعم أنه ملك اليهود، ولذلك صاروا فرقا وأحزابا كما ذكر الله «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» به وقالوا ما قالوا وماتوا على كفرهم «مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 37 مهول مخوف وهو يوم الحساب والجزاء لأنهم لا يسمعون نصائح الرسل سماع قبول، وستراهم يوم القيامة يا أكرم الرسل في ذلك الموقف أكثر سماعا من غيرهم وأحد نظرا «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» هاتان كلمتان تعجب من جودة سمعهم وحدة بصرهم (والله تعالى لا يوصف بالتعجب) والمراد منه أن أبصارهم وأسماعهم «يَوْمَ يَأْتُونَنا» في الآخرة جدير بأن يتعجب منهما لما هم عليه إذ ذاك من قوة السمع والبصر بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الصمم عن سماع ذكرنا والعمى عن أبصار آياتنا «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ» في هذه الدنيا مغرورون تائهون وخاصة بعض المسيحيين فيما يعتقدونه في عيسى عليه السلام، فهم «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 38 خطأ ظاهر غدا في الآخرة بل وقبلها يوم ينزل من السماء كما سيأتي في الآية 60 من سورة الزخرف في ج 2 فيعترفون بالحق الذي أنكروه الآن ويندمون على ما وقع منهم.

مطلب يوم الحسرة وذبح الموت:

مطلب يوم الحسرة وذبح الموت: فعظهم يا أكمل الرسل «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ» ذلك يوم الخسران والندامة، إذ يتحسر المسيء على ما وقع منه في الدنيا ويتحسر المؤمن على تقصيره فيها أيضا لما يرى من عظيم ثواب غيره. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يموت إلا يندم. قالوا ما ندمه يا رسوله؟ قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع- أخرجه الترمذي- وقال أكثر المفسرين إن يوم الحسرة يوم من أيام القيامة يذبح فيه الموت استنادا على ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح (مختلط سواده ببياضه والموت لا يذبح لأنه عرض والذبح للأجسام، إلا أن الله تعالى يجسمه بصورة كبش فيذبح على مشهد الخلائق فيموت ولا يرجى له حياة ولا وجود، وكذلك حال أهل الجنة وأهلّ النار لا زوال لهما ولا انتقاص) فينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرفون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي مناد: يا أهل النار! فيشرفون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه. فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، ثم قرأ: وأنذرهم يوم الحسرة «إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ» فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ» عما يراد بهم بالآخرة لشدة انهماكهم في الدنيا، والواو في هذه الجملة وفي قوله جل قوله «وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» 39 للحال، أي والحال أنهم لا يصدقون أن الأمر قد فرغ منه، وأشار بيده إلى الدنيا. زاد الترمذي فيه: فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار. لزيادة ما يرى الأول من النعيم والسرور، والآخر من العذاب والحزن، ويعلم كل منهم أنه خالد فيما صار إليه. ورويا عن ابن عمر أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 50]

يجعل بين الجنة والنار، فيذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم. وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة أحد إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن فيكون عليه حسرة. فعلى هذا قد ثبت أن يوم الحسرة هو يوم ذبح الموت على الوجه الذي بيناه، إذ يتحسر فيه الظالمون على ما فرط منهم، والمنقون على تفريطهم بعدم ازدياد العمل الصالح، فما قيل إنه يوم يقال لهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) الآية 107 من سورة المؤمنين في ج 2، أو يوم يقال لهم (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 90 من سورة يس المارة، أو يوم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) الآية 91 من سورة الشعراء الآتية، أو يوم يسدّ باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها ليس لها ما يؤيدها بمقابلة الأحاديث الصحيحة التي أوردناها أعلاه، وذلك لأن قوله تعالى اخسئوا بعد دخول النار، وقوله وامتازوا قبل دخولها ويوم تبرز الجحيم يكون بعد الامتياز، ويوم طلوع الشمس من أيام الدنيا لا من أيام الآخرة، والأمل بعد باق للعاصين، أما يوم ذبح الموت فتنقطع فيه الآمال، ولذلك سمي يوم الحسرة إذ لم يبق أمل لأهل النار بالخروج منها، ولذلك يتحسرون الحسرة إثر الحسرة، وليس بنافع، أجارنا الله تعالى القائل «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها» في ذلك اليوم إذ لا يبقى ملك لملك، بل يكون الملك كله لله، ويرجع الملوك الغاشمون أذلاء خاضعين إليه كآحاد الناس، بل هم أدنى لما يعلمون ما كانوا عليه في الدنيا إلا من رحمه الله منهم «وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» 40 ملوكهم ومملوكوهم انسهم وجنهم وطيرهم وحيتانهم، ومنهم قومك يا محمد، فيجازى كل بعمله. وقرىء ترجعون بالتاء على الخطاب والأول أولى بنسق الآية، قال تعالى «وَاذْكُرْ» لقومك يا سيد الرسل «فِي الْكِتابِ» المنزل عليك جدك وجد الأنبياء من قبلك «إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً» كثير الصدق ملازما له في أقواله وأفعاله لم يكذب

قط «نَبِيًّا» 41 مرسلا بدليل قوله بعد (قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) الآية الآتية، ثم بين قصته مع أبيه فقال «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ» آزر وكان من عبدة الأوثان «يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ» نداءك إذا استغثت به «وَلا يُبْصِرُ» شخصك حين تعبده فلا يقدر خضوعك إليه وخشوعك منه «وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً» من الأشياء البتة «يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ» والمعرفة بالله المستحق للعبادة الذي يجيب دعاء المضطرين ويرى خضوع الخاشعين، يثيب الطائع ويعذّب العاصي. واعلم يا أبت أن الله ربي وربك ورب الخلق أجمع أعطاني شيئا عظيما «ما لَمْ يَأْتِكَ» ولا غيرك شيء منه «فَاتَّبِعْنِي» واترك ما أنت عليه من عبادة الأوثان «أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا» 43 عدلا مستقيما يوصلك إلى النجاة ويخلّصك من الضلال المؤدي بك إلى مهاوي العطب «يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ» وتطيعه فيما يزين لك من زخارف الدنيا ويوسوس في قلبك الانقياد لعبادته ويحبذ لك ما أنت عليه «إِنَّ الشَّيْطانَ» الذي ديدنه الخبث «كانَ» ولم يزل من حين امتناعه من السجود لأبينا آدم صار «لِلرَّحْمنِ» الواجب طاعته على خلقه «عَصِيًّا 44» ومن يعصه أحق أن يعصى ويلعن لا أن يطاع ويعبد، لأن طاعة العاصي عصيان والعاصي جدير بأن تسلب منه نعم ربه انتقاما منه «يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ» إن بقيت مصرّا على عصيانك إياه وعبادة غيره «فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا» 45 يلي أمرك ويتسلط عليك، ومن ولي أمره الشيطان تبرأ الله منه، ومن يتبرأ الله منه فمأواه جهنم. هذا وقد تأدب عليه السلام مع أبيه غاية الأدب وسلك بخطابه طريق الاحترام، واستعمل بدعوته ونصحه نهاية التعظيم، وجامله مجاملة ما عليها من مزيد، حتى إنه لم يسمه باسمه ولم يسمه بالجهل، مع ما هو عليه من الكفر، ولم يصف نفسه بالعلم مع ما هو عليه من النبوة، هضما لنفسه وإكراما لأبيه، واكتفى ببيان أن عنده من العلم ما ليس عند أبيه شيء منه، لشدة تعلق قلبه بصلاح أبيه أداء لحق الأبوة ورفقا به خوفا عليه من الله، وهذا نهاية ما يطلب من المرشد الحريص على هداية الناس المقدر

طلب الفرق بين نور الإيمان وظلمة الكفر في خطاب ابراهيم وجواب أبيه:

من مخاطبتهم باللين واللطف وعدم تغليظ القول، وضرب الأمثال بهم ليقبل ويؤخذ به، وإلا عاد عليه نصحه شرا، وعلى غيره خسرا، وكسب عداوتهم من مودتهم. طلب الفرق بين نور الإيمان وظلمة الكفر في خطاب ابراهيم وجواب أبيه: كأن قائلا يقول ماذا قال آزر لابنه عند سماعه هذه النصائح الواجبة القبول؟ أصر على عناده، وقابل ذلك الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة بقوله له أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ» استفهام انكار على نوع من التعجب، أنف عن عبادتها وسماه باسمه احتقارا ولم يقابله بالمثل، فيقول يا ولدي حنانا بل هدده بقوله مقسما بآلهته «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ» عما صدر منك «لَأَرْجُمَنَّكَ» بالحجارة حتى تموت وأقول لك من الآن اذهب عني «وَاهْجُرْنِي» لا تأت إلي ولا أراك واتركني على ما أنا عليه ولا تدعني إلى ما ذكرت هجرا «مَلِيًّا» 46 طويلا أبدا، مأخوذ من الإملاء أي الإمداد، وكذا الملاءة بتثليث الميم ومن هذا الملوان الليل والنهار، يريد عدم تكليمه له مادام حيا، ونصب الظرفية كما في قول المهلهل: فتصدعت صم الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات مليا فانظر يا رعاك الله إلى الكلام الصادر عن نور المعرفة، وإلى الكلام الناشئ عن الكفر، وتفكر في رقة الإيمان كيف تخاطب غلظة الكفر، وقساوة الشرك كيف تقابل لين الإيمان، وأنعم نظرك في جواب العارف بعد تهديده من ذلك وقد طرده طردا أبديا مع تهديده بالقتل «قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ» يا أبت هنا تعلم (الدّن ينضح بما فيه) وقول عيسى عليه السلام (كل ينفق ما عنده) السلام هنا والمباركة كالذي أشرنا إليه في تفسير الآية 63 من سورة الفرقان، وبعد هذا كله لم يقطع أمله من إيمانه بسائق الرأفة عليه من عذاب الله امّا لحق التربية وجزاء لواجب الأبوّة فقال عليه السلام «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي»

عما وقع منك تجاهه لقاء نصحي، وأسأله أن يرزقك الإيمان به وحده وترك الشرك الذي أنت عليه «إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» 47 بليغا بالبر والإكرام إذ أنقذني من ظلمة الكفر وهداني إلى نور الإيمان، وجعلني نذيرا لعباده من عذابه، وبشيرا لهم بثوابه وصيّرني بهم رءرفا رحيما وعودني أن يجيب دعائي بجزيل كرمه وأفضاله علي (يقال احتفى بالرجل إذا بالغ في إكرامه واعتنى به) راجع الآيتين 95 و 187 من سورة الأعراف المارة، ثم قال مجيبا لزجر أبيه وتحذيره من البقاء معه «وَأَعْتَزِلُكُمْ» على جهة التعظيم لأن المخاطب واحد، وفيه إشارة إلى أنه لم يزل محافظا على أدبه معه مراعيا حقه وان ما صدر منه عليه لم يؤثر في قلبه الطاهر، وهكذا الأنبياء العارفون لا يمنعهم من القيام بالإرشاد تعدي الناس عليهم «وَ» أعتزل أيضا «ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنها أوثان لا تضر ولا تنفع «وَأَدْعُوا رَبِّي» وحده لأن يوفقي إلى مهاجر أجد فيه من يسمع نصحي ويجيب دعوتي ويؤمن بربي «عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي» خلقه إلى عبادته «شَقِيًّا» 48 خائبا ضائعا مخذولا، بل موفقا واجدا أهلا لعبادته، وفيه تعريض بأنهم يدعون غير الله وأنهم يشقون بذلك. واعلم أن الدعاء هنا بمعنى العبادة بدليل الآية بعدها لأنها كالمفسّرة لها، ويجوز أن يكون على ظاهره، لأن الدعاء من العبادة، والعبادة مشتملة على الدعاء، وفي تصدير الكلام بما ذكر نهاية في إظهار التواضع ومراعاة لحسن الأدب، وتنبيه على أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل من الله عز وجل لا بطريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة وهي من الأمور الغيبية المختصة بعالم الغيب، ثم هاجر عليه السلام إلى الشام فإلى بيت المقدس، قال تعالى «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» بعد أن سمع من أبيه ما سمع وأيس من إيمانه وقومه وخاف على نفسه من القتل «وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» 49 وهذا من ألطاف الله بأنبيائه وعنايته بهم وعطفه على خلّص عباده وعطائه لهم، إذ أنه عليه السلام هاجر إلى ربه طريدا فوفقه من هاجر إليه إلى زوجة صالحة ورزقه أولادا وجعلهم أنبياء مثله، وأنعم عليهم بما

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 60]

أنعم عليه، وآنسه برفقتهم، وعوّضه عن أبيه وقومه خيرا «وَوَهَبْنا لَهُمْ» ولولديه الكريمين «مِنْ رَحْمَتِنا» أموالا وأولاد «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ» ثناء حسنا «عَلِيًّا» 50 رفيعا مشهورا في جميع الأديان مستمرا إلى أبد الدوران، إذ ما من أمة إلا وتلهج بالثناء على ابراهيم وولده، فانظر عطاء الله إلى أوليائه كيف يكون بغير قدر ولا حساب، أللهم اجعلنا من أتباعهم. ستأتي بقية قصته مع أبيه وقومه في الآية 51 فما بعدها من سورة الأنبياء في ج 2 وَاذْكُرْ» يا سيد الرسل لقومك «فِي الْكِتابِ» أيضا قصة «مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً» أخلصه الله واصطفاه بعد أن استخلفه. هذا على فتح اللام، وعلى كسرها أخلص عبادته لله فلم يراء بها «وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» 51 جمع له الوصفين الشريفين وكل رسول نبي ولا عكس «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ» من ناحيته التي تلي يمين موسى إذ لا يمين للجبل ولا شمال بل يكون باعتبار من هو عليه «وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» 52 تقريب منزلة ومكانة حتى شرفناه بمناجاتنا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» 53 إجابة لدعائه، وكان كبر منه سنا إذ ولد قبل أمر فرعون بذبح الأولاد من بني إسرائيل ليؤازره يعاضده في امر دعوته لقومه مطلب في انجاز الوعد وبحث بالوعيد: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» مع أبيه بأن انقاد لذبحه ووعده أن يصبر على الذبح وبرّ بوعده تنفيذا لأمر الله الذي تبلغه على لسان أبيه- كما سيأتي في الآية 143 من سورة الصافات في ج 2- قال مقاتل وعد الحسن رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه، فأقام ثلاثة أيام حتى رجع إليه وقال الكلبي انتظره حولا. وسأل بعضهم الشعبي عن مثل هذا فقال إن وعده نهارا فكل النهار، وإن ليلا فكل الليل، وان لوقت ينتظره لوقت صلاة أخرى بعدها. واعلم أن الخلف بالوعد مذموم وفي الوعيد ممدوح، وقد جاء في الحديث: من وعد لأحد على عمله ثوابا فهو منجز له، ومن أوعد على عمله عقابا فهو بالخيار،

مطلب أول من اخترع المهن وقصة إدريس عليه السلام:

والعرب لا تعد الخلف في الوعيد عيبا بل مكرمة وعطفا، وتعد الخلف بالوعد مذمة ونقصانا، قال قائلهم: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف ايعادي ومنجز موعدي وقال آخر: إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعقل مانعه ومن هنا يفهم أن وعد وأوعد بمعنى واحد إذا صرح بالموعود به، وإلا فإن وعد للخير، وأوعد للشر. ويجوز خلف الوعيد على الله تعالى أيضا لأنه من محض الفضل، قال يحيى بن معاذ: الوعد حق العباد على من ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم، ومن أولى بالوفاء من الله وهو الآمر به؟ والوعيد حق الله على العباد فإن شاء عفا وإن شاء وأخذ. والعفو من أسمائه تعالى وقد حبّذه لخلقه وهو العفو الرحيم، وأولى الأمرين العفو، ويأبى كرمه إلا أحسنهما لخلقه اه من شرح العقد للجلال الدواني مع تصرف- «وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» 54 مخبرا عن الله فيما يأمر وينهى، وقد أرسله إلى جرهم قبيلة من عرب اليمن من قحطان بن عامر بن سائح كما سيأتي في الآية 134 من سورة البقرة في ج 3، وقحطان أبو قبائل اليمن كلها «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ» التي تزوجها من جرهم كما يأمر قبيلتها الذين نزلوا عليه في مكة وأباح لهم الشرب من زمزم التي أنبعها الله كرامة له وهو رضيع حين ضاق ذرع أمه مما لحقه من العطش بعد أن كبر وشرفه الله بالنبوة والرسالة «بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» بمقتضى شريعته التي تلقاها عن أبيه ابراهيم من الصحف التي أنزلها الله عليه، وبما أوحاه له من الشريعة أيضا «وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» 55 عنه وقرىء (مرضوّوا) فقلبت الواو ياء لتطرفها بعد الواو الساكنة، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء بالياء وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء. مطلب أول من اخترع المهن وقصة إدريس عليه السلام: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ» أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن خيتان بن شيث بن آدم عليهم السلام، وبينه وبين نوح ألف سنة تقريبا، وسمي

إدريسا لدراسة الصحف المنزلة على آدم فمن بعده، وهو أول مرسل بعده، وأول من خط بالقلم ولم تكن قبله كتابة، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خاط اللباس وكان الناس من قبله يرتدون جلود الحيوانات ويخللونها عليهم، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، قال ابن الأثير في تاريخه: إن إدريس (أخنوخ) كان خوّاء ينظر بالنجوم وأطلعه الله على كون طوفان يعم الأرض، فبنى الأهرامات في مصر ليتحصن فيها من يكون زمن هذا الطوفان، قالوا وكان بناؤها بتخلية الهواء من حجر فقط بلا كلس ولا طين ولا غيره، وهو أول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة، وأول من قاتل بني قابيل، لأن قابيل ابن آدم لما قتل أخاه هابيل خرج عن طاعة أبيه وانفرد بعصيانه وأخذ أخته وهاجر عنه، فنشأ أولاده على المعصية، فلما بعث الله إدريس وجعله خلفا لآدم غزاهم واسترقهم. فادريس عليه السلام أول مؤسس لهذه المهن المارّة، وأول من سن الجهاد واسترقاق المغلوبين، وستأتي قصة قابيل معه في الآية 30 من سورة المائدة في ج 3 إن شاء الله «إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا» 56 تقدم تفسير مثله «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» 57 بتشريفه بالنبوة والرسالة وتقريبه من الله برفعه إلى السماء الرابعة. روى أنس بن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج- متفق عليه- واختلف في حياته وموته، واتفق الجمهور على أنه حي، وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس، وثنان في السماء إدريس وعيسى اه- من بحر العلوم- على أن الخضر مختلف في نبوته، وأكثر العلماء على أنه ولي، ولهذا البحث صلة تأتي في الآية 16 من سورة الكهف في ج 2 إن شاء الله تعالى. وخلاصة قصته عليه السلام أنه حببّ إلى الملائكة لكثرة عبادته، فقال لملك الموت أذقني الموت يهن علي ففعل بإذن الله، ثم أحياه الله، ثم قال لمالك خازن النار، أدخلني النار أزدد رهبة من الله، فأدخله فيها بإذن الله، ثم أخرجه منها، ثم قال إلى رضوان خازن الجنة أدخلني الجنة أزدد رغبة في عبادة الله، فأدخله فيها بإذن الله، ولما أراد أن يخرجه أبى فتلاحيا بينهما، فبعث الله

ملكا ليتحاكما إليه، فقال الملك بعد أن أخذ ادعاء المدعي رضوان ودفاع المدعى عليه إدريس لإدريس: لم لم تخرج بأمره بعد أن أدخلك بأمره وأنت تعترف بأنك استأذنته بالدخول وأنه أمرك بالخروج فلم تفعل؟ قال لأن الله قضى على كل نفس بالموت بقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 36 من سورة الأنبياء في ج 2 وقد متّ، وقضى على كل نفس بورود جهنم بقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية 74 الآتية وقد وردتها، وقضى على كل من دخل الجنة أن لا يخرج منها بقوله: (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآية 49 من سورة الحجر في ج 2، ولذلك فإني لا أخرج. فأوحى الله إلى الملك بأمري دخل وبأمري لا يخرج. وجاء هذا في حديث طويل أخرجه ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بذلك، ولا يقال إن هذه الآيات المحتج بها نزلت على محمد ولم تكن في زمنه، لأن الله قادر على إلهامه إياها، لأنها مدونة في لوحه، وقد يجوز أنه أشار إليها في الصحف التي أنزلها عليه. هذا، وان الرفعة بالمكان كما جاء في هذه الآية لا تكون معنوية بل حسية، وظاهرها لا يحتاج إلى التأويل فيكون، والله أعلم، أن سيدنا إدريس حي خالد في جنة ربه، نسأل الله أن يدخلنا فيها ونراه إن شاء الله، وهذه الآية المدنية من هذه السورة المتأخر نزولها عنها. قال تعالى «أُولئِكَ» اشارة الى الأنبياء المذكورين في هذه السورة كلهم، وما في هذه الكلمة من معنى البعد يؤيد أن نزولها كان متأخرا إذ كان بعد بضع سنين، وفيها إشارة اخرى الى علو منزلة المشار إليهم ولارتفاع شأنهم عنده «الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» أي إدريس ونوح ومن تقدمه من الأنبياء ومن حملهم في سفينته وذريتهم ومنهم ابراهيم لأنه من ولد سام بن نوح «وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ» اسحق وإسماعيل ويعقوب المعني بقوله «وَإِسْرائِيلَ» ومن ذرية موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى المار ذكرهم، عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، لأنهم كما شرفوا بالنبوة شرفوا بالنسب الطاهر «وَ» هؤلاء المحترمون الأكارم «مِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا» من خلقنا إلى الإيمان بنا والدعوة لخلقنا لتوحيدنا

مطلب في السجود وما يقول فيه وكلمة خلف:

ورفض ما سوانا «إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ» المتضمنة الأمر لهم بالسجود لنا والخضوع لعظمتنا والخشوع لقدرتنا «خَرُّوا» سقطوا على وجوههم إلى الأرض «سُجَّداً» لإلهيّتنا وحدها «وَبُكِيًّا» 58 خوفا منا وطمعا برحمتنا. وقيل في المعنى ونبكي إن نأوا شوقا إليهم ... ونبكي إن دنوا خوف الفراق مطلب في السجود وما يقول فيه وكلمة خلف: وهذه السجدة من عظائم السجود أيضا، أخرج ابن ابي الدنيا في (البكاء) وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي في (الشعب) عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال: هذا السجود فأين البكاء؟ وأخرج ابن ماجه واسحق بن راهويه والبزار في مسنديهما من حديث سعد بن ابي وقاص مرفوعا: اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وقال العلماء: ينبغي للساجد أن يدعو في كل سجدة بما يناسبها، فهنا يقول اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك، وفي آية الإسراء الآتية يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وفي آية السجدة في ج 2 اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك، وأعوذ بك من المتكبرين عن أمرك. وهكذا، راجع بحث السجود في آخر الأعراف المارة، وما ترشدك إليه، قال تعالى «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» جاء بعدهم عقب سيء، وكلمة (خلف) لا توجد في القرآن إلا هنا وفي الآية 168 من سورة الأعراف المارة، وتقرأ بفتح اللام في غير هذا الموضع، ويكون معناها أتوا بأولاد سوء، وعلى القراءة بإسكانها كما هنا أتوا قوم سوء. قال النضر بن شميل الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء، أما الصالح فبالتحريك فقط. وقال ابن جرير بالمدح بفتح اللام وبالذّم بتسكينها على الأكثر، لذلك فالقراءة هنا بالتسكين لأن معناه الرّديء وعليه المثل (سكت ألفا ونطق خلفا) وبالفتح إذا قام مقام أهله، ومن هذا القبيل النصب بالفتح التعب، وبالسكون الشر، والشق بالفتح الصدع في عود أو زجاجة، وبالكسر نصف الشيء، والسّداد بالفتح الإصابة، وبالكسر كل شيء سددت به من قارورة وغيرها. ولهذا البحث

[سورة مريم (19) : الآيات 61 إلى 70]

صلة في الآية 56 من سورة المؤمن في ج 2، وتقدم في الآية 17 من سورة الفرقان المارة مثله وفي الآية 17 المارة أيضا فراجعها، «أَضاعُوا الصَّلاةَ» تركوها وقرىء الفعل بالجمع وفاقا لقوله «وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ» آثروها على طاعة الله وانهمكوا فيها «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» 59 واديا في جهنم يرونه، هذا الخلف السيء ويدخلونه. أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعا أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار. وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قال الغيّ نهر أو واد في جهنم من فيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغيّ السوء وعليه قول مرقش الأصغر: ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لاثما أي سيء. وقال ابن عباس هو واد في جهنم تستغيث وتستعيذ منه أودية جهنم كلها أعد للزاني المصرّ وللشارب المدمن ولآكل الربى المصمم عليه، ولأهل العقوق وشهود الزور، والزور تحسين الشيء ووصفه بغير صفته، فهو عبارة عن تمويه الباطل وتزخرفه بما يوهم أنه حق، ويطلق على اللهو والعناء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق بالقلب كما ينبت الماء الزرع- راجع بقية هذا البحث في الآية 72 من سورة الفرقان المارة- قال تعالى «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» تأييدا لصحة إيمانه وتثبيتا لتوبته «فَأُولئِكَ» التائبون الموصلون توبتهم بالإيمان والعمل الصالح حتى الممات، فإنهم «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» جزاء ثوابهم وعملهم الصالح «وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً» 60 من اجزاء أعمالهم الحسنة التي عملوها قبل توبتهم فإنها تحسب لهم ويتقاضون أجرها تماما، فكما أن الكفر يحبط الأعمال فالتوبة تعيد ثوابه، ثم ذكر صفة أهل الجنة التي يدخلها التائبون وليست بواحدة بدليل قوله جل قوله «جَنَّاتِ عَدْنٍ» إقامة دائمة بدل من الجنة المقدمة التي لامها للجنس الدالة على الكثرة وهي «الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ» عنهم فلم يشاهدوها قبل وقد هيئت لهم من حيث لا يعلمون «إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» 61

مطلب في الأكل المسنون وإرث الجنة:

حاصلا وأصلا لمن وعده به جزما لا خلف فيه (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية 111 من سورة التوبة في ج 3، ومن صفة هذه الجنّة أن أهلها «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» من فضول الكلام وما لا ينبغي أن يقال وما لا يعني القائل والسامع «إِلَّا» لكنهم يسمعون فيها «سَلاماً» من الله جل جلاله وملائكته عليهم ومن بعضهم أيضا، وهذا سلام تحية وإكرام وإجلال. مطلب في الأكل المسنون وإرث الجنة: قال تعالى «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» 62 بمقدار طرفي النهار بالنسبة لأيام الدنيا، إذ لا ليل ولا نهار فيها فهم في النور أبدا دائما ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب والنهار برفعها من قبل الملائكة الموكلين بذلك، وأفضل العيش عند العرب ما كان في هذين الوقتين، وكانت لهم أكلة واحدة في اليوم والليلة فمن أصاب منهم أكلتين فيها سموه الناعم فأنزل الله هذه الآية على عادة المتنعمين ترغيبا لعباده، وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم الأكل مرتين في اليوم من الإسراف محمول على أنهما غير العشاء، إذ به يصير ثلاث أكلات وهو من السرف، فلا يرد على ما جاء في هذه الآية، راجع الآية 31 من سورة الأعراف المارة «تِلْكَ الْجَنَّةُ» الموصوفة بما ذكر هي «الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» 63 نقيا مخلصا في عبادته منفقا من فضل ماله فيعطيها أمثاله عن ثمرة أعماله، وقيل إنهم يرثون أعمالهم الحسنة، وقيل إنهم يرثون مساكن أهل النار فيها لو كانوا آمنوا زيادة على مساكنهم، والسياق يناسبه راجع الآية 40 المارة والآية 43 من سورة الأعراف المارة تجد ما يتعلق بهذا، وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا فأنزل الله على لسانه قوله «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» يا أكرم الرسل ليس لنا من أمرنا شيء «لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا» لا نملك منهما شيئا ابدا «وَما بَيْنَ ذلِكَ» أيضا هو بيده وحده «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» 64 غافلا عمّا يكون منا في جميع أحوالنا، وذلك المالك لأمرنا وأمر خلقه أجمع هو «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما»

لا يجوز عليه السهو والنسيان والغفلة، كيف وهو مدبر الكون كله بما فيه فلا تقع حركة ولا سكون فيه إلا بعلمه وأمره وقضائه وقدره، ولذلك فلا نقدر أن نزورك إلا بالوقت الذي يأمرنا به «فَاعْبُدْهُ» يا أكرم الرسل حق عبادته جهد قدرتك «وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» وتحمل مشاقها ومكارهها في القر والحر، والراحة والتعب، والضيق والسعة، والرضاء والغضب، والصحة والمرض حتى العطب، وأنظر «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» 65 فيما سبق سمّي باسمه، كلا ولا يسمى بعد، والحمد لله الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء وهو الرب العظيم والإله الكبير المنفرد بأسمائه وصفاته، ويطلق السمي على الولد قال الشاعر: أما السّميّ فأنت منه مكثر ... والمال مال يغتدى ويروح وليس مرادا هنا لأن السّميّ غير المسمى قال تعالى «وَيَقُولُ الْإِنْسانُ» قيل المراد به أميّة ابن خلف الجمحي لأنه قال ما يأتي في هذه الآية استهزاء، واللفظ عام واللام للجنس، فيشمل كل من يقول هذا القول لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ومقول القول «أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا» 66 استفهام إنكار على طريق الاستبعاد للبعث الذي أخبر به الله وتكذيبا لرسوله الذي يهددهم به وسخرية بهما قال تعالى «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ» المذكور آنفا «أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ» الحالة التي هو فيها «وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» 67 فيستدل هذا الخبيث بالخلق الأول على الثاني، لأن من قدر على الإيجاد أولا لا يعجز عن الإعادة لما أوجده ثانيا بل هي أيسر، ثم أقسم بنفسه عزت نفسه فقال «فَوَ رَبِّكَ» يا حبيبي لنحيينّهم مرة ثانية ثم «لَنَحْشُرَنَّهُمْ» والكافرين أمثالهم، وجملة الجاحدين لما أخبرنا به «وَالشَّياطِينَ» أيضا معهم لأن لكل كافر قرينا من الشياطين يحشر معه مقرونا به «ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا» 68 قاعدين على ركبهم لشدة ما يدهمهم من هول المطلع وموقف الحساب، قال تعالى: (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً الآية 25 من سورة الجاثية في ج 2) خائفة مترقبة ما يؤل إليه حالها ثم إن الكفرة يساقون على حالتهم تلك أذلاء مهانين لأن قعودهم على هذه الصفة دليل على

[سورة مريم (19) : الآيات 71 إلى 80]

حقارتهم وهي بكسر الجيم والتاء ويجوز ضم الجيم «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» طائفة غارية من الكفار «أَيُّهُمْ» كان في الدنيا «أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» 69 جرأة وتمردا وفجورا فنطرحهم فيها الأعتى فالأعتى على الترتيب الأكبر جرما والأشد كفرا. وإنما خصّ اسم الرحمن دون سائر أسمائه الحسنى في هذه الآية والآيات المتقدمة إعلاما بأنه لا ينبغي أن يغرّ الكافر برحمته تعالى، لأن من حل عليه قضاؤه المبرم بالعذاب لا تشمله الرحمة. ومن درى أن الرحمة مقيدة بشروط والمغفرة أيضا كما هو مصرح في الآيات الكثيرة من هذا القرآن العظيم، إذ لا تجد رحمة أو مغفرة مطلقة من قيد أو شرط لم يغتر بذكرها، بل عكف على عبادة ربه وطاعته وجعل في قلبه معنى أسمائه المنتقم أيضا، والمذل المهيمن، الحكم العدل، الجبار القهار، قال تعالى «ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا» 70 من غيرهم فقدمه على غيره بالإحراق فيها، وهذه الآية المدنية الثانية، قال تعالى «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» وأصلها ومقرّب إليها. مطلب معنى الورود وأن مرتكب الكبيرة لا يخلد بالنار: واعلم أن الورود موافاة المكان، وقال أكثر المفسرين إنه بمعنى الدخول، وأنكره ابن الأزرق، وأقسم ابن عباس بأنّه سيدخلها هو وهذا المنكر، وقال أرجو أن يخرجني بتصديقي، وما أراه يخرجك بتكذيبك. واحتج بالآية 98 من سورة الأنبياء في ج 2 وهي (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إلخ والآية 19 من سورة هود في ج 2 أيضا وهي (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) إلخ. وحجة ابن الأزرق بهاتين الآيتين أيضا، ولكن المتعارف أن الورود غير الدخول، قال في القاموس: الورود الإشراف على الماء دخله أو لم يدخله، ففارق معنى الدخول من الجهة الثانية «كانَ» ذلك الورود إلى جهنم لكل من البشر كما أقسم الله تعالى «عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» 71 لازما مبرما حقا. قال بعض المفسرين إن في هذه الآية معنى القسم، وهي كذلك، ولكن بقطع النظر عما قبلها،

وإلا فهي قسم كالتي قبلها، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يموت لأحد ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلته القسم. وأراد به الآية المارة أي والله ما منكم من أحد إلا ويرد جهنم. وروى مسلم عن أم مبشر الأنصاري أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصه: لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، أو من الذين بايعوه تحتها الوارد ذكرهم في الآية 19 من سورة الفتح في ج 3، قالت بلى يا رسول الله، فانتهرها لأنها لم تقل إن شاء الله، فقالت حفصة: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فقال صلى الله عليه وسلم جوابا لها ما قاله ربه: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» الأسباب الموجبة لدخولها من الكفر ودواعيه، ولم يصروا على ما فعلوه من المعاصي الكبيرة برحمتنا «وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» 72 بعدلنا لاختيارهم الكفر على الإيمان وإصرارهم عليه إلى الوفاة، ولا دليل في هذه الآية لمن يقول إن الفاسق وصاحب الكبيرة يخلد في النار، لأن المراد بالتقي المستثنى من الورود من اتقى الشرك، لأن من آمن بالله ورسوله يصح أن يقال له متق الشرك ولو كان مقترفا الكبائر من غير استحلال، لأن المستحل لها كافر، ومن صدق عليه أنه متق الشرك صح عنه أنه متق، لأن التقى جزء من التقى من الشرك، ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد مثبت أن صاحب الكبيرة والفاسق متق، وإذا ثبت لك هذا وجب أن لا يخلد في النار وأنه يخرج منها لعموم هذه الآية، وعليه إجماع الأمة من علماء التوحيد، قال صاحب الشيبانية: ولا يبقى في نار الجحيم موحّد ... ولو قتل النفس الحرام تعمدا ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير. وفي رواية من إيمان.

مطلب آخر الناس خروجا من النار وآخرهم دخولا في الجنة:

مطلب آخر الناس خروجا من النار وآخرهم دخولا في الجنة: وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال هل تمارون في القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله، قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله، قال فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة فيقول الله: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا نعم. قال فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى، تخطف الناس بأعمالهم. وهو نبت ذو شوك معقّف تأكله الإبل وهو من أجود مراعيها. والمراد أن كلاليب النار تقطعه حتى يلقيه بالنار فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من ينجدل (أي يهلك وينصرع) ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أعضاء السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا أي أحرقوا وأكلت جلودهم وبدت عظامهم، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل (بكسر الحاء) وهي جميع البذور وحميل السيل هو الزبد وما يلقيه الماء على شاطئه، ثم يفرغ من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولا الجنة، مقبل بوجهه قبل النار، فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني (آذاني وسمّني لأن القشب السم) ريحها وأحرقني ذكاؤها (اشتعالها ولهبها) فيقول هل عسيت أن أفعل ذلك بك، فتسأل غير ذلك؟ فيقول لا وعزتك، فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق، فيصرف الله وجهه

عن النار، فإذا أقبل به على الجنة رأى نكهتها وبهجتها (حسنها ونضارتها وزهرتها) سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول يا رب قسمني عند باب الجنة، فيقول الله أليس قد أعطيت المواثيق والعهود بأن لا تسأل غير الذي كنت سألت! فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك، فيقول فما عسيت إن أعطيتك ذلك أن لا تسأل غيره؟ فيقول وعزّتك لا أسأل غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول: يا رب أدخلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى ويحك يا ابن آدم ما اغدرك، أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك الله عز وجل منه، ثم يؤذن له في دخول الجنة، فيقول تمنّ، حتى إذا انقطعت أمنيته، قال الله تمن كذا وكذا (أقبل يذكره ربه) حتى إذا انتهت به الأماني، قال الله: لك ذلك ومثله معه. قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة وعشرة أمثاله؟ قال أبو هريرة لم أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله لك مثل ذلك ومثله معه. قال أبو سعيد رضي الله عنه سمعته يقول لك ذلك وعشرة أمثاله. وهذا من لطف الله تعالى في هذا العبد لأنه يعلم في الأزل أنه أهل للجنة بشيء من عمله لا يعرفه هو. أنظر قوله صلى الله عليه وسلم: دخلت النار امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض. وحديث البطاقة المار ذكره في الآية 7 من الأعراف، وحديث من رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأسقاه. لأن الله تعالى لا يضيع الذرة لعباده بل ينميها له بواسع فضله وهو لا يشعر. وعن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا فيها، رجل يخرج من النار حبوا، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله اذهب فادخل الجنة، قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع، فيقول يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله تعالى اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل

عشرة أمثال الدنيا، فيقول تسخر بي وأنت المالك! فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (أضراسة وأنيابه وهي آخر الأسنان) فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة اه. بلفظها حرفيا، فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار، ودلت الثانية والأحاديث على أن الله أخرج منها المتقين والموحدين وترك فيها الظالمين المشركين فقط. وقد جاء في الحديث: تقول النار للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهي. وروي عن مجاهد في قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) إلخ قال من حم من المسلمين وردها، وفي الخبر: الحمى من قيح جهنم. وفي خبر آخر: الحمى كير من جهنم وهي حظّ المؤمن من النار الآية 100 من سورة الأنبياء في ج 2. وقال خالد ابن معدان يقول أهل الجنة ألم يعدنا أن نرد النار، فيقال: بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة. وروى مسلم والبخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحمى من فيح جهنم (أي وهجها) فأبردوها بالماء. ولهذا فإن الطبّ الحديث يرى أن يغسل أطراف المحموم بالماء البارد، ومن كانت حمّاه برأسه يضعون على رأسه الثلج، وهذا من الطب النبوي المحتاج إلى عقيدة راسخة كما في الآية 25 من سورة القلم، لأن من لم يعتقد بالقرآن لا ينتفع بما فيه، بل يكون عليه وبالا، وسيأتي لهذا البحث في تفسير الآية 80 من سورة الإسراء الآتية بيان واضح واسع فراجعه. هذا، وإن مذهب أهل السنة والجماعة هو أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محالة، ويجوز أن يعفو الله عنه، وهذه الطريقة يجب التمسك بها والجنوح إليها، فكل قول يخالف هذا باطل لا قيمة له إذ لا مستند له على الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة. أما أقوال المخالفين فهي كيفية لا عبرة بها وسنأتيك ببعضها، فمنهم المرجئة يقولون لا يعاقب المؤمن على ما يقترف من الذنوب كبائر كانت أو صغائر، لأن المعصية لا تضر مع الإيمان، قاتلهم الله. وقالت فرقة أخرى إن المسلمين أهل الكبائر يكونون بمنزلة بين المنزلتين، أي لا يقال له مؤمن لعدم دخوله في عموم المتقين، ولا كافر لعدم دخوله في عموم الظالمين، فيكون بين بين، وهذا باطل أيضا إذ لا دار عند الله إلا الجنة أو النار، فمن نجا

من النار دخل الجنة والله أعلم. وهو القائل: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) الآية 185 من آل عمران في ج 3، راجع تفسير الآيات 7 و 8 و 31 من سورة فاطر المارة والآية 19 من سورة الفرقان المارة فيما يتعلق بفاعل الكبائر، أما ما يتعلق بالرؤية المار بحثها فراجع الآية 146 من سورة الأعراف، والآية 23 من سورة القيمة المارتين وما ترشدك إليه، قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» لا تحتاج إلى إثبات لأنها أعظم حجة وأدل دليل وأكبر برهان على قدرتنا وعجائب مخلوقاتنا ومبتدعات صنائعنا «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً» منزلا ومكانا وموضعا بين الناس «وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» 73 مجلسا ومجتمعا، لأن النادي خصّ لمباحثات في الأمور العامة، أي إن هؤلاء الكفار عند ما تتبين لهم الدلائل وتظهر لهم البراهين على قدرتنا يعرضون عن التفكر بها والتدبر لمعانيها، ويقبلون على التفاخر والتكاثر بالأموال والأولاد والمساكن والمجالس والتفاضل على المؤمنين بزينتهم وزخارفهم الدنيوية، لأنهم يقولون لو كان المؤمنون على الحق لصار حالهم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، إذ لا يليق بالحكيم أن يوقع أولياءه بالذل والحاجة ويجعل أعداءه بالعز والراحة، فيظهر من هذا أنا نحن على الحق بخلاف زعمهم، وهم على الباطل، ولهذا جعلنا أحسن منهم حالا ومكانة ومجلسا، فأنزل الله ما فيه إبطال قياسهم العقيم الناشئ عن رأيهم السقيم بقوله عز قوله «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً» من هؤلاء المعجبين برياشهم وثروتهم ومجلسهم «وَرِءْياً» 74 مرأى ومنظرا منهم مهما تزينوا بأنواع الألبسة وتعطروا بأصناف الطيب «قُلْ» لهم يا أكرم الرسل إن هذه الأمتعة الدنيوية التي يعطيها الله تعالى بعض خلقه لا تدل على حسن الحال وارتفاع المقام وعلو المنزلة، لأن «مَنْ كانَ» مخلوقا للتوغل «فِي الضَّلالَةِ» واقتراف أنواع المعاصي الواردة عن طريق الهوى من الكفرة أمثالكم «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» يمهله كي يتمادى في طغيانه إمهالا كثيرا ويستدرجه بإكثار النعم استدراجا يظن معه أن الله أهمله والله لا يهمل بل يمهل العبد إلى أن ينتهي أمره ويبلغ الغاية

في انتهاك الحرمات وينسى صنع ربه فيه، فيأخذه بغتة ويقصفه على حين غفلة «حَتَّى إِذا رَأَوْا» هؤلاء المأخذون غرة «ما يُوعَدُونَ» على لسان رسلهم «إِمَّا الْعَذابَ» العاجل في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء وذلا وموتا «وَإِمَّا السَّاعَةَ» القيامة التي عذابها أكبر وأدوم «فَسَيَعْلَمُونَ» حينذاك في إحدى الحالتين أو كلتيهما معا «مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً» هنا وعند الله «وَ» من هو «أَضْعَفُ جُنْداً» 75 فئة وناصرا ومغيثا يوم القيامة أهم وهم في النار، أم نحن ونحن في الجنة، وفي الدنيا هم في حالة الغلب والمهانة، أم نحن في حالة النصر والعز، بل المؤمنون في الحالتين أحسن لأنهم هم المهتدون. قال تعالى «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» ونورا على هداهم، ويزيد الظالمين عمى وضلالا على ضلالهم «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» من الأعمال الحسنة التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً» من حطام الدنيا الذي يتفاخر به هؤلاء الكفرة على المؤمنين «وَخَيْرٌ مَرَدًّا» 76 من ذلك، أي مرجعا وعاقبة، لأن عاقبة الكفر الحسرة الأبدية، وعاقبة الإيمان النعيم المقيم، راجع تفسير الآية 39 المارة، وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وعليه معنى قول حسان: أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّ كما لخير كما الجزاء وهو تهكم بالكفرة المذكورين القائلين أي الفريقين خير إلخ. وقرىء مقاما بالضم، والفرق بينهما أن المقام بالفتح موضع القيام سواء أقام فيه بنفسه أو أقام فيه غيره بطريق المكث فيه أولا، وبضم الميم موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياما ممتدا، وقد سئل أبو السعود رحمه الله عن الفرق بينهما فقال: يا وحيد الدهر شيخ الأنام ... نبتغي فرق المقام والمقام فأجابه رحمه الله بلفظ: إن أقمت فيه فهو مقام ... وإن أقمت فيه فهو المقام قال تعالى «أَفَرَأَيْتَ» يا حبيبي أعلمت هذا «الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ» وهو على كفره «لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً» 77 ما أجهله يتمنى على الله الأماني وهو

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 90]

لا يعبده ويشرك معه غيره «أَطَّلَعَ الْغَيْبَ» هذا الأحمق حتى يقول هذا الكلام ويقسم عليه «أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» 78 بأن يؤتيه ذلك «كَلَّا» لم بطلع على الغيب ولم يأخذ عهدا من الله، وإنما قال ذلك تكبرا وتجبرا وعتوا على الله القائل له ولأمثاله «سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ» من افتئاته علينا وتعاظمه «وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا» 79 فنزيده عذابا فوق عذابه بسبب قوله هذا ونطيله عليه جزاء افترائه واجترائه حتى يظل معذبا دائما «وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ» بأن نهلكه ونجعل ماله وولده إرثا لغيره «وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً» 80 لا مال له ولا ولد ولا قرابة ولا أصدقاء، راجع الآية 48 من سورة الكهف والآية 93 من سورة الأنعام في ج 2. روى البخاري ومسلم عن خبّاب بن الأرت أن رجلا من الأزد قال كنت رجلا قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دين، فأتيته أتقاضاه، وفي رواية فعلت للعاص بن وائل السهمي سيفا فجئته أتقاضاه، فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت لا أكفر حتى يميتك الله تعالى ثم تبعث، قال وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت بلى، قال دعني أموت وأبعث، فأوتى مالا وولدا فأقضيك، فأنزل الله فيه هذه الآية، قال تعالى «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» 81 في الدنيا يعتزون بها ويمتنعون من العذاب في الآخرة على زعمهم الباطل، قال تعالى «كَلَّا» لا تفيدهم عزا في الدنيا ولا منعة في الآخرة وهذا زجر لهم ورد لكلامهم الكاذب. مطلب تبرأ المعبودين من العابدين وأصناف الحشر: ذلك لأن هذه الأوثان التي اتخذوها لذلك فإنّهم «سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ» يوم القيامة وينكرونها ويتبرأون منهم «وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» 82 حين ينطقهم الله ويسألهم عن ذلك فيقولون: يا ربنا عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك، وإنا نتبرأ إليك من عبادتهم، راجع الآية 17 من سورة الفرقان المارة والآية 42 من سورة سبأ الآتية في ج 2 إذ يقولون: (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) بل كانوا يعبدون الجن، فيخيب ظنهم ويعود الأمر عليهم بالعكس، فيكون لهم الذل والهوان

والخزي والعار، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 167 و 168 من سورة البقرة في ج 3، قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا أكمل الرسل فتخبر وتعلم «أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا» 83 أي سلطنا الشياطين على الكافرين لتهيجهم وتزعجهم وتغريهم على ارتكاب المعاصي تستفزهم لاقترافها حتى يتوغلوا فيها «فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ» يا حبيبي بإنزال العذاب، ودعهم تحيق بهم المهالك من كل مكان حتى يأتي الأجل المعين في أزلنا لهلاكهم، وهو حتما نازل بهم، ولكنهم لم يستكملوا ما قدر لهم بعد «إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» 84 سنين وشهورا وأياما وساعات ودقائق وثواني ولحظات، قال السماك: عند ما قرأت هذه الآية بحضرة المأمون العباسي قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في المعنى: إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا حرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ... فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس واعلم يا أكرم الرسل أنا سنوقع بهم ما أوعدناهم على لسانك وسيذكرون هذا «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» 85 جماعات ركبانا معزّزين كما يفد رؤساء الأقوام على ملوكهم في الدنيا ليكرموهم بالخلع المعيّنة لهم والأوسمة الكريمة «وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ» المحكوم عليهم بالعذاب في ذلك اليوم الذي ينال فيه الأتقياء اعطياتهم العظيمة ويبلغون آمالهم من ملك الملوك «إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً» 86 كما تساق الأنعام ليذوقوا وبال أعماهم، مشاة عطشا مهانين، فيروون النار بدل الماء. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: محشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واحد على بعير واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وتحشر معهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث بانوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، تمسي معهم حيث أمسوا. وأخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم،

مطلب الشفاعة ومحبة الله:

قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. راجع الآية 34 من سورة الفرقان المارة، وللبحث صلة في الآية 97 من سورة الإسراء الآتية. مطلب الشفاعة ومحبة الله: واعلم يا أكمل الرسل أن هؤلاء في ذلك اليوم العصيب «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ» للعصاة لا هم ولا غيرهم «إِلَّا» لكن يملكها «مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» 87 بأن يشفع لمن يريده الله وهم المرتضون، قال تعالى (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية 37 من سورة الجن المارة، فهؤلاء يشفعون بإذن الله لمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله مخلصا ومات عليها. هذا، وقد أنكر المعتزلة جواز الشفاعة في دخول الجنة، مع أن الأخبار والأحاديث وظاهر الآيات تكذبهم، روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من أمتي يشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته، وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته، (ومعنى الفئام الجماعة) والأحاديث في هذا الباب كثيرة وسنأتي عليها في الآية 89 من سورة الإسراء إن شاء الله، وان ما عليه أهل السنة والجماعة هو أن شفاعة الأنبياء والأولياء حق واجب مفيدة، قال في بدء الأمالي: ومرجو شفاعة أهل خير ... لأصحاب الكبائر كالجبال وقال في الشيبانية: لكل نبي شافع ومشفع ... وكل ولي في جماعته غدا وجزاء منكرها حرمانها «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة بعد قولهم بالإشراك وانكارهم البعث والنبوة «اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» 88 وذلك أنهم يقولون الملائكة بنات الله كما تقول اليهود عزيز والنصارى المسيح أبناء الله، تعالى الله عن ذلك راجع الآية 31 من سورة التوبة في ج 3، «لَقَدْ جِئْتُمْ» أيها الكفرة المغترون المبهتون بمقالتكم هذه «شَيْئاً إِدًّا» 89 منكرا عظيما وقولا ثقيلا، وفعلا شديدا، وعظمتنا إن قولكم هذا «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» لشناعته وفظاعته

[سورة مريم (19) : الآيات 91 إلى 98]

«وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ» من هوله فتخسف «وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» 90 لعظمته فتسقط عن موضعها عليهم «أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» 91 لما فيه من الافتئات على الله بما لا يليق بعظمته وجلاله، لأن مثل هذا الكلام ينفي ملاك الإيمان وأهم أركانه وقواعده، وأعظم أصوله وفروعه، ولا يقال كيف تؤثر هذه الكلمة في هذه الجمادات، لأن الله تعالى يقول كدت أن أفعل هذا بهذه الأجرام عند صدور هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة، والقادر قادر فكيف بغير الجماد، فإنه يذوب كما يذوب الملح بالماء، ثم نزه نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عن ذاته المقدسة فقال «وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» 92 ولا يليق بجنابه أن بوصف بذلك، لأن الولد قد يشبه أباه ويكون للحاجة والسرور والاستعانة والذكر، والله ليس كمثله شيء وغني عن كل شيء ومنزه عن كل شيء من سمات المخلوقين «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» 93 أذلاء حاضعين مملوكين يأوون لحضرته بالعبودية ويستكينون لعظمته وينقادون لكبريائه، وفي هذه الآية إيذان بأن الوالد لا يملك ولده وأن الله مالك مطلق لجميع من في الكون يتصرف فيه كما يشاء ويختار، والله الذي لا إله إلا هو «لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا» 94 حصرهم وأحاط بهم وعلم أنفاسهم وآثارهم بحيث لا يخرج أحد عن قبضته وقدرته، راجع قوله تعالى: (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) في الآية 54 من سورة الأعراف المارة وآية (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) 8 من سورة الرعد في ج 3، «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» 95 لا مال ولا ولد معهم ولا خدم ولا حشم، مجردين عن كل شيء كما ولدوا، وهذه الآية مثل الآية 80 المارة وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 93 من الأنعام في ج 2، فيأتونه وكلهم حاجة إلى رحمته فكيف ينسبون له الولد تعالى عن ذلك «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الذين نزهوا ربهم عن الشريك والولد وغيره ويعترفون بوحدانيته ونبوة أنبيائه واليوم الآخر «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» 96 في الدنيا فيحببهم لخلقه ويحبب الخلق إليهم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول له إن الله يحب فلانا فأحبّه فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبدا دعا جبريل فيقول له أنا أبغض فلانا فابغضه، فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فابغضوه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض. وسيأتي لهذا البحث صلة نفيسة في الآية 68 من سورة الزخرف في ج 2. قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة لأنهم كانوا ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله ذلك وأنجز لهم وعده، وسيأتي بيان ما وقع لهم مع ملك الحبشة في الآية 199 من آل عمران في ج 3، وإليكم أن من يجمل الله له ودّا في الدنيا من أجل إيمانه وعمله الصالح فإنه يجعل له ودا في الآخرة من باب أولى لأن الدنيا مزرعة الآخرة وتوادّ الآخرة بين الله وبين عباده أكثر من توادهم بينهم، راجع الآية 55 من سورة المائدة في ج 2. قال تعالى «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ» هذا القرآن العظيم «بِلِسانِكَ» يا سيد الرسل «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ» بما لهم عند الله من الكرامة في الآخرة التي تضمحل عندها عزة الملوك، وأبن عطاء الملوك في الدنيا من إكرام ملك الملوك في الآخرة «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» 97 شديدي الخصومة بالباطل ممتنعين عن الإيمان بالله لجاجا وعنادا لم يحسبوا لعاقبتهم أمرا ولا لحسابهم عذرا «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ» من القرون الماضية بسبب إصرارهم على الكفر وفي هذه الجملة وعيد لقومه ووعد لرسوله صلى الله عليه وسلم ضمن وعيدهم بالإهلاك وحثّ له على إدامة العمل بإنذارهم ولهذا التفت اليه وخاطبه عز خطابه بقوله وانظر يا حبيبي «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ» من أولئك القرون الهالكة، أي تشعر كأنهم ما كانوا «أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» 98 أقل صوت، والركز هو الخفاء ومنه الركاز المال المدفون في الأرض، وركز الرمح إذا غيبت طرفه في الأرض، والمعنى أهلكناهم جميعا عن بكرة أبيهم، بحيث لا يرى منهم أحد، ولا يسمع لهم صوت، لأن الله عز وجل أخذهم استئصالا فلم يبق منهم عين ولا أثر. ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه اللفظة. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله.

تفسير سورة طه 45 - 20

تفسير سورة طه 45- 20 نزلت بمكة بعد سورة مريم عدا الآيتين 130 و 131 فإنهما نزلنا بالمدينة، وهي مائة وخمس وثلاثون آية، والف وستماية واحدي وأربعون كلمة، وخمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدأت وختمت به (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى «طه» اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم كما مرّ في سورة يس، واسم للسورة، ومفتاح أسماء الله تعالى الهادي، هو الباسط المعطي، وقال بعض المفسرين ان معناه طأها أي الأرض، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم إلى ربه على رجل واحدة في تهجده، وقيل أصله يا رجل بلغة عكّ، أو أصلها يا هذا، فتصرفوا فيها بالقلب والاختصار، مستدلين بقول القائل: إن السفاهة طاها في خلائقكم ... لا قدس الله أخلاق الملاعين أقول غير جدير بالقبول لعدم الاستناد فيها إلى شيء صحيح، وما ذكرناه هو الأولى والأنسب، لاستناده للحديث الذي أوردناه أول سورة يس، يؤيده الخطاب في قوله تعالى «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» في المبالغة في مكابدة العبادة قد يعتريك فيه التعب الشديد، أو في هلاك نفسك في محاورة العتاة ومجادلة الطغاة من قومك من فرط الأسى والتحسر على عدم إيمانهم «إِلَّا» أي ما أنزلناه عليك يا أكرم الرسل لشقائك به، ولكن «تَذْكِرَةً» تذكرهم به وعفة «لِمَنْ يَخْشى» 3 الله ويتأثر بالإنذار به لرفة قلبه ولين عريكته لينتفع به، لا كما زعم المشركون، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في عبادة ربه في مكة حتى تورمت قدماه، فلما رأى ذلك منه المشركون قالوا ما أنزل الله عليه الوحي الذي يزعم إلا لشقائه، وكان صلى الله عليه وسلم يجهد نفسه بالعبادة من جهة ومن أخرى بدعوة قومه إلى ربه ويلح على نفسه في هذين الأمرين، لأنهما غاية مطلبه ونهاية قصده في الدنيا، فأنزل الله عليه هذه الآية ليخفف عن نفسه الشريفة ما حملها من الأعباء، ويقتصد بالعبادة والدعوة

مطلب العرش ومعنى الاستيلاء عليه:

«تَنْزِيلًا» مفعول مطلق أي أن هذا القرآن نزل عليك يا محمد «مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى» 4 كما يقوله كفرة قومك من كونه سحر أو كهانة أو من خرافات الأولين أو من تعليم الغير، بل هو من الله الخالق لهذين الحرمين العظيمين وهو «الرَّحْمنُ» الذي وسعت رحمته كل شيء عزت قدرته وجلت عظمته «عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» 5 استواء يليق بذاته ويراد ممنه الظهور والاستيلاء والتمكن. مطلب العرش ومعنى الاستيلاء عليه: والعرش لغة السرير ذو القوائم، أما عرش الرحمن فهو شيء يليق بذاته لا يعلم حقيقته على الحقيقة إلا الله، إلا أنه شيء يحمل لقوله تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية 15 من سورة الحاقة- في ج 2 وهذه الآية تدل على عظمته، لأن الملك الواحد يقوى على حمل الأرض بما فيها، فكيف إذا كانوا ثمانيه أملاك، ومن هاهنا تعلم عظمته، قالوا هو كالقبة فوق السموات له قوائم، بدليل ما رواه البخاري عن أبي سعيد، قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه، فقال يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي! فقال صلى الله عليه وسلم: أدعوه فقال لم لطمت وجهه؟ فقال يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول والذي اصطفى موسى على البشر، فقلت يا خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذتني غضبة فلطمته. فقال صلى الله عليه وسلم لا تميزوا بين الأنبياء، فان الناس يصعقون وأكون أول من يفيق، فإذا بموسى عليه السلام أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور. أي لم يصعق وهو فوق السموات بدليل ما رواه ابو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، ونهكت الأموال، فاستق لنا، فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله تعالى عليك فقال صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول؟ وسبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجهه أصحابه، ثم قال ويحك انه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه، شأن الله تعالى أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إن الله تعالى فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته

هكذا وقال بأصابعه مثل القبة، وانه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب، أي من عظمة الرّب جل وعلا وهيبته، وهو منزه عن الثقل والخفة وسائر أوصاف خلقه، وهذا مما يدل على عظمته ايضا. وقد روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سمعه يقول ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض. وجاء في خبر آخر: إن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة ملقاة في فلاة، هذا وقد وصفه الله تعالى في قوله جل قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية 256 من البقرة في ج 3، ووصفه بالمعظم في آيات، وناهيك بذلك. هذا، وقد روى عن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في مستدركه، وقال على شرط الشيخين، عن سعد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره الا الله، وبما أن من هذه من آيات الصفات التي جرى السلف على ظاهرها دون تأويل أو تفسير، ومشى الخلف على خلافه، فقال بعضهم إن العرش كناية عن ملك الله وسلطانه، وهو غير سديد لمنافاته ظاهر القرآن والحديث، لأنه إذا كان كما قيل فكيف نقنع بقول الله (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) إلخ الآية المذكورة آنفا، وقوله تعالى (يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) الآية 18 من سورة المؤمن في ج 2، أيقال يحملون ملكه وسلطانه؟ كلا، وهل كان موسى آخذا بقوائم الملك والسلطان في الحديث المار؟ كلا وما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه، فهل يقال اهتز ملكه وسلطانه؟ كلا لا يقال شيء من ذلك أصلا لأن ذلك أمر معنوي لا يحمل ولا يمسك ولا يهتز لذلك فلا يقوله من له أدنى مسكة من علم أو ذوق، فإن صاحب هذا القول على فرض صحته أراد به تنزيه الله تعالى على طريقة الخلف من كل ما يدل على المكان، لأنه جل ذكره لا يحويه مكان، ولكنه لم يصب الهدف، وإن ما قاله أهل الكلام من أنه مستدير محيط بالعالم، وأنه فلك من الأفلاك أو الفلك الأطلس أو الفلك التاسع، فليس بصحيح، لأن قولهم مبني على

الحدس والظن، كيف وقد ثبت أنه له قوائم وأنه محمول وممسوك، والفلك التاسع عندهم متحرك بحركة متشابهة وهو لا ثقيل ولا خفيف كما يزعمون، وقد جاء في صحيح مسلم في حديث جويرية بنت الحارث ما يدل على أن له زنة هي أثقل الأوزان، ولأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب لا تفهم منه الفلك وما جاء في خبر أبي ذر عن جبير بن مطعم المتقدم ذكره من أنه مثل القبة، لا يستلزم أن يكون مستديرا محيطا كما قالوا، وهؤلاء القوم مازالوا قبلا والى اليوم والى أن ينفخ في الصور لا يقدرون على حصر الأفلاك بأنها تسعة، وان التاسع أطلس ولا كوكب فيه، وانه غير الكرسي علمت قال امية بن الصلت: مجّدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا ... س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا لايناله طرف عين ... وترى حوله الملائك صورا جمع اصور وهو المائل العنق لنظره الى العلو، والشرجع العالي المفرط بعلوه، واستوى بمعنى استولى على اكثر أقوال المفسرين أوضحناه في الآية 54 من الأعراف المارة، ودللنا عليه بشواهد كثيرة اتباعا لغيرنا، الا أنه مع شواهده لا يطمئن له الضمير، كما أن ما جاء أنه بمعنى العلو والارتفاع في رواية البخاري، أو أنه بمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) الآية 44 من سورة هود، وبقوله تعالى (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) الآية 13 من الزخرف في ج 2، ممنوع، لأنه مستحيل على الله تعالى، وذلك لأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وهو محال في حقه تعالى، ولأنه لا يقال استولى على كذا إلا إذا كان له منازع فيه: وهذا في حقّه تعالى محال أيضا، وإنما يقال استولى إذا كان المستولى عليه موجودا قبل، والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه له، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات، فلا يبقى إلى تخصيص العرش بالذكر فائدة، لذلك فالأولى أن يفسر بما فسرناه هنا من أنه استواء يليق بذاته كما هو الحال في آيات الصفات، من المجيء، واليد، والقبضة، وغيرها، لأن

القانون الصحيح وجوب حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره، إلا إذا قامت الأدلة القطعية على وجوب الانصراف عن الظاهر، ولا داعي للتأويل بما قد يوجب الوقوع في الخطأ وزلة القدم. وانظر ما قاله السلف الصالح في هذا الباب. روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال كنا عند مالك بن أنس، فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله قال تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فكيف استواؤه؟ قال فأطرق مالك وأخذته الرّحصاء (العرق الذي يحصل من أثر الحمى) ثم رفع رأسه فقال الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعه، أخرجوه، فأخرج الرجل، وفي رواية سمي بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى، فكيف استواؤه فأطرق مالك رأسه حتى علته الرحصاء ثم قال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: الاستواء غير مجهول (لم يقل معلوما تأدبا، وكان مالك أخذ هذه الجملة عنه رضي الله عنه إن لم نقل أنها من توارد الخاطر) والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأخرج اللالكائي في كتاب السنة عن طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به ايمان، والجحود به كفر. وجاء من طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى ربنا على العرش؟ فقال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله تعالى إرساله، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، وروى البيهقي بسنده عن أبي عينية قال كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. قال البيهقي والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة واليه ذهب أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن بن الفضل الجبلي، ويدل عليه مذهب الشافعي ومشى عليه من المتأخرين أبو سليمان الخطابي، وأهل السنة يقولون في الاستواء على

العرش صفة لحمله بلا كيف، يجب على الرجل الايمان به ويكل العلم به الى الله، وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيفية وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء أهل السنة أن هذه الآيات التي فيها الصفات المتشابهة تقرأ كما جاءت بلا كيف، هذا والذي ذهب اليه الإمام الرازي أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، والاستيلاء بمعنى الاقتدار، وهو كما ترى وأقوال السنة وبعض العلماء في هذا الباب لا تحصى، وقد قدمنا غير مرة بأن طريقتنا في هذا التفسير الجليل حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره، إلّا إذا لم نتوصل لفهمه وورود الدليل القاطع النقلي والعقلي يصرفه عن ظاهره، فإنما نعدل عنه ضرورة ونرجع الى التأويل بما نقتبسه أولا من القرآن لأن في بعضه تفسيرا لبعض، ثم في الحديث لأن قول الرسول شرح له، ثم إلى أقوال الأصحاب الكرام الخزامى الذين قال بحقهم صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. لأنهم يغرفون من مشكاة النبوة ثم لأقوال أتباعهم من السلف الصالح ولأقوال العلماء المفسرين له الأمناء عليه الأتقياء الذين نور الله قلوبهم بمعرفته قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ) الآية 284 من سورة البقرة في ج 3، وقال تعالى (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) الآية 19 من سورة الأنفال في ج 3 أيضا وقال تعالى (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) الآية 64 من سورة الكهف في ج 2 وقال جل قوله (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) الآية 74 الآتية وهذا ما عليه السلف الصالح والخلف الناجح والاقتداء بهم أسلم، والأخذ بقولهم أحكم، والله أعلم الذي «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى» 6 التراب الرطب الذي يظهر بعد حفر وجه الأرض، فإن الله تعالى مالك لجميع ذلك وما فوق السموات أيضا، ومتصرف فيه كيف يشاء، ولم يبق غير ذلك الا المالك «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ» يا سيد الرسل أو تسر به على حد سواء «فَإِنَّهُ» مولاك ومالك أمرك «يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» 7 منه مما يخطر ببالك أو تتصوره في قلبك فيما بعد قبل تخطره وتصوره لأن السر موجود في صدرك أو لأن السر ما تسره للغير حالا، وهذا

مما لا يعلمه غيرك، لأنه لم تتفوه به أو ما أسررته لنفسك، والأخص ما ستسره فيما بعد، ولا تعلمه الا بعد أن يحوك في صدرك، لأن الله يعلم أنه سيحدث في سرك قبل أن تحس به، والأول أولى. تشير هذه الآية بأن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لفرض آخر من تصوير النفس بالذكر، ومنعها من الاشتغال بغيره قطعا للوسوسة، وهذا أولى من قول من قال إنه نهى عن الجهر كقوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الآية 204 من الأعراف المارة لان غايته الإرشاد وهضم النفس بالتضرع الى خالقها، وهذا المالك الجليل والعالم العظيم هو «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» 8 الدالة على معنى التقديس والتحميد والتبجيل لتعظيم الربوبية والأفعال التي هي نهاية في الحسن من الأسماء التي فضلت على سائر الأسماء، والله تعالى واحد في ذاته وان افترقت عبارات صفاته، وفيها رد على قول الكفرة القائلين حينما سمعوا حضرة الرسول يقول يا رحمن. إنك تنهانا عن تعدد الآلهة وتدعو آلهة متعددة. فأجابهم بأن الإله واحد وهو المعني بقوله لا إله إلا هو وإن له أسماء أخر، هنّ صفاته جل شأنه وعظمت صفاته، قال صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها وفي رواية من حفظها دخل الجنة وكلها موجودة في القرآن صراحة، ويوجد اسم آخر له مكنون في غيبه وعلمه يعلمه الراسخون في العلم وهو اسمه الأعظم الذي لا يرد من دعاه به، وهي هو الله لا إله إلا هو 1 الرحمن 2 الرحيم 3 الملك 4 القدّوس 5 السلام 6 المؤمن 7 المهيمن 8 العزيز 9 الجبار 10 المتكبر 11 الخالق 12 البارئ 13 المصور 14 الغفار 15 القهار 16 الوهاب 17 الرزاق 18 الفتاح 19 العليم 20 القابض 21 الباسط 22 الخافض 23 الرافع 24 المعز 25 المذل 26 السميع 27 البصير 28 الحكم 29 العدل 30 اللطيف 31 الخبير 32 الحليم 33 العظيم 34 الغفور 35 الشكور 36 العلي 37 الكبير 38 الحفيظ 39 المغيث 40 الحسيب 41 الجليل 42 الكريم 43 الرقيب 44 المجيب 45 الواسع 46 الحكيم 47 الودود 48 المجيد 49 الباعث 50 الشهيد 51 الحق 52 الوكيل 53 القوي 54 المتين 55 الوليّ 56

مطلب فوائد تكرار القصص:

المجيد 57 المحيي 58 المميت 59 المحصي 60 المبدي 61 الباقي 62 المعيد 63 الحي 64 القيوم 65 الواجد 66 الماجد 67 الواحد 68 الأحد 69 الصمد 70 المقتدر 71 القادر 72 المقدم 73 المؤخر 74 الأول 75 الآخر 76 الظاهر 77 الباطن 78 الوالي 79 المتعالي 80 البر 81 التواب 82 المنتقم 83 العفو 84 الرؤوف 85 مالك الملك 86 ذو الجلال والإكرام 87 المقسط 88 الجامع 89 الغني 90 المغني 91 المعطي 92 المانع 93 الضار 94 النافع 95 النور 96 الهادي 97 البديع 98 الوارث 99 الصبور 100 المرشد واعلم أن بعضهم لم يعد المعطى من الأسماء الحسنى، لذلك بلغت هنا 100 وبحذفه تبقى 99 وسنأتي على معانيها في محالها كل في موضعه إن شاء الله من آيات الذكر الحكيم، فمن هذه الأسماء الدالة على المعاني الحسنة ما يستحقه الله تعالى بحقائقه كالقديم قبل كل شيء والباقي بعد كل شيء، والقادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، والواحد الذي ليس كمثله شيء، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها، كالغفور والرحيم والشكور والحليم، ومنها ما يوجب التخلق به كالكرم والعفو والصبر والستر، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر والرقيب، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبر والجليل. والله جل شأنه له أسماء غير هذه لا تعد ولا تحصى لأنه له في كل شيء اسم كما أن له في كل شيء آية على وحدانيته وعلى كل أحد حجة في معانيها، وقد سبق أن بينا في الآية 179 من سورة الأعراف المارة شيئا من هذا فراجعه. قال تعالى «وَهَلْ أَتاكَ» يا سيد الخلق «حَدِيثُ مُوسى» 9 في بداية نبوته وما لاقاه من قومه عند إرساله إليهم. مطلب فوائد تكرار القصص: والقصد من تكرار هذه القصص ونحوها طورا باختصار، وتارة بإسهاب، ومرة بتوسط، أمور: (1) التفنن بالبلاغة لأن إفادة المعنى بالموجز منها بوجه أبلغ كإفادته بصورة مطنبة من نوع الإعجاز والتحدّي (2) تسلية حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم

بإطلاعه على ما قاسته الأنبياء قبله من أقوامهم ليهون عليه ما يلاقيه من قومه (3) أن تكون العاقبة بالنصر والظفر لحضرته كما كانت للأنبياء الذين يعلم بقصصهم على طريق البشارة (4) إعلام قومه بأن ما يوحى اليه هو من الإخبار (بالغيب) وانه من الله حق لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يفارقهم ليظن به أنه تعلم أو سمعه من الغير (5) أن يعلم حضرة الرسول أن الصبر على الشدائد وتحمل الأذى هو من شأن الأنبياء كلهم لا من خصائصه وحده. هذا، وقد سبق أن بيّنا فوائد التكرار وأسبابه في الآية 17 من الأعراف المارة فراجعها، واعلم أن قصة السيدين موسى وهرون مع قومهما وقصة آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة تكررت في المكي والمدني من القرآن العظيم، أما قصص سائر الأنبياء فلم تكرر إلا بالمكي منه على التفصيل وقد يأتي ذكرها في المدني في بعض السور إشارة وإلماعا بسائق تعداد ما وقع للأنبياء مع قومهم وسياق تعداد فضائلهم وما منحهم الله من الكرامات، وسنأتي على بيان هذا ان شاء الله عند ذكر كل قصة «إِذْ رَأى ناراً» حال مجيئه وأهله من مدين بلدة شعيب عليه السلام وذهابه إلى مصر لزيارة أمه وأخيه «فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا» مكانكم هذا لا تبرحوه، وكان الوقت ليلا وشتاء باردا «إِنِّي آنَسْتُ» أبصرت ما يؤنس به ورأيت هناك «ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ» شعلة تستدنؤن بها، وقد جمع الضمير لأنه كان مع أهله ولد وخادم أو على طريق التفخيم كقوله: وإن شئت حرمت النساء سواكم «أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» 10 نهتدي به إلى الطريق لأنهم ضلّوه بسبب ظلمة الليل، وكأن الله تعالى أنطقه بهذا اللفظ إلى التوصل للهدى الحقيقي الذي هو سبب تشريفه بالنبوة العظمى والرسالة الكبرى، وكان كذلك لأنه عليه السلام لما قضى الأجل إلى عمه السيد شعيب كما سيأتي ذكره في الآية 49 من سورة القصص الآتية فما بعدها، وتزوج ابنته وبقي مدة بعد زواجه بها، استأذنه بالرجوع إلى مصر بلده ومسقط رأسه فخرج بأهله ونعمه، وأخذ يمشي بهم على غير الطريق المسلوكة ليلا لئلا يتعرضه أحد لعدم أمن الطريق، وكانت امرأته في شهرها

[سورة طه (20) : الآيات 11 إلى 20]

لا يدري أتضع ليلا أم نهارا، فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن بالنسبة له، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، فأخذ امرأته الطلق وولدت، فجمع حطبا وصار يقدح زنده (وتسميه العامة زنادا ويقال أورى إذا قدح، وصلد إذا لم يقدح) فلم يور فنظر إلى جهة الطور، فإذا هو بنور ظنه نارا، وما أحسن هذا الضلال إذ كان فيه الهدى، وكان ابن الفارض رحمه الله ألمع إلى هذا بقوله: ما بين ظال المنحنى وظلاله ... ضل الميتم واهتدى بضلاله وما أحسن هذا الجناس والمقابلة بين ظال وضل وظلاله وضلاله «فَلَمَّا أَتاها» أي النار التي رآها عن بعد ليقتبس منها فنأت عنه، فنأى عنها، فدنت إليه، فوقف متحيرا، إن أقدم إليها تأخرت وإن تأخر عنها دنت منه، فعند ذلك «نُودِيَ» من قبل حضرة القدس «يا مُوسى 11 إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» وهذا هو الإرهاص بعينه، راجع معناه في بحث الوحي في المقدمة، وذلك لأنه لم يتنبأ بعد حتى تظهر له الخوارق على طريق التحدي الذي هو من شأن النبوّة، فوقف ولم يعلم ما يفعل، فأمره ربه بقوله «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» لتباشر رجلاك الأرض المقدسة فتصيبها بركة الوادي الذي هو فيه إذ انتشر فيه نور الإله، وإجلالا لنور تلك الحضرة المقدسة، إذ لا يليق أن يخوض ذلك النور وهو متنعّل. وما قيل إنها كانتا من جلد حمار ميت فغير ثابت، وما استدل به على هذا في الحديث الذي أخرجه الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبّة صوف وكمة صوف (أي قلنصوة صغيرة) وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار. ولم يذكر فيه أنه ميت والرواية التي فيها لفظة ميت غريبة لم تثبت، وأنه عليه السلام خلعهما حالا وطرحهما وراء الوادي، يدل على هذا قوله عز قوله «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» 12 فإن هذه الآية جاءت تعليلا لذلك الأمر، إذ لا ينبغي أن يداس هذا الوادي المقدس بنور الإله من قبل أحد ما وهو متنعل «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» من قومك ومن الناس أجمعين، لأن أشرفك بنبوتي ورسالتي وأرسلك لهداية خلقي «فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» 13

مطلب جواب إمام الحرمين عن المكان ورفع الأيدي إلى السماء:

إليك فيما يتعلق بأمرها، قال وهب بن منبه: قال موسى عليه السلام بعد أن وطنه ربه بما تقدم من النداء والأمر والاصطفاء رب إني اسمع كلامك ولا أراك ولا أعلم مكانك، فأين أنت رب؟ فقال يا موسى أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» وحدي فأنا المستحق للعبادة وأرفض ما سواي، فإنهم خلقي وصنع خلقي. مطلب جواب إمام الحرمين عن المكان ورفع الأيدي إلى السماء: يروى أن إمام الحرمين- رفع الله درجته في الدارين- نزل ضيفا عند بعض الأكابر، فاجتمع عنده العلماء فقام واحد من المجلس وقال له: ما الدليل على تنزيه الله تعالى عن المكان وقد قال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ؟ فقال: الدليل عليه قول يونس عليه السلام في بطن الحوت فتعجب الحاضرون، والتمس صاحب البيت بيان ذلك، فقال الإمام إن في الباب فقيرا عليه ألف درهم أدّها عنه وأنا أبيّن لك ذلك، فقبل، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى ما شاء الله من العلى قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ولما ابتلى يونس بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الآية 87 من سورة الأنبياء في ج 2، فكل منهما خاطب الإله بقوله أنت خطاب الحضور، فلو كان هو في مكان لما صح ذلك، فدل هذا على أنه جلت قدرته ليس في مكان بل هو في كل مكان بآثاره وصفاته وأنواره، لا بذاته، كما أن الشمس في كل مكان بنورها وظهورها لا بوجودها وعينها، ولو كان في كل مكان بالمعنى الذي أراده بعض الجهلة لقيل أين هو، كان قبل خلق هذه العوالم، ألم يكن له وجود متحقق؟ فان قالوا لا، فقد كفروا، وإن قالوا بالحلول والانتقال فكذلك، لأن الواجب لا يقارن الحادث إلا بالتأثير والفيض وظهور الكمالات فيه، لكن لا من حيث أنه حادث مطلقا، بل من حيث أن وجوده مستفاض منه، ولعلك تقول أيها المعترض لماذا ترفع له الأيدي نحو السماء إذا لم يكن فيها، فاعلم أيها

مطلب فضل الصلاة الفائتة:

العاقل هداك الله لتوفيقه وأرشدك لسلوك طريقه، أن معنى رفع الأيدي إلى السماء هو طلب الاستعطاء من الخزانة التي نوه بها في قوله عز قوله (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 23 من الذاريات في ج 2، وقوله جل قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الآية 21 من سورة الحجر في ج 2 أيضا، وإن الذي استوى على العرش هو مظهر الصفة الرحمانية، ومن أثبت له مكانا بالمعنى المعلوم فهو من المجسمة، والله منزه عن الجسم اه بتصرف عن روح البيان. هذا ولما سمع موسى عليه السلام هذا النداء المتكرر والأمر بالاستماع عقبه الأمر بالعبادة، علم بإلهام الله إياه أن ذلك لا يكون ولا ينبغي أن يكون إلا من الله، وأيقن به، وتأهب لمقام الهيبة والجلال لاستماع الأمر العظيم الذي أمره به، واعترف له بالعبودية وأصغى لما يكون بعدها من الأمر، قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» 14 خاصة لأني ذكرتها في الكتب القديمة وأمرت اخوانك الأنبياء بإقامتها فأقمها مثلهم. هذا، ومن قال إن المراد بهذا الأمر، إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها، أي اقضها، لا وجه له، لأن الصلاة لم تفرض عليه بعد حتى يعلمه ما يتعلق بها. مطلب فضل الصلاة الفائتة: ان ما احتج به هذا القائل في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك. وتلا قتادة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وفي رواية عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال: من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها. وفي رواية إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل قال (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لا يصح دليلا على ما نحن فيه لما قدمناه، وإنما يصح دليلا لنا إذا قدر مضافا محذوفا أي لذكر صلاتي، وقد ظن هذا القائل أن الحديث لو لم يحمل على هذا لم يصح التعليل به، وهو من بعض الظن، لأن التعليل صحيح من غير أن يحمل الحديث على الآية، وأنه عليه السلام أراد بهذا الحديث أنه إذا

ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له، وهو ذكر الله تعالى المأمور به في هذه الآية، فيحمله على إقامتها لاشتمالها على الذكر، وقد صادف هذا البحث حادثة غريبة عن التفسير المبارك مناسبة للمقام فأحببت ذكرها، وهي اني كنت في المحكمة في الساعة الرابعة من يوم الخميس 1 جمادى الآخرة سنة 1357 واشتغلت كعادتي في هذا التفسير وأجهدت نفسي في مطالعة التفاسير في آية الاستواء المارّة ولم أحس بأني لم أصل الظهر إلا عند كتابة هذه الأحاديث، وكان العصر يؤذن فتفاءلت بها بأن الله تعالى لم يؤاخذني وتسليت بما وقع لحضرة الرسول يوم الخندق ويوم الأحزاب، وإلى سليمان في حادثة الخيل وقد ألمعنا إليها في الآية 33 من سورة ص المارة، لأنه لم يفتني والحمد لله وقت قط، فمقت وصليت الظهر ثم العصر واستغفرت الله تعالى من هذه الغفوة، ثم عدت لما أنا فيه قال تعالى «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ» لا محالة لأن خراب الكون متوقف عليها، وجاء بذكر الساعة هنا لأن قوم موسى الذي أمره الله في هذه الآية بدعوتهم للايمان ينكرونها، لأن فرعون وقومه القبط يعبدون الأوثان، ولأن الاعتقاد بوجودها من أصول الدين ومتعلق آمال الموحدين، جعلها الله في الدرجة الثالثة إذ ذكرها بعد توحيده وإقامة الصلاة لذكره، وأكدها بحرف التوكيد، وكأن موسى عليه السلام تشوف ليعلم وقت مجيء الساعة لأن من أرسله إليهم ينكرونها أسوة بمن تقدم من الكفرة أمثالهم فقال تعالى «أَكادُ أُخْفِيها» حتى عن نفسي فكيف أظهرها لك أو أظهرك عليها وكيف يعلمها مخلوق وهي من خصائص الخالق، وهذا جري على عادة العرب المنزل عليهم هذا القرآن بلغتهم، إن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان السر قال كدت أخفيه عن نفسي، ويؤيد هذا التفسير الذي اخترته على غيره قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها (عن نفسه) حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه- مبالغة في الإخفاء- وبه قال ابن عباس وجعفر الصادق، أما ما جاء في مصحف أبيّ ومصحف ابن خالويه وعبد الله بزيادة (فكيف أظهرها) فليس من القرآن وإنما هو من تفسيرهم لهذه الآية إذ كانوا يكتبون بهامش مصاحفهم أو بين

سطوره ما يقفون عليه من بعض الكلمات التي يتلقونها من حضرة الرسول أو مما اجتهادهم لمعناها، ومن شواهد قوله: أيام تصحبني هند وأخبرها ... ما كدت أكتمه عني من الخبر وقبل إن خبر كاد محذوف تقديره آتي بها على حد قول صائبي الرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله أي وكدت أفعل ثم استأنف وقال وليتني وليس بشيء، وما جرينا عليه أو هذا، وقد ذكرت غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه على القرآن الذي بأيدينا لا عبرة بها، ولا تجوز قراءتها لأن هذا القرآن هو بعيد أنزله الله لا زيادة ولا نقص فيه. واعلم يقينا أن كل ما نقل عن بعض العلم القراء زيادة كلمة أو حرف على ما في القرآن هي شروح وتفاسير كتبها القائلون بها على هوامش مصحفهم ليس إلا، إذ لا يجوز أن يقال في بعض المصاحف زيادة أو نقص على بعضها قطعا، والقول به حرام راجع تفسير الآية 19 من سورة الحجر في ج 2. وبحث القراءات في مطلب الناسخ والمنسوخ في المقدمة المارة. قال تعالى «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» 15 تعمل في هذه الدنيا إن خيرا فخير وإن فشر «فَلا يَصُدَّنَّكَ» يا رسول «عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها» من قوم فرعون وغيرهم الجاحدين وجودها المتوغلين في الغفلة المعنيين بقوله «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بما تسول له نفسه من النزغات الشيطانية واللذات البهيمية والشهوات الخسيسة فتصده عن الإيمان بها «فَتَرْدى» توقع نفسك في الردى والهلاك، لأن إغفالها إغفال تحصيل ما ينجي من هولها. ثم أراد جل شأنه أن يريه آية على رسالته فقال «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» 17 وهذا سؤال لتقرير الحكم منه أن يوقفه أولا على ماهية ما بيده وينبهه على ما يريد بها وما سيظهره له بها من العجائب، حتى إذا صيّرها لا يهوله أمرها، ويوطن نفسه عليها، وليعلم أنها معجزة له وبرهان على نبي «قالَ هِيَ عَصايَ» أضافها لنفسه لأنها بيده.

مطلب عصا موسى وإعطاء محمد من نوع ما حدث للرسل وأعظم:

مطلب عصا موسى وإعطاء محمد من نوع ما حدث للرسل وأعظم: قيل كان للعصا شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة، أخذها من بيت شعيب عليه السلام، وقيل إنها من آس الجنة وقد هبط بها آدم عليه السلام. واعلم أن زيادة التاء قبل الياء لحن، قالوا أول لحن وقع في العرب (هذه عصاتي) ثم بيّن ما يروم بها عفوا فقال «أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها» أي أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه «عَلى غَنَمِي» فترعاه، وهذا معنى الهش «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» 18 كحمل الزاد وشد الحبل عند استقاء الماء من البئر وقتل الهوام ومحاربة السباع وتعليق الثوب بها للاستظلال تحتها وغيرها، ولكنه عليه السلام لم يعلم المأرب الأعظم الذي يريده الله تعالى بها وهو معجزته العظيمة التي يرفع الله بها شأنه، ويهدي بها قومه «قالَ أَلْقِها يا مُوسى» 19 لأريك ماذا أريد بها مما لا يقع ببالك بما يؤول إليه عزّك وسلطانك وإنقاذ قومك وإرشادهم «فَأَلْقاها» ليرى الذي يريده ربه منها «فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» 20 تمشي بسرعة وقد سماها الله ثعبانا في الآية 107 من الأعراف المارة، وجانّا في الآية 10 من سورة النحل الآتية، والحية تطلق على الصغيرة والكبيرة، لأنه أول ما ألقاها رآها بنظره صغيرة، ثم انتفخت حتى صارت كأعظم ثعبان، تلقف الحجر وتبلع الشجر وتلقم ما تراه، فترعب من لا يعرف الرعب، فخاف منها وتباعد عنها موليا إذ رأى ما لم يكن بالحسبان، فأراد ربه أن يوطنه ويؤمنه «قالَ» يا موسى إرجع إليها وادن منها «خُذْها وَلا تَخَفْ» منها، لأنها حجة لك على صحة دعوتك عند ما يطلب منك برهانا لتقوية دعوتك على عدوك، أما وقد أطلعناك على ما ينجم من إلقائها فاعلم يا رسولي أننا بمطلق مناداتك لها (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) 21 التي كانت عليها قبل الإلقاء، فأخذها، فعادت كما هي عصا، ثم نبهه على آية أخرى برهانا على نبوته أيضا بقوله «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» اجعلها تحت إبطك، والجناح لغة اليد والعضد والإبط والجانب، وهو حقيقة في الطير ثم توسع فيه فأطلق على اليد، وسمي جناحا لأنه يجنح بالطائر فيميله إذا طار، ثم أخرجها «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص

والسوء يطلق على العيب، والبرص لا اعيب منه، وهو بياض شديد يضرب إلى الحمرة أعيا الأطباء زواله، فأدخل يده اليمنى تحت إبطه الأيسر وأخرجها فإذا هي تبرق بياضا ناصعا مع أنها سمراء، فقال له انظر هذه «آيَةً أُخْرى» 22 على صدق دعوتك إلى القبط وقومك، وهاتان الآيتان توطئة «لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى» 23 الدالة على عظمتنا، راجع الآية 129 من الأعراف المارة وما بعدها، تقوية لجنانك وتكريما لجنابك، فتقابلهم بالجزم والعزم لأنك مستند إلينا في دعوتك، فلا تخش تهويلهم فإنهم مغلوبون، ولا يخفى أن كل آية آتاها الله رسله، فقد أعطى من نوعها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأعظم، وقد قال في حقه (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) الآية 18 من سورة النجم المارة، ووجه أفضليتها، أن معجزاته عليه السلام هذه كانت في الأرض ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم في السماء، والفرق بينهما كالفرق بين الأرض والسماء، ويقابل معجزة اليد في الأرض نبع الماء من إصبعه في غزوة تبوك فقد شرب الجيش منه، ورمي التراب في وجوه القوم في غزوة أحد فانهزموا، وتسبيح الحصى في يده، وذر التراب على رؤوس شبان المشركين يوم أحاطوا به ليقتلوه فخرج من بينهم ولم يروه، وسنأتي على تفصيل هذا كله وغيره في موضعه إن شاء الله في القسم المدني. هذا، وبعد أن شرفه الله بالنبوة وقوى عزمه بما منّ عليه من تلك المعجزات، وشحه بالرسالة العظمى وقال له «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» 24 وبغى وتجاوز الحد في التّمرد وحتى ادعى الإلهية بطرا، ودعته نفسه الخبيثة إلى هذا التجبّر والتكبر الذي لم يسبقه به إلا أخوه نمرود، الآتية قصّته في الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2، وفرعون علم لملك مصر واسمه الوليد بن الريان، ولما رأى موسى فضل ربه عليه وعطفه ولطفه به استمطر خيره، وطلب من فيضه ما ألهمه به «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» 25 وسّعه لتحمل مشاق سيئي الأخلاق وإملائه معرفة بك وعرفانا منك لأجابهه بقوة سلطانك وعظمة قهرك «وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» 26 بالوصول إليه وسهل لي كل صعب ألاقيه في طريقي إليه وفي مقابلتي له «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي 27 يَفْقَهُوا قَوْلِي» 28 لأعبّر عما في جناني بطلاقة وفصاحة لمن أرسلتني إليهم

ولأبلغ رسالتك على الوجه الأتم الأكمل، وسبب حصول هذه العقدة على ما قيل ان موسى عليه السلام لما كان في حجر فرعون حال صغره لطمه، وأخذ بلحيته فتطيّر منه وهم بقتله فمنعته زوجته آسيا رحمها الله قالت له أتركه فإنه لا يعقل، وجربه إن شئت، فقال كيف وقد فعل ما فعل؟ فقالت على رسلك وانظر، فوضعت في طست جمرا وتمرا وياقوتا وقدمته له ثم أشارت إليه أن يأخذ أحدها فأراد أن يأخذ الياقوت ومد يده إليها فحرفها جبريل عليه السلام إلى الجمر فأخذ جمرة ووضعها في فمه فحرقت لسانه وسببت هذه العقدة فيه، فلما رأى فرعون ذلك تركه إذ ظهر له ما قالت آسيا رحمها الله. واعلم أن هذه ليست من العيوب المستحيل وجودها في الأنبياء لأن ثقل اللسان قد لا ينقص قدر الإنسان ولا يخل في أمر التبليغ وليس فيه ثغرة، بل قد تكون مما يستعذب في بعض الاشخاص ولا سيما في حضرة السيد موسى عليه السلام، وما قيل إن هرون أفصح منه، فمن هذه الجهة، وإلا فهو على غاية من الفصاحة والبلاغة، وقول فرعون (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الآية 53 من سورة الزخرف في ج 2 تمويه على قومه ليصرفهم عنه ليس إلا، وقد ذكروا أنه كان في لسان المهدي المنتظر مجيئه حبسة، وقد جاء في فضله ما لم يحصره القلم، لأن فصاحة الذات لا يقاومها إعراب الكلمات، وفي هذا قال: سر الفصاحة كامن في المعدن ... لخصائص الأرواح لا في الألسن وقال الآخر: لسان فصيح معرب في كلامه ... فياليته في موقف الحشر يسلم وما ينفع الإعراب ما لم يكن تقى ... وما ضرّ ذا التقوى لسان معجم والمراد باللسان الآلة الجارحة نفسها، وفسره بعضهم بالقوة الناطقة القائمة فيه، والفقه العلم بالشيء والفهم له، وقال الراغب هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم قال تعالى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي» 29 يعاونني في أعباء ما كلفتني به، فالوزر بكسر فسكون، بمعنى الحمل الثقيل.

[سورة طه (20) : الآيات 31 إلى 40]

مطلب الوزير والوزر دائرة بلطف الله بموسى واجابة مطالبه:؟؟ وسمي القائم ببعض الأمور الملكية وزيرا لأنه يحمل عن الملك بعض ثقلها، أما الوزر بفتحتين فراجع معناه في الآية 11 من سورة القيمة المارة، ثم بيّن الوزير الذي يريده بقوله «هارُونَ أَخِي 30 اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي» 31 قوّ به ظهري وأحكم به قوتي ليساعدني على مهمتي «وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» 32 الذي شرفتني به، وهو الرسالة ليقوم مقامي عند غيابي في إرشاد من أرسلتني إليهم، ويعاضدني في حضوري عند دعوتي إليهم، هذا وإن موسى عليه السلام أول من طلب هذا الطلب من ربه فأجابه: وإذا سخر الإله سعيدا ... لأناس فإنهم سعداء «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً» 33 أنا وإياه ليل نهار «وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً» 34 وهذه غاية للأدعية الثلاثة في هذه الآية، لأن انضمام فعل هرون لعمل موسى مكثر له ومؤيد «إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» 35 عالما بأحوالنا مشاهدا لها وإن ما دعوتك به مما يصلحنا ويقوينا، لإنفاذ أمرك ويسهل علينا تبليغ رسالتك، فأجابه جلت إجابته بقوله «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» 36 كله فقد أزلنا العقدة من لسانك ونبأتا أخاك هرون وجعلناه معاونا لك تتقوى به كما طلبت، وهذا دليل كاف على رسالة هرون عليه السلام، فلا وجه لمن نفاها لأن السؤال معاد بالجواب قال تعالى «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى» 37 قبل هذه المنن الثلاث بلا سؤال منك، إذ لم تكن إذ ذاك مميزا إذ كنت في بدء رضاعك، وقد خافت أمك من اطلاع قوم فرعون عليك فيأخذونك ويقتلونك، ثم بين تلك المنة بقوله عز قوله «إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى» 38 بأن ألهمناها وأنت جنين حينما كانت خائفة من وضعك أن يكون نصيبك نصيب أمثالك من القتل، حين ولادتك، لأن فرعون كان يقتل المولودين أمثالك، ما يحفظك به منه، فأشرنا لها «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ» بعد أن ولدته وقد حفظناك من شرطة فرعون، لعلمنا بأن أمك لا تزال قلقة من أجلك، والتابوت

هو الصندوق، واليم البحر بالسريانية والعبرية والعربية، وكل نهر كبير يسمى يمّا كالنيل ودجلة والفرات وغيرها، وقد أعلمناها بأنا حافظوه مما تخاف عليه، ونتيجة هذا الإلقاء وهو «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» لأنا أمرنا البحر أن لا يأخذه بل يطرحه على الشاطئ قريبا من فرعون «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» وهو فرعون إذ يمر قسم من النيل في داره، وكان ذلك، ولما رأى فرعون ذلك التابوت رسا في ساحله، أمر الجواري بإخراجه، فأخرجوه ففتحه فإذا فيه غلام ألقى الله محبته في قلبه، بحيث لم يتمالك نفسه وعقله من فرط محبته له، وذلك قوله تعالى «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» وأنساه الله في تلك الساعة أمره بقتل الأولاد ليتم مراد الله فيه، وأمر بتربيته في حجره، قال تعالى «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» 39 ترّبى بمرأى مني عند عدوك وعدوّي، وإني مراقبك ومراعيك كما يراقب ويرعى الرجل الحريص شيئا بعينه، ولكن شتان بين مراعاتي ومراعاة عبدي، واذكر يا موسى ترادف منني عليك «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ» مريم بنت عمران وهذه التي شبهت بها مريم أم عيسى عليه السلام في الآية 28 من سورة مريم المارة، لما بين الاثنتين من الشبه في العفة والطهارة والكرامة والمحتد وعلو النّسب والحسب، وذلك أن أمك بعد أن طرحتك في اليم ضاق ذرعها، فأرسلتها لتعرف خبرك لشدة ما حل بها من الخوف عليك، فوجدتك في بيت فرعون يتحرون لك ظئرا، فألهمناها أن تتطفل بالكلام «فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ» يقوم بإرضاعه وتربيته كما تريدون، وذلك لأنه أبى قبول ثدي المرضعات اللاتي أحضرنهن له، كما سيأتي في الآية 12 من سورة القصص، فقالوا لها نعم، فأحضرت لهم أمك، فأخذت ثديها وأعماهم الله ربك عن التحقيق عنها فلم يعلموا أنها أمك وهذه أعظم منة عليك وعليها «فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ» على فراقك ولتربيك في حنوها، إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم، إلا رأفة ربك على عباده، ورأفة الرسول على أمته، «وَ» من جملة ألطافي عليك، أنك بعد أن كبرت «قَتَلْتَ نَفْساً» من قوم فرعون سنأتي قصته في الآية 69 من سورة القصص

[سورة طه (20) : الآيات 41 إلى 50]

الآتية «فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقك بسبب قتله، وآمنّاك من القصاص «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» في الوقوع من محنة إلى أخرى، لأنك ولدت في السنة التي يذبح بها فرعون المواليد، ثم ألقيت في البحر تخلصا من القتل، ثم التقطك عدوك الذي قتل الألوف ليحظى بقتلك، ثم حرمنا عليك المراضع حتى أحضرنا لك أمك فربتك في بيت عدوك، ثم لطمت فرعون وأخذت بلحيته حتى هم بقتلك، فنجيناك بما ألهمنا آسية زوجته، ثم قتلت القبطي انتصارا لرجل من قومك، ثم هاجرت إلى مدين خوفا من فرعون وآله «فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» اسم لجد القبيلة، سميت باسمه وهي واقعة على بحر القلزم محاذية لمدينة تبوك الواقعة بين الشام والمدينة على بعد ست مراحل منها، وقيل هي في كورة مصر أو بين دمشق وفلسطين، وقد شدّدنا هذا التشديد، وامتحناك هذا الامتحان، وغفرنا لك ما وقع منك في الدنيا، وسنثيبك الثواب العظيم في الآخرة ولتعلم بأنا منجوك وناصروك من جميع محن الدنيا، وهذا من نعمتنا الجزيلة عليك تمهيدا للنعمة الكبرى التي هي الرسالة المؤيدة بالآيات العظام والتي يؤول أمرها إلى دار السلام، فنزلت عند نبيّنا شعيب، فزوجك ابنته وأكرم مثواك «ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى» 40 وهو بلوغك رشدك وأشدك وهو سن الأربعين المقدر في علمنا تتويجك فيه بالرسالة، وكان مكثك عنده ورعيك لأغنامه وتزويج ابنته انتظارا لهذا الوقت والموعد والمكان الذي خصّصته لك لتلقّيها «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» 41 خاصة فقد اخترتك لتنفيذ أمرى، وأهلتك لتلقي وحيي، وجعلتك قائما بحجتي. مطلب لا صحة لما ورد من أن الله لم ينبىء نبيا إلا بعد الأربعين: قالوا كان عمره عليه السلام حين هاجر اثنتي عشرة سنة، وبقي راعيا عند شعيب عشر سنين ثم تزوج بنته في هذه السن، وبقي بعد زواجه ثماني عشرة سنة، ثم أخذها وسافر إلى مصر بعد إكمال الأربعين، وهي السن التي يتمكن معها أمثاله من تحمل خطاب الله تعالى، عدا يوسف عليه السلام فإنه نبىء في البير لثماني عشرة سنة من عمره، كما جاء في الآية 22 من سورته في ج 2 ويحيى في السابعة من عمره سمي نبيّا

في الآية 12 من سورة مريم المارة، وعيسى نبيّء في المهد كما تشير إليه الآية 30 من سورة مريم أيضا، فيكون عمره والله أعلم إذ ذاك أربعين يوما، أي حين مغادرتها بيت لحم محل ولادته، ولهذا فإن ما ورد في الحديث بأن الله تعالى لم ينبىء نبيا أو يرسل رسولا إلا بعد الأربعين سنة من عمره لا صحة له لمخالفته نص القرآن كما هو مبين في الآيات المشار إليها، قال تعالى بعد أن أجاب طلبه وعدد نعمه عليه «اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ» إلى فرعون وقومه (بآياتي) التي أظهرتها لك والتي سنظهرها بعد علامة على رسالتك «وَلا تَنِيا» تقصّرا أو تفترا أو تنأخرا «فِي ذِكْرِي» 42 بل داوما عليه حال دعوتكما له ومجداني بما يليق بجلالي واذكرا عظمتي» وعزتي وكبريائي وصفاتي الجليلة واسمائي الحسنى وأفعالي الجميلة عند تبليغ الرسالة فرعون لكما عليها وهذا ملاك ذكر الله «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» 43 على عبادي وتجبر عليّ ولكن عند ما تكلمانه تقدما اليه بالنصح وتلطفا به وتعطفا عليه «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» من غير تعسف ولا عنف وقد أجدر بالقبول من جهة، ومن اخرى جزاء حق تربيته لأحدكما وإكراما لمقامه بين قومه، وفائدة أخرى وهي «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ» في وعظكما ويتأمل معناه عله يذعن للحق الذي أمرتماه به «أَوْ يَخْشى» 44 عاقبة الأمر فيسلم لكما على رغبة فيما يراه ورهبة مما يتوقعه، وإنما ذكر الله رسوله بهذا وأمرهما بالتراخي وعدم الغلظة دفعا للحجة وتقديما للمعذرة، وإلا فهو عالم أنه لا تنفعه الذكرى لأن إرسال الرسل الى من يعلم أنهم لا يؤمنون لالزام الحجة عليهم، وقطع طرق المعذرة لهم راجع الآية 144 من الأعراف المارة ولمعناها صلة في الآية 134 من هذه السورة، هذا، وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ (فَقُولا لَهُ) إلخ فبكى وقال إلهي هذا رفقك بمن قال أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله «قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا» فلا يقبل منا ويعجل عقوبتنا قبل إتمام الدعوة إليه لأن الفرط هو ما يتقدم الشيء «أَوْ أَنْ يَطْغى» 45 علينا فيتجاوز الحد ويقول في شأنك مالا ينبغي أن يقال وهو أعظم من التفريط بحقنا والافراط بما يقع منه علينا

[سورة طه (20) : الآيات 51 إلى 60]

«قالَ لا تَخافا» من هذين الأمرين ولا من غيرهما «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ» دعاء كما فأجبيه «وَأَرى» 46 ما يراد بكما إن كان خير فأمضيه وان كان شرا فأمنعه «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» إليك أمرنا أن نقول لك «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» بالأشغال الشاقة كحفر الآبار وقطع الأشجار ونقل الأحجار والخدمة الشاقة وغيرها «قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ» عظيمة «مِنْ رَبِّكَ» تثبت صدقنا، وهذا إيذان بأن دعواه الربوبية زور، إذ لا ربّ إلا الله، وتنويه بكذب دعواه إياها أمام قومه، لذلك سكت عن هذه الجهة، لأنه يعرفها، وقال لها ما هي الآية، فأخرج له موسى يده لها شعاع كالشمس، فأعرض عنهما ولم يلق لهما بالا ولم يلتفت لتلك الآية، فقالا له «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» 47 الذي يأتيه من ربه وليس المراد سلام التحية، إذ لا محل له هنا بل سلام المتاركة المار ذكره في الآية 42 من سورة مريم أي الأمن من العذاب في الدارين لمن يهتدي بالهدى ثم قالا له «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا» من قبل الله الذي أرسلنا إليك «أَنَّ الْعَذابَ» في الآخرة «عَلى مَنْ كَذَّبَ» بالله ورسوله وكتبه «وَتَوَلَّى» 48 أعرض عن ذلك «قالَ» فرعون بعد أن رآهما جاهرا بذلك وعلم أن قومه أصغوا لقولهما «فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى» 49 إضافة إليهما لغاية عتوه ونهاية طغيانه. وخص موسى لأنه علم أنه الأصل وهرون تابع له «قالَ رَبُّنَا» ربي ورب أخي وربك ورب الناس أجمع «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجونه من أمر دينهم ودنياهم «ثُمَّ هَدى» 50 كلا إلى ما يحتاج إليه وما خلق له، وألهم كل واحد كيفية نفعه وقيل أن خلقه بمعنى صلاحه، أي أعطى اليد البطش، والرجل المشي، والعين النظر، والأذن السمع، واللسان النطق، ثم هدى كلا إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح والأخذ والعطاء. وقيل أعطى كل شيء خلقه أي اعطى الرجل زوجة من جنسه، وهكذا كل حيوان، وألهم كلا كيف يأتي زوجته، والأول أولى. «قالَ فَما بالُ» حال وأصل البال الفكر،

يقال خطر ببالي كذا. أي فكرت به، ثم أطلق على الحال التي يعتريها وهو مفرد لا يثّنى ولا يجمع، وشذّ قولهم بالآت ومن هذا قول بعض الناس عند خروجه من مجلسهم، خاطركم أي أبقوني في بالكم لا تذكروني الّا بخير، أي إذا كنت رسولا وتدعي وجود إله غيري أخبرني عن أحوال «الْقُرُونِ الْأُولى» 51 التي كانت تعبد الأصنام وتنكر البعث، لأنا على طريقتهم، وهذا على طريق المحاجّة معهما «قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» لأنه عليه السلام لم يعلم شيئا عن أحوالهم ولم يعلمه ربه أخبارهم والتوراة لم تنزل بعد عليه لذلك رد العلم إلى الله وأكده بقوله إن أخبارهم كلها مدوّنة «فِي كِتابٍ» عند ربي «لا يَضِلُّ رَبِّي» شيئا منها «وَلا يَنْسى» 52 ما يستحقونه من ثواب وعقاب، ونظير هذه الآية في المعنى الآية 45 من سورة الكهف في ج 2، فهو «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» فراشا ومنه المهد السرير للطفل، فهي مهد الأحياء والأموات «وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» طرقا بين الأودية والجبال كما في السهل ليتيسر لكم المشي فيها «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياة كل شيء لكمال المنافع. ثم التفت من الخطاب إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ» بذلك الماء «أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» 53 مختلف اللون والطعم والرائحة والشكل والمنفعة «كُلُوا» أيها الناس ما تشهون منها «وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» مما يصلح لها منه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكرته لكم «لَآياتٍ» عظيمات «لِأُولِي النُّهى» 54 العقول تنهاهم عن عبادة غير الإله الواحد، وعن جحود البعث والنبوة، وتأمرهم بالإيمان بذلك. وسمى العقل نهى لأنه ينهى صاحبه عما يضره مادة ومعنى، وعقلا لأن يعقل صاحبه عما نهى الله ورسوله، وحجى لأن يحاجج به ويدعم حجته لإلزام الخصم، وإدراكا لأن يدرك به الحسن من القبيح والضار من النافع، وحجرا لأنه يحجر صاحبه عن الوقوع في المهالك، والحجر بمعنى المنع.

مطلب لكل نفس حظ من نشأة آدم، وقبر الإنسان من محل الذرة التي خلق منها:

مطلب لكل نفس حظ من نشأة آدم، وقبر الإنسان من محل الذرة التي خلق منها: واعلموا أن هذه الأرض التي فيها منافعكم في الدين «مِنْها خَلَقْناكُمْ» أي خلقنا أصلكم آدم، لأنه من ترابها، أو لأن النطفة من الأغذية والأغذية من الأرض، فيشمل خلقكم منها أيضا أو من ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من البشر له حظ من خلقه، لأن فطرته لم تقتصر عليه فهو أنموذج منطو على فطرة سائر البشر انطواء الجنس على أفراده انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل، فكان خلقه منها خلقا للكل، يشهد عليه قوله تعالى «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» الآية 98 من ج 2، راجع تفسير الآية 9 من سورة مريم المارة في هذا البحث. وقيل إن الله تعالى إذا أراد تكوين النطفة من الرحم أمر الملك الموكل بذلك أن يأخذ ذرة من التراب الذي تدفن فيه فيذرها في النطفة فتخلق منها ومن التراب قال تعالى (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج 2، لأنها لا تدري من أي ذرة من ذرات الأرض تكونت، وقيل في هذا المعنى: إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير وقال الآخر: مشيناها خطا كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطا مشاها وأرزاق لنا متفرقات ... فمن لم تأته منّا أتاها ومن كانت منيّته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها ومن علم أن الله قادر على كل شيء لا يستبعد هذا لأن العقائد لم تقتصر على المحسوسات وليس كل ما يقوله العقل جائزا على الله، تدبر قول ابن الفارض رحمه الله: واني وان كنت ابن آدم صورة ... فلي منه معنى شاهدا بأبوتي «وَفِيها نُعِيدُكُمْ» نقبركم إذا متم كما أن من تأكله الطيور والوحوش والحيتان ومن يموت حرقا وغرقا تضمه الأرض ايضا لا يفلت منها أحد، لان مصير الكلّ التراب وهو من الأرض حيث تنظم تلك الذرات الطائرة والمأكولة إليها، ثم

مطلب معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم:

يعيدها الله الى جسمها يوم البعث المذكور بقوله تعالى «وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» 55 بعد الموت والاندراس نحييكم للحساب والجزاء، قال تعالى «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها» المبينة في الآية 106 فما بعدها من الأعراف المارة التي أظهرها الله على يد موسى عليه السلام، وما قص عليه من آيات الأنبياء قبله التي أهلك بها أقوامهم بإلهام من الله تعالى بعد ما وقع منه في الآية 52 المارة لأنه لم يكن يعلم شيئا عنها ولم يخبره بها ربه، ودام يدعو فرعون وقومه عشرين سنة ولم ينجع به، حتى أراه آية انفلاق البحر، ولما لم يرتدع أغرقه ومن معه فيه. مطلب معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم: ولسيدنا موسى آيات أخر مع قومه بني إسرائيل أولها انفلاق البحر الذي نجاهم الله من الغرق فيه وأغرق أعداءهم، ثم ضربه الحجر وانفجاره اثنتي عشرة عينا من الماء ورفع الجبل فوقهم لما أبوا الأخذ بأحكام التوراة والمن والسلوى والغمام في أرض التيه، وإحياء الميت في قضية البقرة، وخسف الأرض بقارون، وآيات أخرى كثيرة نأتي على ذكرها في تفسير الآية 101 من سورة الإسراء الآتية إن شاء الله قال تعالى «فَكَذَّبَ» فرعون ما أريناه من الآيات «وَأَبى» 56 عن الايمان برسولنا وأصر على كفره «قالَ» محاججا لموسى ومنددا به «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى» 57 وتتغلّب على مصر وما فيها، ويكون لك ملكها؟ كلا لا نتابعك «فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ» ندفع به الذي جئتنا به من اليد والعصا لأن هذا كان بعد إراءته هاتين الآيتين، ولهذا قال «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً» أجلا وميقاتا نتقابل به ونتبارى «لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» 58 غير هذا المكان عدلا سويا كبيرا لا يحجب الناظرين عما يقع فيه ليشهدوا بما يروا فيظهر الأمر للناس كلهم وإذ ذاك يعلم الغالب أنحن أم أنتم فضرب موسى طلبه ورضي بحكمه و «قالَ مَوْعِدُكُمْ» على جهة التعظيم أو لأن الخطاب له ولملأه، والأول أولى بأدب الرسل لأنهم لا يقابلون

[سورة طه (20) : الآيات 61 إلى 70]

إلا بالأحسن ولأن الخبيث يعظم نفسه بكلامه فيقول نحن ولم يقل لموسى أنتم مع أنه أولى منه بالتعظيم من جهة ولأن الخطاب له ولهرون بل قال أنت راجع خطاب سيدنا إبراهيم مع أبيه في الآية 45 فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة الأنبياء مع أقوامهم في الآية 58 فما بعدها من سورة الأعراف المارتين «يَوْمُ الزِّينَةِ» العيد حيث يجتمع فيه القريب والبعيد من الحاضرة والبادية ولقب بالزينة لأن الناس يتزينون فيه عادة كل بحسبه وقدرته «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» 59 أي والوقت الذي يجتمعون فيه من ذلك اليوم ضمان لانه أبعد عن الريبة وأبين للحق حتى لا يقول الناس كان الوقت ليلا فلم نر الغالب أو الوقت حرا فلم نتمكن فيه من الحضور، فرضي فرعون بما ذكره موسى «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ» بعد الموافقة على الموعد والمباراة «فَجَمَعَ كَيْدَهُ» سحرته الذين يريد بهم كيد موسى «ثُمَّ أَتى» 60 بهم ممتّعين بأدواتهم في الموعد والمكان صباحا واجتمع الناس وجاء موسى وأخوه وتداول مع السحرة وباشر بنصحهم «قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ» ما هي هذه العصي والأخشاب والحبال التي جئتم بها لتقابلوا عظمة الله تعالى ارجعوا «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بهذه الأشياء وإنّ شعوذتكم وأخذكم أبصار الناس بدمدمتكم لا تغنيكم شيئا من أمر الله الذي هو معي، وإن لم تنتهوا «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» عظيم لا تقدرون أن تتخلّصوا منه يعدمكم فيه ويهلككم، لأن سحركم بمقابلة آياته بهت وافتراء «وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» 61 على الله الكذب وخسر، فانظروا ما أقول لكم وتداولوه بينكم لئلا يحلّ عليكم عذاب الله إن أصررتم على ذلك، وقد أعذر من أنذر. ولما سمعوا منه ما سمعوا تداولوا بينهم وتذاكروا بشأنه وماهيّته ولم يتفقوا «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» قال بعضهم ما هذا بساحر ولا قوله قول ساحر ولا هو معتمد على السحر، وقال آخر كلا إنه ساحر ومن عادة السحرة التمويه بالكلام وادعاء ما ليس عندهم تهويلا، ثم كثر اللغط بينهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوى» 62 أخفوها بينهم وهي عبارة عن الإقدام لمباراته أو الإحجام عنها، ثم اتفقوا على مناظرته على أنه إذا كان ساحرا غلبناه بكثرتنا، وإن كان

ما معه من السماء فلنا أمر آخر ننظر به، وكلمة أسرّ، من الأضداد، بمعنى أخفى وأظهر ومثلها أودعت بمعنى دفعت الوديعة وقبلتها، وأطلبت بمعنى أحوجته إلى الطلب وأسعفته بما طلب، وأفزعت بمعنى أحللت فيهم الفزع وأخرجتهم إلى الفزع، وأشكيت بمعنى أحوجتهم للشكاية، ونزعت عن الأمر الذي شكوني به وهكذا كثير، وبأثناء المناجاة «قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى» 63 أي شريعتكم الحسنة الفضلى التي لا أمثل منها، تبعا لقول فرعون الآنف الذكر وإظهارا لطاعته في أمرهم به، وإن هنا مخفّفة من الثقيلة وأسمها ضمير الشان، وعلى هذا المصاحف، وقرىء (إن هذين) إلخ بأعمال إنّ و (إِنْ هذانِ) إلخ على أن إن بمعنى نعم كقوله: ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنّه وقرىء إن بمعنى ما النافية، وعليه فتكون اللام في (لساحران) بمعنى إلا، كالتي في الآية 104 من الأعراف المارة، أي ما هذان إلا ساحران، قراءات أربع أرجحها الأولى على قراءة عاصم ورواية حفص وابن كثير والخليل، ثم قال بعضهم لبعض بعد انتهاء النجوى ومراجعة فرعون «فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا» واحدا على قلب واحد ومقصد واحد، لأنه أهيب لكم بأنظار المجتمعين، ولا تتفرقوا بالرأي والإقدام «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» 64 على خصمه فإنه يربح ويفوز بالمرتبة العظمى من الملك ويكسب حمد الناس أجمع، وهذا من جملة ما تشاوروا به، ولما أجمع أمرهم على المقابلة «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» ما لديك أولا لنلقي عليه ما يبطله «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى» 65 ما لدينا ثم تلقي أنت ما تراه مبطلا لعملنا، وقد استعملوا مع موسى الأدب بتفويض الأمر إليه، لأنه حين المداولة شكّوا في كونه ساحرا مثلهم، وظنّوا أن ما عنده من الله فاختاروا تقديمه احتراما له، ولكن الله تعالى ألهمه بأن يتقدّموا بما عندهم أولا ليظهر الله سلطانه بقذف الحق على الباطل ليمحق إفكهم ويزهق باطلهم ويعلي شأن رسوله على الناس، ولو ألقى هو أولا ثم ألقوا بعده لما ظهر للناظرين شيء

له شأن، بل لبقيت عصاه حية كما هي عليه، وبقيت عصيهم وأخشابهم وحبالهم على ما هي عليه أيضا، لأنها لا تؤثر في عصا موسى، ولقال الناس إن كلا من الطرفين أتى بشيء عجيب ولكن لم يغلب أحد الآخر، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه ووفق إليه أحبابه «قالَ بَلْ أَلْقُوا» ما عندكم فألقوه «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ» وإلى الناس أجمع «مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» 66 فرأوا الأرض امتلأت حيات وروابي، وأخذوا أعين الناس بما صاروا يدمدمون، حتى بهت الكل مما رأوا وتطاولت أعناق فرعون وملئه «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» 67 من أن يلتبس على الناس الأمر فيصدقوا بعمل السحرة ويشكوا في أمره، لأن ما جاءوا به من جنس معجزة موسى من جهة العصا وزيادة عليها الأخشاب والحبال التي صارت كالجبال، فأوحى اليه ربه بأمره «قُلْنا لا تَخَفْ» مما تصورته ورآه الناس من عمل السحرة «إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» 68 القائمة بالعلو عليهم، الظافر الغالب حسبما هو مقدر في أزلنا «وَ» لأجل أن يعلم الناس والملك واتباعه غلبك عليهم وصدقك ويؤمنوا أن ما جاء به السحرة شعوذة لا قيمة لها، لأنها زائلة، وان ما جئت به هو من عند الله لا سرية فيه، وليذهب من قلوب الناس ما تصوروه وما القى من الخوف في قلبك خشية ميل الناس إليهم وتصديقهم، ولاظهار إخفاقهم «أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ» عصاك لم يسمها تعظيما لها وليعلمه أنها أعظم مما جاءوا به كله ثم بشره ليزداد طمأنينة بقوله «تَلْقَفْ ما صَنَعُوا» من الإفك الذي سحروا به أعين الناس، فتلتقم الزئبق الذي دسوه فيها حتى أروهم الحبال والعصي حيات، والأخشاب جبالا وتبتلعه، وأكّد له هذا على طريق الحصر بقوله عز قوله «إِنَّما صَنَعُوا» من إراءة الجبال حيات والأخشاب جبالا هو «كَيْدُ ساحِرٍ» حيله ومكره لا حقيقة لها، وكل عمل يقوم به الساحر غير دائم «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» 69 أينما أقبل وحل فتكون عاقبته الخسران والخيبة، فألقاها فكان ما كان كما أخبر الله، فعجب الناس وذهب بهم العجب أقصاه إلى حد لم يخطر ببال، ولم يتصوره أحد، ورأى السحرة ما هالهم أمره،

[سورة طه (20) : الآيات 71 إلى 80]

وتيقنوا أن هذا من قبل الله، وأن موسى ليس بساحر، فلم يسعهم إلا أن وقعوا على الأرض خاضعين لله مخبتين كما أخبر عنهم بقوله عز قوله «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً» على الأرض وبلسان واحد «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» 70 وانقدنا لأمرهما، وأخر موسى رعاية لسجع الآي، على أن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا أي برب موسى وهرون، كما مر في سورة الأعراف في الآية 122 التي ذكرنا فيها هذه القصة إلا انها كررت هنا بأوسع مما هناك. مطلب قوة الإيمان وثمرته: قال جار الله الزمخشري سبحان الله ما أعجب أمرهم. قد القوا حبالهم وعصيهم والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة بالشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! فذهب الغيظ بفرعون أقصاه «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالايمان به ولهذا أقول «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» وأنتم تلاميذه فيه «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس مبالغة في الضرر «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» جزاء عملكم هذا، وفي هنا دالة على الاستعلاء لأن حروف الجر تخلف بعضها كما قدمناه في تفسير الآية 104 من سورة الأعراف المارة «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً» نحن فرعون ملك مصر أم موسى وهرون الذين آمنتم بهما «وَأَبْقى» 71 أدوم هددهم بهذا لأنهم خذلوه خذله الله وعلى أمل أنهم يرجعون عن إيمانهم «قالُوا» بلا خوف ولا جزع «لَنْ نُؤْثِرَكَ» مهما كنت وملكك فلا نفضلك ولا نختارك أبدا «عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ» الواضحات على صدق موسى وأخيه «وَالَّذِي فَطَرَنا» لا نفعل ذلك ولا نرجع عن إيماننا حيث تبين لنا أنك مبطل بدعواك الربوبية وأن إله موسى هو الإله الحق الذي لا رب غيره لهذا الكون وقد اقسموا على أحقية موسى لأنهم رأوا الحق معه وقد حلت بهم الهداية ومن يهد الله فلا مضل له، وجواب

القسم مقدم عليه وهو لن نؤثرك ويجوز العطف على ما جاءنا وعليه يكون المعنى لن نختارك على ما جاءنا ولا نختار عبادتك على عبادة الذي خلقنا والاول اولى قيل انهم لما سجدوا كشف الله عن بصيرتهم قرأوا منازلهم في الجنة لذلك صارحوه بقولهم «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» به من تعذيبنا لنلحق بربنا، فإنك «إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا» 72 الفانية التي لم يبق لنا بها رغبة ولم تعد تخالج قلوبنا رهبة مما فيها من العذاب بعد أن رأينا من إله موسى ما رأينا «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا» السابقة «وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ» أيضا لعله يغفره لنا لأنا عرفنا موسى ليس بساحر حين المناظرة معه قبل المباراة، وذلك أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى قائما، فأراهموه، فرأوا عصاه تحرسه، فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره فهذا ليس بساحر، وأرادوا الامتناع عن مناظرته، فأكرههم عليها، ولقد تناجوا فيما بينهم وتنازعوا ولم يلقوا له بالا ولم يؤثر فيهم تهديده، فقالوا «وَاللَّهُ خَيْرٌ» ثوابا وأعظم عقابا منك «وَ» خيره «أَبْقى» 73 وأدوم من خيرك لأنه باق، وخيرك وشرك زائل، والخير الباقي خير من الفاني، والشر الفاني أهون من الباقي وهذه الجملة بمقابلة «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» قال الحسن رض الله عنه سبحان الله لقوم كفارهم أشد الكافرين كفرا ثبت في قلوبهم الإيمان بطرفة عين، ولم يتعاظم عندهم أن قالوا لفرعون في أبهته «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» في ذات الله، والله ان أحدهم (يريد أهل زمانه) اليوم ليصحب القرآن ستين عاما ثم يبيع دينه بشيء حقير. هذا قوله رضي الله عنه في زمنه قبل الف ومئتى سنة وكسور، فكيف بأهل زماننا هذا الذي عمّت فيه البلايا وكسرت به الرزايا، وقل فيه الحياء، وازداد فيه العناء وكثر فيه الشقاء، فالتّقي يعاب، والشقي يهاب، وصاحب الحق مقصور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، ثم أنظر رعاك الله كيف تنورت بصائرهم إذ قالوا له «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً» بما اكتسبه من أعمال قبيحة في هذه الدنيا «فَإِنَّ لَهُ» في الآخرة جزاء إجرامه «جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها» فيستريح من عذابها «وَلا

يَحْيى» 74 حياة طيبة تركن نفسه إليها، تقدم نظيرتها من الآية 13 من سورة الأعلى المارة «وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً» في الآخرة «قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ» في دنياه علاوة على إيمانه «فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى» 75 ثم بين هذه الدرجات بقوله «جَنَّاتُ عَدْنٍ» خلود دائمة كثيرة «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» أبدا لا تحول لهم عنها وذلك الجزاء الحسن عند الله «جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» 76 في دنياه وتطهر من الشرك والمعاصي. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء. وفي رواية: كما ترون الكوكب الدريّ، وان أبا بكر وعمر منهم وأنعما. يقال فلان أحسن من فلان وأنعم أي أفضل، يعنى أن أبا بكر وعمر منهم وازداد تناهيا الى الغاية فهما أهل لهذا، انتهى ما حكى الله عن هؤلاء السحرة البررة أهل التقوى وأهل المغفرة الذين أصبحوا كفارا وأمسوا أبرارا، قال تعالى «وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى» بعد أن حصل له اليأس من إيمان فرعون لعدم تأثير تلك الآيات العظام فيه وهي المار ذكرها في الآية 129 فما بعدها من سورة الأعراف بعد آيتي العصا واليد المارتين قلبها، ثم بين ذلك الإيحاء بقوله عز قوله «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل واترك فرعون وقومه لأنه مصر على الكفر «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً» لا ماء فيه ولا طين بمجرد ضربك يكون كذلك، ثم سر أنت وإياهم فيه (لا تَخافُ دَرَكاً) من فرعون وقومه إن يلحقوكم «وَلا تَخْشى» 77 غرقا فيه أنت ولا قومك، فامتثل أمر ربه وامر بني إسرائيل فتهيأوا وسار بهم الى جهة البحر (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) حين بلغه أمرهم ولكنه لم يلحقهم حتى دخلوا البحر كلهم، فدخله على أثرهم هو وجنوده فصار بنو إسرائيل يخرجون من الطرف الآخر والقبط يدخلون من طرفه الأول، لذلك بقي منفرجا حتى لم يبق من بني إسرائيل نسمة فيه، ولم يبق أحد من قوم فرعون خارجه، لأن بني إسرائيل لما لحقهم القبط بقوا سائرين في البحر وتعقبهم القبط حتى توسطوه ليتم

[سورة طه (20) : الآيات 81 إلى 90]

مراد الله، فأطبقه عليهم دفعة واحدة، وذلك قوله تعالى، «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» 78 كلمة تهويل لكيفية الفرق الذي أصابهم فعلاهم وغمرهم بأمواجه وزبده الناشئ من شدة تلاطم أمواجه بسبب انهيار المياه بعضها على بعض التي كان الله أوقفها كالجبال الشامخة، حيث شق منها اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق كما سيأتي بيانه في الآية 60 فما بعدها من سورة الشعراء الآتية، لذلك، بقي منفرجا على حاله ولم ينطبق شيئا فشيئا. قال تعالى «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» 79 نفسه ولا قومه الصواب وأكذب الله قوله «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» كما سيأتي في الآية 29 من سورة المؤمن من ج 2، ونجى الله موسى وقومه وصدق له وعده بإهلاك عدوه وإعلاء كلمته، ثم شرع يعدد نعمه على بني إسرائيل فقال «يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» فرعون وقومه الذين استرقوكم وأذلوكم «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» حيث وعد الله موسى أنه يأتيه في ذلك المكان المبارك والبقعة المقدسة لينزل عليه التوراة، وإنما نسب المواعدة إليهم لأن منافعها لهم إذ فيها عزهم وفوزهم وشريعتهم ومعالم دينهم «وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» 80 راجع ماهيتها في الآية 160 من سورة الأعراف المارة، وقلنا لهم حينما طلبوا منا في التيه أكلا وشربا «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من لذاته وحلاله واشربوا من الماء الذي انبعته لكم من الصخرة وتظللوا بالغمام الذي سخرناه لكم من دون كسب ولا تعب، ولذلك سماه الله طيبا إذ لم تتطرق اليه الشبهة «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» فتتجاوزوا الحد الذي سننّاه لكم فتبطروا بسبب هذا الرزق الطيب المبارك فتكفروا بنعمته بعدم الشكر والرضاء أو تتقووا فيه على المعاصي فيزول عنكم «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» عقوبتي لعدم تقديركم فضلي «وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» 81 في النار وهلك هلاكا لا نجاة بعده «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ» كثير المغفرة كما إني شديد العقوبة على الكافر عظيم العفو «لِمَنْ تابَ» من الشرك والمعاصي «وَآمَنَ» بي وبرسولي وكتابي «وَعَمِلَ صالِحاً» بأداء ما فرضته عليه

والشكر بما أنعمت به عليه «ثُمَّ اهْتَدى» 82 بقي مستقيما على الحق شاكرا للنعم حتى الوفاة، ثم ان موسى عليه السلام أمر قومه بالدوام على عبادة الله وأوصى أخاه هرون بمراقبتهم على النحو المبين في الآية 143 من سورة الأعراف المارة واختار جماعة من أشراف قومه ليذهب بهم إلى مناجاة ربه وتلقي التوراة الشريفة حسبما أمره بذلك وتقدمهم على أن يأتوا بعده على أثره، ولما وصل وناجاه ربه بقوله «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» 83 وقد اخترتهم بأمرى، وأمرتك أن تأتي بهم معك لأشرفك بكتابي «قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» مقبلين إليك يا رب «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ» فقد مر عليهم يا «رَبِّ لِتَرْضى» 84 عليّ زيادة على رضاك وكان تقدمه عليهم بسائق شدة شوقه إلى مناجاة ربه، وأمرهم أن يتبعوه دون توان، وهذا هو الميقات الأول الذي ذكره في الآية 143 من سورة الأعراف المارة، ولا ميقات غير هذين، وقال بعض العلماء إن المواقيت أكثر من اثنين وأوصلها بعضهم إلى ستة، ولكن لم أقف على ما يثبت ذلك، لأن المواقيت التي عينها الله لموسى هي عبارة عن ميقات تلقي التوراة وميقات طلب المغفرة عن الذين عبدوا العجل فقط، أما المواقيت التي ناجى بها ربه عفوا فقد تزيد على ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة عند ذكر الآيات التي فيها ذكر الميقات إن شاء الله، وبينما سيدنا موسى ينتظر تشريفه بكلام ربه من أجل التوراة، وقد مضت ايام ولم تأت جماعته الذين اختارهم للحضور معه، إذ باغته ربه بقوله جل قوله «قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» بسبب استعجالك ذلك «وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» 85 موسى بن ظفر وكان منافقا مظهرا للإسلام، وهو من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة الموجود بقاياهم الآن في جبل نابلس، قيل إنهم أربعون بيتا لم يزيدوا ولم ينقصوا حتى الآن حيث صاغ لهم عجلا وزعم أنه آلهتهم وأمرهم بعبادته راجع كيفية صياغته وإضلالهم به في الآية 148 من سورة الأعراف المارة، وإضافة الإضلال إلى السامري من قبيل اضافة الأشياء إلى مسبب في الظاهر، أما في الحقيقة فإن الموجد لها في الأصل هو الله تعالى وحده. ثم أمره الله أن يعود إليهم وينقذهم مما هم فيه،

لأنهم عكفوا على عبادته ولم يصغوا، لقول هرون ونقبائهم، قال تعالى حكاية عن حال موسى عليه السلام بعد أن أنزل عليه التوراة الشريفة وأسمعه ما أسمعه من أمر قومه «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» شديد الغضب على ما فاته من كلام ربه وعلى ما وقع من قومه، وكان حاملا صحف التوراة كما تفيده الآية 151 من سورة الأعراف المارة، ولما وصل «قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» بإنزال الكتاب عليكم، قيل كانت ألف سورة وكل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا إلا أن ظاهر القرآن يخالفه ويفيد أن موسى حملها، بدليل قوله (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) في الآية المارة وقوله (أَخَذَ الْأَلْواحَ) في الآية 152 من الأعراف أيضا. ثم قال موبخا صنيعهم «أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ» بمفارقتي حتى فعلتم ما فعلتم، ألم أترك عندكم من تسترشدون به، أعصيتم أمره، واشتد غضبه حتى ألقى الألواح على الأرض، وزاد في تقريعهم فقال «أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي» 86 الذي أعطيتمونيه بأنكم تبقون على ديني حتى أرجع من ميقات ربي «قالُوا» الذين عبدوا العجل «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا» باختيارنا لأن السامري غلب على أمرنا بكيده ولو أنا ملكنا أمرنا لما خالفناك، وان الذي يفتن لا يملك نفسه «وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً» أثقالا هو الحلي الذي استعرناه «مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» القبط حين خرجنا من مصر فعدها السامري علينا أوزارا وجمعه منا، وأوقد نارا وألقاه فيها، وبقينا ننتظرك حتى تحضر فنرى رأيك فيه، ولم نعلم ما يكنّه لنا ولا ما يؤول إليه أمر الحلي «فَقَذَفْناها» في تلك النار تبعا لأمره «فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ» 87 ما معه في النار أيضا على زعمنا أن ما ألقاه من الحلي، ولم نعلم أنه من تراب وطء فرس جبريل عليه السلام الذي كان احتفظ به قبلا لهذه الغاية «فَأَخْرَجَ لَهُمْ» للقائلين المذكورين «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» صراخ وذلك بعد أن صاغ العجل من الحلي وضع فيه ذلك التراب «فَقالُوا» للسامري وجماعة من بني إسرائيل الذين انقادوا إليه «هذا» العجل الذي ظهر لكم من من حلي القبط «إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى»

[سورة طه (20) : الآيات 91 إلى 100]

الذي ذهب إليه «فَنَسِيَ» 88 غفل موسى عنه هنا، وذهب إلى الطور بطلبه، قال تعالى مبكتا قلة عقولهم «أَفَلا يَرَوْنَ» يا موسى هؤلاء الجهلة العتاة «أَلَّا يَرْجِعُ» أن العجل الذي صاغه لهم السامري لا يرجع «إِلَيْهِمْ قَوْلًا» إذا كلموه، ولا يجيبهم إذا دعوه «وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا» بدفعه عنهم «وَلا نَفْعاً» 89 بجلبه إليهم فكيف يعتقدون إلهيته «وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ» عبادتهم له عند ما أرادوا العكوف عليه حال وجودك في المناجاة «يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» بإضلال السامري لكم بأنه إله فأعرضوا عنه فإنه ليس بشيء بعد «وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ» الذي هو أهل لأن يعبد وخص الرحمن من أسمائه تعالى ليستميلهم عنه ويعلمهم انهم إذا رجعوا يغفر لهم ما فرط منهم (فَاتَّبِعُونِي» على دين الحق دين موسى، واتركوه فإنه ليس بإله ولا يليق أن يكون إلها «وَأَطِيعُوا أَمْرِي» 90 فيما نهيتكم عنه، تأمل أيها القارئ هل ترى أحسن من هذا الوعظ؟ بدا بزجرهم، ثم دعاهم إلى معرفة الله، ثم إلى معرفة النبوة، ثم إلى اتباع الشرع. وانظر كيف قابلوه «قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» 91 فاعتزلهم هرون، والذين لم يشتركوا معهم في العبادة وقد سبب هذا الحادث تخلف الوفد الذي انتقاه موسى بحضور إنزال التوراة، بعد أن أخبر الله موسى بهذا الحادث رجع إلى قومه حاملا التوراة، فسمع صراخهم، فقال هذا صوت الفتنة التي أخبرني بها ربي، ورأى أخاه هرون واقفا مع جماعته بعيدا عنهم، فألقى التوراة وبادر فأخذ شعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله «قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ» من المجيء إليّ واخباري بما فعلوا «إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا» 92 عن الهدى وعبدوا العجل ولم يصغوا لنهيك «أَلَّا تَتَّبِعَنِ» حالا فتعلمني بفعلهم «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي» 93 بوجوب القيام بما يعلمهم؟ وهذا أمر عظيم كان يجب عليك أن تتداركه قبل كل شي ءالَ يَا بْنَ أُمَّ» يستعطفه ويسترحمه ليكف عنه، ولم يقل يا بن أبي لما قاست أمه من الهم والغم والخوف بسببه، فيحمله على العطف عليه فقال تلطف بي تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي» لأني لم آل جهدا بنصحهم وصدهم، فقد أمرتهم

وزجرتهم فلم يقبلوا منيِ نِّي خَشِيتُ» إن تركتهم على ما هم عليه وأتيتكَ نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ» لأنهم صاروا حزبين حزبا معي وحزبا مع السامري وبقيت معهم خوفا من أن تقول لي تركتهمَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» 94 تراعيه وتعمل بوصيّتي فيهم، لأني رأيت من المصلحة بقائي بينهم حتى لا يتقاتلوا من من أجل عبادته، وأن لا يلحق من لم يعبده إلى من عبده. فلما رأى موافقة قوله للواقع وانه لم يقصر في مهمته، تركه، وأقبل على السامري «قالَ فَما خَطْبُكَ» الخطب هو الأمر العظيم الذي يكثر التخاطب فيه وهو مقلوب الخبط ففيه اشارة لعظم خبط السامري في الأمر، أي ما حملك على ما فعلت «يا سامِرِيُّ» 95 أصدقني «قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» علمت شيئا لم يعلمه بنو إسرائيل «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ» فرس «الرَّسُولِ» جبريل لأني رأيت المحل الذي يدوسه يخضر حالا، فعلت أن لذلك شأنا، وهذا هو الذي أشار اليه عن بني إسرائيل في قوله ما لم يبصروا به أي لم يفقهوه ولم يلقوا له بالا «فَنَبَذْتُها» أي تلك القبضة في جوف العجل الذي صنعته من حليّ القبط التي كانت مع بني إسرائيل جمعتها وألقيتها في حفرة لحضورك، كي ترى رأيك فيها ثم عنّ لي أن أصوغها عجلا، ففعلت ثم طرحت فيها ذلك التراب فدبت فيها الحياة وصرخ فقلت لهم هذا هو إله موسى الذي ذهب اليه فعكفوا عليه وصاروا يسجدون له كلما صاح، وكان ما كان على النحو الذي تقدّم في القصة في تفسير الآية 48 من الأعراف «وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» 96 وزينته ولم يسبقني على ذلك أحد بل من اختراعي هذا ما أخبر به عدو الله السامري من صياغة العجل فمن أين جاز اليهود تحريفه ونسبته الى هرون، وحاشاه، كما جاء في الإصحاح 22 من التوراة في فصل الخروج، لأن الله أخبرنا بأن هرون براء من ذلك، وان السامري معترف به، والله أصدق القائلين. وهذا من جملة التحريف الذي أوقعه اليهود وأخبرنا الله عنه في القرآن «قالَ» موسى بعد أن سمع قوله «فَاذْهَبْ» من بيننا «فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ» ما عشت «أَنْ تَقُولَ» لمن يريد أن يقربك

مطلب من اين عرف جبريل السامري:

ولم يعرفك «لا مِساسَ» لا تمسني، وذلك أن موسى عليه السلام حرم على الناس ملاقاته، ومكالمته، ومبايعته، ومخالطته ومقاربته، فصار يهيم بالبرية مثل الهوام ورماه الله بداء عضال عقام، فكان إذا لمسه أحد أو لمس أحدا صمّا جميعا، ولذلك نهى عن مقاربته ولمسه وهذه عقوبته في الدنيا وهي عقوبة وحشة جدا لا أعظم منها، لأن الناس تحاموا عنه بالكلية وتقذروه قال «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ» في الآخرة فستوافيه حتما وتذوق العذاب الأكبر على فعلتك هذه «وَانْظُرْ» أيها الخبيث المضل «إِلى إِلهِكَ» الذي صنعته «الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً» أنت ومن تبعك وداومتم على عبادته، وأصل ظلت بلامين حذفت الثانية تخفيفا وقرأت بكسر الظاء بنقل حركة ما بعدها إليها أي أقسمت على عبادته «لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ» نذريه أمامك وأمامهم «فِي الْيَمِّ نَسْفاً» 97 لتعلموا أنه ليس بشيء ويظهر لكم ضلالكم فيه ثم شرع يوضح لهم الدين الحق فقال «إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ» وحده الذي يجيب دعاءكم، ويدفع ضركم، ويجلب لكم الخير «الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» خالق الكون وما فيه، ومالك أمر الخلق ، المحي المميت المستحق العبادة والتعظيم، لا معبود سواه، ولا رب الا إياه، الذي أنجاكم من الغرق وأغرق أعدائكم بآن واحد، الذي «وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» 98 أي وسع علمه كل شيء، لأن علما تمييز محول عن الفاعل والى هنا ما يتعلق بالميقات الاول. مطلب من اين عرف جبريل السامري: وهنا فائدة وهي أن لك أن تقول من أين عرف السامري جبريل حتى وقع منه ما وقع؟ فأذكر لك ما قاله السيد إسماعيل حقي في تفسيره الكبير روح البيان وهو أن أم السامري حملته سنة قتل الأولاد من قبل فرعون كسيدنا موسى عليه السلام، ولما وضعته خافت عليه الذبح فوضعته في غار وأطبقت عليه، وتركته فيه، فأمر الله جبريل عليه السلام أن يغذيه بأصابعه لبنا وعسلا وسمنا حتى نشأ

[سورة طه (20) : الآيات 101 إلى 110]

وصار من قوم موسى، واسمه موسى بن ظفر السامري وصار يظهر الإيمان بموسى ويبطن الكفر به حسدا له، ويرى جبريل حينما يأتي اليه لأنه يعرفه حق المعرفة لتوليه تربيته، فانظر رعاك الله الى هذا الذي رباه جبريل أقرب المقربين الى الله من الملائكة، والى موسى الذي رباه فرعون اكفر الكافرين بالله، تقنع قناعة تامة أن لا حول للعبد عما قدره الله له أزلا، وقيل في هذين: إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيّرت ... عقول مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل والحكمة من تربيته إظهار ما وقع منه مما هو مقدر في الأزل الذي هو غيب عما سوى عالم الغيب، ليعلم الناس أن لا مضل لمن هداه الله، ولا هادي لمن أضلّه، وان ما يختص به بعض البشر من الأمور الدنيوية لا قيمة لها ولا تأثير لها في محو ما هو مكتوب، ولا إثبات ما هو ممحو، جفت الأقلام ورفعت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة- راجع تفسير أول سورة نون المارة- قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما قصصنا عليك عجبا من أمر موسى وقومه والسامري مع قومه في غيابه «نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا أكرم الرسل «مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ» من أحوال الأمم الخالية وأنبيائهم والحوادث التي جرت بينهم «وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» 99 كتابا فيه ذكر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فهو جدير أن تتذكر به وتذكر به قومك، وحقيق بأن يتفكر في معانيه من يتفكر، ويعتبر فيها من يعتبر. واعلم يا حبيبي أن «مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ» ولم يتعظ بما فيه فيأتمر بما أمر وينتهي عما نهى «فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً» 100 عظيما وإثما كبيرا «خالِدِينَ فِيهِ» الذين أعرضوا عما فيه دائمين في عذابه «وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» 101 ما حملوا به أنفسهم وأثقلوا به ظهورهم من جزاء الإعراض عن هذا القرآن حتى استحقوا الخلود بالنار عقوبة لهم ذلك العذاب العظيم والتوبيخ الأليم يكون لهؤلاء المعرضين عن ذكر الله «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» النفخة الثانية بدليل قوله تعالى «وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ» أمثال هؤلاء «يَوْمَئِذٍ

زُرْقاً 102 عيونهم وأبدانهم من هول وخوف ما يلاقونه من الشدائد، لأن النفخة الأولى تكون للموت لا للحشر، فلا وجه لقول من قال إن المراد بها الأولى، وكلمة زرقا لم تكرر في القرآن «يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ» يتشاورون سرا عن مدة مكثهم في الدنيا، فيقول بعضهم لبعض «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً» 103 من الليالي في برزخكم ما لبثتم غيرها، استقصروا مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ أي القبر بعد الموت إلى البعث بالنسبة لما عاينوه من هول البعث، قال تعالى «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» في مشاورتهم عن مدة لبثهم وما يسرونه وما هو أخفى منه ومن غيره من جميع أحوالهم، راجع الآية 7 المارة من هذه السورة «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً» أحسنهم قولا وأوفاهم عقلا، وأوفرهم حسّا، وأكبرهم رأيا، وأكثرهم إدراكا «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» 104 ما لبثتم غيره، قصر في عينه ما مضى في جنب ونسبة ما استقبل، لأن ما دهمهم من الأهوال أنساهم مدة لبثهم فيها وإن ذلك ما بين النفختين إذ يرفع العذاب عنهم، قال ابن عباس سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجبال كيف يكون حالها في الآخرة، فأنزل الله «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» بعد هذه النفخة العظيمة التي تميت الخلق أجمع قبلها عدا ما استثنى الله ويراد بها النفخة الأولى، «فَقُلْ» يا حبيبي لهذا السائل «يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» 105 يقلعها ويذريها بالهواء «فَيَذَرُها» يجعل أمكنتها «قاعاً صَفْصَفاً» 106 مستوية ملساء لا نبات فيها ولا غيره «لا تَرى فِيها عِوَجاً» انخفاضا وأودية وحفرا ومغاور «وَلا أَمْتاً» 107 ارتفاعا ولا صخورا ولا روابي، والعوج بكسر العين هو ما لا يرى بالبصر بل بالبصيرة، لأنه عبارة عما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المسافة الهندسية المدركة بالعقل، فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك، وبالفتح هو ما يدرك بالبصر كعوج الجدار والعود، وقيل لا فرق بينهما ويطلق كل منهما على الآخر حسيا كان أو معنويا. والأمت هو التنور والشقوق في الأرض ومطلق الميل، وله معان كثيرة غير هذه في اللغة، وأطلقه بعضهم على الرابية وأسنده لابن عباس رضي الله عنهما «يَوْمَئِذٍ» يوم يكون النفخ والخسف

[سورة طه (20) : الآيات 111 إلى 120]

يخرج الناس من أجداثهم مهرولين «يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ» الملك الذي يدعو الناس الى موقف الحشر فيسلكون وراءه طريقا «لا عِوَجَ لَهُ» فلا يزيغون عنه قيد شعرة يمينا ولا شمالا ولا يلوون على شيء أبدا تراهم كلهم سراعا مستوين «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ» هناك وذلت الأنفس وخضعت الجوارح «لِلرَّحْمنِ» الذي وسعت رحمته من في السموات والأرض «فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» 108 أصواتا دقيقة رقيقة في غاية الخفاء، وتراهم من شدة الفزع وهيبة الموقف قد سكنت أصواتهم وضعفت قوتهم «يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم المهيب يلتمسون من يلوذون به ليشفع لهم ولكن «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ» لأحد ما، من أحد ما «إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» 109 بذلك فهذا الصنف الجليل يشفع بإذن الله لمن يأذن له بشفاعته فالذي يأذن هو الله الذي «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» ما تقدم من أعمالهم الشافعين والمشفوع لهم وما تأخر وما استهلكوه في حياتهم وما خلفوه لاولادهم فانه جل وعلا يحاسبهم على ذلك كله لأنه محيط بهم كمحاسبة رجل واحد مثل طرف العين وهو عالم بما وقع منهم على الانفراد «وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» 110 أي لا يحيط علم الشافعين والمشفوع لهم بمعلومات الله الشاملة كما في الآية 98 المارة «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ» خضعت وذلت الخلق أجمع، وهذا من إطلاق الجزء وارادة الكل، ويسمى الأسير عانيا لذلته، ومعنى القيوم القائم على كل نفس بما كسبت في دنياها لأنه حيّ حياة أبدية لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه وهم سائرون تحت مراقبته في هذه الدنيا، ويوم القيامة يختص بالملك والقهر فتظهر إذ ذاك على الوجوه علائم السرور وإمارات الشرور «وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» 111 في ذلك اليوم الذي يقول الله فيه على ملأ الأشهاد لمن الملك اليوم؟ فيسكت جميع الخلق ويحجبون حتى من التنفس فلا يستطيع أحد أن يحرك شفتيه، ثم يقول ملك الملوك عزّت قدرته وتعالت عظمته: لله الواحد القهار الآية 16 من سورة المؤمن في ج 2 ويقول جل قوله «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» بالله

وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في دار دنياه «فَلا يَخافُ ظُلْماً» من أحد ولا نقصا من ثوابه على عمله الصالح ولا زيادة في عقابه على عمله السيء «وَلا هَضْماً» 112 لشيء مما يستحقه من الخير أو الحسن، بل يأخذه وافيا مضاعفا «وَكَذلِكَ» عطف على كذلك نقصّ أي كما أنزلنا على الرسل قبلك كتبا مقدسة «أَنْزَلْناهُ» هذا القرآن عليك وجعلناه «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك ليفهموه ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق البشر منزلا من ربهم «وَصَرَّفْنا» كررنا «فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ» بالأمور المخوفة كما كررنا فيه من الوعد بالأشياء المفرحة «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» الشرك ويجتنبون المحارم «أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» 113 يجدوا لهم ما يوقظهم من غفلتهم ويزيد في اعتبارهم عند سماع أسباب إهلاك من قبلهم اعتبارا يؤدي الى التقوى ويرغب في الطاعة والاقتصار على التمسك بما أحل لهم والسلوك الى توحيد الله «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» عما يقول الجاحدون علوا كبيرا، ثم التفت إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إذ علم وهو عالم من قبل أنه يبادر جبريل عليه السلام حين يلقي اليه الوحي فيقرأه معه قبل أن يفرع من قراءته عليه لشدة حرصه على حفظه، وقال «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ» حين انزاله عليك فتقرأه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» من قبل أميننا جبريل بل اصطبر حتى يفرغ من تلاوته عليك، ثم أقرأ أنت «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» 114 به وفهما بمعانيه وحفظا بمبانيه، وذلك أن الله تعالى تكفل له بحفظه راجع الآية 67 من سورة القيامة المارة والآية 10 من سورة الحجر من ج 2 وإنما فعل حضرة الرسول هذا مع علمه بتكفيل الله تعالى له بحفظه وقراءته زيادة في حرصه عليه خشية النسيان عند الحاجة لبعض الآيات، ولهذه المناسبة ذكره الله تعالى ما وقع لآدم عليه السلام بقوله «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ» عهدنا لقومك في عالم الذّر الذي نقضوه ولم يحافظوا عليه بأن لا يأكل من الشجرة التي عيّناها له فأكل منها إنه نسى العهد الذي أخذناه وغفل عنه بتقديرنا عليه من الأزل، وأما

أنت يا حبيبي فلا تخش النسيان لما نوحيه إليك لأنك محفوظ منه في هذا الشأن كما هو ثابت لك في الأزل، وفي هذه الآية إشارة إلى قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ» الآية 113 المارة، أي أنا كررنا الوعيد لهؤلاء الجاحدين ذلك العهد لعلهم يرجعون اليه، فلم يفعلوا ولم يلتفوا اليه ونسوه. هذا وما قيل إن في هذا غضاضة في مقام آدم عليه السلام إذ جعلت قصته مثلا للجاحدين، قيل لا مبرر له، إذ لا يشترط أن يكون المشبه كالمشبه به من كل وجه، ألا ترى أن الأصحاب لما قالوا لحضرة الرسول كيف نصلي عليك يا رسول الله قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل إبراهيم إلخ ... ، فهل يتصور أن إبراهيم أفضل من محمد وأن آل إبراهيم أفضل من آل محمد؟ كلا، لهذا فلا معنى لهذا القيل وقائله، والتفسير على هذا الوجه هو الموافق لنفس الأمر لمناسبة السياق والسباق والله أعلم «فَنَسِيَ» آدم ذلك العهد وأكل من الشجرة، وقيل في المعنى. يا أكثر الناس إحسانا الى الناس ... يا أحسن الخلق إعراضا عن الناس نسيت وعدك والنسيان مغتفر ... فاغفر فأول ناس أول الناس هذا وأن النسيان لا يوأخذ عليه بشريعتنا قال صلى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي ثلاث الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ولعله هو من خصائص هذه الأمّة بدليل قوله رفع بما يدل على أن الأمم قبل محمد صلى الله عليه وسلم يؤاخذون على ذلك كله، وأن هذه الآية خصت بالعفو عنها، إذ ما عموم إلّا وخصص، وقد خص الأنبياء بالمؤاخذة على أشياء لم تؤاخذ بها أممهم، ورحم الله القائل حسنات الأبرار سيئات المقربين «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» 115 ثباتا وحزما على ما عهدنا به اليه، ولو صبر عما نهى عنه لكان من أولي العزم ولكن لم يرد الله منه ذلك، بل أراد ما وقع كما وقع «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى» 116 عن السجود راجع قصّته في الآية 11 من الأعراف المارة (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حسدا منه على ما أنعمنا به عليك فتحذر منه «فَلا يُخْرِجَنَّكُما

[سورة طه (20) : الآيات 121 إلى 130]

مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» 117 أنت وزوجك وذريتك إذ يكون عيشك من كد يمينك وعرق جبينك، فتزرع وتحصد وتطحن وتعجن وتخبز بعد أن كنت في غنى عن هذه الأتعاب، ومن ضمن شقائك شقاء ذريتك من بعدك وزوجتك معك، لأن شقاء الرجل شقاء لأهله وسعادته سعادتهم، أسند جل شأنه الخروج الى اللعين بسبب وسوسته لهما وقبولهما منه وإلا ففي الحقيقة هو الفاعل وحده، وانما يؤاخذ الفاعل على ما نهي عنه بقصده ورغبته وبما أوتي من عقله بلزوم اجتناب القبيح وعمل المليح، كما بيّنه في الآية 122 الآتية، ثم بين فوائد بقائه في الجنة بقوله عز قوله «إِنَّ لَكَ» يا آدم مادمت في الجنة «أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى» 118 بل تأكل ما تشتهي وتلبس ما تريد بلا تعب ولا مشقة «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» 119 بل تشرب أنواع الأشربة اللذيذة وتستظل بظل دائم لا ترى وهج الشمس ولا حرها، يقال ضحى الرجل إذا برز في الضحى فأصابته الشمس، قال عمرو بن ربيعة في هذا: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر يخصر أي يبرد، فهذه الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان مؤمنة لكما، فلماذا أخرجتما أنفسكما الى مباشرتها بالتعب والمشقة بسبب عدم صبركما عما نهيتما عنه! «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ» ثم بين صفة هذه الوسوسة بقوله «قالَ» إبليس يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ» التي من يأكل منها لا يموت بل يخلد في الجنة «وَمُلْكٍ لا يَبْلى» 120 ولا يفنى زيادة على التخليد فيها أبدا فراق لهما ذلك وقالا بلى فما هو؟ قال تأكلان من هذه الشجرة ولم يزل يحسّن لهما أكلها حتى أغراهما وغرهما «فَأَكَلا مِنْها» مع كون علمهما بعداوة إبليس لهما بإخبار الله تعالى لهما نسيانا وغرورا من إبليس الذي القي الوسوسة لهما وأقسم بأنه ناصح لهما ولم يريدا بعملهما ذلك مخالفة أمر الله حقيقة، لأن الحقيقة هي طبق مراد الله أزلا ومن تأمل هذا عرف أن لا دافع لقضاء الله. فعجل الله عقوبتهما على هذه المخالفة الظاهرة لما أمرهما الله به «فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» حال أكلهما بدليل العطف بالفاء

فأزيل عنهما لباسهما الساتر لهما فظهرت عورتهما فاستوحشا منظرهما «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» بقصد سترهما إذ استبشعا ما رأياه من عورتهما، ولم يكن لهما ما يسترانها إلا أوراق الجنة. مطلب معصية آدم والحكم الشرعي فيها ومعنى القضاء والقدر. «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ» على هذه الصورة «فَغَوى» 121 ضل عن طريق الحق وأخطأ الصواب بمخالفته هذه فخسر الجنة والخلد فيها في الدنيا، أمّا الآخرة فمضمونة له، وكذلك خسر الملك الذي غرّرهما به إبليس مدة حياتهما وصار حالهما من الراحة الى التعب، ومن الصفاء الى الكدر ومن الرفاه الى الهم، ومن الفراغ الى الشغل، ومن الأمن الى الخوف، ومن الصحة الى المرض، واعتراهما ما يعتري أهل الدنيا وفارقهما ما يعترى أهل الجنة. الحكم الشرعي: قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال عاص لمن اعتاد المعصية لا لمن لم يعتدها، كالرجل يخيط ثوبه فيقال خاط ثوبه ولا يقال له خياط. وقد أجمع العلماء على أن ما وقع من آدم قبل النبوة بدليل قوله تعالى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ) تجاوز عما وقع منه «وَهَدى» وفقه للهداية بأن علمه كلمات كما يأتي ذكرها في الآية 27 من البقرة في ج 3 وهي من حيث المعنى مثل هذه الآية، إلا أن العطف جاء هنا يثم الدالة على التراخي، أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك، وهناك بالفاء الدالة على الفور أي أنه تاب عليه حالا، وعلى كل فالتوبة بعد وقوع المخالفة والنبوة بعدها، وما جاء على غير هذا لا قيمة له ولا عبرة به روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج آدم وموسى «أي جادل وخاصم يقال حاججته جادلته فغلبته» فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة! فقال آدم أنت اصطفاك الله بكلامه وخطّ لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما، فحج آدم موسى. وفي رواية لمسلم: قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى بأربعين سنة، قال وهل وجدته

مطلب في عصمة الأنبياء ووقتها فيهم:

فيها وعصى آدم ربه؟ قال له نعم، قال فهل تلومني على أني عملت عملا كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله فحج آدم موسى عليهما السلام. قال أبو سليمان الخطابي: يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر من الله على معنى الأجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره، ويتوهم بعضهم أنه حجّ آدم موسى من هذه الوجهة، وليس كذلك، وانما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم وصدورها على تقدير منه وخلقه لها خيرها وشرها. والقدر أسم لما صدر مقدارا عن فعل القادر، والقضاء في هذا معناه الخلق، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم لهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وممارستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم ارادة واختيار، لأن الزاني لا يزني إلا وهو راغب للزنا مختار فيه، والشارب لا يشرب إلا وهو راغب فيه، وهكذا، فكيف يكون ذلك جبرا. أخزى الله المعاندين إذا فالحجة انما تلزمهم من هذا الوجه والملامة تلحقهم عليها منه، وجماع القول في هذا أن القضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمثابة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء، وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعلّة ذلك، وإنما كان تناوله الثمر من الشجرة سببا لنزوله الى الأرض التي خلق إليها، وأنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى وأوقع لائمة موسى على نفسه، ولذلك قال أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما ومن هنا حصل الاختلاف في عصمة الأنبياء. مطلب في عصمة الأنبياء ووقتها فيهم: واعلم أن خبط القول فيها على ما قاله الإمام فخر الدين الرازي يرجع الى أربعة أقسام: الأول ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز في حقهم البتة. الثاني ما يقع بالتبليغ فكذلك ممتنع في حقهم

حتى الخطأ والنسيان فضلا عن التعمد على الصحيح، لأن الآية أجمعت على عصمتهم من الكذب ومواظبتهم على التبليغ والتحريض، والا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ولا خطأ ولا نسيانا، ومن الناس من جوز سهوا لأن الاحتراز منه غير ممكن وليس بشيء ولا عبرة ولا قيمة له. الثالث ما يقع بالفتيا فقد أجمعوا أيضا على أنه لا يجوز قطعا خطاهم فيها ونسيانهم وسهوهم سواء، فعدم جواز العمد من باب اولى، وما أجازه بعضهم على طريق السهو لا صحة له، لأن الفتيا من قسم التبليغ بالنسبة إليهم، إذ لا فرق في وجوب اتباعهم في أفعالهم وأقوالهم. الرابع ما يقع من أفعالهم. قال الإمام الفخر والمختار عندنا أهل السنة والجماعة أنه لم يصدر منهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين تنبأهم، لأن الذنب لو صدر عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة، إذ قد يجوز حفظ البعض منها من اقتراف الذنب واسناد هذا إليهم غير جائز، لأن درجتهم غاية في الرفعة والشرف، ولو جاز صدوره منهم لأدى الى عدم قبول شهادتهم، ولوجب الافتداء بهم فيما صدر منهم وهو محال، فيكونون وحاشاهم أقل حالا من عدول الأمة، وهذا أيضا غير جائز، لأن معنى النبوة والرسالة أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم مثلا، وهو يوم القيامة شاهد على الكل، راجع الآية 40 من سورة النساء في ج 3 والآية 89 من سورة النحل في ج 2 تجد ما يتعلق في هذا البحث مفصلا، وهذا ما عليه اجماع أهل السنة والجماعة، أما ما قاله بعض المعتزلة بجواز صدور الكبائر منهم، وما قاله بعضهم بمنع الكبائر وجواز صدور الصغائر منهم فقط على جهة العمد فلا عبرة به إذ لا مستند لهم به من الكتاب والسنة، فضلا عن أنه مخالف لهما فضلا عن عدم اتفاقهم عليه، لأن منهم الجبائي قال بعدم جواز صدور الكبيرة والصغيرة منهم موافقا لقول أهل السنة والجماعة، الا أنه زاد إلا على جهة التأويل كما وقع لآدم عليه السلام من أكل الشجرة على أنها غير المنهي عنها إما لمظنّة الخلد وإما لملك، ومنهم من جوز وقوعها سهوا وخطأ لا فرق عنده بين الكبيرة والصغيرة، ومنهم

من منع وقوع الكل سهوا وخطأ وتأويلا، وهو قال الشيعة، فاذا علمت هذا فاعلم أنه قد ثبت ببديهة العقل ان لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وأعلى مقامه وائتمنه على وحيه، وجعله خليفة في عباده وبلاده، يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله، فلو لم يطيعوه هم لدخلوا تحت قوله تعالى «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» الآية 44 من سورة البقرة، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» الآية 88 من سورة هود في ج 2، وقال تعالى «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الآية 90 من سورة الأنبياء في ج 2 واللفظ للعموم فيتناول الكل ويدل على ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت لك من هذا ومما سيأتي في تفسير الآيات الآنفة الذكر أن الأنبياء كلهم فاعلون لكل خير تاركون كل شر، وهذا ينافي صدور الذنب منهم، كيف وقد قال تعالى (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) الآية 55 من سورة الحج في ج 3، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) الآية 33 من آل عمران ج 3 وقال في حق موسى (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) الآية 143 من الأعراف المارة وقال تعالى «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) الآيات 46 فما بعدها من سورة ص المارة) وهذه الأدلة القاطعة تدل على وصفهم بالاصطفاء والأخيرية صراحة وذلك كله ينافي اقتراف الذنب مهما كان بعد النبوة لا عمدا ولا سهوا ولا نسيانا ولا خطأ قال في بدء الأمالي: وان الأنبياء لفي أمان ... عن العصيان عمدا وانعزال وأن من خالف هذا الإجماع وتمسك بظاهر بعض الآيات كالآية المفسرة وقال بصدور الذنب منهم على طريق التأويل أو غيره فإن كلامه إنما يتم إذا أثبت بالدلائل أن ما وقع من آدم عليه السلام كان حال النبوة أو بعدها، وذلك

محال قطعا لا دليل فيه ولا حجة له البته حتى لا يوجد نقل صحيح يستند إلى دليل والقاعدة إذا كنت ناقلا فصحة النقل، وإلا فكلامك مردود عليك. وإذا كان كذلك وهو كذلك فلم لا تقول إن ما وقع من آدم كان قبل النبوة، وأن الله تعالى قبل توبته وشرّفه بالنبوة والرسالة، فتطمئن وتنفي الشك من النفوس الخبيثة وتروضها على الطهارة والفضيلة وتنزه الأنبياء العظام عما لا يليق بمكانتهم، فتحصل رضاء الله تعالى، لأن رضاء الأنبياء في رضائه، ولا توقع نفسك بسبب الوهم والشك بالهلاك بسبب ما تصمهم به مما ليس فيهم، فتستوجب سخط الله باختيارك ورضاك؟ قال القاضي عياض قد أخبر الله بعذره فقال «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» أي نسي عداوة إبليس له فقبل نصحه ونسي ما عهد اليه بشأنها وشأن الشجرة ولم ينو المخالفة ولم يستعملها، ولكنه اغتر بحلف إبليس وظن أن أحدا لا يحلف بالله كذبا وتأول أن المأكول منها غير المنهي عنها وإذا قلت حينئذ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم، فلو لم يكن لهم ذنوب فكيف يتوبون ويستغفرون، فأقول بما أن درجة الأنبياء في الرفعة والعلوّ والمعرفة بالله وسنة عباده وعظيم سلطانه وقوة بطشه مما يحملهم على شدة الخوف منه جل جلاله أو الإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وأن تصرفهم بأمورهم ما لم ينهوا عنه ولم يؤمروا به وقد أتوه على وجه التأويل والسهو، وقد تزودوا من الدنيا وأمورها المباحة، فأوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها، فهم خائفون وجلون على أنها تسمى ذنوبا بالإضافة الى سمو منصبهم وعلو مكانتهم، ومعاص بالنسبة لكمال طاعتهم وتمام انقيادهم الى ربهم، لأنها ذنوب كذنوب غيرهم التي يأتونها رغبة بلا تأويل، وحاشاهم من ذلك، وحاشاهم مما هنا لك. هذا، وقد اختلف في وقت العصمة: قالت الشيعة انهم معصومون من وقت الولادة، وقالت المعتزلة من وقت البلوغ، وقال أهل السنة والجماعة من وقت النبوة، وقال بهذا القول الهزيل واليافعي من المعتزلة، وهذا هو قول الحق الوسط وخير الأمور

أوساطها «قالَ» لآدم وزوجته حواء بعد أن انتهى أمد مكثهما في الجنة وحان أمر إقامتهما في الدنيا على أثر ما وقع منهما «اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً» انحدروا الى الأرض لأن الهبوط معناه الانحدار من العلو الى السفل على طريق القهر كهبوط الحجر، وإذا استعمل في الإنسان فعلى طريق الاستخفاف به «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» بالتحاسد في الدنيا والاختلاف بالدين وفي أمر المعاش وإنما جمع ضمير بعضكم مع أن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن العداوة نشأت في ذريتهما لا فيهما، وما قيل أن الخطاب لهما ولإبليس ينافيه قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» من كتاب ورسول وهذا الهدى الى ذريتهما لأن إبليس مقطوع بعدم هدايته وعدم إتيان الهدى اليه بكتاب او رسول، لأن الله تعالى حذر رسله منه وأمرهم أن يحذروا أممهم منه «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ» من كافة خلقي «فَلا يَضِلُّ» في دنياه «وَلا يَشْقى» 123 بآخرته وإبليس محروم ومقطوع له بالشقاء بالدنيا ومجزوم بعذابه في الآخرة، قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولهذا البحث صلة في الآية 34 فما بعدها من سورة البقرة في ج 3، قال تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي» أي الكتاب المعبر عنه بالهدى الذي فيه ذكره، وأعرض عن الرسول المذكر به «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً» في هذه الدنيا «ضَنْكاً» ضيّقة وضنك وصف يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال ابن عباس كل ما أعطي لعبد في هذه الدنيا قل أو كثر ولم يتق فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة في الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا لأنهم يرون أن الله ليس بمخلف عليهم ما ينفقونه، وينسون ما أنعمه عليهم ابتداء وقد ولدتهم أمهاتهم مجرّدين فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله. وقال ابن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياتهم طيبة، ومع الاعراض الحرص والشح فعيشته ضنك، وحالته مظلمة، كما قال بعض الصوفية لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه ولهذا قال تعالى «وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ

الْقِيامَةِ أَعْمى» 124 فاقد البصر لأنه يحشر على وجهه فلا يرى ببصره ما يراه غيره، لأنه منكوس، وإلا فإن الله تعالى يعيد للأعمى بصره يوم القيامة، وكذلك مقطوع اليد والرجل وغيرها من القلعة بحيث يحشر كاملا كما ولد، ونظير هذه الآية الآية 32 من سورة الفرقان المارة والآية 97 من سورة الإسراء الآتية، قال بعض المفسرين فاقد الحجة جاهل بوجود الحق كما كان في الدنيا إذ يطلق على الجاهل في الأمر أعمى لأنه لا يعرف المخلص مما يقع فيه، كما أن الأعمى لا يعرف الطريق الى مبتغاه، قال عليه الصلاة والسلام من لا يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة، الا أن سياق الآية يؤيد التفسير الأول لموافقته لظاهرها وعليه المعول إذ لا يعدل عن الظاهر إلا عند إمكان التفسير به «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى» اليوم في الآخرة «وَقَدْ كُنْتُ» في الدنيا «بَصِيراً» «قالَ كَذلِكَ» مثل ما فعلت بنا في الدنيا فعلنا بك في الآخرة حيث «أَتَتْكَ آياتُنا» فيها «فَنَسِيتَها» ولم تعمل بها ولم تتبع من أتاك بها «وَكَذلِكَ» مثل نسيانك هذا لآياتنا في الدنيا «الْيَوْمَ تُنْسى» 126 في الآخرة من خيرنا، ولهذا حرمناك الآن نعمة النظر فيها جزاء وفاقا، فتركك الآن على عماك الذي كنت عليه في الدنيا لأنك لم تستعمل نعمة النظر فيها بآياتنا ومكوناتنا، فتعتبر وتؤمن بل حرفتها لغير ذلك «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الواقع بالمقابلة «نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ» في دنياه ولم يستعمل جوارحه فيما خلقت لها بل صرفها الى المعاصي ولم ينتفع بالنعم التي خلقت لها «وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ» أما من آمن بها واستعمل جوارحه وحواسّه فيما خلقت لها، فأولئك لم ننسهم من الرحمة ولم نحرمهم من الخير، بل نرفعهم الى الدرجات العلى مثل السحرة المار ذكرهم في الآية «70» من الأعراف والآية 73 من هذه السورة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى» 127 من عذاب الدنيا وأعظم مهما رأيتموه شديدا، وأدوم لأن عذاب الدنيا له نهاية ولا نهاية لعذاب الآخرة فضلا عن فظاعته التي لا تكيف، فان قلت قد ورد وان الله تعالى يري الكافر مقعده في الجنة ثم يدخله النار ليزداد عذابا على عذابه وحسرة على حسرته، فمن يحشر أعمى لا يرى ذلك فيكون بحقه

أقل عذابا وحسرة، قلت لأن الله تعالى يرد عليه بصره حتى يريه مقعده ذلك، ثم يسلبه منه، وكذلك الأصم والأبكم، قال تعالى «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» أي لا أسمع ولا أبصر منهم يوم يأتونه، راجع الآية 38 من سورة مريم المارة والآية 3، من سورة الكهف في ج 2، وقال ابن عباس إن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى، فيكون الإخبار بأنه كان بصيرا إخبارا مما كان عليه أول حشره، لانه لو لم يردّ عليه بصره كيف يقرأ كتابه؟ كما يأتي في الآية 14 من الإسراء الآتية، ولا يخفى أن ذلك اليوم يوم طويل تختلف فيه أحوال الكفار فمرة يجادلون وأخرى يشكون، وطورا يعمون، وتارة يبصرون أجارنا الله من ذلك، قال تعالى ملتفتا الى كفار مكة «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي ألم يبين لهم هذا القرآن «كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الماضية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» إذا سافروا للشام إذ يمرون بالحجر ديار ثمود وقريات قوم لوط ولا يتفكرون فيما كان عليهم أهلها، وكيف صار تدميرهم، وسببه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» واضحات موجبة للاعتبار «لِأُولِي النُّهى» 128 العقول السليمة يتعظون بها حيث كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة، فلما عصوا رسلهم أهلكهم الله «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي الوعد بتأخير العذاب ليؤمن من يؤمن منهم ويصر من يصر على كفره وفق ما هو مقدر في الأزل بالتقدير المبرم الذي لا يبدل ولا يقدم ولا يؤخر «لَكانَ لِزاماً» حتما نزوله بهم حالا لا ينفك عنهم أبدا، وكلمة لزام لم تكرر في القرآن إلا هنا وآخر سورة الفرقان، وهي بمعنى لازم وصف به للمبالغة، وهكذا يؤتى بالمصادر بدل اسم الفاعل بقصد المبالغة «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» 129 بالرفع عطف على كلمة في (ولولا كلمة) أي لولا كلمة سبقت بتأخير عقوبتهم وضرب أجل لوقوعها اما بانقضاء أعمارهم أو بحلول يوم القيامة لما تأخر عنهم العذاب، بل لنزل بهم حالا، ولكن حال دون ذلك تلك الكلمة والأجل اللذان لا يتبدلان، وهنا فيه المقدم والمؤخر وفيه مظنة الغلط لمن لا يعلم ذلك، وهو من أنواع البديع المستحسن وجوده في الكلام البليغ الفصيح، قال تعالى مخاطبا رسوله

[سورة طه (20) : الآيات 131 إلى 135]

صلى الله عليه وسلم «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» فيك وفي كتابك وربك، الى أن يأتي ذلك الوقت المقدر لإيقاع العذاب فيهم في الدنيا، وسترى عذابهم الأكبر يوم القيامة «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» 130 هذه الآية والتي بعدها نزلتا في المدينة، ولهذا فسرت بالصلوات الخمس، فصلاة الصبح قبل طلوع الشمس، والعصر قبل غروبها، وآناء الليل أول ساعاته المغرب والعشاء، وأطراف النهار صلاة الظهر، لأنها تدخل أول الزوال وهو انتهاء طرف النصف الأول وابتداء طرف النصف الثاني وهي بينهما، لذلك قال وأطراف النهار، وقرىء ترضى بضم التاء أي تعطى الثواب الذي يرضيك به ربك، وبالفتح ترضى ما يعطيكه من الثواب وترضي نفسك بالشفاعة بالآخرة وبالظفر وانتشار دعوتك بالدنيا، والآناء جمع أني وهو الوقت، ولذلك فسر بالساعات في قوله تعالى (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) الآية 54 من سورة الأحزاب في ج 3، أي وقته قال تعالى «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» فتطيل النظر بها إعجابا واستحسانا وتمنّيا يا حبيبي إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» من قومك وغيرهم بالأموال والرياش والأثاث والأنعام والأولاد وغيره، لأن ذلك لا قيمة له عندنا ولذلك لم نزودك منه لكونه «زَهْرَةَ» أي بهجة وزينة وزخرف «الْحَياةِ الدُّنْيا» الفانية بما فيها لأنه من جملة الغرور الذي حذرناك منه، ولذلك لم نجعل لك ميلا إليها لانها ليست بشيء يركن اليه، وإنا إنما أعطيناهم ذلك «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» لا لغير ذلك، بل نريد أن نمتحنهم ونختبرهم ابتلاء من عندنا ليزدادوا إثما بكفرانها فيستوجبوا العذاب الشديد «وَرِزْقُ رَبِّكَ» الذي رزقه في الدنيا بالنسبة لما بترتب عليه من الثواب في الآخرة وما أنعم به عليك من النبوة والرسالة وما وعدك به من فتح البلاد وارشاد العباد، وانقياد الأمم للايمان بك، وما أدخره لك من الأجر لقاء دعوتك لهم وصبرك على أذاهم، وقناعتك بالقناعة من الرزق، وتجملك يحسن الخلق ولين الجانب «خَيْرٌ» لك مما أعطيناهم من النعم الدنيوية التي لا قيمة لها مهما كانت كثيرة «وَأَبْقى» 131 أدوم لأن ما أعطاكه باق لا يزول في الدنيا والآخرة، وما

أعطيناهم فان معذبون عليه فيهما، هذا، والدليل على نزول هاتين الآيتين في المدينة ما قاله ابو رافع نزلت هذه الآية حينما نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثني الى يهودي استلف منه له دقيقا فلم يفعل إلا برهن، فأرسل معي درعه الحديدي فرهنته عنده، وقال صلى الله عليه وسلم: والله لئن باعني أو أسلفني لقضيته واني لأمين في السماء وأمين في الأرض لأن مكة لا يهود فيها. فثبت أنهما مدنيتان قال أبيّ بن كعب: من لم يعتزّ بالله تقطعت نفسه حسرات، ومن اتبع بصره ما في أيدي النّاس بطل حزنه، ومن ظن أن نعمة الله عليه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم انظروا الى من هو دونكم في أمور دنياكم وفي رواية: انظروا الى من هو أسفل منكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعم الله، وفي رواية نعمة ربكم. أما في أمور الآخرة فينبغي للعاقل أن ينظر الى من هو فوقه ويقتفي أثره، فهو أجدر لأن يكون من أولياء الله، وقد نظم هذا في بيتين قال: من شاء عيشا رغيدا يستفيد به ... في دينه ثم في دنياه إقبالا فلينظرن الى ما فوقه أدبا ... ولينظرن الى من دونه مالا ولهذا فان المتقين تردّدوا في وجوب غض النظر عن ابنية الظلمة، وعدد الفسقة، في ملابسهم ومراكبهم قال الحسن لا تنظروا إلى دقدقة (جلبة الناس وأصوات حوافر دوابهم) هماليج (الذين لا مخ لهم أو المذللين المنقادين) الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية في تلك الرقاب لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالنظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها. ومعنى هذا الخطاب هو أن الله تعالى يقول لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم استمر يا حبيبي على ترك ذلك كله، واعلق بالك بما هو عند الله، واترك ما سواه، ويراد به غيره صلى الله عليه وسلم، لأنه أبعد من أن تمتد عينه لشيء من تلك الزخارف، وجاء الخطاب له لأنه أكثر تأثيرا لانقياد أمته إليه، وأعظم إلهابا في الصدور لمتابعته، كيف وهو القائل: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله. وكان صلى الله عليه وسلم شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زهرتها، لهذا يكون المراد به أمته، مثل قوله تعالى «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» الآية 65 وما بعدها من سورة الزخرف

في ج 2 قال تعالى «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ» الركعتين المفروضتين عليه خاصة ليمرن أعمامه وأولادهم وأصهاره وبناته عليها، إذ نفث في روعه أنها ستفرض صلاة على الكل أشد منها، ولهذا خصّ الأمر بأهله بما يشمل زوجاته، ولو كان المراد بها الصلاة المفروضة لما خصّ أهله بها، بل لأمره بأمر العامة بها لأن التكليف بها عام، لهذا لم يرد بها الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد، ولا ينافي هذا المعنى ما أخرجه ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ» كان صلى الله عليه وسلم يجيء الى باب علي كرم الله وجهه صلاة الغد ثمانية أشهر يقول الصلاة رحمكم الله تعالى «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» الآية 22 من الأحزاب في ج 3 لأنه من أصهاره والمراد بأهل البيت هم أعمامه وأولاد عمه وبناته، وزوجاته تبع لهم، لأن الزوجات غيرهن لا يعدون من أهل الرجل لابتعادهن عنه بالطلاق، أما زوجات النبيّ فلا طلاق عليهن راجع الآية 51 من سورة الأحزاب في ج 3 أيضا، ولا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية، لانه لا يبعد أن ذلك كان قبل فرض الصلاة مطلوب منه عند كل حادثة ومأمور بها. انظر ما بعد هذه الآية «وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» داوم أنت عليها وتحمل مشاقها لان الصبر مجاز مرسل عن الداومة والتحمل، لأنهما ملارمان معنى الصبر، وفيه اشارة الى أن من رعاية الصلاة والمحافظة عليها بصورة جدية حقيقة مشقة على النفس، ولذلك أمر بالصبر عليها «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» لنفسك وأهلك بل نسألك عملا لأنا «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» وإياهم ونكفيك مؤنة الرزق في الدنيا، لأن من كان في عمل الله كان الله في عمله، ففرغ بالك لعمل الآخرة وما تحتاجه من الدنيا فهو مضمون لك قال تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون الآية 23 من الذاريات في ج 2 «وَالْعاقِبَةُ» المحدودة «لِلتَّقْوى» 132 لأهلها قال تعالى «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» الآية 83 من سورة القصص الآتية، والقرآن يفسر بعضه بعضا، والمتقون هم أولياء الله وهو وليهم، راجع الآية 18 من سورة الجاثية في ج 2، كان عروة

ابن الزبير إذا رأى ما عند السلاطين قرأ هذه الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة يرحمكم الله. وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله شيء من خصاصة قال قوموا فصلوا، بهذا أمرنا الله ورسوله. وعن مالك بن دينار مثله، وهذا كله لا يؤيد أن هذا الأمر في هذه الآية في الصلوات الخمس ولا مانع من أن يستدل بها بعد نزول فرض الصلاة. على الصلاة عند كل حادثة، ثم طفق يندد في أهل مكة بعد سماعهم هذه الآيات وعدم اتعاظهم بها بقوله جل قوله «وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ» مثل موسى وعيسى لأن أممهما كلها اقترحوا آية عليهما أجابوهما، وكذلك من قبلها مثل صلح وهود عليهما السلام حتى إذا أجاب طلبهم هذا وأظهر الله لهم على يده ما اقترحوه استدلوا على صحة نبوته وصدق رسالته قال تعالى مجيبا لهم على لسان رسوله «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى» 133 وهو القرآن المنوه به فيها المحتوى على ما في التوراة والإنجيل والزبور وعلى كل ما في الصحف الأولى المنزلة على إدريس وابراهيم من قبلهم وبعدهم من الآيات البينات فضلا عن فصاحته وبلاغته وما فيه من أخبار الأمم السالفة وما اقترحه عليهم من الآيات وسبب إهلاكهم، فآية القرآن هذه فيها كل آية وهو نفسه آية كافية لمن أراد أن يعتبر لانه أم الآيات وأسس المعجزات وقيل المراد بالبينة هو محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاء ذكره في الصحف الاولى والكتب أيضا قال تعالى «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ» هؤلاء المقترحين طلب نزول الآيات «بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ» أي أرسال محمد إليهم أو إنزال القرآن عليه الدال على صدقه المغني عن أي آية «لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» يدعونا لعبادتك وتوحيدك لنهتدي بهذه «فَنَتَّبِعَ آياتِكَ» المنزلة معه أو على يده «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ» بعذاب الدنيا بالأسر والقتل والجلاء «وَنَخْزى» 131 في عذاب الآخرة من هوان وافتضاح، فيا أكمل الرسل «قُلْ كُلٌّ» منا ومنكم «مُتَرَبِّصٌ» ينتظر العاقبة التي يؤول إليها أمره «فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ» غدا إذا جاء أمر الله بانقضاء الاجل المضروب لعذابكم في الدنيا والأخرى «مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ» العدل المستقيم «وَمَنِ اهْتَدى» 135

مطلب الاحتجاج على الله ورده:

أنحن أم أنتم ولا شك أن محمدا وأصحابه وأتباعه هم أهل الطريق العدل المهتدون بهدى الله وستقول لهم قول القائل: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار مطلب الاحتجاج على الله ورده: واعلم أن الله تعالى قطع المعذرة بالإمهال والإرشاد فله الحجة البالغة روى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يحتج على الله ثلاثة الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول، وتلا هذه الآية والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلا انتفع به، ويقول الصغير كنت صغيرا لا أعقل، فترفع لهم نار ويقال أدخلوها فيدخلها من كان في علم الله أنه سعيد وينكل عنها من كان في علم الله أنه شقي، فيقول الله إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتوكم. فقد أراهم الله من هذا أنهم لو أرسل إليهم الرسول، ولو أمهلوا للبلوغ، لما دخلوا في طاعة الله لأن النفس الخبيثة أزلا تبقى على خبثها ولهذا البحث صلة في الآية 15 من سورة الإسراء الآتية فراجعه. وهناك ثلاثة آخرون (1) الملك يقول يا رب شغلتني بمصالح عبادك ففاتني ما كنت تريده من عمل صالح. فيؤتى له بسليمان عليه السلام إذ لم يشغله ملكه وهو أوسع ملكا في الأرض عن عبادة الله. (2) المريض يقول يا رب لو عافيتني ما سبقني أحد بما يرضيك فيؤتى له بسيدنا أيّوب عليه السلام إذ لم يمنعه مرضه وهو أشد مرضا عن عبادة الله. (3) الفقير يقول يا رب شغلني الكدّ في المعيشة عن عبادتك، ولو أغنيتني ما فاتني أحد بما تريده فيؤتى له بسيدنا عيسى عليه السلام إذ لم يشغله فقره عن عبادة الله والدعوة اليه، وهو أفقر الناس، فلا عذر إذن لأحد أبدا. وروي عنه أيضا أنه لا يقرأ أهل الجنة من القرآن الا سورة طه ويس، وانظر أيها القارئ ما أشد مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها، لأنها بدأت بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم ينزل عليك هذا القرآن لتحمل تعب الإبلاغ وأنهاك نفسك، وحيث بلغت فلا عليك الا أن يقبلوا منك، وعليك الإقبال على طاعة الله وختمت بما هو في معناه بأمره بالتقوى وعدم الاكتراث بالدنيا والصبر على الذين لا ينجع بهم الإنذار، وأن المخالف سيندم من حيث لا ينفعه الندم. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تفسير سورة الواقعة عدد 46 - 56

تفسير سورة الواقعة عدد 46- 56 نزلت بمكة بعد سورة طه عدا الآيتين 81 و 82 فإنهما نزلتا في المدينة، وهي ست وتسعون آية، وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة، وألف وسبعمئة وثلاثة أحرف، وقد أشرنا أول سورة التكوير عن السور المبدوءة ب (إذا) ، روى البغوي بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا. وكان أبو ضبّة لا يدعها أبدا، أخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول. وجاء في كتاب الأوراد للرفاعي رحمه الله أن قراءتها تكون بعد صلاة المغرب وأنها أمان من الفقر. وسنأتي في آخرها على ما يتعلق في هذا البحث. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» 1 قامت القيامة الكبرى، ووصفت بالوقوع لأن قيامها يكون غفلة بسرعة، كسقوط الشيء من العلو، وجاءت بلفظ الماضي لأنها محققة الوقوع لا محالة، ووقوع الأمر عبارة عن نزوله، تقول وقع به ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقبه، وإذا منصوبة باذكر المقدّرة، أي اذكر يا محمد لقومك كيفية قيام القيامة التي «لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» 2 أي أنها حين تقع لا تجد نفسا إذ ذاك إلا وتصدق بوقوعها بخلاف أهل زمانك، الآن الذين ينكرون وجودها، «خافِضَةٌ» لأقوام كانوا رفيعين في الدنيا متعالين على الناس تخفضهم إلى دركات جهنم بحسب أعمالهم الخبيثة «رافِعَةٌ» 3 لأناس كانوا وضيعين في الدنيا أذلاء مخبتين ترفعهم إلى أعالي درجات الجنان جزاء أعمالهم الحسنة. واعلم يا سيد الرسل أن امارة قيامها «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا» 4 اضطربت اضطرابا هائلا قويا فهدم كل بناء عليها «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» 5 فتّت فتا دقيقا «فَكانَتْ» على عظمها وشموخها «هَباءً مُنْبَثًّا» 6 غبارا متفرقا كالذر الذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة إلى الأرض

[سورة الواقعة (56) : الآيات 11 إلى 20]

«وَكُنْتُمْ» أيها الناس حينذاك «أَزْواجاً ثَلاثَةً» 7 صنفين في الجنة وواحدا في النار، وكل ما كان بعضه من بعض أو يذكر بعضه مع بعض يسمى زوجا، وإلا فأصناف وأنواع وأحزاب، ثم بينها بقوله عزّ قوله «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» جانب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم فيؤخذ بهم إلى ذات اليمين وهي الجنة، وهذا الزوج الأول الذي يتعجب المتعجب من سعادتهم لكثرة ما يفيض الله عليهم من كرمه وإحسانه، ينبئك عن ذلك قوله تعالى «ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» 8 أي شيء عظيم هم عليه من السعادة الدائمة بما لا يتصوره المتصورون، وهذا التعجب تعظيم لشأنهم وتفخيم لقدرهم لأنهم كانوا في الدنيا ميامين مباركين، فجوزوا بالآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يتعجب مما أعطاهم ربهم المتعجبون، ويتنافس فيما أفاض عليهم من كرمه المتنافسون «وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» جانب الشمال الذين يأخذون كتبهم بشمالهم ويساقون لذات الشمال وهي النار أجارنا الله منها، وهذا الزوج الثاني الذي يتعجب المتعجب من شقائهم لعظيم الغضب الذي يحل بهم من عقاب الله وانتقامه ويخبرك عن عظم هوله قوله جل قوله «ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» 9 شيء فظيع هم عليه وخطب كبير ألمّ بهم، بلغ منتهى الفظاعة، وهذا التعجب بليغ من سوء حالهم في الشقاء الذي لم يتصوره العقل وتحقير وتوبيخ لهم، لأنهم كانوا في الدنيا مشائيم أدنياء، ثم نوه بالزوج الثالث الذي هو الأول في المرتبة وقد أخره في الذكر لأنه تعالى ذكر أوائل هذه السورة القيامة وأهوالها ترهيبا للمسيء ليرجع عن إساءته وترغيبا للمحسن ليزداد في إحسانه، فقدم أصحاب اليمين ليرغب السامعون، وثنى بأصحاب الشمال ليرهبوا، وثلث بهذا الصنف الذي تتطاول إليه الأعناق، وتصيخ لما خصصوا به الأسماع، ليتشوقوا إليه منوها بفضلهم بقوله «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» 10 الأول مبتدأ والثاني خبره، أي إلى الجنة، لأنهم كانوا يتسابقون بأعمال الخير في الدنيا «أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» 11 لجوار الله وكرامته الكائنون غدا «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» 12 بلا حساب ولا عتاب

يدخلونها رأسا، وهؤلاء هم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر، ليجتهد (اللام هنا لام كي) أصحاب اليمين في التقرب لدرجتهم وليحزن أصحاب الشمال لبعدهم عنهم، وهؤلاء السابقون منهم «ثُلَّةٌ» جماعة كثيرة لأن التنوين يدل على التكثير كقوله: وجاءت إليهم ثلة خندفية ... بجيش كتيّار من السيل مزبد «مِنَ الْأَوَّلِينَ» 13 من لدن آدم إلى زمن محمد صلوات الله وسلامه عليهما «وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» 14 من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، لأن أمته بالنسبة لمن تقدمها من الأمم قليلون جدا، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحوا من أربعين، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم. قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم. قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة. وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة، وما أنتم من أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، ثم طفق يبين ما أعده في تلك الجنان لهم فقال «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ» 15 منسوجة بالذهب موشاة بالجواهر المنيرة «مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» 16 على السرر مع أحبابهم، ينظر بعضهم لوجوه بعض عند التخاطب والقعود، وهذا من أحسن أوصاف حسني العشرة صافي الوداد، مهذّبي الأخلاق، والعكس بالعكس، لأن من لا ينظر إليك عند ما تخاطبه لم يبال بك، ومن لا تنظر إليه عند مخاطبته لم تحترمه ولا تعبا به ففيها سوء خلق وقلة أدب وعدم محبّة من الطرفين، هذا ومما أعدّ لهم فيها أيضا خدم كثيرون بدليل قوله عز قوله «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» 17 في سن الشبوبة لا يهرمون ولا يموتون خلقهم الله في الجنة لخدمة أهلها لا يتجاوزون حد الوصافة.

مطلب معنى المخلدين ومصير أولاد المشركين وآداب الأكل:

مطلب معنى المخلدين ومصير أولاد المشركين وآداب الأكل: واعلم أن لفظة (خلد) كما تدل على البقاء والدوام حقيقة تدل على التسوّر، أي لبس السوار باليد والقرط بالأذان، وعليه يكون المعنى مسورون مقرطون، ولو أراد الله تعالى معنى البقاء والدوام لقال خالدين كما قال في أهل الجنة ولا تجد في القرآن كله مخلّدين غير هذه، ولهذا أقول والله أعلم إن المراد بمخلدين المعنى الأخير، لأن الخادم إذا كان مزينا بالحلي يكون أنضر بعين المخدوم، ولهذا تجد أهل الدنيا يزينون عبيدهم بأحسن اللباس والسلاح المذهب، ولم يصف الحور العين بالتخليد لأن حسنهن أغناهن عنه، والغانية من اكتفت بحسنها عن التزين بالحلي، أي أنهم ليسوا كالحور العين من هذه الحيثية، وما قيل إن الولدان أطفال المؤمنين لا يتجه لأن الله تعالى قال: (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية 21 من سورة الطور الآتية في ج 2، فذراري المؤمنين مع آبائهم في الجنة يخدمون، وهذا حكم الله فيهم ولا راد لحكمه، وما قيل إنهم أولاد الكفار الذين ماتوا قبل سن التكليف لا يصح أيضا، وقد اختلفت أقوال العلماء فيهم، فمنهم من قال إنهم في الجنة وهو الأقرب، لأن الله تعالى لا يعذب قبل التكليف، وإذ لم يعذبوا فهم ناجون، والناجون من أهل الجنة، لأن الأمر يدور بين الجنة والنار، فمن زحزح عن النار فقد دخل الجنة، راجع الآية 45 من سورة الأعراف المارة، ولهذا البحث صلة في الآية 184 من آل عمران في ج 3، ما لم يكونوا من الذين سبق ذكرهم في تفسير الآية الأخيرة من سورة طه المارة، ومنهم من قال إنهم من أهل النار تبعا لآبائهم وهو بعيد، لأن الله أكبر من أن يعذب من لم يكلفه، وهم لم يبلغوا حد التكليف كيف وقد قال: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية 27 من سورة والنجم المارة وقوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من سورة الإسراء الآتية، وإذا كان من لم تبلغه الدعوة والمجنون الكبير يسقط عنهم التكليف فيدخلون الجنة على ما هم عليه، فكيف بالطفل الذي لا يعقل شيئا، ومنهم من توقف فيهم

[سورة الواقعة (56) : الآيات 21 إلى 30]

وفوض أمرهم إلى الله ونعم المفوض إليه، فإنه أكرم من أن يعذبهم «بِأَكْوابٍ» متعلق بيطوف وهي الأواني التي لا عرى لها ولا خرطوم كالأقداح المستديرة «وَأَبارِيقَ» الأواني ذات العرى والخراطيم وهي معروفة، وسميت أباريق لبريق لونها وصفائها إذ يرى باطنها من ظاهرها «وَكَأْسٍ» هو الإناء المملوء شرابا وإلا فلا يسمى كأسا بل قدحا أو زجاجة «مِنْ مَعِينٍ» 18 نبع عين ظاهرة كثير ماؤها لا ينضب لأنها ليست من عمل البشر، وهؤلاء الذين يشربون هذا الشراب «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها» لا يصيبهم صداع في رأسهم بسبب شربها كخمرة الدنيا القبيحة «وَلا يُنْزِفُونَ» 19 ولا تذهب عقولهم بسببها، ومعنى نزف الرجل ذهب عقله بالسكر، وقرىء بكسر الزاي، أي لا ينغذ ذلك الشراب مهما شربوا منه، فيكون الفعل من انزف ينزف بمعنى فني ونفد وخلص، وهذه التي يقول فيها ابن الفارض رحمه الله: تهذب أخلاق الندامى فيهتدي ... بها لطريق العزم من لا له عزم إلى أن قال فيها: ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ... لعادت إليه الروح وانتعش الجسم على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم بخلاف خمر الدنيا والعياذ بالله فإنها مهلكة للجسم والعقل، مدنسة للشريف والكيف «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ» 20 من أحسن أنواعها وأفضله، ومن هنا اقتبس جواز الانتقاء في أكل الفواكه سواء كانت مما يليه أو لا بخلاف الأكل فإنه لا يجوز إلا مما يليه، فالتناول من أمام الغير ممنوع لقوله صلى الله عليه وسلم: وكل مما يليك. ولهذا بسنّ في كل الأحوال أن يأكل الرجل مما يليه، وإلا فقد أساء الأدب وصار شرها مخالفا لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحكم الشرعي في الأكل «وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» 21 ويخطر في بالهم أكله ويتمنونه من جميع أصناف الطيور، فإنه يحضر أمامهم حالا على الصّفة التي يريدونها من أنواع الطهي «وَحُورٌ عِينٌ» بيض واسعات الأعين وهي في الصفاء «كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» 23 المخزون

[سورة الواقعة (56) : الآيات 31 إلى 40]

في صدفه المصون من أن تلمسه يد لامس أو تقع عليه شمس أو هواء مما يكسف لونه مثل الدرّة حين تخرج من صدفتها، وهذا كله يكون في تلك الجنات التي فيها النعيم الذي لا يقادر قدره إلا الذي خلقه للمقربين «جَزاءً» لهم في الآخرة «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 24 في الدنيا من الطاعات والخيرات «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً» من فضول الكلام «وَلا تَأْثِيماً» 25 من قول أو فعل فاحش يؤتثم به «إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» 26 على بعضهم من بعضهم ومن الملائكة، ثم شرع يصف ما لأصحاب اليمين عنده فقال «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ 27 فِي سِدْرٍ» هو شجر النبق له ثمر صغير يشبه التفاح في الطعم والرائحة إلا أن ورقه مدور، وفيه شوك لم يوجد في التفاح، وهو موجود في البوادي أكثر منه في المدن والقرى، وورقه يقوم مقام الأشنان كالخطمي بالنظافة. هذا هو الذي في الدنيا، أما الذي في الآخرة فهو «مَخْضُودٍ» 28 من الشوك وثمره عظيم وشجره كبير «وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ» 29 متراكم بعضه على بعض ويمتاز عن طلح الدنيا بالحجم والرائحة وعدم الغلاف، إذ لا فضول في فواكه الآخرة، كما أن أهلها لا فضول لهم، فهي وأهلها مبرأون من كل دنس ورجس وقذر، والمراد به الموز، وهو والتين أشبه بفاكهة الآخرة إذ لا فضول فيهما، «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» 30 منبسط دائما لا تنسخه شمس، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرأوا إن شئتم وظل ممدود «وَماءٍ مَسْكُوبٍ» 31 مصبوب في الأكواب مهيأ للشرب موضوع بين أيديهم لا يحتاجون إلى كلفة الغرف والصبّ كلما فرغت آنيته ملئت «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» 32 لأنها «لا مَقْطُوعَةٍ» كفاكهة الدنيا حتى تنفذ في موسمها «وَلا مَمْنُوعَةٍ» 33 من قبل أحد يحول دون قطفها ولا هي تابعة للبيع والشراء لأن أثمار الجنة أدي ثمنها في الدنيا وهي لا تحتاج للتناول بل غصنها نفسه يميل لطالبها ليقطف منها ما يريده ومتى ما قطف صار مكانه، لهذا وصفت بأنها غير مقطوعة وغير ممنوعة «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» 34 عالية ويكنى بها عن

مطلب نساء أهل الجنة والذين يدخلونها بغير حساب:

النساء الحسان المتعليات عليها بدليل قوله «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ» خلقناهن وأبدعناهنّ «إِنْشاءً» 35 جديدا بخلاف ما كن عليه في الدنيا، وذلك أن العرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على طريق الاستعارة، والقرآن جاء بلغتهم، وعلى هذا يكون المعنى مرفوعة بالفضل والجمال والأدب والصون على نساء الدنيا، والله جل شأنه يشير بذلك إلى نساء المؤمنين، المؤمنات أصحاب اليمين لأنهن لأزواجهن الأخيرين في الدنيا «فَجَعَلْناهُنَّ» بعد أن كنّ ثيبات صيّرناهن «أَبْكاراً» 36 كنساء الجنة عذارى كأنهن لم يطمثن «عُرُباً» حسنات التبعل متحببات لأزواجهن «أَتْراباً» 37 مستويات في السن أمثالا في الخلق عمر الواحدة ثلاث وثلاثون سنة. مطلب نساء أهل الجنة والذين يدخلونها بغير حساب: جاء عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين. وعليه فمن كانت عند موتها دون هذا السن أبلغت إليه، ومن كانت فوقه ردت إليه، لأنه سن الكمال في النساء، كما أن الأربعين سن الكمال في الرجال، ومما يدل على هذا ما رواه البغوي بسنده عن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أدع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز (وهذا من جملة مزحه صلى الله عليه وسلم إنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا) قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ) إلخ قال عجائز تركن الدنيا عمشا رمضا فجعناهن أبكارا إلخ. وهذا الخير الكثير المار ذكره كله «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» 38 وعشرة أمثاله نسأل الله أن يجعلنا منهم «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ 39 وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» 40 تقدم تفسير مثله، وقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن دويم قال: لما أنزل الله عز وجل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) بكى عمر رضي الله

عنه فقال يا نبي الله آمنا برسول الله وصدقناه، ومن ينجو منا قليل؟ فأنزل الله (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فقال قد أنزل تعالى فيما قلت، فقال رضينا عن ديننا وتصديق نبينا، فقال صلى الله عليه وسلم من آدم إلينا ثلّة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة، ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط تصغير رهط وهو دون العشرة وتستعمل للأربعين كما مر في الآية الأولى من سورة الجن المارة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع إلي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن أنظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج رسول الله عليهم فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون (أي لا يقرأون على الناس ولا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم من تعاويذ وغيرها لأنهم متوكلون على الله تاركون الأسباب لمسببها) ولا يتطيرون (يتشاءمون من شيء) وعلى ربهم يتوكلون في كل أمورهم. فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل آخر فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال سبقك بها عكاشة. وليعلم أن الآية الأخيرة غير ناسخة للأولى، لأن الأولى في السابقين الأولين، وهم قليل بالنسبة للأمم قبلهم، ولذلك قال تعالى وقليل من الآخرين، والآية الثانية في أصحاب اليمين وهم كثير، ولذلك قال وثلة من الآخرين، وما جاء في بكاء عمر وحزنه في الحديث السابق المروي عن عروة والحديث الذي رواه أبو هريرة في معناه وزاد فيه فنسخت، وقليل من الآخرين أي منهم، فيكثرهم الفائزون

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 إلى 50]

في الجنة من الأمم السوالف، ولذلك حزن عمر رضي الله عنه وقال له صلى الله عليه وسلم ما قال مما أذهب حزنه، لأن الحديث لا ينسخ القرآن كما نوهنا به في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ، على أنه ليس فيه نسخ كما زعم بعضهم، وإذا صح ما جاء في حديث أبي هريرة من قوله فنسخت (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان عمر، أي بذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الآية غير السالفين، فتدبر. ثم بدأ يشرح أحوال الأشقياء حفظنا الله منهم ومما هم صائرون إليه فقال عز قوله «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ» 41 فيه تهويل من عظيم ما هم صائرون إليه من شدة العذاب، لأنهم يومئذ يكونون «فِي سَمُومٍ» أشد الرياح حرا يكاد حرها يدخل في مسام الأديم «وَحَمِيمٍ» 42 ماء متناه في الحرارة والغليان يعطونه إذا اشتد عطشهم فيزيد ببلائهم أجارنا الله من ذلك «وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ» 43 دخان بالغ من السواد أقصاه، ثم وصفه بأنه «لا بارِدٍ» لأنه ناشىء عن دخان حار «وَلا كَرِيمٍ» 44 لأنه لا ينفع من يأوي إليه ليستظل به لأن كرم الظل الاسترواح به من وهج الحر، وإنما صيّرهم الله إلى هذه الحالة السيئة بسبب «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ» الوقوع في هذا العذاب في دنياهم «مُتْرَفِينَ» 45 بنعم الله وقد تقووا بها على معصيته فاستعملوها لغير ما خلقت لها «وَكانُوا» مع ذلك في دنياهم أيضا «يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» 46 يداومون على الذنب الذي يتحنث منه ويتأثم به، يقال بلغ الغلام الحنث أي زمن ما يكون مؤاخذا به على عمله السيء ويعد عليه إثما إذ قبل البلوغ لا يعتد به ولا يعاقب عليه، وقد وصفه بالعظيم ليعلم أن المراد منه الشرك بالله، إذ لا أعظم منه ذنبا «وَكانُوا يَقُولُونَ» بعضهم لبعض فضلا عن ذلك «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» 47 استفهام إنكار وسخرية بالله ورسله الذين أخبروهم بالبعث بعد الموت الذي ينكرونه وخوفوهم عاقبته ويقولون أيضا «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» 48 يبعثون أيضا، زيادة في الاستهزاء، وقد جاء هنا العطف على المضمر من غير تأكيد في الضمير المنفصل كما في نحو (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الآية 35 من البقرة في ج 3، ومثلها

مطلب صحة العطف على الضمير من غير تأكيد:

في الآية 68 من الأعراف المارة في قوله (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الآية 35 من سورة النحل في ج 2، وإنما جاز ذلك لوجود الفاصل وهو الاستفهام، كما جاز الفصل بلا في الآية الأخيرة وفي الآية 147 من سورة الأنعام، وهي (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) لتأكيد النظر بلا المذكورة. مطلب صحة العطف على الضمير من غير تأكيد: فلم يبق من حاجة لذكر نحن في الآيتين الأخيرتين، لأن الضمير المنفصل إنما يجب الإتيان به لصحة العطف إذا لم يكن هناك استفهام ولا نفي مؤكد كما في آية النحل وهاتين الآيتين أي الآية المفسرة وآية الأنعام، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك المقتفين آثار أولئك الكفرة والجاحدين المقلدين لهم بإنكار البعث «إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» 49 من جميع الخلق طائعهم وعاصيهم وعزة الله وجلاله وعظمته ونواله «لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» 50 عند الله وواقفون بين يديه للحساب والجزاء «ثُمَّ» يقال لهم من قبل الملائكة الموكلين بتبليغهم وسؤالهم من قبل الله «إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ» عن طرق الهدى «الْمُكَذِّبُونَ» 51 بهذا اليوم «لَآكِلُونَ» في جهنم زيادة على تعذيبكم فيها «مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» 52 شديد المرارة وهو نبت فيها أشبه بالحنظل في أرض الدنيا، «فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ» 53 رغما عنكم لأن ملائكة العذاب يقسرونهم على أكله والشرب من الحميم أيضا، ليزيدوا في تعذيبهم كما تعلف الدواب المربوطة قسرا من قبل أهل الدنيا «فَشارِبُونَ عَلَيْهِ» عند شدة عطشكم «مِنَ الْحَمِيمِ 54 فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» 55 الإبل المصابة في داء الهيام فإنها لفرط ظمئها لا تزال تشرب حتى تهلك، لأنها لا تروى قال الشاعر: فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضي عليها هيامها ومن كان شربه والعياذ بالله الماء المغلي كيف يروى؟ وهذا بعض عذاب أهل النار، إذ يسلط عليهم الجوع فتضطرهم الملائكة لأكل الزقوم، ويسلط عليهم العطش فتضطرهم أيضا لشرب الهيم «هذا» أيها السائل «نُزُلُهُمْ» ما يقدم إليهم في جهنم أول دخولهم

[سورة الواقعة (56) : الآيات 61 إلى 70]

فيها ويلجئونهم على تناوله تكرمة لهم على حد قوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 21 من آل عمران في ج 3، وقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية 49 من الفرقان في ج 2، على طريق التقريع والاستهزاء (والنزل) هو أول ما يقدم للضيف عند قدومه ثم بعد استراحته يقدم له الطعام والشراب، وأهل النار أول ما يقدم لهم ذلك ثم يأتيهم والعياذ بالله ما لم تتخيله أذهانهم من العذاب «يَوْمَ الدِّينِ» 56 الجزاء الذي ينالونه فيه على أعمالهم وفي قوله تعالى (نزلهم) تهكم فيهم وسخرية بهم لأنه إذا كان هذا أول عذابهم فما ظنك فيما بعده؟ أجارنا الله وحمانا، وقيل في المعنى: وكنا إذا الجبار في الجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا بتخفيف الزاي بدل ضمه، وهي قراءة أيضا، وهذا وما يأتي وإن كان المخاطب به كفار قريش فهو عام في جميع الكفرة المنكرين للبعث المكذبين الرسل، ثم بادر يخاطبهم على طريق الإلزام والتبكيت بقوله جل قوله «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ» كما تعلمون من نطفة وخلقنا أباكم من تراب «فَلَوْلا» هلا «تُصَدِّقُونَ» 57 أن من يخلق ابتداء من غير شيء بطريق الإبداع، ألا يقدر على إعادة ما خلقه ثانيا على نمط الأول؟ بلى وهو أهون عليه، وكل شيء عنده هين «أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ» 58 من النطف في أرحام النساء «أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ» أي لجنين المكون من تلك النطفة فتصيرونه بشرا سويا «أَمْ» نَحْنُ الْخالِقُونَ» 59 له منها بل هو هو، فيا أيها الناس تدبّروا هذا واعلموا أنا «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ» أي أجله كما قدرنا الحياة في الرحم والدنيا والبقاء في البرزخ فمنكم من يموت في بطن أمه ومنكم من يموت طفلا وصبيا وشابا وكهلا وشيخا وهرما، بمقتضى تقديرنا الأزلي لآجالكم «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» 60 عن شيء نريده بل الغالبون أبدا في كل شيء، ولا يفوتنا شيء، ولا يقع في الملك والملكوت شيء ما إلا بمقتضى تقديرنا، واعلموا أيها الناس أنا نحن القادرون (الرفع بعد نحن على البدلية، والنصب على الاختصاص) تأمل هذا واعلم أن من يعرف العربية فقد لا يغلط أحدا حيث يجد له طريقا وخاصة ما بعد أن وكان) «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ»

فنغير صفاتكم هذه التي أنتم عليها من الخلق والخلق، أو نذهبكم وناتي بدلكم أشباهكم من الخلق الآخر «وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ» 61 من الصور خلقا جديدا لا يشبه خلقكم الذي أنتم عليه، مما لم يكن في حسبانكم «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ» أيها الناس «النَّشْأَةَ الْأُولى» وكيفيتها من العدم لا من شيء سابق ولا مثال متقدم «فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ» 62 بأني قادر على النشأة الثانية لأنها على مثال سابق، ومن كان قادرا على الإنشاء من لا شيء فهو أقدر على إعادة ما أنشأه بعد هلاكه، والبون شاسع بين الوجود والعدم «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ» 63 في الأرض وتبذرون فيها من أنواع البذور «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ» فتنبتونه وتنشئونه وتصيرونه زرعا قائما على سوقه، وتجعلون فيه الحب «أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» 64 الفاعلون لذلك كله وانكم لم ولن تفعلوا شيئا غير أقدارنا لكم على طرح الحب في الأرض، فإذا شئنا أنبتناه وإذا شئنا لم ننبته، وأنا «لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً» هشيما مكسرا تبنا ناعما لا قمح فيه عفوا بلا سبب أو نسلط عليه شيئا من الآفات الأرضية كالسوس والجراد والسمائية كالحر والبرد، أو نغرقه بالماء، أو نحرقه بصاعقة فنتلفه بما نشاء «فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ» 65 تتعجبون فيما نزل فيه وتندمون على تعبكم عليه وانفاقكم المال لأجله، وتتلاومون على زرعه أو التقصير في مراعاته. وأصل التفكه التنقل بصنوف الفواكه، ثم استعبر للننقل بالحديث، وكني فيه هنا عن التعجب والندم والتلاوم، أو عن اتلافه وحرمانكم منه، هذا وإذا أريد المعنى الظاهر من تفكهون فيكون ويجعلكم تقتصرون على أكل الفواكه فقط وتعدمون لذة القمح الذي لا يغني عنه شيء بحيث لا تعافه النفس مهما أدمن عليه بخلاف غيره من الأطعمة، وعند ما يجعله الله كذلك تقولون «إِنَّا لَمُغْرَمُونَ» 66 ذهب مالنا بغير عوض وتعبنا بغير أجر وأملنا دون حظوة وتقولون «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» 67 من ربح زرعنا الذي كنا نأمله لا حظ لنا فيه «أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ» 68 منه أنتم وأنعامكم ودوابكم وتغتسلون منه وتغسلون ثيابكم وأوانيكم «أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ» السحب واحده مزنة قال الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقلت ابقالها

[سورة الواقعة (56) : الآيات 71 إلى 80]

«أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ» 69 له بقدرتنا إذ ننزله لكم بقدر حاجتكم إليه على أنا «لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً» شديد الملوحة مرا لا يشرب ولا ينفع الزرع، فتهلكون عطشا وتنلف زروعكم وأشجاركم، لأنا قادرون على اتلافكم بأنواع شتى، فلو سكنا عنكم الهواء ساعة لهلكتم جميعا «فَلَوْلا تَشْكُرُونَ» 70 نعم الله عليكم التي من جملتها تأمين ضرورياتكم وما تصلحون به مأكولكم وما تتقون به شدة الحر المنوه عنه بقوله «أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ» 71 تقدحون لها الزناد فتتقّد فتستضيؤن بها وتنضجون طعامكم عليها «أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها» التي توقد منها أو شجر المرخ والعقار المار ذكره في الآية 80 من سورة يس المارة «أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ» 72 لها بل نحن أنشأنا شجرها لنفعكم و «نَحْنُ جَعَلْناها» أي تلك النار لكم في الدنيا «تَذْكِرَةً» لنار الآخرة الكبرى ليتعظ بها من له عقل كلما رآها، فيذكر عذابها ويرتدع عما نهي عنه، ولذلك عممنا الحاجة إليها «وَ» جعلناها «مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ» 73 المسافرين والفقراء الذين ينزلون (القواء) الأرض القفرة وللأغنياء المقيمين أيضا، إذ لا غنى لأحد عنها، إلا أن المسافر أشد حاجة لها من غيره، لأنه بوقدها للتدفئة ولهروب الهوام عنه لأنها لا تقربه ما دامت النار عنده خشية منها، وإلا افترسته حالا وفيها منفعة أخرى وهي اهتداء الضال بها والاستضاءة بها ليلا وللطبخ والخبز، وتسخين الماء ليلا ونهارا، وكونها تذكرة لنار الآخرة لا يقتضى أن تكون مثلها وقد ذكرنا في الآية 135 من سورة طه المارة أن المشبه لا يكون كالمشبه به من كل وجه. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ناركم هذه الذي توقدون جزء من ستين جزءا من نار جهنم، قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها. أعاذنا الله منها ولو أن نارنا هذه مثل تلك لما انتفعنا بها أبدا، لأن أجسامنا هذه لا تطيق مقابلتها، ولأن ما يوضع عليها للنضج يحرق حالا، لأنها تذيب الحديد وتفتت الحجارة حالا، ولكانت نقمة علينا لا نعمة لنا. ثم التفت جل شأنه الى حبيبه صلى الله عليه وسلم وقال له «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ»

74 نزه عما يقول هؤلاء الظالمون من اتخاذ الآلهة من دونه وانكار إعادة خلقه بعد الموت ومن سائر ما يصمونه به من الولد والشريك والصاحبة، ثم أقسم قائلا «فَلا أُقْسِمُ» تقدم البحث فيه مفصلا أول سورة القيامة فراجعه ففيه بحث نفيس «بِمَواقِعِ النُّجُومِ» 75 مساقطها عند غروبها بالنسبة لما نرى قال ابن عباس النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مشى الشيخ الأكبر وقال يا لها من أوقات! وقد أخرج النسائي وابن جرير والحاكم والبيهقي في الشعب أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا الى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين. وفي لفظ ثم نزل من سماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ هذه الآية، ويستحيل على هذا القول عرد الضمير في «وَإِنَّهُ» للقرآن بالنظر إلى ما يفهم من مواقع النجوم حتى يعد كأنه مذكور أي وأن هذا القسم الذي ذكره الله بعد أن فرغ من ذكر البراهين المسكة الآنفة الذكر التي يخرس عندها كل بليغ ويحجم عنها كل فصيح «لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» 76 لأن في سقوط النجوم بالنسبة لما نراه زوال أثرها ودلالة على وجود مؤثرها الدائم وقد استدل الخليل عليه السلام بأقوالها على صانعها جل جلاله، كما سيأتي في الآية 76 فما بعدها من سورة الأنعام في ج 2، وفي هذه الآية دالة على جواز الفعل بين الصفة والموصوف بكلام آخر، لأن عظيما هنا جاء صفة لقسم، والله تعالى يقول هو عظيم جدا لو تعلمون ما يترتب عليه من المصالح فضلا عن أنه وقت قيام المجتهدين المبتهلين الى الله، وآن نزول رحمته، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، وجواب القسم في قوله تعالى «إِنَّهُ» أي المنزل عليك يا سيد الرسل «لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» 77 لما فيه من النور والهدى والبيان والعلم والحكم والحكمة، لأن الفقيه يستدل به والحكيم يستمد به والأديب يقتبس منه والأريب يتقوى به، والمتعلم يستفيد منه، وكل عالم يطلب أصل علمه من فيضه، ليس بسحر ولا كهانة كما

مطلب مس المصحف والحديث المرسل والموصول:

يقولون، بل هو مثبت عند الله «فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ» 78 محفوظ مصون «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» 79 الملائكة المقربون والسفرة الكرام البررة. ولا هنا نافيه والضمير يعود للأقرب وهو الكتاب أي اللوح المحفوظ، فلو أريد عوده للبعيد وهو القرآن لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء والهاء، وعلى قول من أعاد الضمير للقرآن وهو ضعيف جدا فيراد منه الإنسان أي لا يمسه منهم إلا المتطهرون، والصواب الأول وعليه المعول، وبه قال أكثر المفسرين والعارفين. مطلب مس المصحف والحديث المرسل والموصول: وأما المنع من مس المصحف لغير المتطهر فقد ثبت بالحديث الآتي لا بنص هذه الآية، وعليه يشمل أهل الدنيا فلا يمسه منهم إلا المتطهرون المتوضئون بالطهارة الحيّة، وعليه فتكون (لا) هنا بمعنى النهي (الحكم الشرعي) المنع من مسه أو مس حرف منه لغير المتوضئ، ويحرم على المحدث أن يمسه بدون غلاف، ولا بأس بمس غير المكتوب منه، وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز حمله لغير المتوضئ ولو كان بغلاف ولا يجوز مس شيء منه سواء كان فيه كتابة أم لا. روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهرين أخرجه مالك مرسلا- المرسل أحد أقسام الحديث وهو ما سقط منه الصحابي بعد ذكر التابعي وهو من قسم المقبول، وقد احتج به مالك وأبو حنيفة، وهو موصولا، والموصول ما اتصل سنده بحضرة الرسول بغير انقطاع وهو صالح للاحتجاج به بلا خلاف- وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بهذا والصحيح فيه الإرسال أيضا، وروى الدارقطني بسنده عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر. والمراد بالقرآن المصحف سماه قرآنا على قرب الجوار والاتساع، كما روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن الى أرض العدو كما أشرنا إليه، في المقدمة وأراد به المصحف، اما المحفوظ بالصدر فلا لأن القصد حفظه عن الامتهان بسبب. لمس غير

[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 إلى 90]

المتطهر، أما ما هو محفوظ بالصدر فهو في أمن من ذاك، وله أن يقرأه عن صدر الغيب ما لم يكن جنبا، وهذا القرآن الموصوف بما تقدم «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 80 منزل تنزيلا على اتساع اللغة إذ يقال للمقدور قدر وللمخلوق خلق فليس بمفترى من قبل محمد، ولا تعلمه من قبل الغير ولا هو من خرافات الأولين كما زعم كفرة قريش، وهذه الآية كالرد ضمنا على هؤلاء المتقولين بذلك «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ» الحديث الشيء الجديد وإن نزوله بالنسبة للمنزل عليهم جديد، لذلك سماه حديثا، وإلا فهو كلام الله القديم القائم بذاته المقدسة مبرأ عن الحدوث كذاته المنزهة عنه «أَنْتُمْ» يا أهل مكة ويا كفار العرب أجمع «مُدْهِنُونَ» 81 متهاونون بهذا القرآن مكذبون به، لأن من كذب بالشيء فقد تهاون فيه، ومن قال أن معنى مدهنون منافقون لا يتجه لأن الآية مكية ولا نفاق فيها، وإنما حدث النفاق في المدينة ولم يكن في مكة إلا المكايدة والمجاهرة بالعداوة والمكابرة في الحق وعلى الحق، وكانوا متسلطين لا يحتاجون إلى النفاق ولا يعرفونه، ولم تكن كلمة النفاق مستعملة عندهم، أما من قال إن هذه الآية والتي تليها مدنيتان كما أشرنا إليه أول السورة، فيتجه قوله بأن معنى مدهنون منافقون، ويريد بذلك قولهم للمؤمنين آمنا به، ولإخوانهم المنافقين إنا مستهزئون، كما قصه الله في الآية 18 من سورة البقرة في ج 3، ومعنى الإدهان الجري في الظاهر على خلاف الباطن، وقد حدث النفاق بالمدينة «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ» أيها الكفرة على القول بأنها مكية، وعلى أنها مدينة تجعلون شكر رزقكم أيها المنافقون المتلونون أي حظكم ونصيبكم من هذا القرآن «أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» 82 به ولا تصدقونه وتجحدونه ولا تشكرونه، قال الحسن: خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب انتهت الآيتان المدينتان على قول، وقال في الإتقان أن آية (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) مدينة وهو قول ضعيف لم بعضده ما يقويه لذلك لم نستثنها مع هاتين الآيتين، قال تعالى «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ» النفس أو الروح عند الموت «الْحُلْقُومَ» 83 مجرى الطعام والشراب «وَأَنْتُمْ» يا أهل المحتضر «حِينَئِذٍ» حين بلوغ الحلقوم

«تَنْظُرُونَ» 84 ذلك لما تشاهدون من حال المحتضر فقط، وإلا لا يمكن أن تبصروا شيئا ماديّا، لأن الروح من أمر الله لا تشاهد ولا يسعكم إلا البكاء، لأنه لا يمكنكم دفع ما حل به ولا تأخيره ولا صرفه أبدا «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ» ولو أنكم معه «وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ» 85 قربنا منه ولا تعلمون كيف نقبض روحه ولا ترون أملاكنا المحيطين به، لأنكم لا تفقهون معنى الروح ولا تعقلونه، لكونه من خصائص الإلهية، وأنتم لا ترون إلا شخوص بصره نحو السماء عند خروج روحه هذا إذا كان الخطاب لمن حضر المحتضر، وإذا كان الخطاب له يكون المعنى وانكم أيها المحتضرون ترون منزلتكم في الجنة أو النار حين خروج روحكم، ولذلك تشخص أبصاركم نحوها ونحن عندكم ومعكم، ولكن لا تبصرون وجودنا «فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ» 86 مجزيين على تقصيركم، يقال وإنه إذا ثبت عليه الجرم والأولى أن يكون معناه غير مربوبين، وإن السلطان للرعية إذا ساسهم وتعبدهم ومنه قولهم للعبد مدين وللأمة مدينة قال الأخطل: ربت وربا في حجرها ابن مدينة ... تراه على مسحاته يتركل أي يضرب مسحاته برجله لتدخل في الأرض. لعمدتم «تَرْجِعُونَها» إلى جسدها بعد خروجها منه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 87 في دعواكم أن الميت ميت بالطبع ولا بعث ولا حشر ولا نشر ولا جزاء، ولكنكم لا تقدرون على ردّ أرواح الموتى بما تستمدونه من الرقى والطب مهما كان الراقي عارفا والطبيب حاذقا، لا يقدرون على شيء من ذلك، وإذا تحقق عجزكم عن هذا فاعلموا وتيقنوا أن الأمر منوط بالله وحده الذي خلقكم وأماتكم، هو يحييكم ثانيا، ويجعلكم أصنافا ثلاثة «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ» 88 السابقين المار ذكرهم ووصفهم في الآية 10 فما بعدها «فَرَوْحٌ» له واستراحة «وَرَيْحانٌ» يحيط به وهو المعروف عندنا، ولكن أين هذا من ذاك «وَجَنَّةُ نَعِيمٍ» 89 له يتنعم فيها ما زال في برزخه إلى أن ينقله الله منه إلى الجنة الدائم نعيمها، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال لم يكن من المقرّبين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من

[سورة الواقعة (56) : الآيات 91 إلى 96]

ريحان الجنة فيشمها ثم يقبض. وأخرج ابن جرير أيضا عن الحسن أنه قال: تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة. ثم قرأ هذه الآية «وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» 90 السالف ذكرهم أيضا ونعتهم «فَسَلامٌ لَكَ» يا صاحب اليمين «مِنْ» اخوانك الكرام «أَصْحابِ الْيَمِينِ» 91 وسلام لك يا أكرم الرسل بهم لا تخف عليهم فهم في أمن من العذاب فلا تهتم بشأنهم وستراهم على ما تحب من السلامة، وانهم يسلمون عليك في دار فضلك «وَأَمَّا إِنْ كانَ» ذلك الميت والعياذ بالله «مِنَ» أصحاب الشمال «الْمُكَذِّبِينَ» الجاحدين رسالتك وكتابك وربك «الضَّالِّينَ» 92 عن هداك المائلين عن رشدك يا سيد الرسل المنحرفين عن الصواب «فَنُزُلٌ» لهم مهيء في جهنم «مِنْ حَمِيمٍ 93 وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» 94 يحرقون فيها، مرّ تفسير مثله «إِنَّ هذا» الذي ذكر مما قصه الله عمن حضره الموت وما قبله «لَهُوَ» وعزّتي وجلالي «حَقُّ الْيَقِينِ» 95 الثابت الذي لا شك فيه وهو العلم المتيقن عين اليقين ونفسه. مطلب الفرق بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين: ولأهل المعرفة في عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين فقط عبارات شتى، فاليقين عندهم رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء بربه علما وشهودا وحالا لا علما فقط، فإذا كان علما فقط فهو علم اليقين، فعلم كل عاقل بالموت علم اليقين، فإذا عاين الملائكة فهو علم اليقين، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين، والإيقان هو العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال الله موقن «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» 96 إن كنت موقنا عازما وتقدم تفسير مثله وكرر تأكيدا قال علي الجهني لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال اجعلوها في سجودكم أخرجه أبو داود- وأخرج الترمذي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى، وما أتى على آية رحمة إلّا وقف وسأل الله، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ. قال الترمذي حديث صحيح. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان، حيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. هذه أحاديث لا يقال فيها شيء إلا أن ما قاله الجهني وأخرجه أبو داود عن حذيفة، ومثله الذي أخرجه عن عقبة بن عامر لا يصح، لأن سورة الأعلى وهذه السورة نزلتا في مكة قولا واحدا قبل فرض الصلاة، ويوشك أنه سمع هذا منه صلّى الله عليه وسلم بعد فرضها، ففيه تجوز من حيث سبب النزول، إذ كثير من الآيات يستشهد بها لمناسبة حادثة مع أنها نزلت قبلها بكثير، ولا مانع من ذلك، إلا انه لا ينبغي أن تجعل سببا للنزول، تأمل هذا، واعلم أن كثيرا من الشواهد تأتي بغير موضعها لعدم الدقة في معرفة ترتيب نزول السور وتواريخها والمشي على ظاهر ترتيب القرآن، وجلّ من لا ينسى، وعزّ من لا يخطىء، على أنه يجوز أن حضرة الرسول قرأ هاتين الآيتين في المدينة فلما أتى على آخرهما قال ما قال، لأنّ جميع ما نزل في مكة تلاه في المدينة بعد وصوله إليها ليعلمه أهلها، وعليه فلا يقال إن ذلك نزل في المدينة والقول بالنزول مرتين ممنوع إذ لا قول فيه معول عليه كما بيناه أول سورة الفاتحة المارّة، أما الحديث الثاني الذي أخرجه الترمذي فلا مقال فيه لأنه لم يذكر فيه ما ذكر في الحديث الأول، وهو قوله لما أنزلت إلخ، ولم يعين تاريخا، ولا شاهد فيه على النزول، ولذلك قال في آخره حديث صحيح. هذا، وروي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود في مرض موته فقال ما تشتكي؟ فقال ذنوبي. فقال ما تشتهي؟ قال رحمة ربي، قال أفلا تدعو لك الطبيب؟ قال الطبيب أمرضني، قال أفلا نأمر بعطائك؟ قال لا حاجة لي فيه، قال ندفعه إلى بناتك؟ قال لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا- راجع أول هذه السورة تجد ما يتعلق بهذا البحث، هذا وقد ختمت سورة الحافة الآتية في ج 2، بمثل ما ختمت به هذه السورة فقط. والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الشعراء عدد 47 - 26

تفسير سورة الشعراء عدد 47- 26 نزلت بمكة بعد الواقعة عدا الآيات 197 ومن 224 إلى آخر السورة، فإنها نزلت بالمدينة وهي مائتان وسبع وعشرون آية، وألف ومائتان وتسع وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وأربعون حرفا، ويوجد في القرآن سورة القصص مبدوءة بمثل ما بدئت به هذه فقط، أما سورة النمل فهي بغير ميم لا نظير لها في القرآن، إلا أنه يعبر عن هذه السور الثلاث بالطواسيم، كما يعبر عن السور السبع الآتية في ج 2 بالحواميم، وآل حاميم، لأنها مبدوءة بلفظ حم. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى: «طسم» 1 القول في معناه كالقول في معنى الم وبقية الحروف المقطعة، وعلى القول بأن هذه اللفظة قسم من الله تعالى، فيقال إنه أقسم بطوله وسنائه وملكه، وعلى القول بأنها مفاتيح بعض أسمائه تعالى فهي مفتاح اسمه السلام والمالك والمحيي وشبهها، والصحيح أنه رمز بين الله ورسوله، راجع بحث الفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة «تِلْكَ» أي هذه الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 لكل شيء الظاهر إعجازه لكل أحد الدال على صحة نبوتك «لَعَلَّكَ» يا حبيبي «باخِعٌ نَفْسَكَ» البخع أن يبلغ الذابح البخاع وهو عرق مستبطن الفقار أو أقصى حد الذبح، ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن لا في سورة الكهف الآية 6 في ج 2، ولعلّ للإشفاق وتقال للتعطف على من تحبه إذا رأيته مبالغا بأمر يؤثر عليه مادة أو معنى شفقة عليه، أي مالك متلف نفسك من أجل «أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» 3 أي لا تفعل هذا بسبب عدم إيمان قومك بل تريث عليهم وتمهل على نفسك وارفق بها من أن تهلكها حسرة وأسفا وجهدا «إِنْ نَشَأْ» نحن إله السموات والأرض إيمانهم قسرا إجابة لاستعجالك «نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً» عظيمة تلجئهم إلى الإيمان حالا «فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها» للخوف من تلك الآية المهولة «خاضِعِينَ» 4 منقادين إلى الطاعة لا ينفكون عنها أبدا، فلا ترى منهم من

يميل إلى عصيانك ولكنّا لا نفعل ذلك لأن الإيمان الجبري لا عبرة به، ولو كان له قيمة لآمن يوم القيامة جميع الخلق لما يشاهدون من الأهوال، ولآمن كل من في الدنيا حين يقع في يأس أو بأس، فاتركهم الآن، لأن شأنهم شأن أمثالهم الكفرة من أمم الرسل السالفة، راجع تفسير الآية 8 من سورة فاطر والآية 171 من سورة الأعراف المارتين «وَ» هؤلاء «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ» قرآن يتذكرون به «مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ» إنزاله عليك وتلاوته عليهم بحسب الحاجة والواقع مما هو أزلي في علمنا «إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» مولين لا يلتفتون إليه، وهكذا كلما جدد الله لهم ذكرا ليتعظوا به، جددوا له كفرا وإعراضا «فَقَدْ كَذَّبُوا» بك يا حبيبي وبما أنزلناه عليك كما كذب الأولون أنبياءهم وكتبهم، فلا يهمنك تكذيبهم وإعراضهم «فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا» أخبار وعواقب «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 6 عند ما يمسهم عذاب الدنيا بالجلاء والأسر والقتل وعذاب الآخرة بالخزي والهوان والإحراق يعلمون نتيجة استهزائهم وعاقبة تكذيبهم، ثم ضرب مثلا لمنكري البعث بعد أن هددهم بما تقدم فقال جل قوله «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» 7 محمود كثير المنفعة بعد أن كانت لا شيء فيها قبل إنزال الغيث «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإنبات لأنواع الحبوب والأزهار والأب لقوت الإنسان والحيوان والطير والحيتان «لَآيَةً» كافية على قدرتنا لإحيائكم بعد الموت وعلى وجوب إيمانكم بنبيئنا وكتابنا: تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... بأهداب هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك والمراد بهذا النبات هو النرجس، ممن كان له عقل سليم عرف بمجرد تأمله وتفكره في ذلك عظمة القادر فآمن به وصدق رسوله وكتابه، وهؤلاء قليل «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» 8 لتوغلهم بالكفر وتماديهم في الضلال «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب القوي القادر على الانتقام منهم «الرَّحِيمُ» 9 بأوليائة يقيهم شر أعدائه وينصرهم عليهم ويهلكهم عند يأس أنبيائه من إيمانهم «وَ» اذكر لقومك

[سورة الشعراء (26) : الآيات 11 إلى 20]

يا سيد الرسل «إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى» من الشجرة كما مر في الآية 12 من سورة طه فقال له «أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» 10 أنفسهم بالكفر وبني إسرائيل بالعسف، ثم بين هؤلاء القوم بقوله اعني «قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ» 11 عقوبة الله فيؤمنوا به ويتركوا الإسرائيليين، وقد ذكرهم الله في هذه القصة علهم ينتبهوا من سباتهم فيخافوا العاقبة فيؤمنوا به «قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ 12 وَيَضِيقُ صَدْرِي» بتكذيبهم «وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» بسبب العقدة العائقة عن الفصاحة في النطق، وتقدم في الآية 28 من طه أنها في قوة التكلم لا في الجارحة نفسها وقد بينا هناك ماهيتها وسببها «فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ» 13 يعينني على التبليغ بمهابته وقوة نطقه «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ» بقتل القبطي منهم «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» 14 به قصاصا، وستأتي قصته مفصلة في الآية 14 من سورة القصص الآتية، «قالَ كَلَّا» لا يقتلونك ولا يضربونك أبدا فأنا حافظك منهم (نذكر بأن كلمة كلّا هذه المفيدة للزجر والردع كررت في القرآن العظيم ثلاثا وثلاثين مرة منها ما يجوز الوقف عليها ومنها ما لا يجوز) «فَاذْهَبا» اليه أنت وأخوك لأني آزرتك به حسب طلبك متلبسين ومتقوين «بِآياتِنا» التي هي النبوة والرسالة وبرهانهما اليد والعصا وهما أول ما أعطيهما موسى عليه السلام «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» 15 ما تقولانه له وما يقوله لكم، وقد أجراهما في الخطاب مجرى الجماعة تعظيما لشأنهما وجريا على لغة العرب المنزل هذا القرآن عليهم وإليهم ثم قال لهماَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا» لهِ نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» 16 إليك لم يئن الضمير هنا لأن معنى رسول هنا مرسل الله ورسالته، فإن كان بمعنى مرسل فلا بد من التثنية، وإن كان بمعني الرسالة وهو كذلك هنا فيكون وصفا والوصف يستوى فيه الواحد والجماعة، وهو معروف عند العرب قال كثير: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بشيء ولا أرسلتهم برسول أي برسالة وقال العباس بن مرداس صاحب علم حضرة الرسول، دفين دمشق، وقد سميت المحلة باسم (سنجقدار) صاحب العلم باللغة التركية وأداة النسبة فيها

فارسية، وضريحه أمام الجامع المسمى بجامع السنجقدار هناك وهو معروف تغمده الله برحمته ورضي عنه: ألا من مبلغ عنى خفافا ... رسولا بيت أهلك منتهاها أي رسالة بدليل تأنيث الضمير وهذا أظهر من الأول، وما قيل إن المراد بالرسول هنا موسى فقط، لأن هرون كان ردء له أي تبعا، يأباه سياق الآية بعد وسياقها قبل مما لا يخفى، أما من قال إنهما كالرسول الواحد لاتفاقهما واعتمادهما في الشريعة فله وجه، وما جرينا عليه أوجه، وقال لهما قولا له يا فرعون إن الله ربّنا وربّك أمرنا أن نبلغك «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» 17 فذهبا اليه وبلغاه فعرف فرعون موسى، لأنه نشأ في بيته، ولقد خاطبه ف «قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً» الوليد من قرب عهده بالولادة وكان كذلك حين صار الى فرعون كما مر في الآية 38 من سورة طه المارة «وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» 18 تحت رعايتنا وبينّت في الآية 21 من سورة طه مقدار هذه السنين وما بعدها «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ» من قتلك أحد رجالنا وهي حادثة معروفة لم ننسها بعد «وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» 19 لنعمتي يا موسى وحق تربتى، وتأتينا الآن بلا خوف ولا جزع وتزعم أنك رسول الله إليّ «قالَ فَعَلْتُها إِذاً» أي ذلك الوقت وأقر بالقتل ثقة بقول الله له حين قال آنفا (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، قالَ كَلَّا) ثم قيد فعل القتل بما يدفع كونه قادحا بالنبوة بقوله: «وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» 20 الجاهلين لأنه كان دون الثالثة عشرة من عمره، ففي هذا السن لا يؤاخذ على الجريمة وهو كذلك، أي ذلك وقع من زمن صباوتي قبل استكمال عقلي فضلا عن أني لم أتعمد قتله، لأني وكزته بيدي بقصد الارتداع من التعدي على الإسرائيلي، ولم أعلم أن تلك الوكزة تفضي لموته «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ» ان تقتلون به مع أني لا أستوجب القتل، ولكن علمت أنكم لا تفرقون بين المستحق من غيره خاصة في بني إسرائيل، لأنكم لا تدينون بدين سماوي وإن شريعتكم بحسب هوى أنفسكم، لذلك هربت منكم، وإني حقيقة تربيت في بيتك ولك عليّ حق التربية وأعترف بنعمتك علي، ولهذا أوصاني ربي أن أستعمل معك اللين جزاء لحقك،

[سورة الشعراء (26) : الآيات 21 إلى 30]

ومن حق تربيتك لي وجوب إرشادي إليك مكافئة لك، راجع الآية 43 من سورة طه، ثم أعلم أن الله تعالى علم نيتي فغفر لي جريمة القتل لأني فعلتها عن غير قصد حال صغري، ثم تلطف بي وعطف علي «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» وأهلني له، وأوله بعضهم بالعلم أي أزال عني الجهل، وبعضهم بالنبوة، وظاهر القرآن يؤيد الأول وعليه المعول «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» 21 إليك وإلى قومك وإلى بني إسرائيل «وَتِلْكَ» التربية «نِعْمَةٌ تَمُنُّها» تمن بها من باب الحذف والإيصال «عَلَيَّ» وجدير أن تجازى بها خيرا لو لم يكن ذلك بسبب «أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» 22 قومي وأذللتهم وذبحت أولادهم خوفا على ملكك، ولولا هذا لما جعلت بين يديك ولم أكن في مهد تربيتك لأني صرت إليك بسبب ذلك، وعبّد بمعنى ذلل واتخذ عبدا، ولهذا المعنى قال موسى «تَمُنُّها» على طريق الاستفهام الإنكاري، وجاز فيه حذف حرف الاستفهام على حد قول عمر بن عبد الله ابن ربيعة: لم أنس يوم الربيع وقفتها ... وطرفها من دموعها غرق وقولها والركاب وافقة ... تتركني هكذا وتنطلق أي أتتركني، فيكون المعنى، أتمني على تربيتي وتنسى جنايتك على بني إسرائيل الذين اتخذتهم عبيدا وعاملتهم بالقسوة ولم تقم لهم وزنا، وقد قتلت المئات منهم حرصا على ملكك ولم تراقب من أعطاكه، وقد منعك الله من قتلي لتكون نهايتك على يدي، وانك لو لم تسفك تلك الدماء وتتركني لما صرت إليك وصار لك هذا الفضل علي ولربّاني أبواي «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» 23 سؤال عن الجنس أي أي شيء هو، ولما كان الله منزها عنه عدل موسى على جوابه الى ذكر أفعاله تعالى وآثار قدرته المعجزة «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» 24 بأنه خالق ذلك، فاعلموا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته، فيكفي خلق هذه الأشياء دليلا عليه إن كنتم تعرفون الشيء بالدليل، وإذا كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي اليه النظر الصحيح، لنفعكم هذا الجواب، ولكن أين الإيقان من فرعون وجماعته، وقال أهل المعاني كما توقنون

[سورة الشعراء (26) : الآيات 31 إلى 40]

هذه الأشياء التي تعاينونها، فأيقنوا أن إله الخلق هو الذي خلقها وأوجدها، فتحيّر فرعون من جواب موسى والتفت الى قومه «قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ» من ملئه وأشرافهم «أَلا تَسْتَمِعُونَ» 25 جواب موسى، اسأله عن ماهية ربه فيجيبني عن آثاره، فلما سمع كلامه زاده بيانا «قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» 26 فإن لم تستدلوا عليه بآبائكم فاستدلوا عليه بأنفسكم، وإنما قال هذا موسى لأن فرعون ادعى الربوبية على أهل عصره فقط فاغتاظ فرعون إذ عرّض به موسى أمام قومه وجعله من جملة المربوبين، وهو يزعم أنه إله لهم فصار يندد بموسى أمامهم ليموه عليهم «قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» 7 2 بظنه وجود إله غيري وإعطائه الجواب على خلاف السؤال، فالذي لا يفهم وجوه الإجابة على مقتضى السؤال كيف يدعي الرسالة لمن يزعم أنه إلهه، ثم زاده بيانا بالعظمة «قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» 28 أجوبتي الدالة على أفعال ربي وصفاته، ولا جواب لسؤالكم إلا ما ذكرته، فإذا عقلتم تلك الأجوبة عرفتم الحقيقة. ولما رأى فرعون شدة عزم موسى وقوة حزمه وأنه لا يجارى بالمناظرة وأن أجوبته مبنية على حكم بالغة عدّده بقوله «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» 29 والسجن عند فرعون أشد عذابا من القتل، لأنه يأمر بإلقاء السجين في هوة تحت الأرض لا يبصر فيها ولا يسمع، وإنما أقسم وتوعد لانه خاف أن يستميل قومه بما ذكر من البراهين على إلهه وبالحجج القاطعة على أسئلة فرعون الدافعة لحجته، وليظهر لقومه أنه قادر على إفحام هذا الرسول وقتله، وليبين لهم أن لا إله غيره، كما يذكره لهم، ولما سمع كلامه موسى ورأى ان بلغ فيه الغضب مبلغه خاطبه «قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ» 30 ظاهر يدل على رسالني وإثبات ما قلته لك أتسجنني ايضا؟ وهذا سكون إلى الإنصاف وإجابة للحق، ومن أكمل أخلاق البشر الحسنة وأحاسن الآداب الكريمة، فركن فرعون لقوله حتى زال ما به «قالَ» ما هو هذا الشيء الذي تأتيني به «فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 31 في قولك وإلّا سجنّاك، وإنما قال له هذا خشية من انتقاد قومه له الذين تطاولت أعناقهم إلى

ما سيجيء به موسى «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» 32 ظاهر لا ريب فيه، روي انها ارتفعت قدر ميل في السماء ثم انحطت مقبلة الى فرعون، فالتجأ لموسى وقال له بحق الذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا كما كانت، ولما ركد ما بفرعون وقومه من الفزع، قال يا موسى هل لديك آية غير هذه؟ قال نعم «وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» 33 قيل صار لها شعاع يغشى البصر فعند ذلك «قالَ» فرعون «لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» 34 فائق به لأنه أرانا عصاه حية، ثم أرانا سمرة يده بياضا ناصعا، وإنه بهذه الشعوذة يا قومي «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» التي ملكتموها بدمائكم «بِسِحْرِهِ» هذا الذي رأيتم مدعيا أنه رسول لآله السموات والأرض وما فيهما، وأنا لا أعلم أن لذلك إلها غيري وأنتم تعلمون أني إلهكم «فَماذا تَأْمُرُونَ» 35 أن أعمل به وهو من عرفتم حين كان تحت تربيتي ولما شب قتل رجلا منكم وهرب خوفا من أن أقتصّ به منه، قال لهم هذا على طريق التنفير منه لما بهره من سلطان المعجزة الذي أنساه دعوى الربوبية، فحط نفسه لاستمالة قومه بقتله، ولكنهم ظهروا بمظهر أرقى ومزية أعلى مما دعته اليه نفسه الخبيثة، فأجابوه بما حكا الله عنهم «قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ» أخرهما لا تعجل بقتلهما ولا تعاقبهما حتى يظهر كذبهما الى الخاص والعام من النهي، لئلا يسيء عبيدك فيك ظنّهم، فيقولوا يقتل على غير بينة، قال كيف، قالوا اختبرهما وامتحنهما فإذا ظهر كذبهما تصير معذورا بقتلهما، فلا يقولون انك قتلتهما بغير ذنب، وهذا رأي سديد ونصح صحيح، ولهذا قال سعيد بن جبير للحجاج لما استشار جماعته بقتله وصوبوا رأيه، قال له: وزراء أخيك فرعون احسن من وزرائك، لأنهم أشاروا عليه بما يمنع الناس من ذمه. هذا، ولما قيل إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أقتل عبد الله بن أبي بن سلول قال لا، لئلا يقال إن محمدا يقتل أصحابه، بما يدل على ان وزراء فرعون كانوا على نهاية من التدبير والسياسة للرعية والصدق لملكهم والخوف عليه من سوء السمعة، فيا ليت وزراء الإسلام يغارون دائما على البلاد والعباد ويصونون كلهم ملكهم مما يشوبه، ثم قالوا له «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 41 إلى 50]

حاشِرِينَ» 36 شرطة يجمعون العارفين بالسحر وأمرهم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» 37 منهم ما هو بالسحر، ثم تأمرهم أن يتباروا مع موسى وأخيه، وإذ ذاك يظهر لقومك كذبهما فتقتلهما بلا لوم عليك ولا تهتم بأمر آخر، فاستصوب رأيهم ولم يرده مجازاة لهم، لأنه يعلم ان لا فائدة منه لما يعلم من حقيقة موسى، فبعث الحاشرين «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» 38 هو يوم عيدهم، وتقدمت القصة مفصلة في الآية 56 من سورة طه المارة فراجعها «وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ» 39 لننظر ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة فنادى مناديه في الناس ان اجتمعوا فاجتمعوا وقال لهم على طريق السخرية «لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ» يعني موسى وأخاه «إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» 40 ومن فسر السحرة بالسحرة الذين أحضرهم، قال لم يرد انه يتبع السحرة وإنما يقصد الإعراض عن موسى وأخيه، والأول أولى «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» 41 لموسى وأخيه «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» 42 لدي جاها ومالا وأول الناس دخولا علي «قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» 43 وذلك بعد أن خبروه كما تقدم في سورة طه «فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» 44 لموسى وأخيه وأروا الناس ما هالهم وفرح فرعون وملؤه وقومه «فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» 45 ممّا يخيلونه للناس من قلب عصيهم حيات وأخشابهم حبالا، وحبالهم أفاعي، أي ابتلعت جميع إفكهم وعادت كما هي عصيا وحبالا وأخشابا، وعصا موسى عصا أيضا كما كانت قبل الإلقاء. مطلب الحكمة من قوله تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) : تنبىء هذه الآية الكريمة عن قضية فنية، وهي لما كانت الحبال والعصي ليست بإفك بل هي من خلق الله حقيقة، فإن حية موسى لم تلقفها، بل التقفت الزئبق الذي طلي بها الذي هو من صنع السحرة، إذ وضعوه بين تجاويف الحبال والعصي وطرحوها في الأرض قبل بزوغ الشمس، فلما طلعت وأثرت حرارتها في الزئبق تحركت وصاروا يدمدمون عليها صورة، حتى سحروا أعين الناس وأروهم إياها

أفاعي وحبالا، فلما ابتلعت عصا موسى بقدرة الله ذلك الزئبق منها وأزال الله ما خيّلوه للناس، عادت على حالها، ففضحهم الله وأظهر شعوذتهم وإنما لم ينكروا ما رأوه لأن الحيات من عادتها أنها تبلع ما تراه من عصي وغيرها، ويوجد الآن في البرازيل حيات تبلع الجمل، والابتلاع من طبعها، والعقل لا يصدق أن العصي والحبال تبلع شيئا، وإنما امتصاص الزئبق الذي في تجاويف تلك الحبال والعصي هو الذي يصدقه العقل، فكان إبطال حركة العصي والحبال بسبب ذلك الامتصاص، وهذا مما يركن إليه العقل وهو من اكبر الأدلة على إعجاز القرآن وأكملها، فقد جمع فأوعى، وهذه الحكمة في قوله تعالى تلقف ما يأفكون، وجاء في الآية 69 من سورة طه (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) أي الذي صنعوه في العصي والحبال من إلقاء الزئبق فيها، وهو المراد بالإفك هنا، وذلك أن الله تعالى جعل قوة مادية في عصا موسى تلقف ما موهوه في عصيهم وحبالهم، قال تعالى «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ» 46 الله تعالى إذ ظهر لهم أن فعل عصا موسى جاوز حد السحر، ولذلك فإنهم لم يتمالكوا أنفسهم فسقطوا على الأرض سجدا، إذ تيقنوا أن أمر موسى سماوي «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ 47 رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» 48 خصوهما بالذكر لدفع توهم إرادة فرعون من دعواه الإلهية وجهل قومه الذين يدعون إلهيته، ولو وقفوا على رب العالمين فقط، لقال فرعون إياي يعنون ليموّه عليهم «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالإيمان به «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» فتواطأتم معه عليه، وقد جاء في آية الأعراف المارة عدد 113 (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) قبل حضوركم مكان الاجتماع، وانما قال هذا يلبس على قومه انهم لم يؤمنوا على بصيرة ثم بدأ يهددهم فقال «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 49 وبال فعلكم هذا، ثم أقسم وأكد قسمه بقوله «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» 50 مر تفسير مثله في الآية 123 من الأعراف «قالُوا لا ضَيْرَ» لا ضرر فيما ينالنا من عذابك، لأنه منقطع في الدنيا «إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» 51 رحمته الدائمة في الآخرة مؤمّلين عفوه عما صدر منا ونجاتنا من عذابه الأليم الدائم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 51 إلى 61]

«إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا» من الكفر والسحر «أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» 52 في هذا المشهد العظيم بأن الله هو رب العالمين لا أنت ولا غيرك وتقدم بسورة الأعراف وطه بما هو أوسع من هنا فراجعهما. مطلب في السحر وكيفية إهلاك قوم فرعون: واعلم أن السحر مأخوذ من السحر وهو ما بين الفجر الأول والثاني، وحقيقة اختلاط الضياء بالظلمة، فما هو بليل لما خالطه من أضواء الصبح، ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار فكذلك فعل السحر ليس بباطل محقق فيكون عدما لأن العين أدركت أمرا لا تشك فيه، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه، لأنه ليس هو في نفسه كما تشهده العين وبظنّه الرأي، قال الشعراني بعد ما نقل هذا عن بعض الأكابر: كلام نفيس ما سمعنا مثله قط. راجع تفسير سورة الفلق والناس تجد بحث السحر في صورة مسهبة، وله صلة في الآية 101 من سورة البقرة في ج 3 قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل وذلك بعد سنتين من ايمان السحرة، بعد أن أيس من ايمان فرعون وقومه، إذ لم تؤثر فيهم الآيات المارة 129 فما بعدها من سورة الأعراف «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» 53 من فرعون وقومه بعد خروجكم من مصر ليحولوا بينكم وبين مهاجرتكم، فبلغ موسى قومه أمر ربه، فأطاعوه وخرج بهم ليلة عيدهم، وكانوا استعاروا من القبط حليهم ليتزيّنوا به، فلما أحس فرعون بخروجهم قال لقومه ذهب موسى وقومه بأموالنا «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» 54 ليجمعوا الناس، ولما احضروهم قام بهم خطيبا فقال «إِنَّ هؤُلاءِ» يشير لموسى وقومه إذ نزلهم منزلة الحاضرين المشاهدين لكمال معلوميتهم عندهم، وهو فريد من بديع الكلام المشتمل عليه كتاب الله الذي لا أبدع منه «لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» 55 قال ابن مسعود كانوا ستمائة الف وسبعين الفا (على ان ابن خلدون قال في مقدمته إنهم دون هذا العدد بكثير» وإنما قللهم فرعون ليقوي معنويات قومه وجبشه بالنسبة للجيش الذي حشده عليهم، قالوا كانوا الف الف وخمسمائة الف فساقهم أمامه وخرج وراءهم بمائتي الف ملك مع كل ملك الف رجل، والشرذمة الطائفة

القليلة، وإنما أكدها بقوله قليلون، باعتبار أنهم أسباط، وكل سبط قليل عنده فجمع قليل على قليلين، وانما أوقع الله في قلب فرعون هذا ليتم مراده فيه، ويجعل كيده في نحره، ويكون كالباحث عن حتفه بظلفه، وقال في خطبته «وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ» 56 مغضبون مضيّقون صدورنا لمخالفتهم أمرنا، وخروجهم دون إذننا، وأخذهم أموالنا مع قلتهم وذلّتهم «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» 57 والحذر من عادتنا والتيقظ والاحتراز، واستعمال الحزم، وأخذ الأمور بالعزم والصبر على الشدة ديدننا، ومن مقتضى المخلين بالأمور الضرب الشديد عليهم، وعلى القوي دائما أن يتقي الأمة الضعيفة إذا خرجت عن سلطانها من أن ينضم إليها ما هو من جنسها، فتشكل قوة يخشى منها، ولذلك علينا أن نسارع إلى قمع شوكتهم، وحسم مادة التشوف لأمثالهم، حتى يعرف كل واحد مكانه ولا يتعدى طوره، فنقابل جرأتهم هذه بالقوة، لئلا يقدم مثلهم فيما بعد على مثل عملهم هذا. فأظهر لهم بخطابه قوة شكيمته وأغراهم حتى أخرجهم جميعا من بلادهم ولحقوا بموسى وقومه ليردوهم إلى مصر ويضيقوا عليهم أكثر من ذي قبل انتقاما منهم، قال تعالى «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 58 من بلادهم الموصوفة بذلك «وَكُنُوزٍ» من ذهب وفضة تركوها فيها وإنما سماها الله كنوزا لأنهم لم يؤدوا حق الله منها وكل مال هذا شأنه يسمى كنزا، قالوا كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» 59 مجلس حسن بهي بهيج، قالوا وكان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من الذهب يجلس عليها أشراف قومه وأمراؤهم وهم ملأوه أهل الحل والعقد من وزراء ووكلاء وما ضاهاهم مغشاة بأقبية الديباج «كَذلِكَ» كان فرعون وملأوه من العظمة والأبهة، ولما لم يشكر الله على ما أولاه من ذلك المقام، وكفر هذه النعمة وادعى الإلهية فوقها، سلبنا ذلك كله منه ومن قومه «وَأَوْرَثْناها» أي الجنان والكنوز والمقامات وغيرها «بَنِي إِسْرائِيلَ» 60 حيث رجعوا إلى مصر بعد إغراق القبط واستولوا على ديارهم وأموالهم، قال تعالى حاكيا كيفية إغراقهم على الإجمال «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ» رأى قوم فرعون

[سورة الشعراء (26) : الآيات 62 إلى 71]

قوم موسى لأنهم جدّوا السير في لحوقهم، ورأى قوم موسى قوم فرعون «قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» 61 من فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم وذلك لشدة خوفهم منهم لأنهم نشأوا أرقاء عندهم وتوطنت نفوسهم على الذل واشرأبت قلوبهم من سطوتهم فيه وغشيهم الهوان «قالَ» موسى ثقة بوعد ربه «كَلَّا» لن يدركونا ابدا «إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» 62 طريق النجاة منهم فقالوا أين نذهب وقد أدركونا، فلو تركننا بمصر نموت بخدمة فرعون وندفن في أرضه، تريد يا موسى أن تميتنا في هذه البادية؟ وطفقوا يلومونه وهو يأمرهم بالصبر ويعدهم بالنصر وهم يتولون ويقولون قد أدركنا القوم الآن يقتلوننا ولم يقدروا أنّ ما كانوا فيه من الاحتقار والاسترقاق من فرعون وقومه أشدّ من القتل، قال عطاء بن السائب: كان جبريل عليه السلام بين بني إسرائيل وآل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق أولكم آخركم، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم، فصار بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وقوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن رقة من هذا الرجل، وقد صدقوا جميعا، إذ لا أحسن منه إلّا الأنبياء وهو سيد الملائكة فلما انتهى موسى بقومه الى بحر القلزم قيل هو بحر وراء مصر يقال له أساف قال له مؤمن آل فرعون وكان دائما بين يدي موسى هذا البحر أمامك، وقد غشيك القوم فإلى أين أمرت؟ قال الى البحر، إلا اني لا أدري ما أصنع، ولم أسأل ربي بعد ان أمرني بأن أتجه نحو البحر، إذ ما علي الا الامتثال، وقد قال لى سيأتيك أمري. قال آمنت بأن ربك سيجعل لك مخرجا ولم يتم كلامه حتى نزل وحي الله وهو «فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ» بدلالة الفاء الدالة على التعقيب، روي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعلّمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق البحر، قلت بلى يا رسول الله، قال قل اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بالله، قال ابن مسعود ما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلينا أن نحفظها ونقولها صباح مساء وعند كل ضيق وحاجة. فدعا عليه السلام بما ألهمه الله من هذه

مطلب انفلاق البحر وأخلاق موسى عليه السلام وان كل آية لقوم هي آية لأمة محمد عليه السلام:

الكلمات وغيرها مستغيثا بربه الكريم ثم ضرب البحر «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» 63 الفلق والفرق القطعة من الشيء، ويقال فرق باعتبار الانفصال كالفرقة من القوم، وفلق باعتبار الانشقاق كالقطعة من الجبل، والطود الجبل، ووقف الماء بين الطرق التي شقها الله منه كالجبال الشامخات لعمق الماء وظهرت الأرض يابسة بينها كأن لم يكن فيها ماء، فسار كل سبط تجاهه، روي أن البحر انفلق فيه اتنا عشر طريقا وسلك كل سبط واحدا، وقال السبط الذي معه موسى اين جماعتنا؟ قال امشوا لكل منهم طريق مثلكم يمشون فيه، قالوا لا حتى نراهم لعلهم غرقوا، وأكثروا اللفظ على موسى حتى توقفوا عن السير، وقد أدركهم فرعون وقومه إذ دخل أولهم البحر، فرفع يديه الى ربه وقال اللهم أعني على أخلاقهم الفاسدة، فأمر الله البحر ففتح في كل فرق كوة حتى صار القريب يرى قريبه، والرجل يرى زوجته من السبط الآخر فبادروا بالسير حتى عبروا الى جهة الشام. مطلب انفلاق البحر وأخلاق موسى عليه السلام وان كل آية لقوم هي آية لأمة محمد عليه السلام: وما قيل ان انفلاق البحر كان قوسيا وأنهم خرجوا من الجهة التي دخلوها لا دليل له عليه غير انكار قدرة الله لأن القائلين بهذا لا يعترفون بقدرة الله ويريدون بقولهم هذا ان البحر انحسر بعادة المد والجزر، فدخلوا فيه من جهة انحساره وخرجوا من نفس الجهة من طرف الانحسار لآخر، قاتلهم الله فلو كان كما يقولون لما نجوا من فرعون وقومه، بل لخرجوا معهم لأن المد والجزر يكون من جهة واحدة، وما قيل ان المسالك ثلاثة عشر لا برهان له عليه، ويريد صاحب هذا القول ان لموسى وأخيه مسلكا على حدة، وليس كذلك، لأن موسى في الأسباط لهذا فان ما ذهبنا اليه هو الواقع والموافق لما هو عند أهل الكتاب في كتبهم، ولا نص يكذّبه وجل الآثار والأخبار يشهد بصحته، ومن أصر على الخلاف فعليه الدليل والنقل الصحيح ولا أراه فاعلا والله أعلم، قال تعالى «وَأَزْلَفْنا» قربنا «ثَمَّ» هناك في البحر بعد أن شققناه ودخله قوم موسى «الْآخَرِينَ» 64 فرعون

وقومه وأغريناهم بدخوله لتكون الملامة في الظاهر على فرعون، لأنه هو الذي ساقهم الى هذا والله تعالى قد أهلكهم في أزله على هذه الصورة، ولو تقاعسوا عنها لقسرهم عليها، ولكن سبق في الكتاب أن يكونوا مختارين، قالوا إن فرعون أغرى قومه بالدخول وإياه هو، إلا ان حصانه الجأه لأن الخيل أمامه عطف ففسره على اقتحام طريق البحر ليتم مراد الله، حتى إذا كمل دخولهم آذن الله البحر بالالتئام وقرىء وازلقنا بالقاف وعليه يكون المعنى أذهبنا عزهم قال: تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ ذلّت بأقدامها النعل لأن زلق بمعنى زلّت رجله وتنحى عن مكانه قال تعالى «وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ» 65 لم يغرق ولم يمت أحد منهم «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» 66 فرعون وقومه أجمعين لم يفلت واحد منهم، وحذف التأكيد من الجملة الثانية لدلالة الأول عليها راجع الآية 15 من سورة الأعراف، وجاء العطف بثم للتراخي لأن الله تعالى أمهل البحر حتى لم يبق واحد من بني إسرائيل فيه، كما لم يبق من قوم فرعون أحد خارجه، ثم أطبقه عليهم،، اعلم أن ثمة تكتب بالتاء لئلا تلتبس وتقرأ بفتح الثاء من غير تاء وصلا وبالهاء وقفا والقراءة على غير هذا الخط من الغلط وهي بمعنى هناك قالوا وقد سمع الاسرائيليون جلبة عظيمة، فقالوا يا موسى ما هذه؟ قال البحر أطبق على فرعون وقومه فرجعوا ينظرون لضعف ايمانهم، فرأوا جثثهم عائمة، وشاهدوا فرعون نفسه بينهم، فصدقوا ورجعوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» الانفلاق والإنجاء «لَآيَةً» عظيمة ظاهرة لإيمان من يؤمن كافية عن طلب غيرها «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» 67 إذ لم يؤمن من آل فرعون الّا زوجته آسية بنت مزاحم، ومريم بنت ناموشا التي دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، حتى أخذه معه حين خروجه من مصر وخزقيل مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله قصته في الآية 28 فما بعدها من سورة المؤمن في ج 2، «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 68 الغالب المنتقم من أعدائه الودود الرءوف بأوليائه، وفي اسم الإشارة في ذلك والضمير في أكثرهم إشارة إلى أنه يجب على قومك يا محمد الإيمان بالله وأن يعتبروا بما وقع على أمثالهم، ومع هذا فلم يؤمن منهم إلا القليل بك، وهذا ما يقتضيه سياق التنزيل، لا سيما وقد كررت هذه الآية في هذه السورة ثماني مرات بعد هاتين القصتين، وعقب كل قصة من القصص الست، الآتية، بما

يدل على أن المراد بالأكثر من لم يؤمن من أمة كل نبي، كما ثبت بأن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون في قصة محمد صلّى الله عليه وسلم وأمته المذكورين أولا، وفي قصة موسى وقومه وفي كل قصة من القصص الآتية كقصة ابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب، فتكون كل قصة عبرة لقوم النبي الذين شاهدوها بالدرجة الأولى وبالدرجة الثانية هي عبرة وآية لمن جاء بعدهم من الأمم، وعليه فتكون كلها عبرة لقوم محمد صلى الله عليه وسلم علاوة على ما رأوه من الآيات على يده، لأنهم سمعوها من لسان محمد صلّى الله عليه وسلم وسماعها منه مع أنه أمي آية على نبوته، موجبة للإيمان به على من يسمعها من أمته، لأنها بالوحي الإلهي، وبهذا التوفيق يحصل التلاؤم التام بين من جعل الآية لكل نبي خاصة بقومه ومن جعلها كلها خاصة لقريش. تدبر هذا، فقل أن تقف عليه أو تصادف مثله وهو جواب كاف شاف في إرجاع ضمير أكثرهم، لأن منهم من أرجعه إلى القبط، ومنهم من أعاده لقوم موسى، ومنهم من جعله خاصا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الصحيح الجامع لكل هذه الأقوال ما ذكرته لك فاغتنمه، لأني لخصته من عدة صحائف من كتب التفاسير المطوّلة والمختصرة التي لا يتمكن كل أحد من فهم المطلوب منها المجمع عليه إلا بأيام بل بأشهر لمن كان له وقوف وإلمام بعلم التفسير، وتجد مثل هذا كثيرا في تفسيري هذا لأني والله الذي لا إله إلا هو أقضي الأيام والليالي في التحري على مسألة واحدة، وكم أنام مهموما لعدم الوقوف عليها حتى إذا يسرها الله لي سجدت شكرا لله تعالى وكأني أعطيت الآخرة، أما الدنيا فهي بما فيها تساوي عندي حرفا واحدا، ومن عظيم نعمة الله علي أني أرى أحيانا ما أتوقف عنه في منامي، فأراجعه فيظهر لي كما رأيته، ولله الحمد والمنة، أقول هذا تحدثا بنعمة الله لا فخرا ولا رياء ولا سمعة، ولعل القارئ نظر الله إليه أن ينتبه لهذا فيدعو لي ويطلب لي العفو إذا رأى وتحقق لديه ما قاسيته في هذا التفسير، الذي لم أسبق إليه والحمد لله على توفيقه ولطفه. قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا أكرم الرسل «نَبَأَ إِبْراهِيمَ» 69 قصته كما تلوت عليهم قصتك وقصة موسى «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ» آزر ويسمى تارخا من قرية من سواد الكوفة واسم أمه مثلى ولا خلاف باسم أبيه هذا، وإنما الخلاف في كون

[سورة الشعراء (26) : الآيات 72 إلى 81]

آزر على وزن آدم أو يازر لقبا له أو اسما آخر، وما قيل إنه اسم عمه يأباه لفظ التنزيل لأن الله تعالى ذكر الأب أبا والعم عمّا فمن أين لنا أن نقول عمه بعد أن يقول الله تعالى أباه، ونصب أباه هنا على تضمين القول معنى الذكر لانه لا ينصب إلا الجمل «وَقَوْمِهِ» قوم آزر أبيه وهو اسمه الحقيقي المصرح به في الآية 75 من سورة الانعام في ج 2، وما قيل إنه مجاز عن عمه لا عبرة به، لان الحقيقة إذا صحت لا يجنح عنها إلى المجاز «ما تَعْبُدُونَ» 70 أي شيء تعبدونه مع علمه عليه السّلام أنهم يعبدون الأصنام، ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة «قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» 71 مكبين عليها ليل نهار، ومن خص العبادة بالنهار دون الليل استدل بلفظ فظل لأنها مأخوذة من الظل، وهو لا يكون إلا نهارا، راجع ان ظل هنا معناها الدوام والبقاء ولا مخصص لها في النهار، وكان يكفي لجوابهم الاختصار على (أَصْناماً) وإنما أطنبوا افتخارا وابتهاجا بها ورغبة ومناوأة لقوله (ما) الدالة على ما لا يعقل فكان جوابهم على خلاف السؤال على حد قوله: (وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الآية 120 من البقرة في ج 3، وقوله تعالى (ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) الآية 24 من سورة سبأ ج 2، وقوله (ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) الآية 30 من النحل في ج 2، ومثله كثير في القرآن، فهم زادوا نعبد مع أنهم لم يسألوا عن العبادة بل سئلوا عن المعبود، وزادوا جملة فنظل إلخ بقصد المباهاة «قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ» 72 هذه الأصنام فيجيبوا دعاءكم «أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ» بزيادة الرزق والولد إن عبدتموهم «أَوْ يَضُرُّونَ» 73 كم إن تركتم عبادتهم «قالُوا» وقد لزمتهم الحجة فاعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر «بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ» مثل هذا «يَفْعَلُونَ» 74 وقد قلدناهم واقتدينا بهم، مع علمنا بعدم إنصافهم بذلك. مطلب إيمان المقلد والفرق بين الوثن والصنم: وفي هذه الآية إشارة إلى أن التقليد في الدين مذموم، إذ يجب الأخذ بالاستدلال إذا كان من أهله، وإلا فيكفيه أن يقلّد من يعتقد بصحة دينه، ويكون آثما

بترك التعليم، لأن العلم الضروري واجب على كل مسلم ومسلمة، وان قال صاحب بدء الأمالي في منظومته: وإيمان المقلد ذو اعتبار ... بأنواع الدلائل كالنصال بما يدل على اعتباره عقيدة وهو كذلك، ولكنه لا ينفي إثم عدم التعليم، قال صلّى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم- ويشمل ذلك كل مسلمة- حتى أن الله تعالى استثنى طالب العلم من الجهاد وهو أحد أركان الدين، راجع الآية 134 من سورة التوبة في ج 3 «قالَ» لهم ابراهيم عليه السلام «أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ» 75 أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ 76 فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» وحد الخبر على إرادة الجنس وسمى الأصنام أعداء وهي جمادات استعارة، لأنهم نزولها منزلة العقلاء وقال عليه السّلام (لي) تعريضا لهم لأنه أنفع في النصح من قوله عدو لكم ليكون أدعى للقبول، ولأنهم على هذا يقولون ما نصحنا إلا بما نصح نفسه وما أراد لنا إلا ما أراد لنفسه، ولو قال لكم لم يكن بتلك المثابة كما لا يخفى على بصير. ومن هذا القبيل الآية الآتية من سورة يس المارة إذ أضاف القول فيها لنفسه وهو يريدهم. حكي أن الشافعي رحمه الله واجهه رجل بشيء فقال له لو كنت بحيث أنت لا حتجت الى أدب. والعدوّ والصديق يجيئان بمعنى الواحد والجماعة قال تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) الآية 51 من سورة الكهف في ج 2 والصنم ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره، والوثن يطلق على كل ما يعبد من دور الله ناميا أو غير نام حساسا أو غير حساس، فهو أعم من الصنم، ثم استثنى مما عمم فقال «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» 77 استثناء منقطعا لعدم دخوله تحت لفظ الأعدا أي لكن رب العالمين ربي ووليي المستحق للعبادة «الَّذِي خَلَقَنِي» من العدة ووفقني لدينه القويم «فَهُوَ يَهْدِينِ» 78 الى طريق النجاة هداية تدريجية من الولادة الى الوفاة، أولها هدايته الى مصّ الثدي وآخرها الى الطريق الموصل الى الجنة، وما بينهما الى جلب المنافع ودفع المضار «وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي» مما خلقه لي من الأرض وأنزله من السماء من غير حول لي ولا قوة «وَيَسْقِينِ» 79 من الماء الذي ينزل من السماء فيسلكه في الأرض التي هي أصله «وَإِذا مَرِضْتُ» أسند المرض له عليه السّلام تأدبا مع ربه.

مطلب أكثر الموت من الأكل والشرب والحر والقر ومحبة الذكر الحسن:

مطلب أكثر الموت من الأكل والشرب والحر والقر ومحبة الذكر الحسن: ذلك لأن أكثر أسباب المرض وإن كانت في الحقيقة من الله، إلا أنها تحدث من التفريط في الأكل والشرب وعدم الوقاية من الحر والبرد، وفيه قيل: فان الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وقال بعض الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم، لقالوا من التخم، وكثير من الناس لا يرون المرض إلا مرض الموت ويكون أيضا ممّا ذكر إلا القتل أو التردي أو التسمم والحرق والغرق وشبهه، وكل ذلك بتقدير الله تعالى وإرادته ليقع قضاؤه حيث قدره، وقد راعى عليه السّلام حسن الأدب بهذا وبغيره، حتى أنه لم يقل أمرضني، ولا آدب من الأنبياء، لأن الذي نبأهم هذّبهم «فَهُوَ يَشْفِينِ» 80 لأن الشفاء نعمة منه والمنعم بكل النعم هو الله وحده، وهكذا الخلص ينسبون الخير الى الله والشرّ لأنفسهم، قال الخضر عليه السّلام (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وقال (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما الآيتين) 80 و 81 من سورة الكهف في ج 2 ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 78 من سورة النساء في ج 3 وكذلك مؤمنو الجن راعوا الأدب مع ربهم، راجع الآية 10 من سورة الجن المارة فما بعدها «وَالَّذِي يُمِيتُنِي» بانقضاء أجلي في الدنيا، ولا يرد إسناد الموت لله على ما قلنا، لأن الفرق ظاهر ولأن الموت قضاء محتم لا بد منه «ثُمَّ يُحْيِينِ» 81 في الآخرة وهذا تعليم لهم بالاعتراف بالبعث بعد الموت «وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» هي قوله لقومه حين أرادوه أن يذهب معهم الى بيت الأوثان (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية 90 من الصافات في ج 2 وقوله حينما سألوه عمن كسر أصنامهم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية 62 من الأنبياء في ج 2 وقوله للجبار حين سأله عن سارة (قال أختي) وأراد أخته في الدين وإلا فهي زوجته، وقد عدها خطايا بالنسبة لمقامه الشريف وقربه من ربه، وإلا فليست بخطايا وانما هي من معاريض الكلام لدى غير الأنبياء، وقد يعدها العارفون الكاملون خطايا أيضا بالنسبة لمقامهم، لأنهم على قدم الأنبياء، وعلى حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهؤلاء يسمون أمثالها خطايا تواضعا لربهم وتعظيما

لأنفسهم، وتعليما للغير بطلب المغفرة عما صدر منهم، «يَوْمَ الدِّينِ» 82 الذي يدان به الناس عما عملوه في دنياهم فيجازون عليه، روى مسلم عن عائشة قالت قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضعيف وبطعم المسكين أكان ذلك نافعا له؟ قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما (رب اغفر لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) . وفي هذا كله يشير عليه السّلام الى قومه بأنه لا يصلح للالهية إلا من يفعل هذه الافعال ولما أيس منهم باعلام الله تعالى إياه هجرهم ونحى نحو ما أمره به ربه وقال «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» لأستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق «وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» 83 الأنبياء قبلي في درجتهم ومنزلتهم عندك «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» 84 من بعدي بأن أذكر لديهم بخير من ثناء حسن وحسن سمعة، وقد أجيبت دعوته لأن أهل الأديان يثنون عليه خيرا ويعظمونه وكل أمة تحبّه، وذكر اللسان بدل القول لأنه يكون به ولا حاجة لتقدير مضاف أي صاحب لسان كما قاله بعض المفسرين، لأن الثناء يكون باللسان وغيره قال: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا والجزء يطلق على الكل: ويحتمل أن يراد بالآخرين أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه من ولده ويدعو الناس الى ملته ودينه المشار اليه في قوله تعالى (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) الآية 229 من سورة البقرة في ج 3 أيضا، ويستدل من هذه الآية ان لا بأس ان يحب الرجل الثناء عليه، لأن فيه فائدة لا سيما بعد الموت، إذ تجود عليه رحمات ربه بترحم الناس عليه، عند ذكر أوصافه وأفعاله الممدوحة، الا انه لا يخفى ان الأمور بمقاصدها، وانظر قول صلّى الله عليه وسلم من أحب ان يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار، مع ورود الخبر عنه صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم، وقد قيد العلماء القيام لأهل الفضل والأكابر، ولكن الأعمال بالنيّات فعلى المتأدب أن يقوم لمن هو أهل للقيام، وعلى من يقام له أن لا يحب ذلك «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» 85 الباقين فيها كما يقيده معنى ورثة لأن البقاء فيها هو السعادة الكبرى والنعمة العظمى «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» 86 طريق الهدى.

مطلب عدم المغفرة للمشرك وعدم نفع المال والولد مع الكفر:

مطلب عدم المغفرة للمشرك وعدم نفع المال والولد مع الكفر: وإنما دعا له بالمغفرة، لأنه كان وعده بالإيمان به وكان يرجو منه ذلك، قال تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية 125 من سورة التوبة في ج 3 وفيها دليل على جواز الاستغفار للكفار ماداموا على كفرهم خلافا لما نقله الشهاب في شرح مسلم النووي من أن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصص بهذه الأمة، وكان قبلهم قد يغفر لمنافاته صراحة هذه الآية، وعدم الغفران للمشركين عام في كل أمة، قال تعالى: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) الآيتين من آخر سورة الأعلى المارة أي ان هذا الذي هو في القرآن هو في صحف إبراهيم وموسى، وفيه ما لم يكن فيها أما ما فيها فكله فيه وزيادة «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ» 87 الناس من قبورهم لان ذلك اليوم «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ» 88 عند مالكه ولا ينفع عنده كل شيء واقتصر على المال والبنين لانهما معظم المحاسن والزينة والرفاه، راجع الآية 45 من سورة الكهف في ج 2 «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» 89 من الشك فيه والشرك به لا الذنوب، إذ لا يسلم منها أحد إلا ما ندر عدا الأنبياء بعد النبوة فإنه مقطوع بعصمتهم من كل ذنب حتى في حالة السهو والخطأ والنسيان والغلط راجع الآية 122 من سورة طه المارة تجد تفسير ما يتعلق بهذا البحث، وقد أخبر الله عنه بأنه كان ذلك الرجل لقوله جل قوله (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الآية 83 من الصافات في ج 2 وخصّ القلب لأن بقية الجوارح تبع له، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، قال صلّى الله عليه وسلم في حديث طويل صحيح: ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. وأخرج احمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية 75 من سورة التوبة في ج 3 قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو علمنا أي المال خيرا اتخذناه، فقال صلّى الله عليه وسلم أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه. وفي هذه الآية دلالة على ان طلب المغفرة له حال لا كما قال بعض المفسرين بعد موته، لأنه مات كافرا ولا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 92 إلى 101]

يجوز الاستغفار للكافر كما مرّ وفيها اشارة أخرى الى أنه لا ينفع المال صاحبه، ولو صرفه في وجوه البر إذا كان صاحبه شاكا أو كافرا، ولا ينفع الولد والده ولو كان صالحا إذا كان أبوه شاكا أو كافرا، فصلاح المال والولد ينفع عند الله إذا كان صاحبهما مؤمنا به، والا لا، والى هنا انتهى كلام الخليل عليه السّلام، خلافا لابن عطية القائل إن هذه الآيات منقطعة عن كلامه مخالفة سياق الآيات، قال تعالى «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» 90 المعاصي حيث يروونها أمامهم، لأنها تقرب منهم في ذلك اليوم، ويتيقنون انهم محشورون إليها، لأن أهل الموقف حينما يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس المارة تنقسم إلى قسمين فأهل موقف السعادة تتراءى لهم الجنة، وأهل موقف الشقاوة تظهر لهم النار «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» 91 الذين أغواهم هواهم عن طريق الحق، وفي الآية إشارة إلى أن رحمة الله تسبق غضبه، كما جاء في الحديث، لأن إظهار جهنم لا يستلزم قربها، وتقريب الجنة هو تقريبها من داخليها «وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ 92 مِنْ دُونِ اللَّهِ» في دنياكم وتزعمون أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم، وأنهم يقربونكم من الله في هذا الموقف، هاتوهم وادعوهم لنرى «هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ» كما تقولون ويدفعون عنكم العذاب «أَوْ يَنْتَصِرُونَ» 93 لأنفسهم ليدرأوا عنها العذاب؟ والجواب محذوف يفهم من المقام لأن السؤال سؤال توبيخ وتقريع، أي لا ينصرونكم ولا ينصرون أنفسهم وكلكم معذب، قال تعالى «فَكُبْكِبُوا فِيها» فقذفوا وطرحوا في الجحيم المذكورة منكوسين وهو تكرير كب مبالغة في الطرح كدمدم مبالغة في الدم أي الذقن وعسعس مبالغة في العس أي الظلمة «هُمْ وَالْغاوُونَ» 94 من الإنس والجن المعبودون والعابدون جميعا لأنهم جنود إبليس ولهذا عطف عليه «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» 95 من أتباعه وأنصاره ومواليهما، لأن من يعبد غير الله فهو عابد الشيطان، وإن عزيزا والمسيح والملائكة مبرءون من ذلك، لأنهم لم يدّعوا الإلهية ولم يأمروا بها، ولم يرضوا فيها، ولذلك فإنهم مبرءون مما نسب إليهم من العبادة، كما أنهم قد تبرأوا منها ومنهم.

مطلب ما يقال في مواقف القيامة وعدم جواز أخذ الأجرة على الأمور الدينية:

مطلب ما يقال في مواقف القيامة وعدم جواز أخذ الأجرة على الأمور الدينية: «قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ» 96 بعضهم لبعض أثناء الخصام «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 97 نحن وإياكم ومن الضلال بمكان «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» 98 فنعليكم ونجعلكم سواسية معه، وما أنتم إلا مخلوقون مثلنا، فكيف نعبدكم دون خالقكم «وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ» 99 الّذين سنوا لنا الشرك قديما من إبليس وقابيل، فهما أول من سن العصيان في الأرض، وهذا إنما يتجه إذا كان هذا القول من التابعين والمتبوعين، أما إذا كان من التابعين فقط فيكون معنى المجرمين الرؤساء والقادة، يدل على الأول قوله تعالى «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» 100 يشفعون لنا اليوم مثل ما للمؤمنين من الأبناء والأولياء والملائكة والصالحين «وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» 101 مخلص كما لهم أيضا، حيث يكون التصادق إذ ذاك بين المؤمنين والتعادي بين الكافرين، قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الآية 28 من سورة الزخرف، وهؤلاء الذين كان يجمعهم إخاؤهم على التقوى، أما الذين يجمعهم إخاؤهم على المعصية الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه فيكون كل منهم عدوا للآخر، لأن كل من كانت صداقته في الدنيا لأغراض قبيحة لا تدوم صداقته في الدنيا ولا تنفع في الآخرة ذويها، وتكون عليهم حسرة، راجع تفسير الآية 34 من سورة مريم المارة والآية 140 من سورة البقرة في ج 3. قال الحسن استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة، وقال صلّى الله عليه وسلم: استكثروا من الإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة «فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» رجعة أخرى في الدنيا «فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 102 بالرسل وما جاءوا به من الله، طفقوا يتمنون المحال لشدة الندم والأسف على ما فاتهم في الدنيا، مع أنهم لو أجيبوا لرجعوا إلى كفرهم، قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 29 من الانعام. انتهى كلامهم، وسياق الآيات يدل على أنه من الطرفين كما ذكرنا «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 103 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 104 تقدم تفسير مثلها، ومن كمال رحمته إمهال أكثر قريش حتى آمنوا به، بخلاف الأمم الماضية فإنه عجل

مطلب لا تضر خسة الصنعة مع الإيمان ولا يكفي النسب بلا تقوى:

عقوبتهم دفعة واحدة «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» 105 قبله كإدريس وشيث كما كذّبته هو، ومن كذب نبيا فكأنما كذب جميع الأنبياء «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ» بالنسب لا في الخلقة فقط، لأنه منهم «أَلا تَتَّقُونَ» 106 الله فتؤمنوا بي، وألا أداة استفتاح بستفتح بها الكلام، وتفيد التنبيه وطلب الشيء بلين ورفق، ويقابلها هلّا للحثّ على فعل الشيء بشدّة وإزعاج «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من الله خالقكم «أَمِينٌ 107 على أداء رسالته إليكم وعليكم وكان مشهورا عندهم بالأمانة مثل محمد صلّى الله عليه وسلم إذ كان يسمى الأمين «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 108 فيما آمركم وأنهاكم لئلا ينزل بكم عقابه «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» لتتهموني بقصد ما وإنما أسديكم نصحي وإرشادي مجانا «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 109 لا على أحد منكم، لأن العمل إذا كان لله فلا يطلب عليه أجر من غيره، تفيد هذه الآية لزوم تحاشي العلماء عن طلب أجر على تعليم القرآن والحديث والعلم، لأنهم ورثة الأنبياء فينبغي أن يقتدوا بمورثيهم ويبثوا ما عندهم من العلوم مجانا للعامة كما علمهم الله، وكذلك الجهات الدينية كالإمامة والخطابة والأذان والوعظ فلا ينبغي أن يؤخذ عليها أجر ما إلا لحاجة ماسة، كمن ليس له مورد ما ولا شيء من الوقف ولا يقدر على العمل مع القيام بذلك «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 110 كررها تأكيدا وتقريرا أولا بأنه رسول الله، وثانيا بأنه لا يأخذ أجرة على هذه الدعوة، وانظر بماذا أجابوه قاتلهم الله «قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» 111 السفلة الفقراء، أي كيف نؤمن بك وانك تساوينا معهم ولم نرضهم خدما، وهم آمنوا بك من غير حجة ونظر واستدلال أو حذق بصر أو بصيرة بل ليعيشوا بفضلك. مطلب لا تضرّ خسّة الصنعة مع الإيمان ولا يكفي النسب بلا تقوى: ومعنى الرذالة الخسة، وخصوهم بها لقلة ذات يدهم من الدنيا ولخسة صنائعهم، لأن منهم الحاكة والحجامة والإسكافية والمعدم الذي لا مال له ولا نشب، على أن الفقر ليس بشيء يعاب عليه وكذلك الصنعة قال: قد يدرك المجد الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع

وقال أبو العتاهية: وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم وخسة الصنعة خير من السؤال قال الأصمعي رأيت زبالا ينشد: وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقّك لا تكرم على أحد بعدي فقلت له وما بعد هذه الإهانة؟ قال السؤال منك، فحجني ووليت. وكذلك عدم النسب لا يزري بالشرف، قال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية 102 من سورة المؤمنين في ج 2، وقال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 13 من سورة الحجرات في ج 3، وقال صلّى الله عليه وسلم: أنا جد كل تقي، وقال: لا فضل لأسود على أحمر ولا لعربي على عجي إلا بالتقوى، وقال القائل: وليس بنافع نسب زكي ... تدنسه صنائعك القباح وقال أيضا: لا ينفع النسب من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله على أن الإسلام قد ساوى بين أكثر الناس واحتفظ بحق الشرف الاصلي للرجل فقال صلّى الله عليه وسلم: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا. وقال القائل: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وليعلم أن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى، والرفع والخفض من جهتهما لقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب والصنعة مهما كانت حقيرة خير من ذل السؤال، وأحفظ لماء وجه الرجل، ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذيلا ولو كان أفقر الناس مالا وأوضعهم نسبا وأخسهم صنعة، وما زالت اتباع الرسل بادي الرأي كذلك، وأتباع الصالحين من بعدهم حتى الآن، فترى أكثر علماء المدن وصالحيها من القرى ومن عادي الناس، لكن مع الأسف بعد أن رفعهم العلم وينالوا الشرف على الناس بسلّمه الذي صعدوا عليه ترى خلفهم عمدوا إلى تحطيم ذلك السلم واعرضوا عن العلم الذي هو أساس شرفهم وتقدمهم، فما تحس بهم إلا وقد أخمد الله تلك الشعلة النورانية فيهم، فصاروا من أحسن الناس بسوء عملهم، قال تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 112 إلى 121]

حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية 55 من سورة الأنفال، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية 3 من سورة الرعد في ج 3، والله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة من عبده وهو يشكرها، ولكن كفرانها مزيل لها، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة ابراهيم في ج 2، «قالَ» تعالى حاكيا على لسان نوح عليه السّلام «وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 112 من الصناعات، أو أن إيمانهم عن غير نظر واستدلال، إنما أطلب منهم الإيمان الظاهري في الدنيا والله يتولى سرائرهم في الآخرة، يدلك على هذا قوله «إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ» 113 إن الله سيحاسبهم على ما في ضمائرهم وعقائدهم لا على صنائعهم وظواهرهم ومكانتهم بينكم وضعة نسبهم فيكم، فلو علمتم هذا لما عيرتموهم بذلك «وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ» 114 من أجل فقرهم وخسة صنعتهم وضعة نسبهم، أو لأن إيمانهم بقصد التعيش كما زعمتم «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 115 بالبرهان الصحيح والدليل القاطع أظهر لكم الحق من الباطل، فأقبل من يتبعني، وأدعوا لمن يعرض عني لأقيه من عذاب الله، لا لغرض ولا لعوض، أملا من الله أن يرشدكم للصواب ويهديكم لما به نجاتكم. وانظر بماذا أجابوه على نصحه هذا «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ» عن دعوتك هذه «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» 116 بالحجارة حتى تموت «قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ» 117 فيما وعدتهم به من نزول العذاب بهم إن لم يؤمنوا بك وجحدوا رسالتي ووحدانيتك «فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً» أي احكم بيننا لأن فتح بمعنى حكم، والفتاح الحاكم لأنه يفتح مغلقات الأمور، كما يسمى فيصلا ففصله بين الخصمين «وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 118 بك والمصدقين لرسالتي فأجابه الله تعالى بقوله «فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» 119 المملوء الموقر من أصناف الإنسان والحيوان والطير، قال تعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية 40 من سورة هود في ج 2 وتقدمت قصته مفصلة في تفسير الآية 59 من سورة الأعراف المارة «ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» 120 الذين لم يؤمنوا به بما فيهم زوجته واعلة وابنه كنعان «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً»

[سورة الشعراء (26) : الآيات 122 إلى 131]

عظيمة «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 221 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 122 بانقاذ المؤمنين ويفهم من قوله الباقين أن نوحا عليه السّلام مرسل لمن على وجه الأرض أجمع ولانه قال في قصة موسى (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) قالوا ان عدد المؤمنين الذين كانوا في السفينة ثمانون نسمة، وانهم أنشئوا قرية في محل إرسائها قرب الجودي وسموها قرية الثمانين، وسنأتي على تمام القصة في تفسير الآية المذكورة من سورة هود، وسنبحث في عموم رسالته من حيث الآخر، وخصوصها من حيث المبدأ هناك أيضا، وأن رسالة محمد عامة أولا وآخرا، ورسالة بقية الرسل خاصة أولا وآخرا، وان عاقبة المصرين على الكفر المستكبرين عن الحق الانتقام بالعذاب الأليم، قال تعالى «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ» 123 أنت الضمير باعتبار القبيلة، وعاد اسم أبيهم الأقصى وكثير ما يعبر عن القبيلة بالأب إذا كانت كبيرة أو كان رئيسها عظيما، وقد يعبر عنها ببني فلان أو آل فلان «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ» نسبا لادينا «هُودٌ» هو عابر بن شالخ بن ارفخشد، بن سام بن نوح عليه السّلام، وسمي هودا لوقاره أخذا من الهوادة التؤدة والسكينة، وهو اسم عربي فصيح، وقومه وقوم صالح عرب، لأنه من نسل نوح أيضا أما شعيب وإسماعيل فمن نسل ابراهيم عليهم السّلام، فيكون مجموع الأنبياء العرب خمسة: عاش مئة وخمسين سنة، وأرسل على رأس الأربعين من عمره الى أولاد عاد، وخاطبهم بقوله «أَلا تَتَّقُونَ 124 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» 125 وهكذا كل الأنبياء أمناء الله على وحيه وعلى عباده «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 126 فيما آمركم وأنهاكم بقصد إرشادكم وهدايتكم «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 127 تقدم مثله، وهو عبارة عن تنزيهه عن المطامع الدنيوية والأغراض الدنيئة حتى لا يشك فيه ان له رائدا آخر غير الله، ثم شرع يعدد مساويهم فقال «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ» مكان مرتفع، وقيل هو الفج بين الجبلين والطريق وكل ما يشرف على غيره (آيَةً) برجا عاليا كالعلم وقد بين مواضع الذم في اتخاذهم البناء العالي بقوله «تَعْبَثُونَ» 128 بالمارة وتستهزئون بهم من فوقهم بسبب اشرافكم عليهم مع انكم بغنى عن ذلك وتقصدون به التفاخر والتطاول عليهم لالسدّ حاجتكم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 132 إلى 141]

وكفايتكم، او لا حاجة لكم لعلو البناء لفسحة أراضيكم «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ» حياضا كبيرة محصنات لجمع الماء «لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» 129 بذلك في هذه الدنيا التي لا خلود فيها، فاقطعوا أملكم منها واعلموا انكم ميّتون ما عمرتم فيها وتاركون قصوركم وحياضكم وغيرها «وَإِذا بَطَشْتُمْ» عاقبتم أحدا لجرم ما «بَطَشْتُمْ» ضربتم ضربا مبرحا بالسوط وقتلا بالسيف بطش أناس «جَبَّارِينَ» 130 بلا رحمة ولا شفقة ولا رأفة والجبار وصف مذموم بالخلق لأن الذي يضرب ويقتل بمجرد غضبه غير ناظر للمضروب انه مستحق ذلك أم لا «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 131 بالكف عن هذه الأفعال الذميمة «اتَّقُوا الله الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ» 132 من العافية والنعم المبينة بقوله «أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ» كثيرة متنوعة «وَبَنِينَ 133 وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 134 جاربة بينها ولم تشكروه وقد ضرب صفحا عن نعمة خلقهم وما متعهم به من سمع وبصر وقوة وعقل، لانهم ليسوا بأهل للاستدلال والنظر، ولهذا اقتصر على النعم المنهمكين فيها، وكان خلقهم التكاثر بالأموال والأولاد، والتفاخر بالكثرة فيها «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» ان لم تؤمنوا أن يصبّ عليكم «عَذابَ يَوْمٍ» من ربكم «عَظِيمٍ» 135 لا أعظم منه إن بقيتم على كفركم وأصررتم على عصيانكم، وانظر بماذا جاوبره «قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» 136 فإنا لا نسمع قولك ولا نطيع أمرك، وهو جواب بغاية الاستخاف وقلة الاكتراث وعدم المبالاة، مع أن ما وعظهم به كان على غاية من اللين، ولكن قلوبهم قاسية يلين الحجر ولا تلين، راجع الآية 13 من البقرة في ج 3. ثم قالوا له «إِنْ هذا» الذي نحن عليه من بناء القصور ومصانع المياه وشدة البطش والعبث ما هو «إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» 136 آبائنا ومن قبلهم أي عبادتهم وديدنهم ولم يبعثوا بعد موتهم كما تقول ولم يعذبوا، ولهذا فلا محل لقبول نصحك «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» 138 أيضا ولا مبعوثين ولا محاسبين على ما نفعله، قال تعالى «فَكَذَّبُوهُ» ولم ينتفعوا بإرشاده «فَأَهْلَكْناهُمْ» بريح صرصر عاتية فلم تبق لهم باقية، وتقدمت قصتهم مفصلة في الآية 72 من الأعراف المارة، «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً» كافية لمن يعتبر بها

[سورة الشعراء (26) : الآيات 142 إلى 151]

«وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 139 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 140 تقدم تفسيره «كَذَّبَتْ ثَمُودُ» بن غاير بن أرم بن سام بن نوح كانت مساكنهم بين الحجاز والشام «الْمُرْسَلِينَ 141 إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ» بن عبيد بن جاوز بن ثمود أرسله الله إليهم بعد هود بمئة سنة، وعاش مئتين وعشرين سنة «أَلا تَتَّقُونَ 142 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 143 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 144 وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 145 تقدم مثله «أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا» في هذه الدنيا ونعيمها «آمنين 146» من الموت وعذاب الآخرة الذي لا بد لكم منه، الذي لم ينج منه من تقدمكم من الأمم الكافرة، فلا تغتروا بما أنتم عليه، فإنه نازل بكم إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله وصحفه وتموتوا على ذلك، فلا تأمنوا مكر الله بما أنعم عليكم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 147 وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» 148 نضيج لين رطب، ينهضم في المعدة فلا يحتاج إلى كثير مضغ «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ» 149 أشرين بطرين في هذه الدنيا، كلا لا تتوهموا ذلك فهو محال اغترّ فيه من قبلكم فهلكوا وخلفوها لمن بعدهم وتحملوا عذابها. سأل نافع بن الأرزق ابن عباس رضي الله عنهم عن معنى الهضيم فقال: هو المنضمّ بعضه إلى بعض، فقال له وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول امرئ القيس: دار لبيضاء العوارض طفلة ... مهضومة الكشحين ريّا المعصم «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 150 وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» 151 في المعاصي الذين تآمروا على مخالفته، وهم الرهط التسعة الآتي ذكرهم في الآية 47 من سورة النمل الآتية «الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» 152 لتوغلهم في الفساد ودأبهم على المخالفة للحق «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» 153 الذين خدعهم السحر واستولى على حواسهم «ما أَنْتَ» أيها الآمر المدعي النبوة «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» تأكل وتشرب وتنكح ولست برسول ولا ملك «فَأْتِ بِآيَةٍ» تدل على صحة دعواك «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 154 بأن الله أرسلك إلينا مما ذكرت «قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» حظ من الماء العائد لكم «وَلَكُمْ» مثله

مطلب في إيمان اليأس والتأدب بآداب القرآن وآداب المنزل عليه:

«شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» 155 لكم يوم ولها يوم فلا تزاحموها عليه وهي آية على نبوتي «وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» من ضرب أو نهر أو منع عن الورود والمرعى، فإذا فعلتم شيئا من ذلك «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 156 فلم يعبأوا بقوله فعمدوا إليها «فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ» 157 إذ شاهدوا العذاب أظلهم. مطلب في إيمان اليأس والتأدب بآداب القرآن وآداب المنزل عليه: وكان ندمهم ندم خوف لا ندم توبة، والتوبة لا تنفع عند نزول العذاب، راجع قوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلخ الآية 18 من سورة النساء في ج 3، وقال في بدء الأمالي: وما إيمان يأس حال يأس ... بمقبول لقصد الامتثال فالإيمان عند معاينة العذاب لا قيمة له، كما سيأتي في الآية المذكورة، لذلك قال تعالى «فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» المعهود المبين في الآية 79 من الأعراف المارة، «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 58 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 159 تقدم تفسيره، قال تعالى «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ» 160 هو بن هاران بن عم ابراهيم عليهم السّلام وقد هاجر معه إلى الشام فأنزله الأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم وما يتبعها، وهو أجنبي عنهم، إلا أنه صاهرهم، وهؤلاء المرسل إليهم كذبوا قبله ابراهيم ومن قبله، وكذبوه هو «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ» بالخلقة لا بالدين ولا بالنّسب، ومعناه هنا صاحبهم كما يقال يا أخا العرب، يا أخا تميم، وعليه قوله: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا وهو لوط عليه السّلام بدل من أخوهم ثم فسر ما قاله لهم بقوله «أَلا تَتَّقُونَ 161 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 162 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 163 وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 164 الذي أرسلني إليكم، لأرشدكم الى ما فيه صلاحكم، وقال لهم على طريق الاستفهام الانكاري «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ» 165 عبر بالإتيان عن اجراء الفحش ليعلم قومه الأدب في المخاطبات، ولينبههم على ان هذا الفعل قبيح بنفسه ولفظه ليتحاشوا عنه وعن ذكره. هذا، وان الله تعالى عبر

عن الوطء الحلال بالحرث في الآية 222 من البقرة في ج 3، وعن الجماع بالغشيان في الآية 188 من الأعراف المارة، وعن الفعل القبيح بالإتيان كما هنا، وفي الآية 73 من الأنبياء بالخبث في ج 2 وفي الآية 179 من الأعراف المارة وذلك ليتأدب العباد بتأديب القرآن ويصونوا ألسنتهم عن ذكر الألفاظ المستهجنة، قال صلّى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم أهله، وكثير من أقوال الرسول تأمر بالآداب في المخاطبة بالإشارة والقول والفعل تباعدا عن سوء الأدب والجهر بما هو فاحش والجنوح الى الكنى والمعاريض في كل ما يستقبح ذكره، ومن هذا قوله تعالى «وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ» مما أحله لكم وهو محل الحرث والبذر الذي منعكم الله عن إتيانه أيام الحيض لقذارته، فكيف تميل أنفسكم الى ذلك المحل مخرج القذر دائما «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» 166 متجاوزون متعدون الحل الى الحرمة قالوا كانوا يفعلون هذا الفعل القبيح بأزواجهم أيضا: وقيل إن ابن مسعود قرأ (وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم) هو تفسير الآية لا قراءة وقد أخطأ من جعلها قراءة لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف من تبديل خلق بأصلح، وقد ذكرنا غير مرة بأن كل قراءة فيها تبديل كلمة أو حرف أو زيادة أو نقص عما أثبت في المصاحف لا عبرة بها وليست بقراءة، وانما هي شروح كتبوها على مصاحفهم تفسيرا لبعض الكلمات، لأنها أنزلت كذلك، وقد أكثرنا من التحرز عن مثل هذا لينتبه القارئ فيحذر من الإقدام على القول بشيء منه، إذ لا يجوز اعتباره ولا نقله الا تأويلا أو تفسيرا، وبحرم اعتقاد قرآنيته، لأن من يعتقد قرآنا ما ليس بقرآن قد يؤديه الى الكفر والعياذ بالله، إذ لا قرآن الا ما هو ثابت بين الدفتين البتة، وفي هذه الآية دلالة على تحريم إتيان النساء والجواري بأدبارهن حتى أن بعض العلماء كفر فاعله مبالغة في التحريم، وقد جاء في الحديث من أتى امرأة في دبرها فهو بريء مما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم، ولا ينظر الله اليه، ولهذا أفتى من أفتى بكفره، لأن من كان بريئا مما انزل على محمد فهو كافر، تدبر هذا، وراجع الآية 80 فما بعدها من سورة الأعراف المارة تجد تفصيلا شافيا كافيا، والحكم الشرعي فيه، والقصة بتمامها ايضا «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ» عن مقالتك هذه وتتركنا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 172 إلى 183]

وشأننا «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ» 167 من قرانا لأنك لست منا ولا فينا من ينظرك «قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ» 168 المبغضين وهو أبلغ من قال، كما إذا قلت فلان من العلماء فقد جعلته منهم مساهما معهم بالعلم فهو أبلغ من قولك عالم، لأن العالم من علم مسألة واحدة، وفيه دليل على عظم هذه المعصية، ولما رأى عدم ميلهم لقوله وتهديدهم له قال «رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ» 169 فأجاب الله دعاءه بقوله «فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 170 إِلَّا عَجُوزاً» هي امرأته منهم بقيت «فِي الْغابِرِينَ» 171 الهالكين لأنها كانت راضية عن عمل قومها والراضي بحكم الفاعل في شريعتهم أما في شريعتنا فلا الا الرضاء بالكفر فهو كفر «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» 172 تدميرا فظيعا بأن قلبنا قراهم كما مر في الآية 84 من الأعراف المارة، «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» من حجارة فكان عذابهم عذابا عظيما «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» 173 الذي أنزلناه عليهم من السماء وجعلنا أعالي أراضيهم أسفلها على صورة عجيبة هائلة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 174 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 175 كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» 176 هي الغيضة المنبتة ناعم الشجر كالسدر والأراك، وهي بلدة قريبة من مدين من جهة البحر «إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ» بن ثوبب بن مدين بن ابراهيم وقيل بن مكيك بن يشجر بن مدين وأم مكيك بنت لوط عليهم السّلام، ولم يقل هنا أخوهم، لأنه ليس منهم أيضا، وليس له معهم مصاهرة ولا نسبة، وكانوا طائفة على حدة «أَلا تَتَّقُونَ 177 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 178 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 179 لأن طاعتي طاعته «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» 180 لأني مأمور من قبله وأجر المأمور على آمره، ثم طفق يأمرهم وينهاهم بما تلقاه عن ربه فقال «أَوْفُوا الْكَيْلَ» إذا كلتم للناس «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» 181 حقوقهم بالتطفيف لأن فيه نقص حقهم، والكيل ثلاثة: واف وهو مأمور به، ومطفف وهو منهي عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، فإن فعله فقد أحسن، وإلا فلا شيء عليه، وفي الآية دليل على الوفاء وهو لا يخلو من الزيادة، لأنه

مطلب ما قيل إن في القرآن لغات أجنبية لا صحة له وهي هذه كلها:

لا يكون إلا بالرجحان، فمن رجح الموزون على الوزن فقد أوفى به «وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ» أي الميزان العدل أو القبان. مطلب ما قيل إن في القرآن لغات أجنبية لا صحة له وهي هذه كلها: قالوا إن هذه الكلمة في الأصل ليست عربية، وانها من جملة ما جاء بالقرآن من الكلمات الاعجمية الكثيرة، إذ أبلغوها إلى ما يزيد على مئتي كلمة وقد جاءت في القرآن لا لعجز في اللغة العربية لأن لها كما لا يخفى مترادفات كثيرة، ولكن ليعتني الناس بأمر اللغات وليعلموا أن معرفتها كمال للإنسان لا نقص ولا عيب ولا سيما لاستعمال الأشياء المحدثة إذ لا يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة كأصلها وإن في تجدد اللغة تجدد معارف لم تكن وإن في ازديادها تحصيلا لها فتكون نموا وحياة لآخذها في عوامل الارتقاء من نواحيه كافة، وهذا من إرشادات القرآن العظيم لأن معرفة كل لسان بإنسان. هذا، وان القول الحق في هذه الكلمات أنها عربية في الأصل، لأن العرب استعملوها قبل نزول القرآن، ولغتهم قديمة، لأن هودا وصالحا وأممهم عرب كما مر في الآية 123 ولغاتهم متفرقة ولها مترادفات كثيرة، ويوجد كلمات مستعملة عند طائفة منهم بمعنى، وعند أخرى بمعنى آخر، وقد توجد كلمات عند فرقة دون أخرى لبعد الشقة بينهم، حتى ان حرفي الجيم والكاف الفارسيين الذين لم يعدّا من الحروف العربية لا بد وأن يكون أصلهما عربيا، لأن عرب البادية قديما وحديثا ينطقون بها، وهذا بالطبع بطريق التنافل، فلو لم يكن أصلهما عربيا لما تعمم هذا التعميم ونطق بها من لم يعرف الحاضرة ولم يختلط بالفرس، إذ قد يكون بالاختلاط أيضا كما هو الحال الآن، إذ يدخلون بالكلام العربي كلمات أجنبية تسربت لهم بسبب الخلطة، وبعد أن علمت هذا فقد أحببنا أن نورد لك الكلمات الموجودة في القرآن المقول عنها بأنها أجنبية تتميما للفائدة مما وقفنا عليه، فمنها ما قيل إنه بلغة الحبشة وهي كلمة (شطر) : بمعنى تلقاء 2 والجبت: بمعنى الشيطان، 3 والطاغوت: الكاهن، 4 والحوب: الإثم، 5 والأواه: الموقن والمؤمن والرحيم، 6 ابلعي ماءك: ازدرديه، 7 المتكأ: الأترج، 8 طوبى:

الجنة، 9 السكر: الخل، 10 طه: يا رجل، 11 حرّم وجب، 12 طي السجل: الرجل، 13 المشكاة: الكوة، 14 أوّبي: سبحي، 15 سيل العرم: المسناة التي يجتمع إليها الماء ثم ينبثق، 16 منسأته: عصاه، 17 يس: يا إنسان، 18 أوّاب: مسيح، 19 كفلين: ضعفين، 20 ناشئة الليل: رغبة قيامه، 21 منفطر: ممتلىء، 22 قسورة: الأسد، 23 يمور: يرجع، 24 طور سينين: الحش وهو إيقاد النار والمحش هو المكان الكثير الكلأ والخير، 25 الأرائك: السرر عليها الوسائد، 26 يصدون: يضجون، 27 دريّ: مضيء، 28 غيض الماء: نقص، ومنها ما جاء بالفارسية في قوله تعالى (وَإِسْتَبْرَقٍ) : الحرير الثخين ويسمى ديباجا، 29 و 30 سجيل كل ما أوله حجر وآخره طين وقالوا هو الطين المحرق كالآجر، 31 كورت: غورت، 32 مقاليد مفاتيح، 33 أباريق: كل آنية لها خرطوم وعروة، 34 بيع: بيوت عبادة النصارى، 35 كنائس: بيوت عبادة اليهود، 36 التنور: جهنم، 37 دينار: اسم لما يعادل ثلث مثقال من الذهب المتعامل، 38 الرّس: البئر غير المطوي وقيل هو المطوي 39 الروم: علم لقبيلة بني الأصفر، 40 زنجبيل: اسم لنبات حار خص به، 41 سجين: اسم لكتاب اهل النار، 42 سرادق: قماش يمد فوق صحن البيت، 43 سقر: من أسماء جهنم، 44 سلسبيل: اسم لعين ماء في الجنة، 45 وردة كالدهان: الزهرة في النّبات، 46 سندس: مارق من الحرير المنسوج، 47 قرطاس: الورق، 48 أقفالها: غالاتها: 49 كافور: اسم لنبات مخصوص ذو رائحة يطيب فيه أكفان الموتى غالبا 50 كنز: ما ادخر من ذهب وفضة وجوهر، 51 المجوس: طائفة من اليهود افترقت عنهم لمخالفتها بعض طقوسهم، 52 الياقوت: اسم لحجر كريم يتزين به ويوضع فصا للخاتم وهو ألوان كثيرة، 53 المرجان: كذلك إلا أنه بحري وذلك برّى، 54 مسك معلوم ويكون من نوع من الغزال كالفسارة في بطنه فيه وقيل: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال 55 و 56 و 57 هود وهاد وهدنا واليهود: بمعنى التوبة والإنابة والرجوع

والخضوع، ومنها ما جاء بالرومية في قوله تعالى فصرهنّ: قطعهن أو ضمهن، 57 الفردوس: البستان والجنة، 58 القسط: العدل، 59 القسطاس: الميزان، 60 طفقا: قصدا وشرعا، 61 الرقيم: اللوح والكتاب، 62 الصراط: الطريق، 63 القنطار: إثنا عشر ألف اوقية، 64 عدن: اقامة دائمة، ومنها ما جاء بالهندي في قوله تعالى ابلعي: اشربي وتقدم أنه بلغة الحبشة بمعنى از دردي والمعنى واحد، 65 طوبى: الجنة وهي كذلك بلغة الحبشة، 66 سندس: رقيق الحرير الديباج، وهو كذلك بالفارسية، وهذا مما يدل على أن اللغات آخذة بعضها من بعض وهو كذلك، فإنك لا تجد لغة إلا وفيها من غيرها، وبما أن أوسع اللغات هي العربية فنقول إن هذه الكلمات وغيرها في الأصل عربية وتناقلتها اللغات الأخرى فأدمجتها في لغتها وها هي ذي لغة الترك مركبة من عربي وفارسي وبربري، ومنها ما جاء بالسريانية في قوله تعالى سريّا: نهرا، أو جدولا صغيرا وبالعربية كذلك، وبمعنى شريف ونبيل، راجع الآية 23 من سورة مريم المارة، 67 طه: يا رجل وهو كذلك بالحبشية، 68 جنات عدن: الكروم والأعناب، 69 الفردوس: جنات الأعناب فقط، 70 الطور: الجبل، 71 يمشون هونا: حلماء موقرين، 72 هيت لك: عليك أن تفعل، 73 ولات: وليس وهي باللغة العربية كذلك، 74 و 75 ربيّون: ربانيون علماء عارفون، 76 رهوا: ساكتا، 77 سجدا: مقنعي رؤوسكم، 78 القيوم: الذي لا ينام، 79 الاسفار: الكتب وهذه كلها بالعربية كذلك، 80 القمل: الذباب، 81 اليم: البحر، 82 صلوات كنائس اليهود، 83 آزر: اسم أبي ابراهيم، 84 قنطار: اسم لملء جلد الثور ذهبا أو فضة وتقدم أنه في الرومية لوزن مخصوص، ومنها ما جاء بالعبرانية كفّر عنهم: محا عنهم 85 هونا: صلحاء وهو كذلك بالسريانية، 86 أخلد في الأرض: ركن إليها، 87 هدنا إليك: ثبتنا على ما تريد، 88 كتاب مرقوم: مكتوب، 89 رمزا: تحريك الشفتين، 90 فومها: الحنطة، 91 أواه: الداعي وتقدم أنه بمعنى الموقن بالحبشية، 92 طوى: اسم واد بفلسطين وبمعنى رجل، 93 اليم: البحر وهو كذلك بالسريانية، 94 الرحمن: كثير الرحمة، 95 الأليم: الموجع، 96 حمل بعير: الحمار أو الدابة، 97 درست: تعلمت وقرأت، 98 حطة: حط عنا أوزارنا، 99 الأسباط: الأفخاذ، 100

راعنا: انظرنا 101 من لينة: شجرة طرية، 102 قسيسين: علماء النصارى، ومنها ما جاء بالنبطية طور سينين المحشي وتقدم في اللغة الحبشية كذلك، 103 أسفارا: كتبا كما تقدم في السريانية، 104 الحواريون: الغسّالون، 105 الأكواب: الاواني التي لا عرى لها ولا خرطوم، 106 وليتبّروا ما علوا: يهلكوا إهلاكا عظيما، 107 سريا: نهرا، وهو في السريانية كذلك، 108 سفرة: قراء 109 فصرهن: قطعهن وهي بالرومية كذلك، 109 طه: يا رجل، وهي كذلك في الحبشية والسريانية: 110 الطور: الجبل وهو في السريانية كذلك، 111 إلا: عهدا وموثقا، 112 الفردوس: الكرم وهو كذلك في السريانية، 113 الملكوت: الملك، 114 هيت لك: هلم لك وتقدمت انها في السريانية بمعنى آخر قريب من هذا، 115 رهوا: سهلا، وتقدم أنه بمعنى ساكن في السريانية، 116 عبدت: قتلت، 117 وراءهم: ملك أمامهم، 117 قطّنا: كتابنا، 119 إصري: عهدي وميثاقي، 120 كفّر: أمح وهي كذلك في السريانية والعبرانية، 121 وزر: الجبل والملجأ وهذه كلها بالعربية كذلك بزيادة في معناها من الكلمات المترادفة بما يدل على أن النبطيين أخذوها من العرب 127 ومنها ما جاء بالقبطية في قوله تعالى متكأ: الأترج، 122 مناص: فرار ومهرب، 123 مزجاة: قليلة، 124 فناداها من تحتها: من بطنها، 125 بطائنها من إستبرق أي ظواهرها، 126 الجاهلية الأولى: الأخيرة، 127 الجاهلية الأخرى: الأولى لأنهم يسمون الآخرة أولى والأولى أخرى ومنها ما جاء بالتركية، غسّاق: الماء البارد والمنتن، ومنها ما جاء بالزّنجية في قوله تعالى حصب جهنم: حطبها، 128 الأليم: الموجع وهو كذلك بالعبرانية، 129 منسأته: عصاه وهو كذلك بالحبشية، ومنها ما جاء بالبربرية في قوله المهل: عكر الزيت، 130 ناظر في إناء: نضجه، 131 حمّ: منتهى الحرارة، 132 عين آنية: جارية، 133 يصهر ما في بطونهم: ينضج به، 134 أبّا: الحشيش، 135 قنطار: ألف مثقال من ذهب وفضة، 136 هذا ما عثرنا عليه، وما قيل إن عمر بن يحيى الحافظ أوصلها إلى مئنين فهو من غير المترادف منها والمتداخل فيها، ولو حسب هذا لبلغت ذلك وأكثر. واعلم أن هذه الكلمات بوجودها في القرآن العظيم تعد عربية بحتة، وعلى فرض أن

[سورة الشعراء (26) : الآيات 184 إلى 193]

منها ما هو ليس بعربي فقد نقل إلى العربية قبل نزول القرآن، إذ تكلمت بها العرب قديما وأجرتها على الأصول العربية إعرابا وبناء، لهذا فلا محل للقول بأنها أجنبية ويتحتم علينا أن نؤولها على ما وضعت له ونعتت به مثل «الْمُسْتَقِيمِ» 182 أي العدل صفة القسطاس «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» بأن تعطوهم أنقص من حقهم أو تأخذوا منهم أكثر من حقكم «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» 183 بأن تقطعوا الطرق وتسلبوا المارة وتشنوا على الآمنين الغارة وتهلكوا الزرع والضرع وهذا معنى تعثوا لأنه المبالغة في الإفساد والإكثار منه «وَاتَّقُوا الله الَّذِي خَلَقَكُمْ» أجنة في بطون أمهاتكم «وَالْجِبِلَّةَ» الخليقة «الْأَوَّلِينَ» 184 من الأمم التي خلقها قبلكم، قال ابن عباس الجبلة الجماعة شبهت بالقطعة العظيمة من الجبل «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» 185 الذين سحروا مرة بعد أخرى «وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» 186 بما تدعيه من الرسالة، فإن كنت صادقا «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» قطعا كثيفة عظاما منها «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 187 بأنك رسول الله القادر على كل شيء «قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» 188 وما تقولون وهو يجازيكم على ذلك، لأني بشر مثلكم لا قدرة لي على شيء مما اقترحتموه وغيره، فهو الذي يسلط عليكم ما يقهركم ويردكم إلى السداد قهرا «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» السحابة التي حبست عنهم الريح بعد أن سلط عليهم الحر سبعة أيام «إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 189 لأن السحابة التي التجئوا إليها لتقيهم حر الشمس قد أمطرتهم نارا والعياذ بالله فأهلكتهم جميعا، وتقدمت القصّة مفصّلا في الآية 93 من سورة الأعراف المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 190 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 191 انتهت القصص الثمانية التي أشرنا إليها آنفا، فتأمل رعاك الله كيف كانت دعوة هؤلاء الأنبياء الكرام إلى أممهم، وكيف كانت على وتيرة واحدة وجاءت على صيغة واحدة، لأن المرسل لهم هو الإله الواحد، والمرسل إليهم عبيده وخلقه، وكيف بذلوا معهم قصارى جهدهم ونهاية وسعهم طلبا لإرشادهم لسلوك الحق وعدولهم عن الباطل،

[سورة الشعراء (26) : الآيات 194 إلى 203]

بما يتحتم على العاقل من أن يعتقد صحة الشرائع كلها، قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية 162 من النساء في ج 3، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 13 من الشورى في ج 2، كما يجب أن يعتقد ويصدق بجميع الأنبياء ويعترف أن ما جاء في شريعة النبي المتأخر ناسخ لشريعة من قبله وواجب العمل به، وكيف كان جوابهم إليهم فتراه كأنه صادر عن أمة واحدة بلهجة واحدة على نمط واحد، صدق الله تعالى وهو أصدق القائلين في قوله (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 167 من البقرة في ج 3، وكلهم سخروا بأنبيائهم واستهزءوا بهم وكذبوهم وأنكروا معجزاتهم ولم يعتبروا بمن قبلهم ولم يرتدعوا بما وقع عليهم، ألا فليحذر الذين يخالفوا أمر الله ويكذبون رسله ويجحدون كتبه أن يصيبهم مثل ما أصابهم ثم التفت إلى حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم وقال «وَإِنَّهُ» أي القرآن المنزل عليك الذي أمرناك أن تنذر به قومك وقصصنا عليك فيه أحوال الرسل قبلك وأممهم وكيفية حالهم معهم وماهية عذابهم وسبب إهلاكهم تسليه لك كي لا يضيق صدرك مما ترى منهم ولا تحزن على عدم إيمانهم ودعهم فليقولوا ما يقولون فيه، وعزتي وجلالي «لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» 192 وقد «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» 193 سفيرنا جبريل، سماه روحا لأنه خلق من نور الله من الروح وأمينا لائتمانه على وحيه وأدائه لرسله كما تلقاء منه وفي لحظة أمره به «عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل حتى تعيه «لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» 194 به وقد خص القلب لأنه موضع التمييز والعقل، لأن الرجل لا يتكلم إلا عما وقر في قلبه «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» 195 ليفهمه قومك دون حاجة لترجمان حتى لا يبقى لهم عذر من جهة إرسال الرسول والفهم، قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية 3 من سورة ابراهيم في ج 2، وهذه الآية وما يضاهيها من آي القرآن الحكيم فصل الخطاب بأن جميع ما في القرآن عربي فصيح جاء بلسان العرب ولغتهم، وعليه فكل قول بأن بعض كلماته أجنبية باطل، وما جاء بأن اسماء ابراهيم وإسماعيل وجبرائيل أعجمية فهي في الأصل كذلك ونقلت الى العربية وتسمى بها العرب قبل نزول القرآن، وكل ما كان مستعملا عند العرب فهو عربي ليس إلا، وإنما ذكرنا

مطلب الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وتخصيص القلب بنزوله وماهية المنزل عليه:

لك آنفا الأقوال في كونها أجنبية وذكرنا لك مصادرها لتقف عليها ثم تردها بما أوضحناه لك، وبدل أن تقول هي أجنبية استعملها العرب، فقل هي عربية استعملها الأجانب أو أنها وافقت لغتهم وهو الأجدر والأنسب، وفيها ردّ صريح آخر على ما يزعمه الباطنية من أن القرآن انزل غير موصوف بلسان أو لغة، ثم أنه عليه السلام أداء الى قومه بلسانه وعبر عنه بلغته، لأن زعمهم هذا مخالف لنص القرآن والحديث في الإجماع. مطلب الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وتخصيص القلب بنزوله وماهية المنزل عليه: ولو كان كما قالوا لما بقي فرق بين القرآن والحديث القدسي، لأنه هو الذي يلقى على قلب الرسول بغير صفة أي غير موصوف بلغة أو لسان، ثم إنه يعبر عنه بلسانه ولغة قومه هذا، والمتلقى بالتواتر هو الفرق بين القرآن والحديث القدسي، لأن القرآن ثبت بالتواتر، بخلافه هذا، وقد قلنا في تفسير على قلبك: إنما خص القلب لأنه موضع العقل بناء على ما ذهب إليه الإمام في تفسيره ردا لقول من قال إن محله الدماغ، والخلاف بين هاتين الطائفتين في محل العقل كثير، والناصرون لكلا القولين أكثر، فلا محل لبسط المقال عن كل هذا، وإنما الذي يحب بيانه، هو سبب تخصيص القلب بالنزول، فإذا قلنا إنه رأس الأعضاء وانها تصلح لصلاحه وتفسد بفساده وأنه محلها الفرح والاختبار والسرور وغيرها فلا يختص بحضرة الرسول لا هي ولا أضدادها ولا كونه محل الفقه والعظة والفطنة، بل هو عام في كل البشر وإذا كان كذلك فلا يصح أن يكون جوابا للتخصيص، وانما التخصيص والله أعلم هو أن الله تعالى جعل لقلبه سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر البشر، يدل على هذا ما ذكره النووي في شرح مسلم في قوله تعالى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) الآية 6 من سورة والنجم المارة بأن الله تعالى عز وجل جعل لفؤاده عليه السّلام بصرا فرآه سبحانه ليلة المعراج وما ورد عنه في الحديث القدسي أنه قال كانت تنام عيني ولا يتام قلبي وجاء في صحيح البخاري عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوجهه فقال اقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري. وفي رواية أبي

داود عن أبي هريرة كان يقول: استووا ثلاثا، والذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي. وفي رواية هل ترون قبلتي هاهنا، فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم، إني لأراكم من وراء ظهري. فكل هذا يدل على أن الله تعالى خصّه بأشياء دون سائر البشر، ويتفرع عن هذا القول بأنه هل كان جبريل عليه السّلام ينزل بالألفاظ القرآنية المحفوظة له بعد ان تنزل القرآن جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزة أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالإنزال، أو التي يوحي بها الله إليه فيسمعها منه سبحانه فيلقيها الى قلب الرسول على ما هي عليه، وعلى الصفة التي يبلغها لقومه ويثبتها في المصاحف من غير تغيير أصلا، أو أن جبريل تلقى عليه المعاني القرآنية من الحضرة الأزلية وهو يعبر عنها بألفاظ عربية ويلقيها على حضرة الرسول، أو أن جبريل ينزل بالمعاني التي يتلقاها من ربه فيعبر عنها بألفاظ عربية خاصة ثم يلقيها الى حضرة الرسول، وأنه يعلم ما يلقيه عليه فيعبر عنه لقومه بلغتهم ويثبتها بالمصاحف فهذه أقوال تضاربت بها العلماء، وأرجحها هو أن الألفاظ نفسها منه عز وجل كالمعاني لا دخل لجبريل فيها أصلا، وكان صلّى الله عليه وسلم يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية يهبها الله له لا كسماع البشر إياها منه عليه السّلام وإلا لسمعها من كان عنده كما سمعها هو، ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم عند نزول الوحي تنعقل قواه البشرية فيظهر على جسده الشريف ما يظهر ويعرفه من يراه ويسمى برحاد الوحي، أي ثقله حتى يظن أنه أغمي عليه في بعض الأحايين، وعلى هذه الصورة فانه يسمع كلام الله المنزل إليه بواسطة جبريل أصواتا وحروفا منظومة مسموعة منه يختص هو وحده بسماعها دون غيره، فعلى هذا يظهر لك أصح الأقوال هو الأول، وأن القول الثاني يخالف معنى النزول من الحضرة القدسية، لأن من قال إن القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذاته تعالى فيكون انزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ، ومن قال إن القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فيكون انزاله إيجاد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى وإثباتها في اللوح المحفوظ، وعلى كلا القولين فإنّ الأمين عند أمره بإلقائه الى حضرة الرسول، فإنه ينزل بما هو موجود في اللوح، فلا يصح أن يقال انه ألقيت عليه المعاني وهو عبر عنها بألفاظ عربية، وأما القول الثالث فاختصت به الباطنية

مطلب لا تجوز القراءة بغير العربية الا إذا كانت دعاء أو تنزيها:

كما تقدم وهو مخالف لا يجوز القول به، لأن الإنزال اظهار ما كان في عالم الغيب الى عالم الشهادة كما كان، وهنا يقال ان قوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) ، يفيد ان القرآن جميعه نزل، مع أنه ثبت بالحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود أنه لما أسرى به صلّى الله عليه وسلم أعطاه الله الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة الى آخر ما جاء فيه، وهذا من القرآن، فالجواب ان ذلك وجملة ما خاطبه به ربه لا يعدّ انزالا بواسطة الأمين جبريل، لأن القرآن جميعه نزل به عليه على الصورة المذكورة، ولأن سورة الإسراء التي فرضت فيها الصلاة نزلت بعد وقوع الإسراء وخواتيم البقرة نزلت بالمدينة، ولهذا البحث صلة نذكرها ان شاء الله في الآية 7 من سورة النحل وفي آخر سورة الإسراء عند قوله (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) الآتيتين، وقد أثبتنا بالمقدمة في بحث نزول القرآن شيئا من هذا فراجعه، هذا، ولنرجع الى تفسير الآية وهو قوله تعالى «وَإِنَّهُ» القرآن المنوه به في الآية السابقة «لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» 196 أي كتبهم كصحف آدم فمن بعده، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى عليه السّلام، وهذا باعتبار الأغلب لأن ما يتعلق بالتوحيد وذات الله وصفاته وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور فيها فلا يضر أن منه ما ليس فيها بحسب غالب الظن، كقصة الإفك ونكاح امرأة زيد، وما جاء في سورة التحريم، وما استبدله الله في القرآن من الأحكام المسطورة في الكتب المتقدمة إذ نسخت بالقرآن العظيم، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) من آيات الكتب المتقدمة النازلة على الأنبياء السابقين مثلك يا محمد (أَوْ نُنْسِها) نؤخر نزولها وننسى ما هو مخالف لها مما كلف بها الأولون من الاحكام (نَأْتِ) في هذا القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل (بِخَيْرٍ مِنْها) أخف عبئا وأكثر اجرا وأسهل عملا وأيسر فعلا (أَوْ مِثْلِها) في ذلك التكليف والأجر، وكان نزول هذه الآية ردا لليهود والنصارى القائلين إن ما جاء به محمد مخالف لما جاء به موسى وعيسى، تدبر، وراجع تفسير الآية 107 من سورة البقرة في ج 3. مطلب لا تجوز القراءة بغير العربية الا إذا كانت دعاء أو تنزيها: وما قيل إن الإمام أبا حنيفة استنبط من هذه الآية جواز قراءة القرآن

بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية، ولما جاء في الخبر أن لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدرّي أي وغيرها من بقية اللغات، فقد صح أنه رجع عنه وقد حرر الإمام حسن الشر نبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها التحفة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية، فمن أراد تحقيق ذلك فليراجعها، وكان رجوعه رضي الله عنه لضعف الاستدلال على جوازها، وهو لا يقول بالضعيف لأن القرآن أنزل في هذه اللغة العربية للإعجاز بفصاحته فضلا عن غيرها، وان الترجمة مهما كانت لا تكون قرآنا في هذا المعنى بل لا يمكن قراءته جميعه، الا بالعربية، فلا يمكن ترجمته كله بغيرها، لان اللغات الأخر لا تشتمل على جميع الحروف العربية فضلا عن أنها يتعذر فيها ما في القرآن من أنواع البلاغة والبديع والمعاني والفصاحة والتعبير عن المجاز والحقيقة والمحل والحال والحذف والإيصال وغيرها، أما من لا يحسن العربية ولم يتمكن من تعليمها البته فيجوز أن يتعلم شيئا من القرآن على حسب لغته بالترجمة حرفيا، بقدر ما تصح به صلاته فقط، قال الإمامان إذا عجز عن العربية يجوز له قراءته بلغته على أن يكون المقروء بلغته دعاء أو ذكرا أو تنزيها أو ثناء محضا كالفاتحة والإخلاص، وقوله تعالى (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) وما شابه هذا، أما إذا كان المقروء بغير اللغة العربية من القصص والأحكام والأوامر والنواهي والحدود فلا يجوز البتة، لاحتمال وقوع الخطأ فيها، أما تفسير القرآن باللغات السائرة مع اثبات الأصل فهو مطلوب لا طلاع البشر كافة عليه، والتشرب من معانيه، والعمل بأحكامه والاتعاظ بأخباره، والاسترشاد بقصصه وآدابه، والاهتداء بهديه، لأنه لم ينزل للعرب خاصة بل لجميع البشر من تاريخ نزوله الى آخر هذا الكون، كما ان المنزل عليه مرسل لجميع الخلق من الإنس والجن من زمنه إلى آخر الدوران، وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة، قال تعالى «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ» هؤلاء المتكبرين من أهل الكتاب وغيرهم «آيَةً» دالة على صدق محمد «أَنْ يَعْلَمَهُ» بأنه رسول الله حقا «عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» 197 ممن أسلم منهم ومن لم يسلم، قال مقاتل هذه الآية مدنية وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام وأصحابه، كما روي عن

ابن عباس ومجاهد أن جماعة أسلموا ووقفوا على مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعلى كون الآية مكية يكون المعنى أولم يكن لهؤلاء الكفرة علامة على صدق القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم أن يعلمه علماء بني إسرائيل، لأنه منعوت في كتبهم، ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحياء يثرب ليسألوهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمره، فنزلت هذه الآية. هذا، وبعض المفسرين أعاد ضمير يعلمه على القرآن، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لا يعلمونه وأن مجرد ذكره في التوراة لا يدل على علمهم به وبما فيه، أما محمد صلّى الله عليه وسلم فهو موصوف ومنعوت في التوراة والإنجيل، وأن علماء أهل الكتابين يعرفونه حق المعرفة باطلاعهم على أوصافه، قال تعالى (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) الآية 21 من الأنعام في ج 2 والآية 147 من سورة البقرة ج 3 فراجعها تعلم من هذا ما يكفيك، أما إذا أريد أنهم إذا قرىء عليهم القرآن يعرفونه أنه من الله، فهو ما لا جدال فيه، وعليه يستقيم عود الضمير إلى القرآن، قال تعالى: (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) الآية 51 من النمل الآنية، واعلم أن مفاد الآيات المتقدمة من وأنه الى هنا وسياق قوله «وَلَوْ نَزَّلْناهُ» وما بعدها تفيد أن ضمير بعلمه يعود إلى القرآن بدلالة عود ضمير أنزلناه إليه أيضا وهو الظاهر واتباع الظاهر أولى «عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ» 198 الذين لا يفهمون معناه ولا يقدرون فصاحة مبناه، بل لا يتمكنون من قراءته كما ينبغي، وهو جمع أعجمي حذفت منه ياء النسبة مثل أشعري يجمع على أشعرين وأشعرون بحذف ياء النسبة أيضا، وقرىء أعجميين ولهذا جمع بالواو والنون جمع العقلاء، ولو كان جمع أعجم لما جمع هكذا لأنه مؤنث عجماء، وافعل فعلاء لا يجمع جمع السالم «فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ» على أولئك الكفرة «ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» 199 أنفة من اتباع من ليس منهم لشدة شكيمتهم في المكابرة، ولو فرض أنه قرأه عليهم باللغة العربية الفصحى بتعليم الله إياها كما علم آدم الأسماء كلها فيكون معجزة من جهتين لما آمنوا أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا المسلك البديع «سَلَكْناهُ» أي التكذيب بالقرآن وعدم الإيمان به «فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» 200 فلا سبيل لتعييرهم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 204 إلى 213]

عما جبلوا عليه، لأنهم طبعوا على ذلك، قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الآية 29 من سورة الروم في ج 2 فالمؤمنون لا يكفرون مهما كان منهم، والكافرون لا يؤمنون مهما كان منهم، لأنه لا بد وأن يوفق كل منهم أن يموت على ما خلق له من إيمان وكفر ولهذا قال تعالى «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ» أولئك الكفرة «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» 201 الذي لا دافع له فيكون إيمانهم إيمان يأس وهو غير مقبول كما تقدم في الآية 157 المارة، وهذه الآيات على حد قوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الآية 18 من سورة الأنعام في ج 2 «فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» ذلك العذاب الفظيع المؤلم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 102 به ولا بوقت إتيانه، لأنه على حين غرة وغفلة بوقت لا يتوقعونه، وإذ ذاك «فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ» 203 لنؤمن ونصدق وهيهات رجوع مافات، لأن عذاب الله إذا جاء لا يؤخر كما أنه لا يقدم عن الوقت المقدر لنزوله، ويقال لهم «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» 204 وهو آتيهم لا محالة، قال نفر من قريش حتى يأتينا هذا العذاب الذي يوعدنا به محمد فنزلت الآية الآنفة، قال تعالى يا سيد الرسل «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ» 205 كثيرة في هذه الدنيا وما فيها من النّعم «ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ» 206 به من العذاب الذي تهددهم به (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) 207 فيها شيئا من ذلك العذاب وما هو براد عنهم شيئا وكأنهم لم يكونوا رأوا شيئا من طول العمر وطيب العيش في الدنيا «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» فيما سبق من الأمم الباقية «إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ» 208 من قبلنا يخوفونهم عذابنا إن لم يؤمنوا بهم، فلم يفعلوا وكان إرسال الرسل إليهم «ذِكْرى» لئلا يقولوا (ما جاءنا نذير) الآية 41 من المائدة في ج 3 فتلزمهم الحجة وإلا فالله تعالى يعلم من يؤمن ومن يكفر قبل إرسال الرسل بل قبل إيجادهم وهو قادر على إهلاكهم دون ذلك، ولكن ليظهر لأمثالهم أن عذابهم كان بسبب كفرهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ» 109 في تعذيب أحد لأنا تقدمنا إليهم بالمعذرة، وقدّمنا لهم الحجة، هذا وإن نفرا من المشركين لما رأوا محمدا يخبرهم بما غاب عنه مما يتقولونه

[سورة الشعراء (26) : الآيات 214 إلى 223]

في نواديهم وحينما يسألونه يقول لهم أخبرني ربي قال بعضهم لبعض كلا، فإن الشياطين تلقي إليه ذلك كما تلقي القرآن الذي يزعم أنه من ربه، فأنزل الله تعالى «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ 210 وَما يَنْبَغِي لَهُمْ» أن ينزلوا بمثله لأنهم أحقر من ذلك «وَما يَسْتَطِيعُونَ» 211 إنزاله ولا يقدرون البتة لأنه محفوظ بحفظ الله وليسوا بأهل له، ولا يصح قولهم هذا ولا يستقيم «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» 212 مبعدون عنه ومحجوبون منه وممنوعون عن استراقه بالشهب الجهنمية، ثم خاطب رسوله بما أراد به غيره على طريق ضرب المثل: (إياك أعني واسمعي يا جاره) فقال عز قوله «فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» إذ لا إله لهذا الكون غيره فاحذر من هذا أيها الإنسان، «فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ» 213 إن أقدمت على ذلك وهذا مما لا شك فيه مراد به غيره صلّى الله عليه وسلم لأنه عليه محال لوجود العصمة، وإنما خاطبه به ليحذر الغير من الإشراك بالله على طريق التعريض تحريكا لزيادة الإخلاص لله، وإلهابا للقلوب بالتباعد عنه، وعلى فرض المحال لو أريد به حضرة الرسول فيكون ذلك على حد قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآية 45 فما بعدها من سورة الحاقة في ج 2، فيكون المعنى: وإن كنت يا محمد وأنت أكرم الخلق علي اتخذت شريكا في دعائي لعذبتك، وفيه تحذير عظيم للغير قال تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» 214 خصّهم بالذكر لنفي التهمة عن التساهل معهم في أمر الدين وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئا إذا حل بهم عذابه وليعلم الناس كافة أن النجاة في اتباعه والتصديق لما جاء به في دينه لا في قرابته، راجع الآية 89 المارة «وَاخْفِضْ جَناحَكَ» يا سيد الرسل «لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 215 بك القريب منهم والبعيد، أما الكافرون فلا يليق أن تلين لهم جانبك، بل شدد عليهم برفض الشرك وحذرهم من تكذيبك «فَإِنْ عَصَوْكَ» أقاربك وعشيرتك وسائر قومك، ولم يقبلوا نصحك ولم يلتفتوا لإرشادك «فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» 216 من الكفر والمعاصي والأفعال الذميمة والأحوال السافلة، واتركهم ولا تعبأ بهم الآن، لأنك لم تكلف إلا بإبلاغهم ما يوحى إليك، وذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد، ولذلك

مطلب أن الأقارب أولى من غيرهم في كل شيء:

اقتصر أمره على الإنذار والتبشير والتبري مما هم عليه من القبائح، لا منهم لأنه لو أمر بالتبري منهم لما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة. مطلب أن الأقارب أولى من غيرهم في كل شيء: وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا قيمة له، لأن معناها صحيح قبل آية السيف وبعدها، وحكمها باق، لأن لأقربين لهم مزية على غيرهم، ولين الجانب مطلوب للجميع ومن الجميع، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين انزل الله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال يا معشر قريش أو كلمة غيرها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، سليني ما شئت من مالي. وحديث البخاري ومسلم عن ابن عباس في هذا المعنى تقدم في سورة المسد المارة، فراجعه. وروى مسلم عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمر قال: لما نزلت وأنذر الآية انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رحمة جبل فعلا أعلاها ثم نادى: يا بني عبد مناف اني نذير لكم، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صاحباه، وروى محمد بن اسحق بسنده عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لما نزلت هذه الآية على رسول صلّى الله عليه وسلم قال يا علي إن الله أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها صمتة حتى جاءني جبريل، فقال يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربّك، فاصنع لي طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ أربعين رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئت به فتناول صلّى الله عليه وسلم جذبة من بعض اللحم، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في الصفحة، ثم قال خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم الله إن كان الرجل

الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم، ثم قال اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا، وأيم الله ان كان الرجل الواحد ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال الغد يا علي فان هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فأعدوا لنا الطعام مثلما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاحجم القوم عنها جميعا، وأنا أحدثهم سنا، فقلت أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه، فأخذ بمرقبتي، ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه. هذا، وعليه أن من بدا له شيء فليفعله أولا بنفسه، ثم بدأ بالأقرب فالأقرب من أهله ومن يواليه، فيكون انفع قولا وأنجح نتيجة وأبعد عن الطعن، قال الله تعالى «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ» الذي لا يذل من والاه ولا يعزّ من عاداه «الرَّحِيمِ» 217 الذي ينصر من فوض إليه أمره ويرحم من لا يعرف غيره «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ» 218 في الليل وحدك تتهجد له بصلاتك التي خصصت بها وتتضرع إليه بدعواتك التي الهمتها منه دون أن يراك أحد غيره «وَ» يرى «تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» 219 في أصلاب الأنبياء أجدادك، إذ تتنقل من واحد لآخر حتى اخرجك الى هذه الأمة، وهذا من أعظم ما وفقت إليه. واعلم أن كلمة الساجدين تشمل الأنبياء والمؤمنين، وتدل على إيمان أبويه صلّى الله عليه وسلم كما ذهب إليه كثير عن أجلة العلماء قال محمود الآلوسي في تفسيره روح المعاني: وأنا أخشى على من يقول فيهما رضي الله عنهما بغير ذلك الكفر على رغم القارئ واضرابه، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى أحيا له أبويه وعمّه أبا طالب فآمنوا به، ولا يلتفت الى قول من ضعفه، لأنه ناشىء عن ضعف إيمانه، على أن أبويه من أهل الفترة، وهم كلهم ناجون على القول الصحيح الراجح بدلالة قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ

حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من سورة الاسراء الآتية، أو أنّ المعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه، وتفسير الساجدين من الأنبياء، رواه الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس، إلا أنه فصر التقلب بالتنقل كما ذكر آنفا، أما التفسير بالمصلّين وإن ذهب اليه كثير من المفسرين فهو بعيد، لأن الصلاة لم تفرض بعد، وأبعد منه من جعل الصلاة صلاة الجماعة، وهي لم تفرض بمكة وهذه السورة مكية بلا خلاف، وخاصة هذه الآية، ويجوز أن يراد تقلبك في المجتهدين لتفحص أحوالهم وتطلع عليهم وتستبطن سرائرهم وهذا القول على ضعفه لا بأس فيه، لأن الله تعالى فرض على نبيه صلاة ركعتين في الغداة ومثلها في العشية، وفرض عليه قيام بعض الليالي خاصة كما نص عليه أول سورة المزمل المارة، وكان يتهجد فيهن ويشاركه بعض أصحابه في ذلك، فيحتمل أنه تفقد أحوالهم ليراهم يداومون عليها اقتداء بفعله أم لا، فنزلت هذه الآية، أما ما جاء في روح المعاني من أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى الله عليه وسلم تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم، فوجدها كبيوت النحل لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة، فلا يتجه لان هذه الآية 20 من سورة المزمل التي عبر عنها بأنها نسخت أول السورة بشأن القيام نزلت في المدينة ولا علاقة لها بالآية المفسرة، وقد بيّنّا في المقدمة ما يتعلق بالنسخ في هذه الآية وعدمه في آخر سورة المزمل المذكورة، فراجعها «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 220 يسمع دعاءك ويعلم عملك، ثم قل يا أكرم الرسل لهؤلاء الكفرة «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ» 221 لتجاريهم على أقوالهم السالفة فإنها «تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ» مختلق للكفر مثل هؤلاء القائلين إن الشياطين تلقي عليك هذا القرآن وكل منهم «أَثِيمٍ» 222 مرتكب للآثام الكثيرة كالسحرة والكهنة المتنبئين كذبا فتراهم «يُلْقُونَ السَّمْعَ» الذي يسمعونه من الملائكة فيلقونه للكهنة مع أضعافه كذبا «وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» 223 فيما يخبرونه به، لأن منهم من لا يسترق السمع وإن محمدا مبرا من ذلك معصوم من هذه الصفات المتلبس بها الكهنة والسحرة والمشعوذين، قيل هذا كان قبل مبعث الرسول وعليه يكون أكثر بمعنى الكل على

مطلب في الشعر مليحه من قبيحه والآيات المدنيات:

حد قوله تعالى (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الآية 50 من آل عمران في ج 3 يريد كله. وذلك لأنه لا يكون أحد من الكهنة والشياطين صادقا، وسيأتي في تفسير هذه الآية أن سيدنا عيسى لم يحل لهم كل ما حرم على بني إسرائيل، لهذا فإن تفسيرها على ما جرينا عليه أولى والله أعلم، ومن هنا الى آخر السورة نزل بالمدينة، وذلك أن جماعة ممن يقول الشعر من قريش كعبد الله بن الزبعرى السهمي وهبيرة بن أبي لهب المخزومي ومسافع بن عبد منات وابو عمر بن عبد الله الجحمي وأمية بن أبي الصلت الثقفي عليهم من الله ما يستحقون، صاروا يهجون حضرة الرسول ويقولون نحن نقول مثل ما يقول، وتبعهم في هذا السفهاء من قومهم. مطلب في الشعر مليحه من قبيحه والآيات المدنيات: ثم ان رجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا فيما بينهما ومع كل واحد غواة من قومه، فأنزل الله فيهم «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» 224 المغالون في الكذب والباطل وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ومدح من لا يستحق المدح وذم من لا يستوجب الذم، يعني أن هذا الذي يقوله هؤلاء لا يستحسنه إلا المتوغلون في الضلالة المنهمكون في الغواية، «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» 225 فيتحدثون في جميع أنواع الكلام وأبوابه مما مصدره اللغو في الباطل ويخوضون بما فيه الكذب والزور من البهت والافتراء، والهائم هو الذاهب على وجهه بلا قصد معين وهذا تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول، فتراهم يفضلون الجاهل على العالم، والجبان على الشجاع، والبخيل على الكريم، والكاذب على الصادق، والخائن على الأمين، والقبيح على الصبيح، والرذيل على الجميل لأدنى لفتة من وجيه أو دانق من مال، فلهذا تراهم حائرين، وعن الطريق السوي حائدين، ولسبل الضلال رائدين، سمع سليمان بن عبد الملك قول الفرزدق: فبتن بجانبيّ مضرجات ... وبت أفض أختام الحنان فجاء به وقال وجب عليك الحد، قال ولم؟ قال لقولك هذا، قال قد درأه عني ربي. قال وبم؟ قال بقوله عز وجل «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» 226 حيث وصفهم بالكذب وخلف القول والوعد، وان قولهم بهت، لأنه مباين

لفعلهم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يرثيه خير له من أن يمتلىء شعرا. ومعنى يرئيه يبلغ الرئة محل التنفس من الحلقوم، كناية عن شدة الامتلاء. واعلم ان القول بخلاف العمل مذموم ليس بالشعر فقط والشعراء بل في جميع القول والناس كافة، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) . الآيتين 3/ 4 من سورة الصف في ج 3، ألا لينتبه الناس له ولا يخصوه بالشعر. مطلب ما هو المحبوب من الشعر: واعلم أن هذا الذم الذي في هذه الآية في حق الكافرين ومن يحذو حذوهم في اشعاره، أما الذين لا يكذبون مثلهم فقد استثناهم الله تعالى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم، فإنهم لا يهجون أحدا ولا يمدحون بالباطل، ولا يندمون على مدح المستحق إذا لم ينالوا منه شيئا، لأنهم لا يقصدون إلا الحق والصدق إذا طرقوا مواضيع القول ومخازن الكلام وخاضوا في معاني القوافي، كعبد الله ابن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضي الله عنهم، الذين كانوا زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ينافحون عنه ومن اقتفى أثرهم على نهجهم ومشى على خطتهم حتى الآن، روي أن كعب بن مالك قال للنبي صلّى الله عليه وسلم إن الله أنزل في الشعر ما أنزل (يعرض باجتنابه خشية أن يكون في عداد الشعراء المذمومين) فقال صلّى الله عليه وسلم: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النّبل. أي رميه. وعن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر يا بن رواحة بين يدي رسول الله وفي حرم مكة تقول الشعر: فقال صلّى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر، فلهن أسرع فيهم من نضح النبل- أخرجه الترمذي والنسائي- وكان هذا سنة سبع من الهجرة. ومن قال إن القائل لهذين البيتين كعب بن مالك

مطلب ما نسب من الشعر للخلفاء والأئمة وعهد ابي بكر:

لان عبد الله بن رواحة كان توفي قبل هذا، فقد اخطأ، لأن وفاته رحمه الله كانت في السنة الثامنة من الهجرة، وعمرة القضاء في السابعة منها بلا ريب، وروى البخاري ومسلم عن البراء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوم قريظة لحسان: أهج المشركين، فإن جبريل معك، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يناجز عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وينافح، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله ليؤيد حسانا بروح القدس ما نافح أو ناجز عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وله رضي الله عنه أقوال كثيرة في الذب عن حضرة الرسول ومدحه، منها قصيدته التي يقول فيها: فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء وروى البخاري عن بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ان من الشعر لحكمة. وعن ابن عباس قال لما جاء اعرابي الى النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال ان من البيان لسحرا وان من الشعر لحكما- أخرجه ابو داود- وروى مسلم عن عمر ابن الشريد عن أبيه قال ردفت وراء النبي صلّى الله عليه وسلم يوما، فقال هل معك من شعر أمية بن الصلت شيء، قلت نعم، قال هيه، فأنشدته بيتا فقال هيه، ثم أنشرته بيتا، فقال هيه، حتى أنشدته مئة بيت، - زاد في رواية لقد كان يسلم في شعره- وعن جابر بن نمرة، قال: جالست رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسّم معهم- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- مطلب ما نسب من الشعر للخلفاء والأئمة وعهد ابي بكر: هذا وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين الشعر وكثير من الصحابة، فمن شعر أبي بكر رضي الله عنه قوله: أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... ارقت وأمر في العشيرة حادث ترى من لؤى فرقة لا يعدها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه وقالوا لست فينا بصادق

الى أبيات كثيرة ختمها بقوله: فابلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يبتغي الشر باحث فان تشعثوا عرضي على سوء رأيكم ... فأني من أعراضكم غير شاعث ومن شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: توعدني كعب ثلاثا يعدها ... ولا شك أن القول ما قاله كعب وما بي خوف الموت إني لميّت ... ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب وقال أيضا: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينهما ترد حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما إذا وردوا وتروى هذه الأبيات لورقة بن نوفل، ومن شعر عثمان رضي الله عنه: غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن عضّها حتى يضر بها الفقر وقال عند موته رضي الله عنه: غدا نلقى الأحبة ... محمدا وحزبه أما علي كرم الله وجهه فقد ملأ الصحف شعره، وجاء من شعر ابنه الحسن: نسود أعلاها فتأبى أصولها ... فليت الذي يسود منها هو الأصل وكان متحنيا، وللحسين والعباس وسائر بني المطلب رجالا ونساء أشعار كثيرة، لأن كلا منهم نطق به عدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لأنه أبلغ في أمره، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به وما قاله صلّى الله عليه وسلم في الآية 99 من سورة يس المارة فراجعه، ففيه كفاية، أما أئمة الدين فجلهم يقول الشعر، فمما ينسب للشافعي رحمه الله قوله: ومتعب النفس مرتاح إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد وضاحك والمنايا فوق هامته ... لو كان يعلم غيبا مات من كمد من كان لم يؤت علما في بقاء غد ... فما يفكر في رزق لبعد غد ولد في مكة سنة 150 وتوفي سنة 204 هجرية ودفن بقرافة مصر، والإمام الأول أبو حنيفة ولد سنة 80 وتوفي سنة 150 ودفن بالأعظمية في بغداد،

والإمام الثاني مالك بن أنس ولد سنة 95 بالمدينة وتوفي سنة 179 ودفن فيها، والإمام الرابع أحمد بن حنبل ولد سنة 164 في بغداد وتوفي سنة 241 ودفن غربي دجلة في بغداد، وكلهم رضي الله عنهم نزار قبورهم ويتبرك بهم، نفعنا الله بهم وبعلومهم وجعلنا من أتباعهم، لأنهم عبدوا الله كثيرا «وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً» فلم يشغلهم شاغل من الشعر والعلم والعمل وغيرها عن ذكر الله، حتى أنهم ختموا أقوالهم وأشعارهم بذكر الله وخرّجوها بمدح الرسول، «وَانْتَصَرُوا» ممن اعتدى عليهم بفضل الله وكرمه «مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» بأنواع العداء والهجاء والسخرية والاستهزاء «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا» من هؤلاء الكفرة وغيرهم المار ذكرهم في الآية 23 المارة فما بعدها «أَيَّ مُنْقَلَبٍ» مرجع فظيع ومصير قبيح «يَنْقَلِبُونَ» 227 إليه بعد الموت، وبئس المنقلب منقلبهم، لأنه جهنم، أما المؤمن فنعم المنقلب منقلبه، لأنه الجنة إن شاء الله، ختم الله تعالى هذه السورة الكريمة بما يقطع أكباد المنذرين في هذه الآية العظيمة، لما فيها من الوعيد الشديد، والتهديد المهول الذي لم يبينه الله، وفي إبهامه دلالة على فظاعته، والإبهام في الشيء أشد بلاغة من الإظهار، ولهذا فإن أبا بكر لما عهد إلى عمر رضي الله عنهما بالخلافة ختم عهده إليه بها، وهذه صورة العهد حرفيا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما عهد به أبو بكر بن قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن بها الكافر ويتقي فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب إني استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وإن يجر ويبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرى مما اكتسب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) هذا، وإن السلف الصالح يعظ بعضهم بعضا في هذه الآية الجليلة المهيبة، وهي محل الوعظ منذ نزولها وإلى أن ترفع من الأرض، قال ابن عطاء الله: سيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا. وقال غيره: أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم ولا معنى أساؤوا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا فإن عادوا لنا عدنا ... وإن خانوا فما خنّا وإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهمو أغنى

تفسير سورة النمل 48 - 27

ولا توجد سورة في القرآن مختومة بما ختمت به هذه، لأن هذه الآية العظيمة الرهيبة التي كان ملوك الأمويين والعباسيين يهدّدون بها من قبل الأصحاب والتابعين، ومن بعدهم العلماء حينما كانت الملوك تصغي لأقوالهم وتتبرك بدعواتهم وتتشرف بقولهم. هذا، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. تفسير سورة النمل 48- 27 نزلت بمكة بعد الشعراء، وهي ثلاث وتسعون آية، وألف وثلاثمائة وسبع عشرة كلمة، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وستون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة بمثل هذين الحرفين الطاء والسين. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى: «طس» الله أعلم بمراده فيه، راجع تفسير طسم قبلها وما ترشدك إليه لندرك تفسيره «تِلْكَ» الآيات العظام المنزلة عليك يا سيد الأنام هي «آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» 1 أي وآيات اللوح المحفوظ لدينا، الذي لا خفاء في حكمه وأحكامه وأخباره وأمثاله، فهو «هُدىً» من الضلال في الدنيا «وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» 2 العاملين فيه بالآخرة وهم المبينون بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» اللتين ستفرض عليهم حتما، وقيل المراد بالصلاة الركعتان المفروضتان عليه صلّى الله عليه وسلم، وقلده فيهما من آمن به، وبالزكاة ما كان متعارفا عندهم من الصدقات، لأن هاتين العبادتين لم تخل أمة منهما ولو اختلفا في الكم والكيف، لأن الله تعالى تعبد فيهما كافة الأمم، لأنهما قوام الدين والدنيا، لما في الأولى من المنافع التي تعود على صاحبها بكل خير وفي الثانية من المنافع المادية التي تعود على المحتاجين بقضاء حوائجهم، وعلى المتصدقين برضاء الله «وَهُمْ» القائمون بهاتين العبادتين «بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» 3 يصدقون تصديقا خالصا، فمن جمع مع الإيمان هذه الخصال فلا خوف عليهم في العاقبة «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لا تنفعهم أعمالهم الحسنة عند الله مهما كانت لأنهم من الذين «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» الخبيثة في الدنيا، فرأوها حسنة،

وذلك أن الله تعالى يخلق لمثل هؤلاء العلم في قلوبهم مما فيه المنافع واللذات الدنيوية، ولم يخلق فيها خوف المضار والآفات، لذلك يرون أعمالهم القبيحة حسنة «فَهُمْ يَعْمَهُونَ» 4 يترددون في حيرتهم كما يفعل الضال عن الطريق السوي، لأن العمه هو عمى القلب لا ينفع البصر «أُوْلئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ» في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء وإهانة وذلا «وَهُمْ» مع خسارتهم الدنيا «فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» أيضا على ما فرطوا من دنياهم وأفرطوا في أمر آخرتهم، فتراهم كثيري الخسارة والحسرة والندم، لأن الإنسان يعمل في الدنيا ليربح في الآخرة، فكيف إذا خسر فيهما فيكون من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ولم ينتفعوا بأعمالهم فيساقون إلى جهنم، وهذا غاية الخسران لا سيما إذا رأوا نجاة المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا «وَإِنَّكَ» يا سيد الرسل «لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ» بواسطة أميننا جبريل الذي يأتيك به «مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ» وأي حكيم لأن التنوين والتنكير يدلان على التعظيم والتفخيم، والحكمة هي العلم بالأمور العالية والعلم قد يكون علما وقد يكون نظرا فهو أعم من الفقه «عَلِيمٍ» بما كان لدينا قبل كونه وما يكون فينا قبل أن يكون، واذكر لقومك يا سيد «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ» زوجته ومن كان معها من ابنه وخادمه «إِنِّي آنَسْتُ ناراً» أبصرت ما استانس به لحاجتكم، لأن الوقت كان ليلا وباردا ولم يعرفوا الطريق أيضا، فامكثوا مكانكم لأذهب لمكانها، و «سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» عن الطريق «أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ» تستدفئون به إن لم أجد من يهدينا الطريق ونبقى هنا حتى يتبين لنا ذلك، والشهاب الشعلة من النار، والقبس النار المقبوسة منها، أو العود الذي في أحد ظرفيه نار، وهو ما تعورف به عندنا الآن، وقرىء بشهاب قيس على الإضافة وهي قراءة جائزة إذ ليس فيها نقص ولا زيادة ولا تبديل في المعنى بخلاف ما بيناه في الآية 166 من البقرة المارة «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» 7 تستدفئون، لأن الوقت شتاء، فأجابوه لما طلب، فتركهم وذهب، وكان في إضلالهم الطريق هداهم راجع الآية 10 من سورة طه المارة.

مطلب بدء نبوة موسى وكيفية تكليمه:

مطلب بدء نبوة موسى وكيفية تكليمه: قال تعالى «فَلَمَّا جاءَها» وأبصر تلك النار «نُودِيَ» من جهتها «أَنْ بُورِكَ» أن هنا تفسيرية للنداء، والمعنى أي بورك لما في النداء من معنى القول دون حروفه، وضمير بورك يعود على موسى عليه السّلام، وقيل إنها مخففة من الثقيلة وجاز كونها كذلك من غير حاجة الفصل بينهما وبين الفعل بقد والسين وسوف أو أحرف النفي، لانها وليت فعل دعاء وهو مستثنى من تلك الفواصل، خلافا لأبي علي الفارسي القائل إن أن المخففة لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل ليس بشيء يعتدّ به، لان هذا ليس على إطلاقه، فقد استثنى من عموم فعل الدعاء «مَنْ فِي النَّارِ» من جاء لأجلها إلى المحل الذي هي فيه «وَمَنْ حَوْلَها» موسى وغيره من الملائكة فيشمل كل من هو في تلك البقعة والبقعة نفسها، لانها مبعث الأنبياء ومهبط الوحي، وهي المعينة بقوله تعالى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) الآية 19 الآتية من سورة القصص، وتفيد هذه الآية المفسرة إبداء التحية العظيمة من الله عز وجل لموسى عليه السّلام، وفيها إشارة إلى حصول البركة في أراضي الشام التي هي حول تلك البقعة المقدسة المشار إليها في قوله تعالى حكاية عن حال إبراهيم عليه السّلام: (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2 وبشارة عظيمة من الله إلى موسى أيضا بحدوث أمر ديني فيها، وهي استنباؤه، ورسالته، وتكليمه، وإظهار المعجزات على يده، وتجديد دين أبيه إبراهيم عليه السّلام. ثم اعلم هداك الله أن لا مجال للقول هنا بأن السمع من الشجرة أو من جهة النار يدل على حدوث المسموع وهو كلام الله تعالى، لأن الله منزّه عن الجهة والمكان، وكذلك كلامه، لأن سماع موسى كلامه من إحدى الجهتين المذكورتين يرجع إلى موسى لا إلى الله، وان الله تعالى خلق لموسى علما ضروريا علم به أن الذي يسمعه هو كلام الله القديم الأزلي من غير صفة ولا صوت ولا جهة، فقد سمعه وحده من الجهات الست، وصارت جميع جوارحه كسمعه، ولو فرض أن هناك أحدا معه لما سمع شيئا البتة، وهكذا كان محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما ينزل عليه الوحي، يعلمه وحده دون الحاضرين معه، راجع الآية 195 من سورة الشعراء المارة،

وسماع كلام الله في الآخرة يكون على هذه الصفة، لأن الكامل الواصل يكون له في الدنيا حكم الآخرة، وقيل في هذا المعنى: إذا ذكرت ليلى فكلي مسامع ... وإن ظهرت ليلى فكلي أعين أي أنه يرى ويسمع بكل جوارحه وهي مبالغة عن شدّة تلذذه بما يسمعه ويراه منها لتوغله في محبتها، ولأن حبّها تداخل فيه وجرى في عروقه مجرى الدم منه. ثم اعلم أيضا أنه لا يجوز السؤال عن الكيفية في ذات الله تعالى وصفاته، إذ لا يقال كيف ذاته من غير جسم ولا جوهر ولا عرض، ولا كيف علمه من غير كسب وضرورة، ولا كيف قدرته من غير صلابة، ولا كيف إرادته من غير شهوة وأمنية، ولا كيف تكليمه من غير حدة ولا صوت، لأن هذا كله من نعوت البشر، ولأن الله تعالى سدّ هذا الباب عليهم بقوله جل قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الآية 11 من سورة الشورى في ج 2، أما كيفية سماع موسى كلامه فقد وضحته لك أعلاه، فاغتنم هذا، فإنك لا تجده على هذا التفصيل والتمثيل في كتب كثيرة، واحمد الله على إنعامه «وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 8 وهذه الجملة من تتمة مانودي به موسى، أي نزه ربك عما لا يليق به، فقد نزه تعالى شأنه ذاته المقدسة بذاته عن صفات خلقه وعما تتخيله الأوهام من التشبيه والتمثيل، وفيها تعجب إلى موسى بأنه سيلقى من جلائل الأمور وعظائم الشئون ما يتعجب منه المتعجبون. وما قاله السدي بأن هذه الجملة من كلام سيدنا موسى، بعيد عن المقام ويأباه مدلول الكلام، لأن موسى لم يتكلم بعد، كيف وقد اعتراه ما اعتراه من الدهشة وهيبة الربوبية التي ألمعنا إليها في الآية 10 من سورة طه المارة، ولما رأى الله تعالى موسى كما كان مرئيا في الأزل لديه وقد أخذته الرهبة، أراد أن يعرفه بذاته المقدسة ويزيل عنه ما أهابه ليمهد له ما أراد أن يلقيه عليه ويظهره على يده من الأمور الغريبة، ناداه «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» 9 الذي يكلمك هو أنا، ولفظة الجلال بيان للفظة أنا والعزيز الغالب لما يفعله من العجائب والبدائع بمقتضى الحكمة، وهي صفتان له جلّت صفاته وفيها إشارة إلى كمال قدرته وقوة عظمته ورمز إلى أنه سيبين له ما يستبعده الوهم المستفاد من قوله «وَأَلْقِ

[سورة النمل (27) : الآيات 11 إلى 20]

عَصاكَ» فألقاها حالا دون تردد، امتثالا لأمره من غير أن يعلم المراد من إلقائها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ» تنحرك بشدة «كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة لشدة اضطرابها، وتقدم في الآية 10 من سورة الأعراف والآية 15 من سورة طه والآية 32 من سورة الشعراء فقد بينا فيها التوفيق بين ما جاء فيها هنا وهناك، فراجعها. فلما رأى حركة عصاه وما انقلبت إليه هاله شأنها فتأخر عنها، وهو معنى قوله تعالى «وَلَّى» ظهره محلها «مُدْبِراً» عنها وهرب خوفا مما رأى وازداد اضطرابه «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع ويلتفت عقبه إليها ثم ناداه عز وجل ثانيا «يا مُوسى لا تَخَفْ» مما رأيت، ارجع لأني أريد أن أجعلك رسولا لي «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» 10 لأني آمنتهم مما يخافون. واعلم أن الله تعالى يفعل هذه المقدمات مع خلص خلقه من عباده الذين يختارهم لنبوته، ويصطفيهم لرسالته، بداية أمرهم إرهاصا لأقدارهم على تلقي وحيه، ليتوطنوا عليه، ويعلموا كيفية نزوله، وهذا الخوف غير الخوف الذي هو شرط الإيمان، فإن ذلك لا يفارقهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنا أخشاكم لله- راجع الآية 27 من سورة فاطر المارة- ثم استثنى من عموم كلامه قوله «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» منهم بفعل ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى أو زل عن غير قصد أو استعجل في أمره كآدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم ويونس عليهم السلام، وقد سبقت الإشارة إلى ما صدر من كل منهم وتأويله وتفسيره ودواعيه في محله، وقد سمى الله ما حدث منهم ظلما بالنسبة إليهم، راجع الآية 2 من الأعراف المارة والآية 23 من ص والآيتين 63 و 85 من سورة هود في ج 2، قال تعالى «ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ» تاب وندم على ما صدر منه، وقد سماه سوء أيضا نظرا لمقامهم وإلا في الحقيقة لا يسمى ظلما ولا سوء بالنسبة لغيرهم، لأنه على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين «فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» 11 به أعفو عما صدر منه ثم ناداه ثالثا بقوله «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» اجعلها تحت إبطك «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، فأدخلها امتثالا لأمره، من غير أن يعرف الغاية منها، ثم أخرجها فإذا هي تبرق كالشمس، وبعد أن توطن لكلام الله قال اذهب «فِي تِسْعِ آياتٍ» مع هاتين الآيتين كما بيناها

مطلب أن الله تعالى خص الأنبياء بأشياء خاصة لأمور خاصة:

في الآية 132 من الأعراف المارة، وهذه كلها قبل خروجه من مصر وعبوره البحر، أما بعدهما فقد أظهر الله له آيات كثيرة، أولها انفلاق البحر، ثم تفجير الماء من الصّخرة، والمن والسلوى، والغمام والطمس، وخسف الأرض بقارون، وإحياء صاحب البقرة، وإحياء هارون، وغيرها، ولبحث آياته عليه السّلام صلة في الآية 100 من الإسراء الآتية، وقد أرسلناك بهذه الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 12 متجاوزين الحد في الكفر والعدوان، خارجين عن الآداب والمروءة، فذهب وأخذ أهله وتوجه إلى فرعون، وقد قص الله لنا ما وقع بينهما في الآية 113 من سورة الأعراف فراجعها، قال تعالى على طريق الإجمال «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً» على يدي موسى واضحة يشاهدونها بأم أعينهم وتتيقن بها قلوبهم «قالُوا هذا» الذي جاء به موسى «سِحْرٌ مُبِينٌ» 13 مكابرة وعنادا «وَجَحَدُوا بِها» أنكروا تلك الآيات وكفروا بها «وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ» بأنها من الله ليست بسحر ولا كهانة، وأيقنوا أن موسى ليس بساحر ولا كاهن، وأنه رسول الله حقا، وهذا هو الجحود المركب، لأن كل ما تيقنته وأنكرته فهو كذلك، لصدوره عن تعنت وتجبّر وعناد ومكابرة، أما من هداه الله كالسحرة ومؤمن آل فرعون وزوجته آسية، فإنهم صدقوا وآمنوا حينما تجلت لهم الحقيقة، وأصرّ فرعون وقومه على الكفر «ظُلْماً» وأي ظلم حيث سموها سحرا وحطوها عن مرتبتها «وَعُلُوًّا» ترفعا واستكبارا عن الإيمان بموسى وربه «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل واعجب «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» 14 إذ أهلكناهم في دنياهم غرقا على الصورة المبينة في الآية 53 من سورة الشعراء، المارة، وستنظر عاقبتهم في الآخرة فهي أشد وأفظع وأقبح، وهكذا تكون عاقبة من لم يؤمن من قومك. مطلب أن الله تعالى خص الأنبياء بأشياء خاصة لأمور خاصة: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» عظيما في القضاء والسياسة لأمور نزيد إيقاعها على أيديهم كما قد قصصناه عليك في السور المتقدمة وما سنقصه عليك بعد، وعلمنا آدم الأسماء لإسجاد الملائكة له راجع الآية 34 من البقرة في ج 3، وعلمنا الخضر علم الفراسة ليتلمذ له موسى كما في الآية 41 فما بعدها من سورة الكهف في

مطلب قصة ابن كثير مع جاره وعظمة ملك سليمان وكلام الطيور:

ج 2، وعلمنا يوسف تعبير الرؤيا لنجعله ملكا على مصر راجع الآيتين 37 و 54 من سورة يوسف في ج 2، وعلمنا داود صنعة الدروع ليكون ملكا مع النبوة، راجع الآية 11 من سورة سبأ، وعلمنا سليمان نطق الطير لتؤمن به بلقيس كما سيأتي بعد، وعلمنا عيسى الحكمة والتوراة والإنجيل لتدفع عنه التهمة راجع الآية 48 من آل عمران، وعلمناك يا محمد علم الأولين والآخرين لنعطيك الشفاعة العظمى والرسالة العامة، وهكذا بقية الرسل أعطيناهم أشياء خاصة لتكون سببا لإنالتهم أشياء خاصة في الدنيا والآخرة «وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا» بالنبوة والرسالة والملك، ولم تجمع لمن قبلنا من الأنبياء في سبط من أسباط يعقوب، بل كان الملك في سبط والنبوة في آخر «عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» 15 بذلك وبما سيأتي من تسخير الجن والإنس والطير والهواء وغيرها راجع الآية 10 فما بعدها من سورة سبأ في ج 2، وقالا ما قالا إظهارا لشكر الله على نعمه وتحدثا بها ولم يفضلا أنفسها على الكل تواضعا وهضما لأنفسهما المطهرتين. مطلب قصة ابن كثير مع جاره وعظمة ملك سليمان وكلام الطيور: كان ابن كثير رحمه الله يجلس على بابه فيطالع، وكان له جار رثّ الثياب، وكلما خرج من داره ورآه على حالته يركب عليه فيشم منه رائحة كريهة، فعنفه يوما على فعله، وأخبره بأنه يعوقه عن مطالعته، فقال له وما تطالع؟ قال في الاقتباس، قال أنشدني منه شيئا، فقال موريا فيه فورا: كيد حسودي وهنا ... ولي سرور وهنا الحمد لله الذي ... أذهب عنا الحزنا الآية 38 من سورة فاطر، فأجابه فورا معرضا فيه أيضا: قلبي إلى الرشد يسير ... وعنده النظم يسير الحمد لله الذي ... فضلنا على كثير الآية المارة، فتعجب منه وقام إليه واحترمه، واعتذر منه، فقال له إياك أن تزدري بأحد، فإن مواهب الله في الصدور لا في الثياب.

قال تعالى «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» نبوته ورسالته وعلمه وملكه وحده خاصة دون سائر اخوته الثمانية عشر بتخصيص الله تعالى إياه وزاده على أبيه تسخير الجن والإنس والشياطين والريح ونطق الطير وكان يفهم تسبيحها فقط «وَقالَ» سليمان لأشرف قومه «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا» من قبل الله ربنا «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» أوتيه الأنبياء قبلنا والملوك، ومما لم يؤتوه من جميع ما تحتاجه الدنيا والآخرة «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» 16 الذي لا فوقه فضل، وقال هذا على سبيل التحدث بالنعمة أيضا على حد قوله صلّى الله عليه وسلم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر. قالوا وفي زمانه صنعت الأعاجيب من البناء والجنان والهياكل والتصاوير البارزة والمحاريب البديعة وغيرها، وجاء في تفسير البغوي أن ملكه دام سبعمائة سنة وستة أشهر، وهو أحد الأربعة الذين ملكوا الدنيا، قالوا إنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه وذنبه، فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا الله ونبيه أعلم، قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاووس فقال يقول كما تدين تدان. وصاح هدهد فقال يقول استغفروا الله يا مذنبون. وصاح طيطوى فقال يقول كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال يقول قدموا خيرا تجدوه، وصاحت رحمة فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال يقول سبحان ربي الأعلى، وقال تقول الحدأة كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه، والعقاب يقول في البعد عن الناس أنس، والديك يقول اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والضفدع تقول سبحان ربي القدوس، والقنبرة تقول اللهم العن مبغض محمد وآل محمد، والزرزور يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، والدراج يقول الرحمن على العرش استوى. وعدّ الضفدع مع هذه الطيور مع أنه ليس منها، إشعارا بأنه كما علمه الله منطق الطير علمه نطق بعض الحيوان والحيتان. والله أعلم بصحة ذلك، وإنما نقلناها لما فيها من الحكم البديعة التي تصح أن تكون موعظة وذكرى للمتعظين من البشر، والغافلين الذين لا يعقلون ما يراد بهم، إذ

مطلب الصفات الممدوحة بالملك وحكم وأمثال:

لو عقلوا لما لذّ لهم طعام ولا شراب، ولأكثروا من البكاء على أنفسهم وتركوا الضحك وتذكروا بمصير هذه الدنيا التي أغرتهم بزخارفها الفانية عن الدار الباقية، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مطلب الصفات الممدوحة بالملك وحكم وأمثال: قال تعالى «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» 17 يمنع أولهم من سرعة السير ليلحق آخرهم مجتمعون لشدة الازدحام الناشئ عن كثرتهم، والوزع المنع، قال عثمان رضي الله عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقال الشاعر: ومن لم يزعه لبه وحياؤه به فليس له من شيب فوديه وازع وإنما مال إلى حبس أولهم ولم يسق آخرهم ليلحقوا بهم رحمة ورأفة بهم، كي يستريح الأولون، ولا يزيد في تعب الآخرين. وقال محمد بن كعب القرضي: كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمس وعشرون للإنس، ومثلها للجن، ومثلها للطير، ومثلها للوحش. والفرسخ اثنا عشر ألف باع، لأنه ربع البريد الذي هو مسافة مرحلة، قال: أي بذراع اليد، وقالوا إن الجن نسجت بساطا لسليمان عليه السّلام من حرير وذهب فرسخا في فرسخ، وكان يوضع عليه كرسيه في الوسط وتوضع حوله كراسي الذهب والفضة ويجلس عليها العلماء والصلحاء والناس حولهم والجن والشياطين حول الناس، والوحوش حولهم وتظلّهم الطيور بأجنحتها، وكان له ألف بيت من قوارير فيها ثلاثمائة زوجة، وسبعمائة سرية، وأن الريح العاصفة ترفعه، والرّخاء يسير به بأمره، وأن الريح تخبره بما يتكلم به الخلائق، قالوا إن حراثا قال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح بأذنه، فنزل بموكبه ومشى إليه وقال له تسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. قال عمر رضي الله عنه: أخبرني يا رسول الله عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب، وخضعت له الأجساد، ما هو؟ فقال صلّى الله عليه وسلم ظل الله في الأرض، فإذا أحسن فله الأجر، وعليكم الشكر، وإذا

أساء فعليه الوزر، وعليكم الصبر. وقيل لكسرى أي الملوك أفضل؟ فقال الذي إذا حاورته وجدته عالما، وإذا خبرته وجدته حكيما، وإذا أغضبته كان حليما، وإذا ظفر كان كريما، وإذا استمنح منح جسيما، وإذا أوعد عفا، وإذا وعد وفى، وإذا شكي إليه كان رحيما. وقال حكيم ليزدجر: صلاح الملك الرفق بالرعية، وأخذ الحق منها بغير عنف، والتودد بالعدل إليها، وأمن السبيل عليها، وانصاف المظلوم، وردع الظالم. وجاء في الخبر: يوم واحد من سلطان جائر خير من سبعين سنة بلا سلطان، لأن عدمه يؤدي إلى الفوضى وسفك الدماء ونهب الأموال. وقال: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا والبيت لا يبتنى ما لم يكن عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للإمام أن يكون جائرا ومن عنده يلتمس العدل ولا للعالم أن يكون سفيها ومن عنده يلتمس الحلم. وقال آخر: المملكة تحب بالسخاء، وتعمر بالعدل، وتثبت بالعقل، وتحرس بالشجاعة، وتساس بالرياسة. وقال عليم: على الظالم أن يكون وجلا، وعلى المظلوم أن يكون جذلا، وعلى الأمير أن لا يتجاوز الحد فكل ما جاوزه لا يسمى فضلا، كالشجاع إذا جاوز حد الشجاعة نسب إلى التهور، والسخي إذا جاوز حد السخاء نسب إلى التبذير، والأديب إذا زاد حد الأدب نسب إلى الخساسة، واعلم أن الخوف خوفان: محمود وهو المقرون بالطاعة وحفظ الحدود مثل خوف الأبرار والأتقياء، ومذموم وهو المقرون بالمعصية ومخالفة الأوامر الشرعية مثل خوف إبليس وجنوده الذين يعلمون أن لهم خالقا يعاقبهم على عصيانهم وهم يخافون عقابه ويخالفون أوامره، والرجاء اثنان: رجاء من الله أن يرحمه في الدنيا ويعطف عليه قلوب أوليائه وعباده ويغمره بعفوه وعافيته، وفي الآخرة أن يشمله برحمته وشفاعة نبيه ويلحقه بعباده الصالحين. ورجاء من النفس من الآمال الباطلة وما يتخيّله له الشيطان من الأعمال الخسيسة والطمع فيما فيه من المعصية. هذا وأفضل المعرفة معرفة الرجل نفسه، وأفضل العلم وقوف العالم عند علمه، وأفضل المروءة استبقاء الرجل ماء وجهه، قال تعالى «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ» أشرفوا عليه لأن الإتيان غالبا

يكون من فوق، والوادي كل منخفض يسيل فيه الماء، وقد اختلف في هذا الوادي الكثير نمله حتى سمي به والمشهور أنه في اليمن وهو يسمى بهذا الاسم حتى الآن وكانت تذكره الناس بأقوالهم وأشعارهم، وما قيل إنه بالشام أو بالطائف فليس بشيء، «قالَتْ نَمْلَةٌ» لقومها سكان الوادي قولا فهمه سليمان عليه السّلام بان معناه ما ذكره الله بقوله «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ» سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 18 لكثرة غلبتهم ومراعاتهم نظام المشي، وذلك أن الجند إذا سيرهم قائدهم على جهة كان مشيهم بانتظام نحوها حتى إذا كان أمامهم شيء يدوسونه ولم يحيدوا عنه، ولهذا تقدمت النملة بالعذر لسليمان عليه السّلام ووصفته وجنوده بالعدل والرحمة والتباعد عن الجور، إذ علمت بإلهام الله إياها أنه نبي لا يجور ولا يتيه ولا يظلم، قالوا وكان اسمها طافيه وهي عرجاء ذات جناحين «فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها» إعجابا بما آتاها الله من معرفة، وسرورا بما آتاه الله من سماع وفهم لقولها، ولما وصفته وقومه به من الشفقة المستفادة من قولها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) والتبسم سمة الأنبياء. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قال الأبوصيري: سيد ضحكه التبسم والمشي الهوينا ونومه الإغفاء واللهوات اللحمات المشدقة على الحلق أو التي ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب في أعلى الفم، مفرده لهاة، قالوا ثم إن سليمان حبس جنوده أي أوقفهم ومنعهم من مداومة السير، وأمر بإهباط البساط، فنزل على شفير الوادي، لأنه لو أهبطه فيه لتحطم النمل لعظمه وثقله، وانتظر حتى دخل النمل كله مساكنه فلم تكسر منه واحدة، ثم حمد الله وأثنى عليه «وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» كفني عن كل شيء مؤذ وامنعني من كل شيء مضر، ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» من قبل «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» لأن العمل مهما كان حسنا إذا لم يرضه الله لا يعد شيئا، والعمل الطيب الخالص لوجهه السالم من الرياء وشوائبه هو المرضي عند الله «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي

[سورة النمل (27) : الآيات 21 إلى 30]

عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» 19 من آبائي إبراهيم وإسماعيل ومن قبلهم، ثم أمر العسكر بالنزول إلى الوادي، فاصطف كعادته وسار وركب هو البساط وأمر ملأه فركب حوله كهيئته المارة، ثم نظر إلى الطير المحلق فوقه فرأى كوة بينه «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ» ليعلم الغائب منه، لأنه إذا حلق فوق البساط لم يترك كوة ينفذ منها شعاع الشمس على من فيه «فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ» إذ عرفه أنه هو الغائب الذي سبب وجود الكوة ونفوذ الشمس، ربما أن الهدهد له أهمية بالنسبة لغيره عدا سد الكوة لأنه الدليل على الماء إذ يعرف بتعريف الله إياه الأرض التي فيها الماء وقربه وبعده فيها بمجرد نظره، فيرى الماء داخلها كما يرى الناس الماء في الزجاجة وكما يرى القرلي السمك بأرض الأنهار وهو عائم فوقها، فيسقط ويأخذها. سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ولما تحقق عند سليمان غياب الهدهد قال «أَمْ» بل «كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» 20 ولما كان غيابه بغير إذن منه توعده، فقال «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً» قالوا بحبسه مع ضدّه بالشمس أو بنتف ريشه أو يفرق بينه وبين إلفه، هذا إذا جاء عليه بشيء أوجب غيابه لمجرد عدم الاستئذان، أما إذا كان تخلفه عن وجوده بمحله دون معذرة فتشدد عقوبته، ولهذا قال «أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 21 حجة واضحة على غيبته بصورة اضطرارية لا يتمكن معها من الاستئذان، فإنه ينجو من العذابين المذكورين، قالوا ثم أرسل العقاب يطلبه فذهب «فَمَكَثَ» يتحراه «غَيْرَ بَعِيدٍ» أي مدة يسيرة وانتظره سليمان انتظارا قليلا، فوجده الغراب وأخبره بما توعده به سليمان، فقال له أو ما استثنى؟ قال بلى، وذكر له كيفية الاستثناء، قال نجوت إن شاء الله، فسار معه حتى أحضره أمام سليمان، فرفع الهدهد رأسه وأرخى ذنبه، وحط جناحيه في الأرض تواضعا وخشوعا وخوفا منه، ولما سأله عن تخلفه، قال قبل أن يبدي حجته: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فارتعد سليمان لكلامه هذا، وعفا عنه قبل إبداء عذره، هكذا كانت الأنبياء وهم ملوك فتخلقوا أيها الناس بأخلاقهم، واقتدوا بأفعالهم وأقوالهم، فلو أن أحدنا مكانه لضرب به الأرض حالا دون رويّة.

مطلب ما قاله الهدهد لسليمان وعلوم القرآن الأربعة: قالوا ثم سأله عن تأخره «فَقالَ» بعد أن أمن «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» ألهمه الله هذا الكلام لينبّه سليمان بأن أدنى خلق الله علم ما لم يعلمه وهو بما عليه من النبوة والرسالة والملك، والإحاطة أبلغ من العلم بالشيء وقد أخفى الله مكان بلقيس على سليمان لمصلحة علمها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ثم قال «وَجِئْتُكَ» يا رسول الله وملك الزمان «مِنْ سَبَإٍ» اسم لقبيلة جدها سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، كان له عشرة أولاد سكن ستة منهم اليمن وأربعة الشام، وجاء أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: رجل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة واسم البلد التي هو فيها سبأ مأرب، ثم اعلم أنه جاء في رسم القرآن خاصة زيادة حروف تكتب ولا تقرأ وهي من معجزات القرآن لأن في اللغات الأجنبية حروفا تكتب ولا تقرأ ولهذا لم يغفل القرآن ذلك مثل الالف في (لَأَذْبَحَنَّهُ) هنا والهمزة في (بِأَيْدٍ) الآية 47 من الذاريات في ج 2، والألف في (بشراى) وفي كلمة جزاؤه في الآيتين 19 و 74 من سورة يوسف ج 2، والواو في كلمتي الصلوات والزكاة في كثير من الآيات المكية والمدنية، والألف في كلمة (السُّواى) الآية 10 من سورة الروم وفي كلمة (لِشَيْءٍ) الآية 14 من سورة الكهف في ج 2 أيضا وهذه لا تكتب في غير القرآن، إذ كان في رسم قرآن عثمان رضي الله عنه هكذا، وجب التقيد فيها حتى الآن وما بعد، ومن هنا تعلم أن العلوم المتعلقة بالقرآن أربعة: الاول ما يتعلق بكتابته، وهو علم الرسم، الثاني ما يتعلق بالأداء وهو علم القراءات السبع، الثالث ما يتعلق بكيفية الأداء وهو علم التجويد، الرابع ما يتعلق بالألفاظ وهو علم الإعراب والبناء والتصريف والبيان والبديع والمعاني، وقد المعنا إلى بعض هذا في المقدمة وما بعدها عند كل مناسبة، وهكذا إلى آخر هذا التفسير المبارك ومن الله التوفيق، ثم قال وسأخبرك «بِنَبَإٍ يَقِينٍ» 22 عما وجدت ورأيت مما لا مرية فيه، فتشوق سليمان لذلك وقال أخبرني ما هو؟ قال «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» يحتاجه الملك والملك «وَلَها» يا سيدي «عَرْشٌ عَظِيمٌ» 23 فخم كبير لا نظير له، واستعظمه بالنسبة إليها، قالوا كان

ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا، وارتفاعه كذلك، وهو مصوغ من الذهب، ومكلل بالدّر والياقوت، ومرصع باللآلي الثمينة، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وأبيض وزمرد، وعليه سبع أبيات بعضها داخل بعض، على كل بيت باب مغلق، قالوا ثم قال له ومن أعلمك بذلك حتى ذهبت إليه؟ قال لا أحد، ولكني يا نبي الله لما اشتغلتم بالنزول من أجل قول النملة، وجدت فرصة لأن أطير بالفضاء في نظر هذا الكون، فرأيت هدهدا مثلي اسمه يعقير، وكان اسمه يعفور فسألني، فأخبرته عنك، وعن ملكك، وما سخره الله لك، فقال لي وأنا عند ملكة لا تقل عن ذلك، واسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان. مطلب ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان: قالوا كان أبوها يقول لسفراء الملوك لا أحد كفوء لي، ولم يتزوج منهم، فتزوج جنية اسمها ريحانه بنت السكن ملك الجن، وسبب زواجها أنه رأى حيتّين تقتتلان، فقتل السوداء ورش الماء على البيضاء، حتى أفاقت وانقلبت شابا، فعرض عليه المال، فأبى، فزوجه ابنته، وقال له إن الحيّة السوداء عبد تمرد علينا وقتل منا كثيرا، فأردت قتله كما رأيته، فلم أستطع، ولولاك لقتلني، ولهذا كافأتك بابنتي. وتوجد روايات أخرى لم نعتمد صحتها، وأنا في هذه شاك أيضا، وإنما نقلناها استنادا لما جاء في بعض الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن أحد أبوي بلقيس جنّي. قالوا وبعد وفاة أبيها ملك قومها عليهم ابن عمها، فساءت سيرته فيهم وصار يفجر في نساء رعيته، وقد عجزوا عنه، فاحتالت عليه وخطبته لنفسها، فخطبها، وقال لها ما منعني من خطيتك إلا اليأس منك، فقالت له لا أرغب عنك، لأنك كفو كريم، ولما زفت له بادرته بالخمر حتى سكر، فقتلته، ثم جمعت الوزراء وأنبتهم على صبرهم عليه مع انتهاكه حرماتهم، وقالت ما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته من هذا الفاجر؟ وأظهرته لهم مذبوحا، وقالت اختاروا من تملكونه عليكم، فقالوا لا نرضى غيرك بعد أن فعلت هذا وصنت كرائمنا منه، فملكوها عليهم والله أعلم. روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال:

لن يفلح قوم ملكوا أمرهم امرأة. وبمناسبة قول الهدهد لسيدنا سليمان نذكر للقراء أن السلطان عبد الحميد العثماني رحمه الله كان إذا خرج إلى المسجد يخرج في موكب عظيم لا بضاهيه ملوك الأرض فيه، وكان يوقف ثلة على طريقه، وعند وصوله إليهم يقفون له بالاحترام ويقولون له بصوت عال يسمعه من معه من الملأ والوزراء والعلماء المحيطين به بلغتهم التركية (بادشاهم مغروروله سندن بيوك الله وار) يعني (يا سلطاننا لا تغتر الله أكبر منك) وعند ما يسمع كلامهم هذا يحني رأسه خضوعا لما قالوا إذلالا لنفسه، في عز سلطته المهيبة الباهرة، وجرى من بعده على هذه الخطة هضما لنفسه أيضا، مما يدل على أن ما يقوله الناس في ملوك آل عثمان مبالغ فيه والله أعلم، وأنهم كانوا يحترمون العلم والعلماء ويقدمونهم على غيرهم، من أهل الرتب العالية ويستثنون طلبة العلم من الخدمة الإجبارية ويعظمونهم في التشريفات فيقولون عند استقبالهم تفضّلوا، رتبة العلم أفضل الرتب. هذا، ومن تتمة قول الهدهد «وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وذلك لأنهم كانوا مجوسا «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» القبيحة، فرأوها حسنة «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» الحق طريق أهل الرشد والهدى الذي هو السجود لله وحده، لأن الشيطان لا يدلهم إلا على الضلال «فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ» 24 إلى الصواب ما داموا متبعيه، ولذلك زين لهم أعمالهم الخبيثة «أَلَّا» لئلا على قراءة التشديد التي عليها القرآن، وعلى قراءة التخفيف يكون (ألا) أداة استفتاح تدل على الطلب بلين ورفق، ويكون المعنى ألا أيها الناس «اسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ» الشيء المخبأ المستور المدخر «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كالمطر والبرد والثلج وغيره والماء والنبات والأشجار والمعادن وغيرها مما علم ومما لم يعلم بعد «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ» في أنفسكم من كل قول أو فعل «وَما تُعْلِنُونَ» 25 بالتاء، والياء بالخطاب والغيبة، واعلموا أيها الناس بأن العالم بذلك كله وغيره، هو «الله الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» الذي لا أعظم منه، ولا يضاهيه عرش، الذي لا يستحق العبادة غيره، فعرش بلقيس وعرش سليمان وغيرهما لا تكون ذرة في صحراء بالنسبة لعرش الرحمن، اقرأوا إن شئتم

[سورة النمل (27) : الآيات 31 إلى 40]

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية 256 من البقرة في ج 3، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة، وفي هذه الآية ردّ على عبدة الأوثان وغيرهم وكل من يعبد غير الله وتنبيه إلى عظم عرش الله بالنسبة لجميع مخلوقاته، وإلى هنا انتهى قول الهدهد الذي قصه الله على رسوله «قالَ» سليمان عليه السّلام بعد أن سمع من الهدهد ما لم يسمعه، وقد تشوق إلى معرفة ذلك والوقوف عليه «سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ» فيما ذكرته «أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ» 27 فيه لأنه قال وأوتيت من كل شيء، وهو عليه السّلام، لم يؤت كل شيء لهذا اشتغل فكره وتاقت نفسه لرؤية ذلك والوقوف عليه، فكتب كتابا لها وأعطاه إلى الهدهد، وقال له «اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ» جمع الضمير باعتبار أنه لها ولقومها، وهو كالجواب لقول الهدهد (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) إلخ، «فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» 28 لنا من الجواب فأخبرني به قبل أن يصل إليّ لا تروي في الأمر، فأخذه وطار به، فدخل عليها والوزراء حولها، فرفرف بجناحه فنظرت إليه فرمى الكتاب إليها، ووقف قريبا ليسمع ما يقولون، ففضّته، فلما رأت الخاتم ارتعدت، وجمعت ملأها، فقرأته عليهم علنا، وقالوا كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كل منهم على عشرة آلاف، وعبارة الكتاب كما قص الله بلا زيادة ولا نقص، وهكذا كان الأنبياء يكتبون جملّا لا يطيلون فيها «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ» 29 مختوم، روي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كرامة الكتاب ختمه أي شريف لشرف صاحبه، لأنها عرفت أنه أعظم منها من فحواه، وهو «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ» مكتوب فيه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 30 أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ» فتمتنعوا من الإجابة للإيمان تكبرا وتعاظما «وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» 31 منقادين لي طائعين لله فاستعظمت ما أمرت به في الكتاب، ونظرت إلى ملئها «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي» هذا الذي نزل بي وأشيروا علي فيه لأني «ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً» يتعلق بالملك ولا أقضيه، أو أفعله وأمضيه بغيابكم، بل لا أعمل شيئا من ذلك «حَتَّى تَشْهَدُونِ» 32 بكسر النون أصله تشهدونني، فحذفت النون

الأولى للنصب وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها. وقرأ يعقوب بإثبات الياء وقفا ووصلا، وقراءتها بفتح النون لحن وخطا، لأن النون تفتح في موضع الرفع لا النصب، أي حتى تشيروا علي وتشهدوا علي حتى لا ألام فيما بعد، لأن الاعتداد بالرأي من الجهل والأنفة، وفي هذه الآية دلالة على استحباب المشاورة والمعاونة بآراء الغير في الأمور المهمة، لان في تبادل الآراء واحتكاكها تظهر الحقيقة، كما تظهر النار باحتكاك الزناد بالحصى. ولهذا البحث صلة في الآية 38 من سورة الشورى في ج 2 وفي الآية 159 من آل عمران في ج 3، «قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ» في الأجساد وآلات الحرب «وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ» بالقتال فنصبر على جهده ونصدق عند اللقاء ولا نكلم إلا بالصدور، وها نحن أولاء متهيئون لأمرك في الحرب والسلم، وهذا شأن الرعية مع الملك إذ ما عليهم إلا الطاعة «وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ» في قتال هذا الملك وعدمه لأنك أنت صاحبة الرأي الصائب فيما يتعلق بملك ورعيتك الذين نحن من جملتهم «فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ» 33 به نطيعه وننفذه، ولما فهمت من كلامهم أنهم ميالون للحرب جنحت إلى الصلح وبيّنت خطأهم في استعجالهم للقاء العدو بما قصه الله تعالى بقوله «قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها» قتلا وسبيا ونهبا لرجالها وأموالها وتخريبا لبنائها وصنائعها ومعاملها مهما كانت «وَجَعَلُوا» فضلا عن ذلك «أَعِزَّةَ أَهْلِها» من ملوك وأمراء ووزراء وعظماء ووجهاء وعلماء «أَذِلَّةً» لإيقاع الهوان بهم من كل وجه لئلا يثوروا عليها، لأنهم لا يرضون بالتخلي عن ملكهم إلا قسرا «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» 34 في كل بلدة يفتحونها عنوة وقهرا، بسبب الانكسار والاندحار، وهذه هي عادتهم بأخذ البلاد حربا [صدقت رحمها الله لأنا قد شاهدنا من الافرنسيين ما شاهدنا وهم لم يدخلوا بلادنا حربا فنسأل الله أن ينجينا منهم ومن غيرهم] . مطلب فراسة الملك وهدية بلقيس لسليمان: ثم قالت لهم إني لا أريد أن أزعجكم في الحرب، ولو أن قوتكم وعددكم كما ذكرتم خوفا من سوء عاقبة الحرب، لأن الكاسب فيها خسران، فكيف بالخاسر؟ وأني عليمة بها فاتركوني لأرى لكم رأيا غير هذا، فأصغوا لكلامها لأنها من بيت

الملك وتعرف عادة الملوك وعواقب الحروب، وقد عرضت لقومها بذلك، لأنها لا تعرف العاقبة إذا خاضت الحرب مع سليمان قبل أن تقف على ما عند سليمان من عدد وعدد، فأخذت الأمر بالسياسة وأحد طرفيها الهدية لانها باطنها خدعة وظاهرها مودة، والحرب خدعة ونتيجة مجهولة من أن يكون الغلب لها أو عليها فقالت «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ» جمعت الضمير تعظيما وتبجيلا لذلك الملك المهدى إليه، لأنها أحست بعظمة وجلالة قدره من كنايه وحامله «بِهَدِيَّةٍ» عظيمة اصانعهم بها على سلامة ملككم وبقاء مجدكم وعزتكم وصيانة دمائكم، فأختبره بها أملك هو أم نبي، فإن كان ملكا قبل الهدية ورجع عن رأية وإلا حاربناه، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية ولم يرض منا إلا باتباع دينه ولا قدرة لنا على حرب الأنبياء، لأنهم يعتمدون على الله لا على قوتهم، والله لا غالب له، قالت هذا وهي مجوسية لا تدين بدين تصديقا لقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية 38 من سورة الزمر، وقال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية 81 من الزخرف في ج 2، «فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» 35 بقبولها أم ردها، ولنا بعد ذلك نظر نجتمع إليه ثانيا ونتداوله. وحذفت الألف من (بم) على أنها للاستفهام أي بأي شيء، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، يرجع به المرسلون. وكانت لبيبة بمخاطبتهم لأنها عاقلة حنكتها التجاريب، وقد ساست الملك والملوك وعرفت دواخلهم واحتكت بالعظماء وخبرت بواطنهم وموقع الهدايا منهم ولأنها تأخذ بالقلوب وتزيل ما فيها فتحيل الحرب إلى السلم، وتجنح إلى الصلح قال صلّى الله عليه وسلم الهدية تذهب سخيمة القلب. وقال تهادوا وتحابوا. ثم كتبت كتابا الى سليمان عليه السّلام بينت فيه الهدية، وهي على ما قالوا خمسمائة غلام بثياب جواري وحليهن على خمسمائة فرس مغشاة بالديباج، ولجومها وأسرجتها مرصعة بالذهب والجواهر، وخمسمائة جارية على خمسمائة رمكة بثياب غلمان، وألف لبنة من ذهب، ومثلها من الفضة، وتاج مكلل بالدر والياقوت، وحق فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب، وأرسلتها مع رسلها، وأمرت عليهم من قومها المنذر بن عمرو، وقالت له أنظر إليه حينما يستلم الهدية، فإن نظر إليك بغضب فلا يهولنّك، لأنه

ملك ولسنا بسائلين عنه، وإن ببشاشة ولطف فتواضع إليه، فإنه نبي، وذكرت في الكتاب إن كنت نبيا ميز بين الوصائف والوصفاء، وأخبر بما في الحق (وقالت لرأس الوفد إذا عرف ما فيه قل أمرت بأن أطلب منك أن تثقب الدرة وأن تسلك في الخرزة خيطا) وزودتهم بالنصائح وسيرتهم، وكان الهدهد يسمع كل هذا وعند ما سار الوفد بالهدايا طار من وكره، وأخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوها في ميدان واسع متصلا بعرشه بطول سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه ذهب أو فضة، وأمر بربط أحسن الدواب البرية والبحرية عن يمين الميدان ويساره، وأمر بإحضار أولاد الجن، فأقامهم عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكرسي من جانبه وصف الإنس والجن والوحش والهوام صفوفا بين يديه، محياطين بعضهم ببعض، وأمر بالطيور فصفت بالسماء ونشرت أجنحتها على المعسكر كله، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على الذهب والفضة، رموا بما معهم من اللبن، وقيل إنه ترك من فراش الميدان بقدر ما عندهم من اللبن، فلما جاؤا وضعوا ما عندهم بالمحلات الناقصة خوفا من أن يتهموا بأخذه وهو قيل لا مستند ينقضه قولهم الآتي بتسليم الهدايا ثم تقدموا إليه وأدوا له التحية له التحية وسلموه الكتاب والهدايا، ووقفوا بين يديه وقد هالهم ما رأوا من ذلك المشهد العظيم، فأخذ ما عندهم وفض الكتاب، ونظر إليهم بطلاقة وجه وابتسام، فقال لهم أين الحق، فأعطوه إياه، فقال لهم إن فيه درة غير مثقوبة وخرزة معوجة، قالوا صدقت، ففتحه ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة بفمها ودخلت في الدرة حتى نفذت منها، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها وسلكته في الجزعة، ولأجل أن يعرفهم الغلمان من الجواري أمر بإحضار قسم منهما، وأحضر الماء فأمرهم أن يغسلوا وجوههم، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب به الأخرى وتغسل وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل وجهه، فأخبرهم بأن المرتدين ألبسة الغلمان هم الجواري، والمرتدين ألبسة الجواري هم الغلمان، ثم رد الهدية وأمر الرسل بإيصالها، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ» رسل بلقيس «سُلَيْمانَ» بهديتها كتب إليها ما قاله الله تعالى «قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ» نكره على عظمه

تحقيرا لمادته عنده، لأنه لا يعد ملكه مع عظمته شيئا، ثقة بما له عند الله من الكرامة، وقال «فَما آتانِيَ اللَّهُ» من النبوة والحكم والحكمة والرسالة والملك الذي لا نظير له «خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» من الملك والمال والجند لأني لا أفاخر ولا أكاثر في حطام الدنيا، ولا أفرح بما أوتيت منها «بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ» 36 ولذلك رددتها إليكم مع عظمها، لتعلموا أن الدنيا بما فيها ليست عندي ببلاغ، كما أنها لا تساوي عند إلهي جناح بعوضة، وان ربي أعطاني منها ما لم يعطه أحدا قبلي ويوشك أن لا يعطيه أحدا بعدي وكل ذلك لا يزن عندي مثقال ذرة لأن همّي وهمتي منصرفان إلى الاخرة ولا أفرح إلا بما يقربني من ربي وأنت أيها الوافد على رأس الذين حملوا هذه الهدية «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ» إلى ملكتك ووزرائها بهديتهم هذه، وأخبرهم بما سمعت ورأيت، وقل لهم ان لم يؤمنوا بالله ويستسلموا له «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها» ولا طاقة لهم عليها «وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها» من بلدة مأرب وما حولها من البلاد التي يقطنها جيل سبأ «أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» 37 مهانون محقرون، قالوا فلما رجع رسلها حائرين بما رأوا وما سمعوا ووصلوا إليها، أخبروها الخبر كله، قالت والله لقد عرفت ما هو بملك وأنه لنبي ولا طاقة لنا به، ثم أجمعت أمرها وكتبت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعوا إليه من الدين. ثم أغلقت على عرشها الأبواب ووكلت به الحرس وأوصتهم بمناظرته، وان لا يخلص إليه أحد، أو يقرب منه، ثم سارت في اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت كل قيل ألوف كثيرة، قال ابن عباس كان سليمان عليه السّلام مهيبا لا يبتدىء بشيء حتى يكون هو السائل عنه فجلس يوما على سريره فسمع وهجا، قال ما هذا، قالوا بلقيس نزلت على مسيرة فرسخ منا مطلب جلب عرش بلقيس وإيمانها بالله فأقبل على جنوده وأشراف قومه «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» 38 وكان غرضه من ذلك أن يريها قدرة الله تعالى معجزة له على نبوته «قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ

مِنْ مَقامِكَ» مجلس قضائك بين الناس، وهو من الصبح إلى الظهر، إذ يتصدر فيه لقضاء حاجات الناس من أحكام وغيرها، ثم أكد مقعده وهو على ما قالوا مارد قوي يدعى صخرا يضع قدمه عند منتهى طرفه وكان بعظم الجبل «وَإِنِّي عَلَيْهِ» على الإتيان به وحمله من موضعه إلى هنا «لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» 39 على ما فيه قال سليمان لملئه: أريد أسرع من ذلك لأن القوم أظلونا وأريد أن يروه أمامهم عندي «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» قالوا هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان ووزيره ومعلمه وكاتبه، وكان يقرأ الكتب الإلهية القديمة ويحفظ اسم الله الأعظم «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» قال سليمان هات، قال أنت بن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك، فإن دعوت الله كان عندك، قالوا فخر ساجدا لله تعالى ودعاه بما ألهمه من أسمائه، فجيء بالعرش في الوقت، قال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل أن الله تعالى يعدم جميع الأشياء ويوجدها في كل لحظة، وهكذا إلى انتهاء الدوران بالاستناد لقوله جل قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية 15 من سورة ق المارة، وانه أعدم هناك وأوجد أمام سليمان في تلك اللحظة، وكان الدعاء الذي دعا به آصف على ما روى عن عائشة هو: يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وعلى ما رواه الزهري هو: يا إلهنا وإله كل شيء لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ» بعد أن رفع رأسه من السجود خرّ ساجدا لله تعالى شكرا على ذلك «قالَ هذا» الفضل الجليل «مِنْ فَضْلِ رَبِّي» العظيم «لِيَبْلُوَنِي» يمنحني ويختبرني «أَأَشْكُرُ» نعمه المترادفة علي «أَمْ أَكْفُرُ» بها وأجحدها «وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» يعود نفع شكره إليها إذ به دوام النعم، وهو قيد للنعمة الحاضرة وصيد للنعمة المستقبلة، «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ» عن شكره «كَرِيمٌ» 40 بالتفضل عليه لأنه يمهل عبده ولا يعجله بالعقوبة ويكون مسببا لسلبها منه إن لم يشكره عليها، وهذا

[سورة النمل (27) : الآيات 41 إلى 50]

مما يستعظم ويتردد فيه عقل من لا يعرف عظمة الله، على أن الذي يصدق بظهور (التلفزيون) وهو المدياع الذي يرى صورة المذيع وليس صوته وهو في فعل بعض خلقه، يجدر به ان يصدق بهذا ولا يتردد فيه، لأنه من فعل ربه الذي لا يعجزه شيء، وهو الذي يقدر عباده على أشياء لم يقبلها العقل مما ظهر في القرن العشرين هذا، من البواخر والطائرات كالقلاع والصواريخ والمذياع (الراديو) ومعامل الكهرباء مما يحار فيها العقل ولا يكاد يصدقها لولا وجودها، وما ندري ما سيظهر لنا بعد من عجائب مكوناته حتى يتبين للكافر أنه الإله الحق الذي لا رب غيره الموجد لكل شيء، راجع الآية 53 من سورة فصلت في ج 2، فلما أقبلت بلقيس بدبدبها وكبكبها وقبقبها «قالَ» سليمان لخاصته «نَكِّرُوا لَها عَرْشَها» أي افعلوا به شيئا تنكره من تغيير وتبديل فيه، فوضعوا الدر الأحمر مكان الأصفر، وجعلوا ما في مقدمه في مؤخره وبالعكس، وما بأعلاه أسفله وبالعكس، وعرضوا ما فعلوه به على سليمان، فأعجبه، وقال نعرضه عليها «نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي» لمعرفته فنستدل بذلك على هدايتها «أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ» 41 لمعرفته ولا للجواب اللائق بذلك «فَلَمَّا جاءَتْ» وتمثلت بين يدي سليمان واستقر بها المكان أطلعها المرافقون لها من قوم سليمان بأمره على المتاحف ومن جملتها عرشها، إذ وضع بالمتحف «قِيلَ» لها من قبل المرافقين «أَهكَذا عَرْشُكِ» الذي تركتيه في بلادك الذي أخبرنا عنه الهدهد؟ ولم يقولوا أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا لها فيفوت الأمر المقصود من تنكيره، فنظرت إليه وتأملته جيّدا ثم «قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ» لم تقل نعم هو، خوفا من الكذب لأنها تركته محصنا بالأقفال محروسا من عظائم الرجال، وتقدمته بالمجيء ولم تقل لا، خوفا من التكذيب، لأنها عرفته هو هو، وان ما أوقع فيه من التغيير لم يبدل هيئته بالجملة، وكان سليمان قريبا من المرافقين لها يسمع كلامها، فاستدل به على كمال عقلها وحكمتها ورجاحتها وتؤدتها من جوابها الحسن، وعدم إظهار ابتهاجها بما رأت، فقال لها سليمان عليه السّلام انه هو بعينه، وان إغلاق الأبواب عليه، وإحاطته بالحرس لم يحولوا دون قدرة الله بجلبه معجزة لي، وطلبا لإسلامك لله

لله وإيمانك به وتصديقك نبوتي، قالت بلقيس: يا نبي الله نحن عرفناك نبيا «وَأُوتِينَا الْعِلْمَ» بكمال قدرة ربك وصحة نبوتك «مِنْ قَبْلِها» من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على رسالتك لهداية الخلق «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» 42 لك مؤمنين بربك، مصدقين نبوتك من ذلك الوقت، والا لما جئنا منقادين خاضعين طائعين لأمرك مخبتين لربك لكان لنا معك موقف غير هذا، ولرأيت منا العجائب، وان هذه الجيوش التي جئتك بها نزر يسير من شيء كثير، والهدية شيء حقير من شيء عظيم لا تذكر ولكان الكلام كلاما والهدية زؤاما، فبش سليمان من قولها هذا على ما هو عليه من التعريض بقوتها وغناها وكثرتها، لأنه أنتج هدايتها للاسلام «وَصَدَّها» عن «ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وهو التمس بدعوته لها، وحال بينها وبين عبادتها لها «إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ» 43 خارجين عن طاعة الله راسخين في الكفر عريقين به متجاوزين حدود الله، لأنها نشأت بين قوم يعبدون الشمس، ولم تعرف غير عبادتهم لها، وهذه الجملة تعليل لسبب عبادتها ثم تقدمها سليمان وجلس على سريره وأمر بإدخالها عليه بعد أن أجريت لها مراسيم الاستقبال والاستطلاع على بعض ما خول الله به عبده سليمان عليه السّلام، فجاءت محفوفة بالإكرام والتبجيلِ يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ» صحن الدار الذي يمر به إلى سرير سليمان، وكان معمولا من الزجاج يجري فيه الماء وفيه أنواع من دواب البحرَلَمَّا رَأَتْهُ» واقعا بين السرير ومدخل القصر ولا بد لها من أن تجوزه لتصل إلى سرير سليمانَ سِبَتْهُ لُجَّةً» من الماء العميق وإنما عمل لها هذا ليختبرها، كما عملت هي بالغلمان والجواري والدرة لتختبره، إلا أنه لما كان عمل الصرح محكما جدا، إذ كان الماء جاريا في الزجاج على قدره، بحيث لم يترك في المجرى خلاء ما ولذلك ظنته جاريا بنفسه دون زجاج، والا لعرفته، وقيل ان الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي اليه أسرار الجن، لأن أمها منهم، فإذا أخذها وولدت له لا ينفكون عن خدمته وذريته من بعده، فقالوا له إن في عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، وإنه لما اختبر عقلها وأعجبته أراد أن يختبر بقية أوصافها التي

ذكروها له عند ما تخوض الصرح، وبالفعل أرادت ذلكَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها» قالوا فرآها كأحسن النساء قدما وساقا الا أنها شعراء الساقين، ثم صرف بصره عنها والَ» لهاِنَّهُ) أي ماترين من الماء هوَرْحٌ مُمَرَّدٌ» مملس مستو معمولِ نْ قَوارِيرَ» زجاج- جمع قارورة- فلما عاينت هذا الأمر العظيم الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» قبلا بعبادة الشمس، والآن بكشف ساقي أمام سليمان بعد أن أخلصت له التوحيد، َ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 44 الى هنا انتهت هذه القصة. مطلب جواز النظر الى المخطوبة والحكم الشرعي فيه: يستفاد من هذه الآية جواز النظر الى المخطوبة بوسيلة ما، لا أن تعرض نفسها على الخاطب أو يعرضها وليها عليه كالسلعة عند البيع والشراء، ويتركها تعاشره، أو تسافر معه أو يختلي بها مثل بعض أهل الكتاب مما يخالف أهل المروءة والشهامة الحكم الشرعي جواز النظر الى المخطوبة لوجهها لمعرفة محاسنها وليديها لمعرفة صحتها فقط، ولا يجوز ان ينظر لغير ذلك، ويحرم ان يختلي بها البتة، أو يخالطها في سفر أو حضر، لأن الشريعة الإسلامية جعلت هذا كله محظورا وان أمر الرسول برؤية المخطوبة لا يفهم منه ما يقوله بعض الجهلة بأمر الدين الذين لا يعرفون ماهية الغيرة الإسلامية والأنفة العربية من المعاشرة معها والسير معها الى النزهة وغيرها، كلا بل المراد أن يترصد الخاطب الجازم للخطبة، لرؤية من يريد خطبتها من كوة أو مرور أو استطلاع حتى يكون على بصيرة منها، فإن أعجبته عقد عليها برغبة كاملة والا انسحب بمعروف دون أن يتكلم بشيء ما عنها، وان سليمان عليه السّلام إذا صح أنه كان مصمما على زواجه بها وقد قيل له فيها ما فيها، جاز له أن يختبرها بذلك تأديا واحتراما، لأن الأنبياء لم يخاطبوا أقوامهم الا بما يدل على مراعاة الأدب الكامل، ولا يقابلون أحدا بما يكره، أنظر مخاطبة ابراهيم عليه السّلام لأبيه في الآية 42 فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة موسى لفرعون في الآية 43 فما بعدها من سورة طه المارتين، وكذلك مخاطبة نوح وهود وصالح وشعيب أقوامهم في سورة هود الآية 25 فما بعدها في ج 2 وفي غيرها من السور

المارة، ومن آدب ممن يعلمون الناس الأدب الذي تلقوه من رب الأرباب والا كان بوسعه ان يكلفها إراءة رجليها لمن يريد أن تراها عنه، على أن قضية زواجها به لم تثبت بالقرآن إذ انتهت قصتها بإسلامها فقط، ولا يوجد حديث صحيح بذلك، أما الأخباريون فقد ذكروا أنه تزوجها، وان الشياطين عملوا له النورة والحمام لإزالة شعر ساقيها، ولم تعرف النورة ولا الحمام قبل ذلك، وانها ولدت له ولدا، وكان يزورها في محلها كل شهر ثلاثة ايام، إذ أقرها على ملكها في مأرب وتوابعها، وبنى لها ثلاثة قصور حصينة سماها سلمين ويلبسون وعمران، لم ير الرائي ارتفاعها وحسنها وزخرفتها، وقيل انه زوجها ذا تبع ملك همدان وأمر زوبعة ملك الجن بأن يعمل لذي تبع ما يأمره به، ويفي الأمر كذلك حتى مر سنة على موت سليمان عليه السّلام، كما سيأتي بيانه في الآية 13 من سورة سبأ في ج 2، والحكمة في إخفاء موته عليه السّلام هذه المدة ليظهر الناس كذب الجن بادعائهم علم الغيب، إذ لو علموا بموته ما داموا على أعمالهم الشاقة التي كان يكلفهم بها، قالوا ثم نادى مناد ان سليمان قد مات، وانقضى ملكه وملك ذي تبع وملك بلقيس وبقي لصاحبه الواحد القهار، وجاء في تفسير الخازن بأنه قد ولي الملك عليه السّلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين، فتكون مدة حكمه أربعين سنة، راجع الآية 16 المارة تجد خلافه والله أعلم. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» فقال لهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده ودعوا ما يعبد آباؤكم من الأوثان «فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ» مؤمن وكافر «يَخْتَصِمُونَ» 45 فيما بينهم كل يرى نفسه محقا في دعواه، وهنا أطلق الجمع على ما فوق الواحد صراحة، وقال من لا يجيزه إن جمع ضمير يختصمون مع أنه يعود إلى اثنين، لأنه في الأصل يعود إلى مجموع الفريقين، ونظير هذه الآية 78 من الأنبياء في ج 2، وهي (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) مع أن الضمير يعود لداود وسليمان فقط ومن أراد غير هذا قال ان الضمير يعود للحاكمين والمحكومين معا، وهناك آية أخرى أيضا بيناها في تفسير هذه الآية هناك فراجعها، وعلى الأولى فيه اشارة على أن الاثنتين جمع وعليه المناطقة والألسنة الأجنبية «قالَ» للكافرين منهم «يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ

بِالسَّيِّئَةِ» وهي طلب إنزال العذاب الذي توعدهم به بنيتهم ان لم يؤمنوا به وهو قولهم في الآية 76 من سورة الأعراف «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من السيئة «قَبْلَ الْحَسَنَةِ» التوبة التي أرجوها منكم عما سلف من كفركم «لَوْلا» هلا «تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ» من عبادة الأوثان وترجعون الى عبادة الرحمن وتعملون صالحا «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» 46 بالنجاة من العذاب في الدنيا وبالفوز بنعيم الآخرة «قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ» من الذين آمنوا بك، إذ أمسك عنا القطر وأجدبت الأرض وهلك المال فأصابنا الضر والبلاء منذ طفقت تدعونا الى دينك «قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ» بسبب كفركم به وما أصابكم من الشؤم مقدر عليكم ومقسوم لكم بأزله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» 47 تختبرون وتمتحنون بتعاقب الخير والشر ليرى الناس أترجعون اليه فيكشف عنكم ذلك، أو تصرون على الكفر فيزيدكم عذابا في الدنيا والآخرة «وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ» من أبناء أشرافها كلهم «يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» فيعملون المنكرات كلها «وَلا يُصْلِحُونَ» 48 أنفسهم ولا غيرهم أبدا دأبهم السعي في الإفساد والإعراض عن الإصلاح، وقد طبعوا على هذا «قالُوا» هؤلاء التسعة الغواة الذين اتفقوا على عقر النّاقة ورأسهم قدار بن سالف المتقدم ذكره مع القصة في الآية 72 من الأعراف المارة، أي تذاكروا بينهم في تدبير الحيلة التي أرادوا بها عقر الناقة «تَقاسَمُوا بِاللَّهِ» تحالفوا كلهم على انها «لَنُبَيِّتَنَّهُ» يريدون صالحا بأن يأتوه ليلا فيقتلوه «وَأَهْلَهُ» معه زوجته وولده «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ» إذا سئلنا عنه بعد القتل «ما شَهِدْنا» ما حضرنا «مَهْلِكَ أَهْلِهِ» محل وزمن إهلاكهم، أي إذا قال لنا ولي دمه ورئيس عاقلته من قتله؟ نقول ما حضرنا قتله ولا قتل أهله. مطلب التحاشي عن الكذب: هذا وقد اختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم له، قصدا للمبالغة بالإنكار، أي كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى قتلهم ويعلم من ذلك نفي إهلاكهم من قبلهم، لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله هو، وهو الأصل، وقرىء بضم الميم وفتح اللام من أهلك وبفتحها أيضا، والقراءة التي عليها المصاحف بفتح الميم وكسر اللام، ويجوز على هذه أن يكون مصدرا كمرجع ويكون

[سورة النمل (27) : الآيات 51 إلى 60]

المعنى ما شهدنا إهلاكهم، وان اسم مكان أي مكان إهلاكهم أو اسم زمان أي زمانه «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» 49 في قولنا هذا، وهو كقول أولاد يعقوب لأبيهم (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) الآية 87 من سورته في ج 2 وأرادوا بهذه الحيلة التمويه لأن حضور الأمر غير مباشرته عرفا، فلا يقال لمن قتل رجلا انه حضر قتله، وان كان الحضور لازما للمباشرة، فهؤلاء القوم الذين كانوا لا يعابون بما هم عليه من الكفر وسوء السيرة قد درأوا عن أنفسهم الكذب الذي هو عار في كل زمان ومكان ودين، وصموا ان يحلفوا على المعنى العرفي بحسب العادة في الإيمان، ليوهموا الخصم أنهم أرادوا معناه اللغوي، فيكونوا صادقين بزعمهم، لئلا يصموهم بالكذب، والآن والعياذ بالله تجد الكذب فاشيا عند الكبير والصغير مع أنه محرم دينا ومكروه مروءة ومذموم طبعا وقد ذم الله تعالى الكاذب في آيات متعددة من القرآن وقال صلّى الله عليه وسلم المسلم لا يكذب وقال الكذب مجانب للايمان راجع الآية 105 من سورة النحل في ج 2 اللهم أصلح عبادك ووفقهم للسداد «وَمَكَرُوا مَكْراً» قالوا على قتله ودبروا الكيد والغدر وذهبوا اليه شاهرين سلاحهم لينفذوا ما صموا عليه فرد الله كيدهم في نحرهم وأخزاهم «وَمَكَرْنا مَكْراً» عظيما لا تتصوره عقولهم بان عجلنا لهم العقوبة فأهلكناهم جميعا بالحجارة وحرسنا نبينا صالحا بالملائكة فصاروا يرون الحجارة تأتيهم من حيث لا يرون راميها «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 50 بشيء من تدبيرنا هذا، قالوا ان صالحا كان يصلي في مسجد الحجر، وكان توعدهم بأن يفرغ الله من عذابهم حتى ثلاثة ايام، فقال هؤلاء التسعة نذهب اليه ونقتله في مسجده قبلها ثم نذهب الى أهله فنقتلهم أيضا قبل اليوم الثالث، فخرجوا الى الشعب الذي فيه مسجده، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم بعد رجمهم، فطبقت عليهم فم الشعب، فلم يدر قومهم أين هم، ولم يدروا ما فعل الله بهم وهم لم يعلموا ما فعل الله بقومهم وعذب الله كلا منهم في مكانه، وحمى صالحا ومن معه «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل وأخبر قومك «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ» على نبينا «أَنَّا دَمَّرْناهُمْ» التسعة المذكورين «وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» 51 لم يقلت

منهم إلا من آمن بصالح «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ» يرونها قومك حين ذهابهم إلى الشام وإيابهم منها بشاهدونها «خاوِيَةً» ساقطة متهدمة بعضها على بعض، خالية من السكان، لأنها لم تسكن بعدهم تشاؤما مما وقع على أهلها المهلكين «بِما ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم لا لأمر آخر «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإهلاك على الصورة المذكورة «لَآيَةً» عظيمة وعظة ناطقة «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» 52 قدرة الله فيخشونها ويعتبرون بمن قبلهم فيؤمنون «وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» مع صالح بمقتضى وعدنا له «وَكانُوا يَتَّقُونَ» 53 الله ولذلك حماهم مما أصاب قومهم، وفي هذه القصة إشارة إلى أن قريشا سيمكرون بمحمد ويتحالفون عليه، وأن الله تعالى ينجيه منهم ويهلكهم، وكان في ذلك كما سيأتي في الآية 26 من سورة العنكبوت في ج 2، قال تعالى «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» إتيان الذكر سماها فاحشة لزيادة قبحها في قانونه الإلهي، وسماها القانون المدني بالفعل الشنيع، وهو اسم وفق المسمى بالقبيح والرذيلة والوقاحة «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» 54 بعضكم يفعل ببعض وهذا في غاية الشناعة، أي كيف تفعلون هذا ولا تستترون ولا ينهى بعضكم بعضا ولا تكفون عنه «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ» أيها السفهاء والخاطئون «شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ» مع أن الله تعالى خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ولا الأنثى للأنثى، فعملكم هذا مضاد لحكمة الله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» 55 عاقبة أمركم ووخامة مصيركم «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه نصحه هذا ووعظه وإرشاده «إِلَّا أَنْ قالُوا» أولئك الجهلة السفهة «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» 56 عن عملنا ويتنزهون من فعلنا ويستقذرون إتيان الرجال، وهذا مما يغيظنا وقد حق عليهم العذاب بقولهم هذا «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لرضاها بفعلهم وعدم إنكارها عليهم لذلك «قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ» 57 الباقين معهم بالعذاب «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» يا له من مطر سوء حجارة مترادفة «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» 58 تقدمت القصة مفصلة في الآية 88 من الأعراف المارة، فيا أكرم الرسل «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» واسأله العافية لك ولأمتك مما حلّ بهم

[سورة النمل (27) : الآيات 61 إلى 70]

«وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى» من اخوانك المرسلين واتباعهم وقل أنت ومن آمن معك «آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» 59 به ممن لم يؤمن من قومك، فقولوا لا بل الله خير وأعلى وأعز، وهذا استفهام انكار لا يجاب الا بالنفي، وهو تبكيت للمشركين والزام الحجة عليهم، لأن الله تعالى لا شكّ خير لمن عبده وأنس به والأصنام شر لمن ركن إليها وعبدها لأنها لا تغني شيئا وتكون عليهم حجة يوم القيمة ثم ذكر الله جل ذكره من دلائل قدرته وبراهين وحدانيته وأمارات عظمته أنواعا فقال (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) بساتين محاطة «ذاتَ بَهْجَةٍ» حسنة المرأى بديعة المنظر «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» أي لا يمكنكم إنباته، وان مباشرتكم زرعه لا يقتضي الإنبات، فلو شاء الله لم ينبته، فالمنبت الحقيقي هو الله الذي يسقيها بماء واحد فتثمر صنافا متنوعة مختلفة باللون والطعم والرائحة والشكل، وهو الذي قدركم على زرعه راجع الآية 63 من سورة الواقعة المارة فانظروا أيها الناس «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» فعل ذلك أو أعانه عليه كلا ثم كلا «بَلْ هُمْ» قومك المعاندون «قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» 60 عن الحق إلى الباطل ويسارون الأصنام بالملك العلام، ويقولون نزرع ونحصد ونسقي، لو شاء الله لما أقدرهم على شيء من ذلك أصلا، قال تعالى «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً» لكم أيها الناس تستقرون عليها ليل نهار ولا نحسون بأنها عائمة «وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً» جارية عذبة وملحة ومرّة وباهتة وحريفة وحامضة، وأودع بعضها معادن وحيوانات متنوعة وحليّا مختلفا باللون والقيمة «وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» جبالا عظيمة تثقلها كي لا تضرب فتنعدم راحتكم عليها «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» حصينا لئلا يختلط الملح بالعذب، فتنعدم المنفعة المقصودة منهما، فتفكروا «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» فعل شيئا من ذلك كلا «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 61 حقائق قدرتنا وعظمة سلطاننا وحقيقة حكمتنا، فقل لقومك هل الذي يعبدونه خير أم هذا الإله الفعال لكل شيء من نفع وخسر وخير وشر ومنع وإعطاء وعز وذل وغنى وفقر واحياء وإماتة، فالإله القادر على هذه الأشياء

وغيرها هو المستحق للعبادة لا أصنامكم «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ» فيجيب دعاءه ويفرج ضيقه «وَيَكْشِفُ السُّوءَ» عن المضرور والمجهود والمكروب والملهوف فيغير حاله من المرض إلى الصحة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العسر إلى اليسر، ومن الذل إلى العزة «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ» تسكنونها وتنصرفون بها، فمنكم الملك والأمير والمتسلط والتابع، وقد أورثكم إياها عمن كان قبلكم من الأقوام الهالكين بسبب كفرهم نعم الله «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يفعل لكم شيئا من ذلك، كلا ولكنكم «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» 62 بآلاء الله الذي يسديها لكم وهي جديرة بالذكرى، فقل با أكرم الرسل لقومك أآلهتكم خير أم هذا الإله القادر على كل شيء «أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إلى الحال التي تقصدونها؟ ألإله الذي جعل النجوم والمجرة في السماء والجبال والأنهار في الأرض علامة تسترشدون بها ليل نهار إلى مقاصدكم في أسفاركم، أم أوثانكم العاطلة الجامدة «وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» أي أمام المطر مبشرا بقرب نزوله «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يقدر على شيء من ذلك فيفعله لكم كلا «تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» 63 به علوا كبيرا «أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من النطفة إلى أن يكمله خلفا سويا وبعد استكمال أجله في الدنيا يميته «ثُمَّ يُعِيدُهُ» بعد الموت حيا كما كان «وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» من مطر ونبات وحيوان «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يعمل شيئا من ذلك؟ كلا، لا يقدر أحد على شيء منه، وإذا لزمتهم الحجة ووقعوا في المحجة «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على أن ما تعبدونه يفعل شيئا واحدا مما ذكر «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 64 أن آلهتكم تقدر على شيء من ذلك، أو أن مع الله إلها آخر كما يزعم البعض، وبعد أن عدد هذه الحجج الخمس الدالة على وحدانيته في الإلهية وانفراده في فعل هذه الأشياء وغيرها، وعجز من سواه عنها وعما يتعلق بالنفع والضرر وغيره، وإلزامهم السكوت بتلك البراهين القاطعة، قال المشركون أخبرنا يا محمد عن الساعة التي تهددنا بها إن لم نؤمن بك، فأنزل الله «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الجهلة الذين لا يميزون بين الممكن والمحال: هذه من الغيب و «لا يَعْلَمُ

مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» وحده، فكيف نعطيهم علمها وهو من خصائص الإلهية «وَما يَشْعُرُونَ» هم ولا جميع الجن والإنس والملائكة «أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» 65 من قبورهم ومواقعهم مع أنه لا بدّ لهم منه، وهو من أهم الأمور عندهم لأن الله تعالى وحده تفرّد بذلك «بَلِ ادَّارَكَ» اضمحل وفني وانمحق «عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وشأنها، فليس لهم علم بها ولا بوقت إمارتها. وأصل ادّارك تدارك، فأبدلت التاء دالا، وأسكنت للإدغام، واجتلبت الهمزة الوصلية للابتداء، ومعناها تلاحق وتتابع، وعليه يكون المعنى انتهى علمهم في لحوق الآخرة فجهلوها، وتابع علمهم فيها ما جهلوه في الدنيا. وقيل معنى ادّارك تكامل من أدركت الفاكهة إذا تكامل نضجها، وعليه يكون المعنى إن أسباب استحكام العلم بأن القيامة كائنة قد حصل لهم في الدنيا، ومكنوا من معرفته، إلا أنه لا علم عندهم من أمرها، فقد تتابع علمهم حتى انقطع، وهذا بيان لجهلهم بوقت البعث، وأرى أن الأول أولى لموافقته للسياق، ولقوله تعالى «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» بعد أن بلغ علمهم بها وتكاملت أسبابه بحصولها ووجودها «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» 66 جمع عم وهو أعمى القلب، ويقال له أعمه كما يقال لأعمى البصر أعمى، وقد كرر الإضراب ببل ثلاثا لشدة جهلهم، إذ وصفهم أولا بعدم الشعور بوقت البعث، ثم بعدم العلم يكون القيامة، ثم بالخبط بالشك وعدم إزالته مع قدرتهم عليها بالإيمان والإيقان حتى صاروا لأسوأ حال، وهو وقوعهم بالحيرة بسبب عمه قلوبهم الناشئ عن كفرهم الذي منعهم من التفكر بالعاقبة، وهو من جهلهم المركب الذي لا يزول إلا بعناية من الله، وأنى لهم منها وقد انكبوا على الدنيا بكليتهم؟ وقيل في المعنى: سقام الحرص ليس له شفاء ... وداء الجهل ليس له طبيب وقيل أيضا: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور وإن امرأ يحي بالعلم ميّت ... وليس له حين النشور نشور هذا، وإن قوله تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا

[سورة النمل (27) : الآيات 71 إلى 80]

أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ» 67 أحياء من القبور كما كنا، هو كالبيان لجهلهم بالآخرة وعماهم عنها لأنهم يريدون بهذا عدم التصديق بها والإصرار على جحودها ويؤيده قولهم أيضا «لَقَدْ وُعِدْنا هذا» الإخراج من القبور بعد الموت «نَحْنُ» من قبل محمد ابن عبد الله الذي هو في عصرنا «وَآباؤُنا» أيضا وعدوا من قبله «مِنْ قَبْلُ» وجودنا من قبل أنبيائهم، وإنا نقول كما قال أسلافنا «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 68 وخرافاتهم يتناقلها الواحد بعد الآخر لا حقيقة لها. ونظير هذه الآية الآية 84 من سورة المؤمنين في ج 2، «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» 69 من أمثالكم وانظروا أطلال ديارهم واسمعوا بقايا أخبارهم تنبئكم عن فظاعة ما حل بهم بسبب تكذيبهم رسلهم. ثم التفت إلى حبيبه فقال «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» إذا حلّ بهم عذابي الذي لا دافع له «وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ» وحرج في صدرك مما تسمعه من التكذيب وتراه من الإعراض «مِمَّا يَمْكُرُونَ» 70 ولا تهتم لما يكيدونه لك، فإني حافظك منهم ومن يعصمه الله لا يصل إليه مكر الخلق. وقرأ ابن كثير بكسر ضاد ضيق خلافا لسائر القراء، نزلت هذه الآية في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة، وأوقفوا على أبواب طرقها رجالا يقولون للداخلين والخارجين أن عندنا رجلا منا يدعى محمدا جاء بدين مخالف لدين آبائنا، وهو رجل ساحر فلا تصدقوه. راجع الآية 94 من سورة الحجر في ج 2 والآية 85 من الأعراف المارة «وَيَقُولُونَ» هؤلاء الماكرون «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من إنزال العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 71 أنت وأصحابك وتهددنا به ليل نهار «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ» دنا وقرب، لأن من أردفته خلفك فقد قربته منك أو حضر «لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» 72 به، لأن تغاليكم بالكفر وتكالبكم على عبادة الأوثان يستدعيان نزول العذاب بكم «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» ومنهم أهل مكة إذ لم يعجل عقوبتهم كرامة لرسولهم، ولأن العذاب إذا حل عمّ وان في علمه من يؤمن منهم كثير، لذلك أمهلهم بفضله وكرمه «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ» من أهل مكة شأن غيرهم لأن الأكثر دائما هو الضال والقليل المهتدي.

مطلب اختلاف أهل الكتابين والقليل هم الشاكرون: قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية 13 من سورة سبأ في ج 2، وهكذا الأقل هو الشاكر والأكثر «لا يَشْكُرُونَ» 73 نعم الله التي من جملتها تأخير نزول العذاب «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ» من عداوتك وتخفيه من مناوأتك «وَما يُعْلِنُونَ» 74 منها وهو يكفيك ذلك «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» مهما كانت غامضة متغمضة في الخفاء «إِلَّا» قد علمها الله وأحاط بها من قبل وأثبتها «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» 75 لمن له حق النظر فيه وهو على ظهوره فيه كل شيء مكتوم عن غير الله، وهو مصدر كل الكتب الإلهية «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المدون ذلك الكتاب المنزل عليك يا محمد «يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» أهل الكتابين التوراة والإنجيل الذين يستفتونهم أهل مكة في أمرك «أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 76 من أمر دينهم ودنياهم، لأنهم أنفسهم اختلفوا بعضهم مع بعض، فمنهم من يقول المسيح هو الله ومنهم من يقول ابنه، ومنهم من يقول ثالث ثلاثه، ومنهم من يقول نبي كسائر الأنبياء وهو الصحيح، ومنهم من ينسبه وحاشاه إلى الكذب في دعواه وأمه إلى ما هي براء منه وهي العذراء التقية المصونة المفضلة على نساء زمانها، وان اليهود عليهم غضب الله كذبوه وقصدوا إهانته فأنجاه الله منهم ورفعه إليه، وقالوا عزير ابن الله، وقالوا على الله بالبداء أي أنه يفعل الشيء مما يقع في كونه ثم يندم على فعله فيفعل غيره، وحاشاه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، واختلفوا في أمر النبي المبشر به في التوراة فمنهم من يقول يوشع، ومنهم من يقول عيسى، ومنهم من يقول لمّا يأت ولم يحن زمانه، ومنهم من يقول هو محمد وهو الصحيح، ولهم اختلافات في أمر دينهم ودنياهم لا تدخل تحت الحصر، وقد أنزل الله هذا القرآن على محمد بين فيه ما اختلفوا فيه بيانا كافيا شافيا مما يوجب إيمانهم لو تأملوا وأنصفوا، ولكنهم لم يفعلوا مكابرة، ولذلك كذبوه كما فعل المشركون من قومه أو قالوا فيه ساحر وكاهن وناقل ومتعلم، وأن القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين، فقد كذبوا، وصفه أنه كلام الله عز وجل «وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» 77

[سورة النمل (27) : الآيات 81 إلى 90]

به، وضلال وعذاب للكافرين قال تعالى: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» الآية 14 من سورة فصلت في ج 2، فيا أكرم الرسل اتركهم الآن «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ» في هذه الدنيا ويوم القيامة «بِحُكْمِهِ» العدل في اختلافهم هذا وغيره من كل ما تسول لهم به أنفسهم الخبيثة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب الذي لا يرد أمره ولا يعقب حكمه «الْعَلِيمُ» 78 بما يفعلون وما يستوجبون، لأنه يعلم دخائلهم «فَتَوَكَّلْ» يا سيد الرسل واعتمد «عَلَى اللَّهِ» ربك وثق به وفوّض أمرك إليه «إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» 79 وهم على الباطل الظاهر، تشير هذه الآية بوجوب توكل الخلق على خالقهم في كل أمورهم، ولكنه لا يفهم منها ترك الأسباب وعدم اتخاذ الواسطة لقضاء الأمور، بل لا بأس بها وخاصة في هذا الزمن، ولكن لا يعتمد مع اتخاذ الأسباب إلا على الله وحده في قضاء حوائجه، ولا يعرف أنها قضيت إلا منه وبأمره، لأنه هو الذي يوقع في القلوب ما يريده للعبد فيعملونه قسرا من حيث لا يشعرون أنه مراد الله سواء الخير والشر، ولو شاء لحال بين تلك الأسباب ولم يوفق العبد لها، ولو لم يشأ لعجز أهل الأرض والسماء عن قضائها «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ» بدعوتك هذه «الْمَوْتى» قلوبهم «وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» 80 لأنهم إذا قابلوك قد يفهمون بالإشارة والرمز أو بمكبرات الصوت، ولكنهم إذا ولوك ظهورهم امتنع إفهامهم وإسماعهم «وَما أَنْتَ» يا حبيبي «بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» ولا بمرشد من أعماه الله عن طريق الحق، وأعمى قلبه عن قبول الإيمان «إِنْ تُسْمِعُ» أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» فهذا الصنف يمكنك أن تسمعه دعوتك لأنه ينتفع بها «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» 81 لك منقادون لامرك، مخلصون في اتباعك، والله يعلم من يؤمن ممن لا يؤمن، فلا تذهب نفسك حسرات على من لا يقبل نصحك ولا يسمع أمرك. مطلب خروج دابة الأرض ومحلها وعملها ووجوب الاعتقاد بها: قال تعالى «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» أي عصاة أهل الأرض بأن أغضبوا الله الحليم بإصرارهم على ما هم عليه، ووجبت عليهم الحجة، واستحقوا العقاب

المقدر عليهم، وظهر لأهل زمانهم الأياس من إيمانهم ولم يبق لهم أمل فيهم ولا رجاء بإصلاحهم «أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ» قبل قيام الساعة، وهي آية على انتهاء الأمر، وإغلاق باب التوبة، وستعطى هذه الدابة قوة «تُكَلِّمُهُمْ» بلسان فصيح يفهمه كلهم، فتسم المؤمن بإيمانه والكافر بكفره، وتقول ما قال الله تعالى تبكيتا وتقريعا إليهم، «أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» 82 بوقوعها ولا يصدقون بمجيء الساعة والبعث بعد الموت والحساب والجزاء. روي عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إنّ أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيّتها كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن، ويقول هذا يا كافر. - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن- وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن، فينشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم تمكث زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم بين الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله (يعني المسجد الحرام) لم يرعهم الا وهي في ناحية المسجد، تدنو، وتدنو كذا وكذا، قال عمرو ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك، فارقض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنقض رأسها من التراب، فمرّت بهم فجلت وجوههم حتي تركتها كأنها الكواكب الدرّية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلى فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطبحون في أسفارهم، ويشتركون في الأحوال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن يا مؤمن، وللكافر يا كافر. وجاء بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن

اليمان ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدابة، قلت يا رسول الله من أين تخرج؟ قال من أعظم المساجد حرمة على الله (ولا أعظم عند الله كرما ولا أوجب حرمة ولا أكثر تبجيلا من المسجد الحرام على خلق الله كذلك ذكرنا آنفا أنه هو) فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض وتنشق الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها الطالب ولن يفوتها هارب، تسم الناس مؤمنا وكافرا، فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه مؤمن، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر. وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: بئس الشعب شعب أجياد، مرتين أو ثلاثا، قيل ولم ذلك يا رسول الله؟ قال تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين. وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم، وقال إن الدابة تسمع قرع عصاي. وجاء عن ابن عمر قال إن الدابة تخرج ليلة جمع (ليلة عرفة يقال لها ليلة جمع ويوم جمع لاجتماع الناس فيها) والناس يسيرون إلى منى وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن ايّل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. وقال عبد الله بن عمر تمس برأسها السحاب، ورجلاها في الأرض، وقال علي كرم الله وجهه: لها لحية، ولا ذنب لها. وقال وهب: وجهها وجه رجل وسائر خلقها كالطير، والله أعلم بحقيقتها. الحكم الشرعي وجوب الاعتقاد بخروجها جزما اعتقادا لا مرية فيه، ومن أنكرها يكفر والعياذ بالله لثبوتها نصا بالقرآن العظيم وينفي تأويلها عن الظاهر الأحاديث المارة الذكر، لذلك يجب أن يعتقد أن كل تأويل يصرف حقيقتها إلى معنى آخر على طريق المجاز باطل لا يجوز الالتفات إليه. أما وقت خروجها وكيفيّتها ومكان خروجها وما تقوله وتفعله، فيجب أن يجعل علم ذلك إلى الله، لأن الأحاديث كثيرة في ذلك، وفيها ما يعارض بعضه بعضا، وقد نقلنا أصح ما جاء فيها من الأخبار وتركنا غيره.

مطلب مواقف القيامة وأن لا نفخة ثالثة: قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً» واذكر يا محمد لقومك بعد ذكر الدابة يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة «مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا» المنزلة على رسلنا لارشادهم «فَهُمْ يُوزَعُونَ» 83 لشدة الازدحام في ذلك اليوم العظيم يحبس أولهم آخرهم ليجتمعوا فيساقوا دفعة واجدة «حَتَّى إِذا جاؤُ» وصلوا إلى محل العرض أثناء مرورهم به، وأرقفوا بين يدي ربهم في ذلك الموقف الرهيب «قالَ» لهم على طريق الاستفهام التوبيخي «أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي» المبلغة إليكم من رسلي في الدنيا «وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» والحال انكم لم تعرفوها حق معرفتها بل كذبتموها بادىء الرأي من غير أن تتفكروا بمنزلها وتنظروا الصادقين الذين أرشدوكم إليها «أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 84 بها في الدنيا أجحدتموها وقد جاءكم بها رسل؟ فخرسوا، إذ لا حجة لهم يتذرعون بها قال تعالى «وَوَقَعَ الْقَوْلُ» وجب العذاب الثابت في قوله تعالى «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ» الآية 13 من سورة السجدة في ج 2 «عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» أنفسهم بالكفر والعصيان وعدم الالتفات الى آيات الله التي ذكرتهم أنهم لم يخلقوا عبثا «فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» 85 إذ يغشاهم العذاب فيشغلهم عن الاعتذار، وتكون أفواههم كأنها مختوم عليها، راجع الآية 25 من المرسلات المارة، وهذا في موطن من مواطن القيامة، وقد ذكرنا أن فيها مواطن كثيرة منها ما يعتذر فيه، ومنها ما يتحاج فيه، ومنها ما ينكر فيه، ومنها ما يعترف فيه، ومنها ومنها، أجارنا الله منها، راجع الآية 81 من سورة مريم والآية 64 من سورة يس المارتين قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء الجاحدون قدرتنا «أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ» ويستوحوا لأنفسهم من نصب المعاش «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» مضيئا لينتفعوا به بما يقوّم أمورهم، وهذه الرؤية قلبية لأن الليل والنهار وإن كانا مبصرين بالعين لكن جعل كون الليل للراحة والنهار للعمل من الأمور المعقولة لا المبصرة، أي ألم يعلموا جعلنا الليل المظلم للنوم والقرار؟ قيل: النوم راحة القوى الحسية، من حركات القوى النفسية، والنهار المضيء للشغل النافع مادة

ومعنى «إِنَّ فِي ذلِكَ» الجعل المسلوك بنظام بديع لا يتغير «لَآياتٍ» دالات على كبير نعمنا وقوة ارادتنا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 86 بنا ويصدقون رسلنا «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» القرن، والنافخ به إسرافيل عليه السلام، وكان أمراء الجيوش أخذوا بوقهم من هذا كما أخذت ترتيبات الشرطة والدرك والجيش والتعذيب وسرادق الملك ولبهته والوزراء والعمال وغيرهم من القرآن، لأن الدنيا تذكرة ومثالا للآخرة، والمراد بهذه النفخة الثانية بدليل قوله تعالى «فَفَزِعَ» خاف ودهش وارتعد «مَنْ فِي السَّماواتِ» من الملائكة «وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» من الخلائق فيشمل الإنس والجن والوحش وغيرها، وجاء الفعل بلفظ الماضي بدلا من المضارع لتحققه، لأن المستقبل من فعل متيقن الوقوع كالماضي لأنه من اخبار الله تعالى، وهو حق ثابت لا مرته فيه واستثنى من هذا العموم في قوله «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» رضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار، والحور العين والولدان وحملة العرش والمقربون والزبانية، وإدريس لأن الله رفعه بعد الموت وموسى لأنه صعق بالطور وغيرهم ممن أراد استثناءهم، وهذا التفسير على جعل النفخة هي الثانية أولى وأنسب بالمقام من جعلها النفخة الأولى، لأن تمام الآية الآتية تدل دلالة صريحة على ذلك، وان المراد بمن في السموات والأرض جميع الخلائق عدا من استثنى الله، إذ لا أحد الا ويصيبه فزع وهول ورهبة يوم القيامة عند النفخة الاخيرة إذ لا يدري الناس ماذا يراد بهم وما يفعل بتقيهم وشقيهم، ولا يبعد أن يدخل فيمن استثنى الله الأنبياء والشهداء والعلماء العاملون والأولياء العارفون الذين ثبتهم الله بتثبيتة الداخلون في قوله (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) الآية 89 الآتية وبقوله لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية 103 من سورة الأنبياء في ج 3، روى عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» قال هم الشهداء مقلدون بسيوفهم حول العرش. وقال ابن عباس هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون لا يصل إليهم الفزع. راجع تفسير هذه الآية الآتية 172 من سورة آل عمران في ج 3 «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» 87 صاغرين ذليلين، وفي هذه النفخة تتطاير من بوق اسرافيل أرواح جميع الأموات فتذهب كل روح إلى جسدها كأنها محشوة

فيه فتنشر الأموات من مدافنها أحياء بأمر الله وإرادته فيهم فيهرولون نحو الصوت سراعا لا يميلون عنه، قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الآية 108 من سورة طه المارة وليعلم أن سيدنا إسرافيل عليه السلام منتظر دائما ربه سبحانه، فعند ما يتلقاه يفاجأ الكون به حالا، أما ما قاله الألوسي في الغالبة بان النفخات ثلاث، مستدلا بهذه الآية إذ سماها نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث، ويؤيد استدلاله بآية ص المارة وهي (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) 15 فهو قول لا مستند له ولا يفهم من هذه الآية الا مطلق نفخة وتحمل بالنسبة لسياق التنزيل على النفخة الثانية كما بيناه في تفسيرها فراجعه وبما أن الإجماع على أنهما نفختان لا ثالثة لهما فكل قول يخالفه لا قيمة له، ولهذا لا عبرة يقوله هذا رحمه الله فلا يؤخذ به لعدم استناده على دليل قاطع ولانفراده بهذا القول وحده. قال تعالى «وَتَرَى الْجِبالَ» رأي العين «تَحْسَبُها جامِدَةً» ساكنة واقفة قائمة في أمكنتها ممكة عن الحركة «وَهِيَ» والحال أنها تسير سيرا حثيثا «تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» الذي تسيره الرياح بسرعة عظيمة وتجزأه أجزاء على عظمه وهكذا الأجرام الكبيرة إذا تحركت نحو سمت واحد تراها واقفة بلا شك إذ لا يكاد يحس بحركتها لاجتماعها وكثرتها والتصاقها بعضها ببعض. قال النابغة الجعوي في وصف جيش عظيم: بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لجاج والركاب تهملج وقيل المراد بالسير هو الوسط.. قال الأعشى: كأن مشيتها في بيت جارتها ... مر السّحابة لا ريث ولا عجل والأول أولى بالمقام لأن المراد بمر السّحاب سيره إذا شتتته الريح، فلا ترى أسرع منه، لهذا حسن التشبيه. قال تعالى إن هذا الصنع البديع العجيب المتقن في حركة الجبال هو «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي» يعجز عنه الخلق أجمع كيف لا وهو «أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» خلقه وأحكمه وسواه فأحسنه على ما تقتضيه حكمته البالغة «إِنَّهُ» الفاعل لذلك «خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» في هذه الدنيا من الطبائع الحسنة والسيئة، ومن الأعمال الطيبة والقبيحة، وأنه يوم ترجعون إليه سيكافئ الخير خيرا والشرير شرا.

مطلب حركة الجبال وما قيل فيها: اعلم أيها القارئ أن المفسرين أجمعوا على أن هذه في سير الجبال عند خراب الكون في النفخة الأولى، لأن الآية في بحث القيامة، كما أن الآية قبلها، والآية بعدها في بحث القيامة، الا أن القيامة تكون لخراب الكون، وإذا أنعمنا النظر في هذه الآية وأجلنا الفكر فيها وهي واقعة بين آيتين دالتين على القيامة بلا شبهة، نرى أن ليس في معناها ما يدل على الخراب كما هو الحال في الآيات الدالة على القيامة مثل سورة التكوير والانفطار وغيرهما، والآية 24 من سورة يوسف والآية 47 من سورة الكهف في ج 2، لأن كلمة الإتقان فيها تؤذن للعمار لا للخراب من إفساد أحوال الكائنات وإخلال نظامها وكلمة صنع تفيد إجادة العمل وإحسان الفعل لا تشتيته وتبديده والصنع من خصائص الإنسان ولا ينسب للحيوان الا شذودا ولفظ أتقن يفيد الإحكام والمتانة والرصانة فلا يؤول بالخراب، وليس الخراب في معناه، وهذان الفعلان أي مصدر صنع الذي فعله صنع وفعل اتقن، فيها تشيران الى التهويل من أمر الجبال الى الذي مصدره الإتقان، وتنبه على أن سيرها من الأفاعيل العجيبة وتؤذن بأنها من بدائع صنع الله المبنية على الحكمة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق، ومبادئ الإبداع على وجه متين ونهج رصين وهذا كله من شأن الدنيا لدلالته على العمار كما ذكرنا، والقصد من تسييرها يوم القيامة سقوطها التسوى بالأرض قال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الآية 107 من سورة طه المارة، وقال تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) الآية 6 من القارعة وقال تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) الآية 11 من سورة الحاقة في ج 2، والآيات الدالة على خراب الكون كثيرة في القرآن، ويكون يوم تبدل الأرض غير الأرض راجع الآية 48 من سورة ابراهيم في ج 2 أيضا، وهذه الآية والله أعلم لا تدل على شىء مما تضمنته هذه الآيات لذلك أرى تفسيرها على غير أحوال الآخرة واعتبارها المعترضة بين ما قبلها وما بعدها، ومثلها في القرآن كثير، لأن جل الآيات المدنية في السور المكية والآيات المدنية في السور المدنية معترضة بين ما قبلها وما بعدها للاخبار، وعليه يكون المعنى والله أعلم إرشاد

العباد إلى بدايع حكمه التي كان غافلا عنها الغافلون من أكثر الناس عند نزولها وبعده، وان المار ذكرهم في الآية 73 المارة لا شك يعلمونها، وان المراد بهذا الصنع العجيب والإتقان البديع في دورانها الرحوى بصورة دائمة منتظمة بتنظيم الحكيم القادر تنظيما لا يعتريه الخراب مستمرا دائما إلى اليوم الذي يريد فيه خراب كونه، فتكون كسائر الأجرام الأرضية والسماوية داخلة في قوله تعالى (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الآية 40 من سورة يس المارة، ومثلها الآية 22 من الأنبياء وفي ج 2، فاذا جاء ذلك اليوم المقدر لخرابها دخلت في معنى الآيات المارة الدالة على الخراب، راجع الآية 54 من سورة الأعراف المارة. هذا ما رأيته وعلى من بعدي أن ينتقدوا أو يحبذوا وهنا مسألة، وهي أن القاضي عبد الجبار استدل بعموم قوله تعالى (أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه، والأوجب وصفها بالإتقان والإجماع مانع منه، وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض، لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات القائمة بنفسها القابلة للخرق والالتئام، أما الأعراض القائمة بغيرها فلا تقبل ذلك، وعليه فلا يستقيم ما أراده حضرة القاضي، ولو سلم أنها غير مخصوصة فوصف كل الأعراض به ممنوع، إذ ما من عام إلا وقد خصص، وهذا من المخصوص ولو سلم أن وصف كل الأعراض به غير ممنوع وأنه غير مخصوص من العموم فالإجماع المذكور يقوله (ان الإجماع مانع من عدّ القبائح متقنة) ممنوع بل هي متقنة أيضا، بمعنى أن الحكمة اقتضتها وما تقتضيه الحكمة فهو متقن والإتقان نسبيّ لكل بحسبه، وبما أن هذه الآية لم يفسرها مفسّر بما فسرتها الآن ولم يطرق موضوعها طارق بما ذكرته لحد الآن، وقد أقدمت عليه لا ترك للقراء الكرام والعلماء الأعلام مجالا لتمحيصه إيجابا أو سلبا قبولا أو ردا، وفتحت لهم هذا الباب ليقروه إذا رأوه موافقا لا سيما وأن علم الفلك يقره، وإجماع أهل العصر على أن الأرض هائمة ولها دورتان يومية وسنوية، أو يغلقوه على هذا القاضي كما أغلقوه على القاضي عبد الجبار المار ذكره، والله ولي التوفيق. قال تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» الخصلة الطيبة من أقوال وأفعال وأخلص لله وحده وآمن بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر

[سورة النمل (27) : الآيات 91 إلى 93]

وبالقضاء والقدر وجميع ما أخبر به الرسل في الدنيا والآخرة «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» عند الله ثوابا عظيما وأجرا جزيلا «وَهُمْ» أصحاب هذه الخصال «مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ» يوم يفزع الناس في يوم القيامة «آمِنُونَ» 89 لا يخافون كما يخاف غيرهم من العذاب الذي يقع بعده، أما نفس الفزع الوارد بالآية السابقة فلا يخلو منه أحد لوقوعه فجأة فيعم رعبه ورهبته الناس كلهم، عدا من استثنى الله، ولبحثه صلة في الآية 170 من آل عمران في ج 3، «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ» الخصلة القبيحة من أقوال وأفعال واشراك بالله وجحد كتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر بان كذب ما جاءت به الرسل في الدنيا والآخرة «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» بأن قذفوا فيها على وجوههم غير مبال بهم، فيدفعون دفعا من الوراء إلى الأمام إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم، كما تطرح الزبالة تكفأ كفئا لأن من يطرحها لا ينظر إليها، وعبر بالوجه عن سائر الجسد لهذا المعنى، ولأن الوجه أول ما يواجه النار، راجع الآية 24 من الفرقان المارة والآية 98 من الإسراء الآتية، ويقال لهؤلاء حين يقذفون في النار تبكيتا لهم وجوابا لصراخهم المحشو بالأعذار الكاذبة والوعود المخلفة «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا» جزاء «ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 90 في الدنيا، ثم التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال قل يا أكرم الرسل لقومك إذا جادلوك أو خاصموك «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ» مكة المكرمة لا أخص بعبادتي غيره، وإنّما خصها بالذكر لأنها مولده وأحب البلاد إليه وأكرمها عليه وقد أشار إليها إشارة تعظيم «الَّذِي حَرَّمَها» على المشركين وجعلها موطىء رسوله ومهبط وحيه، وجعلها حرما آمنا من فيها ويتخطف الناس من حولها وحرم سفك الدماء فيها بحيث لو رأى الرجل قاتل أبيه لا يعارضه البتة، وقد ضاعف عقاب الظلم فيها ومنع أن يصاد صيدها أو يختلي خلاها أو تلتقط لقطتها ولا يدخلها إلا محرم تعظيما لشأنها «وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ» في السموات والأرض ملكا وعبيدا «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 91 لعظمة ربي المنقادين لأوامره ونواهيه «وَأَنْ أَتْلُوَا» بنفسي عليكم «الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى» بهديه وآمن بمنزله ومبلغه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع

تفسير سورة القصص عدد 49 - 28

هذا إليها «وَمَنْ ضَلَّ» عنه وكفر بمنزله والمنزل عليه، فيبقى تائها في الضلال «فَقُلْ» يا سيد الرسل لمثله «إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» 92 المخوفين من عذاب الله ما أنا بمجبر ولا مسيطر ولا قاسر لأحد على الإيمان، راجع الآية 12 من سورة كورت المارة، وقد قام صلّى الله عليه وسلم فيما أمره به ربه أتم قيام هذا ومن قال أن هذه الآية نسخت بآية القتال أراد عدم بقاء حكمها، لأن الرسول أمر بقتال من لم يؤمن، وفي الحقيقة لا نسخ، لأن هذا كله ارشاد من وجه وتهديد من آخر والرسول مأمور في هاتين الحالتين حتى بعد نزول آية القتال، لأنه لم يقاتل أحدا قبل إنذاره، فضلا عن أن هذه الآية من الإخبار والأخبار لا يدخلها نسخ «وَقُلِ» يا سيد الرسل «الْحَمْدُ لِلَّهِ» على ما وفقني به من القيام لأداء الرسالة وقل لقومك «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ» القاهرة قريبا من الجلاء والسبي والقتل في الدنيا كما يريكم العذاب الشديد في الآخرة ويوم تأتيكم آيات ربي «فَتَعْرِفُونَها» إذ تشاهدونها عيانا لا قولا وتعريضا «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» 93 بالتاء خطاب لأهل مكة، وبالياء لهم ولغيرهم، وفيها تهديد عظيم ووعيد فظيع إذا هم لم يؤمنوا بأن يوقع بهم ما تهددهم به من الآيات الرهيبة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين. تفسير سورة القصص عدد 49- 28 نزلت بمكة بعد سورة النمل عدا الآيات من 52 إلى 55 والآية 82 فانهن نزلن بالمدينة، وهي ثمان وثمانون آية، وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانمائة حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 تقدم تفسيرها في الشعراء المارة، وفيها إشارة إلى آيات هذه السورة وأنه قد بين فيها الحلال والحرام والحدود والأحكام، والوعود والوعيد، والإخلاص

والتوحيد، والقصص، والأخيار، والأمثال، والاعتبار، مما هو ثابت في اللوح المحفوظ، فيا أكرم الرسل إنا «نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ» أي من بعض خبرهما كما يفهم من لفظ من، ولأن نبأ موسى مع فرعون لا ينحصر في هذه السورة كما علمت مما مر وما يمر عليك بعد، وهذا الإخبار «بِالْحَقِّ» الواقع لنتلوه «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 3 به فينتفعون بأحكامه، أما غير المؤمن فلم تنفعه الموعظة، ثم شرع يقص ذلك النبأ فقال: يا حبيبي «إِنَّ فِرْعَوْنَ» ملك مصر الوليد الرباني «عَلا فِي الْأَرْضِ» تجبر وتكبر وترفع على أهلها وما حولها «وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً» فرقا بقصد إضعافهم وجعلهم صنوفا في خدمته وخدمة زملائه، قهرا فصاروا يشايعونه على ما يريد بحيث لا يملك أحدهم أمر نفسه ولا يقدر على مخالفته وأنه «يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ» أي بني إسرائيل ولا يعاملهم معاملة القبط قومه، ولا يعدل بينهم إذ يكرم القبط ويهفي بني إسرائيل ويضيق عليهم، فيستخدمهم ويسخرهم ويسىء إليهم، وهم لا يعارضونه بشيء من ذلك، وقد حدا به العنفوان إلى استرقاقهم وتشغيلهم بأنواع الخدم الشافة ولم يكتف بذلك حتى صار «يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ» إذلالا لهم «وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» أي يبقيهن أحياء ليستعملهنّ هو وقومه في مصالحهم وذلك أنه أخبره بعض كهنته بأنه سيولد منهم ولد يكون سببا في خراب ملكه، ولهذا وقع الخوف في قلبه، فصار يذبح الذكور ويبقي الإناث، وقد استكانوا له حذرا من ذبح الكبار ايضا «إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» 4 الراسخين في الفساد لكثرة ما أوقعه فيهم من القتل بسبب ما تخيله من قول الكاهن زيادة على اعماله القبيحة معهم، بقصد اصغارهم، ولذلك جعلهم شيعا لئلا تتفق كلمتهم فيناوئوه ومن هنا أخذت قاعدة (فرق تسد) وصارت الحكومات الغاشمة إذا استولت على غيرها قسمت بلادها الى حكومات صغيرة، وأوقعت التنافس بينهم ليشتغلوا بعضهم ببعض، ويركنوا للمولى عليهم، قال تعالى «وَنُرِيدُ» بعد أن أظهر فرعون تماديه على الكفر واسترقاق بني إسرائيل «أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» منهم «فِي الْأَرْضِ» من قبله ونهلكه وقومه ولننعم ونتفضل

عليهم «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً» أنبياء وملوكا يصلحون ما فسد من أمرهم ويرفعون الظلم عنهم ويساون بين الناس «وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» 5 لملك فرعون «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» نوطنها لهم ونثبت أقدامهم بها ونجعلها مسكنا لهم، ليكونوا قادة في الخير وحكاما بالعدل، يرفعون الجور ويطهرون الأرجاس التي كان يفعلها فيهم «وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ» وزيره وعونه على مظالمه «وَجُنُودَهُما» الذين هم سبب قوتهما وبطشهما ومتانة شكيمتهما «مِنْهُمْ» من بني إسرائيل، والجار متعلق بنري المتقدم لا بيحذرون، لأن الصلة لا نتقدم على الموصول «ما كانُوا يَحْذَرُونَ» 6 من خراب ملكهم، أي نري فرعون ووزيره وجنوده الذين كانوا يقتلون أولادهم لمحافظة دولتهم، ونحفظ هذا الولد الذي سيكون سببا في ذلك من كيده وتربيته في بيته وعلى يده، ليعلموا أن حذرهم لا يغني شيئا من الله، وأن لا راد لما أراده، وسنحقق ما توهموه في قول الكاهن «وَ» بعد أن ولد نبيهم «أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى» يوحاته من نسل لاوي بن يعقوب بعد أن ولدته وحارت في أمرها ماذا تفعل به، لأن شرطة فرعون يتحرون الدور ويتفقدون الحبالى ليذبحوا الذكور من أولادهم، واشتد خوفها عليه منهم، فألهمناها وأشرنا إليها «أَنْ أَرْضِعِيهِ» أي قذفنا في قلبها ما معناه ذلك وقلنا لها «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ» من اطلاع الشرطة ولم تقدري على دفع ما يحوك في صدرك من الخوف عليه، فضعيه في صندوق «فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» وكان هذا الوحي بطريق الإلهام أو الرؤيا أو بواسطة الملك كما كان يتمثل لمريم عليها السلام، وعلى كل فلا يسمى وحي رسالة لأن المرأة لا تكون مرسلة من الله، والمراد باليم نيل مصر وكل نهر كبير يسمى يما أي بحرا «وَ» قلنا لها أيضا لتطمئن عليه «لا تَخافِي» عليه من الغرق، لأنا حافظوه «وَلا تَحْزَنِي» على فراقه بعد أن تلقيه وتحققي «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» قريبا لتربيه بطلب من فرعون عدوه، وبصورة لطيفة وحالة بديعة «وَجاعِلُوهُ» بعد كبره «مِنَ الْمُرْسَلِينَ» 7 إلى فرعون وقومه، فامتثلت ما قذف في روعها من ذلك الإلهام الإلهي، وبعد أن أرضعته خفية مدة وتحقق خوفها عليه من كثرة التحري من أعوان فرعون رجالا ونساء بلا فتور، جاءت

بتابوت ودفعته فيه وألقته في النيل كما أمرها الله، فالتقطه آل فرعون، وذلك أن قسما من النيل يمر في قصره وأخذته الجرية إليه ليتم مراد الله و «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» في عاقبة أمره، أي ربّوه لهذه الغاية، ولو علموا لقتلوه، ولكن أمر الله واقع لا محالة على حد قولهم (للموت ما تلد الوالدة) والوالدة لم تلد ليموت ولدها بل ليحيا، وهؤلاء التقطوه وفرحوا به ليكون لهم صاحبا ومفرحا، لا ليكون عدوا وحزنا «إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ» 8 بعملهم ذلك وهو تصدّيهم لقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل، لئلا يفوتهم من أخبروا به بأنه سيكون خراب ملكهم على يده، ولهذا عاقبهم الله على فعلهم بأن قدر عليهم أن يربّوا عدوهم الذي يتوقعون منه هلاكهم، ويتحروه ليل نهار بأيديهم وتحت رعايتهم، ليكون ندمهم أكثر وتحسرهم أشد، ويكونوا خاطئين بتربيته لا يشعرون أنه هو، ولا بدع فإنهم خاطئون فيما يأتون ويذرون، لأنهم لا يدينون بالإله الواحد ولا يعلمون أن ما يريده الله لا بدّ أن يقع، أرادوا أو أبوا. وخلاصة القصة قال الأخباريون إن كاهنا من قوم فرعون أخبره بأن هلاكه وملكه سيكون على يد رجل يولد من بني إسرائيل، وأشار عليه أن يأخذ حذره، ويستعد لعاقبة الأمر لأنه واقع لا محالة، وقد رعب فرعون من هذا الخبر، فرأى غضب الله عليه أن يأمر بقتل كل ولد ذكر يولد من بني إسرائيل، من تاريخ إخباره من قبل الكاهن لسلامة نفسه وملكه، وهذا من فظاعة عتوه وبغيه وكبير كبريائه وطغيانه وكثير جهله وحمقه لشدة حرصه وطمعه في الدنيا اقتداء بأخيه النمرود حيث فعل فعله هذا حينما أخبره الكاهن بمثل ما أخبر فرعون، وصار يقتل الأولاد ويترك الإناث، ولكن الله تعالى لم يسلطه على إبراهيم، وقد كان هلاكه بسببه كما ستأتي قصته في الآية 83 من سورة الأنعام في ج 2، مع أنه يعلم أن لا راد لما قضى الله ولا مانع لما أراده، ولكن تهالكه على الملك أعمى بصره وبصيرته، وإن أخذه يقول الكاهن دليل على قلة عقله، لأنه إن صدقه لم ينفعة القتل، لأنه قال له سيكون ذلك، وإن كذبه فلا معنى للقتل، قالوا عين حراسا وقوابل من القبط على نساء بني إسرائيل، وأمرهم بأن يذبحوا كل مولود

ذكر ويتركوا الأنثى، وقد أقره وزراؤه على ذلك وعظماء جنوده أيضا، ولهذا خطأهم الله جميعا وعمهم بعذابه، قالوا ولما حملت أم موسى كتمت أمرها عن جميع الناس حتى عن ذويها، وكانت إحدى القوابل صاحبة لها فلما جاءها المخاض حضرت فولدتها فرأت ما هالها من نور عينيه، وارتعش كل مفصل منها ورجف فؤادها، فقالت لأمه هذا والله عدوّنا الذي أخبر به الكاهن، لأنها قبطية، ولكن أحببته حبا شديدا، فاحتفظي به عن أعين الناس، وسأكتم أمره، وخرجت من عندها. فتسابق لها الحراس وسألوها، فأنكرت عليهم، ثم تسارعوا إلى الباب ليروا هل فيه امرأة والدة، فرأتهم أخته وقالت لأمها ها هم أولاء الحراس بالباب، فارتبكت ولفته بخرقة وطرحته في التنور، ومن دهشتها نسيت أن فيه نارا، فدخل الحراس وتحرّوا فلم يجدوا شيئا، ورأوا التنور يلتهب نارا، فقالوا ماذا أدخل عليك القابلة وأنت غير حبلى؟ قالت إنها صاحبة لي وتزورني أحيانا، ولما خرجوا بادرت إلى التنور فوجدته يلعب ولم يصبه شيء، فأخرجته، وهذا أول دواعي الحفظ الإلهي، إذ أن القبطية كتمت أمره والنار انقلبت عليه بردا وسلاما، وصارت ترضعه سرا وهي خائفة وجلة من شرطة فرعون الذين يباشرون التحري صباح مساء، فألقى الله في قلبها أن تفعل بما ألهمت، فاصطنعت تابوتا عند نجار قريب منها ووضعته فيه وألقته في نهر النيل، فهمّ النّجار أن يخبر به الشرطة فأمسك الله لسانه، فجعل يشير إليهم بيده فلم يفهموا، فأوجعوه ضربا ليخبرهم بما يريد وأراد أن يفهمهم بالإشارة فأعماه الله، فأشبعوه ضربا ثم تركوه في الأرض، ولم يعلموا أن لسانه أمسك وبصره عمي، فبقي حيران في نفسه، فقال في قلبه إن رد الله علي بصري ولساني لأسعين على حفظه أينما كان ولأكونن في خدمته، ولأكتمن أمره، فرد الله عليه بصره ولسانه لعلمه بصدق نيته، فقال يا رب دلني عليه، فألقى في قلبه أنه في بيت فرعون، فذهب إليه وآمن به وصدقه بمجرد رؤيته له، لما تفرس فيه من الخير، وألقى في قلبه مودته ونصرته، وهذا هو مؤمن آل فرعون. وقيل إنه ابن عمه الآتي ذكره في الآية 27 من سورة المؤمن في ج 2 وفي الآية 19 من هذه السورة. قالوا وكان عند فرعون بنت هي أكرم الناس عليه يقضي لأجلها

في كل يوم ثلاث حاجات وكانت برصاء أعيا الأطباء شفاؤها، فأخبره السحرة بأنها لا تبرأ إلا بريق شبه إنسان من البحر، ويكون ذلك في يوم كذا عند شروق الشمس، وفيه غدا فرعون إلى مجلس له كان على ضفة النهر المار في قصره، ومعه آسية بنت مزاحم زوجته وبنته المذكورة وجواريها، فرأى فرعون شيئا طافيا على وجه الماء، فأمر ملاحته فأتوا به فإذا هو تابوت من خشب، فعالجوا فتحه فلم يقدروا، فأخذته آسية ففتحته وإذا فيه صبي يمص رزقه من إصبعه، والنور ساطع بين جبينه، ورأت بنت فرعون لعابه بسيل من شدقيه، فأخذته ولطخت به برصها فبرئ من ساعته، فأحبّته حبا شديدا، وصارت تقبله وتضمه إلى صدرها وكذلك آسية، وسمع ملأ فرعون به، فقال غواتهم أيها الملك نخشى أن يكون هذا هو المولود الذي أخبرنا به بالنظر لما نتوسم به، وأشاروا بقتله وأجمعوا على ذلك، وكانت آسية حين أخرجته من التابوت سمته موسى لأنه كان طافيا بين الماء والشجر، الماء بلسان القبط معناه موو الشجر سا، فقالت إن الذي أخبرتم به من بني إسرائيل، وهذا لا يعلم أنه منهم، والذي أخبرتم به من مواليد هذه السنة، وهذا ابن سنتين وخطأت رأيهم، واستوهبته لنفسها من فرعون، فوهبه لها وأجمعت هي وتبنته على حبه، وهذا مغزى قوله تعالى «وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ» اتركه هو «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ» قال تركته لك لا لي، انه عبراني من الأعداء كيف أخطأه الذبّاحون، وقد جاء في الحديث لو قال كما قالت لهداء الله كما هداها، ولكن من طبع على قلبه لا هادي له، ثم التفتت آسية إلى الغواة الذين أشاروا بقتله، وانتهرتهم بما قص الله تعالى بقوله «لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» والتفتت إلى فرعون منتحلة سببا آخر وقالت، إنك أمرت بذبح أولاد هذه الأرض وقد أتانا من أرض اخرى، ثم جهلت الوزراء فقالت «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» 9 انه هو المخبر به من قبل الكهنة، وهذه الأسباب الثلاثة مانعة من كونه هو، لانه لم يعلم انه من بني إسرائيل وهو في ارض غير ارض مصر، وهو ابن سنتين والمأمور بذبحهم أولاد هذه السنة، وكان عمره عليه السلام إذ ذاك ثلاثة أشهر، لكن

[سورة القصص (28) : الآيات 11 إلى 20]

الأنبياء يشبون بالشهر شباب الصبي من غيرهم بسنة بحكمة ربانية، فسكت فرعون وملؤه، ولم يردوا عليها. واعلم ان هذا التفسير الذي جرينا عليه أولى من جعل وهم لا يشعرون حالا من آل فرعون، وجعل جملة إن فرعون وهامان اعتراضية، وأنسب بالمقام، وأوفق للسياق، واشيع للمعنى، قالوا وكانت آسية من خيار الناس ومن بنات الأنبياء، ترحم المساكين وتتصدق عليهم، والقى الله محبته في قلب فرعون ايضا فحقق الله فيه ظن آسية لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة، وقيل في المعنى: في المهد ينطق عن سعادة جده ... أثر النحابة ساطع البرهان وحقق الله ظن فرعون وقومه أيضا قال: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجي عليه اجتهاده قال تعالى «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» من الصبر ناسيا ما نفث فيه من الإلهام الإلهي خاليا من كل شيء، ملآن بذكر موسى إذ بلغها أنه وقع بين يدي عدوه، وانتهكها الندم على ما فعلت بيدها، حتى أسلمته لعدوه وأنساها عظم بلاء الفقد ما كان عهد إليها من قبل الله بحفظه، وبلغ بها الحال إلى «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ» تصرح للناس علنا أنه ابنها لما دهمها من الضجر وأنه هو ابن ثلاثة أشهر وإسرائيلي ومن أرض مصر، وأنها صنعت ما صنعت من شدة وجلها عليه «لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» فثبتناه بإلقاء الصبر الجميل فيه، وربط القلب تقويته بايقاع الصبر فيه «لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 10 بوعدنا المصدقين فيه. قال يوسف بن الحسين أمرت أم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبشرت بشارتين، فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها وفي هذه الآية من البلاغة ما لا يخفى «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ» مريم بنت عمران «قُصِّيهِ» تتبعي أثره بدقة واعلمي خبره بسر وأخبريني حاله فذهبت إلى ديار فرعون «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ» بعد بحيث كأنها لم تنظر إليه، ولا يهمها شأنه، وصارت تنظره اختلاسا، بطرف عينها بحيث تري الغير أنها غير عابئة به وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 11» أنها أخته أو أنها تنظر إليه، ولما أراد الله انجاز

وعده برده إلى أمه، منعه من أن يقبل ثدي المراضع اللاتي أحضرن لإرضاعه قال تعالى «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ» مجيء أخته، ولما رأت أخته أن أمره أهمهم لكثرة ما أحضرن له من المرضعات وهو ينقلب من يد زوجة فرعون إلى يد ابنته فيقبلانه ويضمّانه إلى صدرهما، تسربت بين المرضعات وتقدست «فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» 12 بالتربية والغذاء والنظافة والإخلاص فيوضعونه ويضمّونه كما تريدون، وهذا الطلب على طريق العرض بلين ورفق وتؤدة، قالوا من هي؟ قالت أرشدكم إلى امرأة قتل ولدها وأحب شيء لها أن ترضع ولدا، قالوا وكان هامان يسمع قولها، فقال إنها عرفته فلتدلني على أهله لأنها قالت وهم له ناصحون، فأمسكوها، قالت اني أردت أنهم ناصحون للملك لا له، وقد قلت هذا رغبة في سرور الملك، لأني رأيت زوجته وبنته قد أهمهما أمره فيتداولانه ويضمّانه على صدرهما، وأن الملك قد أخذه وضمه إلى صدره، وهو يبكي. وهذا أيضا من أسباب حفظ الله تعالى له إذ أنطقها بما أسكتهم: ثم قالت لهم بعنف وشده غضب اعلموا أنا متصلون بالملك يسوءنا ما يسوءه ويسرنا ما يسره، وأرادت أن تذهب من بينهم حنقا لما سمعت من قول هامان، فتمسكوا بها وقالوا لها من هي هذه المرأة؟ قالت هي أمي، قالوا هل لها ولد؟ قالت نعم قالوا ما اسمه قالت هارون ولد في السنة الماضية التي لا يقتل فيها الأولاد، قالوا الآن صدقت، فأتينا؟؟؟ بها فانطلقت مسرعة وأخبرت أمها الخبر كله، وجاءت بها فأعطوها الولد، فالنقم ثديها حالا إذ عرفها أنها أمه من ريحها، فقالوا لها ولم امتصّ ثديك توأ؟؟؟ مع انا أكثرنا عليه المراضع فلم يأخذ ثدي أحد منهم؟ قالت إني امرأة طيبة اللبن والرائحه لم أوت بصبي لم يقبل ثدي مرضعة إلا وقبل ثديي، وان شئتم فجربوا، فأعطوه لها واشترطوا كل يوم دينارا. مطلب في الرضاع والحكم الشرعي فيه ومعنى الأشد: وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ليس للصبي خير من لبن أمه أو ترضعه امرأة صالحة كريمة الأصل فإن لبن المرأة الحمقاء يسري (في الولد) واثر حمقها يظهر يوما

(أي فيه) وجاء في حديث آخر الرضاع يغير الطباع، وقالوا العادة جارية بأن من رضع امرأة فالغالب عليه أخلاقها من خير أو شر (الحكم الشرعي) جواز الإرضاع لحاجة ولغير حاجة، وجواز أخذ الأجرة عليه عدا الأم فلا يجوز أخذ الأجرة على إرضاع ولدها في شريعتنا، ولا تجبر على إرضاع ابنها إلا إذا كان لا يقبل ثدي غيرها، ولعله كان في شريعتهم جائزا وهو من قبيل اختلاف الشرائع في الفروع، وإذا كان لم يجز عندهم أيضا فيكون أخذها الأجرة من قبيل التقية حرصا على إمساك ولدها، ولئلا يعرفوها أنها أمه، وبقيت ترضعه إلى الفطام، وتردد عليه إلى بلوغه المراهقة، هذا فعل الله أيها الناس بحفظ عباده وإنجاز وعده لهم، فتأملوا رحمكم الله كانت تريد أن تراه وتعطي ما يريدونه منها فأخذته بالأجر، وكانت هي أحق بإعطاء الأجر، ألا له الخلق والأمر. قال: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... ثم؟؟؟ فالمخاوف كلهن أمان قال تعالى «فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها» فرحا به «وَلا تَحْزَنَ» على فراقه ولا يدوم أسفها عليه «وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» إنجازه لا يبدل ولا يغيّر «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 13 ذلك فيرتابون فيه أو يشكون فيحرمون من إنجازه لعدم تعلقهم بالله تعلقا خالصا، لأن منهم الجاحد والمنكر ومنهم المتردد، وكلهم خاسرون هالكون والناجحون هم المخلصون الموقنون. وفي هذه الآية تعريض لأم موسى بسبب ما فرط منها من الجزع، مع أن الله تعالى أمتها عليه، قال تعالى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» وهو ثلاثون سنة «وَاسْتَوى» كمل عقله واعتدل رأيه، وبلغ سن الأربعين «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» نبوة وسلطانا وفقها ومعرفة في الدين والدنيا «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» 14 من سائر الناس كما جازينا أم موسى إذ قبلت أمرنا وألقت ولدها في البحر، فرددناه عليها وجعلناه رسولا خليلا. وفي الآية تنبيه على أن أم موسى كموسى كانت محسنة في بداية أمرها، فجزاها الله هذا الجزاء وجعلها أمّا لنبيه وما ذكرنا من معنى الأشد هو الصحيح المعول عليه، وهو حتما دون الأربعين، قال تعالى (إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ

سَنَةً الآية 15 من سورة الأحقاف في ج 2، وهذه الآية تدل على أن الأشد دون الأربعين دلالة صريحة، ولهذا قال هنا استوى والاستواء ما بين الثلاثين إلى كمال الأربعين وبه يظهر معدن الإنسان، وهو سن الكمال الذي يطبع المرء على ما كان عليه فيه من صلاح أو غيره غالبا، قال: إذا المرء جاز الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهواه جاه ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وان جر أسباب الحياة له العمر وقال الآخر: وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت من الأربعين ثم شرع الله يقص علينا ما وقع من موسى وهو عند فرعون قبل ذهابه إلى مدين وتشرفه بالرسالة بدليل العطف بالواو، لأنها لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، أو أن الواو في قوله تعالى «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ» واو الاستيناف عن ذكر قصة أخرى تتعلق بموسى بعد أن ختم قصته أمه، والمراد بالمدينة المدينة التي فيها قصر فرعون غربي النيل بمسافة اثني عشر ميلا من مدينة فسطاط مصر المعروفة بمصر القديمة، وهي أول بلدة أنشئت بمصر بعد الطوفان واتخذت قصرا لملوك مصر قديما، ولعلها التي يسمونها الآن (بالاقصر) قالوا وكان فرعون وملؤه لا يريدون أن يخرج منها لانه صار ينتقدهم فيؤنبهم وينكر عليهم عبادتهم، فتمكن يوما من الخروج من قصره في وقت لا يظن الناس فيه خروجه وفي زمن خلوّ من اجتماع الناس، يدل عليه قوله تعالى «عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» أي في وقت لا يتوقعون دخوله فيها ولا يعتاد الخروج فيه لانه وقت الاستراحة، قيل كان وقت القيلولة او ما بين المغرب والعشاء «فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ» وقريء يقتلان بإدغام التاء بمثلها «هذا مِنْ شِيعَتِهِ» من اتباع موسى وأنصاره قيل هو السامري، لان ما أظهره في الآية دليل على انه هو «وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ» من القبط وهو طباخ الملك واسمه ثاثون على ما قيل، وسبب المنازعة ان القبطي كلّف الإسرائيلي حمل حطب لمطبخ الملك، فأبى على خلاف العادة، لأن الاسرائيلي لا يمتنع من خدمة القبطي، لأنهم كالعبيد يأتمرون بأمرهم فيما يكلفونهم به نساء

ورجالا، إلا أنهم عزّوا بوجود موسى عند فرعون والتفاف زوجته وابنته عليه، وصاروا يناوثون القبط أحيانا ويعارضونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه، لا سيما وان الذليل إذا رأى نفسه تعزز لا يطاق كما هو مشاهد في غير المسترقين فكيف بمن صار الرق له ديدنا؟ ولهذا فإن مثل هذه المخالفات صارت تجري منهم على غير المعتاد، وبما أن خصمه طباخ الملك والحطب لمطبخه اغتاظ القبطي وهاجمه بالضرب، ولما رأى موسى أن القبطي هو المعتدي ضربه بجميع يده ليردعه عن ضرب الإسرائيلي، ولا يعلم أن ضربته هذه تقضي لموته لأن الأنبياء معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، قال تعالى حاكيا حالهما «فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» أماته خطأ، والقتل خطأ صغيرة لا كبيرة، والوكز عادة لا يؤدي للموت لأنه ضربه بجميع يده أو دفعه برؤوس أصابعه، ولا مظنة فيها للقتلى والقتل بغير آلة مفضية له لا يعدّ جناية مقصودة بالمعنى المراد فيها لا سيما إذا عرت عن النية، ولكن لما رأى وكزته قضت على حياته ولم يكن يتصور حصول الموت بها ندم عليه السلام قالوا ثم جر جثته ودفنها بالرمل و «قالَ هذا» الذي وقع «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الذي غايته استذلال البشر وإيقاعه في الخطايا «إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» 15 مظهر العداء والضلال إلى الإنسان، ثم رفع يديه «قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» بما فعلت قال هذا على سبيل الاتضاع والاعتراف بالتقصير، لأن الأنبياء يعدون ما يقع منهم كبيرا مهما كان بالنسبة لقامهم، وفعله هذا كان قبل النبوة بكثير يدل عليه قوله تعالى (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الآية 19 من سورة الشعراء المارة «فَاغْفِرْ لِي» ما وقع مني واستره علي ولا تؤاخذني به لئلا يطلع فرعون فينتقم مني «فَغَفَرَ لَهُ» وأجاب دعاءه جزاء اعترافه ووصم نفسه بالظلم «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» 16 كثير الرحمة بأوليائه الأبرار وقد ستره الله عليه فلم يشاهده أحد عند الضرب ولا عند الدفن «قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ» بالستر والمغفرة، وأقلت عثرتي وقبلت توبتي «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً» معاونا ونصيرا أبدا «لِلْمُجْرِمِينَ» 17 الذين يوقعون غيرهم

بالإجرام، الذين تؤدي معاونتهم إلى إيقاع الجرم، ويجرونهم إلى الخطأ والهفوات. واعلم انه عليه السلام انما عرف أن الله تعالى غفر له ولم يتنبأ بعد فبإلهام من الله قذف في روعه الشريف، وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة ومن كان في هذا السن لا يعاقب كما مر لك في الآية 19 من الشعراء، والمادة 40 من قانون الجزاء تنص على هذا، وما قيل انه برؤيا رآها يستبعدها العطف بالفاء، ولمّا لم يستثنى ابتلاء الله ثانيا، قال تعالى «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ» التي قتل فيها القبطي «خائِفاً يَتَرَقَّبُ» حلول المكروه من أولياء المقتول أو من فرعون، ويترصد الأخبار ليعرف هل وقف أحد على فعلته هذه أم لا، لأنه أمن من الجزاء المعنوي بمغفرة الله وبقي الجزاء الحسيّ وقد أشغل فكره ذلك، إذ صار يتوقع القبض عليه ويترقب المكروه في نفسه «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» يستغيث به عن بعد من قبطي آخر معه «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ» أيها الاسرائيلي «لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» 18 مظهر الغواية خال عن الرشد، إنّك قاتلت رجلا بالأمس فاستغثت بي عليه فقتلته بسببك، والآن تقاتل غيره؟ فقال إنه تعدى على أيضا مثل ذلك، وبما أنه عليه السلام يعلم كثرة تعدي القبط على الاسرائيليين فقد أخذته الغيرة وساقته الحمية على الاسرائيليين لأنهم من دمه، فظهر عليه الغضب السائق للانتقام «فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما» في الأصل وهو القبطي «قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» كأنه توهم من قوله للإسرائيلي انك لغوي مبين أنه هو الذي قتل القبطي المار ذكره الذي لم يعرف قاتله لأنهم لما فقدوه تحروا عليه فوجدوه قد دسّ بالرمل، فأخذوه ولم يعرفوا قاتله. وهذا التفسير موافق لظاهر الآية وسياقها ولقوله تعالى «إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ» الجبار هو الذي يفعل الفعلة لا يخاف عقباها «وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» 19 فيها بأن تدفع بالتي هي أحسن، لأنه يبعد على الاسرائيلي الذي انتصر له أولا وآخرا أن يقول في حق موسى هذا القول وهو وغيره، عرف أن ما حصل لهم من العزة والمكانة إلا بسبب وجوده، ويجدر بالقبطي

أن يقول ذلك القول لأنه عرف من فحوى المخاطبة بين موسى والاسرائيلي والاستغاثة به عليه ان قتل القبطي وقع منه، وكلاهما يعلم أن ما حصل للاسرائلين من المهابة هو لأجل موسى لأنه تربى في بيت الملك، ويعلمون أن الملك وزوجته وبنته يحبونه حبا جما، فقال ما قال بحقه، هذا، وأن أكثر المفسرين مشوا على أن القائل هو الاسرائيلي لأنه توهم إرادة البطش بدون القبطي، لأنه سماه غويا فقال ما قال بحق موسى وفشى أمره بين الناس بأنه هو القاتل، ولذلك قالوا انه، السامري، فيكون جزاء موسى منه افتضاح أمره ووصمه بالجبارية وعدم الإصلاح فيصدق عليه قول القائل: ومن يفعل المعروف في غير أهله ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم أو المثل المشهور (يجازى جزاء سنمار) ويصدق الخبر الوارد: أبت النفس الخبيثة ان تخرج من الدنيا حتى تسيء لمن أحسن إليها، والخبر الذي نقله الغزالي رحمه الله: اتق شر من أحسنت إليه. وارى التفسير الأول اولى والله اعلم. قالوا وكان اهل المقتول الأول راجعوا فرعون بقضية قتيلهم، إذ وجدوه ولم يعلموا قاتله، فقال حققوا واخبروني، وقد صادف ان حضروا هذه الحادثة الأخيرة وما قاله موسى وما رد عليه به على التفسيرين المارين فتعرفوا ان القاتل هو موسى، فذهبوا واخبروه هذا ما قصه الله علينا في كتابه العظيم من القتل والمقتول والقاتل اما الموجود في التوراة الموجودة الآن هو ان الرجلين الأولين كما قص القرآن اما الآخران فكلاهما من بني إسرائيل ووجه العداوة ان هذا الذي أراد أن يبطش به موسى كان ظالما لمن استصرخه، فيكون بظلمه عدوا له وعاصيا لله تعالى، والعاصي لله عدو لموسى، وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قاتل ذلك، يعني موسى عليه السلام راجع الاصحاح الثامن من الخروج ص 11 و 15، ومن المعلوم أن ما يكون في التوراة مخالفا للقرآن لا يلتفت إليه، وكذلك فيما يخالف السنة، وذلك بسبب التبديل والتغيير الذي طرأ عليها والنسخ، وفيما عدا ذلك من أخبار بني إسرائيل وغيرها فلا بأس بأن يستأنس بها لبعض الأمور، ولا يجب التصديق بها، ولا ينبغي تكذيبها، لأن التوراة بالنسبة للعصر الحاضر هو

[سورة القصص (28) : الآيات 21 إلى 30]

أول كتاب سماوي موجود في الأرض، لأن الصحف قبلها درست ولم يبق لها أثر، وكثير ما فيها من قصة موسى وغيره مخالف لما قصه الله في القرآن، كما يظهر لأول نظرة لمن يطالعها بإتقان، ويقابل ما بينها وبين القرآن، لأنك لا تجد فيها ذكرا لمؤمن آل فرعون ونصحه لموسي في هذه القصة البتة، راجع ما بيناه في تفسير الآية 96 من سورة طه المارة. مطلب تجوز النميمة والكذب لمصلحة والأخذ بالنصح: قالوا وكان مؤمن آل فرعون حاضرا حينما جاء أولياء المقتول وأخبروا فرعون وأمر بإحضاره، وبما أنه آلى على نفسه إدامة النصح لموسى تغيب حالا عن المجلس، وسار ليخبر موسى، وهو المعنى بقوله تعالى «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى» يهرول ويسرع في مشيه، وكان سلك أقرب الطرق التي سلكته الشرطة للقبض على موسى لينذره بالخطر عليه من بقائه في مصر كلها والمدينة المار ذكرها في الآية 14، قالوا ان اسمها منف أو عين شمس أو حابين، واسم المؤمن حزقيل، ولما وصل إليه «قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ» الملك ووزراؤه يبشاورون بشأنك «لِيَقْتُلُوكَ» بالقبطي قصاصا، سمى التشاور ائتمارا، لأن كلا من المستشير والمستشار يأتمر بأمر صاحبه، وقد استدل القرضي وغيره أن النميمة لمصلحة دينية جائزة كما هنا، وكذلك الكذب لمطلق مصلحة مشروعة «فَاخْرُجْ» الآن «إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» 20 وكان موسى يعرفه لأنه كان يتفقده دائما وهو واثق به، وله موقف عال سيأتي في الآية 38 من سورة المؤمن في ج 2 «فامتثل موسى» حالا بدليل قوله «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً» على نفسه من آل فرعون، لان العطف بالفاء يدل على التعقيب بلا فاصلة عما قبله «يَتَرَقَّبُ» الطلب لئلا يلحقه فيأخذه إلى فرعون، وفي هذه الآية دلالة على أن النصح مطلوب والاخذ به كذلك، والنصيحة بين المسلمين واجبة، وقد حث عليه الرسول كثيرا، ولجأ موسى إلى ربه عز وجل لعلمه أن لا ملجأ له إلا إليه «قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 26 فأجاب دعاءه وأعمى الشرطة عن رؤيته وعن الالتحاق به «وَلَمَّا تَوَجَّهَ» بتوفيق الله إياه «تِلْقاءَ مَدْيَنَ» جهتها وقد ساقه الله

لطريقها، وهو لا يعرفه، لان أهالي مدين من نسل إبراهيم جده عليه السلام ولحكمة أرادها الله كما سيأتي، قالوا وبين مصر ومدين ثمانية أيام، راجع الآية 40 من سورة طه المارة، فسار هذه المسافة على قدميه لم يأكل ولم يشرب إلا من نبات الأرض وما يجده من الغدران، ومو تربى تربية ملوكيّة، وهذا أول بلاء أصابه، لأنه لما يعرف العناء، ولما لم يعرف أين يسير «قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» 22 الطريق المعدل الموصل إلى ما به النجاة والسواء بمعنى الوسط، وذلك انه صادف مفترق الطرق فألهمه الله أن يسلك الوسط منهما وقيل أن الله أرسل ملكا أرشده إليه فسلكه، قالوا ولما وصل الّذين تعقبوه إلى ذلك المفرق لم يعرفوا أي طريق سلكه كي يتعقبّوه عليه، فقر رأيهم على أن الخائف لا بسلك الطريق السوي بل يسلك بنياته، فسلكوا غير الطريق التي سلكها ليتم مراد الله الذي أجاب دعاءه بنجاته منهم، ولذلك فإن الطلب صل مقصوده فرجع خائبا وموسى بلغه «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» بئرها المعد لسقي المواشي «وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ» 23 أعناقهم ودوابهم. واعلم أن لفظ الام من المبهم أحد أقسام البديع، وله تمان معان فمعناها في قولك نحن من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم (الجماعة) وفي رجل جامع للخير يقتدى به كقوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) الآية 120 من سورة النحل في ج 2 (الرجل الفذ الجامع) وتأتي بمعنى الحين والزمان في قوله تعالى (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وقوله (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) وقوله (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) وتأتي بمعنى القامة يقال فلان حسن الامة، وتأتي نعتا للرجل المنفرد بدين قال صلّى الله عليه وسلم يبعت زيد بن عمرو بن تفيل أمة وحده، ويطلق على الام أيضا «وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ» بمكان بعيد عنهم أسفل منهم «تَذُودانِ» اغنامهما وتمنعانها من التقرب إلى محل الورود والذود هو المنع فتقرب موسى منهما «قالَ ما خَطْبُكُما» ما شأنكما لا تتركان مواسيكما لتقرب نحو الماء «قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ» مواسيهم عن الماء لأنا لا نستطيع مزاحمتهم حال الورود، فاذا صدروا عن الماء أسقينا أغنامنا ما يفضل في الحياض، لأنا لا نقدر أن نستقى بأنفسنا ونخشى القوم

إذا أطلقنا مواشينا على حياضهم، لذلك نزودها حتى يكتفوا وما لنا أخ «وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» 24 عاجز لا يقدر أن يحضر إلى محل الماء، وذكرنا له بأن اسمه شعيب من نسل إبراهيم، وقرىء رعاء بضم الراء على خلاف القياس، لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وطراح، وإذا استعمل بمعنى الجمع على القراءة الشاذة فهو اسم جمع لا جمع، وقيل جمع أصلي والضم فيه بدل من الكسر، كما أبدل من الفتح في نحو سكارى، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درّة الغواص، والمشهور منها ثمانية نظمها صدر الأفاضل وقيل الزمحشري بقوله: ما سمعنا كلما غير ثمان ... هي جمع وهي في الوزن فعال فرباب وفرار وتؤام ... وعرام وعراق ودغال وظؤار جمع ظئر وبساط ... جمع بسط هكذا فيما يقال والرباب جمع ربى الشاة الحديثة العهد بالنتاج، والفرار جمع فرير ولد البقرة الوحشية، والتؤام جمع توءم المولود مع قرينته، والعرام بمعنى العراق جمع عرق وهو العظم الذي عليه بقية لحم، والرفال جمع رفلة الأنثى من أولاد الضأن، والظؤار جمع ظئر الموضع، والبساط جمع بسط الناقة التي تخلى مع ولدها، فاحفظ هذا لعلك لا تجده فتحرم فائدته. فما سمع كلامهما أخذته الأريحبة، وكان القوم انتهوا من السقي وذهبوا «فَسَقى لَهُما» أغنامهما، لا من فضل الحياض بل تقدم إلى البئر ورفع بيده الحجر الذي سدّوا فمه، وهو لا يرفعه إلا عشرة رجال، وأخرج ماء جديدا لها، فشربت حتى صدرت فأخذاها وذهبا ولم يتكلما معه وبقي هو وحده لا يعرف ماذا يفعل «ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ» ظل شجرة قريبة من البئر فاستظل بها من وهج الشمس وقد أحس بالتعب والجوع «فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» 25 أي مطلق خير فأنا محتاج إليه، ووضع الحاضر موضع المستقبل لشدة ثقته بالله. قال ابن عباس لقد افتقر موسى الى شق تمره وهو أكرم الخلق على الله في زمانه، فما بال الناس عندهم الكثير ولا يشكرون الله الذي أنعم عليهم به؟ وما قيل إن المراد أنه التجأ إلى ربه عليه

السلام بقوله لما أنزلت إلى من خير الدين صرت محتاجا للدنيا لا أراه لايتأ بحضرته وما احتج به صاحب هذا القول من أنه أراد به إظهار التبجح والشكر غير وجيه والله أعلم وفي هذه الآية دليل على جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المنقشفة مستدلين بقوله صلّى الله عليه وسلم لا راحة في الدنيا، لأن المراد من الحديث أنه راحة مطلقة في الدنيا وخاصة لدى الأبرار التشوقين إلى ربهم فإنهم يرون الدنيا كلها تعبا ونصبا، لا راحة من التعب نفسه، وقد أنس عليه السلام بالشكوى لما لحقه من الجوع، ولا نقص فيها عليه بالنسبة لمرتبته، لأنها إلى مولاه لا إلى غيره، ومن هذا قول يعقوب عليه السلام جوابا لأولادهِ نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) الآية 16 من سورة يوسف ج 2، أي لا ينتقد من يشكو همّه لربه. الحكم الشرعي: جواز الشكوى لمن ألمّت به حاجة وكان عاجزا عن قضائها لمن يأنس منه أنه يجيب شكواه أو يغلب على ظنه ذلك، هذا ولما وصلتا بأغنامهما إلى دار أبيهما رأى عليه السلام أو اعتقد على القول بأنه أعمى، وأبصر على القول بأنه بصير وهو الصحيح، راجع الآية 84 من سورة الأعراف المارة تجد قصة عماه ومعجزاته مفصله هناك أي شاهد الأغنام بطانا بخلاف عادتها، فسألهما عن ذلك، فقالتا وجدنا رجلا صالحا فسقى لنا، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه، فذهبت نحوه قال تعالى «فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» لأنها جاءت تدعوه لضيافتها ولم تدعه قبلا عند ما سقى لهما ولا تعلم أيجيب دعوتها أم لا، وكانت مستترة بكم درعها، مستحية من مخاطبته، وهذا دليل على إيمانها وشرف عنصرها «قالَتْ» له وهي واضعة يدها على وجهها «إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» فكره عليه السلام الإجابة إذ كانت بمقابل فعل، لأنها صرحت له بذلك، وهي إنّما قالت ذلك لئلا يرتاب بكلامها، وإذ أسندت الدعوة إلى أبيها وكان عليه السلام بحاجة للراحة والأكل، أجاب دعوتها ومشى وراءها لأن الدليل عادة يتقدم على المدلول إلا أنه لما رأى الريح تضرب ثوبها فتمثل ردفها، كره أن يرى ذلك منها لا سيما وقد رأى حياءها وعلم شرفها، فقال لها تأخرى وامشي خلفي، وإذا أخطأت الطريق فاهديني إليه بكلامك، فعرفت المغزى من ذلك لما شاهدته من عبث الريح بثوبها،

فتأخرت وبقيا يمشيان هكذا وهي ترشده بقولها يمينا شمالا حتى وصلا إلى دار شعيب عليه السلام. قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُ» موسى وجده قد هيأ العشاء وبعد أن تبادلا التحية، قال شعيب اجلس يا فتى تعشى قال أعوذ بالله، قال شعيب ولم لست بجائع؟ قال بلى ولكن أخاف ان هذا الطعام جزاء لما سقيت وإنا أهل؟؟؟ لا نطلب على عملنا الأخروي أجرة، فقال شعيب لا والله ولكن عرفت أنك؟؟؟ ريب عن هذه الديار ولا تعرف أحدا، وكانت عادتي وعادة آبائي إقراء الضيف إطعام الطعام، فجلس وأكل وتحدث معه وسأله عن مجيئه وسببه، فذكر له موسى قصته «وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ» من بداية أمره إلى فراره «قالَ» شعيب موسى عليهما السلام «لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 26 فرعون قومه حيث لا سلطان له على مدين «قالَتْ إِحْداهُما» وهي التي دعته لما سمعت القصة وعرفت أنه لا يقدر أن يرجع إلى بلده «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» لرعي غنامنا كي يبقى هنا آمنا من عدوه، ثم مدحته لترغب أباها به فقالت «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» 27 ذكرت قوته لرفعه الحجر عن فم بئر وحده، وأمانته لأنه أمرها أن تمشي خلفه حتى لا يرى منها شيئا، وهاتان لخصلتان مطلوبتان في الأجير، وجاء الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمين قوي؟؟؟ معروف، وضربت في هذه الآية قياسا من الشكل الأول، فقول هو قوي أمين، وكل قوي أمين لائق للاستيجار، وجعل (خير) في هذه الآية اسما لإن، سمع أنه؟؟؟ اسم معنى لا اسم ذات- للاهتمام بأمر الخبرية، جاء كذلك على حد قوله: ألا إن خير الناس حيا وهالكا ... أسير ثقيف عندهم بالسلاسل ؟؟؟ العناية سببت التقديم، وسببت أحقية كون خير خبرا والقوي اسما من حيث صناعة، وتدل هذه الآية على جواز الإجارة عندهم كما هي عند كل ملة لأنها من روريات الناس ومصلحة الخلطة، وقد أجمعت الأمة على جوازها عدا ابن عليه الأصم فإنهما لا يجوزانها استبدادا وخرقا للإجماع، وجاء في الإكليل على هذه الآية؟؟؟ على منع الإجارة المتعلقة بالحيوان عشر سنين، لأنه يتغير غالبا لعل هذه التي لا يجيزانها لا مطلق الإجارة إذ لم يختلف فيها اثنان.

مطلب وفادة موسى على شعيب وفي الإجارة وعقد بنته له: قال تعالى حاكيا عن نبيه شعيب ما قاله لموسى عليهما السلام «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي» نفسك لترعى أغنامي مدة «ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ» تفعلها علي لا واجب عليك «وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ» بالزام العشر إذا لم تتبرع بها عفوا ومعروفا تديه لي، وأظن أنك في المدة التي تقضيها لدي «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» 28 في صحبتك ومعاملتك والوفاء لك. الحكم الشرعي ينبغي أن يكون المهر مالا متقدّما لقوله تعالى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ الآية 24 وقوله تعالى (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ) الآية 3 من سورة النساء في ج 3 وان يشتمل العقد على الإيجاب والقبول، والإذن من الولي، ولستئذان المخطوبة وبيانها وأن يكون المسمى بالعقد لها لا لأبيها، وعليه يكون هذا العقد مخالفا لشريعتنا، لأن العقد على الرعي لأبيها لا لها، ولأن الصداق خاص بالزوجية لا بالولي، إلا أن يقال أن هذا العقد الذي جرى على الشرطين المذكورين في الآية اللذين أحدهما للأب والثاني للزوج، غير العقد الذي سمي عليه المهر للزوجة بعد انقضاء الأجل وعند الزفاف، وأنه جائز في شريعتهم، قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 52 من المائدة في ج 3، ولو أنه شرط رعي الغنم لها لجاز لأنه يكون بمقابلة مال، وعقد على مدة معلومة، أو أن قوله الأول عبارة عن الوعد بالزواج لا غير، ثم عقد له بعد تمام المدة على بنت معينة، ومهر معلوم إعطاء لها من ماله بمقابلة رعيه أغنامه تلك المدة، والله أعلم. مسألة: لو تزوجها على تعليم القرآن أو خدمة لها سنة مثلا صح العقد ووجب مهر المثل لها عليه، لعدم تقويم التعليم والخدمة، هذا إذا كان الزوج حرا فإن كان عبدا فلها الخدمة، لأن خدمة العبد ابتغاء المال فتضمن الخدمة تسليم رقبة الخادم إلى المخدوم، والأمر ليس كذلك في الحر، ومسألتنا هذه في الأحرار الأبرار. «قالَ» موسى لشعيب عليهما السلام «ذلِكَ» الذي عاقتدني عليه وعاهدتني فيه قائم ثابت «بَيْنِي وَبَيْنَكَ» فلك ما شرطت علي من الرعي تلك

المدة، وإليّ ما شرطت على نفسك من التزويج واني «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» بالمطالبة بالأكثر إن لم أقضه من نفسي، أراد عليه السلام أن لا يقيد نفسه بالأكثر حتى إذا أكمله يكون تفضلا منه لا لازما عليه، وقال كل منهما بعد إقرار هذا العقد ورضائهما به «وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» 29 رقيب وشهيد علينا في ذلك، إذ لا أحد لديهما سوى ابنتين، ويشترط بشريعتنا لصحة هذا العقد حضور شاهدين، هذا وكل منهما واثق بصاحبه على ما الزم نفسه من القيام بالشرط، قال تعالى «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» لم يبينه تعالى ولكن؟؟؟ العهدية تفيد انه الأكثر، والله اعلم. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال سألني يهودي من أهل الحيرة، أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا أدري حتى قدم على خير العرب، فأسأله فقدمت، فسألت ابن عباس، فقال قضى أكثرها وأطيبها، لأن رسول الله إذا قال فعل. وروي عن أبي ذر مرفوعا إذا سألت؟؟؟ المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت، فقالت يا أبت استأجره، متزوج صغراهما وقضى أوفاهما، قالوا واسمها صفورا، ولما تعاقدا قال لابنته أعطيه عصاي يدفع بها السباع عن الغنم، وكانت من آس الجنة، وكان حملها آدم عليه السلام ثم توارثها الأنبياء من بعده حتى وصلت الى شعيب، ثم قال موسى لزوجته بعد الدخول بها قولي لأبيك يجعل لنا بعض الغنم نتمول بها، فقالت له قال لكما كل ما يولد في هذا العام أبلق وبلقاء، فأوحى الله إلى موسى بطريق الإلهام لأنه لم يتنبأ بعد إذ كان عمره اثنتين وعشرين سنة- أن اضرب بعصاك لماء ثم اسق الأغنام، ففعل فولدت كلها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن هذا؟؟؟ ساقه الله لموسى وزوجته، فوّفى لهما بشرطه وأعطاهما كل ذلك. وروي؟؟؟ شعيبا أوصى موسى مرة أن لا يأخذ غنمه ذات اليمين من محل عينه له وان؟؟؟ فيه كلأ كثير، لأن فيه تنينا آفة كبيرة من الحيات، فلما ذهب بها إلى ذلك المحل أخذت ذات اليمين ولم يقدر على ردها، فتركها ومشى في أثرها، إذا عشب رديف لم ير مثله، فنام وتركها، فلما أقبل التنين تلقته العصا فقتلته عادت إلى جنب موسى دامية، فلما أفاق وأبصر ما وقع ارتاح وأخبر شعيبا

بذلك عند رجوعه، ففرح وعلم ان سيكون لهذه العصا وموسى شأنا، وهذه مما عدوه معجزة لشعيب عليه السلام، لأن القرآن لم يذكر له معجزة- راجع الآية 84 من سورة الأعراف عن معجزات شعيب وما يتعلق بها- قالوا ولما أراد موسى أن يأخذ أهله إلى مصر حيث تفقد أخاه وأمه وأخته بكى شعيب وقال تتركنّي وقد كبرت وضعفت ووهنت قواي؟ فقال قد طالت غربتي عن أهلي ولا أعلم ماذا جرى عليهم، فبسط شعيب يده وقال يا رب بحرمة ابراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح واسحق الصفي ويعقوب الكليم ويوسف الصديق ردّ علي قوتي وبصري، وكان موسى يؤمن على دعائه، فرد عليه بصره وقوته، وهنا انتفى القول بعماه، لأنه كعمى يعقوب كما بيناه مفصلا في الآية المذكورة من الأعراف المارة، وله صلة في الآية 84 من سورة يوسف في ج 2 فراجعه، ثم أذن له بالمسير لمعذرته تلك وأوصاه بابنته، وذاك بعد تمام ثمانية عشرة سنة بعد زواجها «وَسارَ بِأَهْلِهِ» لجهة مصر. واعلم أن التشوق الذي حدا بموسى لزيارة أهله حسا وظاهرا بعد ثمان وعشرين سنة هو في الحقيقة تشوق إلى الله معنى، إذ أزف الوقت الذي قدره لتشريفه بالنبوة والرسالة، ودنت منه أيام القرب والزلفى الى ربه، إذ أكمل عمره الأربعين وصار لائقا للتحلي بأنوار النبوة العظمى، راجع الآية 41 من السورة المارة، وبأثناء سيره قدر عليه أن يضل الطريق ليكون سببا للهداية، وكان الوقت ليلا ومظلما ودخل في حيرة، فما أحسّ إلا وقد «آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً» أبصر نارا من الجهة التي تلي الطور، وكان البرد شديدا، وقد أخذ أهله الطلق فولدت وصار بحاجة ماسة لتدفئتها «قالَ لِأَهْلِهِ» التي لم يعد بإمكانها السير «امْكُثُوا» مكانكم هذا الخطاب لها ولخادمتها وابنها بالتبعية «إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» عن الطريق «أَوْ جَذْوَةٍ» آتيكم بشعلة «مِنَ النَّارِ» التي رأيتها «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» 30 تستدفئون بها، فامتثلوا أمره، فتركهم وذهب مسرعا «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ» من ضفته اليمنى بالنسبة للمقبل اليه «فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» بسبب وقوع التكليم فيها، وقدست تلك البقعة لتشرف موسى بالنبوة فيها «مِنْ»

[سورة القصص (28) : الآيات 31 إلى 40]

ناحية «الشَّجَرَةِ» التي أسرق عليها نور الإله العظيم، فأضاء ما حولها، وجاءه النداء الإلهي منها قال ابن عباس هي شجرة عناب وقدست أيضا لذلك السبب ثم فسر ذلك النداء بقوله «أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» 31 فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس، ورأى النور في هيئة النار، وخرطب بألطف خطاب، وصار مكلما شريفا لحضرة رب الأرباب، وقد أعطي ماسئل، وأمن مما خاف، وحظي بالألطاف، قيل لموسى عليه السلام كيف عرفت أنه نداء ربك؟ قال لأني سمعته بجميع أجزائي وعلمت أنه لا يجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الواحد القهار، والجذوة مثلتة الجيم، كالجثوة والرغوة والحضرة والصفوة والربوة والعشوة والنشوة والوجنة والخدعة والفلقة، أي تقرأ بالضم والفتح والكسر، وهي العود الغليظ سواء كان في رأسه نار كقوله: وألقى على قيس من النار جذوة ... شديدا عليها حرها والتهابها أو لم يكن كقوله: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جذل الجذا غير خوّار ولا دعر الدعر بفتح الدال وكسر العين وبضم الدال وفتح العين العود إذا دخّن ولم يتّقد والخوار الزناد القداح، ومن الأولى والثانية لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة و (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من شاطىء الوادي بدل اشتمال لأن الشجرة ثابتة- فيه، وبعد أن توطن موسى عليه السلام لكلام ربه عز وجل أراد أن يريه معجزة على نبوته فخاطبه بقوله جل قوله «وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ» فألقاها حالا دون أن يعرف المراد منها ونظر إليها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة، راجع تفسير الآية 10 من سورة النمل المارة «وَلَّى» ظهره «مُدْبِراً» عنها «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع لأنه رآها كأنها لم تدع شجرة ولا حجرة إلا بلعتها، وصار يسمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والحجر في جوفها فناداه ربه «يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» 32 لاينالك مكروه منها ولا من غيرها، فرجع حالا وقد عادت العصا على حالتها الاولى راجع الآية 21 من سورة طه المارة، فأخذها بيده ثم قال له ربه «اسْلُكْ

يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» هو فتحة الثوب من حيث يدخل رأسه عند اللبس، وأراد منه أن يضعها تحت إبطه ليريه معجزة أخري، بحيث أنّ يده السراء «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، ففعل فإذا هي تبرق كالشمس، ولم يعرف كيف يتمكن من إعادتها لحالتها الأولى، إلا أنه لما عرف إعادة العصا لحالتها الأولى حال أخذها من الأرض، ففعل بيده مثل ما فعل بالعصا بان أعاد يده لإبطه، ثم أخرجها فإذا هي على حالتها الاولى، ولما كان عليه السلام لحقه خوف من هاتين المعجزتين ولا سيما العصا، أراد الله أن يعلمه ما يزيله عنه فقال «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ» الخوف، ففعل فذهب عنه الروع وعرف من هذا أنه كلما هاله أمر ضم يديه الى صدره فيزول خوفه بإذن الله تعالى، قال ابن عباس أمر الله نبيه أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الرعب وما من خائف بعد موسى إلا وبضع يده على صدره عند الخوف فيزول خوفه بإذن الله تعالى. قال أبو علي الفارسي هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه، وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه، وقيل ان الرهب بلغة حمير هو كم الثوب، وعليه يكون المعنى والله اعلم، اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك وتناول عصاك ولا تخف، فان العصا واليد قد عادتا لحالتهما «فَذانِكَ بُرْهانانِ» آيتان عظيمتان، وحجتان بالغتان، ودليلان قاطعان، على صدق نبوتك «مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» فاذهب إليهم وانما ذكر الضمير مع أنه يعود لمؤنثين مراعاة للخبر الذي هو مذكر، أي ان قلب العصا حية واليد السمراء بيضاء نقية ميزة على الصورة المارة للمذكر، برهانان لك، فإذا طلبوا منك دليلا على دعواك النبوة فاظهرهما إليهم وادعهم للايمان «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 33 خارجين عن الطاعة، متوغلين في العصيان، متجاوزين الحدود «قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» 34 بها والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء عنها، كما زعمت اليهود بانه استعفى ربه من قبول ذلك، وجاء في التوراة الموجودة بأيدينا في الإصحاح الرابع من الخروج الآية 14 ما نصه (استمع أيها السيد أرسل بيد من ترسل) وجاء في

بعض النسخ أنه قال (يا ربّ ابعث من أنت باعثه) وهذا من التحريف المحض، راجع الآية 74 من سورة يونس ج 2 إذ يكذبه قوله تعالى «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» بيانا بالنطق بسبب العقدة التي في لسانه، راجع الآية 13 من الشعراء المارة تعلم أن الله أزالها منه «فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» بزيادة بيانه وتلخيص الدلائل التي أعرضها عليهم، والإجابة عن الشبهات التي يلقونها علي بكلام فصيح لا ركاكة فيه، ويكون عونا لي عليهم، فأتثبت بالمقام وأوضح الكلام «إِنِّي أَخافُ» إذا ذهبت إليهم وحدي «أَنْ يُكَذِّبُونِ» 34 فيتغلبوا عليّ في المجادلة فيظنوني كاذبا في دعواي، فلو كان قصده ما زعمته اليهود لقال أرسل هارون لم يقل اجعله عونا لي ولم يستطرد الكلام إلى الفصاحة، قاتل الله اليهود لم يتركوا شيئا حقا الا عمدوا إلى تغييره، فأجاب الله طلبه «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ» ونقوبك به، وهذا المراد في قوله بصدقي لا أن يقول له صدقت في دعواك كما ذكره الغير، لأن هذا يقدر عليه الفصيح والأبكم (فسحبان وباقل فيه سواء) لأن موسى يريد بقوله هو أفصح مني إلخ أي يقدر على الرد عليهم في المجادلة ببيان أوضح من بياني، وهذه سعادة زفت إلى هرون عفوا من الله إذ جاءته الرسالة بمطلق طلب أخيه المقدر عليها أزلا، ويرحم الله الأبوصيري إذ يقول: وإذا سخر الإله سعيدا ... لأناس فإنهم سعداء والعضد هو العظم الذي بين الذراع والكتف وبه تشتد اليد لأنه قوامها «وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» قويا على فرعون وملئه، وغلبة عظيمة، اذهبا إليه لا تخافا أبدا «فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما» بسوء قط حيث قوينا كما «بِآياتِنا» هذه وغيرها، وقضينا في أزلنا ان يكون «أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» 35 عليهم، وبهذه الآية استدل على عدم تسليط فرعون على السحرة، وعدم تمكنه من إنفاذ تهديده لهم، وهنا انقضت المناجاة الشريفة، فرجع عليه السلام إلى أهله وأخذهم وسار إلى مصر، فوصل إليها واجتمع بأمه وأخيه وأخته، ورآهم على أحسن حال ببركته، ثم ترك أهله وأخذ أخاه وذهب إلى فرعون بجنان قوي،

وصار يدعوه إلى الله على الوجه المار ذكره في سورة الأعراف وطه والشعراء الآيات 103 و 42 و 16 فما بعدها، لأن هذه السورة كالتكملة لما تقدم فيها قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا» التي لا خفاء فيها «بَيِّناتٍ» وطلب منهما أن يؤمنوا بربّه، ويصدقوا رسالته، «قالُوا ما هذا» الذي جئتنا به من اليد والعصا بشيء يركن اليه بأنه من الله الذي تصفه وما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً» مختلق لا صحة له «وَما سَمِعْنا بِهذا» الإله الذي تدعي رسالته وتدعونا لعبادته «فِي» زمن «آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» 36 ولا نحن سمعناه من غيرك وأخيك «وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ» يعني نفسه عليه السلام «وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» المحمودة في هذه الدنيا لأنها هي التي دعا الله إليها عباده وركب فيهم عقولا ترشدهم إليها، ومكنهم منها وحضّهم على العمل فيها «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» 37 بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم، ولا ينجون من محذورهم، يريد بقوله عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله للفلاح الأعظم، إذ جعله نبيا، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العاقبة، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غني حكيم لم يرسل الكاذبين، ولا ينيء الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون، فلما سمع فرعون من موسى ما أبهر عقله التفت إلى وزرائه وخاطبهم بقوله «قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» يقصد الخبيث إنكار إله موسى وما جاء به من الآيات وتعجب ملئه منه لينكروا عليه أيضا مثل ما أنكر هو، وقال «فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ» كبير وزرائه «عَلَى الطِّينِ» اطبخ لي آجرا وهو أول من طبخه طبخه الله في ناره «فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً» ابن لي قصرا عاليا كالبرج مثل المنارة «لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» قاتله الله أين هو من إله موسى حتى يطلع عليه قاتله الله. أيظن أنه جل جلاله في مكان كي يصعد اليه، عذبه الله في الصعود راجع الآية 17 من المدثر المارة «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» 38 في قوله بوجود إله غيري لهذا الخلق، وأنه أرسله إلي، قال هذا لملئه، قاتله الله، مع علمه ببطلانه وعلمه أن له وللكون أجمع إلها قادرا، ولكنه يموّه عليهم ليستميلهم

[سورة القصص (28) : الآيات 41 إلى 50]

إلى هواء، ويصرفهم هما جاء به موسى من الخطاب الذي هالهم سماعه، قالوا إن هامان لمتثل أمره حالا، وجمع خمسين ألف بنّاء مع كل واحد عملة كثيرون، وأمر بطبخ اللبن وهو الطوب النيء وطبخ الحجر، فعمل آجرا وكلسا، ونجر الخشب، وعمل المسامير، وضرب الحديد، وباشر بإسادة البناء، فأنشأوا له الصرح، وبالغوا في ارتفاعه إلى حد لم يبلغه منتهى البصر، وقد سخّر الله لهم ذلك ليفتنهم فيه، فلما فرغوا منه صعده فرعون راكبا على البرذون حتى بلغ رأسه، وصار يرمي بنشابه نحو السماء ففتنه ربه بأن أعاد له النبل ملطخا بالدم ليغتر ويدعي الإلهية الكبرى، ولما رأى ذلك نزل وقال قتلت إله السماء الذي يزعم موسى أنه إلهه وأنه أرسله إلينا، فبينا هو كذلك إذ بعث الله جبريل فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاثا، فطارت منه قطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وقطعة على معسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، ولم يبق أحد ممن عمل فيه شيئا إلا هلك، هكذا قال القصاص والأخباريون، إذ لم يرد فيه ما يعتمد عليه من حديث أو خبر في كيفية هذا الصرح وماهيته وما صار إليه لأن القرآن أثبت وجوده فقط، قال تعالى «وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ» أرض مصر لأن ملكه لا يتعداها كما تبين من قول شعيب عليه السلام في الآية 26 المارة، واستكباره هذا هو وقومه كان «بِغَيْرِ الْحَقِّ» لأنهم يعلمون أن فرعون ليس باله حقيقة وان ربه ورب السموات والأرض ومن فيهما هو الله وحده، ولكنهم جحدوا «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ» 39 وانا لا نجازيهم على أعمالهم قال تعالى «فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ» على الصورة المبينة في الآية 63 من سورة الشعراء المارة جزاء طغيانهم هذا في الدنيا «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل، واذكر لقومك «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» 40 ليعتبروا ويتيقظوا من غفلتهم، علهم يرجعون عن عنادهم فيؤمنون بك قبل أن يحلّ بهم العذاب المقدر لهم «وَجَعَلْناهُمْ» فرعون وقومه «أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ» قادة ورؤساء دعاة إليها، وقد أردنا بإرسال موسى إليهم أن يكونوا قادة إلى الجنة، فخذلناهم وجعلنا مصيرهم الهلاك غرقا «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» 42

أيضا، بل يخذلون أسد من خذلان الدنيا، ويعذبون بأفظع من عذابها «وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً» طردا وبعدا وخزيا بأن جعلنا الناس تلعنهم خلفا عن سلف، وصاروا يضربون المثل لكل ظالم بفرعون وملئه ويلعنونهم «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» 42 إذ تشوه وجوههم بالسواد وأجسادهم وعيونهم بالزرقة، وزرقة العين مع السواد قبيحة جدا، ولذلك ترى زرقة العين في الدنيا عند بيض الأجسام والوجوه، ولا تجتمع زرقة العين مع سود الجوم البتة، وقد توجد في بعض السمر قليلا جدا بسبب الاختلاط في المناكحة، وهي مكروهة أيضا وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن. واعلم أنه لا يجوز لعن واحد بعينه سواء كان مسلما أو كافرا، إلا من تحقق موته على الكفر، أما لعن الجنس فيجوز، بأن تقول لعنة الله على الكافرين، على الظالمين، راجع الآية 78 من سورة المائدة في ج 3. ولهذا البحث صلة في الآية 60 من سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه الكفاية. قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى» أقوام هود وصالح وإبراهيم ومن تقدمهم من قوم نوح، وانما قال تعالى من بعد إهلاك هؤلاء وهو أعلم إشعارا بأنها أي التوراة المعبر عنها بالكتاب، نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان مساس الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن العظيم على محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعين إلى لزوم إحداث لزوم تشريع جديد بتقرير الأحوال الباقية على مر الدهور وترتيب الفروع المبدّلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الماضية الخالية الموجبة للاعتبار، ومن لم يرشد إلى هذا فسّر القرون الاولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السّلام وهو ليس بشيء، وجعل هذا الكتاب وهو التوراة «بَصائِرَ لِلنَّاسِ» نورا لقلوبهم يبصرون بها الحقائق ويميزون بها بين الحق والباطل، إذ كانوا عميا عن الفهم والإدراك بالكلية، لأن البصيرة نور القلب الذي به يستضيئون، ويستبصر بالبصيرة أهل المعرفة، كما أن البصر العين الذي تبصر الحسيات المادية، «وَهُدىً» من الضلال إذا عملوا بها «وَرَحْمَةً» لمن

صدّق بها وآمن بمن أنزلت عليه «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 43 بما فيها من المواعظ، وقد صح أن عمر رضي الله عنه استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال انا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا، فترى انكتب بعضها؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أتتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو أن موسى حي ما وسعه إلا اتباعي. ومعنى تتهوكون تتحيرون ومعنى بيضاء نقية لا تحتاج إلى شيء آخر. مطلب في قراءة التوراة وما لعمر رضي الله عنه فيها ومناسبة السورة لما قبلها: وفي رواية استأذنه في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها، فغضب صلّى الله عليه وسلم حتى عرف في وجهه ثم قال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي فرمى بها رضي الله عنه من يده، وندم على ذلك. وان سبب غضبه صلّى الله عليه وسلم هو أن عمر نقلها من التوراة التي بيد اليهود في المدينة، وكانت جلها محرّفة وفيها الزيادة التي وضعوها وعارية عن النقص الذي حذفوه، لمحاجة حضرة الرسول افتراء على الله، وكان الناس حديثي عهد بالكفر، فلو فتح حضرة الرسول باب المراجعة إلى التوراة وأجاز لهم مطالعتها في ذلك الزمن لأدى إلى إفساد العقائد، لأن الإسلام، حديث عهده، وجاءت أحكامه ناسخة للتوراة وغيرها من الكتب القديمة الصحيحة، فكيف بالمحرفة، وإلا لو كانت التوراة نفسها لما نهى عنها، لأن القرآن جاء مصدقا لها وللإنجيل وجميع الصحف السماوية، ومعدلا لبعض أحكامها مما هو في صالح البشر وموافق لعصرهم أما الآن فلا مانع من مطالعتها لمن له ملكة في العلوم، ومعرفة بكتب الله، وكان قويا في إيمانه وراسخا في عقيدته، عالما بالشرائع مما هو موافق منها لشرعنا وما هو مخالف له فيجتنب ما فيها مما هو مخالف للقرآن، ويقول بما فيها مما هو موافق له ويرشد الناس إلى ذلك، والدليل على جواز هذا قوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 63 من آل عمران في ج 3، وكان عبد الله بن سلام وغيره من صادقي الإيمان ينقلون عنها ما ينقلون من الأخبار، ولم ينكر عليهم أحد، ولا فرق بين سماع ما ينقل عنهم وبين قراءتها أو أخذه منها، وقد رجع إليها كثير من العلماء إلى الزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض آياتها في إثبات حقيقة بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم، كالعالم الكبير رحمة الله الهندي صاحب

كتاب إظهار الحق الذي يحتاج إليه كل من يميل إلى مناظرة أهل الكتابين، أما ما قاله العلامة ابن حجر في تحفة المحتاج في تحريم مطالعتها لغير عالم فهو للخوف عليه، لئلا يختلط الأمر فيقع في حيص بيص، تدبر عليه وإلى هنا انتهت قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه اللعنة وشعيب عليه السلام، ووجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وكونها أتت بعد النمل لا بعد الشعراء على ما ذكره الجلال السيوطي رحمه الله هو أنه سبحانه وتعالى كما ذكر في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) الآية 17 إلى قوله (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ثم ذكر في سورة النمل قول موسى لأهله في الآية 16 المارة إني آنست نارا إلخ الآيات وكان الأمران على سبيل الإرشاد والإجمال بسط في هذه السورة ما أوجزه في السورتين المذكورتين، وفصّل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ جل شأنه بشرح تربية فرعون له وعلو شأنه على بني إسرائيل وإقدامه على ذبح أولادهم الموجب لإلقاء موسى في اليم خوفا عليه من الذبح، وبيّن تربيته وما وقع فيها أي السبب الذي من أجله قتل القبطي والنّم عليه الموجب فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب ومجيئه إلى الطور، ومناجاته ربه، وبعثه إلى فرعون، وكانت هذه السورة شارحة لما جاء في السورتين ومتممة لها، ولهذه الحكمة قدمت على سورة القصص وأخرت عن الشعراء في النزول وهي كذلك في المصاحف، فقد روى عن ابن عباس وجابر بن زيد أن سورة الشعراء نزلت، ثم النمل، ثم القصص وهكذا فإن أول كل سورة لها مناسبة مع آخر السورة قبلها، كما أن آخر كل سورة له مناسبة بأولها، وقد راعى هذه الجهة المفسر الكبير الإمام فخر الدين الرازي وأهمله أكثرهم، ثم شرع يعدد بعض نعمه على رسوله فخاطبه جل خطابه بقوله «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ» من الجبل الذي وقعت فيه مناجاة موسى لنا في الميقات الذي وقتناه له «إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ» بإنزال التوراة إليه لا كمال دينه وشرعه بعد أن عهدنا إليه بالرسالة على الصورة التي قصصناها عليك وشرفناه بالتكليم دون سائر الرسل «وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» 44 ذلك الزمن والمقام ليقول لك قومك افتريته من نفسك، بل هو يوحينا إليك إذ

لم يشهد ذلك إلا السبعين الذين اختارهم موسى لحضور الميقات كما فصلناه في الآية 154 من سورة الأعراف المارة أما التشريف بالرسالة فلم يشهدها غير موسى، وأنت أمي لم تخرج من قريتك، فمن أين لهم أن يتهموك بأن هذا القرآن سحر وكهانة أو من خرافات الأولين «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً» بعد موسى متتابعة إلى زمنك هذا كثيرة لا تعلمهم أنت ولا غيرك «فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» فنسوا عهد الله وتركوا أوامره التي من جملتها أخذ العهد عليهم بالإيمان بك واتباعك ولم يوفوا بما عاهدوا الله عليه بسبب نمادي الأمد وتغيير الشرائع والأحكام، فعميت عليهم الأنباء لكثرة عبثهم فيها واغترارهم بما خولناهم من النعم المادية والمعنوية ولا سيما قومك الذين سولت لهم أنفسهم عبادة الأوثان فاقتضت حكمتنا لهذه الأسباب أن ننزل عليك شرعا جديدا صالحا لعصرك وما بعده إلى يوم القيامة مما كان ثابتا في علمنا قديما، ونقصّ عليك الأنباء على ما هي عليه عند حدوثها تدريجا بحسب الوقائع كما هي مدونة في أزلنا لتذكرها لقومك وتأمرهم أن يعملوا بمقتضى ما نوحيه إليك مما هو مصدق للكتب القديمة من حيث الأحوال الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد حرفيّا، ومعدل لبعض الأحكام من حيث الفروع «وَما كُنْتَ» يا أكرم الرسل «ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» كما كان شعيب قاطنا عندهم وسكن موسى عنده أول أمره كما علمت «تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» التي فيها قصتهما وتذكرها لقومك واعدا وموعدا كأنّك كنت معهما «وَلكِنَّا» نحن إله الأولين والآخرين «كُنَّا مُرْسِلِينَ» 45 الرسل الهداية الخلق قديما، كما أرسلناك إلى هؤلاء الآن وقصصنا عليك اخبارهم وأممهم في هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، كما قصصنا على كل أمة أخبار من قبلها مع رسلهم، ولولا اعلامنا إياك فيه لما علمت شيئا من ذلك «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ» الجبل الذي وقعت عنده المناجاة «إِذْ نادَيْنا» موسى منه وآتيناه ما آتيناه وقلنا له خذ الكتاب بقوة وهي أعظم ما رأى موسى، فأخبرناك بها لنقصها على قومك أيضا «وَلكِنْ» رحمناك بها وشرفناك بالوحي والرسالة وأطلعناك على أخبار الأولين التي لا تعلمها أنت ولا قومك، وأعلمناك في هذا القرآن أخبار ما كان وما يكون

وجعلناك «رَحْمَةً» لأهل زمانك ومن بعدهم ممن اتبع هداك واسترشد برشدك مخصوصة لك وللناس أجمعين «مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» يخوفهم عقاب الله من بعد جدك إسماعيل. مطلب أهل الفترة وعدد الأنبياء وتقسيمهم: ولهذا سموا أهل الفترة إذ لم يرسل إليهم بعده رسولا لان عيسى ومن قبله أرسلوا خاصة لأقوام مخصوصين، فتطاول عليهم الأمد واندثرت آثار نبوة إسماعيل إذ كان بينها وبين نبوة محمد ما يزيد على ألفين وخمسمائة سنة، ولذلك لم يبق لها ذكر عند العرب، لانه لم يترك لهم كتابا يرجعون إليه وانقطعت رسالته بموته عليه السلام، لهذا أرسلناك إليهم «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 46 عهدهم الأول ويعترفون برسالتك، وان ما تأمرهم به هو من عند الله لأن ما تذكره لهم في الأمور الغيبية دليل على صدق دعوتك ان كانوا ممن يتذكر فتنفعه الذكرى، وهذه الفترة خاصّة بالعرب، أما الفترة العامة للخلق فهي ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، الا أنهم لا يعدون ناجين كأولئك لأن عيسى ترك لهم كتابا كما ترك موسى من قبله قلم تنقطع عنهم آثار النبوة ليعدوا معذورين كالعرب، تأمل. ولهذا البحث صلة أول تفسير سورة السجدة في ج 2 والآية 15 من سورة الإسراء الآتية فراجعه. قال العزّ بن سلام كل نبي إنما أرسل إلى قومه نسبا أو مصاهرة ليدخل لوط عليه السلام، الا سيدنا محمد إذ أرسل إلى الناس كافة، فعلى هذا يكون ما عدا قوم محمد، إذ لا نبي بعده، قوم كل نبي من أهل الفترة الا ذرية النبي السابق عليه، فإنهم يخاطبون ببعثة السابق حتى تدرس شريعته، فيصير الكل حينئذ من أهل الفترة. أما قوله تعالى في هذه الآية (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) وقوله (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) في الآية 6 من سورة يس المارة وقوله (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية 3 من سورة السجدة في ج 2، فلا تتعارض مع قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) الآية 44 من سورة فاطر المارة وقوله (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) الآية 44 من سورة سبأ في ج 2، لأن العرب الأقدمين قبل إبراهيم أنذروا من قبل هود وصالح، وبعد ابراهيم انذروا من قبل إسماعيل

وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فجملة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر أو خمسة عشر، منهم العرب خمسة، والأنبياء الربانيون أيضا خمسة وهم آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم، أما إسحاق فمن بعده إلى عيسى عليه السلام فهم اسرائيليون وعبرانيون، إذ أن الأنبياء العبرانيبن بعضهم مثل بعض، فلا يعد أحد من أتباعهم من أهل الفترة لما ذكرنا أن التوراة بقي العمل بها إلى زمن عيسى، والإنجيل بقي العمل فيه وبالتوراة عدا ما عدل من أحكامها إلى زمن محمد، فكل من شذ عن اتباع أحكام التوراة إلى زمن عيسى فهو معذب، وكل من شذّ عن اتباع أحكام الإنجيل إلى زمن محمد فهو معذّب، لأن قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من الإسراء الآية لا تشمل هؤلاء لأنهم مكلفون العمل بالكتاب الذي تركه لهم نبيهم، أما العرب فإن أنبياءهم الأقدمين هود وصالح انقرضت أممهم أو اندثرت آثارهما، وشعيبا وإسماعيل انقطعت نبوتهما بموتهما، إذ لم ينزل عليها كتاب من الله يتركانه لقومهما ليعملوا به ويتبعوا آثارهما بمراجعته، ولم يدركا زمن التوراة، وأن الأنبياء العبرانيين لم يدعوا العرب إلى عبادة الله اخصص رسالتهم بقومهم، فلهذا أن العرب من بعدهما عدّوا أهل فترة إلى زمن بعثة محمد دون غيرهم، للأسباب المارة، تدبّر. ولهذا البحث صلة واسعة في الآية 15 من سورة الإسراء المشار إليها أعلاه، وقدمنا في سورة فاطر عند تفسير الآية 24 المشار إليها آنفا ما يتعلق في هذا البحث، وما قيل إن العقل هو الرسول ينقيه قوله تعالى «وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ» بمال أو نفس عقوبة لهم أو انتقاما منهم «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الأعمال القبيحة «فَيَقُولُوا رَبَّنا» بحذف حرف النداء «لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» يدلنا عليك ويعرفنا أوامرك ونواهيك «فَنَتَّبِعَ آياتِكَ» المنزلة عليه «وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 47 به يقول الله تعالى يا محمد لولا أن قومك يحتجون بهذه الحجة لعاجلناهم بالعذاب وأهلكناهم بضيعهم، ولما بعثناك إليهم، ولكن لقطع هذا الاحتجاج أرسلناك إليهم، فمن يقول هذا القول ويحتج بهذه الحجة لا يقال انه لا عقل له حتى يؤول الرسول بآية الإسراء المارة

بالعقل، وكيف تترك الحقيقة ويصار إلى المجاز دون صارف ملزم بالجنوح إلى المجاز لعدم إمكان استعمال الحقيقة، وإذ لا فلا، لذلك فان تأويل الرسول بالعقل على غير ظاهره لا عبرة به، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا» وهو إرسالك إليهم المؤيد بالقرآن المنزل عليك «قالُوا» هؤلاء العتاة «لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى» من الآيات كالعصا واليد والكتاب المجسم دفعة واحدة لآمنا به، وإذ لم يؤت شيئا من ذلك فلا نؤمن به تجبرا وعتوا وعنادا بك، وتكبرا عن الأخذ بما أنزل إليك واعتراضا على الله الذي له أن يخص من أنبيائه بما شاء من المعجزات فقل لهم «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا» يجحدوا وينكروا هؤلاء اليهود الذين كلفوا قومك أن يقترحوا عليك هذا الاقتراح «بِما أُوتِيَ مُوسى» من الآيات والكتاب «مِنْ قَبْلُ» إنزال القرآن عليك وكفروا بما جاءهم موسى ولم يمتثلوا الأخذ به إلا قسرا يرفع الجبل فوقهم وتهديدهم بأنه إذا لم يقبلوا أحكام التوراة أطبقه الله عليهم وأهلكهم به، راجع الآية 170 من الأعراف المارة «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة حين بعثوا إلى رؤوس اليهود في المدينة يسألونهم عن محمد، فأخبروهم أن قصته موجودة في التوراة ولكنهم لا يعلمون انه هو، أو أن اليهود لما فشا أمر محمد صلّى الله عليه وسلم في مكة أرسلوا إلى قريش بأن يسألوا محمدا أن يظهر لهم معجزات مثل موسى إن كان ما يدعيه حقا، فأنزل الله هذه الآية تبكيتا لهم وتقريعا بهم، إذا كان عليهم بدلا من أن يسألوه أن يؤمنوا به لأنه مرسل لهدايتهم وإرشادهم «سِحْرانِ تَظاهَرا» أي قال الكفرة من قريش ان ما أنزل إلى موسى وما أنزل إلى محمد عبارة عن سحرين تعاونا لتقوية بعضهم بعضا، لأن كلا من المنزل عليهما موسى ومحمد يريد إظهار حجته على طريق السحر «وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ» من موسى ومحمد وكتابيهما «كافِرُونَ» 48 جاحدون لا نصدق بأحد منهما ولا بما جاءا به قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك وأهل الكتاب الذين هم في زمنك الذين تخابروا بشأنك وكتابك إن كنتم تكفرون بكل ذلك «فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما» أي التوراة والإنجيل «أَتَّبِعْهُ» أنا، أمره ربه أن يتحداهم بهذا على عجزهم عن الإتيان به «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 49

[سورة القصص (28) : الآيات 51 إلى 60]

بأن المنزل عليهما ساحران، أو أنهما نفسهما سحر، إذ توجد قراءة «ساحران تظاهرا) والتي عليها المصاحف كما مر «فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ» يا سيد الرسل ولم يرضخوا إلى ما كلفتهم به «فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ» الفاسدة وما تسوله لهم أنفسهم من اتباع الزيغ المتحكم بهم، وقد لزمتهم الحجة إذ لا برهان لهم إلا هوى أنفسهم الخبيثة «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ» لا أحد أضل منه البتة، لأنه ظلم نفسه بذلك «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» 50 أنفسهم بانهما كهم في هواهم والإعراض عن الرسل وآياتهم الهادية إلى الحق، وهؤلاء الظالمون لا يرشدهم الله إلى هدى دينه القويم، لأن من يضلله الله لا يتمكن البشر من هدايته قال تعالى «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ» لقومك يا محمد «الْقَوْلَ» العظيم المنزل عليك آيات بينات متتابعة متصلة بلسانهم، حتى لا يعتذروا بعدم معرفته وتقع عليهم الحجة، وذكرنا لهم فيه أخبار من سلفهم في الدنيا متواصلة بعضها ببعض وكررناها لهم مرارا حتى كأنهم شاهدوها بأم أعينهم «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 51 بها وينتبهون إلى خطائهم فيرجعون ويؤمنون بها، فلم يتّعظوا ولم يلتفتوا إليها. واصل التوصيل ضم قطع الحبل بعضها ببعض قال الشاعر: فقل لبني مروان ما نال ذمتي ... بحبل ضعيف لا يزال بوصّل وقرأ بعضهم وصلنا بالتخفيف. مطلب الآيات المدنيات ومحاسن الأخلاق وبمن نزلت: وهذه الآيات المدنيات الأربع الاول من هذه السورة ذكرت بمناسبة ذكر أهل الكتاب بالآيات المتقدمة، قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» التوراة والإنجيل لأن أل فيه للجنس فيشمل الواحد والمتعدد «مِنْ قَبْلِهِ» قبل محمد وكتابه «هُمْ بِهِ» بمحمد «يُؤْمِنُونَ» 52 لوجود نعمته في كتبهم «وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ» القرآن المنزل عليه «قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ» قبل نزوله «مُسْلِمِينَ» 53 لله مؤمنين به منقادين لأحكام كتبه ومن جملتها الإيمان بمحمد وكتابه «أُولئِكَ» القائلون هذا القول

«يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ» يوم القيامة من ربهم «مَرَّتَيْنِ» لإيمانهم برسولهم وكتابهم الأولين، لأن اليهود آمنوا بموسى والتوراة، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل، ثم أنهما آمنوا الآن بمحمد والقرآن، أي الرسول الثاني والكتاب الثاني بالنسبة لكل منهما، ولذلك اعطى كل منهما أجرين، ولا يضر اليهود عدم إيمانهم بعيسى بعد أن آمنوا بمحمد، لأن الإيمان به يجب ما قبله من الكفر كله أي يقطعه ويمحو أثره كما أن الكفر يمحق ما بعده، إذ لا يقبل الله عملا مع الكفر على شرط أن يصدقوا برسالة عيسى، لأن انكار نبوة واحد من الأنبياء كفر لا ينفع معه عمل من أعمال الخير، ومثل هذا لا ينفعه الإيمان بمحمد وكتابه حتى يذعن ويقر بعيسى وكتابه ويؤمن بهما. هذا وان الله تعالى يعطي إلى هؤلاء هذا الجزاء المضاعف «بِما صَبَرُوا» على ما كلفهم الله به من أمور الدين، وعلى أذى من آذاهم حتى بعث محمد فآمنوا به كما آمنوا قبلا بنبيهم، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها، فله أجران. قال تعالى في وصفهم أيضا «وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» أي أن هؤلاء الأبرار يدفعون العمل السيء بالأحسن، ويقابلون الشر بالخير، والقصاص بالعفو، والأذى بالصفح، والظلم بالعدل، والشتم بالدعاء «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 54 على الفقراء والمحتاجين فطوبى لهم وسقيا، ومن جملة ما هم متحلون به أيضا ما وصفهم الله به من الفضيلة بقوله جل قوله «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ» الكلام البذيء وفضوله «أَعْرَضُوا عَنْهُ» فلم يخالطوا أهله ولم يبقوا معهم بل يتركوهم «وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا» بمقتضى ديننا «وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» بحسب ما تدينون به فلا يقاتلونهم ولا يجادلونهم، وهذا على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من سورة الكافرون المارة، وقوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 24 من سورة سبأ في ج 2، ومن صفاتهم أيضا إذا تعدي عليهم قالوا «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» أمان منا لكم بعدم المقابلة، وهذا سلام متاركة لا سلام تحية

مثله ما مر في الآية 63 من سورة الفرقان المارة، والآية 47 من سورة مريم المارة أيضا، كقولك لمن تغبر منه سلام عليك وتتركه وتذهب وقالوا أيضا «لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» 55 لا نطلب مقابلتهم ولا نخاطبهم ولا نصاحبهم، فهنيئا لهم على هذه الأخلاق الكاملة، ومن آداب الأبرار كظم الغيظ والسماح لمن يتعدى ويغلظ عليهم، ولين الجانب لمن يشدد عليهم. انتهت الآيات المدنيات. أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها- أي هذه الآيات الأربع واخر الحديد نزلن في أصحاب النجاشي الذين قدموا منه وشهدوا وقعة أحد، أي كان نزولها في المدينة السنة الثانية من الهجرة وقال مقاتل: في هذه السورة من المدني (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وقيل إن المعنيين في هذه الآيات أبو رفاعة في عشرة من اليهود آمنوا فأوذوا وصبروا. وأخرج ابن مردويه بسند جيد، وجماعة عن رفاعة القرطبي ما يؤيده. وقيل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلم وهم أربعون رجلا مع جعفر بن أبي طالب، فلما رأوا ما بالمسلمين من حاجة وخصاصة قالوا يا رسول الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بها فواسينا بها المسلمين، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، وهذا أنسب بالمقام لأن من أهل الإنجيل ذوي رقة وزهد، يؤيده قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الآية المارة، وما جاء في الآية 82 فما بعدها من سورة المائدة في ج 2، وما قيل إنها في عبد الله بن سلام لا يعول عليه لأنه لم بسلم بعد وهي صالحة لكل من القولين أما الأخير فلا، قال تعالى «إِنَّكَ» يا سيد الرسل «لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» قريبا كان أو بعيدا «وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» هدايته فيقذف في قلبه نورها فينشرح صدره للإيمان فيهتدي «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» 56 أزلا. مطلب ما قاله أبو طالب لحضرة الرسول عند وفاته: روى مسلم عن أبي هريرة قال إنك لا تهدي من أحببت.. إلخ نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وسلم. حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام، وكان شديد الحرص على إسلامه لكبير حقه عليه، وكثير محبته له، وحمايته من قريش وغيرهم، ولم يجرؤ أحد على الرسول إلا بعد وفاته حتى سمي عامها عام الحزن، لأن خديجة تلته بعد

ثلاث ليال، وكان وجوده قوة عظيمة لمحمد صلّى الله عليه وسلم، وكان يأمل أيمانه، ولما مات تأثر عليه جدا لجهتين لحبه له وعدم إيمانه به، وذلك أنه قال له عند الموت: يا عمّ قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة، قال لولا أن تعيرني قريش فيقولون إنما حمله على ذلك الجزع لا الرغبة في دينك الحق ومسلكك المستقيم لأقررت بها عينك. ثم أنشد: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبّة ... لوجدتني سمحا بذاك قمينا ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف. ثم مات، فأنزل الله هذه الآية، وذلك في نصف شوال السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين وأربعة أشهر. والعبرة بمبدأ السنة هنا رمضان الذي وقعت فيه البعثة سنة 41 من ميلاده الشريف. وقيل إنه قال يا معشر بني هاشم صدقوا محمدا تفلحوا. فقال عليه السلام يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال فما تريد يا ابن أخي؟ قال أريد منك أن تقول لا إله الا الله أشهد لك بها عند الله، قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت، لأن قومك سيئو الظن لا يؤولون إسلامي على منهج حسن. هذا وقد وردت أخبار وأحاديث بإسلامه عند الموت عن ابن عباس وغيره، وأخبار أخرى بأن الله تعالى أحيا لحضرة الرسول أبويه وعمه أبا طالب وآمنوا به، وان أقوال أبي طالب هذه تدل صراحة على تصديقه لحضرة الرسول وإيمانه به، أما أبواه فهما من أهل الفترة لأن أباه توفي قبل ولادته بشهرين، وأمه بعدها بست سنين، فلم يحضرا البعثة وكل من لم يحضرها فهو من أهل الفترة، وأهل الفترة كلهم ناجون راجع الآية 46 المارة وما ترشدك إليه من الآيات، ولبحثها صلة واسعة في الآية 15 من الإسراء الآتية، ولهذا فالاحسن أن يميل العاقل إلى إسلامه وإسلام أبوي النبي صلّى الله عليه وسلم، لأن القول بخلافه يؤذي أهل البيت، وربما يؤذى حضرة الرسول في قبره الشريف، وما على الله بعزيز أن يحييهم حتى يؤمنوا به وصدق من قال: ولاجل عين ألف عين تكرم. وقدمنا ما يتعلق في هذا آخر الشعراء المارة في الآية 214

هذا، واعلم بأنّ وفاته محققة بالتاريخ المذكور أعلاء، وإذا كان كذلك وهو كذلك فإن هذه الآية لم تنزل بحقه، لان بين نزولها وموته مدة كثيرة، ويوشك أن حضرة الرسول قرأها عند وفاته لانطباق معناها على ما في قلبه الشريف من محبة هدايته وتكرار أمره له بالإيمان بربه، وجوابه له بنحو ما ذكر يستدعي تلاوة هذه الآية، على أن جمهور المفسرين قالوا بنزولها في أبي طالب، وهذا لا يتجه إلا أن تكون هذه الآية مؤخرة في النزول عن سورتها أو أنه قرأها في حياته بحضوره، وعلى هذا تكون نازلة بحقه، إلا أن أحدا لم يقل به، هذا والله أعلم. قال تعالى «قالُوا» كفار مكة «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ» يا محمد «نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» وجابهه بهذا القول الحارث بن عثمان بن نوفل إذ قال لرسول الله: إنا نعلم أن الذي تقوله حق ولكن إن اتبعناك نخاف أن تخرجنا العرب من أرض مكة، فأنزل الله جل إنزاله «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً» بآمنون به على أموالهم وأنفسهم دون سائر العرب؟ لأن الجاهلية كانوا لا يغيرون على أهل مكة ولا يقاتلونهم ولا يسلبونهم لحرمة البيت، حتى انه من المعروف في ذلك الزمن أن الظباء تأمن فيه من الذئاب، والحمام من الحدأة، وهذا لا يستغرب، لأن الله تعالى الذي ألهم السمك بالخروج يوم السبت وعدم التعرض له (راجع الآية 163 من سورة الأعراف المارة) ألهم الظباء والحمام ذلك أيضا، وفضلا عن ذلك انه «يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ» من مأكول وملبوس ومشروب وحلي وغيره من جميع بلاد الله، فيوجد فيها من مصنوعات الهند والسند والصين والشام والعراق والعجم والغرب واليمن والترك والسودان والبلاد الأجنبية، حتى إنك لتجد فيها ما لا يوجد في أعظم البلاد لأن جل البلاد تجلب إليها من أحسن مصنوعاتها في الموسم، وهذا واقع ولا يزال، وفاء بعهد الله لأهل بيته، وإجابة لدعوة جدّ رسوله محمد إبراهيم عليهما السلام كما سيأتي في الآية 126 من البقرة في ج 3، ويرزقون فيه «رِزْقاً» عظيما مختلف النوع والجنس والصفة والقيمة «مِنْ لَدُنَّا» نحن رب البيت العالم بما يكون لأهله من الكرامة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 57 أن رزقهم من عندنا، وأنا نسوقه إليهم، لأنا مكلفون

بكل الخلق وخاصون أهل مكة بما لا نخص به غيرهم، أفلا يعلمون أن الخوف والأمن من عندنا نخيف من نشاء ونؤمن من نشاء، كما نفقر من نشاء ونغني من نشاء، ونعز من نشاء ونذل من نشاء، ولكن لفرط جهلهم وعدم ثقتهم بربهم لا يعلمون ذلك، وفي قوله تعالى أكثرهم إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك، قال تعالى «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ» أي أثرت وطغت ولم تحفظ حق الله فتشكر «مَعِيشَتَها» وتحمد الله على النعمة، بل خرجت عن الشكر ولم تحمل نعمة الغنى، فأهلكها الله تعالى «فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا» عند المرور بها لاستراحة فقط، تشاؤما منها بسبب ما وقع على أهلها من العذاب «وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ» 58 لها لا يملك أحد التصرف بها غيرنا لأنهم كانوا يتمتعون بنعم الله ويعبدون غيره، خير الله إليهم نازل وشرهم إليه صاعد، فما قدّروه بعض قدره، ولا مجدوه جزءا مما يستحقه، وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة وتهديد بأنهم إذا داوموا على كفرهم تكون عاقبتهم كعاقبتهم فيدمرهم ويترك مساكنهم خاوية عبرة لغيرهم، كديار قوم هود وصالح ولوط وغيرهم، قال تعالى «وَما كانَ رَبُّكَ» يا أكرم الرسل في حكمه الأزلي، ولا في غيبه القديم، على خاصة، إذ لا غيب عليه «مُهْلِكَ الْقُرى» الكافر أهلها «حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» ينذرهم ويخوفهم بأس الله، والمراد بالأم هي البلدة التي ترجع أهالي القرى والقصبات في أمورها إليها ممن يسكن في أطرافها التي يكون فيها الوجهاء والأشراف والقادة، ومكة شرفها الله محل ولادة الرسول، وقاعدة البلاد العربية، ومحط أنظار العرب والإسلام، ومهبط الوحي، يؤمها القريب والبعيد، وكل البلاد حولها من أطرافها الأربع يرجعون إليها، وفيها أشراف قريش وحرّاس بيته، ولذلك بعث فيها أعظم الأنبياء وخاتمهم «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» ويبلغهم وبال العذاب النازل بهم إذا لم يؤمنوا لا محالة «وَما كُنَّا» عفوا بدون ذنب أو سبب «مُهْلِكِي الْقُرى» وما جرت بذلك سنتنا لأنا لا نهلكهم «إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» 59 متوغلون في الظلم مصرون عليه، إذ ما صح ولا وقع من لدنا إهلاك غير الظالمين العاكفين على كفرهم وشأننا الآن وبعد كذلك، أما الذين آمنوا

[سورة القصص (28) : الآيات 61 إلى 70]

وضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام فإنا نحفظهم ونزيد في إكرامهم، ولا نجعلهم عرضة لتسلط أحد عليهم، بل نحميهم ونرزقهم ونؤمنهم في ديارهم، قال تعالى «وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ» أيها الناس «فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» التي تتمتعون بها أياما قليلة «وَزِينَتُها» تتزينون بها لأجل معلوم، ثم تنقضي هي وما جمعتموه منها «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من النعيم الدائم في الدار الباقية «خَيْرٌ» لكم من متاع الدنيا الفانية «وَأَبْقى» وأدوم منه والدائم خير من الفاني «أَفَلا تَعْقِلُونَ» 60 ذلك قال ابن عباس جعل الله أهل الدنيا ثلاثة أصناف: المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، ثم قرأ هذه الآية قال تعالى «أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً» هو الجنة التي لا أحسن منها ذات النعيم الدائم «فَهُوَ لاقِيهِ» نائله لا محالة ومصادفه في حياته وصائر إليه عند مماته «كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» القريبة الزوال «ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» 61 بين يدي الله في الموقف العظيم فيحاسب على ما أصابه في الدنيا، كيف جمعه، وفيم أنفقه، ولم أبقاه ولم يؤد حقه، ثم يقذف في النار، وحينئذ يندم ولات ساعة مندم، ويريد الفرار ولات حين فرار، ولهذا جاء لفظ المحضرين في خاتمة هذه الآية وفي قوله تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الآية 137 من الصافات في ج 2 لدلالتها على هذا المعنى، ويكون الإحضار في ذلك الموقف لأجل مناقشة الحساب وترتيب العقاب، قيل إن هذه الآية نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي أبي جهل لعنه الله، أو في علي وحمزة رضي الله عنهما، وفي أبي جهل، أو في مطلق مؤمن وكافر، وهذا أولى، لأن الصيغة عامة، وهي من قبيل ضرب المثل، وحمل اللفظ على عمومه إذا لم يكن هناك مخصص أولى، حتى أن صيغة آية (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) المارة عامة في كلى من أحب رسول الله إيمانه من العرب وأهل الكتابين والصابئين والمجوس أيضا، لأنه كان يحب الإيمان لأهل الأرض كلهم، وهي جارية في عمومها إذ لم يثبت ما يخصصها في أبي طالب كما ذكرنا لك آنفا فإنه لو ثبت تخصيصها فرضا فلا ينفي عمومها لغيره، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال تعالى «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ» الله

عز وجل أو مناديه المأمور بذلك «فَيَقُولُ» للمشركين «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» 62 في الدنيا أنهم شركاء معي في ملكي، وانهم واسطة نفعكم وضركم الذين كنتم تتضرعون بهم زلفى وتزعمون أن لهم يدا عندنا، ومفعول زعم الأول محذوف تقديره تزعمونهم، والثاني محذوف أيضا تقديره شركائي، لأن زعم يتعدى إلى مفعولين جائز حذفهما، قال في الكشاف: يجوز حذف المفعولين في باب ظن ولا يصح الاقتصار على أحدهما، وقال أبو حيان: إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله: كان لم يكن بين إذا كان بعده ... تلاق ولكن لا إخال تلاقيا أي لا إخال بعد البين تلاقيا، قال تعالى «قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» الوارد في الآية؟؟؟ من سورة السجدة في ج 2، أي الواجب عليهم العذاب بما جنت أيديهم، وهم المعبودون والرؤساء الكافرون الذين كانوا يأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم «رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا» أي أتباعنا الذين دعوناهم للغواية أَغْوَيْناهُمْ» باختيارهم ورضاهم لا بطريق القسر حتى تؤاخذ عليه، وذلك أن الضال المضل له كفلان من العذاب، كفل على ضلاله، وكفل على إضلاله، راجع تفسير الآيتين 25 و 18 من سورة النحل في ج 2، لذلك تبرأوا منهم وعدوهم كأنفسهم بقولهم «كَما غَوَيْنا» نحن باختيارنا ورغبتنا «تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ» الآن إذ ظهر خطأنا فيه «ما كانُوا» هؤلاء «إِيَّانا يَعْبُدُونَ» 63 بل عبدوا شهواتهم راجع الآية 167 من سورة البقرة في ج 3 «وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» من الأصنام والنجوم والنار والحيوان وغيرها «فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» لأن الله ختم على أفواه الناطقين منهم ولم يجعل قوة التكلم في الجمادات منها، فأيسوا مما كانوا يتوقعونه من شفاعتهم «وَرَأَوُا الْعَذابَ» المهيأ لهم هناك على سوء أعمالهم وهؤلاء الخاسرون «لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» 64 في الدنيا لما حل بهم ذلك العذاب ولكنهم ضلوا فحاق بهم ضلالهم «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ» واذكر يا سيد الرسل لقومك يوم يسألهم في ذلك الموقف «فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ» 65 حين دعوكم إلى الإيمان ورفض الأوثان «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ» خفيت عليهم

الأخبار واشتبهت عليهم الأعذار ووقعوا في حيرة «يَوْمَئِذٍ» يوم يلقى عليهم هذا السؤال «فَهُمْ» كلهم مشغولون بأنفسهم «لا يَتَساءَلُونَ» 66 بعضهم مع بعض عما وقع منهم بالدنيا، بل يسكتون يعلوهم الذل والوجل رجاء أن تكون لهم حجة أو عذر عند الله يلقى في قلوبهم صورته، لأن ذلك الموقف يذمل فيه كل الخلق ومنهم الأنبياء لشدة هوله، فيفوضون فيه الجواب عما يسألون عنه إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة السؤال عنه، فما ظنك بأولئك الضلال؟ وقرىء فعميّت بالتشديد، قال تعالى «فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» في دنياه «فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» 67 في الدار الآخرة، وعي هنا للتحقيق أي وجب أن يكونوا من الناجحين السعداء بفضل الله وحسن أعمالهم وأما من كان على العكس فوجب أن يكونوا من الخاسرين المعذبين بعدل الله وسوء أعمالهم «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ» من الأعيان والاعراض، والوقف على يختار لا على يشاء وهو معطوف على يخلق، فلا يخلق شيئا بلا اختيار، وهو أعلم بوجود الحكمة فيما يختاره، وهؤلاء المخلوقون كلهم «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» التّخير في شيء من أمرهم، كالطيرة بمعنى النظير، بل لله الخيرة عليهم (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) . مطلب نفي الاختيار عن العبد: هذا، وفي ظاهر هذه الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية ومن أثبت للعبد اختيارا قال إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها الله تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه الإمام العلامة الدّواني، قال الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة العبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق الله تعالى الفعل فيه وإذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له ورغبة فيه، وتصور له وقصد، وهذا هو الاختيار، والمعنى والله أعلم، أن هؤلاء الذين يقترحون عليك الاقتراحات ويتمنون الأماني كما حكى الله عنهم في الآية 6 فما بعدها من سورة الفرقان المارّة وغيرها لا يليق بهم أن يتجاوزوا على الله ويتحكموا في طلباتهم لأن الكلام مسبوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه بالله واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة، كما يرمز إليه قوله آنفا (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) . أما

ما قيل ان هذه الآية نزلت ردا على قول الوليد بن المغيرة (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الآية 31 من الزخرف في ج 2 فغير وجيه لأن هذه الآية لم تنزل بعد ولم يتفوّه بمقالته هذه بعد، وكذلك ما قيل إنها نزلت ردا لقول اليهود: (لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به) كما سنفصّله في الآية 38 من سورة البقرة في ج 3، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وليس بين اليهود وحضرة الرسول أخذ ورد في مكة، ولا يصح جعل ما في قوله تعالى (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) موصولة باعتبارها مفعولا ليختار، أي يجعل الوقف على ما يشاء والابتداء بقوله ويختار وتسليطه على ما باعتبارها مفعولة، وعليه يكون المعنى ويختار الذي فيه الخير والصلاح لهم على أن يكون ذلك الاختيار بطريق التفضل والكره عند أهل السنة والجماعة، وبطريق الوجوب عند المعتزلة، بل ما في الآية نافية، لأن اللغة لا تساعد أن تكون الخيرة بمعنى الخير، ولأن قوله تعالى بعد «سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» لا يناسب المقام، كما أنه لا يناسب ما قبله وهو (يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ) على الإطلاق لأن في حصره بالأصلح قيدا والله منزه عن القيد، ولأن فيه حذف العائد إذا جعلت ما بمعنى الذي، فيحتاج الى ضمير يعود اليه، إذ لاتتم الآية، ولا يوجد، ولمخالفته ظاهر الآية، تدبر، قال تعالى «وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ» تخفيه من عداوة لك يا محمد «وَما يُعْلِنُونَ» 69 منها فيما بينهم من قولهم هلا اختار الله غير هذا للنبوة، قاتلهم الله ما كان لهم الخيرة من أمرهم، فكيف يتمنون على الله الأماني ويعترضون عليه، راجع تفسير الآية 134 من سورة الأنعام في ج 2 «وَهُوَ اللَّهُ» المستأثر بالإلهية والاختيار وحده وجملة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» تقرير لاختصاصه بها كقولك القبلة الكعبة لا قبلة غيرها، لا كقولهم الحج عرفة، لأن عرفة معظم الحج لا كله وهذا الإله المنزّه المنفرد بالألوهية المتصرف بجميع ما في الكون ناميه وجامده، جوهره وعرضه «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى» أي الدنيا لأنها قبل الآخرة «وَالْآخِرَةِ» لكونها بعد الدنيا، أما البرزخ الكائن بينهما فهو حاجز غير حصين لانتهائه بها، ومن هذا الحمد قول السعداء في الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 33

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 80]

من سورة فاطر المارة و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 36 من سورة الزمر في ج 2 وقوله آخرها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا الحمد على طريق التلذّذ لا التكليف لانتهائه بالآخرة «لَهُ الْحُكْمُ» القطعي بين الخلائق فيهما وحده لارادّ له ولا معقّب «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» كلكم أيها الخلق بعد الموت وتحضرون بين يديه بعد النشور لتفهيم هذا الحكم فيا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك الذين يتدخلون في ما لا يعنيهم «أَرَأَيْتُمْ» أخبروني أيها الناس «إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً» مطّردا دائما لا نهار معه «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ» نهار تطلبون فيه معاشكم وتنتشرون فيه لمصالحكم «أَفَلا تَسْمَعُونَ» 71 قول الله فتذعنون إليه وتؤمنون به. قال بضياء ولم يقل بنهار كالآية الآتية إذ قابل النهار بليل، لأن منافع الضياء لا تقتصر على التصرف بالمعاش والمصالح بل هي كثيرة، والظلام ليس بتلك المنزلة، لذلك قرن بالضياء السمع لأنه يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه، ووصف فوائده، ونعت طرائقه، وهو أفضل منه بدليل تقديمه على البصر في القرآن لأن الأصم لا يستفاد من مجالسته البتة، بخلاف الأعمى، وقرن بالليل البصر لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت، قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً» لا ليل معه مستمرا متتابعا «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ» تنامون وتستريحون فيه من مشاق النهار وعناء التعب «أَفَلا تُبْصِرُونَ» 72 هذه الشواهد العظيمة الدالة على قدرة الإله القادر، فتقفوا على معانيها وتفهموا المراد منها وتتيقنوا أن لا أحد يقدر عليها غيره تعالى، فيتّضح لكم خطأكم بعبادة غيره وترجعون إليه تائبين، وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عما قبلها «وَمِنْ رَحْمَتِهِ» لكم «أن جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ» منقطعا عن النهار بقدر معلوم «وَالنَّهارَ» كذلك وجعلهما يتعاقبان بالظلمة والضياء «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» أي الليل «وَلِتَبْتَغُوا» في النهار «مِنْ فَضْلِهِ» لتأمين حوائجكم «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 73 نعم الله المتوالية عليكم فيها، وتعرفون حق المنعم بها فتؤمنون به، إذ لو جعل الظلمة متصلة والضياء متصلا لحرمتم منافع

ولذات كثيرة، ولما استقام لكم أمر معاشكم. وكلمة سرمدا لم تأت إلا في هذه السورة فقط، ثم كرر النداء للمشركين زيادة في توبيخهم وتقريعا على إصرارهم لعلهم ينتبهون فينتهون بقوله «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ» على ملاء الأشهاد «فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» 74 تقدم تفسير مثله، وإن زعم تتعدى لمفعولين كقوله: وإن الذي قد عاش يا أم مالك ... يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا وقد حذف في الآية هذه مفعولي زعم أيضا، ولك أن تقول فيها كما هو في الآية 64 المارة. مطلب في أنواع البديع التفسير ولمقابلة وقصة قارون: وجاء في الآية 73 المارة من أنواع البديع اللف والنّشر المرتب، ويسمى التفسير من أقسام المعنوي في تحسين وجوه الكلام، ومنه المقابلة كقوله: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل وجاء مثله في القرآن بقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) لآخر الآيات من سورة والليل المارة، قال تعالى «وَنَزَعْنا» أفردنا وميزنا وأخرجنا «مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم السالفة «شَهِيداً» يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصحهم، لأن الأنبياء هم شهداء الأمم فيما لهم عليهم يوم القيامة «فَقُلْنا لهم» أي نقول للأمم المكذبة يوم القيامة «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على أن لله شريكا بينوا حجتكم على صحة دعواكم هذه وما كنتم تدينون به في الدنيا فصمتوا، إذ لا دليل لهم على ذلك ولا امارة «فَعَلِمُوا» حينذاك «أَنَّ الْحَقَّ» في الإلهية كله «لِلَّهِ» وحده «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» 75 من دعوى الشرك، وجاء الفعل هنا بالماضي لتحققه، وهكذا كل ما هو محقق وقوعه، وكرر جل شأنه اللائمة على المشركين، لأنه لا شيء أجلب لغضبه من ادعاء الشرك، كما لا شيء أدخل في مرضاته من التوحيد، قال تعالى «إِنَّ قارُونَ» بن يصهر بن قاهت «كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» قيل هو ابن عمه، لأن موسى بن عمران بن قاهت ابن لاوى بن يعقوب عليه السلام، وكان عالما لا أقرأ منه في التوراة، ولكنه نافق مثل السامري، ومثل يهوذا الأسخريوطي من حواري عيسى، وعبد الله بن

أبي بن سلول من أصحاب محمد، راجع الآية 30 من سورة الفرقان المارة، والآية 11 من سورة الأنعام في ج 2 «فَبَغى عَلَيْهِمْ» على بني إسرائيل لأنه كان عاملا عليهم «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ» الذهب والفضة المدّخرة «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ» مفاتح خزائنه إذا جعلته جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به، وإذا جعلته جمع مفتح بفتحها فيكون مفاتحه خزائنه وهي المحال التي يدخر فيها المال، وما موصولة في محل نصب بآتيناه، وأن اسمها وخبرها وهو «لَتَنُوأُ» تثقل لا محل لها من الإعراب صلة الموصول وهو ما، ولهذا كسرت إن هنا «بِالْعُصْبَةِ» الجماعة الكثيرة «أُولِي الْقُوَّةِ» لا الضعفاء، والعصبة ما بين الثلاثة إلى الأربعين، قال ابن عباس كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا، وقال غيره على ستين بغلا ولا يزيد قدر الواحد على الإصبع، فإذا كانت المفاتيح هكذا فما مقدار تلك الكنوز؟ وإذا كان عاملا من عمال فرعون عنده هذا القدر فما هو مقدار الذي عند فرعون؟ ومع هذا كله يناوئون الله. فلذلك أخذهم، واذكر يا محمد لقومك قصته «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ» بحطام الدنيا وتبطر على قومك وتمرح بملك، فإنه زائل والفرح مذموم «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» الأشرين الذين لا يشكرون نعم الله، قالوا له ذلك لما رأوا من زيادة تكبره وتعاظمه عليهم وإطالة ثيابه خيلاء، قال تعالى (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) الآية 23 من سورة الحديد ج 3 لأنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها أما من يعلم أنه سيفارقها فلا يفرح بها، ولقد أحسن أبو الطيب المتبني في قوله: أشد الغمّ عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا وقال ابن شمس الخلافة: وإذا نظرت فان بؤسا زائلا ... المرء خير من نعيم زائل والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير ويقولون: ولست بفرّاح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب هذا ويشير نفي محبة الله لمثل هؤلاء إلى بغضه لهم وكراهته إياهم، لأن من لا يحبه الله يبغضه، وينّبه إلى أن عدم المحبة كاف في الزجر عما نهى الله عنه

«وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ» من المال في هذه الدنيا «الدَّارَ الْآخِرَةَ» بأن تنفق منه لأجلها مرضاة الذي أعطاكه وشكرا لنعمه «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» كي تنجو من عذاب الآخرة. مطلب في معنى النصيب وفوائد أخرى: والنصيب هو حظّ الرجل من عمل الدنيا بلاغا للآخرة، أي اعمل لآخرتك كما تعمل لدنياك، وقيل النصيب هو الكفن، وقيل فيه: نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تلوّى فيهما وحنوط وفي الحقيقة ان آخر ما يأخذه ابن آدم من ماله الذي جمعه من حلال وحرام بكدّ يمينه وعرق جبينه الذي يقدم غدا على المحاسبة عليه أمام الملك العلام هو الكفن وشيء من الطيب لا غير، هذا ان قدر له الموت على الفراش، وإلا فقد لا يحصل على ذلك ان مات غرقا أو حرقا أو أكله السباع، فالسعيد من أمسك من ماله ما يكفيه وتصدق بالفضل لصلة رحمه وفقراء أمته ليدخر ثوابه في الدار الباقية، لأن هذه زائلة لا محالة ولو عمّر فيها ما عمر وقبل في المعنى: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول والقول الفصل ما قاله سيد الرسل: عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. وروى عمرو بن يموت المازني عنه صلّى الله عليه وسلم قال اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وهذا الحديث مرسل لأن عمر هذا لم يلق النبي صلّى الله عليه وسلم: ألا لا يغتر ابن آدم بالخمس الأول، فهي وبال عليه إذا لم يصرفها إلى التي خلقت إليها «وَأَحْسِنْ» إلى خلق الله مما تفضل به عليك «كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» لتكون من الشاكرين إحسانه فيزيدك إحسانا «وَلا تَبْغِ» وإياك أن تسعى فتطلب «الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ» لتظلم الناس وتطغى عليهم بسبب نعم الله، فتتعالى وتترفع عليهم فيسلبها الله منك قال صلّى الله عليه وسلم أشكروا النعم لا تزدروها. وفي رواية لا تكفروها. فإنها إن زالت هيهات أن تعود ولذا قالوا بالشكر تدوم النعم. ومن أقبح القبائح أن تستعمل

نعم الله في معصيته، لأنه جل جلاله تفضل على عباده كي يشكروه ويتفضلوا على عياله الفقراء، لا أن يبغوا بما تفضل عليهم، قال تعالى في الحديث القدسي: الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي، فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي. ولهذا البحث صلة في الآية 11 من سورة لقمان في ج 2 فراجعه ألا فلينتبه الغافلون المغرورون ليعلموا أنهم ليسوا بأفضل من الفقراء عند الله، وأن الله لم يخصهم بالغنى لفضلهم بل ليختبرهم هل يصرفونه مصارفه أم يبخلون به، كما اختبر ثعلبة الآتي ذكره في الآية 76 من سورة التوبة في ج 3 اما يحمد الله هذا الغني ان أغناه الله وجعله من المتصدقين على عباده ألا يخشى أن يفقره الله ويحوجه للسؤال من الغني، أما يسرّه أن تكون يده العليا وقال صلّى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» 77 في الأرض بظلم أهلها والتسلط عليهم وتشعر عدم المحبة لهذا الصنف بغضبه عليهم وكراهته إياهم، وهكذا فلا تجد آية صرح الله بها بلفظ البغض البتة، فتعلموا أيها الناس الأدب من أقوال الله ورسوله، فبدل أن تقول لأخيك كذبت قل له غير صحيح، أو ليس الأمر كذلك، فهو أدوم للمحبة وأعف للّسان وأطهر للقلب. واعلم أن الذي لا يحبه الله فهو مكروه عنده مبغوض عند خلقه. وإلى هنا انتهت نصيحة قوم قارون له، وانظر إلى غروره وطيشه في جوابه لهم «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ» أي ذلك المال الكثير ليس كما تقولون، وإنما كان «عَلى عِلْمٍ» عظيم «عِنْدِي» علمنيه؟؟؟ الله وفضل استوجبت فيه التفوق عليكم، فكان ذلك استحقاقا لي فردّ الله تعالى عليه بقوله عز قوله «أَوَلَمْ يَعْلَمْ» هذا الخبيث «أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ» من القرون الماضية مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً» على جمع المال وعلما في استخراج الفضة والذهب من المعادن الأرضية واسترباحها في الأعمال والتجارات وتعاطي الحرف «وَأَكْثَرُ جَمْعاً» للأموال منه ولم يدع دعوته هذه، وأراد الملعون بالعلم علم الكيمياء لأنه كان ماهرا فيها، إذ يستخرج من الرصاص الفضّة ومن النحاس الذهب، وكان حاذقا في نموّ المال، ولهذا ظن أنه أهل لذلك فأعطاه الله المال بفضله عليهم ولم يعلم أن تعليمه ذلك كان بتقدير الله إياه عليه، ولولا ذلك لما قدر أن يسقي

نفسه جرعة ماء، ولكن من غرّه عمله غاب عنه زلله والعياذ بالله، وما قيل إنه أراد بالعلم علم التوراة قيل لا قيمة له، لأنه لو أراد ذلك لما افتخر به على قومه وتفوق عليهم، لأن فيهم من يعلمها مثله، ولو كان، لساقه علمها إلى التواضع ولين الجانب وكثرة الإنفاق ومكارم الأخلاق لأنها هدى ونور أنزلها الله على موسى وقومه ليهتدوا بها وينتهوا عما تحلى به قارون من الكبرياء والعظمة، فكان مجرما عند الله تعالى بذلك «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» 78 بل يدخلهم النار رأسا من غير حاجة إلى السؤال والاستعذار. قال تعالى (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) الآية 36 من المرسلات المارة، ولا عذر لهم بعد تحقق توغلهم بالجرمية، فهم معروفون بأعمالهم، قال تعالى (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) الآية 41 من سورة الرحمن في ج 3 أي بعلائهم فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ويطرحون في النار، لأن جوارحهم تنطق بما عملوه في الدنيا قال تعالى «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» يوم عيده مزينا باللباس الباهر متحليا بأنواع الأوسمة المرصعة بالجواهر راكبا على بغلة موشىّ سرّجها بالذهب والدر، وعن يمينه وشماله وخلفه سبعون الفا من الخدم والجواري، وكلهم مزيّن بأنواع الحلي ومرتد أحسن الثياب، لا يرى الرائي أحسن منهم في زمنهم، فلما رأى الناس موكبهم الفخم انقسموا قسمين، بين لله الأخس منهما يقوله حكاية عنهم «قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا» قبل كانوا مسلمين، ولكن قالوا ما قالوا على سبيل الرغبة في اليسار كعادة البشر «يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ» من زخارف الدنيا وبهجتها «إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» 79 فيها إذ أوتي مما لم يؤت أحد مثله لما بهر عقولهم من عظمة ما رأوا من أمارات العز، ثم بيّن الله تعالى الأحسن منهما بما حكى عن حالهم بقوله جل قوله «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» بما وعد الله المتقين في الآخرة لأولئك المتمنين «وَيْلَكُمْ» بما قلتم وتمنيتم، وهذه كلمة دعاء بالهلاك ثم استعملت للردع والزجر عن ترك غير المرضي، وهو منصوب محلا أي ألزمكم الله الهلاك، ان هذا الذي ترونه عند قارون ليس بشيء محمود عاقبته، وهو فان ولكن «ثَوابُ اللَّهِ» الدائم في الآخرة «خَيْرٌ لِمَنْ

[سورة القصص (28) : الآيات 81 إلى 88]

آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» في دنياء مما أوتي قارون وآله من الزخرفة، فاصبروا على ما أنتم عليه فالصبر فضيلة عظيمة عند الله «وَلا يُلَقَّاها» أي خصلة الصبر المترتب عليها ثواب الله «إِلَّا الصَّابِرُونَ» 80 صبرا حقيقيا لا لسمعة أو رياء بل صبر محض مبرأ من جميع شهوات الدنيا الخسيسة، فهم الراضون بما قسم الله لهم في هذه الدنيا الزائلة من القليل المتيقنون أن ثواب الله خير. وانظر إلى فعل الله بمن يشاركه في كبريائه ولا يسمع قول أوليائه قال تعالى «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ» التي فيها خزائنه «الْأَرْضَ» فابتلعتها معه لأنه لم يسند نعمه إلى منعمها، لذلك لم يمتعه بها إلا قليلا وسيرى وبالها غدا لأنه ظن أن علمه أهله لها فلينجه علمه من هذا الخسف، والخسف الذهاب في الأرض، يقال خسف المكان أي ذهب في الأرض، وخسف القمر زال ضوء. وعين خاسفة إذا عدمت حدقتها قال تعالى «فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لا من كان يمشي خلفه ولا غيرهم من جماعته يقدر على حفظها من الخسف الذي حل به أو يحول دونه «وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ» 81 لنفسه فيخلصها، ولم يكن له عمل صالح فيكون سببا لإنقاذه، ثم ذكر حال وشأن الفريقين المذكورين أعلاء فقال عز قوله «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ» اليوم الكائن قبل يومك أي قبل الخسف الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إلخ، يقولون «وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ» يضيق ويوسع على من يشاء، وكلمة وي يقولها النادم على الخطأ الذي وقع منه إظهارا لندمه واعلاما بذلك الخطأ على طريق التعجب «لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا» بما تمنيناه من حالة قارون كما خسف به «وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» 82 بنعم الله ولا ينجون من عذابه، قالوا هذا مظهرين الندم على ما فرط منهم من التمني. مطلب كلمة ويكأن وقصة قارون: هذا وقد كتبت وي هنا متصلة بكأن لكثرة الاستعمال وإلا فهي كلمتان وي للتعجب وكأن للتشبيه، والقياس أن تكتب منفصلة بعضها عن بعض لجواز الوقف عليها، وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل:

وي كأن من يكن له نشب ... يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر وقال الأخفش: الكاف متصلة بها وهي مع الكاف اسم فعل بمعنى أعجب، والوقف على الكاف منها أي على ويك، وعليه قول عنترة: ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر اقدم وذهب السكاكي إلى أن أصلها ويلك وخفّفت بحذف اللام، فبقيت ويك، وهي للردع والزجر وللبعث على ترك ما لا يرضي. وقال أبو حيان هي كلمة تحزّن وأنشد في التحقيق قوله: ألا ويك المضرة لا تدوم ... ولا يبقى على البؤس النعيم وعلى هذا يكون الكاف في موضع جرّ بالإضافة والعامل في أن بعدها على هذا الوجه والوجه الذي قبله فعل العلم المنصور، أي أي أعلم أن الله بسط إلخ، واعلم أنه لا يفلح إلخ، لأن أن بعدها مفتوحة الهمزة، أو بتقدير اللام أي لأن إلخ، على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك. وحكى ابن قتيبة أن معى ذلك رحمة لك بلغه حمير. وقال الفراء ويك بلغة العرب كقول الرجل ألا ترى إلى صنع الله تعالى؟ وقال أبو زيد وجماعة معه ويكأن حرف واحد بجملته، وهو بمعنى ألم تر، وهذه رواية عن ابن عباس. فعلى من يستعمل هذه الكلمة أن لا يتعدى في معناها ولفظها ما ذكرناه، لأنا لم نبق زيادة لمستزيد. وخلاصة قصة قارون على ما ذكره ابن عباس وغيره أنه لما نزلت الزكاة على سيدنا موسى بأنها عشر المال صالح قارون على أن يعطيه في كل ألف دينار دينارا، وفي كل ألف درهم درهما وفي كل ألف شاة شاة، وهكذا من كلّ ما عنده، وذلك بأمر الله تعالى لعلمه عز وجل أنه لا يعطي شيئا، وقد جاراه سيدنا موسى عليه السلام على ما أراد لتحق الكلمة عليه، فبعد أن رضي حاسب نفسه، فإذا هي شيء كثير بالنسبة لما عنده، فلم تسمح نفسه بإعطاء شيء، ولما علم أن موسى ليس بتاركه جمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى يريد أخذ أموالكم بعد أن أطعتموه في كل شيء وقد أتاهم الخبيث من جهة المال لعلمه بشدة حرصهم عليه لينال قصده، فقالوا أنت كبيرنا فأمرنا بالذي تراه، قال ائتوني بالباغية فلانة، فجاءوا بها حالا، فجعل لها ألف دينار

وألف درهم وطستا من ذهب على أن تقول زنى بي موسى، وتعهد لها بأنها إذا قالت ذلك على ملأ الناس لموسى يجعلها كسائر نسائه فطمعت بذلك ورضيت، ثم قال للذين معه إذا تم هذا الأمر على رءوس الأشهاد فإن بني إسرائيل تخرج عليه ويرفضونه وأبقى لكم أنا أفيض عليكم من مالي. وهذا كله من حب نفسه الخبيثة رئاسة والمال حسدا لموسى عليه السلام، وكان نقم عليه قبلا بسبب جعل هرون رئيسا للأحبار على رئاسة المذبح للقرابين، ولم يجعل له شيئا مع أن موسى لم يجعلها أخيه إلا بأمر الله، ولأنه أقسره على إعطاء الزكاة، وهو قد استكثرها وبخل؟؟؟ الله بها واستغل خبثه أملا بأخذ الرئاسة له وحبّا بالدنيا مع أنه لو عاش ما عاش؟؟؟ نوح عليه السلام وأكل الذهب والفضة لما نقذ ما عنده، وهو أكبر رئيس من جهة دنيا لكثرة ما عنده (قال سهيل ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح أبدا، والسعيد من عرف بصره عن أقواله وأفعاله، وفتح له سبيل رؤية منّة الله عليه في جميع الأحوال، والشقي من زين له في عينيه أقواله وأفعاله وأحواله، ولم يفتح له سبيل؟؟؟ منّة الله عليه فافتخر بها وادعاها لنفسه فيهلكه شؤمه كما صار في قارون،؟؟؟ ثم جمع قارون بني إسرائيل وأتى بهم إلى موسى، وقال له إنهم أتوا لتأمرهم؟؟؟ تنهاهم، فخرج إليهم وقام بعضهم فقال من جملة ما قال من سرق قطعنا يده، من افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأت جلدناه مئة جلدة، من زنى وله امرأت رجمناه إلى أن يموت، قال قارون نازعا جلباب الحياء لأدب متلبسا بالجرأة والقسوة: وإن كنت أنت يا موسى؟ قال وإن كنت؟؟؟ قال فإن بني إسرائيل وأشار إلى جماعته يزعمون أنك فجرت بفلانة الباغية،؟؟؟ ادعوها وأخذه الغضب، فجاءت ومثلاث أمامه وهم من بين يديها ومن خلفها؟؟؟ على القول ويمنونها بما تعهد به لها قارون، فقال لها أنشدك بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل لهم التوراة إلا صدقت فتداركها الله وحفّها لتوفاق وقالت في نفسها إني أحدث توبة لله أحسن مما وعدنيه قارون من المال لعزّ، فتقدمت وقالت بصوت عال لا والله حاشا موسى، ولكن قارون جعل جعلا على قذفه ووعدني أن أقول إنه فجربي، أما وقد خلفتني يا موسى

فأنت براء طاهر زكي. فخرّ موسى ساجدا لله يبكي ويقول اللهم ان كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه اني أمرت الأرض أن تطيعك فافعل فيه ما تريد، فقال يا بني إسرائيل من كان مع قارون فليثبت معه ومن كان معي فليعتزل عنه. ولما عرفوا أن الغضب أخذ مأخذه منه، خافوا وتركوا قارون والتحقوا بموسى ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال يا أرض خنيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وهم في كل هذا يبكون ويستغيثون ويناشدون موسى الله والرحم ويتضرعون له وهو لم يلتفت إليهم، ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض، فأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرّة واحدة لأغثته، ولا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد، ثم أصبح بنو إسرائيل الخبثاء النذلاء سيئي النية غليظي القلوب، كافري النعم، يقولون إنما دعا موسى على قارون ليستبد بأمواله، فسمع موسى فدعا الله فخسف بداره وأمواله كلها. هذا وإن الله تعالى أراد هذا بقارون ورفيقيه ولو لم يرد لوفقهم بالاستغاثة به والتوبة النصوح. وأقول ما أغلظ قلوبهم أجمعوا على عبادة العجل وهم يعلمون أنه من صنع السامريّ وهو خبيث منافق منهم، وأجمعوا على عدم الأخذ بالتوراة حتى رفع فوقهم الجبل وأراد أن يسقطه عليهم وهي رحمة لهم، وأجمعوا على قذف موسى وقد بعث لخلاصهم من الرق، وحينما نجّاهم الله من البحر وأغرق فيه أعداءهم رأوا قوما يعبدون الأصنام فأجمعوا على قولهم لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وأرجلهم لم تجف بعد من ماء البحر الذي خلقه الله معجزة لهم، وأجمعوا على إنكار معجزات كثيرة أظهرها كالشمس في رابعة النهار، ثم هم يجمعون على أن موسى إنما فعل ما فعل بقارون بقصد الاستيلاء على أمواله، قاتلهم الله أنى يؤفكون: قال قتادة خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة، والله أعلم بصحة ذلك، لأنه مشكل إذا صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض الذي سنبينه في الآية

الأولى من سورة الإسراء الآتية في المعجزة الخامسة والثمانين. وأما الخسف فلا شك فيه ومنكره كافر. هذا أيها العاقل الكامل مصير الدنيا بأهلها، أما الآخرة فاسمع ما يقول الله تعالى فيها «تِلْكَ» التي مرّ وصفها غير مرّة هي «الدَّارُ الْآخِرَةُ» الباقية الدائمة ذات الجنات والنعيم الدائم والصحّة والأمان «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ» على غيرهم ترفعا وتكبرا «وَلا فَساداً» في هذه الدنيا كقارون وأضرابه بل للذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين يعملون لعاقبتهم «وَالْعاقِبَةُ» المحمودة «لِلْمُتَّقِينَ» 83 الله في الدنيا المتباعدين عن لأحوال المذمومة كالظلم والعسف والخيلاء والتجبر، الذين يأبون الأعمال السيئة وينكبون على الأعمال الصالحة لأنهم علموا أن «مَنْ جاءَ» ربه يوم القيامة «بِالْحَسَنَةِ» الواحدة «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» عشر أمثالها إلى سبعمئة، والله يضاعف لمن يشاء «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ» في دنياهم ولم يقلعوا عنها «إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 84 أي بمثلها فقط، وهذا من لطف الله بعباده جلّت رأفته، فإنه لم يذكر للسيئة جزاء أكثر منها، وقد ذكر للحسنة جزاء بما لا حدّ له فنعم الرب رب العالمين. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وان هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وان هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة عاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة. فانظر يا أخي وفقني الله وإياك على عظيم فضل ربك ولطفه، وتأمل هذه الألفاظ لأن قوله (عنده) إشارة إلى الاعتناء بها وقوله (كاملة) للتأكيد وشدّة الاعتناء، وقوله في السيئة التي هم بها ولم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، فأكدها أيضا لأنه إنما تركها خوفا من الله مكافأة بذلك، وان عملها كتبها سيئة واحدة فأكدها لتقليلها ولم يؤكدها بكاملة له الحمد والمنّة هو أهل الثناء والمجد، سبحانه ما أرحمه بعباده وأكرمه على عباده هذا أول الآيات المدنيات قال تعالى «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ»

أوجب تلاوته عليك وهو الله ربك الذي تكفلك «لَرادُّكَ» كما أخرجك من بيتك «إِلى مَعادٍ» وأيّ معاد لا يكون مثله لغيرك، قال ابن عباس إلى مكة، وأخرجه البخاري عنه وقال البلقيني معاد الرجل بلده لأنه يعود إليه وأطلق المعاد على مكة لأن العرب تعود إليها في كل سنة، قال الدواني في كتاب العود حدثني عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلم حين نزل عليه جبريل. عليه السّلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال نعم، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ) إلخ وهذا وعد من الله إلى نبيّه بإعادته إلى بلده في الدنيا والآية التي قبلها تضمنت له الوعد بالعاقبة الحسنى بالآخرة، صرّح حضرة الرسول لأخيه جبريل بأنه مشتاق إلى وطنه، ولم يمض على مفارقته له ثلاثة أيام، لأن هذه الآية نزلت بعد الخروج من الغار بالمحل المذكور بين مكة والمدينة، وهذه أول بشارة من الله له وأول خير أخبر به بسبب الهجرة الشريفة التي جعلها الله فاتحة لفتح البلاد وإيمان العباد، ونصرة الدين، ولهذا المغزى روي حب الوطن من الإيمان، فكان صلّى الله عليه وسلم يكثر من قوله الوطن الوطن، قال عمر لولا حب الوطن لخرب بلد السوء، أي أن أحدا لا يسكن إلّا بالأحسن، فينشأ منه خرابه، وتترك البلاد الرديئة المناخ والقرى البعيدة عن العمران، وتنقطع فائدة الارتباط ويحرم الناس من خير كثير، إذ قد يوجد فيها ما لا يوجد في المدن الكبرى من خيرات ومعادن، مما يحتاجه البشر، لهذا فإنه جل شأنه غرز في قلوب عناده محبة أوطانهم مهما كانت، وحبب كل محل لأهله بحيث يخيرونه على غيره، ولا يركنون إلا إليه، حتى أن أهل القرى الآن لمّا يأتون إلى المدن لا يطيب لهم النوم بها مع أنها أحسن وألطف من قراهم، وفيها ما لا يوجد عندهم ولا يعرفونه فتراه يصرف جهده لإنجاز عمله ليذهب فينام عند أهله ولو كان الوقت ليلا أو حرا أو بردا، لحكمة أرادها الله، ولهذا فإن كل خلق يحن إلى وطنه الذي ولد فيه، وجعل ذلك طبيعة غريزية في خلقه، فترى الإبل تحن إلى مراحها، والطير إلى وكرها، والوحش إلى كناسها،

والحيتان لمياهها، والإنسان لوطنه، ولو كان نفعه ورزقه في غيره، فالسعيد من يوطن نفسه في حب الله ولله در القائل: لكل شيء إذا فارقته عوض ... وليس لله إن فارقت من عوض هذا، وهناك أقوال كثيرة في معنى المعاد، منها المقام المحمود لأنه المعاد الدائم لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومنها أنه الجنة، ومنها أنه بيت المقدس لوقوع الإسراء منه، ومنها أنّه المحشر لتسميته به، وهو لا بد لكل أحد من الحضور فيه، ومنها، ومنها، فقد صرفنا النظر عنها واخترنا ما عليه الجمهور منها قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين اضطرّوك للخروج من بلدك قسرا بزعمهم أنك ضللتهم وآلهتهم «رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى» يعني نفسه صلّى الله عليه وسلم «وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 85 يعني هم القائلون له إنك لفي ضلال عما كان يعبده آباؤك، قال تعالى «وَما كُنْتَ تَرْجُوا» يا أكرم الرسل «أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ» من ربك ولا كنت تظنّه ولا تتصور أن نرسل إليك عبدنا جبريل بوحينا دون سائر الناس «إِلَّا رَحْمَةً» عظيمة خصصت إلقاءه إليك «مِنْ رَبِّكَ» تفضلا منه بما قدره إليك في أزله «فَلا تَكُونَنَّ» بعد أن شرفناك بوحينا وأقمناك خليفة في الأرض عنا «ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» 86 بي وبك وبه فتعاونهم على ما يريدون، ولا شك أن حضرة الرسول يعلم به ربه أنه لا يؤازر الكافرين، ومن المحال أن يخطر بباله ذلك، كيف وهو منصرف إلى ربه بكلّيته، وقد عادى أقاربه وقومه من أجله. وان ظاهر هذا الخطاب وان كان منصرفا له صلّى الله عليه وسلم، لكن المراد به غيره، وهذه الآية نزلت على أثر دعاية المشركين له أن يرجع لدين آبائه كي يناصروه ويظاهروه ويعينوه ويملكوه عليهم ولما لم ينجع به ما حاكوه في دار الندوة بأن يقتلوه أو يخرجوه أو يجسوه، وهاجر على أثر هذا كما سيأتي تفصيله في بحث الهجرة آخر سورة العنكبوت في ج 2، فنزلت هذه الآية بالمحل المار ذكره ردا على ذلك، وفيها إشارة بأن الله تعالى هو ظهيره على قومه الذين أخرجوه، ومؤازرة لنصرته عليهم ورجوعه لبلده، وإذ لم يؤمر بعد بقتالهم أشار إليه بأن أعرض عنهم وعن معاونتهم «وَلا يَصُدُّنَّكَ»

مكرهم وكيدهم وتخويفهم لك «عَنْ آياتِ اللَّهِ» والعمل بها «بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ» بعد زمن إنزالها، لأن إذ يضاف إليه أسماء الزمان كقولك يومئذ ووقتئذ وساعتئذ «وَادْعُ إِلى» توحيد «رَبِّكَ» وعبادته كافة الناس «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 87 وحاشاه وهو مجتهد بالدعاء إلى توحيده ورفض الشرك وهو معصوم من أن يدعو إلى غير ربه وان المراد تحذير قومه ونهيهم وتذكيرهم بذلك وإلهاب قلوبهم إلى طاعة ربهم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وفي عصمة الأنبياء في سورة طه الآية 121 المارة بصورة مفصّلة، فراجعه ترشد إلى ما يحوك في صدرك من هذا والله ولي التوفيق. وهو الهادي إلى أقوم طريق وأعلم أن أصل فعل يصدنّك يصدوننّك، ولذا لم يفتح آخر الفعل مع أنه متصل بنون التوكيد الموجبة لذلك، لأن الضمير للجمع فلو كان للواحد لفتح، وقد حذف من نون الرفع. لدخول لا الناهية عليه، وحذف الواو لالتقاء الساكنين، أي أعرض عنهم، لا يمنعنك يا أكرم الرسل ما تراه من عربدتهم «وَلا تَدْعُ» على أن الخطاب له صلّى الله عليه وسلم، وعلى أن الخطاب لغيره يكتب ولا تدعوا أيها الناس «مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» لأنه هو وحده المنفرد بالإلهية، له الخلق والأمر الواحد القهار «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» ولا رب غيره، فعليكم أيها الناس بالانكباب على عبادته. هذا، وأرى أن الأجود في هذا الخطاب أن يكون عاما لكل البشر، وأنما جاء بلفظ المفرد خطابا لحضرة الرسول تعظيما لشأنه، لأنه هو المبلّغ لأمته كلام ربه ليكون أكثر وقعا في قلوب الناس، والعصمة لا تمنع النهي، وهنا يلزم الوقف على كلمة آخر، لان وصلها بما بعدها يصيّر ما بعدها صفة لها، وفيه من الفساد ما لا يخفى، ولذلك أوجب العلماء قراءة علم التجويد وحذروا من لا يعرفه من أن يخطىء في كلام الله فقال: والأخذ بالتجويد حتم لازم ... من لم يجود القرآن آثم لأن من لازم علم التجويد معرفة الوقف، وأنت خبير كم من وقف بغير محله يغير المعنى، وكم من وصل يفسده، قال صلّى الله عليه وسلم في دعائه (وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني) فإذا كان حضرة الرسول يدعو ربه أن يوفّقه لأن يقرأ

تفسير سورة الاسراء عدد 50 - 17

القرآن على الوجه الذي يريده ربّه وهو أعلم الناس به فكيف بنا نحن؟ اللهم وفقنا لهداك وأرشدنا لفهم كلامك ووفق أمة نبيك أن يتعلموا ما به ليفهموه. ولنا رسالة في علم التجويد تكفي من يطلع عليها لمعرفته صغيرة الحجم كثيرة العلم، واسمها (أحسن البيان في تجويد القرآن) فعليكم أيها الناس بما يصلح معادكم قبل أن تهلكوا و «كُلُّ شَيْءٍ» من مكونات الله تعالى «هالِكٌ» لأن مصيره إلى الزوال والاندراس «إِلَّا وَجْهَهُ» ذاته المقدسة، وحاشاه وهو الدائم الباقي الذي لا يحول ولا يزول «لَهُ الْحُكْمُ» فصل القضاء بين خلقه مختص به وحده، وهو الحاكم العدل في الدنيا والآخرة «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 88 أيها الناس، فيقضي بينكم قضاء مبرما لا مغيّر ولا مبدل له، وهناك في تلك الدار الباقية يجزى الخلق حسما يفصل بينهم. لأهل الخير جنات ونعمى ... وللكفار إدراك النكال هذا والله أعلم، وأستغفر الله العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا. تفسير سورة الاسراء عدد 50- 17 نزلت في مكة بعد سورة القصص، عدا الآيات 26 و 32 و 33 ومن 74 إلى 80 فإنهنّ نزلن بالمدينة، وهي مئة وإحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ومشتقاته ذكرناها أول سبّح اسم ربك المارة. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى: «سُبْحانَ» ابتدأت هذه السورة بهذا اللفظ وهو علم على التسبيح تقول سبحت تسبيحا، فالتسبيح مصدر وسبحان علم عليه، ولذلك تسمى سورة سبحان كما تسمى سوره بني إسرائيل والإسراء، ومعناه تنزيه الله تعالى عن كل ما هو من شأن البشر وأحواله، ومعناه لغة التباعد، وعليه يكون المعنى بعد الله ونزاهته القصوى عن كل ما لا ينبغي، لأنه تعالت عظمته ليس كمثله شيء «الَّذِي أَسْرى» وسرى بمعنى واحد، يقال

أسرى به وسرى به، ولا يقال صرى وأسرى إلا إذا كان المسير ليلا «بِعَبْدِهِ» محمد صلّى الله عليه وسلم، وأضافه لنفسه اضافة تشريف وتبجيل وتعظيم، لأنه صلّى الله عليه وسلم بلغ في هذا الإسراء أعلى الدرجات، ودنا من أرفع المراتب، وعلى ما لم يعلو عليه أحد روي أنه أوحي اليه بم شرفتك يا محمد، قال بنسبتي إليك يا رب بالعبودية، فأنزل الله هذه الآية العظيمة «لَيْلًا» والفائدة من ذكر كلمة ليلا مع أنه يغني عنه لفظ أسرى فضلا عن معلوميّته بمقتضى اللفظ، هو تقليل مدة الإسراء الذي يدل عليه تنكير كلمة ليلا مع عظم ما وقع فيها من المعجزات الآتية الذكر وغيرها، وإنما خص الليل لمزيد الاحتفال به صلّى الله عليه وسلم لأنه وقت الخلوة والاختصاص ومجالة الملوك، ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو جليل عنده، وهو أصل النهار والاهتداء به للقصد أبلغ، ولأن المسافر قد يقطع بالليل مالا يقطعه بالنهار ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل مالا تطوى بالنهار: وجاء في المثل (عند الصباح يحمد القوم السري) وقد أسرى به ذهابا وإيابا ببعض الليل مسافة شهرين في الأرض «مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» مكة المكرمة «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» البيت المقدس، وسمي أقصى إذ لم يكن إذ ذاك وراءه مسجد، أما الآن والحمد لله فصار وراءه وبينهما مساجد كثيرة، وأمامه ويمينه وشماله إلى أقصى الجهات المعمورة، وفي أعظم البلاد الأجنبية التي تبعد عن مكة أشهرا، فلم تبق قارة إلا وفيها مساجد للمسلمين «الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» من جميع أطرافه بركة دينية معنوية، وهي جعله مهبط الوحي وكفات الأنبياء ومقرهم وقبلتهم وبركة دنيوية حسية بالأنهار والأشجار، وهو القبلة الأولى واليه محشر الخلائق، وقد أسرينا بمحمد هذا الإسراء البديع وشرفناه بهذا التشريف الذي لم يكن لأحد من قبله «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» البديعة وعجائب قدرتنا المنيعة، ونشرفه بمقامنا العظيم، ونسرّه بكلامنا الجليل، ونمتّعه بأشياء كثيرة، ونتجلى عليه بذاتنا الكريمة، واعلم أن لفظ كريم أفضل من غيره من الصفات الممدوحة التي يوصف بها، إذ اختاره لذاته المقدسة دون غيره، وهو أعلم بما يوصف به نفسه وما هو أليق بذاته المقدسة، ولذلك وصفه بها، قال تعالى: (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)

الآية 3 من سورة العلق، وقال تعالى: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 6 من سورة الانفطار، ولا تجد وصفا في القرآن للقرآن أو الملائكة أو للجنان أو لمطلق كتاب أو للثواب أو للرسل أو للعرش إلا بلفظ كريم، ولم يصفه الأنبياء إلا بهذا الوصف، مثل قولهم (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) الآية 40 من سورة النمل المارة، وقال (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) كررها مرتين في سورة الرحمن ج 3. وأعلم أنه لا يقال إن إبراهيم أفضل من محمد عليهما الصلاة والسلام لقوله تعالى في حقّه: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية 75 من سورة الأنعام في ج 2، لأن هذا الملكوت الذي رآه إبراهيم من بعض الآيات التي أراها الله إلى محمد وآيات الله لا تحصى، وأفضاله لا تستقصى، وإن سيدنا محمدا هو أفضل الأنبياء والرسل والملائكة على الإطلاق، وقد أجمعت الأمة على تفضيله وعليه قولهم: وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الزمخشري إذ يقول إن جبريل أفضل منه، وهذا من جملة خلافياته وانشقاقه على أهل السنة والجماعة التي رجع عنها أخيرا كما يفهم من قوله: يا من يرى مدّ البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في لحمها ... وإلخ في تلك العظام النحل اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول وما قاله بعض المغالين في حقه بأنه أراد بتوبته هذه عن الزمن الذي كان فيه قبل الاعتزال بعيد عن الحقيقة، ولفظ قوله هذا ومغزاه ينفيه، عفا الله عن الاثنين، «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لكل شيء يسمع أقوال عبده عند تشرفه به، ويجيب دعاءه حينما يدعوه، وهو أكرم من أن يرد أحدا فضلا عن الأنبياء الكرام «الْبَصِيرُ» 1 بشأنه المسدد لأفعاله وأعماله وأقواله ورموزه وإشاراته، قال تعالى في هذه الآية أسرى وباركنا على طريق الغيبة ثم قال إنه هو على طريق التكلم التفاتا، وهذا من أبواب المعاني والبديع بالكلام، ومن طرق البلاغة والفصاحة، وفي كلمة سبحان المصدرة بها هذه الآية معنى التعجب، لأن عروج الشيء الكثيف إلى العلو وخرقه له مما يتعجب منه، وقدمنا البحث في جواز الخرق والالتئام على سبيل خرق العادة

في الآيتين 38/ 40 من سورة يس وفي الآيتين 18/ 42 من سورة والنجم المارتين، وسنأتي على بيانه بعد بصورة أوضح وأكمل إن شاء الله. مطلب وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج وكفر من أنكر الأول وتفسيق من أنكر الثاني: هذا وإن التعجب بعروجه لقصد الحق لأمر عظيم بين المحب والمحبوب أعجب من نزوله لقصد الخلق بينه وبين أمته، وهذا كالفرق بين ولاية النبي ورسالته فإن الأولى بينه وبين مولاه والثانية بينه وبين الناس، وإنما قال تعالى بعبده ولم يقل بنبيه أو رسوله لئلا يتوهم فيه ما توهمه الناس في عيسى عليه السلام من أنه انسلخ من الأكوان وعرج بجسمه إلى الملأ الأعلى مناقضا للعادات البشرية وأطوارها، ولأن العبودية أفضل من النبوة لأنها انصراف من الخلق إلى الخالق، والنبوة انصراف من الخالق إلى الخلق، وشتان ما بينهما، ولأن كلمة عبد عبارة عن الروح والجسد، والبراق الذي ركب عليه في الإسراء من جنس الحيوانات يحمل الأجساد لا كما يقوله الغير من أنه عبارة عن البرق المعلوم الحاصل من احتكاك السحب بعضها ببعض، وهو الذي أقل حضرة الرسول من مكة إلى القدس بسرعته وأعاده لموضعه، وهذا أبلغ في القدرة لو كان لهذا القول أصل من نقل صحيح أو خبر قاطع وليس فليس، أو لو كان العروج بالروح فقط كما يزعمه البعض أو حال النوم كما يقوله الغير أو حال الفناء كما توهمه الآخر أو حال الانسلاخ كما يظنه بعض المتصوفة والحكماء، لأمكن ذلك، على أن الذهاب بالروح يقظة ليس كالانسلاخ الذي ذهب هذا الأخيران إليه، فإنه وإن كان خارقا للعادة إلا ان العرب لا تعرفه، فليس محلا للتعجب، ولم يقل به أحد من السلف كما فندناه في سورة يس المارة، وعلى تلك الأقوال الواهية لا حاجه لذكر البراق، لأن ما ذكر فيها لا يحتاج الى الحمل، ولا محل لأن يستبعده المستبعدون أو ينكره الجاحدون استكبارا على الله القادر الفعال لما يريد، لأن أهل الهيئة من جميع الملل يحصل لهم مثل ذلك، وكثير من الناس من يرى الله في المنام، ويوجد جماعة من أهل المعرفة يتوصلون الى الانسلاخ فلا فضل فيه حينئذ ولا فخر، ولا حاجة للإنكار والجدال وإنما القول الحق هو أنه صلّى الله عليه وسلم أسرى بروحه وجسده يقظة من مكة الى بيت المقدس، ومن

شك في هذا أو أنكره فهو كافر والعياذ بالله لإنكاره القرآن صراحة، هذا هو القول الفصل في الإسراء، أما المعراج فهو قول ثابت كما سنورد عليك من الشواهد القوية والحجج الساطعة والدلائل القاطعة ما نقنع بثبوته ووقوعه، ومن أنكره فقد خرق الإجماع، ومن انشق على اجماع أهل السنّة والجماعة فإنه يفسق شرعا ولا تقبل شهادته ويوشك ان يدخله الله تعالى في معنى الآية 114 من سورة النساء من ج 2، لأن مخالفة العلماء مخالفة للرسول ومخالفة الرسول مخالفة لله، هذا وقد اجمع المفسرون على أن المراد بعبده في هذه الآية محمد صلّى الله عليه وسلم كما أجمعت على هذا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يختلف عن ذلك أحد، كما أنهم لم يختلفوا في الإسراء لما فيه جحود صراحة القرآن ومن شك لا حظ له في الإسلام هذا ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وليعلم ان العبودية أفضل من العبادة لأن العبادة تنقضي بالدنيا والعبودية باقية في الدنيا والآخرة، وهي اشرف أوصاف العبد عند العارفين الكاملين، وبها يفتخر المحب عند محبوبه قال: لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي فقال الآخر: بالله إن سألوك عني فقل لهم ... عبدي وملك يميني وما أعتقته وذكر العلماء أن الله تعالى لم يعبّر عن أحد بالعبد مضافا الى ضمير الغيبة المشار به الى الهوية إلا عن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، وفيه من الإشارة وعلو الشارة ما فيه، ومن تأمل أدنى تأمل بين قوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) الآية من سورة والنجم المارة وبين قوله (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية 120 من المائدة من ج 3 بان له الفرق بين مكانة روح الله ومكانة رحمة الله، ومن قابل بين قوله سبحان الذي أسرى الآية المارة وبين قوله (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) الآية 142 من سورة الأعراف المارة، ظهر البعد بين مقام الحبيب وبين مقام الكليم، ومن وازن بين هذه الآية وآية (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) المارة من سورة الأنعام من ج 2 عرف البون بين مقام ذلك الخليل ومقام هذا الحبيب الجليل.

مطلب قصة المعراج والإسراء والمعجزات الواقعة فيهما: وخلاصة القصة بناء على ما جاء في الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة أنه صلّى الله عليه وسلم كان ليلة سبع وعشرين من شهر رجب سنة 51 من ميلاده الشريف، وبدء السنة العاشرة من البعثة الجليلة التي أولها شهر رمضان، لأن سنة الولادة أولها شهر ربيع الأول وكذلك سنة الهجرة أولها ربيع الأول، وقد اعتبروا المحرم أولها اعتبارا، كان نائما في بيت فاختة أم هانىء بنت أبي طالب بعد أن صلى الركعتين اللتين كان بتعبد فيهما قبل النوم، وما جاء أنه كان بالحجر والحطيم وبين زمزم والمقام أقوال لم نعتمد على صحتها ولم نجد ما يقويها، ويؤيد ما جرينا عليه ما روى عن أم هانىء أنها فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بيتها وامتنع النوم عنها مخافة عليه من قريش، وأخبرت بني المطلب، فتفرقوا في التماسه، ورحل العباس الى ذي طوى وهو يصيح يا محمد يا محمد، هذا وقد اظهر الله له في إسرائه ومعراجه سبعين معجزة، أولها أنه خرج عن سقف البيت سحر تلك الليلة، فنزل جبريل وميكائيل واسرافيل عليهم السلام، فأيقظه جبريل، فقال له صلّى الله عليه وسلم مالك يا أخى؟ قال قم إن ربك بعثني إليك وأمرني أن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك ولا يكرم بها أحد بعدك، فتكلم ربك وتنظر إليه ويريك عجائب عظمته وبدائع قدرته ومنافع ملكوته، قال صلّى الله عليه وسلم فقمت وتوضأت وصليت ركعتين، قال ثم إن جبريل عليه السلام تقدم إليّ وشق صدري ما بين الرّقوتين الى أسفل بطني بإشارة منه ليس بآلة ما، ولم أجد ألما ما، ولا خرج مني دم ما، معجزة على طريق خرق العادة- واستخرج قلبه الشريف، وغسله بطست من ماء زمزم ثلاثا، ونزع ما كان فيه من أذى، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء إيمانا وحكمة فأفرغه فيه. تنبيه: من المعلوم أن الإيمان والحكمة ليستا من الأجسام بل هي معان، والمعاني تمثل في الأجسام مجازا، ولذا قال فأفرغه، ويحتمل أنه عليه السلام جعل في الطست شيئا، يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتها، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما. قال ثم وضعت السكينة في قلبه الشريف، وهذه أيضا من الأمور المعنوية التي لا تحتاج إلى حيّز محسوس، ولا بد لهذه الأمور من عقيدة راسخة،

وإيمان كامل، وبصيرة طاهرة تعقلها وتصدق بها تصديقا لا مرية فيه. ومن لا يؤمن بمثل هذه الأمور المعنويات يخشى على إيمانه، لأنها قد تؤدي لإنكار ما هو أعظم والعياذ بالله خصوصا فيما نحن فيه، لإطباق العلماء على صحته وأكثر العارفين على حقيقته، فالحذر الحذر من أن تشك يا أخي في هذه اليقينيات إذ قد يتطرق الشك فيها إلى كثير من أمور الدين، فيسلب دين الشاك وتضمحل عقيدته في الإسلام والعياذ بالله تعالى من حيث لا يشعر، ولهذا يجب على المؤمن أن يسلم ويذعن لما جاء عن ربه ورسوله، ولا يقيسها على الأمور الحسية فيصير إبليس الثاني راجع مقايسته في الآية 12 من سورة الأعراف المارة. قال ثم أعاده إلى مكانه وأشار إلى صدره فالتأم كما كان، وهذه معجزة ثالثة له صلّى الله عليه وسلم. واعلم أن هذا الشق غير الذي وقع له في صغره عند ظئره حليمة، وفيها أخرج الملك من صدره الشريف علقة سوداء دموية، وقال له جبريل هذا حظ الشيطان منك. وهي محل الغمز والوسوسة فلم يبق للخبيث حظ فيه، ولهذا كان صلّى الله عليه وسلم في صغره لم يمل إلى ما يميل إليه الأولاد من اللعب واللهو، وهكذا شأن الأنبياء في صغرهم كما مر في سورة مريم من شأن يحيى وعيسى، ثم أنه شق صدره ثانيا حينما شرفه الله بالنبوة وغسل قلبه الشريف وأعيد لمحله على النحو المار ذكره لتحمل أعباء النبوة التي لا يقواها مطلق قلب، وهذه المرة الثالثة لتصفيته للقاء ربه عزّ وجل وتخليصه من الأغيار ليتسنى له حفظ الأسرار الإلهية والكمالات الربانية التي ستلقى عليه. الرابعة أن جبريل عليه السلام جاءه بخاتم من نور فختم على قلبه وبين كتفيه بخاتم النبوة، وكان يراه الرائي بحسب مكانته عند الله وقدر محبته لرسوله واعتقاده به، فمنهم من يراه مثل زر الحجلة (الخيمة) التي يغطى فيها السرير ويدخل في العروة، ومنهم من يراه قطعة نور، ومنهم من يرى فيه عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومنهم من يرى غير ذلك، ولكل وجهه. مطلب في البراق والأقوال الواردة في المعراج: الخامسة هي أنه صلّى الله عليه وسلم جيء بالبراق مسرجا وملجا وهو له دابة بيضاء لها بريق يلمع دون البغل وفوق الحمار، خدّه خد إنسان وقوائمه قوائم بعير، وعرفه عرف

فرس، لا ذكر ولا أنثى، فهو حقيقة أخرى كالملائكة، فإنهم خارجون عن فحوى قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) الآية 49 من سورة الذاريات في ج 2 إذ لا عموم إلا وخص منه البعض، قال وكان سرجه من اللؤلؤ وركاباه من الزبرجد، ولجامه من الياقوت الأحمر يتلألأ النور من حليته، وقال ما رأيت دابة أحسن منها، وقال جبريل اركبه حتى تمضي إلى دعوة ربك، قال فأخذ بلجامها جبريل، وبركابها ميكائيل، ووضع يده على خلفها إسرافيل، فقصدت أن أركبها فجمحت، وأبت أن تذعن، فوضع جبريل يده على وركها وقال لها أما تستحين مما فعلت، فو الله ما ركبك أحد أكرم منه على ربه، فرشحت عرقا من الحياء، وقيل في هذا: ما كدى الميمون وانحلت عزائمه ... وأنت أنت الذي باليمن لاجمه وإنما شهد الأملاك ساجدة ... إلى علاك فانحلت عزائمه قال ابن دحية ووافقه الإمام النووي إن البراق لم يركبه أحد قبل النبي محمد صلّى الله عليه وسلم وإن قول جبريل ما ركبك أحد إلخ لا ينافيه، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع وقالت يا جبريل لم أستصعب منه، ولكن أريد أن يضمن لي الشفاعة يوم القيامة لأني علمت أنه أكرم الخلق على ربه، فضمن لها ذلك، فركبها قال صلّى الله عليه وسلم: فانطلق البراق يهوي يضع حافره حيث ينتهي طرفه. واعلم أن الخلاف في المعراج والإسراء على ثلاثة أقوال: الأول أنه أسري بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السموات إلى أن رأى ربه بعين رأسه كما سيأتى تفصيله، وهذا ما عليه الجمهور من أهل السنة والجماعة. الثاني أنه أسري بروحه وجسده يقظة وعرج بروحه فقط، والقائلون بهذا ينكرون المعراج الحسيّ وسبق أن بينا آنفا أنهم يفسقون شرعا. الثالث أنه أسري به وعرج به مناما، وأصحاب هذا القول يكفرون كما مرّ بك، لأن مثل هذا يتيسر لكثير من الناس، ولا معنى حينئذ لاستعظامه وإنكاره، ولا حاجة لتصادم الآراء فيه والقول باستحالته، ولا لزوم لطلب الدليل عليه، لأن النائم قد يرى نفسه في الشرق والغرب والسماء ولا يستبعده أحد، وما قيل إن لفظ الرؤيا الواردة بالآية 60 الآتية تختص بالنوم

ليس على إطلاقه، بل قد يكون في اليقظة، قال الراعي يصف صيدا: وكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر قلبا كان جمّا بلابله والحديث في هذا الشأن مروي عن معاوية، وقد كان كافرا حين الإسراء، وعن عائشة وكانت صغيرة وليست بزوجة له صلّى الله عليه وسلم، والحسن إنما رواه عنهما فلا عبرة به، وما أخذه بعضهم من رواية شريك بن غزال طعن فيها الحفاظ فلا قيمة لها. هذا واعلم أن إعطاء البراق قوة المشي على تلك الصفة معجزة سادسة. والسابعة: قال بينا هو سائر على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة نارية كلما التفت رآه، فقال له جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامة اللاتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر من شرّ ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير، يا رحمن، فقالهن صلّى الله عليه وسلم، فانكب لفيه، وخرّ صريعا، وطفئت شعلته. الثابتة: وكشف له بطريق ضرب المثل فرأى قوما يزرعون ويحصدون في ساعة وكلما حصدوا عاد الزرع كما كان، فقال ما هذا يا أخي يا جبريل؟ فقال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمئة ضعف، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه. التاسعة: بينما هو سائر إذ نادى مناد عن يمينه يا محمد انظرني اسألك، فلم يجبه، فقال ما هذا يا جبريل؟ فقال هذا داعي اليهود، أما أنك لو أجبته لتهوّدت أمتك. العاشرة: ثم ناداه مناد عن يساره، فلم يجبه أيضا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا داعي النصارى، أما لو أجبته لتنصّرت أمتك. الحادية عشرة: ثم رأى امرأة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة، جالسة على الطريق، فقالت انظرني يا محمد أسالك، فلم يلتقت إليها، فقال من هذه يا جبريل؟ فقال تلك الدنيا، أما أنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. الثانية عشرة: ثم رأى عجوزا على جانب الطريق، فقالت يا محمد انظرني فلم يلتفت إليها، فقال ما هذه يا جبريل؟ قال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر هذه العجوز، وفي عدم إجابته لهما دليل على أن حضرة الرسول غير مبال بها بالطبع، لأنه لم يلتفت

إليهما، ولم يردّ عليهما، وهكذا الأنبياء جبلوا على ترك الدنيا وحب الآخرة فطرة، قالوا إن الدنيا شابة من آدم إلى إبراهيم، وكهلة من إبراهيم إلى محمد، وعجوز من محمد إلى القيامة. الثالثة عشرة: إنه صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يجمع حزمة حطب لا يستطيع حملها، وهو يزيدها، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال مثل الرجل من أمتك تكون عنده الأمانة فيكتمها عن صاحبها ويريد أن يحمل نفسه وزرا فوق أوزاره، مما لا تقواه قواه، راجع بحث الأمانة في تفسير الآية 8 من سورة المؤمنين في ج 2 وفي الآية 15 من آل عمران والآية 282 من البقرة وآخر سورة الأحزاب في ج 3، وفي سورة الماعون المارة، قالوا اتق حروف الشوك أي الكلمات المبدوءة بالواو كالوكالة والوصاية والولاية والوزارة والوديعة، والكلمات المبدوءة بالشين كالشر والشره والشبع والشركة، والكلمات المبدوءة بالكاف كالكيد والكفر والكفالة، وكلام الفضول والكلب. الرابعة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما ترضخ رؤوسهم وكلما رضخت عادت كما كانت، فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال الذين تتشاقل رءوسهم عن الصلاة المفروضة، قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) الآية 4 من سورة الماعون المارة، وإذا كان جزاء من يسهو عنها هكذا، فكيف بمن يتركها؟ وقد جاء عنه صلّى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة. ولهذا قال الإمام أحمد يقتل كفرا من يتركها عمدا. الخامسة عشر: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما على أقبالهم وأدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع (الشوك اليابس) والزقوم (ثمر شجر مرّ له زفرة لا يعرف في الدنيا وقد ذكرها الله في كتابه بقوله (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) الآية 14 من الصّافات في ج 2، وفي الدنيا من نوعها (شجرة الحنظل) ورضف جهنم (أي حجارتها المحماة) فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم، ويحرمون من فضلهم فقراء الله راجع الآية 76 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3. السادسة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما بين أيديهم لحم نيء ولحم نضج فيأكلون النيء الخبيث ويتركون النضج الطيب، فقال ما هؤلاء يا جبريل؟ قال هذا مثل الزوجين من أمتك عندهما

الحلال فيأتيان الحرام ويدعان الحلال وهم الزناة. راجع الآية 31 الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم من زنى زنى به ولو بحيطان داره. أي لا بدّ من القصاص منه ولو اختفت محارمه في داره. فإنه ان لم يزن بهن خارجها يزنى بهنّ داخلها، فعلى المؤمن الشهم أن يحفظ عرضه بالكفّ عن أعراض الناس. السابعة عشرة رأى صلّى الله عليه وسلم خشبة في الطريق لا يمرّ بها توب ولا شيء إلا مزّقته، فقال ما هذه يا جبريل؟ قال هذه مثل أقوام من أمتك يقطعون الطريق وتلا الآية 85 من سورة الأعراف المارة. الثامنة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم رجلا يسبح في نهر من دم يلتقم الحجارة، فقال من هذا؟ قال هذا مثل آكل الربا. راجع تفسير الآية 275 من سورة البقرة فما بعدها، والآية 130 من آل عمران في ج 3، وقال صلّى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. التاسعة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت، فقال من هؤلاء؟ قال هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، وقال تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) الآية 2 من سورة الصفّ ج 3. العشرون: ورأى صلّى الله عليه وسلم قوما يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية، فقال من هؤلاء؟ قال هؤلاء مثل الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم، وقال تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) راجع تفسيرها المار ذكره. الحادية والعشرون: ورأى صلّى الله عليه وسلم حجرا يخرج منه ثور عظيم يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال من هذا يا جبريل؟ قال هذا مثل الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم فلا يستطيع ردّها، وقد جاء في الخبر من كثر لغطه كثر سقطه، ومن كثر سقطه فالنار أولى به. وقال: وهل يكبّ الناس في النار على وجوهم إلا حصائد ألسنتهم. الثانية والعشرون، ورأى صلّى الله عليه وسلم واديا طيبا باردا وريحا مسكية شذية، وسمع صوتا رقيقا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت الجنة، تقول ربّ آتيني ما وعدتني، فقد كثر فيّ ما لا نظائر له ولا أشباه. اللهم اجعلنا من أهلها. الثالثة والعشرون: ورأى صلّى الله عليه وسلم واديا خبيثا وريحا منتنة، وسمع صوتا منكرا بذيا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت جهنم تقول

ربّ آتني ما وعدتني فقد كثر في ما لا تقواه العصاة، راجع الآيتين 10/ 41 فما بعدهما من سورة الواقعة المارة في الجنة وأهلها والنار وأهلها أعاذنا الله منها. الرابعة والعشرون. ورأى صلّى الله عليه وسلم شخصا متنحيا عن الطريق والطريقة الإسلامية، يقول هلم يا محمد، فقال جبريل سرّ يا محمد، قال من هذا يا أخى؟ قال هذا عدوّ الله إبليس، أراد أن تميل إليه، وقد وقعت هذه المبادرة من شفقة جبريل عليه السّلام على حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ قال له سرّ قبل أن يسأله عنه، خلافا لعادته، لما يعلم من حاله عليه اللعنة. الخامسة والعشرون: ورأى محمد موسى عليهما الصلاة والسلام يصلّي في قبره عند الكئيب الأحمر، ويقول أكرمته وفضلته، ويرفع صوته، فقال من هذا يا جبريل؟ قال موسى بن عمران، قال ومن يعاتب؟ قال يعاتب ربّه فيك، قال ويرفع صوته على الحضرة الجلالية؟ قال قد عرف حدّته التي جبله عليها (العتاب مخاطبة فيها إدلال) ، فنزل وصلى ركعتين عنده. السادسة والعشرون: ورأى شجرة عندها شيخ وعياله، فقال من هذا؟ قال هذا أبوك إبراهيم عليه السلام، فسلّم عليه وردّ عليه السلام، فقال إبراهيم يا جبريل من هذا الذي معك؟ قال ابنك محمد، فقال مرحبا بالنبي العربي ودعا له بالبركة (كان ابراهيم تحت تلك الشجرة) فنزل فصلى ركعتين وسار حتى أتى الوادي الذي فيه بيت المقدس. السابعة والعشرون: ورأى جهنم تنكشف عن مثل الزرابي أي الوسائد، قال كيف وجدتها يا رسول الله؟ قال مثل الحمة أي الفحمة. الثامنة والعشرون: قال وبقي حتى انتهى إلى إيلياء من أرض الشام، أي مدينة القدس، فرأى جمعا غفيرا من الملائكة يستقبلونه صلّى الله عليه وسلم، فدخلها من الباب اليماني الذي فيه تمثال الشمس والقمر. التاسعة والعشرون: قال ولما انتهى إلى البيت المقدس كان على الباب حجر كبير فخرقه جبريل وربط به البراق، وهذه معجزة، لأن البراق لا يحتاج إلى الربط، ولأن الحجرة لا تخرق باليد، قال أبو سفيان لقيصر عند ما سأله عن النبي صلّى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري من أنه هل يكذب؟ قال لا ولكن زعم أنه ذهب من حرمنا إلى مسجدكم ورجع في ليلة واحدة! ولما قال له هل يغدر قال لا، ونحن عنه في مدة، ليفهمه في هذه بأنه لعله وقع منه

الغدر بعد غيابه عنه وليستعظم ما ذكره في الجملة الأولى فيتهم بالكذب، وكان بطريق عنده فقال أنا أعرف تلك الليلة التي جاء بها نبيّكم، كنت أغلق أبواب المسجد وقد استعصى على الباب الفلاني (الذي دخل منه حضرة الرسول بموكبه المار ذكره آنفا) فاستعنت بعمال فلم يقدروا قالوا إن البناء نزل عليه، فتركناه، فلما أصبحنا رأيت الحجر الذي في زاوية الباب مثقوبا وبه أثر ربط دابة، ولم أجد فيه ما يمنعه من الانغلاق، فعلمت أنه لأجل ما علمته قديما أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء، فقلت لأصحابي هذا ربط البراق بحجر الباب هو الذي منع من الانغلاق، أي بسبب وجود الحبل الذي لم نره لأنه من خوارق العادة، وإلا لرأينا البراق إن لم نر الحبل، وقد تركت هذه آية حسيئة ليطلع عليها، وإلا فإن جبريل لا يمنعه انغلاق الباب ولا غيره اه من روح البيان. الثلاثون: ورأى صلّى الله عليه وسلم الحور العين باستقباله أيضا، فسلم عليهن فرددن عليه السلام، فقال من أنتن؟ قلن خيرات حسان قوم أبرار نقوا فلم يدنّسوا يدرّنوا، وأقاموا فلم يضعفوا، وخلدوا فلم يموتوا. ثم دخل المسجد ونزلت الملائكة الذين كانوا في استقباله إلى الأرض. الحادية والثلاثون: أحيا الله له آدم فمن دونه من الأنبياء من سمى ومن لم يسم (فى كتابه) فرآهم في صورة مثالية كهيئاتهم الجسدانية، إلا عيسى وإدريس والخضر والياس فإنه رآهم بأجسادهم الحقيقية الدنيوية، لأنهم من زمرة الأحياء، فسلموا عليه جميعهم وهنأوه بما أعطاه الله من الكرامة، وقالوا الحمد لله الذي جعلك خاتم الأنبياء فنعم النبي والأخ أنت، وأمتك خير الأمم. تنبيه: إن الخضر صاحب موسى عليه السلام لم تجمع الكلمة على نبوّته كعزير ولقمان وذي القرنين، ومجيئه هنا مع الأنبياء كون الكلمة مجمعة على حياته. الثانية والثلاثون: قال جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم تقدم فصل بإخوانك الأنبياء فصلى بهم ركعتين، وكان خلفه إبراهيم وعن يمينه إسماعيل، وعن يساره إسحق عليهم السلام، قيل كانوا سبعة صفوف ثلاثة من المرسلين وأربعة من الأنبياء، قال في منية المصلى إمامته صلّى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لأرواح الأنبياء كانت في النافلة المطلقة التي تكون فيها الصلاة جماعة، كالتراويح وشبهها وهذا هو الحكم الشرعي: فقد جاء في مجمع البيان عن مقاتل أن قوله تعالى في الآية 45

من الزخرف في ج 2 (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) إلخ، نزلت في هذه الليلة كما سيأتي في تفسيرها إن شاء الله. الثالثة والثلاثون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم أخذني العطش فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، فأخذت اللبن بتوفيق الله فشربت منه، فقال جبريل أصبت الفطرة، أما انك لو شربت الخمر لغوت أمتك كلها، ولو شربت اللبن كله لما ضل أحد من أمتك بعدك، فقلت يا جبريل ردّ إناء اللبن علي حتى أشربه كله، فقال قضي الأمر وتلا عليه (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) الآية 42 من الأنفال في ج 3، وهذا من شدة حرصه صلّى الله عليه وسلم على صلاح أمته ولكن ما لم يرده الله لا يكون، وإلا كما وفقه للبن الذي مادته ملائمة للعلم والحكمة، لوفقه إلى شربه كله. الرابعة والثلاثون: ثم قال جبريل قم يا محمد، فقمت فإذا بسلّم من ذهب قوائمه من فضة مرصع باللؤلؤ والياقوت، يتلألأ نوره، وإذا أسفله على صخرة بيت المقدس ورأسه في السماء وهو المعراج الذي تبرج عليه أرواح الأنبياء وسائر بني آدم. ذكرنا في الآية 85 من سورة الواقعة المارة أن المحتضر يشخص بصره إلى السماء فتخرج روحه وهو على هذه الحالة، وذلك لأنه يرى هذا المعراج الذي تصعد عليه روحه، فيعجب من حسنه فيتبعه بصره، حتى إن أكثر الأموات تبقى عيونهم مفتوحة وعليهم بسمة، لأن المؤمن تفتح لروحه أبواب السماء والكافر تردّ روحه إلى سجين، فيزداد حسرة وندامة وكآبة، فيزرق وجهه والعياذ بالله. مطلب الورد الأحمر والأصفر والمواليد الثلاثة والحركة القسرية: الخامسة والثلاثون: قال صلّى الله عليه وسلم لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي فنبت الأصفر (أي الزهر الأصفر) فلما رجعت قطر عرقي على الأرض فنبت الورد الأحمر، ألا من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر. رواه أنس مرفوعا قال أبو الفرج النهرواني هذا قليل من كثير مما أكرم الله نبيه، على أن هذا لا يستلزم عدم وجود ورد أصفر وأحمر قبل ذلك، إلا أن هذا من باب الكرامة لحضرته الزكية زيادة على ما كان، ولهذا جرت العادة أن من يشم وردا له رائحة طيبة يصلي على محمد صلّى الله عليه وسلم أخذا من هذا. ونظيره على ما قيل إن حواء عليها السلام لما هبطت إلى الأرض بكت فما وقع من قطرها في البحر صار لؤلؤا، وما وقع

في الأرض صار زهرا. وهذا أيضا لا يستلزم عدم وجود اللؤلؤ والزهر في البحر والبر قبل ذلك. ومنه أن إبراهيم عليه السلام ذرّى كفا من كافور الجنة فما وقع منه درة في الأرض إلا صارت سبخة، وكان الملح موجودا قبل ذلك أيضا، فلا تستكثر أيها القارئ شيئا على حضرة الرسول الذي أكرمه الله بأنواع الكرامات ولا تستعظم شيئا على خلق الأرض والسموات الذي منح الإنسان عقلا أوصله إلى أن يطير في الهواء، وأن يستخدم الأثير فيسمع به صوت الشرق الغرب والجنوب الشمال بلحظة، وإلى اختراع الأشعة التي تخترق القلوب من حجب الأجسام فيكشف ما فيها، والذرة التي نسمع فيها، وكذلك التلفزيون الذي يريك من تسمع صوته من تلك المسافات، ولا ندري ماذا يحدث بعد مما أشار الله تعالى إليه في الآية 23 من سورة يونس في ج 2، أبعد هذا الذي أعطاه إلى عباده مؤمنهم وكافرهم يستغرب أن يمنح من خلق الكون لأجله ما قرأته وسمعته؟ كلا ثم كلا. السادسة والثلاثون: لما صعد السلم ومعه جبريل كان جسده تابعا لروحه، وإلا لتعذر عليه العروج. واعلم أنّ لصورته صلّى الله عليه وسلم صورة ولمعناه معنى، وكل منهما خلاف ما تتصوره الأوهام، لأن السير الملكوتي لا يقاس على السير الملكي، لكن عالم الملكوت مشتمل على ما هو صورة ومعنى، والصورة هناك تابعة للمعنى كحال صاحب الإسراء، وهنا بحث: اعلم وفقك الله هذاه وأرشدك لما به النجاة، إن المعدن والنبات والحيوان مركبات تسمى المواليد الثلاثة، آباؤها الأجرام الأثيرية التي هى الأفلاك بما فيها من الأجرام النيرة، وأمهاتها العنصريات الأربع التي هي الأرض والماء والهواء والنار، فالأرض ثقيل على الإطلاق والماء ثقيل بالاضافة للهواء والنار وهو محيط بأكثر الأرض. والهواء خفيف مضاف إلى الثقلين بطلب العلو، وهو محيط بكرة الأرض، والماء والنار خفيف على الإطلاق يحيط بكرة الهواء، وان النبي صلّى الله عليه وسلم جاوز هذه العناصر ليلة المعراج بالحركة القسرية، وهي غير منكرة عندنا وعند المحيلين لهذا الإسراء الجسماني، لأنا نأخذ الحجرة وطبعها النزول فنرمي بها في الهواء فتصعد خلافا لطبعها لأنه يقتضي الحركة عند المركز، فصعودها بالهواء عرض بالرمي وهو الحركة القسرية وبطبعها لأنها على طبيعة تقبل الحركة القسرية ولو لم يكن ذلك في طبعه لما انفعل لها ولا

قبلها وكذلك اختراقه عليه السلام الفلك الأثيري وهو نار بقوة جعلها الله فيه حال الصعود والهبوط، والجسم الإنساني مهيأ مستعد لقبول الاحتراق والمانع من الاحتراق أمور يسلمها الخصم وهي الحجب التي خلقها الله تعالى في جسم المسري به فلم يكن عنده استعداد الانفعال للحرق كبعض الأجسام المطلية بما يمنعها من الاحتراق بالنار، والأجساد غير القابلة له كالورق غير المنحرق وجلد السندل الذي يعيش بالنار، أو أمر آخر وهو أن الطريق الذي اخترقه ليس النار فيه إلا محمولة في جسم لطيف، ذلك الجسم هو المحرق بالنار فسلب عنه النار وحل على ضدها، كنار إبراهيم عليه السلام الثابتة بالنص الإلهي أنها صارت على إبراهيم بردا وسلاما، راجع الآية 69 من سورة الأنبياء في ج 2، ومثله نار التنور الذي ألقي فيه موسى الوارد في تفسير الآية 8 من سورة القصص المارة، فإن من جعلها بردا وسلاما على خليله إبراهيم وكليمه موسى قادر على أن يجعلها على حبيبه محمد كذلك. هذا، وان استحالة البعد الشاسع مرفوعة عنه صلّى الله عليه وسلم، إذ ثبت علميا أن مسافة قطر الأرض كلها ألفان وخمسمائة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ، وان مسافة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل قطر جرم الأرض، وذلك أربعة عشر ألف فرسخ، وان طرف قطرها المتأخر يصل إلى موضع طرف المتقدم في ثلثي دقيقة، فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية، راجع الآية 34 من سورة الأعراف المارة تعرف المستوية والمعوجة، فالذي يعطي هذه القوة العظيمة للشمس ويسير المراكب التي هي كالجبال في البحر والطائرات كالقلاع في الهواء وكذلك الصواريخ الجسيمة وينقل الصوت من وراء البحار مسافة آلاف من الأميال بقوة النار والكهرباء والبخار مما علمه البشر، أما يمنح تلك القوة حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم؟ بلى يعطيه ذلك وأكثر وأعظم، ولا يستعظم هذا على الله الذي قبضته الأرض والسموات مطويات بيمينه (راجع الآية 67 من الأنبياء في ج 2) ألا من لم يؤمن به الداخل في قوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) إلخ الآية 39 من سورة يونس في ج 2. هذا، وقد ذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق، وإذا كان كذلك وجب

أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر من الأعراض، لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية، فأينما حصلت الماهية حصل ذلك العرض، فلزم حصول تلك القابلية من إحراق وعدمه، فوجب أن يصحّ على كل منها ما يصح على الآخر، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضها، فيعود الكلام فيه كما هو من لوازم الماهية، أي أينما وجد العرض وجدت القابلية، فإن سلم فيها وإلا دار الأمر وتسلسل، وذلك محال، فلا بد من القول بالصحة المذكورة، والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على خلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن المصطفى صلّى الله عليه وسلم أو في بدن ما يحمله أو فيهما معا، (وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) الآية 19 من سورة إبراهيم في ج 2. السابعة والثلاثون: قال ثم عرج بي حتى انتهيت إلى بحر أخضر عظيم، أعظم ما يكون من البحار، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال هذا بحر في الهواء لا شيء فوقه يتعلق به، ولا شيء تحته يقرّ عليه، ولا يدري قدر عمقه إلا الله تعالى، ولولا حيلولة هذا البحر لاحترق ما في الدنيا من حر الشمس. وهذا مما ينكره الفلكيون والطبيعيون ومن لا عقيدة له، ونحن نعترف به لأنا نعلم أن القادر على خلق الدود في الثلج والسندل في النار والسمك في الماء والطير في الهواء الذي علم البشر صنع الطائرات والراد والذرة والصواريخ وغيرها كالغواصات وشبهها قادر على ذلك وأكثر، فإن كان ما ورد فيه حقا عن حضرة الرسول وهو لا ينطق عن هوى فقد أصبنا الهدف وقدرنا الله حق قدره، وإلا فلا يضرنا أن نعتقد به لعلمنا بقدرة الله، بخلاف ما لو كذّبناه، وكان له حقيقة، فتكون ممن لم يقدر الله حق قدره. أنظر ما قاله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) الآية 39 من سورة المؤمن في ج 2، ونحن نخاف إن كذبنا أن يصيبنا وبال تكذيبنا ولهذا فإنا نصدق به لأن تصديق ما لا مضرة له في الدين أحسن من تكذيبه، فالتصديق له ما له والتكذيب فيه ما فيه. الثامنة والثلاثون: قال ثم انتهيت إلى السماء الدنيا واسمها رفيع، فأخذ جبريل بعضدي وضرب بابها وقال افتح. اعلم أن جبريل لا يحتاج إلى فتح باب السماء لأنه لا يحجبه حاجب، وإنما استفتح

لأن معه محمدا الإنسان الكامل (وهذا مما يدلّ على أن العروج كان بالروح والجسد، إذ لو كان بالروح فقط لما استفتح بل لدخل جبريل على عادته، ودخلت معه الروح التي هي من أمر الله، وهذا كاف للرد على القائلين به (أما القول الثالث بأنه كان في الرؤيا فغير محتاج للردّ لأنه مردود طبعا) ، قال له الحارس من أنت؟ قال جبريل، قال ومن معك؟ (إنما سأله لأن استفتاحه على غير عادته لأن الله أعطاه قوة الاختراق بحيث ينزل من السماء ويصعد إليها بأقل من لحظة) قال محمد، قال أوقد بعث إليه؟ قال نعم، قال الحمد لله، ففتح ودخلنا. قال صلّى الله عليه وسلم: فلما نظر إليّ قال مرحبا بك يا محمد، ونعم المجيء مجيئك، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال ملك اسمه إسماعيل خازن سماء الدنيا، وهو ينتظر قدومك، فدنوت منه وسلمت عليه، فردّ علي السلام وهنأني وقال أبشر، فإن الخير كله فيك وفي أمتك، قال جبريل يا محمد إن هذا الملك لم يهبط إلا عند قبض ملك الموت روحك الشريفة، فرأيت وإذا جنوده قائمون صفوفا لهم زجيل بالتسبيح، يقولون سبوحا سبوحا لرب الملائكة والروح، قدّوسا قدّوسا لرب الأرباب، سبحان العظيم الأعظم، وكانت قراءتهم سورة الملك، فرأيت فيهم كهيئة عثمان بن عفان، فقلت بم بلغت هذا؟ قال بصلاة الليل. التاسعة والثلاثون: قال ثم انتهيت إلى آدم عليه السلام، فإذا هو كهيئته يوم خلقه الله على غاية من الحسن والجمال، وكان تسبيحه سبحان الجليل الأجل، سبحان الواسع الغني، سبحان الله العظيم وبحمده، وإذا تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول روح طيبة في جسد طيب، ويقول اجعلوها في عليّين، وتعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول روح خبيثة في جسد خبيث، ويقول اجعلوها في سجيّن، وذلك قبل أن تدخل السماء، لأن الله تعالى قال فيهم: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) الآية 39 من الأعراف المارة، قال صلّى الله عليه وسلم فنفذت وسلمت عليه، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. الأربعون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر (شفاه) كمشافر الإبل، وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار (الحجارة المستطيلة) التي كل واحدة منها ملء الكف يقذفونها بأفواههم فتخرج من أدبارهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال أكلة أموال اليتامى راجع الآية 9

من سورة النساء في ج 3. الحادية والأربعون: قال ثم رأيت رجالا لهم بطون أمثال البيوت، فيها حيات يراها الرائي من خارجها بطريق آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار، لا يقدرون أن يتحولوا عنها من مكانهم ذلك، فتطأهم آل فرعون، قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء أكلة الربا. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصة الاسراء قال انطلق بي جبريل إلى رجال كثير كل رجل بطنه مثل البيت الفخم، منضدين على سابلة آل فرعون، وساق الحديث، وتقدم آنفا أن الله تعالى مثل له أكلة الربا في الأرض بغير هذا الوصف كما مر في المعجزة الثانية عشرة، الثانية والأربعون: قال ثم رأيت اخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم نتن عليها أناس يأكلون، قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال الذين يأكلون الحرام من أموال الناس ويتركون الحلال، وتنطبق هذه على الزناة الممثل لهم في الأرض بغير هذا الوصف كما مر في المعجزة السادسة عشرة، وإنما كرر التمثيل لهذين الجنسين لقبح فعلهم وفظاعته عند الله تعالى. الثالثة والأربعون: قال ثم رأيت نساء معلقات بأثديتهن فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهن، أي ليس من نطف أزواجهن. الرابعة والأربعون: قال عليه السلام ثم عرج بي إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أوقد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا، فإذا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام، يشبه أحدهما صاحبه بثيابهما وشعرهما وحسنهما وقربهما من السن أيضا لأن يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر فقط، وقتل بعد بعثة عيسى، أي رسالته لانه نبىء في المهد ويحيى نبىء وأرسل وهو صغير، راجع الآيتين 12 و 20 من سورة مريم المارة. ومعهما نفر من قومها، فرحتبا بي، ودعيا لي بخير. الخامسة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل من معك؟ قال محمد، لم ينسبه جبريل لخزان السموات ولا لغيرهم من الملائكة لأنهم يعرفونه من يوم حمله وولادته وبعثته (والمراد بقولهم أو بعث إليه أي للعروج إلى ربه لا البعثة إلى الخلق لانها معلومة عندهم أيضا وهم ينتظرون

عروجه لزيارة ربه والتشرف برؤيته التي خصّه بها دون غيره، وان الملائكة يتباشرون بها ليتمتّعوا برؤيته الشريفة لذلك يقولون) أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا فإذا يوسف عليه السلام، وقد أعطي سطر الحسن، ومعه نفر من قومه، فرحب بي ودعا لي بخير. السادسة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا، قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أوقد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا: فإذا بإدريس عليه السلام، فرحب بي ودعا لي بخير، راجع الآية 57 من سورة مريم المارة. السابعة والأربعون: ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا فإذا بهارون عليه السلام ولحيته إلى سرّته وحوله قوم من بني إسرائيل يقصّ عليهم ما وقع له ولأخيه موسى عليهما السلام مع القبط وبني إسرائيل في حالة الدنيا، فرحب بي ودعا لي بخير. الثامنة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا فإذا بموسى عليه السلام فرحّب بي، ودعا لي بخير، فلما جاوزته بكى فقيل ما يبكيك؟ قال أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي ومن سائر الأمم (وهذا منه إشفاق على أمته لا حسدا بأمة محمد، وقوله غلام على سبيل التعظيم ولا يجوز أن يتصوّر غير هذا المعنى في كلامه عليه السلام، لأن كمّل الخلق مطهرون من الحسد وغيره، فكيف بالأنبياء ولا سيما أولى العزم.) التاسعة والأربعون: قال ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا، فإذا بإبراهيم عليه السلام، فسلمت عليه فردّ علي السلام، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح (هذا وان محمدا صلّى الله عليه وسلم قد أمر بالسلام على الأنبياء في الأرض والسماء، مع أنه أفضل منهم، لأنه عابر عليهم، فهو في حكم القائم وهم في حكم القعود، والقاعدة الشرعية أن يسلم القائم على القاعد، وفي هذا دلالة على استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن،

وإن كان الزائر أفضل من المزور، وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من العجب وغيره من أسباب الفتنة، والذين رآهم هم أرواح الأنبياء مشكلة بصورهم التي كانوا عليها في الدنيا عدا عيسى وإدريس والخضر والياس، وقد مر سبب ذلك في المعجزة الثلاثين المارة) ، وإذا به رجل أشمط جالس بجهة باب الجنة، مسند ظهره إلى البيت المعمور (استدل من هذا جواز إسناد الظهر إلى الكعبة المشرفة واستقبال الناس بوجهه سواء فيها أو في غيرها من المساجد) ورأى الملائكة يطوفون فيه طواف الناس بالبيت الحرام، ورأى له بابين، فقال في نفسه لو أن قومي لم يكونوا حديثي عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين. ولهذا فإن عبد الله بن الزبير لما تغلب على الحجاز هدم الكعبة وبناها وجعل لها بابين تطبيقا لرغبة حضرة الرسول وهو في قبره، وتشبيها بالبيت المعمور الواقع فوق الكعبة، بحيث لو سقط منه حجر لسقط على الكعبة، ولكن الحجّاج عليه ما يستحق من الله هدمها وأعادها على ما كانت عليه بحجة، أن عمل ابن الزبير بدعة، وياء يخشى البدعة ويرتكب الموبقات) قال وان البيت المعمور من عقيق محاذ إلى الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من باب ويخرجون من الباب الآخر لا يعودون إليه أبدا. الخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم وإذا أنا بأمتي شطرين شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد، قال فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون، فصليت فيه ركعتين، وقال لي إبراهيم أقرئ أمتك منّي السلام وقل لهم يكثروا من به غراس الجنة طيّبة التربة عذبة الماء وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الحادية والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم واستقبلتني جارية لعساء أي شفتيها تضرب إلى السواد وهو وصف مستملح فيهن فقلت لها أنت لمن قالت لزيد بن حارثه أي الذي تبناه صلّى الله عليه وسلم وزوجه بنت عمته ثم طلقها وتزوّجها هو فآثره الله بدلها في الجنة كما آثر حضرة الرسول في الدنيا على ماله ونفسه. الثانية والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت فوجا من الملائكة نصف أبدانهم من النار والنصف الآخر من الثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفىء النار، وهم يقولون اللهم كما ألفت بين النار والثلج ألف

بين قلوب عبادك المؤمنين. الثالثة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم ذهب بي جبريل إلى سدرة المنتهى وهي شجرة فوق السماء السابعة، في أقصى الجنة تنتهي إليها الملائكة بأعمال أهل الأرض السعداء وإليها تنزل الأحكام الشرعية، والأنوار الرحمانية، وإذا ورقها كآذان الفيلة (أي في الشكل لا في السعة واللون) لأن الواحدة منها تظل الخلق وثمرها كالقلال (جمع قله وهي الحجرة الكبيرة) أو القربة التي تسع ثلاثا وثمانين حقّه، وقد أمّ تحتها رسول الله صلّى الله عليه وسلم الملائكة، فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس في الأرض وإمام الملائكة في سدرة المنتهى في السماء، فظهر فضله على أهل السموات وأهل الأرض كلهم، قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت يخرج من أعلى السدرة أربعة أنهار: نهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل، ونهر يسمى نهر الرحمة، ورأيت نهر الكوثر أيضا يخرج من أصلها. الرابعة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ أي قباب الدّر وإذا ترابها المسك، ورمانها كالدلاء، وطيرها كالبخت (أي الإبل ذات السنامين) فمشيت حتى انتهيت الى الكوثر، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، فشربت منه فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك وأبيض من الثلج، وإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مما أعده الله تعالى لأهل طاعته وقربه. الخامسة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم نظرت إلى السدرة وقد غشيها ما غشيها من نور الحضرة الإلهية أي شيء عظيم أظلها فصار لها من الحسن غير تلك الحالة، فما أحد يستطيع أن ينعتها من حسنها ولا يصف ما فيها إلا الذي أبدعها، ورأيت جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله عليه له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق ما بين المشرق والمغرب يتناثر من أجنحته الدر والياقوت كهيئته حين رآه في الأرض عدا الدر والياقوت الذي يتناثر منه في الجنة. راجع الآية 23 من سورة التكوير المارة وقد تأخر عني فقلت له يا جبريل في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله فقال هذا حدّي لو تجاوزت لأحرقت بالنور وتلا (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الآية 16 من سورة الصافات في ج 2، واعلم أن جبريل عليه السّلام تلا هذه الآية وقبلها تلا آية 42 من الأنفال، قبل أن تنزلا على حضرة الرسول، لأنه نزل بالقرآن كله إلى بيت

العزّة كما أشرنا إليه في المقدمة، فهو يحفظه كله، ولذلك كان حضرة الرسول يتداول معه تلاوة القرآن ويقرأه عليه في كل سنة فلا يقال من أين علم جبريل هاتين الآيتين ولما تنزل بعد، أما آية الأعراف 84 المارة في المعجزة السابعة عشرة فكانت نازلة مع سورتها، ثم أنه صلّى الله عليه وسلم لما سمع من جبريل ذلك تعطف عليه وقال يا أخي يا جبريل هل من حاجة إلى ربك؟ قال يا محمد سل الله أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه إلى الجنة. السادسة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم زج بي في النور فخرق بي سبعون حجابا ليس فيها حجاب يشبه حجابا وغلظ كل حجاب مسافة خمسمائة عام، وانقطع عن حسن كل ملك، فلحقني عن ذلك استيحاش، فنادى مناد بلغه أبي بكر قف فإن ربك يصلي أي يقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي. السابعة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم وجاءني نداء من العلي الأعلى أدن يا خير البرية، فأدناني ربي، فكنت كما قال، (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) الآية 8 من سورة والنجم المارة. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال عرج بي من السماء الدنيا إلى السابعة على جناح الملائكة، ومن السماء السابعة إلى السدرة على جناح جبريل، ومن السدرة إلى العرش على الرفرف، وهكذا النزول على هذا الترتيب، والرّفرف بساط عظيم (نظير المحفّة عندنا) قال صلّى الله عليه وسلم وناداني جبريل من خلفي يا محمد إن الله يثني عليك، فاسمع وأطع، ولا يهولنّك كلامه أن تعيه فبدأ عليه الصلاة والسلام بالثناء بقوله التحيات لله والصلوات والطيبات لله، فقال تعالى السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وهو في مكانه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتابعه جميع الملائكة. مطلب ما بدأ الله تعالى به حضرة الرسول وما قال له والعلوم التي منحه إياها: الثامنة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده المقدسة بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد، فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري، وعلم خيّرني فيه، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي.

يستدل من هذا أن العلوم الشتى هي العلوم الثلاثة المذكورة، كما تدل عليه الفاء الفرعية وهي زائدة على علوم الأولين والآخرين، فالأول وهو الذي أمره بكته من باب الحقيقة الصّرفة، والثاني الذي خيره فيه من باب المعرفة، والثالث الذي أمره تبليغه للعامة والخاصة من باب الشريعة، قال أبو يزيد البسطامي رأيت ربّي في المنام فقلت كيف الطريق إليك، فقال أترك نفسك وتعال. وقال حمزة الفارسي قرأت القرآن على ربي في المنام، فلما قرأت: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) قال قل وأنت القاهر يا حمزة. التاسعة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم سمعت كلام الحق كما سمعه موسى، أي من جميع جهاتي وبكل أجزائي بلا كيفية، ورأيته بعين رأسي بلا كيفية، هذا وإن جميع الأنبياء رأوا ربهم حال الانسلاخ الكلي بأعين بصيرتهم، وإن الرسول محمدا رآه بعين رأسه على الصحيح، وقدمنا في الآية 40 من سورة بالنجم والآية 23 من سورة القيامة والآية 143 من سورة الأعراف المارات ما يتعلق في بحث رؤية الله تعالى فراجعها، وهذه الرؤية الحقيقية جعلت له صلّى الله عليه وسلم في هذا المقام العظيم مرة واحدة ففضل فيها على المرسلين كافة، أما رؤيته حال الانسلاخ بعين بصيرته كغيره من الأنبياء فكثيرة جدا، أما غير الأنبياء من مؤمني البشر فيجوز أن يروه في المنام كأبي يزيد البسطامي وحمزة الفارسي وغيرهما من صالحي هذه الأمة المباركة، ولا ينافي ذلك الحكم الشرعي، بل يوافقه وعليه الإجماع. قال صلّى الله عليه وسلم ثم فرض عليّ وعلى أمّتي خمسين صلاة في اليوم والليلة، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت موسى فقال لي ما فرض الله على أمتك؟ قلت خمسين صلاة، قال إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، واني قد خبرت قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، قال عليه السلام فرجعت إلى ربي (أي من الفلك السادس الذي فيه موسى إلى المحل المشرف الذي خاطبه به ربه) فخررت ساجدا فقلت أبا رب خقف عن أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى وأخبرته، فقال إن أمتك لا تطيق ذلك إرجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال فلم أزل أرجع بين ربي وموسى وهو يحط عني خمسا خمسا حتى قال موسى بم أمرت؟ قلت بخمس صلوات كل يوم وليلة، قال إرجع فاسأله التخفيف، فقلت

قد راجعت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، فلما جاوزت نادى مناد أن قد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي، وقال من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال فجاوزته وهبطت راضيا بما فرض علي وتفضّل وتقدم. هذا الحديث القدسي بلفظه الكامل في الآية 84 من سورة القصص المارة، وهذه الصلوات الخمس لها أجر الخمسين كما جاء في رواية أخرى، وبأخري الحسنة بعشر أمثالها. واعلم أنه يوجد أناس لا خلاق لهم من العلم والفهم ينكرون تردّد حضرة الرسول بين موسى وربه ويتذرعون بما لا قيمة له ولا مستند، مما يقولونه للعوام، إن محمدا أفضل من موسى ولا يمكن بل لا يجوز أن يكون المفضول واسطة للأفضل كي يقنعوهم بعدم صحة هذه الرواية، وهذا من التعصب بمكان، لأن هذا الحديث رواه البخاري عن الثقات العدول، ولا أصح من رواته ولا منه إلا كتاب الله، أما قاعدة الفاضل والمفضول والشبه به فليست على بابها وإطلاقها كما بيناه في الآية 114 من سورة طه المارة، على أن جبريل هو الواسطة بين الله ورسوله، فهل نقول إنه أفضل من محمد، كلا، راجع الآية الأولى المارة وهؤلاء إنما يقولون ما يقولون ليتوصلوا به إلى الطعن في الإمام البخاري من أنه أدخل في صحيحه ما ليس بصحيح، ويقصدون الطعن في صحة المعراج بالروح والجسد كما أشرنا إليه آنفا في المعجزة الخامسة. الستون: قال صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي سبعين مدينة تحت العرش كل مدينة مثل دنياكم هذه مملوءة من الملائكة يسبحون الله تعالى ويقدسونه ويقولون اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة، ورأيت مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل عليه السلام (إذ رافقه في النزول من المحل الذي تخلف عنه في الطلوع) ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده شيء والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة. الحادية والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت رضوان خازن الجنة، وقد فرح بي حين رآني ورحب بي وأدخلني الجنة وأراني عجائب ما فيها، ورأيت فيها درجات أصحابي والقصور والأنهار والعيون والأشجار مما أبدعه الواحد

القهار، وسمعت فيها صوتا يقول آمنا بربّ العالمين، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت سحرة موسى وأرواحهم حيث أكرمهم الله تعالى كرامة مضاعفة بسبب إيمانهم بموسى وإخزاء فرعون ونبذهم ما خوفهم به لقاء ما أعده الله لهم من النعيم المقيم. الثانية والستون: قال صلّى الله عليه وسلم وسمعت صوتا آخر يقول لبيك لبيك، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الحجاج، وسمعت أناسا يقولون الله أكبر الله أكبر، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الغزاة، وسمعت أناسا يسبحون الله تعالى، فقلت من هم؟ قال أرواح الأنبياء، ورأيت قصور الصالحين (في أمور دينهم ودنياهم، أما الصالحون لعمارة الأرض فقط فصلاحهم لا يغنيهم عند الله شيئا ولا يدفع عنهم عذابه) . الثالثة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم عرضت علي النار، قال عرضت لأنها في تخوم الأرض السفلى، إذ لا حاجب يمنع نفوذ بصره صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك لما أودع في كل جوارحه من قوة خارقة للعادة لا طلاعه على عظائم الأمور في إسرائه ومعراجه، وهذا من قبيل الاطلاع، كما ضرب الله الأمثال السابقة في إسرائه ما بين مكة والقدس، قال صلّى الله عليه وسلم وإذا مكتوب على بابها (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية 43 من سورة الحجر في ج 2، وأبصرت ملكا لم يضحك في وجهي، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا مالك خازن جهنم، وكأنه عرف المغزى من سؤاله، فقال هذا لم يضحك منذ خلقه الله، ولو ضحك لأحد لضحك إليك، فقال جبريل يا مالك هذا محمد فسلم عليه، قال فسلّم علي وهنأني بما صرت إليه من الكرامة. الرابعة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم إن الله تعالى أطلعني على ما فيها، فإذا فيها غضب الله وسخطه، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها وأريت فيها قوما يأكلون الجيف، فقلت من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أي يغتابونهم، وأريت فيها قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم، فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يحلقون بالله كذبا، وأريت جماعة من النساء علقن من شعورهن، فقلت من هن؟ قال اللاتي لا يستترن من غير محارمهن، ورأيت منهن جماعة لباسهن من القطران، فقلت من هن قال هؤلاء الذين ينحن على الأموات ويعددن صفاتهم. واعلم أن المنوح عليهم والمعدد صفاتهم ليس عليهم شيء إلا إذا أوصوا

بذلك فيكون عذابهم كعذابهم: الخامسة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم نزلنا من السماء الدنيا بالصورة التي صعدنا عليها، فرأيت أسفل منها هرجا ودخانا وأصواتا، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا الى العلامات ولا يتفكروا في ملكوت السموات، ولولا ذلك لرأوا العجائب مما سواه العظيم وأبدعه في هذا الكون، قال ونزلت على المعراج الى صخرة بيت المقدس التي ركبته منها (يدل هذا الذي أراه الله الى نبيه في الأرض والسماء وما بينهما من الجنة والنار على طريق ضرب المثل أن الجنة والنار مخلوقتان، خلافا لمن زعم عدم خلقهما ممن خالف الإجماع.) السادس والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم جيء لي بالبراق فركبته وتوجهت الى مكة في الصورة التي جئت فيها، حتى وصلت بيت أم هانىء الذي أسري بي منه، فنزلت وذهب جبريل ومن معه. وتمت هذه الرحلة المباركة على الوجه المار ذكره فقعدت حزينا، لأني اعرف أن الناس لا يصدقونني، ثم سألتني أم هانىء عن غيبتي، فقصصت عليها ذلك كلمه، فقالت يا ابن عم أنشدك الله لا تحدث بهذا قريشا فتكذبك، ومسكتني من ردائي لئلا أخرج من البيت، فانتزعته منها وخرجت حتى انتهيت إلى قريش بالحطيم، فقال أبو جهل هل من خبر؟ استهزاء، قلت نعم، قال ما هو؟ قلت أسري بي الليلة إلى البيت المقدس (فلم ينكر عليه مخافة أن لا يحدث بذلك) وقال لي أتحدث قومك بهذا إذا آتيتك بهم؟ وذلك لأنه استعظم ما سمعه منه وعرف أن أحدا لا يصدقه بذلك، قلت نعم، قال فسكت مخافة أن أجحده، قاتله الله كيف وهو الصادق المصدوق، فذهب عليه اللعنة الى مجمع الناس وصاح بأعلى صوته يا معشر كعب بن لؤي، فانقضت إليه المجالس من كل جهة، حتى اجتمعوا فجاء بهم إليّ، وقال حدثتهم بما حدثتني به، فقص عليهم إسراءه، فقال أبو جهل صف لنا الأنبياء الذين صليت بهم في بيت المقدس، فوصف صلّى الله عليه وسلم لهم الأنبياء واحدا واحدا، وهذه المعجزة السابعة والستون إذ جعل الله تعالى صورهم أمامه نصب عينه كما رآهم هناك حتى صار ينظر إليهم ويصفهم واحدا واحدا، لم يخطىء بواحد منهم، قال فضجوا إعجابا بما ذكر وإنكارا وحلفوا بلاتهم أن لا يصدقوه، وقالوا إنا نضرب آباط الإبل شهرين ذهابا وإيابا من مكة الى البيت المقدس، فكيف تقطع هذه ت (28)

المسافة بجزء من الليل، وذلك لجهلهم بقدرة الله وكرامة هذا النبي عنده، وارتد أناس ممن كان آمن به لقلة إيمانه، لأن ما سمعوه منه لم تقبله عقولهم القاصرة، وهذا سبب خوف أم هانىء رضي الله عنها وإصرارها على حضرة الرسول أن لا يحدث قريشا يقصته، ولكنه صلّى الله عليه وسلم لا تأخذه بالحق لومة لائم. ثم أن قريشا أخبرت أبا بكر بذلك ليستعظمه ويعذر المرتدين فقال لهم إن كان قال هذا فلقد صدق (انظروا أيها الناس هذا الإيمان العظيم إذ صدقه على أخبار أعدائه قبل ان يسمع منه) قالوا أتصدقه يا أبا بكر على طريق الاستفهام الإنكاري استعظاما لما قاله لهم؟ قال أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه على خبر السماء في غدوة كل يوم وروحة، لأنه أمين الله، فسمي الصديق مبالغة من كثرة صدقه وتصديقه لحضرة الرسول، وشرف بهذا اللقب الجليل من ذلك اليوم، وهي منقبة وكرامة له ومعجزة لحبيبه صلّى الله عليه وسلم لأن هذه التسمية من قبل الله تعالى وهي المعجزة الثامنة والستون. ثم إن قريشا؟؟؟ على محمد صلّى الله عليه وسلم وطلبت منه دليلا آخر على إسرائه غير وصف الأنبياء، فقالوا صف لنا بيت المقدس، أرادوا بذلك أن يأثروا عليه كذبا إذا أخطأ في وصفه لأنهم يعلمون أنه لم يره قط، وفيهم من يعرفه لزيارته له، فشرع صلّى الله عليه وسلم يقصه لهم أولا بأول وهم يقولون صدقت صدقت حتى توقف في بقية أوصافه، فلحقته كربة لم ير مثلها في حياته، فأغاثه ربه وجلّى له بيت المقدس (وذلك بأن كشف له الحجاب فيما بينه وبينه حتى رآه وهو في مكانه، أو أن الله تعالى أعدمه هناك وأوجده أمامه في تلك اللحظة يؤيد هذا ما روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي واحمد عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه وقال صلّى الله عليه وسلم ثم أعاده لمكانه كما أوضحناه في أمر عرش بلقيس في الآية 39 من سورة النمل المارة فراجعها وراجع الآية 85 من سورة ق المارة، بحيث لا يحس به أحد غيره ولا شيء على الله بمحال فسرّ صلّى الله عليه وسلم سرورا لم يره في حياته بسبب نظر الله إليه عند ضيقه هذا وصار ينظر إليه ويصفه لهم حتى جاء على جميعه، فقالوا أصبت ولكن يحتمل أنك حفظت أوصافه من الناس. التاسعة والستون ثم قالوا له ائتنا بآية ثالثة على ذلك

محسوسة غير قابلة للتأويل، فقال لهم اني مررت حين ذهابي بعير لبني فلان بوادي كذا في الروحاء (محل قريب من المدينة) ورأيتهم قد ضلوا بعيرا لهم فانتهيت الى رحالهم وإذا قدح فيه ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك (هذا وان شرب الماء بغير اذن مباح عندهم ولم يزل كذلك ولذلك شرب دون استيذان. مطلب انكار قريش وامتحانهم للرسول وحبس الشمس: فقالوا إن لنا عيرا آتية من بيت المقدس فاخبرنا عنها نصدقك فقال إني مررت بعيركم في التنعيم (محل قريب من مكة) فقالوا صفه لنا فوصفه لهم وبين عدد جمالهم وقال إنها تطلع عليكم مع طلوع الشمس أي في اليوم التالي يتقدمها جمل أورق (هو الأبيض المائل للسواد) عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أي (فيها بياض وسواد) . فهذه آيتان محسوستان لكم بدلا من الواحدة إن كنتم تؤمنون. قالوا له ننظر، فذهبوا حتى إذا أدبر الليل ابتدروا وتسابقوا الى الثنية يتراءون العير فلما قرب طلوع الشمس قال قائلهم هذه والله الشمس قد طلعت ولم تر العير فأين قول محمد صلّى الله عليه وسلم، فلم يقض قوله إلا وقد قال الآخر هذه والله العير قد أقبلت وقد صدق محمد صلّى الله عليه وسلم وها هي يتقدمها جمل أورق وعليه الغرارتان كما ذكر محمد صلّى الله عليه وسلم. قيل في هذه الحادثة إن الشمس تأخرت عن زمن طلوعها مدة حتى أقبلت العير ورأوها ثم طلعت وهذه تمام السبعين معجزة في هذه المرحلة المباركة وهذا آخر ما اطلعنا عليه في هذه الحادثة الجليلة من المعجزات وقد تبلغ الى التسعين إذا عدت منفردة لأنا جمعنا ما رأى في الجنة وما رأى في النار باعتبار كل منها معجزة وهي معجزات كثيرة ومعجزاته صلّى الله عليه وسلم لا تعد ولا تحصى ولا يستبعدها إلا الأحمق الجاهل يقدر حضرة الرسول ومكانته صلّى الله عليه وسلم عند الله. واعلم أن الشمس حبست لسيدنا داود ولسليمان ويوشع وموسى ولا يقال إن حبسها مشكل لأنه يختلف فيه سير الأفلاك ويفسد فيه نظام جريانها لأن هذا من المعجزات وهي من الأمور الخارقة للعادة ولا مجال للقياس في خرق العادة وقد وقع له صلّى الله عليه وسلم رجوع الشمس بعد غروبها في خيبر فقد جاء عن اسماء بنت عميس قالت كان عليه الصلاة والسلام يوحى إليه ورأسه الشريف في حجر علي كرم الله وجهه ولم يسر عنه حتى غربت الشمس ولم يصل العصر علي فقال صلّى الله عليه وسلم أصليت العصر يا علي

قال لا فقال صلّى الله عليه وسلم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت حتى صلّى علي كرم الله وجهه العصر ثم غربت ثانيا، ووقع له هذا أيضا أيام حفر الخندق وهذا من أعلام النبوة فاعتقد أيها القارئ وافهم لك حكمة الباري واحفظ ما لنبيّه عنده من الكرامة وتيقن قبل أن تحيق الندامة راجع الآية 33 من سورة ص وأول سورة القمر ففيها ما يشفي الغليل ويثلج الصدر هذا ولما تجلى لقريش ذلك كله تاب المرتدون ورجعوا إلى الإيمان وأصر المشركون على إنكارهم. وقالوا سحرنا محمد وتواطئوا على هذه الكلمة قاتلهم الله وأخزاهم وقد استغرقت رحلته عليه السلام أربع ساعات زمانية وهي وما رآه في رحلته هذه من المعجزات المارة الذكر قد خصّه الله بها إذ ليس بطوق البشر الحصول على جزء منها واعلم أرشدك الله ومكّن إيمانك ان الله تعالى جلت قدرته قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الزمن الطويل والمسافة البعيدة لمن يشاء وهو أهون عليه وله المثل الأعلى. وبهذه المناسبة نذكر ما وقع لبعض الأفاضل في بغداد وكان يعظ الناس بعد العصر فجاءت سحابة فغطت الشمس فظنوا أنها غابت وأرادوا الانصراف فأشار إليهم ان لا ينصرفوا ثم انحرف لجهة العرب وقال: لا تغربي يا شمس حتى ينتهي ... مدحي لآل المصطفى ولنجله إن كان له ولى وقوفك فليكن ... هذا الوقوف لولده ولنسله فلم ينته إلا والشمس قد طلعت، فرمى عليه من الذهب ما أثقله حمله، وهي اتفاقية لا معجزة ولا كرامة. مطلب في دوران الشمس والأرض والدّم وحكاية اتفاقية وان الاسراء اسراءان وغيره: واعلم أن الفلكيين قالوا إن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى بتحوير الأرض عنه في أقل من ثانية، والثانية جزء من ستين جزءا من الدقيقة، والدقيقة جزء من ستين جزءا من الساعة والساعة خمس عشرة درجة فلكية، لأن كل درجة أربع دقائق، فإذا كانت هذه السرعة ممكنة في الجمادات فكيف لا تكون ممكنة في أشرف المخلوقات؟ على أن القلب يسير بصاحبه من

الشرق الى الغرب بل في جميع أنحاء العالم بلحظة واحدة بسبب لطافته ويدور الدم في الوجود كله ويرجع لمركزه بالدقيقة الواحدة ما يزيد على سبعين مرة والقوة الكهربائية تصل من الشرق إلى المغرب بلحظة، وإذا كان كذلك وهو كذلك أفلا يجوز أن يوجد الله تعالى تلك اللطافة والقوة بوجود المصطفى بقدرته البالغة؟ بلى، وهو على كل شيء قدير، وقدمنا آنفا في مبادئ هذه السورة ما يتعلق بهذا الإسراء وكونه يقظة، وفنّدنا ما يضاد هذه الأقوال بعد بيان المعجزة الخامسة أما ما جاء في حديث شريك من أن الاسراء وقع قبل الوحي رؤية فهو خطأ، وقد انتقد هذا الحديث الذي أخرجه البخاري جماعة من أهل العلم، وعلى فرض صحته يكون إسراءان واحد في المنام وقع له صلّى الله عليه وسلم توطئة وتيسرا لما تضعف عنه القوى البشرية من الأمور التي وقعت في الثاني، وإليه الاشارة بقوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) إلخ الآية 6 الآتية من هذه السورة، وواحد في اليقظة بروحه وجسده وهو ما عليه الجمهور، قال في الكشف هذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأحاديث والأخبار، وقدمنا في الآية 18 من سورة الجنّ ما له علاقة في هذا البحث فراجعه، وقدمنا في الآية (9) فما بعدها من سورة والنجم قول الزهري بأنه سنة خمس أي سنة نزولها وبينا أن هناك أقوالا بأكثر وأقل أعرضنا عنها لعدم التثبت من صحتها، وقد ذكرنا أيضا هناك الاشكال الذي حصل لنا بفرضية الصلاة، لأن الفقهاء أجمعوا على أنها فرضت سنة عشر ليلة الإسراء، وسورة النجم نزلت سنة خمس. واعلم أن ما ذكره النووي في الروضة من أنه وقع في السنة الحادية عشرة أي بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر فيه تسامح، لأنه اعتبر مبدأ التاريخ من شهر الولادة في 12 ربيع الأول سنة 1 منها والبعثة وقعت سنة 41 من ولادته في 27 رمضان والاسراء وقع في رجب سنة 51 قولا واحدا، فيكون على قول النووي عشر سنين وعشرة أشهر بتداخل السنتين المذكورتين وحساب طرفيهما، والحق أنه بعد البعثة بتسع سنين وعشرة أشهر لا عشرة أيام، لأن الكلمة مجمعة على أن الصلاة فرضت في السنة العاشرة كما أن الكلمة مجمعة على أنها فرضت ليلة الإسراء، فيكون

إذا صح ما قاله الزهري ان الله تعالى أخبر عن الإسراء الأول الذي وقع عند نزول سورة النجم. بنزول سورة الاسراء هذه، كما أن الهجرة الشريفة وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة عند نزول سورة العنكبوت، وقد أخبر الله عنها في سورة التوبة التي هي آخر ما نزل في المدينة، وكما أن فتح مكة رآه حضرة الرسول عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وحققه الله فعلا سنة ثمان منها، وقضايا أخرى كثيرة كحادثة الندوة وغيرها، فعلى هذا يكون سبب عدم التحدث بها كون عبادته إذ ذاك كانت خفية لقلة المسلمين وضعفهم، أو من قبيل ما تأخر حكمه عن نزوله، راجع تفسير سورة الكوثر المارة وما ترشدك اليه فيما تأخر حكمه عن نزوله وبالعكس، هذا والله أعلم وقد ذكرت غير مرة أنه لم يحصل لي إشكال ولله الحمد حتى الآن إلا في قضية فرضية الصلاة هل هي عند نزول سورة والنجم أو هذه السورة، وهل الإسراء وقع هناك أو هنا، ولهذا لم آل جهدا يتقبّل أقوال العلماء فيها، والسؤال أيضا من العلماء الموجودين والله ولي التوفيق. أما الأقوال الواقعة في يوم الإسراء فهي كثيرة أيضا ولا طائل تحتها لذلك قد صرفت النظر عن سردها اكتفاء بالأقوال المجمعة على أنه يوم السابع والعشرين من شهر رجب سنة 51 لبلوغها حد التواتر ثم نزل جبريل عليه السلام على حضرة الرسول ليعلمه أوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها وأول صلاة صلاها بحضرة الرسول صلاة الظهر وأمه جبريل بها كلها يومين يوم بأول أوقات الصلاة ويوم بآخرها مستقبلا صخرة بيت المقدس وقال له الوقت ما بين هذين الوقتين والصلاة في هذه الأوقات وعلى هذه الصيغة والصفة كما هي عليه الآن إلا أنها كانت ركعتين ركعتين فاقرت في السفر وزيدت الرباعيات في الحضر. ثم اعلم أن الصلاة على هذه الصفة من خصائص هذه الأمة ونبيّها، وكانت مفروضة على الأنبياء وأممهم متفرقة، وأول من صلّى الصبح آدم عليه السلام حين أهبط الى الأرض، ورأى ظلمة الليل وابتلاج الفجر بعده، وأول من صلّى الظهر ابراهيم عليه السلام حين فدى الله له ابنه إسماعيل، وأول من صلّى العصر يونس عليه السلام حينما نجاه الله من ظلمات البحر، وأول من صلّى المغرب عيسى عليه السلام حين شرفه الله بالإنجيل وأعطاه

إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وأول من صلّى العشاء موسى عليه السلام حين خرج من مدين وضل الطريق فكان هداه فيه، راجع الآية 30 من سورة القصص المارة. مطلب تعليم الرسول كيفية الصلاة وكونها من خصائص هذه الأمة والحكمة فيها: لكن صلاتهم ليست على هيئة صلاتنا هذه وعدد ركعاتها، إذ كل منهم أداها على النحو الذي ألهمه الله إياه، والحكمة في كونها خمسا لا يعلمها على الحقيقة إلا الله، وقيل لأن الحواس خمس وتقع المعاصي فيما بينها ليلا ونهارا، وقد أشار صلّى الله عليه وسلم الى هذا المعنى بقوله أرأيتم لو كان على باب أحدكم نهر جار ليغتسل منه منه في اليوم والليلة خمس مرات، أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا يا رسول الله، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. وقد سئل ابن عباس هل تجد الصلوات الخمس بالقرآن، قال نعم إن أوقاتها مبينة في قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الآية 18 من سورة الروم من ج 2، وكذلك من الآية 130 من سورة طه المارة، وكذلك في الآيتين 77 و 78 الآتيتين من هذه السورة، أما عدد ركعاتها فلم بشر إليه القرآن، وإنما ثبتت بفعل الرسول صلّى الله عليه وسلم وتعليمه وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل من نفسه بل بوحي من ربه القائل (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 7 من سورة الحشر في ج 3 وقال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) الآية 79 من سورة النساء من ج 3 أيضا قال تعالى «وآتينا موسى الكتاب» جملة واحدة منسوخا على الواح بخلاف القرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد فإنه أنزل بحوتا على قلبك بواسطة الملك وأوعينا كه بلغتك ووقّرناه في صدرك غير منسوخ على شىء لأنك أمي راجع بحث نزول القرآن في المقدمة «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» آل يعقوب الملقب بإسرائيل (أي صفوة الله من خلقه) ليهتدوا بهديه وقلنا لهم فيه «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» 2 تتكلون عليه في أموركم يا «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» في السفينة وانجيناه من الغرق حين لم يكن له من يتوكل عليه غيرنا «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» 3 لي يحمدني على طعامه وشرابه ولبسه واظلاله كثيرا ولهذا وصفه

بالشكر «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ» أعلمناهم في التوراة وقلنا لهم على لسان رسولهم وحيا «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ» التي بوأناكم إياها من الشام وبيت المقدس وأطرافهما بأنكم ستعملون فيها الشرور والمعاصي والعبث بالناس «مَرَّتَيْنِ» الأولى قتل شعيا وحبس أرميا عليهما السلام حين إنذراهم سخط الله تعالى إن لم يقلعوا ممّا هم عليه، والثانية قتل يحيى والتصدي لقتل عيسى عليهما السلام لما دعواهما إلى الله والدين الحق الذي عبثوا به وغيروا أحكامه، يقول الله تعالى وعزتي وجلالي لتفعلنّ ذلك «وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» 4 فتتكبرون على الناس وتظلمونهم وسنسلط عليكم من لا يرحمكم انتقاما لهم «فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما» أي العذاب الموقت المقدر لعقاب المرة الأولى لعدم ارتداعكم عن الإفساد واغتراركم بإمهال الله «بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا» مسخرين فيما نقضيه فيكم على أيديهم قالوا هو بختنصر الذي لم يعرف اسم أبيه، وكان عاملا على العراق لملك الأقاليم (لهراست ابن كى اجنود) وكان ذلك مشتغلا بقتال الترك فوجه بختنصر إلى بني إسرائيل وهذه الإضافة ليست للتشريف لأن الكافر ليس بأهل له ولكن من قبيل قوله تعالى: (كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) الآية 129 من الأنعام في ج 2، ولأنها جاءت باللام المفيدة للملك والكل مملوكون فلا محل للقول بأنها أي جملة (عبادا لنا) اضافة تشريفية البتة وعلى هذا ما ورد في الحديث القدسي (الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه) أي أنه آلة للانتقام فيكون المراد من الآية والحديث بيان كون هؤلاء المسلطين مظاهر لأسمائه تعالى المذل المنتقم الجبار ثم وصف هؤلاء العباد بأنهم «أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» في القتال أصحاب شوكة وبطش في الحرب لا يقاومون لشدة شكيمتهم وكثرة عددهم وعددهم الدال عليه التنوين «فَجاسُوا» أي يجوسون، وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه أي أنهم إذا جاءوكم لا يكتفون بقتل للقاتل منكم بل انهم يطوقون المنازل ويتحرون الفارين والمخبّئين لاستقصاء القتل والسلب والأسر، فلا يتركون أحدا من شرهم، ولهذا فإنهم يفتشون «خلال» بين وأواسط وأطراف «الدِّيارِ» الكائنة في بيت المقدس فيقتلون من عثروا عليه فيها من علمائهم وأحبارهم ووجهائهم غير مراعين حرمته ومن بجواره حتى إنهم ليخرّبون البيت نفسه ويحرفون

التوراة ويسلبون ويأسرون من عثروا عليه «وَكانَ» معروفا في أزلنا اجراء هذا العقاب الذي نوعدهم به في هذه القسوة الصارمة التي لا رحمة فيها ولا شفقة ولا مروءة «وعدا» منا أوحينا به إلى أنبيائهم، وأنذروهم به وخوفوهم غبّه ولم يمتثلوا ولهذا صار «مَفْعُولًا» 5 واقعا البتة لكونه قضاء مبرما من لدنا لا مردّ له، وكان ذلك كله، وانتهكوا حرماتهم أيضا وسبوا سبعين ألفا منهم، فجعلوهم أرقاء لهم «ثُمَّ» بعد هذا الحادث العظيم الفظيع «رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ» الغلبة والدولة بأن جعلنا لكم السلطة «عَلَيْهِمْ» أي على الذين تسلطوا عليكم وفعلوا ما فعلوا بكم إذ قتل بختنصر واستنقذ المسبيّين من دولته ورجعنا لكم الملك والسطوة في بيت المقدس وحواليه ورجعنا حالتكم إلى أحسن مما كانت عليه قبلا، يدل على هذا قوله تعالى «وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ» زيادة على ما كان عندكم وقويناكم وباركنا فيكم حتى صرتم أكثر عددا وغناء مما كنتم عليه قبل القتل والسبي والنهب «وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» 6 جيشا من عدوكم إذ ظهر لنا بعد إيقاع الذل فيكم والصغار عليكم وخلودكم إلى المسكنة وتمادي عدم الرحمة عليكم من عدوكم، أنكم تبتم ورجعتم إلى الطاعة والإيمان وتركتم الإفساد والعصيان وجزمتم على عدم العودة إلى الكفر بنعمنا وذلك كما قيل بعد مائة سنة كما سيأتي بالقصة بعد. واعلموا يا بني إسرائيل أنكم «إِنْ أَحْسَنْتُمْ» في هذه المرة فيما بينكم وبين الله وبين الناس وامتثلتم أوامر الله وأعرضتم عن نواهيه فيما بينكم وبين الله وخلقه من الآن فصاعدا عن إيمان صادق واخلاص وايقان وحسن نية، فتكونوا قد «أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» لأن فائدة الإحسان تعود عليكم ونفعه خاص بكم «وَإِنْ أَسَأْتُمْ» فيما بينكم وبين الله وبين خلقه، وانتهكتم حرماته ورجعتم على الإساءة الأولى واستمررتم عليها «فَلَها» فلأنفسكم تكون العاقبة السيئة خاصة، جزاء لإساءتكم المكررة ونقضكم عهد الله ورجوعكم إلى ما تبتم عنه، فعليكم من الآن أن تنتبهوا يا بني إسرائيل «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» أي عقابها المترتب على رجوعكم إلى المنكرات وعودكم إلى الإفساد في البلاد والعباد، بعد هذه النعمة التي مننّا بها عليكم، فاعلموا أن ما ينزل بكم أشد وأفظع وأكبر من العقاب الأول بدلالة قوله جل قوله وعزتي وجلالي

«لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ» بأن يوقعوا فيكم أفعالا عنيفة فظيعة تخزيكم خزيا يظهر أثر كآبته على وجوهكم بأكثر مما فعلوه بكم في المرة الأولى من الخزي والعار والهوان والذل والصغار «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ» عنوة فينتهكوا حرمته ويهدموه ويحرقوا ما فيه من الكتب والآثار ويقتلون من يحتمي به ومن في جواره من علماء وأحبار وربانيين وغيرهم «كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إذ فعلوا به وبكم ذلك ولم يرعوا له حرمة ولا لكم رحمة «وَلِيُتَبِّرُوا» يهلكوا ويمزقوا ويفتتوا «ما عَلَوْا» عليه من نفس ومال وبناء «تَتْبِيراً» 7 لم تتصوره عقولكم والتتبير في اللغة التهديم، قال الشاعر: وما الناس إلا عاملان فعامل ... يتبّر ما يبني وآخر رافع أي أنهم يهدمون البناء والبنية من كل ما غلبوا عليه. قال سعيد بن جبير التتبير كلمة نبطية بمعنى الهلاك، أي يهلكون كل ما استولوا عليه أو وصلت إليه أيديهم دون رأفة، ولكن بني إسرائيل أنستهم نعم الله الشكر فعادوا إلى ما نهوا عنه فسلط الله عليهم الفرس والروم فقتلوهم شر قتله وسبوهم أشنع سبي ونهبوهم أفظع نهب. مطلب واقعتا بني إسرائيل وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان: وخلاصة القصتين على ما ذكره الأخباريون من القصاص أن بني إسرائيل كانوا قبل داود عليه السلام، إذا ملك الله عليهم ملكا بعث معه نبيا يسدد أمره ويرشده، فلا يستبد بشيء دون مشورته، وكانوا تابعين لأحكام التوراة، إذ لم ينزل الله لهم كتابا بعدها إلى زمن عيسى عليه السلام، إذ أنزل عليه الإنجيل بتعديل بعض أحكامها فيما يختص بالمعاملات وفروع بعض العبادات أما ما يتعلق بأصول الدين الثلاثة الاعتراف بالإله الواحد والنبوة والرسالة والبعث والحساب، فمكلف بها جميع الخلق من نشأتهم إلى إبادتهم، لأنها لا تقبل التعديل ولا التأويل البتة، أما القاعدة الشرعية وهي تبدل الأحكام بتبدل الأزمان فهي خاصة بالمعاملات بين الناس فقط، أما ما يتعلق بالعبادات وفروعها فلا تبديل ولا تغير، على أنه قد يقع بعض تغير في فروع العبادات من حيث القلة والكثرة في العود والأوقات ونوع التوبة والعفو والقصاص ومقدار الزكاة ولزوم الحج والرخص والعزائم وشبهها كما سيأتي في الآية

37 فما بعدها من سورة الشورى في ج 2، قالوا لمّا صار الملك إلى رجل منهم يدعى صديقه بعث الله معه أشعيا عليه السلام نبيا وكان من جملة ما بشر به هذا النبي قومه (قوله أبشري أورشليم) يريد أرض سليمان لأن أور بمعنى أرض، وشليم بمعنى سليمان، إذ لا يوجد حرف السين بالعبراني، ولذلك يسمون موسى موشي وهي أراضي فلسطين المعروفة، الآن يأتيك راكب الحمار (يعني عيسى عليه السلام) ومن بعده صاحب البعير (يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم) قالوا وكانوا على أرغد عيش وأحسن حال ثم بعد زمان طويل كثرت فيهم الأحداث فغيروا وبدّلوا وطغوا وبغوا وكان ملكهم تمرض فجاءه النبي وقال له، إن سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة الف راية قد نزل بك وقد هابه جميع الناس خوفا منه، فقال يا نبي الله هل جاءك وحي من الله بشأني؟ فقال أوحى الله لي أن توصي وتستخلف من تشاء على ملكك، فإنك ميّت، فأقبل الملك على ربّه وصلى ودعا وتضرع وبكى بقلب مخلص قالوا فاستجاب الله دعائه وأوحى إلى نبيه بأنه أخر أجله خمس عشرة سنة، وان يجعل ماء التين على قرحته فيشفى، فأخبره النبي ففعل ما قاله له وشفي، ثم قال للنبي اسأل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع في عدونا، فأوحى الله إلى النبي أن يقول للملك إن الله تعالى بسبب إخلاصه كفاه شر عدوه، وانهم سيصبحون غدا كلهم موتى إلا سنجاريب وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فأخبر الملك بذلك وإذا بالصباح صوت الصارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فخرج الملك وبعد أن رأى فعل الله بعدوه أمر بإحضار سنجاريب والخمسة الباقين معه، فأحضروهم إلى قصره، فلما رآهم أذلاء أمامه خرّ لله ساجدا وبقي من الصبح إلى العصر، ثم رفع رأسه فإذا هم لا يزالون وقوفا فقال لسنجاريب كيف رأيت فعل ربنا بكم؟ فقال سنجاريب. أتانا خبره قبل أن نخرج إليكم ولم نطع المرشد، والقانا في الشقاء قلة عقولنا، فقال له الملك، إن الله تعالى لم يبقك وكتبتك إلا لتزدادوا شقاء في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما فعله ربنا فيكم، إذ أهلك جيوشكم كلها على غير علم منا ومنكم، فاذهبوا وأنذروا قومكم بذلك لئلا تحدثهم أنفسهم بغزونا ثانية، قالوا نفعل ثم

أمرهم وأذن لهم بالانصراف، فذهبوا ولما وصلوا بابل أخبروا قومهم بما وقع فيهم فجاء إليهم السحرة والكهان وقالوا قد أخبرناكم بربهم، فلم تقبلوا منا فكان ما كان ثم ان سنجاريب مات واستخلف بختنصر المار ذكره آنفا في الآية الخامسة، وما قيل أنه كان حفيد سنجاريب لم يتثبت من صحته، فقام بأمر قومه بعده، وقضى فيهم بقضائه، ثم بلغه أن مات ملك إسرائيل وأنهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا، ولم يصغوا إلى نبيهم ولم يسمعوا له قولا وأنهم لما شدّد عليهم بالوعظ والزجر والتهديد والتخويف عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فانفلقت له شجرة ودخل فيها فوضعوا المنشار على تلك الشجرة ونشروها حتى قطعوه في وسطها نصفين، وإن الملك كان استخلف عليهم ناشئة بن أحوص، ثم بعث الله لهم نبيّا ليسدّد أمرهم اسمه أرميا بن خليقائي من سبط هارون بن عمران. مطلب الواقعة الأولى على بني إسرائيل: ثم عظمت فيهم الأحداث وأكثروا الفساد فأوحى الله الى نبيهم أن يبلغهم سوء عاقبتهم ويذكرهم بأحوال الأمم السابقة المهلكة، وأسباب إهلاكهم وإنجاء المؤمنين منهم، وبين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وان ينذرهم بأن الله تعالى أقسم بعزته وجلاله أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه ويتوبوا الى الله ليقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، وليسلطن عليهم جبارا قاسيا يلبسه الهيبة وينزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، فأبلغهم ذلك نبيهم فلم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لقوله، فأوحى الله إلى نبيهم أرميا عليه السلام أبلغهم إني مهلكهم بيافث من أهل بابل، فقبضوا على نبيّهم وحبسوه بدل أن يسمعوا له ويطيعوه، فسلط الله عليهم بختنصر وأوقع في قلبه غزوهم، فخرج إليهم في ستمائة ألف راية من جنوده ووطئ بلادهم ودخل بيت المقدس، وقتل بني إسرائيل الذين هم فيه شر قتلة، وأدام القتل فيهم حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس وحرق ما فيه من كتب وأمر جنوده فملأوه ترابا، ثم أمرهم أن يجمعوا من بلاد القدس من بقي منهم، فجمعوهم وأحضروهم بين يديه فاختار منهم سبعين ألفا وقسمهم بين ملوكه، وخرج بهم والغنائم التي أخذها منهم وأثاث بيت المقدس، ثم فرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فرقة قتلهم وفرقة

سباهم وأسكن الثالثة بالشام، وتركهم وذهب لبلاده ظافرا، وهذه هي الواقعة الأولى التي حذر الله بني إسرائيل منها. قالوا ولما وصل بختنصر بمن معه بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقوم، رأى رؤيا عجيبة، وهي أنه رأى شيئا أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وجنايا وعزاريا وميشائيل من ذراري أنبياء بني إسرائيل الذين هم في جملة السبايا، وسألهم تأويل رؤياه، فقالوا أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، فقال لهم ما اذكرها لأني رأيت شيئا أنسانيها وكذلك نسيت الشيء الذي رأيته، فأنسانيها، ولم يبق شيء بفكري أبدا لا من الرؤيا ولا من الذي أنسانيها لشدة هول ما رأيت، ولئن لم تخبروني بتأويلها وبالذي أنسانيها لا نتزعن أكتافكم، فاستمهلوه وخرجوا من عنده فدعوا لله وتضرعوا إليه، فأوحى الله إليهم بها وبالذي أنساها له، فجاؤا إليه فقالوا له رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحلس وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد، قال صدقتم قالوا وبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستك ذلك، قال صدقتم فما تأويلها؟ قالوا إنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين من بعض ملكا، وبعضهم كان أشد ملكا، فالفخار أضعفه وفوقه النحاس أشد منه ثم الفضة أحسن منه وأفضل والذهب أحسن من الفضة وأفضل والحديد هو ملكك، فهذا أشد وأعز مما قبله لأنه آلة الحرب وقوام النصر يكون فيه، والصخرة التي رأيت أرسلها الله من السماء فدقته فنبيّ يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه شئت أم أبيت، قالوا فسكت وأذعن ولم ينبس بشيء لأنه كان حاضرا واقعة سنجاريب المارّة آنفا ووقر في قلبه أن الله تعالى يغتار لأنبيائه وقد صدقهم لأنهم أخبروه بشيء لا يعلمونه، وانهم علموه بإعلام الله إياهم، فتركهم ولم يكلمهم، قالوا ثم ان أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء الغلمان الإسرائيليين، فإنا قد أنكرنا نساءنا منا منذ كانوا معنا حيث انصرفت وجوههن عنا إليهم، فاخرجهم من بين أظهرنا واقتلهم، فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من عنده فليفعل، أما أنا فلا أفعل بهم شيئا فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا الى الله عز وجل فوعدهم الله أن يحييهم، قالوا فقتلوهم إلا من كان عند

بختنصر، ثم لما أراد الله تعالى إهلاك بختنصر انبعث فقال لمن عنده من بني إسرائيل أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين قتلتهم منكم، قالوا البيت لله ومن قتلت أهله كانوا من وزراء الأنبياء، فظلموا وتعدوا حدود الله فسلطك ربك وربهم رب السموات والأرض عليهم بذنوبهم فهلكوا، فلم يعجبه قولهم لأنهم لم يسندوا له شيئا من ذلك ولم يصفوه بصفة أو عزة، فدخل إبليس في أنفه فاستكبر وتجبر وظن أنه فعل ما فعل بقوته وسلطانه، فقال أخبروني كيف أطلع الى السماء فأقتل من فيها وأدخلها في ملكي لأني قد فرغت من أهل الأرض (ومن هنا، قيل ملك الأرض أربعة كافران بختنصر ونمروذ، ومؤمنان سليمان وذو القرنين) . قالوا لن تقدر على هذا، قال لتفعلن أو لاقتلنكم عن آخركم، فبكوا وتضرعوا الى الله تعالى قالوا فبعث الله عز وجل على بختنصر بعوضة دخلت في منخره حتى عضت أم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجا له رأسه أي يضرب على فم؟؟؟ دماغه، ولم يزل كذلك حتى مات، فشقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري الله العباد قدرته بأن أهلكه بأضعف خلقه كما أهلك أخاه النمروذ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردهم الى الشام، فنموا وكثروا وتحولوا حتى صاروا على حالة أحسن مما كانوا عليها قبل، وزعموا أن الله تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا في بابل ولحقوا بهم إلا أنه لم يكن عندهم من الله عهد يرجعون إليه في أموره، لأن التوراة أحرقت وكذلك بقية الصحف مما كان في البيت، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع معهم الى الشام صار يبكي ليله ونهاره وخرج عن الناس، فجاءه رجل فقال له ما يبكيك، قال ابكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا لأنه لا يصلح ديننا ودنيانا غيره، قال أن يردهم الله عليك؟ قال نعم قال ارجع الى بيتك فصم وتطهر وطهر ثيابك وموعدك هذا المكان غدا، فرجع الى بيته وفعل ما أمره به ذلك الرجل، ثم عمد ورجع الى المكان الذي وعده به، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وهو ملك بعثه الله إليه فسقاه فتمثلث التوراة في صدره، فرجع الى قومه فأملى لهم التوراة من صدره وكان منهم من يعرفها فأحبوه حبا شديدا وعملوا بها وصار حالهم على أحسن ما يرام، وهو معنى قوله تعالى (ثُمَّ

رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) الآية المارة، ثم قبض الله روح عزير عليه السلام فطال عليهم الأمر في الراحة والعبادة وانقلب أمرهم الى الفساد وصاروا كلما جاءهم نبي كذبوه وأحدثوا الأحداث العاطلة وطغوا وبغوا وعمدوا الى قتل الأنبياء الذين ينهونهم ويحذرونهم عاقبة أمرهم، وصاروا يقتلون الأنبياء بغير حق، وآخر أنبيائهم زكريا عليه السلام هرب منهم لما أرادوا قتله إلى شجرة هناك، فدخلها فنشروه نصفين فيها كما فعلوا بأشعيا، وتصدوا لقتل عيسى عليه السلام لتحق عليهم كلمة العذاب فوقاه الله منهم ورفعه الى السماء وألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه فقتلوه على ظنهم أنه هو عيسى ابن مريم كما سيأتي تفصيله في الآية 54 فما بعدها من سورة آل عمران والآية 156 فما بعدها من سورة النساء من ج 3 فاستحقوا عذاب الله وسخطه الذي وعدهم به للمرة الثانية: مطلب الواقعة الثانية على بني إسرائيل: فبعث الله عليهم ملك ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بملوكه وجيوشه حتى دخل الشام وظهر عليهم فأفناهم قتلا وأسرا ونهبا وأمر قائده أن يديم القتل فيهم في بيت المقدس حتى يسيل الدم في وسط المعسكر، وقال له اني حلفت بإلهي أن أفعل فيهم هكذا إن ظفرت بهم، فدخل القائد واسمه بيور زاذان المدينة، وصار يقتل فيهم فرأى في البقعة التي يقربون فيها القرابين أي يذبحون فيها الصدقات دما يغلي، فسألهم عنه فقالوا هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك صار يغلي وانا منذ نمنمئة سنة لقرب القرابين فتقبل منا إلا هذا، فقال ما صدقتموني، فقالوا لو كان أولى زماننا لقبل ولكن انقطع عنا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل فلم يصدقهم. فذبح على ذلك الدم سبعمئة وسبعين روحا من رؤسائهم، فلم يهدأ الدم فذبح سبعمئة غلام منهم، فلم يهدأ أيضا فذبح سبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فلم يهدأ، فقال لهم ويلكم أصدقوني عن هذا الدم قبل أن أفنيكم فلا أترك منكم أحدا، فلما رأوا الجهد وشدة القتل وتصميمه على ما قال قالوا له هذا دم نبي كان ينهانا عن سخط الله ويأمرنا بالخير ويهددنا ما أوقعتموه فينا الآن فلم نصدقه وقتلناه واسمه يحيى بن زكريا، فقال الآن صدقتم لمثل هذا ينتقم الله منكم، فأمر بإغلاق المدينة وإخراج

من كان معه من الجيش وخرّ ساجدا لله تعالى، ثم رفع رأسه وخلا في نبي إسرائيل وقال يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ومن قتل منهم، فاهدا بإذن الله ربك قبل أن أهلكهم جميعا، فإني مكلف من قبل الملك خردوش بإدامة القتل حتى يسيل الدم إلى معسكره، قالوا فهدأ الدم بإذن الله تعالى ورفع بيور زاذان عنهم القتل وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أن لا رب غيره، ثم التفت إلى بني إسرائيل وقال لهم إني لا أستطيع مخالفة الملك من لزوم إسالة الدم إلى معسكره، قالوا افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا وأمرهم بذبح البقر والحمير والأنعام فذبحوها وأجرى دمها حتى سال إلى المعسكر، ثم امر بالقتلى فطرحوا فوق تلك الحيوانات حتى إذا كشف الملك لا يظن أنه فعل ما فعل من الحيلة خلافا لأمره فيغضب عليه، فلما رأى خردوش الدم وصل إلى المعسكر بعث إليه أن إرفع عنهم القتل، ثم أخذ جنوده وغنائمه وعاد إلى ملكه، وكاد أن يفني بني إسرائيل عن بكرة أبيهم في هذه الواقعة لولا الحيلة التي فعلها القائد رحمه الله، وهذه الواقعة الأخيرة وهي أعظم من الأولى وقد انتقل الملك إلى الشام ونواحيها وإلى الأردن بسبب خراب القدس وضواحيها في هذه الواقعة وسلب الله منهم ما أنعم به عليهم من أموال وأولاد وملك، وشتتهم في البلاد فلم تقم لهم راية بعد ذلك، إذ تعقبهم طيطوس بن اسبانوش الرومي فخرب ما بقي من بلادهم، وطردهم عنها، ونزع منهم بقية الملك والرئاسة، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبقوا مشتنين في المدن والقرى وأينما حلوا حل بهم الصغار وفرضت عليهم الجزية، وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعمره المسلمون بأمره في خلافته، ثم جدده على ما هو عليه الآن سليمان بن عبد الملك وابنه الوليد. مطلب قتل يحيى عليه السلام: قالوا والسبب في قتل يحيى أن ملكهم في زمنه كان يكرمه ويجلس معه ويدنيه منه، وأن الملك هوي بنت أخيه التي أمها زوجته فسأل يحيى أن يتزوجها فنهاه عن نكاحها لأنها لا تحل له، فبلغ أمها ذلك فحقدت على يحيى وعمدت ذات يوم حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابها وزينتها وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وأمرتها

تسقيه، فإذا راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإن أعطاها سألت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق، ففعلت فلما راودها قالت له لا أوافقك؟؟؟ تعطيني ما سألت، قال فما تسألين؟ قالت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق، قال سلي غير هذا، قالت لا أريد غيره، فلما أبت عليه وقد لهبت الشهوة في نفسه الخبيثة أجاب طلبها وأمر بذلك، فذهبت شرطنه فأمسكوا به وذبحوه وأتوا به في طست، فوضع بين يديه، فلما رآه تكلم الرأس فقال لا يحلّ لك زواجها، يصغ له لاستيلاء النفس البهيمية على جوارحه فواقعها، ولما أصبح رأى دمه يغلي محل ذبح القرابين، فأمر بإلقاء التراب عليه، وكلما وضع عليه التراب رقى الدم، زال يلقى عليه التراب وهو يغلي حتى سلط الله عليهم ملك بابل وفعل ما فعل. جاء في الإنجيل ما يقارب هذا، وان الملك اسمه هيدوريا، إلا أنه جاء فيه أن أة ظعينة، راجع الاصحاح 14 من إنجيل متى، وكذلك بقية الأناجيل الثلاثة حنا ومرقس ولوقا تؤيد بأنها ظعينة، أما القرآن العظيم فلم يتعرض لهذا البحث. تعالى «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ» بعد هذه المرة الثانية إن تبتم وأنبتم؟؟؟ سكتم بكتابكم وأوامر نبيكم، فيردّ عليكم الدولة ويمددكم بأموال وبنين كما فعل «وَإِنْ عُدْتُمْ» يا بني إسرائيل إلى المعاصي كأسلافكم «عُدْنا» إلى تجديد بكم بأكثر من ذي قبل، وقد عادوا قاتلهم الله بعد قتل يحيى والتصدي لقتل؟؟؟ عليهما السلام، فطغوا وبغوا، فسلط عليهم المؤمنين قوم محمد صلّى الله عليه وسلم واقتحموا هم وفتحوها عنوة وأرغموهم على الجلاء منها، وأذلّوهم وأجبروهم على أداء الجزية أن قتلوا منهم ما قتلوا، وشتتوا بالبلاد، وحرمهم الله نعمة الملك والنبوة،؟؟؟ طع رجاءهم منها، وسيدوم الصغار عليهم إن شاء الله إلى خروج مسيحهم الدجال؟؟؟ كون على يدي جيش عيسى بن مريم عليه السلام. وان ما يتفوهون به من؟؟؟ ور ومساعدة الإنكليز لهم على تنفيذه لا يتيسر لهم إن شاء الله كما يريدون تعاون المسلمون ووحدوا كلمتهم، أما إذا تفرقوا فلا بد أن يسلطه الله عليهم؟؟؟ الجماعة رحمة والفرقة عذاب. ومهما تيقن اليهود تحقيق حلمهم فإنهم سيبقون؟؟؟ ذل من يساعدهم على انجاز ذلك الوعد لا أنجزه الله لهم، ومهما كان فإنه

[سورة الإسراء (17) : الآيات 11 إلى 20]

لا يدوم وسيوقع الله بهم ما أوقعه بأسلافهم لأنهم عنصر شر ويأبى الله للشر أن يدوم، ومعول ظلم ويأبي كرم الله إقراره، راجع الآية 167 من سورة الأعراف المارة، «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» 8 سجنا يوم القيامة، وقد نطقت به العرب قال لبيد: ومقامة غلب الرقاب كأنهم ... جن على باب الحصير قيام والمقامة الجماعة، قال: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... كأنّما النور منها ثمّ ينبثق وغلب في البيت الأول معناه غلظ، والمراد أن عذابهم هذا بالقتل والي والذل والقهر والحقارة والصغار ما داموا على ما هم عليه في الدنيا وفي الآخرة، فإن موعدهم جهنم لا مخلص لهم منها أبدا، قال تعالى «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المنزل عليك يا سيد الرسل «يَهْدِي لِلَّتِي» الطريقة هِيَ «أَقْوَمُ» أعدل وأصوب من الطرق الأولى قبلها «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ» عند الله في الآخرة «أَجْراً كَبِيراً» 9 جزاء أعمالهم الكريمة، وهذا الأجر هو الجنة ونعيمها ولا أكبر منه أبدا «وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» في حياتهم الدنيا وينكرون وجودها ويكذبون من أخبرهم بها «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» 10 في الآخرة هو جهنم التي لا آلم من عذابها، قال تعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ» جنسه وأسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه، وحذفت واو يدع لفظا دون جازم لأنها تحذف في الوصل لاجتماع الساكنين وتحذف بالوقف وهي مرادة معنى حملا للوقوف على الوصل، أي أن بعض أفراد الإنسان حال غضبه يدعو على نفسه «بِالشَّرِّ» وقد يتعدى بدعائه على ماله وولده وقومه بالهلاك واللعن «دُعاءَهُ» مثل دعاءه «بِالْخَيْرِ» لنفسه وولده وماله وعشيرته عند الرضاء بطلب البقاء لهم وطول البركة فيهم، وهذا ناشىء من عدم تأنيه وتؤدته «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» 11 يتسرع بالأمر تسرع الغافل إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضره لا يتبصر بعاقبة أمره، والآية عامة في كل إنسان هذا ديدنه، وخصه بعض المفسرين بالكافر بأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل بطلب نزوله

سخرية، كدعائه بالخير إذا مسته الشدة حقيقة، على أن العذاب آتيه لا محالة استعجل به أم لا، سخر فيه أم لا، فإذا فاته عذاب الدنيا لحقه عذاب الآخرة، وقال ابن عباس نزلت في النضر بن الحارث إذ قال (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي يقوله محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية 33 من الأنفال في ج 3، وقال إنّ الله أجاب دعاءه وقيض له من ضرب عنقه وقتل صبرا، إلا أنه غير وجيه، لأن هذه الآية لم تنزل بعد، وهناك أقوال أنها بحق آدم عليه السلام، ولكن لا يوثق بصحتها، لذلك فإن ما جرينا عليه من الإطلاق أولى ليدخل فيها كل من هذا شأنه وأنسب بالمقام قال تعالى «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» هذا شروع في بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالدلائل الآفاقية، لأن الله تعالى قال هنا (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) إلخ الآية المارة، وقال في حقه صلّى الله عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 53 من الشورى في ج 2، أي الطريق الأمثل السوي. فقد وصف الله كتابه ورسوله بأنهما يدعوان الناس لأن يهتدوا بالطريقة القيّمة المستقيمة إلى الدين القيم السويّ، ولا يراد بالتفضيل هذا اسم للتفضيل على معنى أنها أفضل من غيرها، إذ لا مشاركة بين ما يهدي إليه القرآن وبين ما يهدي إليه غيره، فالمراد بالأقوم القيم على حد قوله تعالى (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) الآية 3 من سورة البينة في ج 3، (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الآية 5 منها، وهو على حدّ قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الآية 27 من سورة الروم في ج 2، فهو بمعنى هين، إذ لا شيء على الله أهون من غيره في الخلق والصنع والإبداع، بل كلها عنده سواء، والمعنى أن قومك يا أكرم الرسل يأبون الملة الحسنى ويريدون التي ألوم وهي عبادة الأصنام التي يكثر لومهم عليها في الدنيا والآخرة، ويستعجلون بطلب نزول العذاب ويدعون على أنفسهم بالشر وهم تائهون في ذلك. هذا وقد جاء النهي صريحا في المنع من دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله، فقد أخرج ابو داود والبذار عن جابر قال قال رسول صلّى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم، لئلا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم. أما ما وقع من أن حضرة الرسول دعا على بعض أهله فهو للزجر، فعلى العاقل أن يتجنب

الدعاء بالشّر ولو كان حال غضبه لئلا بصادف ساعة الإجابة فيندم ولات حين ندم، وعدا عن هذا فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام انه قال: اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرض كما يرضى البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة. ولأن غضبة صلّى الله عليه وسلم ليس بخارج عن حكم الشرع لأنه لا يغضب إلا لله كما أن رضاء. لا يكون إلا لله، وهو مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» العظيمة الدالة على قدرتنا والناشئ عنها مصالح العباد التي لا تتم إلا بها، لأن القرآن كما أوصل الى الخلق نعم الدين فيوصل في هذا الكوكب إليهم ما يكمل به نعم الدنيا. مطلب الشمس والقمر والفصول الأربعة والليل والنهار وساعاتهما: والمراد بالمحو هو عدم جعل قوة القمر بالإضائة مثل الشمس «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ» التي هي الشمس «مُبْصِرَةً» مضيئة جدا يبصر فيها كل شيء، ولولا ذلك لما علم الليل من النهار ولا عرف الحساب ولتعطلت الأمور، فالنهار آية عظيمة دالة على قدرة الله مكملة نعم الدنيا، وقد أودع الله تعالى فيها ما أودع من منافع، راجع الآية 37 من سورة يس المارة، وما ترشدك إليه من الآيات قال ابن عباس جعل الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك، فمحا من نور القمر تسعة وستين فجعلها مع نور الشمس، وقال بعض المفسرين إن الإضافة بيانية فيكون المعنى فمحونا الآية التي هي الليل فجعلناها مطموسة مظلمة لا يبصر بها، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة تبصر فيها الأشياء إلا أن ظاهر الآية يؤيد الأول الذي جرينا عليه، لأنه الحقيقة ولا يعدل عنها بلا ضرورة هنا، لا سيما وقد ورد الأثر به، فقد أخرج عبد ابن حميد وغيره عن عكرمة ما قاله ابن عباس بزيادة فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزأ والقمر على جزء واحد، وهذه النسبة بالنظر لقوة الضياء ما بين الشمس والقمر، وإلا فالشمس من حيث الحجم أكثر بكثير من القمر كالبعد منه بالنسبة للأرض، ولا يعلم كنهها على ما هي عليه حقا إلا الله، لأن تقدير الفلكيين عبارة عن ظن وتخمين ليس إلا مهما بالغوا وقالوا، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال كانت شمس بالليل وشمس بالنهار

فمحا الله شمس الليل فهو المحو الذي في القمر، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد البصري ان عبد الله بن سلام سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر فقال كان شمسين وقال قال الله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) فالسواد الذي رأيت هو المحو هذا وأنت عليم انه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يدعى أن غيره أولى، ثم بين الله تعالى سببا ظاهريا بالنّسبة لما يدخل في عقول الذين لم يتطرقوا الى الأسباب الأخرى التي هي من العلم الذي علمه الله تعالى لرسوله ولم يأمره بتبليغه كما مر في المعجزة الثامنة والخمسين قال تعالى «لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» فيه من طلب المعاش وغيره، إذ لا يتسنى ذلك لكم في الليل بسبب ابتغائكم الراحة فيه «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» بسبب اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بانتظام بديع لا يتغير، فتعرفوا المواسم وأوقات الحج ومواقيت السحر والإفطار بالصوم ومواعيد حلول آجال ديونكم واجاراتكم، ومدد المعاهدات التي تضربونها بينكم، فالعدد للسنين والحساب للشهور والأيام والساعات، ولا بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار، على أن اختلاف القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل المدّ والجزر، ومثل أحوال البحرانات، وللفلاسفة في بحث محو القمر كلام طويل لا محل له هنا، وللأثريين فيه أقوال متخالفة، فمنهم من هو منهمك في وسائل الوصول إليه للوقوف محلى ما يتخيلونه فيه، ولعمري أن جل ما يقولونه مبني على الحدس والحدس خطأه أكثر من صوابه، لذلك لم نذكر شيئا مما قالوه فيه ومن أراد استيفاء البحث فيه فليراجع كتبهم، ومنهم من يتكهن فيه وبما فيه، ومنهم من اشتغل بنوره وكيفية اقتباسه من الشمس وبعده وقربه منها الى غير ذلك، هذا وقد عبّر الله تعالى عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء، لأن العبد لا تأثير له في تحصيل الرزق إلا بالطلب، والإعطاء منوط بالله تعالى بطريق التفضل لا بالوجوب وتأثير الطلب مثل تأثير الأسباب العادية لا تتوقف حقيقة الرزق عليه، وقد جاء في الخبر يطلبك أجلك. ولله در القائل:

لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعيبني تطلبه ... ولو قعدت؟؟؟ لا يعييني وإنما قال تعالى لتعلموا بلام التعليل لما قبله من الليل والنهار، لأن الحساب نوعان شمسي وقمري، فما هو خاص بالأمور التعبدية كالحج والأهلية فهو قمريّ قال تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية 189 من البقرة في ج 3 وما يتعلق بالأمور الدنيوية فيجوز بالقمري والشمسي، هذا واعلم أن العرب قديما قسموا النهار الى اثنتي عشرة ساعة وسموا الأولى الذّرور، والثانية البزوغ، والثالثة الضحى، والرابعة الغزالة، والخامسة الهاجرة، والسادسة الزوال، والسابعة الدلوك، والثامنة العصر، والتاسعة الأصيل، والعاشرة الغيور، الحادية عشرة الحدور، والثانية عشرة الغروب، ومنهم من سمى الأولى البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرّاد ثم الضحى ثم المنوع ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر فالطفل فالعشي فالغروب. وقسمو الليل الى اثنتي عشرة ساعة أيضا فسموا الأولى الشاهد، والثانية الغسق، والثالثة القمة، والرابعة الفحمة، والخامسة الموهن، والسادسة القطع، والسابعة الجوشن، والثامنة الهتكة، والتاسعة التباشير، والعاشرة الفجر الأول، والحادي عشرة الفجر الثاني، والثانية عشرة الفجر المعترض، وقسمت الشهور الاثني عشر الى ثلاثين وتسعة وعشرين، وسمت كل ثلاثة أيام باسمه، فالأولى هلال، والثانية قمر، والثالثة بهر، والرابعة زهر، والخامسة بيض، والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة حنادس، والتاسعة دآدي، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار، وسموا الشهور المتعارف عندنا أسماؤها الآن لمعان متعارفة عندنا، فالمحرم كانوا يحرمون فيه القتال، وصفر كانوا يغيرون فيه على بلاد الصفرية، والربيعان كانوا يحصلون فيها ما أصابوه في صفر، والجماد إن كانت تسميتها زمن جمود الماء من شدة البرد، ورجب من الترجيب أي التعظيم، فإنهم لا يقاتلون فيه، وشعبان لتشعبهم فيه من كثرة الغارات بعضهم على بعض بعد ما كانت محرمة في رجب، ورمضان صادفت تسميته الحر الشديد أخذا من الرمضاء أي الحرارة القوية، وشوال كانوا يتعاهدون فيه إبلهم لأنه أول أشهر الحج أخذا من قولهم شالت الإبل بأذنابها تحضيرا للسفر،

وذو القعدة لقعودهم فيه عن القتال لأنه من الأشهر الحرم، وذو الحجة لوقوع الحج فيه، وكانوا يجرون حسابهم من عقود وغيرها بالأشهر العربية من رؤية هلال كذا الى رؤية هلال كذا، ولما كانت المواسم العربية لا تعين الشهور الأربعة لأنها تقع كلها بدوران السنين وكانوا بحاجة لمعرفة المواسم لزراعتهم اضطروا الى الاستعانة بالتقاويم الأجنبية القبطية والفارسية والسريانية والرومية التي مبناها على حركة الشمس، وصارت تبني حسابها عليها أيضا من جهة المواسم فقط، والحساب القبطي ينسب للملك دقلديانوس، والسرياني للاسكندر المقدوني، والرومي لأغسطس قيصر ملك الروم، وكذلك الفرس والسرياني فقد وضعهما لهما ملوكهما. هذا والله أعلم، راجع الآية 27 من سورة يس المارة، وما ترشدك إليه فيما يتعلق في هذا البحث ومجرى الشمس والقمر وأيام السنين وغيرها. ولما ذكر الله تعالى أحوال آيتي الليل والنهار وأنهما دليلان من أدلة توحيده ونعمتان من نعمه على أهل الدنيا قال «وَكُلَّ شَيْءٍ» من أمور دينكم ودنياكم وما تحتاجونه في معاشكم ومعادكم «فَصَّلْناهُ» بيناه لكم «تَفْصِيلًا» 12 واضحا كافيا وشرحناه على لسان نبينا شرحا شافيا لا التباس فيه ولا شك ولا شبهة، إذ أظهرنا لكم كل ما تفتقرون إليه فلم نبق لكم حجة تحتجون بها، قال تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية 49 من سورة النحل ج 2، وقال تعالى (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) الآية 113 من النساء في ج 3، فتبين في هذا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلّى الله عليه وسلم يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى «وَكُلَّ إِنسانٍ» ذكر أو أنثى كبيرا أو صغيرا، لأن النكرة المضافة تكون بمثابة العموم، وجاءت من باب التغليب، وإلا فيقال إنسانة، قال: إنسانة فتّانة ... بدر الدجى منها خجل «أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ» شؤمه وسعده الذي هو نتيجة عمله في دنياه من خير أو شر، وهو نصيبه وحظه الذي قسمناه له في الأزل مما يتشاءم أو ينفاءل فيه وطوقناه «فِي عُنُقِهِ» كالقلادة، وخصّ العنق لأنه مما يزين أو يشين، فإن كان عمله صالحا كان زينة له كالحلى، وإن كان طالحا كان مشينا كالغل، أعاذنا الله، ومعنى

اللزوم كناية عن عدم المفارقة له «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً» مثبتا فيه عمله في دنياه ليحاسب عليه يوم البعث «يَلْقاهُ مَنْشُوراً» 13 أمامه ليطلع عليه ويعلم أن ملائكة الله لم تظلمه بشيء ولم تنقص من عمله شيئا لأن هذا الكتاب قد سجله الحفظة الموكلون به وضبطوا فيه حركاته وسكناته، فإذا مات طوى وحفظ بمكان عند الله، فإذا بعث من قبره أخرج وعرض عليه في موقف الحساب ويقال له «اقْرَأْ كِتابَكَ» الذي دونّاه في حسناتك وسيئاتك، وانظر إلى عللها وأسبابها وأزمنتها وأمكنتها، وتأمل هل ظلمك الملك بكتابة ما لم تفعله أو بعدم كتابة ما فعلته من شر أو خير؟ ويعطي الله تعالى إذ ذاك كل أحد قوة القراءة ليشهد هو على نفسه، ولهذا المغزى يشير قوله تعالى «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» 14 وهذا غاية في العدل ونهاية في الإنصاف إذ اكتفى الله من عبده أن يكون هو محاسبا لنفسه فلم يبق في حاجة إلى استشهاد الشهود والطعن فيهم، وهذا مظهر قوله تعالى في الآية 29 من سورة ق المارة (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ونظائرها إذ لا يؤاخذ الله أحدا إلا باعترافه الاختياري، لأنه أولا لا يستطيع أن ينطق بغير الواقع، ثانيا إذا سكت أو تعلثم نطقت جوارحه بما اقترفت، فيسأل عنها فلا يقدر أن أن ينكر شيئا وما بعد الاعتراف حجة. قال الحسن: لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. وقيل إن الكافر يقول يا رب إنك لست بظلام، فاجعلني أحاسب نفسي. وقيل إنه يقول يا رب لا أقبل علي شاهدا من غيري، فيقال له: (اقرأ كتابك) إلخ. والباء في بنفسك للتأكيد ويجوز إسقاطها في غير القرآن ورفع الاسم بعدها وعليه قوله: ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا وقوله: ويخبرني عن غائب المرء هديه ... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا والمراد بالنفس ذات الإنسان وشخصه، وما قيل إن المراد بالنفس جوارح الإنسان لا يتأتى هنا، لأنه على خلاف ظاهر الآية، قال تعالى «مَنِ اهْتَدى» في هذه الدنيا بهداية هذا القرآن وعمل بما فيه من الأحكام وآمن بمنزله والمنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع هداه لهالا يتخطاها إلى غيره «وَمَنْ ضَلَّ» هداه وخالف ما جاءه فيه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فيعود وبال ضلاله على نفسه خاصة

«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وهذه الجملة كالتأكيد لما قبلها، أي لا تحمل نفس حاملة لوزرها وزر نفس أخرى غيرها، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر قريبا كان أو بعيدا بل كل أحد مختص بذنبه، وهذه شريعة إبراهيم عليه السلام فمن بعده وكانت شريعة من قبله جارية بمؤاخذة القريب بقريبه، راجع الآية 68 من سورة والنجم المارة، وكانت هذه العادة في الجاهلية ثم نفاها الإسلام، ولكن أعراب البادية حتى الآن متمسكون فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله. وانهم كانوا في مبادئ الإسلام أشد كفرا ونفاقا راجع الآية 96 من سورة التوبة في ج 3، وهم الآن أشد عتوا وبغيا وطغيانا وعنادا، لأنهم حتى الآن لا يعرفون من الدين إلا اسمه ومن الشرع إلا رسمه. قال ابن عباس نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة لما قال لقومه اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، إلا أن لفظ الآية عام فبقاؤها على عمومها أولى، فيدخل فيها هو وغيره ممن على شاكلته. مطلب في أولاد المشركين وأهل الفترة: وما قيل إنها نزلت في أطفال المشركين لا صحة له واستدل الجبائي بهذه الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهذه من المسائل الخلافية لتصادم الأحاديث والأخبار في ذلك قال بعض العلماء هم في النار تبعا لآبائهم، واستدل بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين، قال في الجنة، وسألته عن ولدان المشركين اين هم؟ قال في النار، قلت يا رسول الله لم يدركوا لأعمال ولم تجر عليهم الأفلام، قال ربك أعلم بما كانوا عاملين (أي لو بلغوا الحلم) والذي نفسي بيده إن شئت أسمعنك تضاغيهم في النار. إلا أن هذا الخبر قد ضعّفه ابن عبد البر، فلا يحتج به. وأنت عليم بأن الحديث إذا طرقه الاحتمال يفقد صلاحيته للاستدلال، وإنما صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين، وتوقف بعضهم فيهم ومنهم أبو حنيفة، والقول الصحيح أنهم ناجون لقوله تعالى «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ» أحدا من خلقنا «حَتَّى نَبْعَثَ» له «رَسُولًا» 15 يرشده في الدنيا لإقامة الحجة عليه وقطعا للمعذرة، حتى إذا لم يهتدوا بهديه عذبهم الله بنوع من أنواع العذاب في

الدنيا وفي الآخرة بالعذاب الأليم في جهنم، أي أن الله تعالت رأفته يقول ما صحّ عنا وما وقع منا بل استحال على سنتنا المبيّنة على الحكم البالغة أن نعذّب أحدا من خلقنا بعذاب دنيوي أو أخروي على فعل شيء وتركه أصليا كان أو فرعيا قبل أن نرسل إليه من يحذره وينذره ويبشره، وعلى هذا لا يستقيم القول بتعذيب أولاد المشركين كأهل الفترة، يؤيد هذا ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه رأى إبراهيم عليه السلام في الجنّة وحوله أولاد الناس، قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال وأولاد المشركين- رواه البخاري في صحيحه- والحديث الذي أخرجه الترمذي في النوادر رواه ابن عبد البر عن أنس قال سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة والآية هذه صرحت بأن لا تعذيب قبل التكليف، والذي هو دون البلوغ لا يتوجّه عليه التكليف. واعلم أنه لم يخالف أحد يكون أولاد المسلمين في الجنّة إلا من لا يعتدّ بقوله لقوله صلّى الله عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى في الجنة بفضله ورحمته إياهم. أما من احتج بحديث عائشة رضي الله عنها الذي قالت فيه لما توفي صبي من الأنصار: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال لها صلّى الله عليه وسلم: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. فإن هذا القول المتضمن معنى النهي لها رضي الله عنها هو نهي عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع، وهذا مثل إنكاره على سعد بن أبي وقاص في قوله لحضرة الرسول بحقّ رجل حضر تقسيم الصدقة للفقراء من قبله صلّى الله عليه وسلم أعطه إني لأراه مؤمنا قال صلّى الله عليه وسلم أو مسلما، الحديث، ولا يبعد أنه صلّى الله عليه وسلم قال هذا الحديث قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ما ذكر من الأحاديث التي أثبتناها أعلاه، وقدمنا في الآية 46 من القصص بان لا وجه لقول من فسر الرسول في هذه الآية بالعقل، لأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وما قيل إن المراد نفى المباشرة قبل البعثة لا مطلق التعذيب، مردود، لأن من شأن عظيم القدر للتعبير عن نفى التعذيب مطلقا، ولا يوجد ما يقيدها لا بنوع

التعذيب ولا بنفي العذاب عن أناس دون أناس، والقيد من شأن البشر تعالى الله وكلامه عن ذلك، وما قيل إن نفي التعذيب لا يستلزم نفي استحقاق العذاب لجواز سقوطه بالمغفرة مردود أيضا، لأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة، وانتفاؤه قبلها ظاهر، يدل على عدم الوجوب قبلها، فمن أدعى ان الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز عنه بالمغفرة فعليه البيان. هذا وما روى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته بالعقل لأن العقل حجة من حجج الله تعالى يجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، لا ينطبق على تفسير هذه الآية، لأن معرفة الله تعالى غير اخباره بنفي العذاب عمن لم يرسل لهم رسولا، وهي حقيقة واجبة بالعقل لأن ابراهيم عليه السلام لما قال لأبيه وقومه (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 73 من الأنعام في ج 2 لم يقل عليه السلام أوحى إلي لأنه رأى عبادتهم غير معقولة عقلا، فضلا عن أنها منافية للشرائع، ولأن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدانيته وتنزيهه عن الولد والصاحبة قبل ورود الشرع إليه، وكذلك استدلاله بالنجوم على معرفة الله وجعلها حجة على قومه، راجع الآية 75 فما بعدها من سورة الأنعام المذكورة، وهكذا فإن كل الرسل حاجّوا قومهم بحجج العقل، لكن لا يراد من هذا الاستدلال جعل معنى الرسول في الآية هو العقل، كلّا لأنه مخالف لاستعمال القرآن، (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) الآية 51 من المؤمن في ج 2، ولم يقل لهم أولم تكونوا عقلاء، وحاصل الكلام أن تفسير الرسول في هذه الآية بمعنى العقل لا يرتضيه العقل، هذا وإن ما احتج به من يقول إن أهل الفترة غير ناجين، وان بعض ذراري المشركين والمؤمنين ناجون، وبعضهم هالكون هو ما أخرجه أحمد وابن راهوية وابن جردوية والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أربعة يحتجون يوم القيمة رجل أصمّ لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول يا رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول رب جاء الإسلام والصبيان يخوفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني منك رسول، فيأخذ سبحانه مواثيقهم

ليطيعنّه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها. وأخرج قاسم بن اصبغ والبزار وابو بعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤتى يوم القيامة بأربعة: المولود والمعتوه ومن مات في العترة والشيخ الهرم الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم (لجزء منها) ابرزي، ويقول لهم إني كنت أبعث لعبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، فيقول لهم أدخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب أندخلها ومنها كنا نفرّ وأما من كتبت له السعادة فيمضي فيقتحم فيها، فيقول الرب تعالى قد عاينتموني فعصيتموني، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار واخرج الحكيم الترمذي من نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا، وبالهالك وبالفترة، وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوح عقلا، أي المجنون يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا يا ربي لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى فاذهبوا وادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا، فتخرج عليهم قوابص (جمع قبصات التي هي جمع قبصة وهو ما يتناول بأطراف الأصابع وهو كناية عن قليل من النار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله) فيرجعون سراعا ويقولون يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء، ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك، ويقولون كذلك، فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي والى علمي تصيرون، يا نار ضمّيهم، فنأخذهم النار وقدمنا في آخر سورة طه المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه قال في الإصابة أن هذه الأحاديث وإن وردت من عدة طرق فمعارضها أصحّ منها للأدلة السابقة وغيرها، على أن الحديث مهما كان لا يعارض القرآن وان كان متواترا فما بالك بأحاديث لم تبلغ درجة الصحة، قال تعالى «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً» من القرى والمراد بالإهلاك أهلها من اطلاق المحل وارادة

الحال فيه، كما تقول سال الوادي أي سال الماء فيه، لأنه ثابت مكانه «أَمَرْنا مُتْرَفِيها» بالعمل الصالح والطاعة لنرفع عنهم العذاب، لأن المنعمين والرؤساء إذا ركنوا وخضعوا لأوامر الله كان غيرهم أخضع له وأطوع واكثر إذعانا، لأن أكثرهم تبع لهم، وقرىء «أمرنا» بالتشديد أي جعلناهم الأمراء، وإذا كان الجبابرة والفساق أمراء الناس فبشرهم بالدمار إذ أريد بهم الشر، وإذا كان الصلاح والمتقون أمراءهم فبشرهم بالفلاح والنجاة والنجاح والفوز بالدنيا والآخرة «فَفَسَقُوا فِيها» في أهالي القرية غير مكترثين بإرشاد الرسل وأصروا على عنادهم وخرجوا عن الطاعة «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ» المبين في الآية 19- 33 من سورة يونس والآية 111 من سورة هود والآية 45 من سورة فصلت والآية 14 من سورة الشورى في ج 2 والآية 129 من سورة طه المارة وجب على أهلها الوعيد بالعقاب والإهلاك إذ لم يفعلوا ما أمروا به ولم يصغوا الى قول الله ورسوله «فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» 11 بانزال العذاب المقدر على أهلها فأهلكناهم فيه وخربنا ديارهم، وهذا هو معنى التدمير لما فيه من محو الأثر للمحل والحال فيه، وقيل أن أمرنا بمعنى سعرنا واستدل على هذا المعنى بما أخرجه احمد وابن أبي شيبة في سنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة: خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة. أي كثيره النتاج والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة الملقحة، وإذا أريد سكة الحراثة فيراد بالمأبورة مصلحة والمهرة المأمورة كثيرة النسل، أي أن خير المال نتاج أو زرع، وعليه يكون المعنى كثرنا جبابرتها وملوكها وخصهم بالذكر مع توجه الأمر الى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال، لأن توجه الأمر إليهم آكد، ولأن غيرهم تبع لهم، ولأن الناس عبيد الدرهم والدينار والجاء والمنصب، على أن البلاء يعم قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 25 من سورة الأنفال في ج 3، وجاء عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم

إذا كثر الخبث- رواه البخاري ومسلم-، كلمة ويل تقال لمن وقع في هلكة أو أشرف أن يقع فيها، والخبث الشر، قال تعالى «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ» الخالية قرونا كثيرة «مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» كقوم عاد وثمود وغيرهم ولم يقل من بعد آدم، لأن نوحا عليه السلام يعد أبا البشر الثاني ولم يبلغ قوم من العصيان والتكذيب قبله مثل ما بلغه قوم نوح، ولأنهم أول قوم استؤصلوا بالعذاب، وكان قبله يقع العذاب على أناس مجرمين دون غيرهم كي يعتبر الآخرون فيقلعون عما هم عليه ويرجعون إلى ربهم ولما لم ينجح بهم وصاروا لا ينكرون على غيرهم ما هم به متلبسون من معاصي الله عمم العذاب، ولهذا ذم الله تعالى بني إسرائيل بقوله جل قوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الآية 82 من سورة المائدة في ج 3. واعلم ان القرن أقله ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وأكثره مائة وعشرون سنة، فكل ثلاثة قرون عصر أي قرن باعتبار القرن عصرا والعصر مائة سنة فقط. روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قال محمود بن القاسم مازلنا نعدّله حتى تمت له مائة سنة أيضا «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ» وإن بالغوا في إخفائها وكتمها وأرخوا الستور حال فعلها «خَبِيراً» بها «بَصِيراً» 17 لأنه عالم بجميع ما يقع في ملكه من المعلومات راء المرئيات كافة، فكل ما يفعله العباد حال في علمه قبل أن يفعلوه وبعده، فعلمه بالقبلية والبعدية سواء، لا يتغير علمه في حال من الأحوال جل علمه، وهو القائل «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ» منكم أيها الناس وسميت الدنيا العاجلة لقلة زمنها فهي كالعربون الذي يأخذه البائع من المشترى «عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ» تعجيله له من نعيمها لا ما يشاء هو وذلك «لِمَنْ نُرِيدُ» نحن من طلابها لا لكل من أرادها كل فليس متمني يعطى ما يتمناه بل قد يعطي بعضهم كله وبعضهم بعضه، وقد يحرم البعض البتة فيخسرون الدنيا والآخرة ويجتمع عليهم فقدها، أجارنا الله من ذلك «ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ» لطالب الدنيا الحاضرة رغبة فيها والآخرة التي لم يردها مكان ما عجلنا له في الدنيا «جَهَنَّمَ يَصْلاها» يحرق فيها ويقامي حرها حال كونه «مَذْمُوماً» مهانا محقرا على اختياره لها ملوما عليه ممقوتا بسببه

«مَدْحُوراً» 18 مطرودا مبعدا من الرحمة خائبا مما كان يأمل من فضل الله ورحمته ورأفته. هذا، وما قيل أن هذه الآية نزلت في المنافق الذي يغزو مع المسلمين لأجل الغنيمة لا الثواب غير وجيه، لأن السورة مكية إلا بعض آيات ليست هذه منها، ولا يوجد في مكة منافقون ولا غزو ولا غزاة إذ ذاك، وقد جاءت بلفظ عام، والمخاطبون بها هم مشركو مكة، وظاهرها يحصر معناها في الكفرة، لأنها تدل على الخلود في النار، وان صرفها الى الفسقة أو المهاجرين لطلب الدنيا والمجاهدين للغنيمة، وهم مؤمنون لا يستقيم على أحوالنا معشر أهل السنة والجماعة لأنا لا نقول إن صاحب الكبيرة يخلد بالنار وإن عقيدتنا تأباه قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآيتين 47 و 115 من النساء في ج 3، ولهذا فإن ما دون الشرك من المعاصي منوط بالمشيئة ولا تحديد على الله أما على أقوال المعتزلة ومن نحا نحوهم فنعم، لذلك أدرج الزمخشري الشيخ محمود جار الله في كشافه قبل رجوعه عن الاعتزال الفاسق في هذه الآية «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ» وعمل لأجلها في دنياه توصلا لنعيمها «وَسَعى لَها سَعْيَها» اللائق بها المستحق لها بأن قام بما أمر الله وانتهى عما نهاه عنه «وَ» الحال أنه «هُوَ مُؤْمِنٌ» إيمانا صحيحا بنية خالصة، أما إذا كان كافرا أو عمله للرياء والسمعة والنفاق فلا ينتفع بإرادته إياها ولا بسعيه لها، لأن الله تعالى ذم المرائين بقوله جل قوله الذين يراؤن الآية 6 من الماعون المارة وكذلك من يتعبد في الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها، فهؤلاء يكافئهم الله على أعمالهم الحسنة بالدنيا بإطالة أعمارهم وتوسيع رزقهم ومعافاتهم من الأمراض والأكدار حتى يلقوا الله تعالى وليس لهم حسنة يكافئون عليها بالآخرة، كما أن المؤمن قد يجازيه الله على أعماله السيئة بالمرض وضيق العيش ونقد الأولاد حق يلقى الله تعالى وليس عليه سيئة يعاقب عليها، قال بعض السلف الصالح من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب «فَأُولئِكَ» مريدوا الآخرة الساعون لها بالأعمال الصالحة حالة كونهم مؤمنين بالله ورسله وكتبه آتين بما أمروا به منتهين عما نهو عنه «كانَ سَعْيُهُمْ» في دار الدنيا «مَشْكُوراً» 19 في الآخرة مقبولا عند الله يثيبهم عليها بمنه وكرمه وفضله

[سورة الإسراء (17) : الآيات 21 إلى 30]

وأصل السعي المشي السريع دون العدو وفوق الهرولة، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثره يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر: أن أجز علقمه بن سعد سبعة ... لا أجزه ببلاء يوم واحد وهذه الآية جاءت بمقابلة الآية قبلها، فإن تلك في الكافر وهذه في المؤمن بدلالة قوله «كُلًّا» أي كل واحد من الفريقين فالتنوين للعوض «نُمِدُّ» نزيد مرة بعد أخرى وهذا معنى المد والمدد «هؤُلاءِ» الذين يريدون الدنيا من زخارفها «وَهَؤُلاءِ» الذين يريدون الآخرة من نعيمها «مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ» الواسع الذي لا يتناهى وهذا العطاء ليس على طريق الوجوب بل بمحض الفضل «وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ» دنيويا كان أو أخرويا «مَحْظُوراً» 20 ممنوعا عمن يريده، بل هو فائض على من قدر له بمقتضى المشيئة المبنية على الحكمة، فيرزق المؤمن والكافر في هذه الدنيا ثم يعذب الكافر في الآخرة ويثيب المؤمن فيها بحسب أعمالهما، قال تعالى مخاطبا حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في هذه الدنيا بالرزق والجاه والعمل والشرف بحسب مراتب العطاء وتفاوت أهله «وَلَلْآخِرَةُ» الآتية «أَكْبَرُ دَرَجاتٍ» 21 في الفضل من درجات الدنيا وأعظم تفاوتا فيها «وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» 21 من الدنيا، والفرق بين تفضيل الدنيا وتفضيل الآخرة كالفرق بين دركات جهنم ودرجات الجنة، وكالفرق بين الدنيا والآخرة، فعلى الراغب في التعالي بالدنيا أن تشتد رغبته في تعالي الآخرة أيضا، لأنها ذات مقام أبدي والدنيا مزرعة الآخرة فلها يعمل العاملون، وفيها فليتنافس المتنافسون، وقيل في المعنى: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن الزرع هذا وقد جاء في بعض الآثار أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحدا. وقال الضحاك: الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه، والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا، لهذا لا يحسد أحد الآخر على ما هو فيه من ذلك العطاء الواسع. وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وأبو سفيان بن

حرب وأولئك المشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم، فقال ابو سفيان ما رأيت كاليوم قط (أي اهانة وحقارة) ، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم (يعني للإسلام ورفض الكفر) فأسرعوا الإجابة وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من باب عمر الذي تنافسون عليه. قال في الكشاف هذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّه الله لهم في الجنة اكبر وأعظم. لقد أنفق والله سهيل وأخفق ابو سفيان وأنا أقول لقد صدق جار الله فيما قال واسأل الله ان يحقق قوله فيه المبين في الآية الأولى من هذه السورة قال تعالى مخاطبا لرسوله ايضا بما يريده من قومه «ولا تجعل» أيها الإنسان بكل حال من الأحوال «مع الله» الذي لا إله غيره «إلها آخر» مما تسول لك نفسك الخبيثة إلهيته ومما يوسوس لك الشيطان عدوك ربوبيته وهو ليس بشيء يستحق ان تسميه ربا وإلها لأن الإله هو القادر على كل شيء والرب هو الخالق لكل شيء ومربيه ومن دونه من الأوثان عاجزة عن كل شيء، والعاجز لا يصلح ان يكون إلها ولا يجدر أن يتخذ ربا، فإذا فعلت هذا وأطعت هواك فيه «فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً» محقرا موبخا مخزيا «مَخْذُولًا» غديم النضير والمعين من كل أحد ومن كل شيء فتجمع على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من ذوي العقول، إذ اتخذت محتاجا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومن لا يقدر على جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها كيف يرجى منه أن ينفع غيره ويدفع عنه، فجزاؤك أيها الجاعل إلها مع إله السموات والأرض لا يصلح قط للألوهية وإشراكه مع من له الكمال الذاتي الخالق الرازق المنعم. الذمّ في الدنيا والآخرة على عملك هذا الذموم والخذلان التام، إذ لا تجد من يتصرك من العذاب الذي يحل بك، ولا من يعينك على دفعه، ولا من يؤازرك على رفعه الا من هو كافر مثلك، قد زيّن له سوء عمله وهو عاجز عن اجتناب ماحل به مثلك، فتلاوم أنت وإياه على

ما فاتكم من العمل الصالح المؤدي لخلاصكم من الله، قال تعالى «وَقَضى رَبُّكَ» أمر وحكم وأراد «أَلَّا تَعْبُدُوا» أيها الناس أحدا ولا شيئا «إِلَّا إِيَّاهُ» وحده وهذا الحصر يفيد وجوب العبادة له تعالى منفردا، وتحريم عبادة غيره مطلقا لأن العبادة غاية التعظيم المنعم بالنعم العظام على عابديه جلت ذاته المقدسة فلا تليق إلا لمن هو في غاية التعظيم ولما كانت عبادته هي المقصودة وما خلق الخلق إلا لأجلها قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من سورة الذاريات في ج 2 قدمها على كل شيء. مطلب في برّ الوالدين والحكم الشرعي بذلك: ولما كان حق الإحسان على العبد بعد طاعة الله تعالى لأبويه اللذين هما السبب الظاهري بوجوده اتبع الأمر بعبادته بالإحسان إليهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» ما فوقه احسان إلا عبادة الملك الديان وحده، وذلك بأن تبرّوهما برّا لا مزيد عليه، وتتلطفوا بهما تلطفا لا نهاية له إلا الموت، فتخدمونهما وتقضوا حوائجهما وتعطفوا عليهما برغبة املا برضاء الله المترتب على رضائهما. واعلموا أيها الناس «إِمَّا» أصلها إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا للمعنى «يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ» هو منتهى الشيخوخة الذي قد تحوجهما إليك أيها الولد لما يلمّ بهما «أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما» من حالة الضعف والعجز والهرم فيلتجئان عندك آخر عمرهما كما كنت ضعيفا مبدأ عمرك ملتجئا في حضانتهما، يحنيان عليك بشفقتهما، ويحملان الأذى من تحتك، فلا ينامان حتى تنام، ولا يأكلان حتى تأكل، ولا يستريحان حتى تستريح، ويتمنيان أن يصيبهما كل ما قدر عليك من أذى، وأن تكون معافى لا تصيبك شوكة عن طيب نفس ورغبه منهما، فإذا صارا إليك واحتاجا لعنايتك فيجب أن تقوم لهما بهذه الأمور الخمسة إذا أردت رضاء الله ونظره إليك، أولها «فَلا تَقُلْ لَهُما» إذا كلفاك بشيء مهما كان «أُفٍّ» وهذه الكلمة كناية عن عدم التضجر مما يقولانه لك لأنها كلمة تضجر وكراهية، وأصلها إذا سقط عليك تراب ونفخته عنك تقول أف، ثم توسعوا بها الى كل مكروه، أي ولا تتضجّر منهما أو من فعلهما أو قولهما أو مما يطلبانه منك ولو بمثل هذه الكلمة، بل عليك

أن تتلقى أمرهما برحابة صدر وطلاقة وجه ولين جانب وخفض كلام وتحسين قول لأن النهي عن هذه الكلمة يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قولا وفعلا وإشارة ورمزا قياسا جليسا، إذ يفهم ذلك بطريق الأولى، ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك فلان لا يملك النقير أو الفتيل أو القطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا ولا كثيرا. واعلم أنه لو يوجد فيما يخاطب به البشر كلمة يعرف أهل الدنيا على اختلاف لغاتهم أنها تدل على أقل من هذا المعنى لذكرها الله تعالى حفظا لحق الوالدين من أن يصل إليهما ما يكدرهما الثاني «وَلا تَنْهَرْهُما» تزجرهما بغلظة وشدة (وهذا معنى النهر) أي لا تزجرهما مما يتعاطيانه مما لا يعجبك أو تكره ما يريدانه منك وان كان ولا بدّ من ان تقول لهما لا تفعلا كذا مما يكون عدم فعله ضروريا فقل لهما ألا تتركان هذا ألا تعرضان عنه، لأنه كما إنك ممنوع من التضجر بالقتيل والكثير ممنوع أيضا من إظهار المخالفة لهما في القول والفعل والرد عليهما والتكذيب لهما والكذب عليهما، ولهذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا، وحاشا كلام الله منه الثالث «وَقُلْ لَهُما» عند المخاطبة أو التكليف بشيء ما أو التعدي عليك لغرض ما «قَوْلًا كَرِيماً» 23 جميلا لاشراسة فيه ولا اكفهرار، بأن تقول يا أبتاه يا أماه مراعيا معهما حسن الأدب، لان مناداتهما باسمهما من الجفاء، وأن يصدر جوابك لهما عن لطف ومنة وعطف، وان تقف أمامهما وقفة المأمور بين يدي الآمر، ولا تقل هاء بل لبيكما وسعديكما، قال ابو الهداج لسعيد بن المسيب كل ما ذكره الله تعالى في القرآن من برّ الوالدين فقد عرفته إلا قوله تعالى (قَوْلًا كَرِيماً) فما هذا القول الكريم؟ فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ. أي يكون بغاية من الرقة والأدب ونهاية من الخضوع والتذلل، قال الراغب كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، الرابع «وَاخْفِضْ» أمر الله تعالى الولد بخفض الجانب لوالديه ليتسارع بالانقياد لما يريد انه منه دون تردد، أي تواضع واخشع وألن «لَهُما جَناحَ الذُّلِّ» بأن

تجعل نفسك ذليلة أمامهما زيادة في التأدب. واعلم ان خفض الجناح مأمور به لكل أحد قال تعالى لحضرة الرسول (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 89 من سورة الحجر في ج 2، فكيف بالوالدين؟ وهذا اللين المطلوب منك لهما كائن «مِنَ الرَّحْمَةِ» عليهما أي لا يكون خفض جناحك لهما خوفا او رياء او مداهنة او غير ذلك، بل لكمال الرأفة بهما وخالص الشفقة عليهما كما كانا كذلك لك في صغرك حين كنت مفتقرا إليهما إذ آل افتقارهما إليك، ولا تمنعهما شيئا أحبّاه. واعلم أن احتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة، فيحتاج إلى أشد رحمة وأفرط رأفة ولله در الخفاجي إذ يقول: يا من أتى يسأل عن فاقتني ... ما حال من يسأل من سائله ما ذلة السلطان إلا إذا ... أصبح محتاجا إلى عامله الخامس «وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما» برحمتك الباقية والطف بهما بلطفك الأبدي، أي لا تكتف برحمتك لهما، لأنها فانية، هذا إذا كانا مسلمين، وإذا كانا كافرين فقل ربّ اهدهما ووفّقهما إلى دينك القويم، وسهل لهما أسباب الإيمان ويسر لهما طرق الإسلام لأجتمع بهما في دار كرامتك، لأن الاستغفار والرحمة للكافر منهيّ عنه، قال تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) الآية 113 من سورة التوبة في ج 3، وقد رد الله عن خليله إبراهيم عليه السلام حين قيل إنه استغفر لوالديه بقوله جل قوله: (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية 14 بعدها، ولذلك قال له (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) في الآية 26 من سورة مريم المارة، قال تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) تتمة الآية المارة من التوبة وقد بين تعالى السبب فيما أمر به الولد لوالديه وهو «كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» 24 أي أدع لهما بالرحمة والرأفة والمغفرة جزاء تربيتهما لك وبمقابل رحمتهما بك حال صغرك، ولست بمقابل لهما مهما قمت به لهما، وشتان بين رحمتك لهما ورحمتهما لك إذا قايست بينهما وأنعمت النظر في ذلك، لأن رحمتك لهما عن رعبة ورحمتهما لك عن رغبة. الحكم الشرعي: الأمر هنا للوجوب أي يجب عليك شرعا أيها الولد ذكرا كنت أم أنثى أن تقوم بحوائج والديك بحسب قدرتك،

وأن تدعو لهما، وتتواضع لهما، وتلين جانبك لهما حينما يكلمانك أو تجاربهما، وأن لا تزجرها، وأن تخاطبهما باللطف وتحترمهما غاية الاحترام، هذا وقد بالغ جل شأنه في التوصية بهما إذ شفع الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده سبحانه، وجعل ذلك كله قضاء مبرما عليه، وحث حضرة الرسول على ذلك أيضا، فقد روى ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم ورجح الترمذي وقفه قال: رضاء الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد وكان المسلمون إذ ذاك بحاجة إليه، فقال أحيّ والداك قال نعم، قال ففيهما فجاهد. فجعل صلّى الله عليه وسلم القيام بأمورهما خيرا له من الجهاد وأعظم أجرا عند ربه. وجاء في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال لو علم الله تعالى شيئا أدنى من الأف لنهى عنه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. ورأى ابن عمر رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال لا ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا. وروى مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعنقه. وعنه عليه الصلاة والسلام إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين. قدّم في هذا الحديث العاق على قاطع الرحم لأن العقوق أعظم لاشتماله على قطع الرحم وعدم احترام الأبوين الذين وصّى الله ورسوله بهما ومخالفتهما مخالفتهما، ولا أعظم منها وزرا. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريره قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك؟ أي الأقرب فالأقرب منك. وروى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة أي بسبب برّهما. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله

تعالى؟ قال الصلاة لوقتها، قلت ثم، قال برّ الوالدين، قلت ثم، قال الجهاد في سبيل الله. وعن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فضيّع ذلك الباب أو احفظه- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبي أخذ مالي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول إذا جاء الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى الله عليه وسلم ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله، قال سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته وخالاته أو على نفسي؟ فقال صلّى الله عليه وسلم ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك، فقال الشيخ والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي، فقال قل وأنا أسمع فقلت: غذوتك مولودا وصنتك يافعا ... تعلّ بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيها أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب موكل قال فحينئذ أخذ النبي صلّى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال أنت ومالك لأبيك. ومنهم من أسند هذه الأبيات لأمية بن الصلت وهو جاهلي معروف، وهو خلاف الواقع لأنه لو كان له من صحة، ما نزل جبريل على النبي وقال له عن ربه ما قال، قاتل الله الأفاكين. هذا وقد قرن الله في هذه الآية توحيده بالإحسان إلى الوالدين وفي آية 151 من الأنعام عدم الإشراك بالإحسان إليهما، وفي آية النساء 35 في ج 3

قرن عبادته بالإحسان إليهما، وقال في الآية 14 من سورة لقمان (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية في ج 2، فقد قرن شكره بشكرهما أيضا إيذانا بعظيم حقهما وإعلاما بأن من لم يحسن إليهما لم يعبد الله، ومن لم يشكرهما لم يشكر الله، فالسعيد من وفق لبرهما والشقي من عقهما. ولهذا البحث صلة في تفسير الآيتين الآنفتي الذكر فراجعهما. هذا والأم مقدمة في البرّ على الأب لزيادة حقها ولضعف جانبها، فهي مستوجبة للإحسان زيادة على الأب، فعلى العاقل الموفق أن يبذل جهده ووسعه ببرهما، ولتكن معاملة الإنسان لمثله باللطف وللضعيف بالإحسان، وللمريض بالعطف، وللفقير بالمعونة، وللجاهل بالتعليم، وللعالم بالأدب، وللعامل بالعمل، وللمخترع بالتشجيع، وهكذا لكل بما يناسبه. واعلم أنه لا يختص البر بالحياة فقط بل يكون بعد الموت أيضا، فقد روى ابن ماجه أن رجلا قال يا رسول الله هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما به؟ بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما، أي الدعاء والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما. وروى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه، قال فاعمل به. وأخرج البيهقي عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وانه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارّا. وأخرج عن الأوزاعي قال بلغني أن من عقّ والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستب لهما، كتب بارّا، ومن برّ والديه في حياتهما وقام بواجبهما كما ينبغي حتى ماتا مدينين وكان مقتدرا على أداء دينهما ولكنه استنكف ولم يستغفر لهما واستبّ لهما كان عاقا. وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برّا. وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار فقلت أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنّ أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه.

وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال أتدري لم أتيتك؟ قال قلت لا، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاه وودّ فأحببت أن أصل ذلك. وجاء في الخبر احفظ ودّ أبيك. وإذا عرفت هذا فاعلم أن العقوق من الكبائر لأن حضرة الرسول عده منها، والعقوق هو أن يؤذي والديه أو أحدهما بما لو فعله مع غيره كان محرّما من جملة الصغائر، أما إذا طالب الولد والديه بدين لا يكون عقوقا لأنه لو فعله مع غيرهما لا يكون حراما، أما طلب حبسه لأجل الدين فمن العقوق، كما أنه لو طلب حبس المعسر فإنه لا يجوز ومجرّد الشكوى منهما لا تعد عقوقا لأن إقامة الدعوى على الغير بحق جائزة، وقد شكا بعض ولد الصحابة آباءهم إلى رسول الله ولم ينهه، وهو الذي لا يقر على باطل، أما بنهرهما وزجرهما فمن الكبائر لثبوت النهي عنه نصا كما مر عليك، ومخالفة أمر الوالد فيما إذا فعله لحق بالولد ضرر أو يغلب على ظنه لحوق الضرر لا يعدّ عقوقا ولا مخالفة بل عليه الطاعة والامتثال فيما عدا ذلك. ومن الكبائر أن يسافر الولد ويترك أبويه أو أحدهما بلا نفقه مع قدرته وحاجتهما، أما السفر إلى حج الفرض وطلب العلم فلا يحق للوالدين المنع إذا تأمنت نفقتهما من مالهما أو ماله، وإن مخالفتهما في هذين لا يعدّ عقوقا ولا يكون فعله كبيرة، أما إذا لم يؤمن نفقتهما مدة ذهابه وإيابه فلا يجوز له الذهاب مطلقا، لأن حقهما أقدم من غيره، وإن فعل كان عاقا ومخالفا ومرتكبا الكبائر، وإذا خالفهما فيما لا دخل لهما فيه ولا ضرر فيه عليهما ولا عليه فلا شيء عليه البتة، إلا أن عدم المخالفة أولى لئلا يحقدا عليه، وإذا فعل فعلا يسبّب ضررا إليهما فيحرم عليه ذلك، لأن إضرار هما والتسبب لإضرارهما حرام ولو كلف الوالد ابنه طلاق زوجته التي يحبّها فلم يمتثل فلا إثم عليه، لأن هذا من خصائصه ولا ضرر يلحقهما منه رأسا ولا تسببا، وإذا كان يقدر أن يصبر عن زوجته فطلقها امتثالا لأمر والديه أو أحدهما فهي فضيلة له يثاب عليها، كما يأثم الوالدان إذا تسببا لطلاقها بلا سبب شرعي، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى

أبا الدرداء فقال إن أبي لم يزل بي حتى زوّجني امرأة وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال ما أنا بالذي آمرك أن تعقّ والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، سمعته يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ على ذلك إن شئت أو دع. وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها، فأبيت، فأتى عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال صلّى الله عليه وسلم طلقها. هذا إذا طلب طلاقها لمطلق كراهتها، وأما إذا كان لأمر يتعلق بالغيرة أو بالدين أو بالآداب فلا بد من الامتثال. أما أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه بحيث لو عرضت على ذوي العقول لعدوها عبثا أو متساهلا فيها، فلو خالفهما فيها فلا إثم عليه، وينبغي للولد أن لا يتضجر من هكذا أوامر فلو تضجر أو قطب وجهه لقاءهما أو لم يقم لهما حينما يأتيانه بحضور الناس كان عقوقا لهما مؤاخذ عليه، لأنه أكثر من الأف التي نهاه الله عنه، ولا يقال إن الوالدين إنما طلبا بزواجهما تحصيل اللذة لأنفسهما لا لقصد الولد، لأنه إنما لزم منها وجود الولد ودخوله في عالم الآفات والمخالفات، فلا فضل لهما عليه ولا منّة، كما أن أحد المسمّين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول له أنت أدخلتني في عالم الكون والفساد وعرضتني للموت والفقر والعمى والزمانة. وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد ما نكتب على قبرك فقال اكتبوا عليه: هذا جناه أبي عليّ ... وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج وعدم الولد: وتركت فيهم نعمة العدم التي ... سبقت وصدت عن نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة ... ترمي بهم في الموبقات الآجل وقال ابن رشيق: قبح الله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفقر فإيجادنا علينا بلاء وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة أم والدك؟ فقال الأستاذ أعظم منّة

لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد. فانظر هداك الله إلى هؤلاء وأمثالهم الذين ينظرون إلى ظواهر الأمور ويتركون بواطنها والثمرة المطلوبة منها دون تروّ بالمراد الحقيقي الذي من أجله يكون الشيء وهم حكماء تأخذ الناس عنهم ويضربون بأقوالهم الأمثال، وإذا أجلت النظر فيما ذكروه وأنعمت الفكر فيما سطروه في هذا لوجدته طيشا، فلو أنهم قالوا إن الزواج يحفظ النفس من الوقوع في الزنى المنهي عنه شرعا وإن الزواج بقصد ردع النفس عن تعدي حدود الله، وأن الولد جاء بالعرض ولا كل زواج يأتي بالولد، وكم من ولد شرف آباءه في الدنيا والأخرى ونفعهم فيها: لكان أولى وأجدر بمقالهم، وان الذين يتزوجون للذة فقط لبسوا من المتدينين المتمسكين بالدين، بل من الذين يتبعون أهواءهم، وشهواتهم، وهؤلاء غير مقصودين ولا معدودين من الرجال الذين هم رجال بالمعنى الوارد في الآية 37 من سورة النور في ج 3، فإذا كانوا يحطون أنفسهم إلى درجة أهل الأهواء فلا بدع أن يقولوا ما قالوا، وإلا فيكون قولهم هذا من اللغو الذي يجب أن يمرّ فيه العاقل مر الكرام، راجع الآية 71 من سورة الفرقان المارة. واعلم هداك الله إذا قلنا هب أنه أول الأمر كان المطلوب منه لذة الوقاع كما يتقولون أليس الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، إذ لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأفكار دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى، لأنه سبحانه هو الفاعل الحقيقي، فلو شاء لما كان الولد. على أن السنّة في الزواج لأهل السنة أولا طلب الولد لتكثير النسل، ثانيا كسر جماح الشهوة، ثالثا تحصين النفس عن التعدي لحدود الله من الزنى ودواعيه، لا للذة فقط، لأن من يقتصر في أمر الزواج على اللذة فقط فليس بكامل، وهذه الأسباب الثلاثة عبارة عن طلب الشيء للمنفعة، ولا ينكرها عاقل متبصر. هذا وإن إنكار حق الوالدين إنكارا لأجلّ الأمور (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) الآية 40 من سورة

النور في ج 3، قال تعالى «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ» من بر الوالدين والاهتمام بما يجب لهما من التوقير والاحترام وغيره، ومن العقوق والتقصير وسوء الأدب وغيره في حقهما «إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ» حقيقة مريدين البر بهما وإصلاح شأنهما أو تكونوا طالحين قاصدين العقوق بهما ومخالفتهما وإهمالهما، أما إذا فرط منكم حال حالة الغضب أو الغفلة مما لا يخلو البشر منه وقد أدى إلى أذاهما معنى ومادة، ثم رجعتم إلى الله فتبتم واستغفرتم الله مما وقع منكم واسترضيتم والديكم بشتى الوسائل «فَإِنَّهُ» الإله الحليم التواب «كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» 25 فيدخلكم في واسع رحمته ويعفو عنكم، لأنه يحب عبده المنيب الأواب. واعلم رعاك الله أن في هذه الآية العظيمة وعدا بالخير من الله لمن أضمر البر والإحسان لوالديه، ووعيدا لمن أضمر لهما الكراهية والاستثقال، وما قاله ابن جبير إن معنى هذه الآية هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بها قول مقيد لهذه الآية المطلقة وإن بقاءها على إطلاقها أولى لتشمل كل تائب مما وقع منه في حق والديه قليلا كان أو كثيرا، بادرة أو مقصودة، على أن الجاني على أحد أبويه التائب من جنايته توبة خالصة يدخل فيها، لأن معنى الأواب على ما قاله سعيد بن المسيب الذي يذنب ثم يتوب، وعنه أنه الرجاع إلى الخير. وقال ابن عباس الأواب الرّجاع إلى الله فيما يحزنه وينوبه، فلم يقيده في البادرة. وقيل إنه من صلّى بعد المغرب والعشاء يعدّ من الأوابين، وهذه الصلاة تسمى صلاة الأوابين، فقد روى ابن ماجه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال من صلّى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة. وروى ابن نضر أن من صلّى ست ركعات بعد المغرب قيل أن يتكلم غفر له ذنوب خمسين سنة أي من الصغائر. كما جاء في شرح هذا الحديث في كتاب مصباح الظلام للشيخ محمد بن عبد الله الجرداني، وورد فيه أيضا من صلّى ركعتين بعد المغرب وقرأ فيهما بالمعوّذتين لم يرمد وقد جربته فوجدته، وجاء في الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة رتب عليها أجر كبير لفاعلها أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا خشية التطويل، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به في الآية 30 من سورة ص المارة فراجعها تجد ما يقرّ العين من ذوي العقيدة والإيمان.

مطلب في التصدق والتبذير والإسراف والرد بالأحسن: قال تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من نفقة وزيادة عطف، قدّم الله تعالى حق الوالدين لأنهما الأصل، ثم عقبهما بالفروع المحارم، لأن الإنفاق عليهم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب صلة وصدقة وتسمية هذا الإتيان من قبل الله حقا يشعر بإلزام القريب الموسر الإنفاق على قربيه المعسر العاجز على طريق الوجوب، وهذا الحكم الشرعي في ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 29 من سورة الروم في ج 2 نظير هذه الآية، وهذه الآية بالنسبة لما قبلها فيها من أنواع البديع ومحسنات الكلام التعميم بعد التخصيص، لأن الوالدين يدخلان في القربى لغة ولم يتناولهما عرفا، ولذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف لو أوصى لذوي قرابته لا يدخل أبواه، وجاء في المعراج من قال لأبيه قربي فقد عقّه. واعلم أن هذا الحق لا ينحصر في النفقة بل يشمل حسن المعاشرة والرحمة والتوقير، لأن اللفظ عام والآية معطوفة على ما قبلها الشاملة لسائر الحقوق المانعة بجميع أنواع العقوق، وما قيل إن هذه الآية خاصة بحضرة الرسول وأن الله أمره بها ليؤتى أقاربه، أو أنها لما نزلت دعا فاطمة رضي الله عنها فأعطاها فدكا مناف لعموم الآية، لأن فدكا في المدينة وهذه الآية مكية، فضلا عن أنه لا قرينة فيها على التخصيص البتة، ومما يؤيد عدم الإختصاص هو أن فدكا لم تكن إذ ذاك تحت تصرف المصطفى صلّى الله عليه وسلم وكانت طلبتها إرثا بعد وفاته. أما ما قاله الحسن بأن هذه الآية مدنية فيصحّ على قوله ما قيل في سبب نزولها، وحينئذ يراد بالحق هنا الزكاة المفروضة، إلا أن سياق الآية يدل على أنها مكيّة كورتها على قول الجمهور والله أعلم، «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب وهو عاجز، أما الفقير فالذي لا يكفيه كسبه، وقيل بالعكس راجع الآية 78 من سورة الكهف في ج 2، «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله ولو كان غنيا في بلده، أي أعط أيها الغني مما أعطاك الله هذين الصنفين أيضا بعد أبويك وقرابتك مما زاد على حاجتك من مالك بقدر ما يسد حاجتهما «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» 26 بمالك وتسرف فيه، بأن تعطيه من لا يستحقه

أو تصرفه في غير مصارفه الشرعية أو تتجاوز الحد اللازم في الإعطاء والصرف ولو على خاصّتك ونفسك، فإن ذلك من التبذير المنهي عنه «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ» أموالهم المفرقين لها في غير حلها ومحلها «كانُوا» في تبذيرهم هذا «إِخْوانَ الشَّياطِينِ» أعوانهم ورفقاءهم في كفران النعمة مماثلين لهم في صفات السوء من إعطاء المال لمن لا يستحقه، أو صرفه في غير حله، أو إعطائه بقصد الصيت والسمعة والرياء «وَكانَ الشَّيْطانُ» ولم يزل، لأن كان تأتي للدّوام والاستمرار إلى أجل معلوم كما هنا وإلى ما لا نهاية له كقوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الآية 156 من سورة النساء في ج 3 وأمثالها كثير، وتأتي للزمن الحاضر فقط مثل كان زيد غنيا، «لِرَبِّهِ كَفُوراً» 27 هو وإخوانه من الإنس يبالغون في كفران النعمة لأنهم يصرفون ما أنعم الله به عليهم من القوى والأموال إلى غير ما خلقت لها وللمعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس عن طريق الهدى، وحملهم على الكفر بالله تعالى وجحود نعمه الفائضة عليهم وتبذيرها في غير محلها، وهذا التخصيص بمقابل الشكر الذي هو صرف النعم إلى ما خلقت إليه، وما قيل إن هذا الكفر المذكور بهذه الآية جاء على ما يقابل الإيمان ليس بشيء لمخالفته المقام وسياق الآيات. وإنما الله سمى الإنفاق لهذين الصنفين حقا لأن أهل مكة قبل الإسلام كانوا افترضوا على أنفسهم إنفاق شيء من أموالهم لنشر الصيت، وكان التصدق مفروضا على الأمم السابقة وكان أهل مكة ينفقون هذا القسم للسمعة والملاهي والطرق التي لا خير فيها، فأمر الله رسوله في هذه الآية بإنفاق هذا الحق لأهله الذين ذكرهم، وهذا قبل نزول آية الزكاة المفروضة، أما بعد نزولها فيكون منها وعلى القدر الذي سنه حضرة الرسول كما سيأتي في الآية 221 من سورة البقرة والآية 59 من سورة التوبة في ج 3 وغيرها من السور المدنية. واعلم أن التبذير هو كل إنفاق بغير محله كما علمت مما مرّ عليك، وأصله في اللغة التفريق مأخوذ من إلقاء البذر في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وشرعا إنفاق المال في غير حقّه مما هو تجاوز في موقع الحق وجهل بكيفيته، أما الإسراف فهو التجاوز في الكمية وجهل بمقدار الحق، وكلاهما مذموم، قال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. وقد أنفق بعض

المحققيين نفقة في خير فاكثر، فقال له صاحبه لا خير في السّرف، فأجابه كثر الله أحبابه: لا سرف في الخير، وهذا صحيح إذا كان في أهله وعن غنّى ويحسن نية. قال تعالى «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ» أيها الغني القريب «عَنْهُمُ» عن أقاربك الفقراء المحتاجين العاجزين والمساكين المعدمين والفقراء وأبناء السبيل المقطوعين لضيق ذات يدك أو لأمر أخطرك فأوجب إغضاءك عنهم حياء وكان ذلك منك «ابْتِغاءَ» طلب ورجاء «رَحْمَةٍ» رزق «مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها» تتوقعها وتترقب حصولها ومجيئها لتعطيهم منها «فَقُلْ لَهُمْ» عند ما تريد انصرافهم أو ردهم «قَوْلًا» جميلا لا تأنيب فيه عليهم ولا كسر لخواطرهم «مَيْسُوراً» 28 لينا وعدهم وعدا تطيب به خواطرهم كأن تقول لهم إن لنا مالا سيحضر أو دينا سنقبضه قريبا ونخصكم به، وادع لهم بما فيه اليسر لك ولهم، وتقدم معنى أمّا بالآية 23 المارة، وأنث الضمير في ترجوها باعتبار اللفظ لأنه سمّى الرزق رحمة وهو يعود إليها ووضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سببا للابتغاء مسبّب عنه فوقع السبب الذي هو الابتغاء موضع المسبب الذي هو الفقد. هذا وما قيل إن هذه الآية نزلت بمهجع وبلال وصهيب وسالم وخبّاب الذين كانوا يسألون حضرة الرسول أحيانا ما يحتاجونه وأنه لا يجد ما يعطيهم فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول، أو أنها نزلت في أناس من مزينة جاءوا يستحملون حضرة الرسول فقال لهم (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية 94 من التوبة في ج 3، إذ ظنوا أن ذلك من غضب رسول الله، لا وجه لهما ولا حقيقة، لأن هذه السورة مكية وتلك الحادثتين وقعتا في المدينة، وإنما هذه الآية عامّة في كل أحد ولا يخصصها ما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت، لأن هذه الحالة شأن كل عاقل منصف، فكيف لا تكون بأكمل الناس عقلا وإنصافا، فهي شاملة لحضرة الرسول وأمته الخيرية على الإطلاق كالآيات التي قبلها. جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه كان لا يري أن يقال للسائل إذا لم يعطه شيئا رزقك الله تعالى أو نحوه، لأن ذلك مما يثقل على السائل ويكره سماعه، ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، وهذا القول ردّ لقول من فسر القول الميسور بأن يقال للسائل رزقك

الله وأعطاك الله، وهو قول مفترى بعيد لصون اسم الله تعالى ممن لا يبتهج بسماعه، ولذلك فسّرنا القول الميسور بالدعاء للفقير باليسر فقط والكلام اللين، وعليه فالأولى أن يقال للسائل ممن لا يريد أن يعطيه ائت بوقت آخر تحاشيا لذكر اسم الله عند من لا يحب سماعه في هذا الباب، فإذا جاء ولم يكن عنده شيء فليقل لم يتيسر لي ما أعطيكم. هذا وقد استدل بعض المفسرين أن في قوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) دليل على النهي عن الإعراض فيكون المعنى إن أردت الإعراض عنهم ولم ترغب أن تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) بأن تعدهم بالعطاء والانتظار لوقت آخر يتيسر لك الإعطاء فيه ولا تقطع أمله فيك وتلطف به بكلام ليّن ووجه منطلق وخفض جانب، وقدمنا في سورة الضحى ما يتعلق بهذا البحث فراجعه، قال تعالى «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ» أيها الغني الموسع عليك «مَغْلُولَةً» هذا تمثيل لمنع البخل والشح كما قاله بعض المفسرين، لأن البخل يكون في مال الرجل البخيل، والشحّ يكون في مال غيره فهو أقبح من البخل، وهو مبالغة في ذم عدم الإعطاء، وقوله تعالى (إِلى عُنُقِكَ) أي لا تمسك يدك عن الإعطاء فتجعلها كالمربوطه في عنقك «وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» تمثيل للإسراف في العطية أي لا تعطه جميع ما عندك «فَتَقْعُدَ» إن فعلت ذلك «مَلُوماً» على الإسراف من نفسك لندمك على فقد ذات يدك بسبب طيشك، وعند الناس تلام أيضا على تضييع كل ما في يدك من المال، لأنهم لا يحمدونك على فعلك هذا، ولا يحبذونه لك، وهو عند الله مذموم أيضا، لأنه لا يحبّ المسرفين، راجع الآية 20 من الأعراف المارة ولا يرضى لعباده ما لا يحبه «مَحْسُوراً» 29 متحسرا على ما فرط منك مغموما على لوم نفسك ولوم الناس لك وبقائك صفر اليدين مخالفا لأمر الله تعالى الموجب الأمر بالاقتصاد في النفقة، راجع الآية 66 من سورة الفرقان المارة، لأن هذين النّهيين يوجبان على الرجل أن يسلك سبيلا وسطا بين الإفراط والتفريط، وهذا هو الجود الممدوح والاقتصاد المطلوب وخير الأمور أوساطها، قال ابن الوردي: بين تبذير وقتر رتبة ... وكلا هذين إن زاد قتل وأخرج أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما عال

من اقتصد، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، وتقول العامة من دبّر ما جاع، ومن رقع ما عري، وصبرك على نفسك خير من صبر الناس عليك. وروى أنس مرفوعا التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين. وقيل حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف، وقيل أن قوله تعالى (ملوما) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ) الآية المارة، وقيل البخيل ملوم حيثما كان، وقوله تعالى (محسورا) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية، وهذا وجيه كي يكون قوله تعالى (فتقعد) بيانا لقبح الأمرين، لأنه منصوب بجواب النهيين، تدبر. وهذه الآية عامة مطلقه يدخل في عمومها حضرة الرسول وغيره من الأمة كافة، وما ورد عن جابر قال بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه صبي فقال إن أمي تستكسيك درعا، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل صلّى الله عليه وسلم داره ونزع (الدرع) قميصه وأعطاه وقعد عريانا، وأذن بلال، وانتظروا فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة، فنزلت هذه الآية لا يصح جعله سببا لنزول هذه الآية، لأنها مكية بالاتفاق والحادثة مدنية بدليل تأذين بلال رضي الله عنه، لأن مكة لا أذان فيها ولا جماعة إذ ذاك، وقد تتبع هذا الخبر وليّ الدين العراقي فلم يجده في شيء من كتب الحديث بلفظه هذا، وعلى فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لما علمت، وقد أخرج بن مردويه عن ابن مسعود قال جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أمي تسألك كذا وكذا، فقال ما عندنا اليوم شيء، قال فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن النهال بن عمرو نحوه، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزّ من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا نأتي النبي فنسأله، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله هذه الآية. وهذا أيضا لا يصح لأنه حينما كان بمكة لا يأتيه شيء من العراق ولا من غيره، ولم يؤمر بالقتال والغزو وأخذ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 إلى 40]

الغنائم وغيرها إلا بالمدينة، وكذلك لا يصح سببا للنزول ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيبنة بن حصن الفزاري مثله، فجاء عباس ابن مرداس وقال: أتجعل نهبي ونهب البعيد ... بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع فقال صلّى الله عليه وسلم يا أبا بكر اقطع لسانه، أعطه مائة من الإبل. وكانوا جميعهم من المؤلفة قلوبهم لأن النهب والفيء لم يكن في مكة، لهذا فإن ما اعتمد عليه بعض المفسرين من هذه الأخبار في كونها سببا للنزول غير صحيح، وان الآية مطلقة كما ذكرنا عامة شاملة. مطلب بسط الرزق وقبضه ووأد البنات وما يتعلق فيه: قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ» يوسعه ويكثره «لِمَنْ يَشاءُ» من عباده مؤمنا كان أو كافرا لا لكرامته ولا لمحبته «وَيَقْدِرُ» يضيق ويقلل ويقتر على من يشاء لا لهوانه ولا لبغضه ولا لبخل من الجواد عليه، تعالى الله عن ذلك بل لمصالح يقتضيها هو يعلمها وحكم تتعلق بها مشيئته، لأن مقاليد الرزق بيده جل جلاله، وهذه الآية كالعلة لقوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) كأنه قيل إن أعرضت عنهم لفقد ما تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) ولا تهتم لذلك فإن عدم التوسعة عليك ليس لهوان منك عليه، وإن ما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق المال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحة وحكمة، وعليه فتكون الآية (وَلا تَجْعَلْ) إلخ كالإعتراض بين هذه الآية والتي قبلها وكالتأكيد لمعنى ما تقتضيه حكمة الله عز وجل «إِنَّهُ كانَ» قديما ولم يزل ولن يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بمصالحهم السرية الخفية «بَصِيراً» بحوائجهم العلنية الظاهرة التي منها بسط الرزق وقبضه، لأنهما أمران مختصان به، وما على العبد إلّا أن يقتصد في الإنفاق والإعطاء فيفعل ما عليه ويترك ما على الله بطريق التفضل إلى الله. قال تعالى «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» مخافة الفقر والفاقة، قال الشاعر:

وإني على الإملاق يا قوم ماجد ... أعد لأضيافي الشواء المصهّبا وهذا النهي بحسب ظاهر الآية عن قتل الذكور والإناث، لأن لفظ الولد يتناولهما، لكن الشائع أن الجاهليين كانوا يئدون البنات فقط مخافة النهب والسبي أو مخافة أن يأخذن غير كفؤ وذلك جار عندهم، ومنهم من يئد مخافة العجز عن الإنفاق، فنهى الله في هذه الآية من كانت هذه عادتهم عن ذلك، وعليه فيكون المراد بالأولاد البنات، وبالقتل الوأد خشية العار والقتل مخافة الفقر والله أعلم. وأصل الخشية خوف يشوبه تعظيم ويكون عن علم بما يخشى منه، «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» هذا ضمان من الله تعالى لرزقهم وتعليل للنهي عن قتلهن، أما النهب والسبي فهو أمر قسري وكل ما يقسر عليه لا عار فيه، كما أن ما يكره عليه لا يتم؟؟؟ فيه، أما الكفاءة فهي في الإسلام متقاربة ولو فرض عدم توفرها، فإنه لا يستوجب القتل وقد أجاز الشرع للولي طلب فسخ النكاح فيها كما أجاز له الإقرار عليها، وإذا كان الله تعالى تعهد بالرزق فلا ينبغي أن يخشى من الفقر لإطعام العاجزات عن طلب الرزق، وسيأتي في الآية 150 من سورة الأنعام في ج 2 في نظير هذه الآية تقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين عكس ما في هذه الآية وذلك التقديم للإشعار بأصالتهم في افاضة الرزق، وعارض هذه النكتة في آية الأنعام تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين، لأن الباعث على القتل فيها الإملاق الناجز، ولذلك قيل من إملاق، وهنا الإملاق المتوقع، ولذلك قيل فيها خشية إملاق، فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه ونرزقكم أنتم أيضا رزقا إلى رزقكم «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً» لذلك السبب المزعوم المبتني على قلة يقينكم بالرازق وترهمكم ذلك «كَبِيراً 31» إثمه عظيما تخطره، والإثم والخطأ بمعنى واحد، ومن قرأ خطا بفتح الخاء والطاء أراد أنه لغة في الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء مثل مثل مثل وحذر وحذر، لأنه من خطأ يخطىء، وعليه يكون المعنى أن قتلهم غير صواب، والمقام لا يناسبه، لأن غير الصواب لا يوصف بالكبر عادة، وإنما وصف الله تعالى قتلهم بالكبر لأن السبب الذي توخوه منهي عنه ولا أساس له في الشرع، فكان قتلهم بناء على ذلك السبب الواهي أعظم عند الله من

قتلهم عفوا، لأن فيه عدم الاعتماد على الله تعالى في أن يرزقهم وإطاعة للشيطان فيما يلقيه في قلوبهم من خوف الفقر، قال تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الآية 129 من البقرة في ج 3، وقال تعالى (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية 25 من سورة النساء في ج 3، فانظروا أيها الناس أيهما تختارون، اتباع الله المتكفل بأرزاقكم، أم الشيطان الذي يخوفكم الفقر، وإنما كان قتلهن أعظم وزرا من القتل العفو لأن القتل يقع عادة بين الناس لعداوة أو انتقام، أو حالة المقابلة بالغزو وغيره، وليس فيه عدم الاعتماد على الله، تأمل قول الفائل: لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى» نهى الله تعالى عن قربانه فضلا عن إتيانه مبالغة في التجنّب عنه والتباعد عن التعرض لأسبابه من الإشارة واللمس والغمز والقرص والقبلة والعضّ حتى النظرة الثانية إذا كانت الأولى غير مقصودة، لأن النظر هو أول مبادثه، ولذلك نهى الله تعالى المؤمنين والمؤمنات عنه كما سيأتي في الآيتين 31 و 32 من سورة النور في ج 3، «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً» قبيحة فظيعة زائدة عن حد الشرع لما فيها من التعدي الشنيع على الغير وتضييع النسب، ومن لا نسب له ميت حكما «وَساءَ سَبِيلًا» 32 ذلك السبيل لأن الالتقاء بطريقة الزنى يسبب انقطاع النسل وهو سبب خراب العالم لأن المجتمع الإنساني لا يقوم إلا بالنكاح المسبب عنه كثرة النسل قال صلّى الله عليه وسلم تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم. ولهذه الحكمة أبيح تعدد الزوجات لأن في الكثرة عز ومنعة وقوة وسيطرة على أعداء الله وفي عدمه القلة الناشئ عنها الذلة والضعف والمسكنة للإعداء، قال صلّى الله عليه وسلم إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كاظلة، فإذا تاب ونزع رجع إليه. وفي رواية الشيخين لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. أي متوغل الإيمان في قلبه إذ يمنعه عنه، أما من كان يدعي الإيمان أو الإسلام دون التقيد بأحكامهما فلا يمنعانه من ارتكاب جميع المحرمات لأنهما صوريّان، والله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، وقال صلّى الله عليه وسلم إياكم والزنى فإن فيه ست خصال، ثلاث

في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا فنقصان الرزق ونقصان العمر والبغض في قلوب الناس، وأما الثلاث التي في الآخرة فغضب الرب وشدة الحساب ودخول النار، ولهذا نهى عن قربانه فضلا عن مباشرته والعياذ بالله، ولما جاء في الخبر، العين تزني بالنظر واليد تزني باللمس والرجل تزني بالمشي والقلب يشتهي الوقاع والفرج يصدق أو يكذب، أي يصدق هذه الجوارح إذا باشر بالزنى فعلا ويكذبها إذا ردع نفسه فلم يباشره، ولا يخفى أن الزنى من الكبائر، وقدمنا في الآية 31 والآية 72 من سورة الأعراف والآية 68 من سورة الفرقان المارتين ما يتعلق بالزنى واللواطة والسحاق وما يتفرع عنها، فراجعها. واعلم أن الزنى على مراتب أعلاها اي أعظمها وزرا بالمحارم لما جاء في صحيح الحاكم أنه صلّى الله عليه وسلم قال من وقع على ذات محرم فاقتلوه والمحرمات معلومات بالنص راجع الآية 21 فما بعدها من سورة النساء في ج 3، ثم بحليلة الجار، ثم بالأجنبية، ثم في مكان حرام كمكة والمدينة والقدس، ثم في زمن معظم كرمضان وعشر ذي الحجة والمحرم وليالي الولادة والإسراء والمعراج والبراءة والقدر والعيدين، ثم بالأجنبية على سبيل القهر لاوليائها، والإكراه لها، ثم بالأجنبية التي لا والي لها على الرضاء منها أو غير رضاء، ثم بالمسبلة، وزنى الثيب الأيّم أقبح من البكر والأعزب، بدليل اختلاف الحدّ، وزنى الشيخ أفظع من زنى الشاب لكمال عقل الأول، وزنى الحر والعالم أفظع من زنى القن والجاهل للسبب نفسه، وهو الكمال فيهما دونها، والزنى أكبر جرما من اللواطة وان كانت اللواطة فحش منه لما فيه من اختلاط الأنساب ولأن الشهوة داعية إليه، ولهذا البحث صلة في نفس الآية 35 الآية. مطلب في القتل والولي الذي له حق القصاص ومراتب الزنى واللواطة: قال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ» قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد «إِلَّا بِالْحَقِّ» استثناء مفرغ أي لا تقتلوها أبدا لسبب من الأسباب إلا بسبب واحد هو الحق، وذلك بأسباب ثلاثة أن يكفر بالله بعد الإيمان أو يزني بعد الإحصان أو يقتل نفسا عمدا، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله واني رسول إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس

والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة. وما ذهب إليه الأمام مالك والشافعي رحمهما الله من قتل تارك الصلاة كسلا وما قاله الإمام احمد من أن من تركها جاحدا فرضيتها فإنه يقتل فلا قول فيه، أما في غير الجحد فلا، ولا يجوز الإفتاء فيه فقد جاء بالحديث لأن يخطىء الإمام بالعفو أحبّ إلي من أن يخطىء في العقوبة. لأنه لا يجوز قتل رجل يقول ربي الله إلا بأمر صريح من الشارع لا شك فيه ولا معارض له، لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال، وأما ابو حنيفة رحمه الله فإنه يختار حبس التارك لها كسلا وتهاونا حتى يصليها، أما جحدا فإنه يقتل إجماعا بلا خلاف، وما قاله بعض المحققين من قتل اللوطي فلم تجمع عليه الأمة ولم يرد به نص قاطع من آية قرآنية أو حديث متواتر، وما قيل ان الحصر منقوض بجواز قتل الصائل فيقتل منقوض، لأن قتل الصائل قصد منه الدفع لا القتل، والمراد بالقتل هنا ما يكون مقصودا بنفسه، فإذا أفضى الدفع الى القتل فيكون أيضا بحق، لأنه لو لم يقتله لقتله، والدفاع عن النفس والمال والعرض مشروع، فقد ورد قاتل دون مالك، قاتل دون عرضك، قاتل دون نفسك، فيكون قتالا بحق إذا أدى الحال إليه ولم يقدر على حفظ ماله ونفسه وعرضه من القتل إلا بالقتل، ولهذا فإن القانون المدني عد القتل دفاعا عن النفس معفوا من العقوبة استنباطا من تلك الأدلة، وهكذا كل قانون يقبله العقل السليم مأخوذ من الشرائع السماوية «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» منكم أيها الناس دون اقتراف ذنب ولا سبب من هذه الأسباب الثلاثة، والصائل متعد غير مظلوم فلا يدخل في هذه الآية. قال العلماء إن من عليه القصاص يقتص منه ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك، وهذا المظلوم الذي قتل عمدا بغير حق يوجب قتله أو يبيحه «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» قويا بأن جعلنا له حق التسلط على قتل القاتل والاستيلاء عليه وإجباره بالقصاص منه أو أخذ الدية بالعفو عنه إن شاء الولي، ولا تتعين الدية إلا بعد العفو، فيجوز أخذها حينئذ كما في قتل الخطأ، لأن القتل العمد لا دية فيه بل القصاص والكفّارة، والمقتول خطأ مقتول ظلما أيضا، إذ لم يقترف جناية تستوجب قتله، إلا أنه لا إثم على قاتله لقوله صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي ثلاث: الخطأ والنسيان

وما استكرهوا عليه. وشرعت الكفارة في قتل الخطأ لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه، ومن قال إن المرأة لها دخل في طلب القصاص فقد فسّر الولي بالوارث، والصحيح أن لا دخل لها في ذلك، لأن القرآن جاء بلفظ الولي وهو لفظ مذكّر لا تدخل فيه المرأة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 92 و 93 من سورة النساء في ج 3 إن شاء الله «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» فيتجاوز الحد الشرعي بأن يمثل في القاتل أو يقتل اثنين بدل واحد أو يقتل غير القاتل، راجع تفسير الآية 15 المارة في هذا البحث، إذ كان الناس قبل شريعة إبراهيم عليه السلام يؤاخذون القريب بقريبه كما هو الحال الآن في أعراب البادية، إذ يقتلون من عثروا عليه من أقارب القاتل، وقد لا يكتفون بقتل واحد إذا كان المقتول وجيها ويتحرون الوجيه والشريف من أبناء عشيرة القاتل الأبرياء فيقتلونهم وهم غافلون، وهذا غاية في الظلم والتعسف ولا حول ولا قوة إلا بالله «إِنَّهُ كانَ» ولي المقتول «مَنْصُوراً» 33 على القاتل لاستيفاء حقه منه قصاصا، وقد أمر ولي الأمر بنصرته ومعاونته على استيفاء حقه، وهذه أول آية نزلت في القتل وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، وهذه الآية والتي قبلها 32 و 33 مدنيتان على قول الحسن والجمهور على أنها مكيتان وسياقهما يؤيد مكيتهما. مطلب المحافظة على أموال اليتيم والوفاء بالعهود: قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» الذي مات أبوه، أما الذي ماتت أمه فهو عجي، والذي مات أبواه فهو لطيم، وفي النهي عن قربانه المبالغة في النهي عن أخذه كما لا يخفى على بصير، ثم استثنى جل شأنه من عموم أخذ مال اليتيم حالات بينها بقوله عز قوله «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» لنفس اليتيم من الخصال التي تعود عليه بالنفع والحظ من طرق تنميتها وحفظها والإنفاق عليه منها بلا تقتير ولا إسراف، وبغير هذه الجهات الثلاث وما يقاربها فقد حرم الله قربان ماله، فكيف بأخذه وأكله، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) الآية 10 من سورة النساء في ج 3، ولا استثناء في الأكل وإنما هو في القربان فقط لما فيه من النفع لليتيم كما علمت،

ويجب على وليه أو وصيه المحافظة عليه وعلى ماله بكل إخلاص وصدق «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» ليستكمل قواه ويصير أهلا للتصرف بماله، بأن يبلغ رشيدا ويجرّب في الأخذ والعطاء والبيع والشراء إن كان من أهله، ولا يكون ذلك إلا بعد بلوغه إحدى وعشرين سنة من عمره على أصح الأقوال، لأن أقل الأشد ثمانية عشرة سنة، وأكثره ثلاثون راجع الآية 14 من سورة القصص المارة، فإذا لم يبلغ رشيدا فلا يسلم إليه ماله ولا يمكن من التصرف به ولا من قربانه بغير الصور الثلاث، لأنه مقيد ببلوغه وكماله، أما إذا بلغ رشيدا وجرّب جاز للولي والوصي أن يسلمه ماله وملكه، راجع الآية 5 من سورة النساء في ج 3، ويسن مراقبته من قبلهما وإرشاده لما به سداده، وإذ ذاك يسقط الوجوب عنهما ويخرج عن كونه يتيما راجع الآية 9 من النساء أيضا في ج 3. وليعلم أن أكل مال اليتيم من الكبائر بدليل الوعيد فيه المار ذكره أعلاه قليلا كان المأكول أو كثيرا فلا يتقيد بمقدار نصاب السرقة المستوجبة للقطع، لأن الآيات والأحاديث الواردة في النهي عنه جاءت مطلقة عامة لم تقيد بقليل أو كثير ولم تخصص أيضا، ولا يجوز قيدها وتخصيصها إلا بدليل سمعي، ولا يوجد، لذلك فإن مرتكب أكل مال اليتيم مهما كان قليلا يستحق العذاب والوعيد المترتب عليه، اللهم إلا التافه الذي يتسامح فيه عادة كشربة ماء وحبّة فاكهة ملقاة في الأرض أو ذوق الطعام لمعرفة نضجه وطعمه، وقد توصل في هذا الزمان والعياذ بالله بعض القضاء المكلفين بحفظه إلى أكله بوسيلة حفظه وتنميته، عاملهم الله بعدله وأذاق الخائن منهم جزاء أكله، ولله در القائل في أمثالهم: قضاة زماننا أضحوا لصوصا ... عموما في البرايا لا خصوصا أباحوا أكل أموال اليتامى ... كأنهمو رأوا فيها نصوصا فدعنا يا أخي من أناس ... باعوا دينهم بيعا رخيصا قال تعالى «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ» الذي عاهدتم الله عليه أزلا يوم أخذه عليكم في عالم الذّر من التزام أوامره واجتناب نواهيه، وما عاهدتم عليه الناس من أقوال وأفعال، وكل ما التزمتم به أنفسكم للغير وكلفكم به الله في هذه الدنيا، والوفاء

بالعهد هو القيام به والعمل بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه، لأنه الغدر بعينه «إِنَّ الْعَهْدَ» وضع جل شأنه الظاهر موضع المضمر لكمال الاعتناء، وإلا لقال «إنه» لأن الضمير يعود على العهد المذكور قبله «كانَ مَسْؤُلًا» 34 عنه في الدنيا ومكلف بالقيام به ومؤاخذ عليه في الدنيا والآخرة، وتقدم كيفية أخذ العهد من قبل الله في الآية 172 من سورة الأعراف المارة. واعلم أن الإخلال بالعهد من الكبائر، فقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه عدّ من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهدة، وصرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سماه كبيرة، وقال بعض المحققين إن العهد هنا هو التكليفات الشرعية، والوفاء به حفظ ما يقتضيه القيام بموجبه. ويقال وفي بالتخفيف والتشديد وأو في بالمزيد وكلها بمعنى واحد، إلا أن التشديد في الثاني يدل على التكثير والمبالغة والمزيد أي الأخير فيه زيادة حرف وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى. واعلم أن العهود باعتبار المعهود والمعاهد بكسر الهاء وفتحها ثلاثة أنواع: الأول بين الله وعباده، والثاني بين العبد ونفسه، والثالث بين الناس بعضهم لبعض. وكل واحد باعتبار الموجب له جهتان جهة أوجبها العقل وهو ما ذكر الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما يبدهية العقل أو بأدنى نظر واستدلال عليه، يؤيده قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية 172 من الأعراف المارة، وجهة أوجبها الشرع وهو ما دلّنا عليه كتاب الله تعالى أو سنة نبيه، فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أقسام: فالأول واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقرب، مثل أن يقول علي أن أصوم كذا وكذا إن عافاني الله من مرضي هذا أو أتصدق بكذا، الثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك مباح فإن له أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه متى أراد، الثالث يستحب ترك الوفاء به وهو ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه، فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه ولا يفعل المحلوف عليه، الرابع واجب ترك الوفاء به مثل أن يقول على أن أقتل فلانا أو أغتصب ماله ونحوه، فعليه أن يعرض عن حلفه ويكفّر عن يمينه فيحصل

من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا. وأعلم أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى على الوفاء بما عاهد وعاقد عليه لا أنه لا قدرة له أصلا، ينقض ما عاهد وما عاقد ويقول هكذا مراد الله أو ما أراد الله أن أوفي بذلك كما تقول الجبرية، ولا أن يقول أن لي قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعرية، ولا يقول إن لي قدرة مؤثرة وإن لم يأذن الله تعالى كما يقوله المعتزلة، وإن لي اختيارا أعطيته بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له، فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه، بمعنى أنه لا بد من أن يكون له فعل فيه، لأن استعداده الأزلي غير المجعول قد طلبه من الجواد الكريم المطلق الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك مثل دلالة الأثر على المؤثر والغاية على ذي الغاية، قال تعالى: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الآية 34 من سورة النحل في ج 2 ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. هذا، وقد قال ابن المنير إن أهل السنة والجماعة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، وبذلك يميز بين الاختياري والقسري، وتقوم حجة الله على عباده، ولهذا يعاقب العبد على فعله ويؤجر لأنه إذا فعل الشرّ كالشرب والزنى مثلا فإنه فعلهما عن اختيار ورغبة لا عن إكراه. وكراهية، ولأنه حينما فعلهما كان عالما بأنه يعذب عليهما لأن ذلك لا يعرف إلا بعد وقوع الشيء وإلا لما استحق العذاب ولا السؤال، فلا حجة للعبد بقوله مقدر علي وإنه لو شاء الله لمنعني من فعله، اقتداء بمن سبقه من الكفرة الذين يتقولون بذلك راجع الآية 140 من سورة الأنعام والآية 35 من سورة النحل في ج 2 اه. من روح المعاني للآلوسي، وليعلم أن الأمة الإسلامية خير من يراعي العهود ويحافظ عليها ويفي بالوعود ويقوم بها، وكان حضرة الرسول الأعظم هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى لأمته في ذلك، ولهذا رأيت أن أذكر نوعا من معاهدات الصلح التي عقدها عليه الصلاة والسلام على أثر انتهاء حروبه مع أهل الكتاب وغيرهم

حبا في بقاء النوع الإنساني وصيانة لحياته دون احتياج إلى استخدام السلاح وإرهاق الأرواح وجنوحا للسلم وحقنا للدم، راجع الآيتين 10- 11 من سورة الحجرات والآية 138 من سورة النساء والآية 62 من سورة الأنفال في ج 3. وهذا نص كتاب الصلح في معاهدة تبوك: مطلب نص بعض معاهدات حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم: بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا منّة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل ايلية سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله تعالى ومحمد النبي ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وانه لطيّبة لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. وهذا نص الكتاب الثاني: بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا كتاب محمد لأهل أزرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد رسول الله وأن عليهم مائة دينار في كل رجب واقية طيبة والله كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين. وهناك معاهدات أخرى سنأتي بها عند ذكر ما يناسبها من الآيات المارة الذكر في القسم المدني إن شاء الله وخاصة عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الآية الأولى من سورة المائدة، وعند قوله تعالى (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الآية 19 وما بعدها من سورة الرعد والآية 2 من سورة الصف في ج 3 والآية 91 من سورة النحل في ج 2 وغيرها مما جاء فيها وجوب المحافظة على العهود والتهديد والوعيد على نقضها، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. فالوفاء بالعهد من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة والخصال المجيدة، ومن الأمثال: الوعد وجه والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والوفاء مطرها. وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، وقد ذم الله القض في الآيات 90 فما بعدها من سورة النحل المنوه بها آنفا، وليعلم أن النقض من الغدر والبغي وقال صلّى الله عليه وسلم أعجل الأشياء

عقوبة البغي. وقال المكر والخديعة والخيانة في النار. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاث من كن فيه كن عليه وورد: ثلاث رواجع أي ترجع على المبتدئ بهن البغي والنكث والمكر قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) الآية 24 من سورة يونس في ج 2، وقال تعالى (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية 10 من سورة الفتح ج 3، وقال تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية 41 من سورة فاطر المارة، هذا وكم أوقع الغدر في المهالك من غادر وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر وطوقه غدره طوق خزي فهو على فكه غير قادر، وأوقعه في مظنة خسف وورطة حتف، فماله من قوة ولا ناصر. ويشهد لهذا قصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري التي سيأتي ذكرها في الآية 105 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3، فلا خزي أفظع من ترك الوفاء بالميثاق، ولا سوء أقبح من غدر يسوق إلى النفاق، ولا عار أفضح من نقض العهد والميثاق وجاء في المثل لم يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم. وأكثر الشعراء في ذمّه فقال بعضهم: غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد وهو أصناف بحسب النتائج، فمنه الخلف بما يعد من الصغائر كالوعد بإعطاء شيء ثم النكول عنه، وبالمجيء إلى مكان ثم الخلف به، ومنه ما يكون من الكبائر كالإخلال بمعاهدات الصلح والهدنة الموقتة والمبايعة للإمام، ومن الكبائر الخروج على الإمام بعد المبايعة له أيضا بغير وجه شرعي يخالف نص المبايعة، قال تعالى «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ» أتموه وأعطوه وافيا لا تنقصوه «إِذا كِلْتُمْ» للمشتري أيها الباعة «وَزِنُوا» إذا وزنتم لغيركم ولأنفسكم من غيركم «بِالْقِسْطاسِ» القبان ومثله الميزان «الْمُسْتَقِيمِ» العدل السوي كان الموزون ذهبا أو حطبا، وقد اكتفى جل شأنه باستقامة الوزن عن الأمر بإيفائه، لأن الوزن عند استقامة ما يوزن به لا يتصور الجور فيه غالبا، بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف فيه مع استقامة الكيل، لهذا ذكر الاكتفاء بإيفائه عن الأمر بتعديله.

مطلب الكيل والميزان والذراع ... وما يتعلق بهما: وقد جاء في الآية 84 من سورة الأعراف المارة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) وفي الآية 84 من سورة هود (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية في ج 2، لأن الإيفاء لا يتصور بدون تعديل المكيال، وقدمنا في سورة الشعراء المارة في الآية 182 بأن كلمة القسطاس من التي قيل فيها إنها غير عربية في الأصل، وذكرنا هناك بأنها وغيرها في الأصل عربية واستعملها الأجانب لأن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وذكرنا أيضا بأنه لو فرض جدلا ومحالا بأنها في الأصل ليست بعربية فقد عربت ونطق بها العرب قبل نزول القرآن، فوجدوها فيه على هذا لا يقدح بعربيتها في القرآن أيضا لأنها بعد التعريب والسماع في فصيح كلام العرب استعمالها صارت عربية، فلا حاجة لإنكار عربيتها أو ادّعاء التغليب، أو أن المراد عربي الأسلوب، أو أنها من نوارد اللغات كما يقال في بعض الشعر إنه من نوارد الخاطر إذا وافق قول من قبله. هذا، وقد تبدل سينه صادا كما تبدل صاد الصراط سينا وكذلك المستقيم وشبهه من الألفاظ، لأن السين تخلف الصاد وبالعكس في بعض المواضع راجع تفسير الآية 5 من سورة الفاتحة المارة، «ذلِكَ» الإيفاء والاستقامة في الكيل والوزن «خَيْرٌ» لكم أيها الناس في الدنيا لأنه يسبب الرغبة في معاملتكم يجلب لكم النفاء الجميل «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» 35 في الآخرة، وأجمل عاقبة لما يترتب عليه من الثواب، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما، كما في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية 8 من آل عمران في ج 3، أو فعلا كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) الآية 53 من سورة الأعراف المارة وقول الشاعر: وللنوى قبل يوم البين تأويل وليعلم أن نقص الكيل والوزن من الكبائر على ما يقتضيه الوعيد الشديد الوارد في الآيات والأحاديث، ولا فرق بين القليل والكثير، فالتفاوت لا شك قليل والعذاب عظيم كبير، ألا فلينتبه الغافلون وليتأملوا قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الآتية آخر الجزء الثاني، ومن يرد السلامة ويحذر يوم الندامة فليوف الكيل وليرجح الميزان ليكون آمنا من مظنة السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهنا لا تسامح في التّافه، ولا عبرة لمن قال إن غصب ما دون ربع

الدينار لا يكون كبيرة، ويقيس عليه التطفيف، لأن هذا من مقاييس إبليس التي مرت لك في الآية 12 من الأعراف، ولا محل لها هنا، لأن الآية أوجبت الوفاء بالكيل والميزان، والله تعالى يقول (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية 83 من هود في ج 2، فكل نقص مهما كان تافها يعد مخالفة لكلام الله، ومخالفة كبيرة عظيمة لا يختلف فيها اثنان، على أن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره، لأنه يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعيين التنفير منه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا بما قالوه في شرب القطرة من الخمر إنه كبيرة وإن لم يوجد فيها مفسدة وهو السكر وزوال العقل واللغو والتأثيم لأن قليله يدعو إلى كثيره، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع وجر السلعة حالة الذرع، ويوشك أن لا يكاد في هذا الزمن كيال أو وزان أو ذراع يسلم من نقص إلا من عصمه الله تعالى، أجارنا الله من النقص المادي والمعنوي بمنه وكرمه، قال تعالى «وَلا تَقْفُ» لا تتبع أيها الإنسان «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أحوال الناس وقرىء (ولا تقفوا) بإشباع الضمة حتى ولد منها واوا، ومعنى قفا اتبع قفاه، ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه، يقال قاف أثره يقوفه إذا قصّه واتبعه، أي لا تتبع ما لا علم لك له من أقوال الناس وأفعالهم، فتقول رأيت كذا من فلان وسمعت كذا من الآخر، وإياك أن ترمي أحدا بالظن وتغتابه في قفاه. مطلب آداب الله الذي أدب خلقه ووصايا الصوفية واعتبار الظن والسماع في بعض الأوقات: هذا نهي الله تعالى لكم أيها الناس من أن تحكموا بما لم تحققوا، فكيف بمن يقول رأيت وسمعت وهو لم ير ولم يسمع، فذلك البهت، وذلك الافتراء، وذلك الاختلاق، راجع الآية 110 من النساء والآيتين 6 و 12 من سورة الحجرات، والآية 58 من الأحزاب في ج 3، والآية 36 من سورة يونس ج 2، إذ يتدرج تحت هذا أمور كثيرة اقتصر المفسرون على بعضها، فمنهم من قال المراد فيها نهى المشركين عن القول بالإلهيات والنبوات تقليدا لأسلافهم واتباعا لليهود، وقال محمد ابن الحنفية رضي الله عنه: النهي عن شهادة الزور، وقيل المراد النهي عن القذف ورمي المحصنات الآتي ذكره في الآية 3 فما بعدها من سورة النور في ج 3، قال الكميت:

ولا أرمي البريّ بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن رمينا وقيل المراد النهي عن الكذب، وقال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، والقول ما قاله الإمام بأن المراد العموم، لأن اللفظ عام فيتناول الكل ولا معنى للقيد والتقيد، روى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ ابن أنس: من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال. وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إياكم والظنّ لأن الظن أكذب الحديث. وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة، قلت الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره. وفي رواية ولو بحضوره. قلت ولو كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته. هذا وما جاء بأن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام، قال أبو عمر الهيثمي لا أصل له، وقال نعم روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنى إلا أن له ما يبين معناه، وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنى، إن الرجل ليزني فيتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفر له صاحبه. فعلم من هذا أن أشدّية المغيبة من الزنى ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنية المستوفية لجميع شروطها من الندم والإقلاع، والعزم على عدم العودة إذا وقعت قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها، وظهور دابة الأرض، مقبولة مكفرة لإثم الزاني بخلاف الغيبة فإن التوبة منها وإن وجدت فيها تلك الشروط

جميعها لا تقبل ولا يكفر وزرها بدون أن يستحل من المغتاب ويستعفيه عما وقع منه، وهذا قد لا يتيسر، فلهذا كانت الغيبة أشد من الزنى من هذه الحيثية لا مطلقا، وعلم من هذا أن الزاني لا يحتاج إلى الاستحلال من أولياء المزني بها إذا كان برضاها، ومنها أيضا إن كان كرها لما يترتب عليه من المفاسد التي قد تؤدي إلى قتل الزاني والمزني بها أو لهما معا، دفعا لما يلحقهم من العار ويولد فتنا وغيظا وحقدا لا تكاد تتلافى، لأن الزوج والقريب يقدم على القتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقيق، أجارنا الله من ذلك كله، وليعلم أن ثمرات الزنى قبيحة في الدنيا، يورث الفقر ويذهب بهاء المؤمن ويقصر العمر ويؤخذ بمثله من ذربة الزاني، راجع ما قدمناه في الآية 32 المارة وحديث من زنى زني به، أي من غير حاجة إلى ترصد محارمه والزنى بهن خارجا عن داره، بل قد يكون في وسط داره وعلى فراشه والعياذ بالله، حفظنا الله وعصمنا بحرمة نبيه وآله. وقد اتفق أن بعض الملوك لما سمع هذا الحديث أراد تجربته وكانت له بنت في غاية الحسن والجمال، فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها، فطافت بها الأسواق، فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها، فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمدّ أحد نظره إليها، رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها وذهب، فأدخلتها وأخبرت الملك بذلك، فخر ساجدا لله تعالى وقال الحمد لله ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة، وقد قوصصت بها، فنسأل الله أن يعصمنا وذرارينا من الفواحش والموبقات كلها ما ظهر منها وما بطن. هكذا كانت الملوك وسننهم في رعاياهم، وملوك الآن على ما نحن فيه لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تكونوا يولى عليكم، هذه عاقبة الزنى في الدنيا، أما عاقبته في الآخرة فالدخول في جهنم والعذاب الأليم فيها، أجارنا الله من ذلك. واحتج في هذه الآية ثقات القياس، لأنّ قفو للظن ولا حكم به، لأن قوله تعالى (وَلا تَقْفُ) عام دخله التخصيص وهو النهي عن العمل بالظن، وأجيب بأن الأمة أجمعت على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة، منها الصلاة على الميت الذي لم يعرف ودفنه في مقابر المسلمين، وتوريت المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو

مظنون فيه، ومنها التوجه إلى القبلة في الصلاة مبني على الظن وعلى اجتهادات وامارات لا تفيد إلا الظن، ومنها أكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم والذابح لها مظنون، ومنها الشهادة فإنها ظنية أي الشهادة الفعلية وهي القتل في الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى لأنها مبنية على النيّة وهي مظنونة، لا الشهادة القولية على الديون وغيرها فإنها لا تكون على الظن إلا في مواضع فإنها تجوز على السماع كالوقف والموت وغيرهما كما هو مدون في كتب الفقه، ومنها قيم المتلفات وأرش الجنايات فمبناهما على الظن. ومن نظر ولو بمؤخر عينه رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء والآمال في حاصلات الزروع وغيرها، كلها مظنونة ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. فالنهي عن اتباع ما ليس يعلم قطعي مخصوص بالعقائد، وبأن الظن قد يسمى علما، قال تعالى (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) الآية 11 من سورة الممتحنة في ج 3، وهذا العلم بإيمانهن إنما هو على إقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن إذ لا تعلم سرائرهن في ذلك وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا، على أنه متى حصل ظن على أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص، فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن واقع في طريق الحكم، وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. واعلم رحمك الله أنه لا شك أن القياس من الحجج المعمول بها شرعا بعد كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، وهو لغة التقدير واصطلاحا تقدير الفرع المراد إلحاقه بالأصل في الحكم والعلة نقلا وعقلا لقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الآية 11 من سورة الحشر، وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الآية 13 من آل عمران في ج 3 والاعتبار رد الشيء إلى نظيره. ولحديث معاذ رضي الله عنه حينما قال له صلّى الله عليه وسلم بم تقضي؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي، فقال صلّى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي به رسوله. هذا نقلا، وأما عقلا فلأن الاعتبار وهو التأمل واجب عند عدم النص فيما أصاب من قبلنا

من المثلات بأسباب نقلت عنهم، فنكل عنها احترازا عن مثله من الجزاء، ولا غرو أن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في المعلول كما بيناه في المطلب الرابع من المقدمة فراجعه، ومن أراد التفصيل فعليه بكتب الأصول، هذا وإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية مضبوطة، وإن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن، تأمل قوله تعالى «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» 36 أي أن هذه القوى الثلاث المشار إليها في هذه الآية الكريمة كسائر الجوارح الأخر من كل إنسان مستجمع لها يسأل يوم القيامة عما اقترفتها، فالبصر يسأل عما أبصره، والسمع عما سمع، والقلب ماذا وعى ووقر فيه، وهكذا اليد والرجل والفم، أو أن الله تعالى يسأل هذه الجوارح نفسها عن صاحبها هل استعملها فيما خلقت له بأن استعمل النظر في كتاب الله وآلائه ومكنوناته، والسمع في سماع القرآن والذكر والكلم الطيب، والفؤاد هل وقر فيه النصح للمسلمين وحبهم والحميّة لهم، أم لا بأن استعملها على العكس فصرف نظره للمحارم، وسمعه للغيبة وقول السوء، وقلبه للحقد والغل والحسد للناس، واليد للبطش بغير حق، والرجل للمشي إلى ما لا يرضي الله وما أشبه ذلك. هذا وقد أشار الله تعالى إلى هذه الجوارح بإشارة العقلاء على القول بأنها مختصة بهم تنزيلا لها منزلتهم، لأنها مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال بعضهم إنها غالبة في العقلاء، وجاءت لغيرهم من حيث أنهم اسم جمع (لذا) أي لفظ أولئك اسم جمع لذا وهو أي ذا يعم القبيلين من يعقل ومن لا يعقل ومن ذلك قول جرير: ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام مطلب ما يجب أن تبادر به الناس والوصايا العشر وغيرها: قال تعالى «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» فخرا وكبرا وخيلاء وتبطرا تتعاظم عليهم، وتتكابر في مشيتك على الناس وأنت منهم «إِنَّكَ» أيها الإنسان المتصف في هذه المشية المكروهة «لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ» بمشيتك هذه الممقوتة، فتتصور أنك تثقبها بشدة وطأتك كلا «وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» 37 بتشامخك ومدّ عنقك وقامتك مهما تطاولت، فأنت أنت بل تتصاغر في أعين قومك،

وهذا تهكم في كل مختال شديد الفرح بنفسه كثير المرح على غيره، إذ يمشي مرة على أعقابه وأخرى على رءوس أصابعه، وتارة يتمايل، وطورا يتبختر بقصد تعالي نفسه الواطية، فمالك وهذا أيها الإنسان، تواضع لأنك دون ذلك وكن كما قال أبو الحسن علي بن خروف: تنزه عن الدنيا وكن متواضعا ... عفيفا ولا تسحب ذيولا من الكبر إذا كنت في الدنيا حليف تكبر ... فإنك في الأخرى أقل من الذر واعلم أن قوتك مهما كانت فلن تقابل قوة الأرض ولا جثتك عظم الجبال، ومن هو أضعف من هذين الجمادين لا يليق به أن يتكبر، كان صلّى الله عليه وسلم إذا مشى يتكفأ تكفؤا أي تمايل إلى قدام كأنما ينحط من صيب، أي ينحدر من مكان عال فيحصر نظره قدامه، ومن هنا جعل السادة الصوفية العارفون النظر عند المشي إلى القدم شرطا من شروطهم حتى لا يرى شيئا من أحوال الناس، ومن أحوالهم بارك الله فيهم قولهم إذا دخلت فادخل أعمى وإذا خرجت فاخرج أخرس، وهذا هو الحكم الشرعي في المشي. ومن السنّة أن يمشي بجانب الطريق ويتجنب التضييق على المارة، ويغض بصره عن عورات الناس، ويعرض عنهم، ويوسع لهم ما استطاع، ويزيل الأذى عن الطريق من كل ما يوجب العثار والزلق، ويسلم على الناس ويقابلهم ببشاشة الوجه، والأحسن أن لا يجاوز نظره محل قدمه، وينذر الغافل والأعمى والصغير عن الوقوع في حفرة وشبهها، ويحذرهم من المرور تحت جدار مائل، ومن حية وعقرب وكلب كلب أو عقور أو جمل هائم أو رجل صائل أو سقف هائر، وبالجملة من كل ما يترقب الأذى منه أو يتوقع الضرر منه مادة ومعنى. وهذا كلثه من حق المسلم على المسلم والمعاهد والذمّي في حكم المسلم من هذه الجهات لقوله صلّى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. قال تعالى «كُلُّ ذلِكَ» من- ولا تجعل إلى آخر هذه الآية- «كانَ سَيِّئُهُ» المنهي عنه من ذلك، وهو أربع عشرة خصلة، والمأمور به وهو إحدى عشرة خصلة، ثلاث مستترة وثمانية ظاهرة، فيكون المجموع المشار إليها بقوله ذلك خمس وعشرين خصلة، فتدبرها لأنا أوضحناها لك فتح الله علينا وعليك، فإذا علمتها فافعل المأمورات ما استطعت،

واجتنب المنهيات كلها، لأن اجتناب المنهيات أحسن عند الله من فعل المأمورات، ولهذا جاءته القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع، راجع الحديث المار في الآية 39، واعلم أنه كما أن المأمور به منها محبوب فالسيىء «عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً» 38 مبغوضا، فعليك أن تتّقي كل ما يكرهه الله، وتفعل ما يحبه. واعلم أن لا مجال لما تمسك به بعضهم في هذه الآية من أن القبائح لا تتعلق بها إرادة الله تعالى، لان المراد بالمكروه هنا ما يقابل المرضيّ كما ذكرنا، لا ما يقابل المراد، لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى، وإلّا لاجتمع الضدان الإرادة والكراهة كما يزعمه بعض المعتزلة، ووصف ذلك بمطلق الكراهة، مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عنها، ولهذا كان المكروه عند المتقين الكاملين مثل الحرام في لزوم الاحتراز عنه، ومن لم يعرفه تعدّى إلى دائرة الإباحة، فتدبر وتحفظ وتأدب تنج وتسلم وتربح «ذلِكَ» المقدّم تفصيله لك أيها المتدبر المتفكّر العارف «مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ» من بعض ما أنزله «رَبُّكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْحِكْمَةِ» التي هي أسّ علم الشرائع ومعرفة ذات الخالق والاحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد إلى آخر الدوران «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» افتراء عليه إياك إياك، احذر من هذا أيها العاقل كل الحذر، فهو أكبر أنواع الكفر، ولهذا صدّرت الآيات الثماني عشرة بمثل ما ختمت للعلم بأن التوحيد مبدأ الأمر وآخره، ورأس كل حكمة ومنتهاها، وملاك كل أمر وعمدته، وقد رتّب عليه أولا ما هو غاية الشرك في الدنيا، إذ ختم تلك الآية بقوله (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) ورتّب آخرا على هذه الآية ما هو نتيجته في العقبى، وختمها بقوله «فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً» من نفسك وغيرك «مَدْحُوراً» 39 مبعدا من رحمة الله لأنه كفر ما وراءه كفر، والفرق بين المذموم والملوم هو أن الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر مذموم، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا وما الذي حملك عليه، وما استفدت منه إلا ضرر نفسك، ويعلم من هذا أن الندم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول من لم يعنه أحد وقد فوض

أمره لنفسه إذ لا ناصر له، والمدحور المطرود المهان المستخف به، قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الثماني عشرة آية في التوراة عشر آيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل (يعني سورة الإسراء هذه) ثم تلا ولا تجعل مع الله إلى آخر هذه الآية، أي أن غالب أحكام التوراة داخلة في هذه الآيات، أما الوصايا العشر التي هي في التوراة فهي من جملة هذه الآيات وداخلة فيها وهي مبينة تماما في الآيات 152 و 153 و 154 في سورة الأنعام في ج 2 كما سنبينها في محلها إن شاء الله. واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أولا عصيان بني إسرائيل وإفسادهم وتخريب بيت المقدس وتدميره وإياهم، وختمها كما سيأتي في استفزاز فرعون لهم وإرادته إهلاكهم، ونوه بالآيات التسع التي أظهرها لهم على يد موسى عليه السلام، وأنه دمّر فرعون وقومه وأورث ملكه وأرضه إلى موسى وقومه، وأن بني إسرائيل بعد ذلك كله استفزوا محمدا صلّى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة وأرادوا إخراجه منها، وحينما كان في مكة أرادوا استفزاز قريش عليه، وقالوا لهم سلوه عن الروح وأهل الكهف وعن ذي القرنين كما سيأتي تفصيله في الآية 8 من سورة الكهف، وهذا من بعض تعنتات اليهود. وجاء ذكرهم في هذه السورة تعريضا بهم بأنهم إذا لم يؤمنوا بمحمد سينالهم ما نال فرعون، لأنهم أرادوا بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلم ما أراد فرعون بموسى وأصحابه، وجاء هذا البحث هنا استطرادا بسبب ذكر التوراة وما فيها راجع الآية 166 من الأعراف المارة. قال تعالى «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» اختصكم «بِالْبَنِينَ» واختارهم لكم «وَاتَّخَذَ» هو لنفسه جلت نفسه «مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً» مع أنهنّ أدنى حالا من الذكور «إِنَّكُمْ» أيها الكفرة المختارون لأنفسكم الأحسن «لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» 40 في حق المتّصف بالكمال المنزه عن اتخاذ الولد، وتجرءون على هذا ولا تخشون عظمته بأن ينزل بكم أعظم العذاب. نزلت هذه الآية بالمشركين القائلين إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك، وإنما وصف الله قولهم هذا بالعظيم لأنه لا أعظم منه، إذ جعلوه جل جلاله من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد، وهو ليس كمثله

[سورة الإسراء (17) : الآيات 41 إلى 50]

شيء، فهو الواحد القهار الباقي بذاته ، وهذا القول لا يجترىء عليه ذو عقل بل هو خرق لقضايا العقول، وإثم كبير لا يقادر قدره، قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا» كررنا وبيّنا، والتصريف أصله صرف الشيء من جهة إلى أخرى، ولكنه استعمل في التّبيين والتكرير على طريق الكناية، لأن من يحاول بيان الشيء يصرف كلامه من نوع إلى آخر لكمال الإيضاح «فِي هذَا الْقُرْآنِ» العظيم من العبر والحكم والأخبار والقصص والأمثال والحجج والآيات والبراهين، «لِيَذَّكَّرُوا» به قومك يا أكمل الرسل فيتعظوا بزواجره ويخبتوا لأوامره لأن هذا التكرار يقتضي الإذعان والركون إلى ما فيه، ولكنهم تمادوا في كفرهم «وَما يَزِيدُهُمْ» ذلك التبيين «إِلَّا نُفُوراً» 41 من حقك الذي جئتهم به، وصدودا عن الإيمان الذي تأمرهم به، وجحودا للكتاب الذي أنزل إليهم، وتباعدا عنك وإعراضا، وما ذلك منهم إلا تعكيس في الحق وتماد في الباطل، وقرىء (ليذكروا) بالتخفيف هنا كما قرىء في مثلها في سورة الفرقان المارة الآية 57 من الذكر بمعنى التذكر ضدّ النسيان والغفلة، كما قرىء صرفنا بالتخفيف أيضا وهو مثل صرفنا بالتشديد، إلّا أنه لا يدل على التكثير «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المشركين في إظهار بطلان ما تفوّهوا به «لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ» بالتاء خطابا لهم وبالياء على الغيبة وكلا القراءتين جائزة هنا لأنه إذا أمر أحد تبليغ الكلام المأمور به لغيره فالمبلغ له في حال تكلم الأمر غائب، ويصير مخاطبا عند التبليغ، فإذا لوحظ الأول كان حقه الغيبة، وإذا لوحظ الثاني كان حقه الخطاب «إِذاً» إذ لو كان مع الله آلهة أخرى تعالى الله عن ذلك «لَابْتَغَوْا» لطلبوا «إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» 42 طريقا لمغالبته وقهره ليزيلوا ملكه كما تفعل ملوك الأرض بعضها ببعض، ولكن ليس معه آلهة قطعا، كيف وهو رب العرش العظيم الإله الجليل الذي لا رب غيره، راجع الآية 33 من سورة الرحمن في ج 3. وهذه الآية تشير إلى برهان التمانع المذكور في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية 21 من سورة الأنبياء في ج 2 كما سيأتي تفصيله فيها إن شاء الله. وقال مجاهد وقتادة إن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه والتقرب لحضرته بالطاعة لعلمهم بعلوّه سبحانه عليهم وعظمته ورفعته،

وهذا كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية 57 الآتية وهو إشارة إلى قياس اقتراني تقديره لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى، وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. هذا، وعلى التفسير الأول المشار به إلى برهان التمانع تكون لو امتناعية وعلى الثاني شرطية، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية، والوجه الأول أولى في التفسير وأنسب بالمقام. مطلب تسبيح الأشياء وبعض معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلم: قال تعالى منزها نفسه المنزهة بنفسه «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ» من نسبة آلهة معه أو أولاد وصاحبة وعلا «عُلُوًّا كَبِيراً» 43 لا غاية وراءه، وذكر العلو بعد وصفه سبحانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة، وهذا مبالغة في البراءة والبعد عمّا وصفوه به لأنه تعالى في قصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي، كيف لا وهو الذي «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» من الإنس والجن والملائكة والطير والوحش والحيتان والنّبات والجماد بدليل قوله «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ» ولا من ذرّة يطلق عليها اسم الشيء ويمتد عليها ظل الوجود فيهن إلا يسبح بحمده منهم بلسان قاله، ومنهم بلسان حاله، لأن كل شيء يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث، كما يدل الأثر على مؤثره «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ» أيها الناس وأنتم منهكون في الغي والضلال «تَسْبِيحَهُمْ» لأنكم لا يفهم بعضكم لغات بعض فكيف تفهمون لغات ما هو من غير جنسكم «إِنَّهُ» جلت عظمته «كانَ» ولم يزل بعدم معاجلتكم بالعقوبة عما يصدر منكم من القبائح «حَلِيماً» لا يستفزّه الغضب فيمهل خلقه رحمة بهم ورأفة عليهم «غَفُوراً» 44 كثير المغفرة لعباده الرّاجين عفوه الراجعين إليه، ولولا هاتان الصفتان لأنزل بكم العذاب حالا واستأصلكم به. وليعلم أن عدم فقه تسبيح الحيوانات وغيرها ناشىء من عدم صقل القلوب من رين الذنوب، وقصور النظر فيما يدل على علام الغيوب، وإلا فقد وردت أحاديث وأخبار لا تقبل التأويل بتسبيح الحصى في كفه صلّى الله عليه وسلم، روى مسلم عن جابر بن

سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن بمكة حجرا كان يسلّم علي ليالي بعثت، وإني لأعرفه الآن. وروى البخاري عن ابن عمر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه فحنّ الجذع فمسح عليه بيده. وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطعام ثريد فقال إن هذا الطعام يسبّح فقالوا يا رسول الله وتفقه تسبيحه؟ قال نعم، ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل، فأدناها، فقال نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبّح، فقال أدنها من آخر، فأدناها منه فقال يا رسول الله هذا الطعام يسبّح، ثم ردّها، فقال رجل يا رسول الله لو أمرّت على القوم جميعا، فقال لا لأنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب، ردّها، فردّها. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا أصحاب محمد نعدّ الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس معنا ماء فقال اطلبوا ممن معه فضل ماء، فأني بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، ثم قال حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه. قال عبد الله كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب. وهذا ليس من خصائصه صلّى الله عليه وسلم لأن جل الأنبياء تكلم لهم الحجر، ونبع لهم الماء، وتكلمت لهم الحيوانات والموتى، ووقفت لهم الشمس وكثر لهم القليل من الطعام والشراب، وقلل لهم الكثير من الأعداء، ومن وقف على معجزاتهم وكان موقنا آمن وصدق بهم وبما يقع لأولياء الله من الكرامات الشبيهة بالمعجزات ومن لا فلا، لأنه ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وعلى قلبه رينا وصدأ حتى لا يسمع ولا يبصر ولا يعي، فلا يؤمن. أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه آمر كما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء. وأخرج أحمد عن معاذ ابن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله تعالى منه. وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع

وقال نقيقها تسبيح. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: ظنّ داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه، وان ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه، فقال يا داود افهم إلى ما تصوّت به الضفدع، فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها أحد، فقال له الملك كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت؟ قال نعم، قال ماذا قالت؟ قال قالت سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب، قال داود لا والذي جعلني نبيه إني لم أمدحه بهذا. وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوشب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدّثت نفسك أنك سبحت الله في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وإني من سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل تسبح الله تعالى وتقدسه. وأخرج الخطيب عن أبي حمزة قال كنا عند علي بن الحسين رضي الله عنهما، فمرّ بنا عصافير يصحن، فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا لا، قال أما اني ما أقول إنا نعلم الغيب، ولكن سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يقول سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها، وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها. وأخرج بن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بغراب وافر الجناحين، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما صيد صيد ولا عضدت ولا قطعت وشيجة إلّا بقلة التسبيح عضاة وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما صيد من صيد ولا وشج من وشيج إلا بتضييعه التسبيح (الوشيج شجر الرماح وعرق كل شجرة، والعضاة الشجر العظيم أو الخمط أو كل ذات شوك أو ما عظم وطال من الأشجار، وعضده بمعنى قطعه، والعضد والعضيد الطريقه من النخل جمعه عضدان كغرابان) وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت ما تضاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى، والثانية سبحانه وتعالى، والثالثة

سبحانه وبحمده، والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به، والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير، والسادسة سبحان الملك القدوس، والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزّة ووقارا، وأمثال هذا كثير لا يحصى عدا ولا يستقصى حدا، وكلها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قاليّ بلسان العقلاء، حالىّ بلسان غيرهم، وهو جائز شرعا لأنه من قبيل خرق العادة، حتى أن العارفين قالوا إن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات المعلومة عندهم يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت أي خفيت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق، غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة، ووقع التفاضل بين الخلائق بالمزاج، والكل يسبّح الله تعالى كما نطقت به هذه الآية، ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبّحه. هذا وقد جاء في الحديث أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس. والشهادة لا تكون إلا بالنطق وهو مختلف كل بحسبه كما علمت، وإن الشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل، ونحن زدا مع الإيمان بالأخبار الكشف، إلى آخر ما قاله. ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في دعائه للحمى يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تقدري في الفم وانتقلي إلى من يزعّم أن مع الله آلهة أخرى، فإني أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وجاء عن السجاد رضي الله عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر بأن له شعورا، واستفاض عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى النيل كتابا يخاطبه فيه حينما كتب له عمرو بن العاص بأن أهل مصر جرت عادتهم أن يطرحوا في النيل بنتا يزينونها كالعروس في كل سنة كي يفيض، وأنه أوقف هذه العادة لورود الجواب منه فكتب له أن يمنعهم من هذه العادة السيئة وأرسل ورقة مكتوب فيها، أيها النيل إن كنت تفيض بأمر الله فافعل، وإلا فلا حاجة لنا فيك أو فيما معناه هذا وانه منذ طرحها فيه فاض وخلص أهل مصر من تلك العادة القبيحة ببركة كتاب عمر، وأنه ضرب الأرض بالدرة

حين تزلزلت وقال لها إني أعدل عليك، فسكنت، وأن نارا كانت تخرج من ضواحي المدينة فأرسل إليها فلم تخرج، وأن الريح أوصل كلامه إلى القادسية حتى سمعه عامله، وهو قوله على المنبر (يا ساربة الجبل) فلما سمع عرف أنه كلام عمر، فصعد الجبل فرأى العدو من ورائه «فوقفه الله تعالى عليه بما يدل على أن الله تعالى سخّر له العناصر الأربعة، فكيف برسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 80 من النساء في ج 3، وقدمنا بعض ما يتعلق فيه في الآية 15 من سورة النمل المارة، وذكرنا أن ما من معجزة لنبي إلّا ومثلها لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد جمع عامة فضائلهم، فلا تستكثر أيها القاري على حضرته فهم تسبيح الجماد وغيره، فهو عظيم عند ربه فرق كل البشر وأحسنه: فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خمير؟؟؟ خلق الله كلهم دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... وأحكم بما شئت فيه مدحا فيه واحتكم قال تعالى «وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ» الناطق بالتسبيح والتنزيه وصرت من غاية استغراقك بمعانيه غائبا عن محافظة نفسك «جَعَلْنا» بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفية «بَيْنَكَ» يا حبيبي «وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» من قومك المشركين منكري البعث المتقدم ذكرهم «حِجاباً مَسْتُوراً» 45 غير مرئي نسترك به بسائق تكفلنا بحفظك وحماينك، وكمل المؤمنين بفهم رموز هذا القرآن، أما أعداؤك الكفرة فإنا تحجبهم عن فهمه والانتفاع فيه، ونمنعهم أن يدركوا ما أنت عليه من الدرجة الرفيعة وجلالة القدر عندنا، لذلك اجترءوا عليك فقالوا ساحر وكاهن ومتعلم وناقل، وإنما اعتدوا على منصبك العظيم بذلك لجهلهم بمقامك الكريم، وحسدا لما أوتيته من الفضل عليهم، قال سعيد بن جبير لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلّى الله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره، فقالت لأبي بكر أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني، فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، ولم يقل لها ها هو معي أو غير ذلك، وهو جواب على خلاف السؤال مثله في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية 89 من البقرة ومثله كثير في ج 3. فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ

رأسه، فقال أبو بكر لرسول الله ما رأتك، قال لم يزل ملك بيني وبينها. راجع سورة المسد المارة تجد ما هو أوضح من هذا، واحتج أصحابنا في هذه الآية على أنه يجوز أن تكون الحاسّة سليمة ويكون المرئي حاضرا لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق فيها مانعا يمنع من الرؤية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان حاضرا وحاسة هذه المرأة سليمة ولكنها لم تره، وقد أخبر الله تعالى أن عدم الرؤية للحجاب المستور الذي جعله بينه وبينها، ولا معنى للحجاب المستور إلا الذي يخلقه الله في عيون الرائي ما يمنعه من الرؤية وهو حاضر، وإذا كان الله تعالى جعل الحجاب الذي هو حائل غير مرئي، فكيف بالمحجوب؟ على أن كثيرا من الأشياء موجودة حسا غير مرثية كحركة الظلّ وفلكة المغزل، والمروحة عند شدة حركتها، راجع الآية 95 من سورة الفرقان المارة، ولكن هذا غير ذلك «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً» أغطية كثيرة جمع كنان بمعنى الغشاء «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يقفوا على كنه معانية ويعرفوا حقيقة مبانيه أي أنا منعناهم عن فهمه «وَ» جعلنا «فِي آذانِهِمْ وَقْراً» ثقلا وصمما عظيما مانعا من سماعه سماعا يليق به لسابق علمنا أنهم لن ينتفعوا به وبمن أنزله، وذلك لأنهم لا يلقون له بالا ولا يتدبرون المراد منه، وهذه التمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون المنزل عليه وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن وإيذان بأن ما تضمّنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور، بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوى يعتري المشاعر فيبطلها، وتنبيه على أن حالتهم هذه أقبح من حالتهم السابقة، ولهذا جعل الله هذا المانع في عين حمالة الحطب لئلا يجعل أذاها لحضرة الرسول تنفيذا لوعده له بالحفظ من أذى قومه «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ» بأن قلت لا إله إلا الله ولم تقرنه بذكر آلهتهم التي يزعمونها، وكلمة وحده اسم موضوع موضع المصدر أي إذا أقررت ربك بالذكر «وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» 46 من سماع ذكر انفراد الإله الواحد وهربوا هروبا كراهية ذلك وما قيل ان الضمير في (ولّوا) يعود إلى الشياطين لا يصحّ، لعدم سبق ذكر لها بل يعود للمشركين السابق ذكرهم، فجعله يعود إلى غيرهم مخالف لسياق الكلام، وما جاء عن ابن عباس من الخبر في هذا لا يصح ونظير هذه الآية

الآية 46 من سورة الزّمر في ج 2، قال تعالى «نَحْنُ أَعْلَمُ» يا حبيبنا «بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ» من اللغو والاستخفاف والهزؤ بك وبكتابك والتكذيب لك وله «إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» وهذا تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع منهم يتعلق به علم الله «وَإِذْ هُمْ نَجْوى» يتسارون بينهم بأن ما يسمعونه منك سحر وكهانة وأساطير الأولين، وانك ساحر وكاهن أو مجنون أو تعلمته من الغير أو اختلفته من نفسك ثم يتجاهرون به فيقول بعضهم لبعض ما ذكره الله يقول «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ» أقيم المضمر مقام المظهر عنا مع وصفهم بالظلم للدلالة على أن تناجيهم هذا باب عظيم من أبوابه «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» 47 يا سادة قريش أي إذا كنتم تريدون الاتباع فرضا ما تتبعون إلا رجلا سحر فجنّ وكانوا يعتقدون أن ذلك بتأثير السحر وهو معروف عندهم، لأن الشرائع السابقة جاءت به، وقد عرفوه من أهل الكتاب ووجوده حق عند اهل السنّة والجماعة، وانهم يريدون بأنه صلّى الله عليه وسلم سحر فصار مطبوبا مخدوعا يأكل ويشرب مثلكم، ويريد أن يتفضل عليكم بما يتلوه من ذلك السحر من غير أن يمتاز عليكم بشيء. روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان حين يريد إبلاغ قومه ما أنزل عليه من كلام ربه يقوم عن يمينه رجلان من بني عبد الدار، وعن يساره رجلان منهم، فيصفّقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لئلا يفهم الناس ما يقول، قاتلهم الله، ومن هنا اقتدي بعض نواب الأمة حينما يسمعون خطيبا من معارضيهم فيما لا يرومونه تراهم يصيحون ويضربون بأيديهم على الرحلات ويصفقون ويصفرون أيضا، فلا حول ولا قوة إلا بالله تشابهت قلوبهم، وفي هذه الآية مما يدل على التهديد والوعيد ما لا يخفى، قال تعالى «انْظُرْ» يا أكمل الرسل «كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» مما وصموك به من السحر وغيره وما شبهوا ما تتلوه عليهم من وحينا بأساطير الأولين وغيرها مع علمهم أنك وكتابك على خلاف ذلك، «فَضَلُّوا» في هذا التمثيل والتشبيه والوصف عن منهاج المحاجة، والطريق الأقوم والحقيقة الناصعة لميلهم إلى الضلال والاعوجاج «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» 48 إلى الحق السوي والطريقة المستقيمة بل يتهافتون إلى أضدادها، ويسلكون السبل المهلكة، ويخبطون في أقاويلهم الأباطيل الظاهر كذبها لكل أحد، وفي هذه

[سورة الإسراء (17) : الآيات 51 إلى 60]

الآية تسلية لحضرة الرسول عما يصمونه به، ووعيد بسوء العاقبة لزيغهم عن الرشاد «وَ» من عتوهم «قالُوا» لك أيضا يا محمد «أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً» بأن متنا وبلي لحمنا وتفتّت عظامنا فصارت ترابا أو غبارا لأن الرّفات كل شيء مبالغ في ذمّه «أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» كما تقول بعد تفرق أجزائنا «خَلْقاً جَدِيداً» 49 مثل ما نحن عليه الآن، قالوا هذا على طريق الاستبعاد بالاستفهام الإنكاري وأرادوا به استحالة إحيائهم بعد موتهم، وفيه تعجيب بعد تعجبهم بذكر الإله الواحد مما يوقع اللوم على أتباعك لأنك بزعمهم كرجل منهم أخرجك السحر عن الطبيعة فصرت وحاشاك تهذو بأن الإله واحد وأن الموتى يحيون بعد البلاء ويحاسبون على ما فعلوه في دنياهم، لأن هذا بزعمهم لا يكون أبدا ولا يقرّه العقل لأن بين غضاضة الحي وطراوته المفضية للاتصال الموجب للحياة وبين يبوسة الرميم المفضية للتفرق الموجب لعدم الحياة تباينا وتنافيا لا يقبل التأليف، وهذا إنما يصدر منهم لأنهم ينظرون إلى الأمور الظاهرية ولا يتفكرون بقدرة الذي خلقهم من العدم وأوجد هذا الكون كله من لا شيء، راجع الآية 7 من سورة سبأ في ج 2، «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المنكرين قدرتنا المستبعدين إعادتهم بعد الموت «كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً» 50 وهذا ردّ منه سبحانه عليهم فقابل قولهم: كنا، يكونوا. على طريق المشاكلة والمقابلة بالجنس، وهذا الأمر أمر استهانة بهم على حد قولة تعالى حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) الآية 80 من سورة يونس أي إن ما تلقونه ليس بشيء بالنسبة لقدرة الله التي وضعها في عصاه أو أمر تسخير على حد قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الآية 66 من البقرة في ج 3، «أَوْ خَلْقاً» آخر وأكبر وأعظم وأشدّ من الحجارة والحديد من كل ما يتخيلونه قويا منيعا بعيدا بمراحل كثيرة عن قبول الحياة وائتوا بكل شيء «مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» ويستحيل عندكم قبوله للحياة وأبعد شيء عنها مما تعدونه عظيما فعله كبيرا قويا جرمه من كل محال لا تقبله عقولكم، فإن الله تعالى يحييكم لا محالة إذ لا يعجزه شيء لتساوي الأجسام في قبول الاعراض عنده، فكيف لا يحييكم إذا كنتم عظاما كانت قبل موضوعة بالحياة والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد كالحديد

وغيره، وقد فوّض الله تعالى لهم الشيء الذي يكونون منه مما يستعظمونه كالسماء والأرض والجبال أي مهما تصوروه بأنفسهم على طريق الفرض والتقدير فإن الله تعالى قادر على إعادة أرواحهم في أجسادهم التي ماتوا عليها مهما تفرقت وتفتت وتذرت بالهواء فإنه جامعها وباعثكم بعد الموت لا محالة، «فَسَيَقُولُونَ» لك يا سيد الرسل إذا كنا كما تقول «مَنْ يُعِيدُنا» على حالتنا هذه بعد ذلك مع ما بيننا وبين الإعادة من التفاوت والمباينة «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ» اخترعكم وخلقكم من العدم «أَوَّلَ مَرَّةٍ» على غير مثال سابق ومن أصل تراب ماشم رائحة الحياة فالذي قدر على ذلك قبلا فهو على جمع رميمكم وافاضة الحياة فيه واعادتكم على ما كنتم عليه أقدر: وفي هذه الجملة تحقيق للحق وإزاحة للباطل والاستبعاد وإرشاد إلى طريق الاستدلال لمن كان له عقل يعقل به، قال تعالى واصفا حالتهم عند سماع ذلك الكلام العظيم بأنهم سيبهتون ويتحيّرون الدال عليه «فَسَيُنْغِضُونَ» يحركون ويهزّون «إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ» إعجابا لقبولك هذا واستعظاما لصدوره منك مع ما يعلمون من عقلك وأناتك ونظرك لمصير كلامك، ونغض كنصر تحرك واضطرب وحرّك قال الفراء هو تحريك الرأس بارتفاع وانخفاض مما يتعجب منه ويستهزأ به استكبارا وإنكارا قال الشاعر: أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى ... خيولا عليها كالأسود ضواريا وقال الآخر: أنغض نحوي رأسه واقنعا ... كأنه يطلب مني شيئا أطمعا أي أنهم رفعوا رءوسهم وطأطئوها استهزاء «وَيَقُولُونَ» لك أولئك المتعجبون الساخرون المنكرون «مَتى هُوَ» هذا الوعيد الذي تذكره الذي فيه إعادة الأجسام والحساب والتهديد الذي تخوفنا به بالعقاب على ما نفعله في هذه الدنيا أقريب أم بعيد فإذا فاجؤوك بهذا الكلام يا سيد الأنام «قُلِ» لهم «عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» 51 ما تسألون عنه وتستبعدونه وتنكرونه لأنه محقق مجيئه، وإنما لم يعين لهم زمانه لأنه من المغيبات التي اختص بها نفسه جل جلاله، ولم يطلع عليها أحد،

وكلمة عسى هنا للترجي والتوقع ومسوقة إلى ما هو محقق الوقوع، وما قيل إنها للمقاربة ينافيه قوله تعالى بعدها (قريبا) لأنها لو كانت للمقاربة لما جيء بها بعدها لعدم الفائدة. مطلب الخروج من القبور واستقلال المدد الثلاث: قال تعالى «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ» أيها الناس وهذا الظرف منصوب بفعل مضمر تقديره اذكروا يوم يناديكم بالنفخة الأخيرة إسرافيل عليه السلام ببوقه بأمر ربه من قبوركم «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» كما أجبتم حين دعاكم للنفخة الأولى للموت فمتم جميعكم بنفخته أي مات كل من حضرها عدا ما استثنى الله كما سيأتي في الآية 67 من سورة الزمر في ج 2 بصورة أوضح، فكما أنه لم يتخلف أحد منكم بالنفخة الأولى عن الموت لم يتخلف أحد منكم عن الحياة بالنفخة الثانية، وكما دعاكم من العدم في عالم الذر وأخذ عليكم العهد بالطاعة والانقياد للرسل، كذلك دعاكم للقيام من قبوركم. واعلموا أن قولكم حين اجابتكم لهذه الدعوة الأخيرة سبحانك اللهم وبحمدك جئناك تائبين منيبين لا ينفعكم، لأنه في غير محلّه وإلا لقالها كل كافر مثلكم راجع الآية 17 من النساء في ج 3، «وَتَظُنُّونَ» بعد قيامكم من برزخكم ومجيئكم مهرولين وراء الداعي إلى المحشر «إِنْ لَبِثْتُمْ» ما مكثتم في الدنيا وفي البرزخ القبر وما بين النفختين «إِلَّا» لبثا «قَلِيلًا» 52 زمانا طفيفا يقولون هذا استحقارا لتلك المدد الثلاث، لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر وبين النفختين ألوفا من السنين عدّ ذلك قليلا بنسبة مدة يوم القيامة، فضلا عن مدة الخلود في الآخرة التي لا نهاية لها، والمقصود من هذه الدعوة إحضار الخلائق للحساب والجزاء، لأن دعوة السيد. لعبده إما لاستخدامه أو التفحص عن أمره، والأول منتف في الآخرة إذ لا تكليف فيها فتعين الثاني، قال تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) الآية 40 من سورة ق المارة، قيل إن جبريل عليه السلام يقف على صخرة بيت المقدس فينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنت، فتعود حالا. أخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال:

قال صلّى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم. وهذه الدعوة تكون بالأمر التكويني، وهو ما يوحيه إلى المعدوم، فهو نداء على الحقيقة لا على المجاز على ما قيل إنه يمتنع حمل هذا النداء على الحقيقة، لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد، والأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك النداء كناية عن البعث والانبعاث حقيقة لا مجازا، والمجوز لإرادتها ما ذكرنا من أن هذه الدعوة بالأمر التكويني. وقيل إن خطاب الكافرين انقطع عند قوله تعالى قريبا. والخطاب بقوله تعالى (يوم يدعوكم) للمؤمنين أي فتجيبون أيها المؤمنون حامدين له سبحانه على إحسانه إليكم وتوفيقه إياكم للإيمان بالبعث، وهو وجيه لكن جعل الخطاب للعموم أولى وأنسب للمقام، إذ لا مخصص ولا دال على التقييد، وعلى كل إن شاء الله يجيب المؤمنون المنادي بما ذكر الله. أخرج الترمذي والطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 34 من سورة فاطر المارة، وفي رواية عن أنس مرفوعا: ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) . راجع تفسير هذه الآية، ومما يدل على أن الخطاب للفريقين المؤمنين والكافرين كما جرينا عليه في تفسير هذه الآية ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن جبير أنه قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافرين يوم القيامة وإن لم ينفعهم كما نوهنا به آنفا، وهذا التفسير أولى بالنسبة لسياق الآية وسياق الكلام، هذا وإن قوله تعالى «وَقُلْ لِعِبادِي» خاص بالمؤمنين بدليل الإضافة التشريفية الدالة على التخصيص، بخلاف الآية الأولى لمجيئها بلفظ عام، وعلى القول بأن هذا الخطاب الأخير يشمل الكافرين أيضا فيكون خطابهم بلفظ عبادي لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قول الحق، والأولى أولى لوجود الصارف وهو الإضافة له، وعليه يكون المعنى قل يا أكرم الرسل لأصحابك المؤمنين «يَقُولُوا»

عند محاورتهم مع المشركين الكلم والجمل والعبارة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من البذاء في المخاطبات والفحش في المحاولات، ولا تخاشنوهم بالكلام ليظهر فضلكم عليهم ويمجدكم من يحضر مناظرتكم «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ» يفسد ويهيّج الشرّ بما يوقعه من الوسوسة والخنس «بَيْنَهُمْ» أي الفريقين ويريد أن يقول المؤمنون للكافرين القولة التي هي أشر، مما يؤدي إلى تأكيد العناد وتمادي الفتنة واشتداد العداء «إِنَّ الشَّيْطانَ» الذي دأبه إلقاء الفتن وديدنه إيقاع الفساد وعادته تحريك الشرّ «كانَ» قديما ولم يزل «لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» 53 مظهرا العداوة، نزلت هذه الآية حين شكى المسلمون إيذاء الكافرين فأوحى الله إلى رسوله أن يأمر المؤمنين بعدم مكافأتهم على سفههم، وأن يقولوا لهم ما هو الخير. وقيل نزلت في عمر بن الخطاب حين أمر بالعفو عمن شتمه، وسياق اللفظ يأباه، والآية عامة في جميع المؤمنين بأن يفعلوا الخلّة الحسنة من قول أو عمل بعضهم مع بعض ومع غيرهم، ولا تأخذهم وساوس الشيطان ودسائسه فيما يقع بينهم، ممّا يؤدي إلى الخصومة، وأن يتذكروا عداوته القديمة فيرفضوا نزغاته. ومما يدل على كونها للعموم قوله تعالى «رَبُّكُمْ» أيها الناس «أَعْلَمُ بِكُمْ» وبما يؤول إليه أمركم مما أنتم صائرون إليه بحسب علمه الازلي «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ» فيوفقكم للنجاة من الكفار وأذاهم كما وفقكم للإيمان «أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» بتسليطهم عليكم، وعلى القول بأن الآية في الكفار يكون المعنى بأن يميتكم على الشرك، واعلم أن هذه الجمل الثلاث كالتفسير لقوله تعالى (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والجملتان قبلها (إن الشيطان. إن الشيطان) كالاعتراض بينهما، فكأنه قيل يا أيها المؤمنون قولوا للمشركين الذين يؤذونكم بالكلام هذه الجمل الثلاث، لان أمرهم معلق على المشيئة، ولا تصارحوهم فتقولوا لهم إنكم من أهل النار مثلا، فإنه مما يهبجهم على الشرّ، لأن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله، ولا يبعد أن يهديهم فيكونوا من أهل الجنة (وأو) هنا للإباحة كقولك جالس العلماء أو الحكماء لإمكان مجالستهما معا فإنها محتملة وجائزة، وقد تكون للتخيير فيما لا يمكن الاجتماع كقولك تزوج هندا أو أختها، ودخلت لسعة الأمرين عند الله تعالى. ثم التفت جل شأنه إلى رسوله فقال

«وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» 54 لهم حافظا أحوالهم أو كفيلا بما يلزمهم، ولم نجعلك مسيطرا عليهم مأمورا بقسرهم، فما عليك الآن إلا الاشتغال بالدعوة إلى الحق فقط، فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى القول الثاني لا تشدد القول عليهم، ولا تغلظ لهم، ولا تجبرهم على الإيمان وتقسرهم لاتباعك وامتثال أوامرك، لأنا أرسلناك بشيرا ونذيرا، فدارهم ومر أصحابك بمجاملتهم، وتحمل أنت وأصحابك أذاهم، واتركوا المشاغبة معهم وأظهروا لهم اللين والرفق علّه يؤثر في قلوبهم، وذلك لأن أحكام الله تدريجية حتى إذا ظهر لنبيه إيمان من آمن وإصرار من أصر على كفره كما في سابق علمه أمره بقتاله، ولهذا فلا محل للقول لأن هذه الآية منسوخة بآية السيف، لأن الله تعالى جعل للإرشاد والنصح أناسا وللسيف والقتل آخرين، قال تعالى «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما هم عليه من أحوال ظاهرة وباطنة؟؟؟ كلا لما يستأهله، فيختار للنبوة والولاية من تراه حكمته أهلا لها، وهذا ردّ على القائلين بعد أن يكون يتيم بن أبي طالب نبيا والعراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابا إليه، دون الأكابر من قريش والصناديد منهم فلا نقبل دعوته ولا نؤمن به، وذكر جل ذكره من في السموات، لإبطال قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) الآية 21 من الفرقان المارّة، وذكر من في الأرض رد لقولهم لولا أكابر قريش وصناديدهم معه «وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ» بالفضائل النفسانية والمزايا المقدسة، وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع، فأعطينا إبراهيم الخلة وشرفنا موسى بالتكليم وداود بالفضل وسليمان بالملك وخصصنا كل نبي بخاصة لم نعطها غيره، فخلقنا عيسى من روحنا واتخذنا محمدا حبيبا «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» 55 فضلناه به لا بالملك والسلطنة وفيه إيذان بأن نبينا خاتم النبيين وأمته خير الأمم إذ أن الزبور تضمن ذلك، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك بقولة (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية 106 من سورة الأنبياء، يعني محمد وأصحابه وأمته من بعدهم، وهذا من باب التلميح راجع هذه الآية في ج 2 تجد أن ما جاء في الزبور موافق لما جاء في القرآن، وسنبحث ما يتعلق فيها هناك

إن شاء الله، والزبور كله حكم وأدعية وأمثال لا حكم فيه، وكان عليه السلام يرجع في أحكامه إلى التوراة، وهو كما قيل مائة وخمسون سورة، وسيدنا داود عليه السلام أول نبي جمع بين الملك والنبوة في بني إسرائيل كما تقدم في الآية 15 من سورة النمل المارة، ففضله الله تعالى بالتوراة والزبور والملك وما منحه في الآيات 10 فما بعدها من سورة سبأ في ج 2، ولم تجمع لمن قبله ولم تكن لنبيّ بعده، وفي هذه الآية تكذيب لليهود والقائلين لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ونظير هذه الآية الآية 153 من سورة البقرة في ج 3، هذا وكما هو ثابت ارتفاع بعض النبيين على بعض وعلو درجاتهم ومن تبعهم فمن يليهم ثابت أيضا اتضاع دركات الكافرين فمن دونهم من العصاة لانهما مظاهر صفتي اللطف والقهر هذا ولما أصاب أهل مكة القحط وأكلوا الجيف والكلاب جاءوا فاستغاثوا بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه «قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِهِ» أي الإله الواحد ليكشفوا ما حل بكم من الجدب وأتى لهم ذلك «فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ» لانهم عاجزون مثلكم عن كشف ضر أنفسهم فكيف يستطيعون إزالة ضركم كلا «وَلا» يستطيعون «تَحْوِيلًا» 56 لحالكم من العسر إلى اليسر، ومن الشر إلى الخير، ومن المرض إلى الصحة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العذاب إلى النعيم، وهذه الآية المدنية قال تعالى «أُولئِكَ» إشارة إلى ما يسمونه آلهة ويرجونه لكشف ضرهم ويستعينون بهم لزيادة خيرهم «الَّذِينَ يَدْعُونَ» صيغة لإسم الإشارة الواقع مبتدأ من حيث الإعراب وخبره «يَبْتَغُونَ» بتلك الآلهة التي يعبدونها الكفرة «إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» يسألون ربهم ومالك أمرهم القربة بالطاعة والعبادة وهذا دليل قاطع على أن الذين يعبدون غير الله يعرفون بأن ما يعبدونهم محتاجون إلى الله وأن قدرتهم المزعومة مفاضة منه تعالى لانهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله وأن الله تعالى أقوى وأكمل منها مما يدل على بطلانها قال تعالى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) الآية 3 من سورة الزمر وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية 87 من الزخرف في ج 2، ومثلها كثير في القرآن وهذا كاف على افحامهم وعجز

آلهتهم وعلى اعترافهم بأنها مخلوقة لله. واعلم أنه إذا صرف معنى الآية لكفار قريش فيراد بالذين يزعمون من دونه الملائكة والأوثان فقط وإذا صرف معناها للعموم يدخل فيها عزير وعيسى والكواكب والنار والحيوان من كل ما عبد من دون الله ولهذا قالوا إن ضمير يدعو وضمير يبتغون عائدان للمشار إليهم وهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله كعيسى وعزير والملائكة ويدخل ضمنهم الشمس والقمر والنجوم والنار والحيوان والتماثيل وغيرها من كل ما يطلق عليه اسم الوثن وما اتخذوه تقربا للعبادة بأن كل أولئك ليست بأهل للعبادة مباشرة وتبعا وأن زعمهم ذلك فيها باطل وفي الآية تغليب العاقل على غيره لأن الجمع في يدعون ويبتغون من خصائص العقلاء لا الجمادات «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» أيهم هنا بدل من ويبتغون وهي موصولة بمعنى من أي أولئك المعبودون يطلبون من هو لحصرة ربه أقرب من غيره الوسيلة إلى الله فيتوسون به لقضاء مصالحهم أو أيّهم الذكر هو أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله بطاعته، فكيف بالأبعد فهو بحاجة إلى ذلك من باب أولى. وأيّ مبتدأ مبني على الضم في محل رفع مضاف للضمير، والميم علامة الجمع، وأقرب خبر، والعائد محذوف تقديره هو، وبعضهم جعلها معربة وفيها معنى الاستفهام أي أيهم هو أقرب بالتقوى والصلاح والرضى وازدياد الخير. وأعلم أن يدعون تأتي بمعنى يعبدون كما مر في الآية 49 من سورة مريم المارّة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 35 من المائدة وفي الآية 13 من سورة التوبة في ج 3، وهناك بحث يتعلق بالسّادة الصوفية بشأن الرابطة التي يتخذونها في بدء أورادهم «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» تعالى وخيره وإحسانه وهذا عطف على يبتغون والرجاء بمعنى التوقع «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» كغيرهم من العباد بل أعظم وجلا منهم، لأن العبد كلما رسخ قدمه في العبادة وتقرب إلى المعبود ازداد خوفه بسبب ازدياد معرفته به، وقدم الرجاء على الخوف، لأن متعلقه أسبق من متعلقه. مطلب الخوف والرّجاء وأنواع العبادة: جاء في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي. لهذا فإن العلماء قالوا ينبغي للمؤمن أن يغلّب الخوف على الرجاء ما لم يحضره الموت، فإذا حضره غلّب الرّجاء على

الخوف، وفي الآية دليل على أن رجاء الرّحمة وخوف العذاب مما لا يخلّ بكمال العابد، وقد شاع عن بعض العابدين أنه قال لست أعبد الله تعالى رجاء جنّته ولا خوفا من ناره. والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل، وهو أن من قال هذا إظهارا للاستغناء عن فضل الله ورحمته فهو مخطئ كافر، ومن قاله اعتقادا بأن الله تعالى أهل للعبادة لذاته بحيث لو لم يكن هناك جنّة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كامل. والعبادات ثلاث عبادة للرياء والسمعة فهي مخادعة داخل أهلها في قوله تعالى (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 9 من سورة البقرة ج 3، وعبادة للخوف والرجاء فهي مسقطة للفرض وبالدرجة الثانية الوسطى، فإذا لم يقصد منها الاستغناء فهي داخلة في معنى الآية المفسرة وإلا فهي الوسطى في نار جهنم، وعبادة خلاصة لله تعالى بقصد الاستحقاق لذاته وصرف النظر عن الخوف والرجاء فهي العبادة الحقيقية الموصلة إلى الله عز وجل الموصوف أهلها بقوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية 190 من آل عمران في ج 3، وفي اتحاد أسلوب الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين الوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وحذرهم منه «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» 57 يخافه كل أحد من ملك ومملوك ومن ملك وولي مقرب أو نبي مرسل، فضلا عن بقية الخلائق، وجدير بأن يحذره ويحترز منه كل أحد، وهذه الجملة تعليل لقوله تعالى ويخافون إلخ، وفي تخصيصها بالتعليل زيادة تحذير الكفرة من العذاب. انتهت الآية المدنية. قال تعالى «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ» من القرى والتنوين هنا يفيد التعميم، لأن إذ نافية بمعنى ما، ومن صلة مؤكدة لاستغراق النفي، فتفيد العموم أيضا «إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها» بإبادة أهلها وتخريبها بعدهم أو هدمها عليهم أو قلبها بهم أو بسبب آخر، ويكون هذا «قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ» عند النفخة الأولى قال تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الآيات من سورة الحاقة في ج 2 لأن القيامة لا تقوم إلا بعد إتلاف هذا الكون بما فيه «أَوْ مُعَذِّبُوها» أي أهلها بالقتل وأنواع البلاء «عَذاباً شَدِيداً» لا تقواه قوى أهلها ولا يقدرون على رفعه عنهم

«كانَ ذلِكَ» الإهلاك والتعذيب «فِي الْكِتابِ» الأزلي المدون فيه ما كان وما يكون من بدء الخليقة إلى يوم القيامة وما بعدها من أقوال أهل الجنة والنار وخلودهما «مَسْطُوراً» 58 في اللوح المحفوظ مثبتا، وهو واقع لا محيد عنه لأحد إذ لا شيء في الكون إلا وهو مدون فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له ومكانه الواقع فيه، قال تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 39 من الأنعام في ج 2. أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له أكتب فقال ما أكتب؟ قال أكتب القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد. وقال عبد الله بن مسعود إذا ظهر الزنى والرّبى في قرية أذن الله تعالى في إهلاكها. قال مقاتل الهلاك للفرقة الصالحة والعذاب للطالحة. قال تعالى «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ» التي اقترحها عليك قومك «إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» من قبلهم من الأمم السالفة التي اقترحت على أنبيائها مثل ما اقترحوه عليك قال ابن عباس سأل أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا مكانها فأوحى الله إليه إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم، فقال صلّى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم، فأنزل الله هذه الآية «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ» التي اقترحوها على نبيهم صالح عليه السلام بأن يخرجها لهم من حجر معين راجع قصتها في الآية 79 من سورة الأعراف المارة وهي آية عظيمة كانت أعينهم «مُبْصِرَةً» لها ظاهرة بينة «فَظَلَمُوا» أنفسهم «بِهَا» بقتلها وجحودها، وإنما خص ثمود بالذكر لأنهم عرب مثل قوم محمد صلّى الله عليه وسلم، ولأن الصادر من قريش والوارد منهم يرى آثار ديارهم خاوية خالية لقربها منها، وإنهم لم يؤمنوا بعد إظهارها على يد رسولهم فأهلكهم، إذ جرت عادة الله واقتضت حكمته أن كل قوم اقترحوا على رسولهم معجزة فأوتوها ولم يؤمنوا أهلكهم عن آخرهم، وفي هذه الآية الإيجاز بالحذف والإضمار، لأن المعنى وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، وقيل إن مبصرة وصف للناقة، وإنما وصفها بالإبصار لأنها خلقت من الصخرة معجزة لنبيهم دفعا لما

يتوهم بأنها من المصورات، لأن فن التصوير لم يبلغ أن يكون للمصور أعينا يبصر بها كسائر الحيوانات، لأن البشر عاجز عن ذلك، أما اللون والشكل والحركة حتى النطق المحدود الذي يولجوه بها فقط فإنهم توصلوا لعمل ذلك بواسطة الآلات المحدثة، ولكن الإبصار لم يتوصلوا إليه ولن يتوصلوا لمعرفة مادته إلى الآن، ولم يقفوا على تراكيبها، فبقيت القوة الباصرة بالأعين مخزونة بأمر الله لم يطلع عليها أحد البتة، وما ندري ما يقع بعد: وما تدري إذا ما الليل ولىّ ... بأي عجيبة يلد النهار قال تعالى «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ» المقترحة ونظهرها للأمم «إِلَّا تَخْوِيفاً» 59 من نزول العذاب عليهم، ولذلك لم نجب اقتراح قومك بإرسال الآيات التي اقترحوها لأنا نعلم أن مصير المقترحين الهلاك وهو خلاف ما تريده أنت. أخرج بن جوير عن قتادة قال إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون أو يذكرون فيرجعون عن غيهم. مطلب الآيات على ثلاثة أنواع وبيان الخمرة الملعونة: وليعلم أن آيات الله تعالى على ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وهنا فكرة العلماء وقسم معتاد كالبرق والرعد والخسوف والزلازل وفيها فكرة الجهلاء، وقسم خارق للعادة وهو نوعان نوع مقرون بالتحدّي وقد انقضى بانقضاء النبوة، وقسم غير مقرون به وهو الكرامة التي يظهرها الله تعالى على يد من شاء من عباده العارفين العاملين، وهناك فكرة الأولياء، والمعنى أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا بتأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، قال تعالى «إِذْ قُلْنا لَكَ» يا أكرم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» فلا يستطيع أحد الخروج عن مشيئته ولا يفعل شيئا دون إرادته وإن كل ما يقع في هذا الكون بقضائه وقدره، وإذ هنا منصوبة بفعل مقدّر أي اذكر يا محمد لقومك ما أوحيناه إليك من ذلك وأعلمناك أن الخلق كلهم في قبضتنا وإرادتهم من إرادتنا، فلا تبال بما تراه من كفرهم، وامض لأمرك وبلّغ ما أرسلت به ولا تخشهم، فالله حافظك ومانعك

منهم ومقويك وناصرك عليهم «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ» ليلة الإسراء والمعراج من عجائب الآيات وبدائع المعجزات «إِلَّا فِتْنَةً» اختبارا وامتحانا «لِلنَّاسِ» إذ ارتد بعض المؤمنين عند سماعها، وأجمع كفرة قريش على جحودها فكذبها أناس وتعجب آخرون، وصدق بها المؤمن الموقن وازداد المخلص إيمانا والكافر كفرا، فكانت فتنة للفريقين، واختلف المسلمون في المعراج أيضا على أقوال بسطناها آنفا في الآية الأولى من هذه السورة، وفي المعجزة الثالثة والثلاثين المارة وما بعدها، فراجعها إن شئت. أخرج الترمذي والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن الرؤيا هي ما عاينه حضرة الرسول ليلة أسري به من العجائب الأرضية والسماوية رؤية عين، وهي على اللغة الفصحى، إذ تقول العرب رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وهذا هو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريح وغيرهم، وإنما عبر بالرؤيا دون الرؤية لمشاكلة تسميتهم لها رؤيا، أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة، فقد روي أن بعضهم قال له صلّى الله عليه وسلم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك يا رسول الله، أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب، ولوقوعها ليلا، أو لسرعتها، أي وما جعلنا الرؤيا التي أرينا كها عيانا مع كونها آية عظيمة وأيّة آية، وقد ذكرتها لقومك وأقمت البرهان على صحتها بما اختبرك به قومك عن عيرهم، كما ذكر في المعجزة الثامنة والستين فما بعدها المارة إلا فتنة افتتن بها الناس من تكذيب وتصديق وتهويل وإعجاب «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها شجرة الزقوم. وروي عنه أيضا أن المراد بها لعن طاعميها من الكفرة، ووصفها باللعن من المجاز في الإسناد، وفيه من المبالغة ما فيه. وقد يراد لعنها نفسها بالمعنى اللغوي وهو البعد، لأنها في أبعد مكان من جهنم، قال تعالى (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) بعد أن قال (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) الآيتين 63 و 64 من سورة الصافات في ج 2، أي في أبعد مكان من رحمة الله تعالى، وقد لعنت إذ لعن آكلوها، وإلا فلا ذنب لها حتى تلعن، ولكن المصاحبة لها دخل: ما ضرّ بالشمع إلا صحبة الفتل. ولهذا قيل الصاحب ساحب:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وأخرج بن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برءوس الشياطين كما جاء في الآيتين 64 و 65 من الصافات أيضا، والشياطين ملعونون، والعرب تقول لكل طعام مكروه ملعون، والآية معطوفة على قوله تعالى الرؤيا، أي وما جعلنا هذه الشجرة إلا فتنة للناس أيضا، وإنما كانت فتنة لأن أبا جهل وغيره من متعنتي قريش قالوا إن محمدا يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يقول ينبت فيها الشجر على طريق السّخرية والاستهزاء، ويقول ابن أبي كبشة هي الزقوم، وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ثم أمر جاريته فقال هيّا، فأحضرت له تمرا وزبدا، وقال لأصحابه تزقموا، وكذلك قال ابن الزبعرى الآتي ذكره في الآية 97 من الأنبياء في ج 2، وافتتن بهذه المقالة بعض الضعفاء وضلوا في ذلك ضلالا بعيدا، إذ كابروا في قضية أبتها عقولهم القاصرة، وما قدروا الله حق قدره، ألا يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا تضرها، والسندل يفرخ في النار ويعمل من وبره مناديل إذا توسخت ألقيت في النار فيذهب وسخها ولا تحترق، والدود يعيش في الثلج، والنار من الشجر الأخضر كما قدمنا توضيحه في الآية 80 من سورة يس المارة، فالقادر على تلك الأشياء ألا يقدر على خلق شجرة في النار لا تحترق، وما هي إلا كالسمك في الماء والطير في الهواء راجع الآية 19 من سورة الملك في ج 2، بلى وهو على كل شيء قدير. وجاء عن ابن عباس أنها الكثوث المذكورة في قوله تعالى (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) الآية 24 من سورة ابراهيم في ج 2 المشبّه بها كلمة الكفر، وقد لعنها في القرآن وخصّها بالخبث، وإن الامتنان بها على هذا هو أنهم قالوا عند سماع الآية ما بال الحشائش تذكر في القرآن، كما اعترضوا على ذكر البعوضة فيه، راجع الآية 25 من سورة البقرة في ج 3، والمعول في هذا على القول الأول بالنسبة للمروي عنه «وَنُخَوِّفُهُمْ» بتلك الآيات ونظائرها وجاء هذا الفعل بلفظ الاستقبال دلالة على الاستمرار التجددي وقرىء بالياء «فَما يَزِيدُهُمْ» تخويفنا هذا بالإهلاك في الدنيا والتعذيب بالنار في الآخرة «إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» 60 عظيما بسائق تمردهم وعنادهم، فإنهم كلما جاءتهم

آية تجاوزوا الحد بالإنكار والتكذيب، ولذلك فإنا لو أرسلنا إليهم ما اقترحوه على يد رسولهم لفعلوا به ما فعله من قبلهم أمثاله بأمثاله ولفعلنا بهم أيضا ما فعلناه بأمثالهم من عذاب الاستئصال، ولكن سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العظمى إلى الطامّة الكبرى واعلم أن هذا الكلام مسوق لتسلية حضرة الرسول عما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخافتها للحكمة من نوع حزن وكآبة من طعن الكفرة، إذ كانوا يجابهونه بقولهم لو كنت نبيا أو رسولا حقا لأتيت بما نطلبه منك من المعجزات كالأنبياء قبلك، إذ جاءوا أقوامهم بما طلبوه منهم، ولكنك لست برسول، ولهذا لم تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وهذا أصح ما جاء في تفسير هذه الآية وسبب نزولها، وما قيل أن المراد بالإحاطة هنا الإهلاك على حد قوله تعالى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) الآية 42 من سورة الكهف في ج 2، وأنه هو الواقع يوم بدر، وأن التعبير بالماضي جاء على حد قوله تعالى (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) الآية 43 من سورة القمر المارة، وقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) الآية 13 من آل عمران ج 3 وغيرهما من الآيات لتحقق الوقوع، وأن المراد بالرؤيا هو ما رواه صلّى الله عليه وسلم في المنام من مواقع مصارع القتلى من قريش، لما صح أنه صلّى الله عليه وسلم لمّا ورد ماء بدر كان يقول والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا هاهنا ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وإن قريشا سمعت بما أوحى الله إلى نبيهم بشأن بدر وما أري في منامه، فكانوا يضحكون ويسخرون، وهذا هو معنى الفتنة المرادة في هذه الآية، راجع الآية 78 من الأنفال في ج 3، وسمعت أيضا بما رواه مناما أنه سيدخل مكة وأنه أخبر أصحابه فتوجه إليها، وصده المشركون عام الحديبية حتى قال عمر: يا أبا بكر أما أخبرنا رسول الله أنا ندخل البيت ونطوف فيه؟ فقال إنه لم يقل في هذه السنة، وقد صدق الله ودخلوها في القابلة، فكل هذا لا يكاد يصح شيء مه، لأن هذه كلها وقعت ورسول الله في المدينة، وهذه الآية مكيّة إجماعا وهو مخالف لظاهر الآية المفسرة لذلك فلا يعول عليه، وأن الاعتذار عن كون هذا مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بالإهلاك وبالرؤيا واقعا في مكة، وذكر الرؤيا

وتعين مصارع القوم واقعين في المدينة، لا وجه له أيضا إذ يلزم منه أن يكون الافتتان واقعا بالمدينة أيضا، وأن ازديادهم طغيانا متوقع عند نزول الآية لا واقع وهو خلاف الواقع وبعيد عن المعنى، ومباين لسياق الآية، ومناف لسياق التنزيل، وكذلك ما أخرجه ابن جرير عن سهيل بن سعد قال رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل الله هذه الآية المفسرة، وما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عباس عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحي الله تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه، وذلك قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) إلخ وما أخرجه ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك، فأنزل الله هذه الآية المفسرة وما أخرج عن ابن عمران أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أريت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة، وأنزل الله تعالى ذلك أي الآية المفسرة والشجرة الملعونة (الحكم وولده) وقال بعض المفسرين هي بنو أمية، وما أخرج بن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن، وعليه يكون الكلام على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا مجازا عن تعبيرها، ويكون معنى الإحاطة في هذه الآية إحاطة أقداره تعالى بهم، ومعنى الفتنة جعل ذلك بلاء لهم، ولعنهم بما صدر منهم ومن خلفائهم من استباحة الدماء المعصومة والفروع المحصنة ومنع الحقوق وأخذ الأموال بغير حق وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل الله إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام لأنهم فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وإن لعنهم هذا إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما تقول أهل السنة والجماعة، فقد قال سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية 13 من سورة الأحزاب في ج 3، وقال عز وجل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ

أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) الآيات 22 فما بعدها من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج 3، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أولياء إلا أنه لا يجوز عند أهل السنة والجماعة أن يلعن واحد بخصوصه إذ صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بعينه ما لم يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس بكافر، وأما ما جاء بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح. الذي احتج به السراج البلقيني على جواز لعن العاصي بعينه فقد قال ابنه الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقولوا لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها، على أنه استدل على ما يقوله بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم مرّ بحمار وسم بوجهه، فقال لعن الله تعالى من فعل هذا، لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معيّن على أنه لا مانع من تأويله أيضا بأن يراد فاعل الجنس ذلك الوسم، والمغضبة لزوجها على العموم، راجع ما بيناه في الآية 42 من سورة القصص المارة، وعليه فلا دلالة صريحة لا تقبل التأويل في هذين الحديثين لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أو التأويل أفقده قوة الاحتجاج في الاستدلال، وهذه قاعدة أصولية لا طعن فيها. نعم صح أنه صلّى الله عليه وسلم قال اللهم العن رعلا. وذكوان وعصيه عصوا الله ورسوله، وهذا فيه لعن أقوام بأعينهم، إلا أنه يجوز أنه صلّى الله عليه وسلم علم بإلهام الله إياه، موتهم على الكفر فلعنهم، وهذا جائز كما تقدم، وإذا كان كذلك فلا حجة فيه للسبب المذكور أيضا، ولأنه بأقوام لا لشخص بعينه، ولا يخفى أن تفسير الآية لا ينطبق على ما ذكر ولا يلاثم المعنى المسوقة له الآية، ولم يكن شيء من ذلك كله زمن نزولها، وان بين نزولها وبين هذه الحوادث سنين كثيرة أما الأحاديث الواردة المذكورة آنفا في بني أمية وبني الحكم فيحتمل أنها صحيحة لكن لا علاقة لها في الآية المفسرة المتعلقة بالإسراء خاصة، وتلك بحوادث أخرى ولا مانع من أنه صلّى الله عليه وسلم رأى ما قاله فيهم رؤيا منامية أو بطريق الكشف، لكن غير هذه الرؤيا المقصودة هنا في هذه السورة، وكذلك لا يتجه قول من قال إن الشجرة الملعونة أبو جهل والفتنة وجوده بلاء على المسلمين، لأنه أيضا خلاف الظاهر

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 إلى 70]

ولا يوجد ما يدلّ عليه، وكذلك قول من قال إن الشجرة مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على حضرة الرسول، فلما بعث كذبوه وجاء لعنهم في القرآن صريحا ظاهرا، وإن فتنتهم هي أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه السلام فلما بعث كفروا به قائلين إنه غير النبي المنتظر، فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم هذه عن الإيمان به السبب نفسه، ووجود لعنهم في القرآن وكونهم فتنة على الإسلام أمر واقع لا شك فيه ولا ريب، ولكن هذه الآيات لا تمسهم، ولا يخفى أن اليهود بالمدينة والآية نزلت بمكة قبل أن يكون لحضرة الرسول مساس بهم، هذا وقد نقلنا لك أيها القارئ كل ما نقله المفسرون بهذا الشأن ورددنا عليه لنكفيك مؤنة المطالعة وتقنع بما أثبتناه لك، والله من وراء القصد وله المنة والحمد. قال تعالى «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» هذا تحقيق لقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية المارة وهو ظاهر في الملائكة الذين ادعى بعض العرب عبادتهم وتضمن لغيرهم وإشارة إلى عاقبة الذين عاندوا الحق جل وعلا واقترحوا الآيات وكذبوا الرسل، لأنهم داخلون في الذرية التي احتنكهم إبليس لعنه الله واتبعوه اتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة، ألم تر إلى قولهم فيما حكى الله عنهم (قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية 33 من الأنفال في ج 3 ولم يقولوا أللهم اهدنا إليه لسابق شقائهم، ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قريشا كذبوا حضرة الرسول حسدا وتعاظما على ما خصّه الله به دونهم، وما منع إبليس من السجود لآدم عليه السلام شيء من الأشياء إلا الحسد والتكابر عليه، والمعنى أذكر يا محمد لقومك إنما أمرنا الملائكة وقلنا لهم «اسْجُدُوا لِآدَمَ» تكريما وتحية له واحتراما، فسجدوا كلهم امتثالا لأمري دون تلعثم أو سؤال عن السبب بحق الانقياد والطاعة «إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد «قالَ» بعد أن وبخ على امتناعه «أَأَسْجُدُ» استفهام إنكاري وتعجب «لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» 61 وقد خلقتني من النار وهي أفضل من الطين، فاستحق اللعن والطرد راجع قصته مفصلة في الآية 12 من الأعراف المارة، ثم قال «أَرَأَيْتَكَ» أيها الإله أخبرني من «هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» وأمرتني بالسجود له أي شيء هو حتى أسجد له

فهو دوني وما هو بالشيء المستحق للسجود بالنسبة إلي لأنه شيء لا يتمالك وعزتك وجلالك وعلوك في مكانك الذي لا يتكيف «لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» ولم تمتني وجواب القسم قوله «لَأَحْتَنِكَنَّ» أستولين وأستأصلن «ذُرِّيَّتَهُ» مهما كانوا استئصال واستيلاء قويبن محكمين، لا أفلت وأترك «إِلَّا قَلِيلًا» 62 منهم المخلصين والصادقين، ومعنى حنك واحتنك جعل الحبل في حنك الدابة الأسفل وقادها به كيفما شاء إلى ما أراد، وهو كناية عن إهلاكهم بإغوائه وطرقه الخبيثة، يقال احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها، واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله، وعليه قوله: فشكوا إليك سنة قد أجحفت ... جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وأجلفت وقد علم ذلك الملعون من قوة الوهم وتركيب الشهوة في بني آدم وهما سبب الميل عن الحق والركون إلى الباطل وقد برّ في قسمه الخبيث في بعض بني آدم قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية 20 من سورة سبأ في ج 2. هذا ومن قال إن وسوسته خلصت إلى آدم نفسه فقاس الفرع على الأصل لا يصح لأن هذا القول وقع منه قبل الوسوسة لآدم التي كان بسببها ما كان، ومن زعم أن هناك وسوستين فعليه البيان ولن يأتي به البتة «قالَ» استهجانا له وتبكيتا به وإهانة له «اذْهَبْ» لشأنك وامض لما تريد إذ ليس المراد من الذهاب هنا ضد المجيء بل تخليته وما سولت له نفسه الخبيثة احتقارا له كما تقول لمن خالفك في النصح افعل ما تشاء يدل على هذا قوله جل قوله «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» وانقاد لخداعك من ذرية آدم وضل عن الحق ومات على ذلك «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» أنت ومن أضللت بتغليب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية جَزاءً مَوْفُوراً» 63 وافيا كاملا بغاية الشدة إذ تعقبه بالوعيد ولو كان المراد منه ضد المجيء لما عقب به ووفر كوعد بمعنى كمل والموفور الكامل وعليه قول أشعر الشعراء: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

قال تعالى مهددا له «وَاسْتَفْزِزْ» استخفف واستزلل وحرك واستنفر «مَنِ اسْتَطَعْتَ» أن تستفزّه «مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ» دعائك إلى معصية ربك بما شئت من طرق الوسوسة كغناء ومزمار أو عود وربابة أو دفّ وبوق وغيرها من آلات اللهو واللعب بالباطل لتستميلهم إلى الكفر والمعاصي «وَأَجْلِبْ» صح «عَلَيْهِمْ» مأخوذ من الجلبة وهي الصياح والجمع يقال أجلب على العدو جمع عليه وأعان غيره عليه وتوعده بالشرّ اي استعمل بإضلالهم كل ما شئت «بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ» وسائر جنودك ركبانا ومشاة «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ» مما يصيبونه من حرام وينفقونه فيه «وَالْأَوْلادِ» ممن يأت منهم من الزنى الناشئ عن إغوائك وإضلالك وما تحبذه لهم من الأسماء المنهي عنها كعبد الحارث وعبد العزّى وعبد شمس، وتزيّن لهم قتل البنات خشية العار والفاقة وقتل غير القاتل وأخذ مال قريب الغاصب وما أشبه ذلك من أعمال الجاهلية التي وقعت بعد، إذ لا توجد إذاك جاهلية ولا غيرها. قال مجاهد إن الرجل إذا لم يسمّ عند الجماع فالجانّ ينطوي على إحليله فيجامع معه، وذلك هي المشاركة، والأول أولى وأنسب بالمقام، وأحسن في التأويل وأوقع في المعنى «وَعِدْهُمْ» المواعيد الواهية والآمال الكاذبة من شفاعة الآلهة التي تسوّل لهم عبادتها وما تخيل لهم من أن الكرامة بالأنساب لا بتقوى الله وأن العاجل خير من الآجل، وأن لا جنة ولا نار، ولا نشر ولا حشر ولا حساب ولا عقاب، على حد قول أبي نواس: خلياني والمعاص ... واتركا ذكر القصاص واسقياني الخمر صرفا ... في أباريق الرصاص إن صح عنه، وهذا لا يقوله إبليس لهم، لأنه ينفي عنهم وجود الجزاء لنفيه وجود الآخرة، وقد ختم أبو نواس البيتين بقوله: وعلى الله وإن ... أسرفت في الذنب خلاصي بما يدل على حسن عقيدته المؤيد بقوله: إذا كنت بالنيران أوعدت من عصى ... فوعدك بالغفران ليس له خلف إذا كنت ذا بطش شديد ونقمة ... فمن جودك الإحسان والمنّ واللطف

ركبنا خطايانا وسترك سبل؟؟؟ ... وهل لشيء أنت ساتره كشف إذا نحن لم نهفوا وتعفو تكرما ... فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو قال العلامة محمد بن عبد الله الجرداني من كتب هذه الأبيات على كفنه ودفن فيه أمن من حساب القبر وفتّانيه وما ذلك على الله بعزيز وهو موف بوعده «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ» من أباطيله ويسول لهم من أضاليله «إِلَّا غُرُوراً» 64 بهم ليستوجبوا عقاب الله، هذا اعتراض لبيان مواعيده، والغرور تزيين الخطأ وإلباسه بالصواب، وعليه يكون المعنى إن الشيطان يزين لهم الباطل بصورة الحق إيهاما، فيظن المغرور به أنه صواب، يقال غر فلان فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصله من الغرو وهو الأثر الظاهر من الشيء، لأن الشيطان يدعو إلى أحد ثلاثة أمور إما قضاء شهوة خسيسة، وإمضاء غضب مفرط، أو غلو في طلب رياسة، ولا يدعو البتة إلى معرفة الله وخدمته، وهذه الأمور الثلاثة ليست في الحقيقة لذائذ بل دفع آلام، فمقترفوها والحيوانات سواء، وهي لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة قد يتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، قال تعالى «إِنَّ عِبادِي» المختصين بي المخلصين لي أضافهم لذاته الكريمة تعظيما لشأنهم «لَيْسَ لَكَ» يا إبليس «عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» أو قوة تمكنك من إغوائهم فلا تقدر بوجه من الوجوه أن تتسلط عليهم لأنهم خاصتي وأوليائي، ومن كنت وليه لا يتمكن أحد من الاستيلاء عليه، لأني وكيله «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» 65 لمن يتوكل عليه ويستمد المعونة منه في الخلاص من كل ما ينوبه من شيطان أو إنسان أو حيوان أو حماد، أما الذين يستنكفون عن عبادتي أمثالك وينسون نعمي عليهم فشأنك وإياهم، وموعدكم جميعا النار التي هي بئس القرار. وهذا الخطاب بلفظ ربّك هناك إلى كرامة المخاطبين وإلى مطلق إنسان، لأن القلب لا يميل إلى كونه خطابا لإبليس وإن كان الخطاب السابق له. هذا وليعلم السائل عن حكمة إنظار إبليس وتمكينه من الوسوسة من قبل الله تعالى وعدم منعه منها وعدم إنظاره مع قدرته على ذلك، هو أن الله تعالى فعل هذا تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقّوا مزيد الثواب، على أن وجود إبليس ليس

مانعا مما يريده الله جل مجده، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، والله خلق الخلق طبق علمه، وعلم بهم طبق ما هو عليه في أنفسهم، وانه كان عليه اللعنة جازما بأن الذي تكلم معه بذلك الكلام وهدّده بذلك التهديد هو إله العالم جل وعلا، إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته الخبيثة، فلم يبصر وعيد الله مانعا له، ولذا حين يأت يوم هلاكه، ولم يبق له شيء من أجله، يقال له اسجد اليوم لآدم لتنجو، لا يسجد أيضا، ويقول لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا! كما ورد الأثر بذلك، فيظهر عناده وعتوه وجرأته على مولاه، فيهلك كافرا كما كان كافرا، وليس حاله بأعجب من حال الكفار، إذ يتمنون العود إلى الدنيا ليؤمنوا بالله، وقد أخبر الله عنهم بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 19 من سورة الأنعام في ج 2، فلا محل للقول بأن إبليس عليه اللعنة لم يكن عالما بأن الذي تكلم معه وهدده هو إله العالم، لأن السياق يأبي ذلك والخطاب شاهد عليه. مطلب أمل إبليس في الجنة والاعتراف بوجود الإله: وما قيل إن له أملا بالنّجاة قيل مسنده ما حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال: كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الآية 156 من الأعراف المارة، وأنا شيء من الأشياء، فقال التستري، ويلك إن الله تعالى قيدها بقوله (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إلخ تلك الآية، ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) إلخ الآية 157 منها أيضا، فقال له إبليس ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، فأسكت التستري لأمر لا نعلمه، ولم يقل له إنها عامة تقبل التخصيص كتسليطك على آدم وهو قادر على منعك منه، وكان ذلك قبل تشريفه بالنبوة إذ ما عموم إلا وخصص والمخصص بالاستثناء منها أنت يا ملعون، إذ نص الله تعالى على جزائك بآيات متعددة بلفظ اللعن الخاص بك والطرد من رحمته، والمبعد عنها لا تشمله هذه الرحمة. ومن هنا يضرب المثل لكل مؤمل أملا لا يدركه بالقول السائر (أمل إبليس بالجنة) ولهذا ولكونه مدونا في أزل الله بأنه يقع منه

ذلك وأن الله يلقنه طلب الإمهال ويمهله، وما كان في علم الله الأزلي لا يبدل ولا يغير، فقد أجاب طلبه وأمهله وأبقاه فتنة لبعض خلقه حتى يستكمل ما قدره الله له من غضب وعذاب، فيهلك كسائر الخلق. قال تعالى «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي» يسير ويسوق ويجزي «لَكُمُ الْفُلْكَ» السفينة والقارب يطلق على الواحد والجمع، إذ لا واحد له من لفظه مثل عالم ونساء ونسوة ورهط «فِي الْبَحْرِ» فيجعلها سائرة على ظهره بالريح الليّنة، والآن به وبالآلات المح؟؟؟ ثة، لأنها داخلة في قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 8 من النحل في ج 2 وذلك «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الريح في تجاراتكم والزيارة للبلاد التي يشق عليكم الوصول إليها بالبر تتميما لمنافعكم، وهذا تذكير ببعض نعم الله على عباده التي هي من دلائل توحيده، وتفسير الفضل بالحجج والنقد، وعلى رأي بعض المفسرين لا يناسب المقام لأن الفضل عام لكل ما فيه نفع، فدخولهما في عمومه أولى من التقييد بها لأنه جاء مطلقا، فإبقاؤه على إطلاقه أولى «إِنَّهُ» جل شأنه في الأزل «كانَ» ولا يزال «بِكُمْ» أيها الناس «رَحِيماً» 66 إلى انقضاء آجالكم في الدنيا وفي الآخرة إلى إدخالكم الجنة، وإذ ذاك تبقون خالدين فيها تحت ظلّه، وحمدوا هذا الإله الذي هيأ لكم ما تحتاجونه، وسهل لكم ما يعسر عليكم، (وربكم) في هذه الآية صفة، لقوله تعالى قبلا (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية 51 المارة أو بدل منه وهو جائز وإن تباعد ما بينها، قال تعالى «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ» فأصابتكم شدة بعصف الرياح وتقاذف الأمواج وخفتم الغرق «ضَلَّ» ذهب عن خواطركم وغاب عن أوهامكم كل «مَنْ تَدْعُونَ» وتستعيثون به وترجون نفعه عنكم، ولم يبق في بالكم «إِلَّا إِيَّاهُ» جل وعلا فإنكم إذ ذاك تذكرونه وحده وتطلبون منه نجاتكم ممّا حل بكم لا من غيره، والحال أنكم في حال مرحكم وفي حالة السراء تدعون آلهتكم وحدها «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ» ذلك الإله العظيم وأجاب دعاءكم وخرجتم «إِلَى الْبَرِّ» وأمنتم من الغرق «أَعْرَضْتُمْ» عن دعائه وحده وملتم عن الإخلاص بعد الخلاص ونسيتم حالة الشدة التي استعنتم به منها ورجعتم إلى شرككم، ويقال إن معنى أعرضتم توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض بمقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرّمة:

عطاء فتى تمكن في المعالي ... فأعرض في المكارم واستطالا فكأنه أراد أعرضتم واستطلتم في الكفران، إلا أنه استغنى بذكر العرض عن الطول للزومه له، والتفسير الأول أولى بالمقام وأنسب للكلام «وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» 67 لنعم الله تعالى مبالعا في جحودها، وهذا التعليل للإعراض وبيان لحكم الجنس، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة إذ أعرض الله عنهم، ومن اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة اثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر الجوهر ولا العرض، فقال له هل ركبت في البحر؟ قال نعم، قال هل عصفت الريح وأنت فيه؟ قال نعم، قال فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال نعم، قال فهل يئست من نفع من في السفينة من المخلوقين ونحوهم لك وإنجاءهم إياك مما أنت فيه؟ قال نعم، قال فهل بقي قلبك معلق بشيء آخر غيرهم ترجو منه الخلاص؟ قال نعم، قال ذلك هو الله عز وجل، فاستحسن ذلك منه وقنع، لأن الإنسان مهما عظم وقوعه في المهالك ولم يجد من ينفعه يبقى في قلبه أمل النجاة، وإذ لم يكن لهذا الأمل من يعلم تنفيذه، فيكون المراد به هو الله لا غير، قال تعالى «أَفَأَمِنْتُمْ» أيها المعرضون عمن نجاكم من الغرق في البحر «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ» الذي هو مأمنكم وأنتم عليه كما خسف بقارون وذهب به في أعماق الأرض، فتغور بكم وتبتلعكم، لأن البر والبحر مسخران لله تعالى، فلا فرق عليه إن أغرقكم في البحر ويرسيكم في قعره أو خسف بكم الأرض، فيغيبكم في ثراها. فعلى العاقل أن يجعل مخافة الله دائما نصب عينيه وفي سويداء قلبه في أي مكان كان «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» حجارة صغيرة يرجمكم بها من السماء فيهلككم كما رجم قوم لوط وأبرهة وقومه في دياركم هذه، وقد شاهد آباؤكم حادثته وكثير منكم أيضا حضرها، راجع الآية 82 من سورة القصص والآية 84 من الأعراف وآخر سورة الفيل المارّات. قال الفراء (الحاصب) هو الريح التي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج هو التراب الذي فيه الحصباء. وقيل ما تناثر من رقاق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق: مستقبلين شمال الشام تضربهم ... بحاصب كنديف القطن منثور

وبمعنى السحاب الذي يرمي بها، وكلها أقوال متقاربة والأول أنسب وأولى باللفظ «ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» 68 يصرف عنكم ذلك ويحفظكم منه إذ لا راد لأمره وهو الغالب القادر على كل شيء، قال تعالى «أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ» أي البحر «تارَةً أُخْرى» ظرف منصوب يجمع على تارات وتير قال: يقوم تارات ويمشي أخرى وقد تحذف منه الهاء كقوله: ... بالويل تار والثبور تارا أي مرة أخرى ومرة بعد مرة وأسند الإعادة إليه تعالى مع أنها باختيارهم. ومما ينسب إليهم عادة كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك منه وإن كان مخلوقا له «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ» وأنتم في البحر «قاصِفاً» قاطعا ريحا شديدة تقلع بعزم قصفها وقوة قطعها ما تمر به من شجر ونحوه ولها صوت عال مزعج «مِنَ الرِّيحِ» المغرقة في البحر المهلكة في البر «فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ» نعمة الانجاء وإجابة الدعاء في المرة الأولى، لأن ديدنكم نسيان النعم وكفران المنعم، فلا تنظرون إلّا لما هو أمامكم «ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ» بذلك الإغراق والإهلاك «تَبِيعاً» 69 يطالبنا بكم ولا متّبعا دركا لثاركم، وهذا على حد قوله تعالى (وَلا يَخافُ عُقْباها) الآية الأخيرة من سورة والشمس المارة وقرىء بنون العظمة في الأفعال الخمسة أي نخسف ونرسل ونعيدكم فنرسل فنغرقكم قال تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» بالعقل واستواء الخلقة ليدبروا معاشهم ومعادهم، وشرفناهم على الحيوانات والحيتان والطيور بذلك وبتناول طعامهم وشرابهم بأيديهم، وميّزناهم بالنطق واعتدال القامة وحسن الصورة، وذللنا لهم الحيوان والجماد وسخرناهما لهم وسلطناهم على ما على وجه الأرض وما جىء فيها من معادن ومياه، وما في المياه من حيوان وأحجار كريمة ومعادن نافعة، وخصصناهم بالتدبر والتفكر والحظ والملاذ الدنيوية الحلال، وزينا الرجال باللحى والنساء بالشعر، وهذه الإضافة تقتضي العموم فتشمل البرّ والفاجر منهم، ولهذا استدل الإمام الشافعي رحمه الله على طهارة الآدمي وعدم تنجيسه بالموت، وطهارة المني لأنه منه، ويكون منه «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ» على الدواب والأنعام وغيرها مما كان وسيكون

«وَالْبَحْرِ» على السفن والمراكب وغيرها مما كان وسيكون، وفي الهواء كذلك، وتحت الأرض والبحر أيضا من كل ما خلق الله وأطلع عليه البشر وما سيطلع عليه بعد ويسخرهم لعمله لأن عمل العبد من خلق الله، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 91 من الصافات في ج 2، وليعلم أن ما يراه الناس من الأشياء العجيبة التي أحدثها البشر مما لا يتصوره العقل كله من خلق الله ولو شاء لما أطلعهم عليه وعلمهم صنعه «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الحاصلة بصنعهم وبغير صنعهم من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمفروش وغيرها من كل ما علم البشر صنعه بتعليم الله إياه. مطلب تفضيل الإنسان على ما خلق الله على الإطلاق: قال تعالى «وَفَضَّلْناهُمْ» بهذا التكريم بظروف النعم وصنوف المستلذات وفنون المعمولات «عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا» أي كل خلقنا، لأن كثيرا هنا بمعنى كل على حد قوله تعالى (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) الآية 233 من الشعراء المارة، قال الحسن أي كلهم كاذبون، «تَفْضِيلًا» 70 عظيما كبيرا إذ عرفناه بواسطة العقل والفهم واكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، فهذا هو معنى التفضيل، والاختصاص المتقدم هو معنى التكريم فلا يقال إن التفضيل والتكريم بمعنى واحد فهو تكرار، تنبه. وليعلم أن خواص البشر الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، ولذلك أجمع المفسرون على أن كثيرا هنا بمعنى الكل كما ذكرناه في تفسير الآية 233 المذكورة آنفا من سورة الشعراء المارة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر على القول الراجح، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) الآية 7 من سورة البينة في ج 3، وجاء عن أبي هريرة قال: المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة الذين عنده وقال: قال صلّى الله عليه وسلم أتعجبون من منزلة الملائكة من الله تعالى، والذي نفسي بيده لمنزلة المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك واقرأوا إن شئتم (إِنَّ الَّذِينَ) إلخ الآية السابقة. ويراد بالمؤمن هنا الكامل الموصوف في هذه الآية وهم الأنبياء، وليعلم أيضا أن الملائكة مجبولون على الطاعة وقد وضع الله فيهم العقل ولم يركب فيهم الشهوة، والبهائم على العكس فهي مجبولة على الشهوة ولم يضع

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 80]

فيها العقل، وقد ركب الله في بني آدم الشهوة ووضع فيهم العقل، فمن غلب عقله على شهوته فقد التحق بالملائكة وصار أكرم منهم، ومن غلبت شهوته على عقله التحق بالبهائم وصار أخس منهم وأشر، وقد خلق الله تعالى كل ما في الكون السفلي والعلوي لبني آدم، وخلق بني آدم لنفسه المقدسة ليعبدوه، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من سورة الذاريات في ج 2 وجاء عن جابر يرفعه قال لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال تعالى لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان. هذا وقالت المعتزلة: إن البشر أفضل من جميع الخلق إلا الملائكة وقال الكلبي البشر أفضل من جميع الخلق عدا طائفة من الملائكة مثل جبريل واسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش وخازن الجنة والنار وشبههم، استدلالا بقوله تعالى (كَثِيرٍ) ولو كان التفضيل على الكل لما جاء لفظ (كثير) والأول الذي جرينا عليه هو ما عليه الجمهور، راجع الآية الأولى من هذه السورة، وقد ذكرنا أن كثيرا أتت في القرآن بمعنى الكل قولا واحدا فيها قال في الكشاف إن المراد بالأكثر في قوله تعالى (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) الآية 37 من سورة يونس في ج 2 (الجميع) والقرآن يفسّر بعضه بعضا والآيتان المتقدمتان والحديثان كل منها يؤيد هذا، وعليه ابو حنيفة وكثير من الشافعية والأشعرية رضي الله عنهم، ولهذا مثبتا على أن الأكثر بمعنى الكلّ، وإن البشر أفضل من جميع الخلق، والمراد الجنس الصادق بالواحد والمتعدد قال تعالى «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) بنبيهم ومقدمهم فيقال يا أتباع فلان، ويا قوم فلان، وقيل بكتابهم لأن الإمام بمعنى الكتاب، فيقال يا أهل كتاب الخير، ويا أهل كتاب الشر، أو يا آل القرآن، يا آل التوراة يا آل الإنجيل، ويا أهل دين الإسلام، يا أهل دين اليهود، يا أهل دين النصارى، والأوّل أولى وأوفق، فيأتون أفواجا أفواجا ومعنى الإمام المتبع والمقتدى به عاقلا كان أو غيره في اللغة، وأما شرعا وعرفا فالإمام هو الخليفة ومن يصلي بالناس بأمره جمعة وجماعة، أخرج ابن مردويه عن

علي كرم الله وجهه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الآية يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنة نبيهم. وأخرج بن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال إمام هدى وإمام ضلالة، وأخرج ابن جرير عن طريق الصوفي عن ابن عباس أيضا قال بإمامهم بكتاب أعمالهم وأخرج بن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال هو نبيهم الذي بعث إليهم. وما قيل إن إمام جمع أم كخفاف جمع خفّ لأن الناس يدعون بأمهاتهم رعاية لحق عيسى عليه السلام، وشرفا للحسنين رضي الله عنهما، وشرا لأولاد الزنى لا وجه له ولا مزيّه، لان جمع أمّ أمهات ولم يسمع كونه جمع إمام والغلط المشهور خير من الصحيح المهجور، على أنه ليس بغلط بل بصحيح مشهور، ولأن عيسى عليه السلام من كرامته على ربه خلقه من غير أب، فهو آية في نفسه من آيات الله العظام، ووالد الحسنين خير من أمهما مهما كانت مفضلة على غيرها لان آل البيت كحلقة مقرغة وفضيحة أولاد الزنى حاصلة لا محالة سواء دعي باسم أمه أولا، لأن الله تعالى يحاسب الزاني والزانية، وفي ذلك تظهر الفضائح وتنشر القبائح، وإن ابن الزنى لا ذنب عليه لأنه لم يقترف شيئا، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية 38 من سورة والنجم المارة، ويوشك أن يثيبه الله تعالى على تحمله ألفاظ القذف من الناس وأقوال التحقير والاستهزاء ما لا يثيب به غيره، وقد يكون غالبا من أهل التحمل، وجبارا أيضا وواطيا بآن واحد، راجع الآية 32 من سورة مريم المارة «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» في ذلك اليوم المهول «فَأُولئِكَ» إشارة إلى من باعتبار معناها «يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» فرحين مسرورين متلذذين بما فيه من الخيرات والحسنات والطاعات التي فعلوها بالدنيا، ويقرأون ما فيه ولو لم يكونوا قارئين قبلا، وكذلك الأعمى يقرأ كتابه بقوة يعطيه الله إياها، ويعيد له بصره حتى لا يبقى لأحد حجة يحتج بها، نفيا لدعوى الظلم «وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» 71 أيها الناس كلكم، فلا ينقص من أجور أعمالكم المرتسمة في كتبكم بمقدار الخيط الرفيع الذي هو في باطن نواة التمر، كما لا يزاد على عقاب أحد بمثل ذلك، وإنما ضرب الله تعالى هذا المثل بالفتيل لما هو متعارف عند العرب إذ يضربون به المثل

لكل حقير، ولأنه لا أقل منه بنظر المخاطبين، ومثله النقير الذي في ظهرها والقطمير الغشاء الذي عليها بل يؤتونها مضاعفة إن كانت من أعمال الخير، ومثلها إن كانت من الشر، راجع الآية 160 من سورة الأنعام في ج 3، أما الذين يؤتون كتبهم بشمالهم فتستولي عليهم الدهشة والذّلة من سوء ما يرونه فيها من كبائر المعاصي وغظائم المناهي، فيرتبكون حتى انهم تأخذهم الرجفة فلا يستطيعون قراءتها كما ينبغي لشدة ما يعتريهم من الخوف، لقبح ما هو مدون فيها. أخرج الفضيلي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة بعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل، وأول خط فيها (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) الآية 14 المارة. وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة، قال أما عند ثلاث فلا، إلى أن قال وعند تطاير الكتب، والثاني والله أعلم عند النفخة الثانية، والثالث عند الفزع الأكبر في موقف الحساب. وجاء عن عائشة أيضا أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته، ويقرأ الناس حسناته، ثم يحول الصحيفة فيحول الله تعالى حسناته فيقرأها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة. قال تعالى «وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ» الدنيا «أَعْمى» قلبه عن الاعتراف بقدرتنا والتصديق لأنبيائنا من المدعوين المذكورين «فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ» المعبر عنها بيوم ندعو في الآية المتقدمة فكذلك يكون «أَعْمى» بأشد من عمى الدنيا فلا يهتدي إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه نفعا «وَأَضَلُّ سَبِيلًا» من سبل الدنيا لأنه فيها قد يعرف بعض الطرق المؤدية لأهله مثلا، أما في الآخرة فلا يعرف شيئا البتة، لذلك لا يمكنه تدارك ما فاته فيها، أي أنه إذا اعترف إذ ذاك بالتوحيد وبالنبوة والكتب والبعث لا ينفعه، وإذا تاب لا تقبل توبته، وإلا لآمن الكل لأن الله تعالى حدد التوبة حدا وهو كونها في الدنيا وفي غير حالتي اليأس والبأس، وقبل طلوع الشمس من مغربها، والدابة من محلها، راجع الآية 82 من سورة النمل المارة. وهذا الأعمى هو الذي يؤتى كتابه بشماله بدلالة ما سبق ولمقابلته به إذ لا يجوز أن يفسر الأعمى هنا بأعمى العين الباصرة لمخالفته لقوله تعالى (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)

الآية 22 من سورة ق المارة، لأن الله تعالى يعطي الأعمى قوة النظر يوم القيامة ويعيد الأجزاء الناقصة من الإنسان حتى القلفة، لأن الناس يحشرون كاملي الخلقة لا تزى فيهم أعمى ولا أعور ولا أقطع ولا أعرج ولا ولا، قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الآية 50 من الأعراف المارة، راجع الآية 125 من سورة طه المارة لاستيفاء هذا البحث، وهذه الآيات المدنيات الأخيرة من هذه السورة، قال تعالى «وَإِنْ كادُوا» قاربوا وأوشكوا «لَيَفْتِنُونَكَ» يخدعونك وإن هذه مخففة من الثقيلة واللام في ليفتنونك تسمى اللام الفارقة بين إن هذه وإن النافية، واسمها ضمير الشان، مقدر دائما، أي أن شأنهم المقاربة لإيقاعك في الفتنة وصرفك «عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد في هذا القرآن «لِتَفْتَرِيَ» تختلق وتتقول «عَلَيْنا غَيْرَهُ» من تلقاء نفسك أو مما اقترحوه عليك. مطلب تهديد الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم: «وَإِذاً» إذا اتبعت أهواءهم وهممت أن تفعل ما أرادوه منك «لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» 73 لهم مصافيا مواليا ولا تبعوك فيما تأمرهم وتنهاهم مع أنهم أعدائي وصداقتهم تقتضي الانقطاع عن ولايتي، وقيل في المعنى: إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام وقال الشافعي رحمه الله: إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك، لأن من الوفاء للصديق عدم مصادقة عدوه. قال ابن عباس قدم وفد ثقيف بعد فتح مكة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا نبايعك على ثلاث خصال: لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها بل لنأخذ هداياها، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا خير في دين لا ركوع ولا سجود فيه، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم، وأما الطاغية (يعني اللات) فإني غير ممتعكم بها، قالوا يا رسول الله، إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل أمرني الله بذلك، فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم غضبا مما قالوا فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم سؤلهم لظنهم أنه راق له ذلك وفي رواية فقام النبي صلّى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه ما بالكم آذيتم رسول الله إنه

لا يدع الأصنام في أرض العرب، فما زالوا به حتى أنزل الله هذه الآية وقد ادخرها الله تعالى هي وما بعدها إلى حد (زهوقا) الآتية لهذه الحادثة وهي كالمعترضة بالنسبة لما قبلها وما بعدها شأن الآيات المتأخر نزولها عن سورها، فإنك تراها معترضة لا علاقة لها بما قبلها ولا صلة بما بعدها. هذا، وما قيل إن قريشا قالت لحضرة الرسول اجعل لنا آية رحمة بدل آية عذاب وآية عذاب بدل آية رحمة حتى نؤمن بك، أو أنهم قالوا لا تمس الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا، أو كلفوه أن يذكر آلهتهم ليسلموا ويتبعوه، أو أنهم قالوا له إن الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فاطردهم حتى نتبعك لأنا نستحي أن نكون وإياهم سواء في المجلس، وأن حضرة الرسول حدث نفسه بما لفظه (ما علي أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها كاره) وغيره من الترهات التي نقلها بعض المفسرين، دون ترو من صحتها لا يصح شيء من ذلك أبدا ولا يجوز أن ينسب لحضرة الرسول شيء منه أصلا، لأنه مما لا يقبل التأويل، وإن اختلاف الروايات تدل دلالة كافية على وضعه، وكون الآية مدنية تبرهن على كذبه وعزم النبي صلّى الله عليه وسلم وحرصه على ما أمره به ربه يحيل وقوعه، لأن تلك الأقوال الواهية على فرض صحتها جدلا فإنها كانت في مكة، ولم يكن يلتفت إليها حضرة الرسول مع ما كان عليه وأصحابه من الضعف لقلة المسلمين فيها، أما وقد حفظه الله من كيدهم وقواه وأيده وأعلى كلمته وأظهر دينه في المدينة وكسر شوكة أعدائه فلا يتصور صحة شيء منها البتة، قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ» على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا إياك من الميل لأقوالهم هذه «لَقَدْ كِدْتَ» قاربت في نفسك وأوشكت «تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ» بما قالوه وطلبوه لقوة خداعهم وشدة احتيالهم ونملقهم «شَيْئاً قَلِيلًا» 74 يسيرا جدا قد يستدل به إلى ميلك القلبي لهم بسبب سكوتك وقيامك عنهم، دون أن تزجرهم وتظهر غضبك عليهم، وما كان ينبغي لك أن تتصور ذلك أو تردده في خلدك حتى يتخيلوا ميلك لإجابتهم ويطمعون في موافقتك لهم. هذا، واعلم أن ظاهر الآية تدل صراحة على أن حضرة الرسول لم يهم فعلا بإجابتهم، ولم يكد أيضا وهو لا شك معصوم عن العزم بما هو من ذلك القبيل وحديث النفس معفو عنه شرعا،

وإن كان محاسبا عليه والحساب غير العقاب والعتاب. قال تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية 284 من البقرة في ج 3، وقدمنا نبذة فيما يتعلق في هذا البحث في الآية 86 من سورة القصص المارة وله صلة واسعة في آية البقرة المذكورة آنفا فراجعها. وقد استدل بهذه الآية على أن العصمة بتوفيق الله وعنايته، وركن بفتح الكاف مضارعها يركن بكسرها وتأتي بضم الكاف ومضارعها بفتحه كما في الآية، قال تعالى «إِذاً» لو قاربت الركون إليهم بأدنى شيء «لَأَذَقْناكَ» بسبب تلك الركنة القليلة «ضِعْفَ الْحَياةِ» في الدنيا عذابا مضاعفا «وَ» أذقناك «ضِعْفَ الْمَماتِ» في الآخرة عذابا مضاعفا أيضا، والمراد ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى، والحذف في فصيح اللغة جائز ومرغوب، وهذا يشمل عذاب القبر والبعث وما بعده أيضا، وحاصل المعنى يقول الله تعالى لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لو أجبتهم إلى بعض طلبهم لضاعفت عليك عذاب الدنيا والآخرة، وذلك أن الأبرار لو فعلوا ما يستوجب عذابا ما يكون ضعف عذاب الأشرار وأكثر، لأنه لا يتوقع منهم الانحراف عن منهج الرشد أصلا بدليل قوله تعالى «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» 75 يدفع عنك عذابنا أو يرفعه، ففيها من التهديد والوعيد ما يتقيض له من يتقيض ولا يخفى أن الأنبياء لا نصير لهم إلا الذي قربهم وشرفهم بنبوته بادىء أمرهم، وإن ما يقع من نصرتهم من بعض خلقه بتسخيره لهم، فكيف يجدون نصيرا لهم من غيره؟ كلا لا نصير له غير ربه. روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى: وإن كادوا إلى هنا، قال صلّى الله عليه وسلم: أللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. فينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجئو على ركبتيه ويتدبر معناها ويستشعر خشية الله تعالى ويزداد تصلبا في دينه، ويقول ما قاله نبيه صلّى الله عليه وسلم تقربا إلى الله، لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا سأله بخلاف العبيد فإنه يكون أقرب ما يكون إليهم إذا لم يسألهم، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ازهد بما في أيدي الناس تحبك الناس. وقال العارف: لا تسألن ابن آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله ... وابن آدم حين يسأل يغضب

وفي هذه الآية إجلال عظيم لحضرة الرسول من قبل ربه عز وجل، وتنبيه على أن الأقرب من الله يكون أشد خطرا عنده كما يكون أشد خوفا منه. قال تعالى: (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 28 من سورة فاطر المارة، فإذا كان الله تعالى أوعد حضرة حبيبه على ما خطر يباله ولم يفعله بضعف ما أوعد به العصاة من العذاب المدخر لهم، فكيف بنا أيها الناس؟ أللهم لا حول ولا قوة إلا بك، فنسألك الهداية إلى سواء السبيل، والعصمة من خطرات نفوسنا ومن وساوس الشيطان ودسائسه ومن شرار خلقك بفضلك يا رحمن. قال تعالى «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ» يستخفونك ويزعجونك ويخرجونك «مِنَ الْأَرْضِ» التي ولدت فيها ونشأت عليها وبعثت إليهم فيها بسبب عداوتهم ومكرهم يريد أهل مكة حين ما كان صلّى الله عليه وسلم فيها بين أظهرهم قبل أن يهاجر عنهم. وهذه حادثه مكية يذكر الله تعالى بها نبيه في المدينة بعد ما فشا أمره وعلت كلمته في أرض مكة وما حولها وكان استفزازهم ذلك «لِيُخْرِجُوكَ» قسرا «مِنْها وَإِذاً» لو فعلوا ذلك وكان خروجك قهرا «لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ» أي بعدك وعليه قوله: عفت الديار خلافهم فكأنها ... بسط الشواطب بينهن حصيرا أي بعدهم، والشواطب اللائي يقدّون الأديم بعد ما يخلقنه «إِلَّا قَلِيلًا» 76 لبثا يسيرا جدا، إذ جرت عادة الله تعالى أن كل أمة أخرجت نبيها جبرا فإنه يهلكها استئصالا، والمعنى أنهم لو أخرجوك كما أرادوا لأهلكوا عن بكرة أبيهم، وهم أرادوا هذا وعرفوا وصمموا عليه، ولكن الله لم يرده والله الغالب على أمره. هذا، ولما لم يقع المقدّم وهو الخروج لم يقع الثاني وهو الهلاك، إذ خرج حضرة الرسول من مكة مهاجرا بعد أن أذن الله له بالهجرة، وهذا من جملة رحمات الله بقريش إرادة استبقائها. وإن ما جاء في قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) الآية 11 من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج 3 لا يناقض معنى هذه الآية المفسرة، لأن غاية ما فيها الاخبار عن انتصار الله تعالى لأنبيائه السابقين من أممهم المعاندين. وقصارى ما دلت عليه الآية المفسرة هو قرب الاستفزاز منهم تسببا إلى إخراجه ولم يكن حاصلا ولا واقعا ومعنى أخرجتك في الآية المستشهد

بها عزمهم على اخراجك واجماع كلمتهم عليها، وهم كأنهم أخرجوك على زعمهم، ولكن الله تعالى أبى ذلك، فكان خروجك من بين أظهرهم خروجا لا إخراجا كما سيأتي تفصيله في حادثة الهجرة عند تفسير الآية 27 من العنكبوت في ج 2، وكيفية اجتماعهم في دار الندوة وماهية قرارهم المتخذ بهذا وصورة تنفيذه وتحقق قول ورقة بن نوفل رحمه الله حينما قص عليه مبادئ نزول الوحي فقال له: يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك. وقوله صلّى الله عليه وسلم أو مخرجي هم كما أوضحناه في المقدمة في بحث نزول الوحي وإذ كانت هذه الآية المفسرة مدنية مستثناة من سورتها فيتجه فيها ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنيم قال إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث. وعلى هذا يكون المراد بالأرض أرض المدينة لا مكة والله أعلم. إذ انها صالحة للقولين قال تعالى «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا» أي أن إهلاك كل قوم أخرجوا رسولهم قسرا هو سنة مطّردة من الإلهية التي لا تنخرم، كما أنها من سننها المدونة في الأزل أن لا تعذب أمة ما دام نبيها فيها حتى إذا أراد إهلاكها أشار اليه ان يبتعد عنها. قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 34 من الأنفال في ج 3 «وَلا تَجِدُ» أنت ولا غيرك ممن تقدمك أو تأخر عنك «لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» 77 عن مجراها الطبيعي ولا يتمكن أحد على تغييرها، و؟؟؟ أسراء هذه العادة المتبعة التي لا يقدر أحد على تبديلها هو من كمال الحكمة، والمراد من نفي الوجدان هو نفي الوجود، ودليل نفي وجود من يغير عادة الله أظهر من الشمس في رابعة النهار، هذا ومن قال إن هاتين الآيتين مكيّتان تبعا لسورتهما قال في سبب نزولها اجتماع قريش في دار الندوة واتفاقهم على إخراجه من مكة، والحال أنهم اتفقوا على إخراجه من وجه البسيطة لأنهم أجمعوا أن يقتلوه ويشتركوا جميعا في قتله كما هو مبين في الحادثة المشار إليها أعلاه، وانه بعد خروجه من مكة بثمانية عشر شهرا وقعت حادثة بدر وهي دليل على عدم لبثهم فيها من بعده إلا قليلا، وهذا الزمن قليل نسبة وان

قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية المارة الذكر آنفا تؤيد ذلك، إلا أن هذا لا يستقيم، إذ جرت عادة الله التي لا تبدل بعذاب الاستئصال العام كما تشير اليه الآيتان المفسرتان، وإن واقعة بدر وقعت على قليل منهم ولم تكن عقب خروجه كما فعل الله بقوم صالح، إذ لم يتأخر عنهم العذاب إلا ثلاثة ايام، وكذلك الأمم قبله وبعده فلم يتأخر عذابهم ولم يقع على بعضهم، وسبب تعجل العذاب على أثر خروج النبي هو إذا وقع متأخرا يظن المعذبون أنه طارئ عادي ليس لإغضابهم أنبيائهم، تدبر، لهذا فان المرضي الذي لا غبار عليه ولا طعن فيه هو ما ذكرناه اولا من أن الآيتين مدنيتان، والسبب في نزولهما هو تذكير الله نبيه ما أراد به قومه وهو في مكة، وما ذكر عن اليهود الذين قالوا له إن كنت نبيا فاذهب إلى الشام، وذلك لأن جميع الأنبياء إما من أرض الشام او هاجروا إليها، ولهذا توجه لتبوك عند سماعه قولهم ذلك. قال قتادة إن هذه السورة مكيّة إلا ثماني آيات وهي من قوله (وإن كادوا) إلى (زهوقا) فهن مدنيات وان كان الخفاجي لا يرضى هذا فقد خولف بكثير من أمثاله، والله أعلم. مطلب مأخذ الصلوات الخمس والجمع بينها: قال تعالى «أَقِمِ الصَّلاةَ» التي فرضناها عليك وعلى أمتك ليلة الإسراء هذه «لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» أي ميلانها إلى الزوال فتتناول هذه الجملة صلاتي الظهر والعصر، ويرجح هذا القول بأن كل صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلم وأمه بها جبريل عليه السلام هي صلاة الظهر حين علّمه كيفية الصلاة في يومين، كما أشرنا اليه آخر قصة المعراج المارة، وما قيل إن المراد غروبها ينافيه قوله تعالى «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» ظلمته لأن هذه الجملة تتناول أيضا المغرب والعشاء، فال النّضر بن شميل غسق الليل دخول أوله قال الشاعر: إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا ويطلق على ظلمة الليل قال زهير بن أبي سلمى: ظلّت تجود يداها وهي لاهية ... حتى إذا جنح الاظلام والغسق

وما استدل به بعضهم على أن الدلوك بمعنى غياب الشمس من قول ذي الرمة: مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم ولا بالاملاك الدوالك لا يكون نصا في معنى الغياب لأنه يكون بمعنى الميل والنجوم تميل بسيرها، لأن أصل مادة ذلك تدل على الانتقال وفي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها، وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها بحسب مانراه، وكذلك الدلك المعروف هو انتقال اليد من محل إلى آخر، وليعلم أن كل كلمة أولها دال ولام مع قطع النظر عن آخرها تدل على ذلك مثل دلج من الدلجة وهو سير الليل ومنه دلج الدلو إذا مشى بها من رأس البئر إلى المصب ودلج بالماء إذا مشى به مشيا ثقيلا ودلع إذا أخرج لسانه ودلف إذا مشى مشية المقيد ودلق إذا أخرج المائع من مقره ودله إذا ذهب عقله «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» صلاته لأنها لا تجوز بلا قراءة «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» 78 من ملائكة الليل والنهار لأنه آخر الليل وأول النهار، ولهذا فضل بعضهم صلاة الغلس على صلاة الأسفار، وان الصلاة في وقتها أفضل، وهذه الآية الكريمة هي مأخذ الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على حضرة الرسول وأمته في هذه السورة في ليلة المعراج الشريف، ونظير هذه الآية الآية 130 من سورة طه المارة والآية 18 من سورة الروم في ج 2 هذا ومما يؤيد فرضية الصلاة في نزول هذه الآية وكونها في السنة العاشرة، كما قال الزهري أنها في السنة الخامسة لا كما قدمنا البحث فيه في قصة المعراج المارة، وإن مما يقدح في قوله أن خديجة رضي الله عنها لم تصل الصلوات الخمس وأن أبا طالب لم يدرك الإسراء ولم يبلغه شيء عنه ولو كان حيا لرجع اليه قومه حين أنكروه على النبي صلّى الله عليه وسلم وأنّبوه ورموه بما رموه من أجله لأنه توفي في 15 شوال سنة 10 من البعثة التي أولها شهر رمضان وقد وقع الإسراء في 27 رجب سنة 10 وتلته خديجة بعد ثلاثة أيام كما ذكرناه قبل، تنبه. روى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا، وتجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية وليعلم

أن ليس المراد باقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين، أي دلوك الشمس وغسق الليل على وجه الاستمرار، بل إقامة كل صلاة في وقتها المعين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة، كما أن اعداد ركعات كل صلاة موكول إلى بيانه عليه الصلاة والسلام، وقدمنا ما يتعلق بهذا البحث أيضا آخر قصة المعراج المارة أول هذه السورة، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على جواز جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وبقاء الصبح وحدها لانفصالها بالآية وذكرها وحدها بلا عذر، وهو خطأ إذ لا خبر صحيح بجواز ذلك، وإذا لم يضمّ إلى هذه الآية بشيء يفسرها من أقوال حضرة الرسول على صحة ما قاله ذلك البعض لا يصلح الأخذ به، لأن الاستدلال بظاهرها ومفردها على جواز الأربعة جميعها، لأنها عبارة عن جملة واحدة أولى من الاستدلال على جمع اثنتين اثنتين، ولا قائل بجمع الأربع البتة، وان حديث ابن عباس المثبت في صحيح مسلم من أنه صلّى الله عليه وسلم صلّى الظهر والعصر جمعا بالمدينة، وفي رواية أنه صلّى ثمانيا جمعا وسبعا جمعا من غير خوف ولا سفر هو صحيح لا غبار عليه، إلا أنه لم ينف المرض والمطر، لأن الجمع فيهما جائز تقديما وتأخيرا على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وتقديما فقط في الجديد بسبب المرض أو المطر ليس إلا، ولا يليق أن يؤول الحديث المذكور بخلاف هذا، وما جاء عنه أيضا في صحيح مسلم في رواية أخرى من غير خوف ولا مطر أي لا مطر كثير يمنع من المشي إلى الجامع بسهولة، يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال، فإذا كان المطر لم يبلغ ذلك فلا يمنع ولا يصح الجمع، ولم ينف هذا الحديث أيضا المرض تدبّر، بما يدل على أن جمعه ذلك الوارد في حديث مسلم كان بسبب المرض، إذ لا قائل بالجمع دون سبب أصلا. على أن الجمع لم يقل به ابو حنيفة مطلقا فيما عدا عرفات ومزدلفة لضيق الوقت في ذلك الازدحام الذي يعرفه من شاهده ليس إلا، لعدم تثبته رضي الله عنه من صحة ما ورد فيه، وأن الجمع المروي عنه صلّى الله عليه وسلم حال العذر عبارة عن تأخير الأولى لآخر وقتها فصلاها فيه، ولما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت هذه الصورة صورة جمع، ويحمل عليه قول من رآه صلّى ثمانيا

أو سبعا، أو أنه جمع بين الوقتين، ولهذا قال الترمذي في آخر كتابه ليس في كتاب حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، أي أنه لم يبين فيه المرض ولا قلة المطر غير المانع من المشي بسهولة، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ولا يقال لمثل هذا الحكيم الترمذي إن قوله ناشىء من عدم تتبعه بل هو ناشىء من شدة تتبعه، ولذلك قال ابن الهمام إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى الله عليه وسلم قال ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى. مما يدل على أن حديث ابن عباس فيه مقال، وإن كان في صحيح مسلم، كما أن حديث شريك بن نمر الذي رواه عن أنس بن مالك في قضية الإسراء فيه مقال، حتى قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديث شريك الذي أشرنا إليه في الآية 18 من سورة والنجم المارة والآية 10 من سورة الجن أيضا، وفي مطلع هذه السورة في بحث الإسراء. وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين قد زاد شريك فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة. هذا، وهو في مسلم والبخاري وعن أنس أيضا، فلا يبعد أن يكون ما رواه مسلم عن ابن عباس زيد فيه أيضا ما زيد. ومن قال إنه تأويل (قرآن الفجر) بصلاته خلاف ظاهر الآية ولا يجوز الصرف عن الظاهر إلا بدليل، فيقال له إن الدليل موجود وهو قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) وقرآن الفجر معطوف عليها ولم يشتهر أقم القراءة بل أقم الصلاة. مطلب في التهجد والمقام المحمود وما نسب لإبراهيم وصلاة التراويح: وما احتج به من ضمير (به) في قوله عز قوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ» يجوز رجوعه إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى، ويجوز رجوعه إلى الصلاة أيضا المعبر عنها بالقرآن، لأنها ركن من أركانها كما عبر عنها بالركوع والسجود، وعود الضمير من (به) إلى الصلاة أولى لأن التهجد هو الصلاة بعد النوم، ولا تسمى الصلاة تهجدا إلا إذا كانت بعد النوم وفي الليل ت (35)

خاصة «نافِلَةً لَكَ» زائدة على سائر الصلوات. روي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاث هي عليّ فريضة وهي سنة لكم: الوتر والسواك وقيام الليل. وروي عن الحجاج بن عمر والمازني أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» 79 من قبل أهل السموات والأرض. واعلم أن عسى هنا وفي كل موضع من القرآن إذا كانت من الله تكون بمعنى الإيجاب التفضّلي، لأن معناها الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه منه كان عارا عليه، والله أكرم من أن يطمع أحدا بشيء ثم لا يعطيه إياه، والمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى العامة الذي اختصه الله تعالى به يحمده عليه الأولون والآخرون، وناهيك أن الله تعالى سماه محمودا. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم محمد فيشفع فيقضي الله بين الخلائق، فيمشي حتى يأخذ بخلقه باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لواني، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك، فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحا، فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول كما جاء في عبارة الترمذي إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله أي (ناضل ودافع) وهي من باب المعاريض لأن الأولى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية 19 من سورة الصافات في ج 2، ومعناها مريض القلب من تماديكم على الكفر وعدم التفاتكم إلى خالقكم، والثانية قوله

(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية 62 من سورة الأنبياء في ج 2، وذلك على طريق الاستهزاء بهم والسخرية من عقيدتهم بالأوثان، والثالثة قوله للجبار حينما سأله عن زوجته سارة هذه أختي يريد أنها أخته في الخلقة والدين، وعلى هذا فلا شيء يعد منها كذبا صراحة. وقالوا في المعاريض مندوحة عن الكذب، ولكنه إذ كان من أهل العزم المطلوب منهم التصريح بما لا يحتمل التأويل فيعد مثل هذا منهم ذنبّا على حد (حسنات الأبرار سيئات المقربين) ولكن ائتوا موسى، فيأتون موسى فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول إني عبدت من دون الله تعالى ولكن ائتوا محمدا، فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال من هذا؟ فأقول محمد، فيفتحون لي ويقولون مرحبا، فأخرّ ساجدا لله، فيلهمني تعالى من الثناء والحمد والمجد، فيقال إرفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك، فهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) الآية. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله، من مات لا يشرك بالله شيئا. وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من قال حين يسمع النداء أللهم ربّ هذه الدعوة النامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة. وتقدم في سورة والضحى ما يتعلق في هذا البحث فراجعه، وفي الآية 17 من سورة المزمل المارة تقدم ما يتعلق في قيام الليل بصورة مفصلة، وسنذكر هنا بعض الأحاديث الواردة فيه. روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه، فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا. ولفظ أبي داود في رواية مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال: لأرمقنّ صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الليلة، فتوسدت عتبته أو فسطاطه، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين كررها ثلاثا، ثم صلّى ركعتين، دون التي قبلها كررها ثلاثا أيضا، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. وروى

البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي. ورويا عنها أيضا قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين وبوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن بالإقامة. ومن هنا أخذ الشافعي رحمه الله الضجعة بين سنة الفجر وفرضه، وسماها بعضهم ضجعة القبر، أي أنها تذكره بها، ومن هنا أخذت أيضا صلاة التراويح في رمضان التي يسميها بعضهم سنة عمر رضي الله عنه وإنما هي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن عمر رضي الله عنه أخذها عنه إلا أنه صلاها جماعة في رمضان، وكان النبي يصليها وحده، لهذا سموها سنة عمر نور الله قبره كما نور مساجدنا بذلك. وأخرج أبو داود والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة النساء. وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة يكررها. وروى البخاري ومسلم عن الأسود قال: سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله من الليل؟ قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج. وأخرج النسائي عن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه. أي أنه كان لا يوقّت وقتا لنومه

وصلاته، وزاد في رواية غيره، كان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا، ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا. فهذا حال رسول الله أيها الناس وهو على ما هو عليه من الرفعة والأمن من اليوم الآخر، فكيف أنتم هل أديتم بعض حقوق الله وهل قمتم ببعض واجباته أو واجبات خلقه أو أتيتم ما فرضه عليكم؟ كلا بل لا زلتم على ما أنتم عليه من الضعة غافلين عما يراد بكم في ذلك اليوم العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال تعالى «وَقُلْ رَبِّ» حذف منه ياء النداء أي يا محمد قل في دعائك إذا دعوتني يا رب «أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ» في كل مكان أدخل فيه وكل زمان أصير إليه وكل أمر ألج فيه من أمور الدنيا والآخرة، وقرىء هنا وفيما بعد مدخل بفتح الميم إذ يجوز أن يكونا اسمى مكان وانتصابهما على الظرفية ويجوز أن يكونا مصدرين منصوبين بفعل من نوعهما «وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ» كذلك على العمومية في الجملتين، لأن جعلهما عامتين أوفق لظاهر الآية لفظا، وقد خصهما بعض المفسرين في القبر أو في مكة أو المدينة أو الجنة أو في تعاطي المأمورات واجتناب المنهيات وغير ذلك دون استناد لدليل يفيد التخصيص، مع أن سابق اللفظ ولا حقه مما تقدم عن هاتين الجملتين أو تأخر لا يختصان بمكان أو زمان دون زمان ومكان آخرين، والمعنى يا رب أدخلني إدخالا مرضيّا على طهارة وزكاة في كل أموري، وأخرجني إخراجا مرضيّا ملقى بالكرامة آمنّا من الملامة في جميع أحوالي، ويؤيد معنى العموم قوله جل قوله «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» 80 على من خالفني ولم يؤازرني وارزقني حجة قوية على من يحاججني وبرهانا مؤزرا على من يخاصمني في أمرك، ودليلا قاطعا على من يجادلني في دينك. هذا، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما أمر حضرة الرسول بالهجرة وطلب إخراجه من مكة آمنا من أذى قومه الذين كلفوه بالخروج، أو حينما خرج من الغار سالما قال وأدخلني المدينة آمنا أو وأدخلني مكة فاتحا أو غير ذلك، فقيل لا مستند له واحتمال المعنى لهذا لا يعني أنها نزلت فيه، وقد دعا صلّى الله عليه وسلم وأجاب الله دعاءه بقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية 67 من المائدة، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الآية الأخيرة من سورة

[سورة الإسراء (17) : الآيات 81 إلى 90]

المجادلة، ومثلها الآية 65 من المائدة، وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية 24 من سورة التوبة إلى غيرها من الآيات في ج 3 كالآية 8 من سورة الصف والآية 5 من سورة النور وغيرها. قال تعالى «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ» الصريح من قبل الله تعالى وهو هذا الدين الراسخ المستمد من كلام الله المنزل عليّ لآمركم بالإيمان به «وَزَهَقَ الْباطِلُ» اضمحل وانمحق، وهلك الباطل الذي تدينون به والشرك الذي تزعمونه، وبطلت عبادة الأوثان والشيطان وغيرها. يقال زمقت نفسه إذا خرجت من الأسف. روي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه، فيقول (جاءَ الْحَقُّ) الآية «إِنَّ الْباطِلَ» مهما كان أمره «كانَ زَهُوقاً» 81 زائلا سريع الزوال، ومهما صارت له دولة وصولة، فإنه لا يدوم، لأنه ظلم والكفر مع العدل قد يدوم، والظلم مع الإيمان لا يدوم. قال تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الآية 117 من سورة هود في ج 2، وهذا آخر الآيات المدنيات الثماني وفسرناها على كونها مدنيات وذكرنا ما يحتملها من التفسير على القول بأنها مكيات، وبينّا ما فيه. مطلب الاستشفاء بالقرآن على نوعين وثالثهما العقيدة: قال تعالى «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» من أمراض القلوب وبيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه، ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهات، ويهتدى به من الحيرة. وليعلم أن الأمراض التي يستشفى لها بالقرآن نوعان الأول الاعتقادات الفاسدة في الذات المقدسة والصفات المطهرة والنبوات المعظمة والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن العظيم مشتمل على دلائل المذهب الحق فيها كلها ومصرح على إبطال المذاهب الفاسدة منها، فلا جرم أن القرآن الكريم خير

شاف لما يحوك في القلوب ويتردد في الصدر من هذه الأمراض ولا طب لهذه الظنون الخبيثة إلا الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأقوال الفقهاء العارفين. النوع الثاني الأخلاق المذمومة كالكذب والزنى والقمار والقتل والتعدي على الغير والربا وأكل الحرام وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والتجسس والغمز واللمز وتطفيف الكيل والوزن والذرع والغضب والحدة والحمق وغيرها مما شاكلها، فإن القرآن الجليل لا شك أعظم شاف منها وخير منفّر عنها وأحسن مرشد لاجتنابها والأخذ بأضدادها من الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والخصال المحمودة، كالوفاء والسماح والعفو ولين الجانب والتؤدة والصبر وخفض القول والعفاف والصفح والكظم وشبهها مما يضاهيها، فلا دواء لها أنفع من الأخذ بآيات القرآن وسنن المنزل عليه. أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني أشتكي صدري فقال عليه الصلام والسلام اقرأ القرآن يقول الله تعالى (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية 57 من يونس في ج 2. وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة ابن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال عليك بقراءة القرآن. والأخبار في هذا كثيرة جدا وأقوال العارفين والعلماء العاملين تشير إلى ذلك أيضا، وقد جرّب هذا فنفع من كان له إيمان وعقيدة راسخة، أما من لم يعتقد به فهو عليه وبال، راجع الآية 43 من سورة فصلت في ج 2، أما الأمراض الجسمانية فهي نوعان أيضا: ظاهرة كالجروح والدماميل والكسور وما شابهها فهذه لا بدّ لها من التداوي بالعقاقير المجربة لمثلها والتضميد وغيره، وباطنة كمرض الأمعاء والرئة والمثانة والكلى والكبد والطحال وغيرها، فكذلك لا بد لها من النداوي عند الأطباء الحاذقين المجربين المؤمنين، ولا بأس من التداوي عند غيرهم من أهل الكتاب عند فقدهم لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الضرورة تقدر بقدرها لأن هذين النوعين مباينين للنوعين الأولين، أما الأمراض الأخرى كالفتور والخدر والفلج وضرب الرأس وبعض أنواع الجنون واعتراء الوهم والوسواس وما أشبه ذلك فيجوز أن يعرضها على الأطباء الحاذقين بها وعلى حملة كتاب الله العارفين الأمناء فإن قراءة القرآن والتعاويذ به تدفع وتنفع لأمراض كثيرة وتشفي من علل وافرة،

وهذا لا يمنع من التداوي لها بالعقاقير وما يصفه الأطباء، إذ قد يجوز بآن واحد أن يستعمل المريض الدواءين المادي والمعنوي الاعتقادي. ويؤمر المصاب بتعاطي الأسباب من الدواءين لأن الرسول حث على التداوي، فقال تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء. لا سيما الكسور والجروح والإمساك والانطلاق، وقد وصف صلّى الله عليه وسلم عسلا لمنطلق بطنه ولم يقل له اقرأ عليه القرآن مع أنه بتقدير الله شاف لكل شيء، وقد وقع من بعض الأنبياء والأولياء العارفين من ردّ العين بعد العمى وجبر اليد بعد الكسر وشفاء الأبرص والأكمه بل وإحياء الموتى على طريق خرق العادة وهو ممكن بإذن الله على يد من وفقه الله. والقاعدة أن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه وهذا منها، وما جاء من قوله صلّى الله عليه وسلم من لم يستشف بكتاب الله فلا شفاه الله. فليس على إطلاقه كما ذكرنا ومما يستشفى به من القرآن العظيم للدفع والرفع تلاوة الفاتحة لكثرة الأحاديث الواردة فيها وآية الكرسي لأنها أعظم آية في القرآن وآيات الشفاء الست وهي: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) الآية 14 من سورة التوبة (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية 56 من سورة يونس (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية 79 من سورة النحل في ج 2 والآية المفسرة هذه (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية 80 من الشعراء المارة و (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) الآية 44 من سورة فصلت في ج 2 فقد قال السبكي جرّبت كثيرا من المرضى بتلاوتها عليهم فنقعت بإذن الله. وقال القشيري إنه مرض له مريض قد أيس من حياته فرأى الله عز وجل في منامه فشكا له سبحانه ذلك، فقال له اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى. ومنها قصة الأبوصيري صاحب البردة المشهورة، ومنها المغفور له الشيخ أمين الجندي الحمصي المتوفى في شوال سنة 1257 تغمده الله برحمته إذ كان مبتلى بداء عضال أعيا الأطباء فنظم قصيدته المشهورة واستغاث فيها إليه تعالى وتوسل بجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم فشفاه الله وكان مطلعها: توسلت بالمختار أرجى الوسائل ... نبي لمثلي خير كاف وكافل

وكثير ممن ابتلي بداء أعجز الأطباء فيشفيه الله تعالى بالرقيا، والأطباء المنصفون يعترفون بأن من الأمراض ما يشفى بخاصة ما روحانية كما فصله الأندلسي في مفراداته وداود في الجلد الثاني من تذكرته ولا يعبا بمن ينكر ذلك، لأنه إنكار للمحسوس وجحد للظاهر. قال الراوي اشتكى محمد بن السماك فأخذنا ماءه وذهبنا به إلى طبيب نصراني فاستقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة، فقال لنا إلى أين؟ قلنا له إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السماك، فقال سبحان الله تستعينون على ولي الله بعدو الله اضربوه على الأرض وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له ضع يدك على موضع الوجع وقل (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ثم غاب عنا فلم نره، فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك فوضع يده على الوجع وقال ذلك فعوفي في الوقت، فقال لهم إن ذلك الرجل هو الخضر عليه السلام، أما ما رواه أبو داود من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان. فعلى فرض صحة هذا الحديث فإن النشرة التي قال فيها حضرة الرسول ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية، وهي أنواع شتى منها ما يكون بالودع، ومنها ما يفعله أهل التعزيم من قراءة أشياء غير معلومة المعنى أو كتابتها أو سقيها مما لم يرد به شيء من السنة، لا مثل التي فعلها القشيري، لأنها عبارة عن آيات الله من كتابه المأمور بالاستشفاء به، قال مالك عليه الرحمة لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها، وكلمة لا بأس لا تختص بخلاف الأولى بل قد تكون للاستحباب والوجوب أيضا كما صرح به العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر، وقد وردت السنة بالرقيا من العين كما مر تفصيله في الآية 51 من سورة القلم المارة وكما سيأتي في الآية 66 من سورة يوسف في ج 2، وقال ابن المسيب يجوز تعليق المعوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في المعوّذة تعلق على الصبيان مطلقا. وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا كان أو صغيرا مطلقا. وعذا الذي توارثه الناس أبا عن جد من لدن حضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا هم عليه دائبون وبه متمسكون في جميع الأمصار، ولم يعارض به إلا

كل متكبر جبار، ضعيف الإيمان قليل العقيدة بآيات الله التي هي فضل منه «وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» به وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب، وجدير بأن تكون كذلك لما فيها من شفاء الأمراض الباطنة والظاهرة المار تفصيلها وغيرها. واعلم أنه كما يكون كتاب الله رحمة للمؤمنين فهو عذاب للكافرين بدليل قوله عز قوله «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر به وجحوده وتكذيب المنزل عليه «إِلَّا خَساراً» 82 في الدنيا وضلالا مزدوجا يرى سوء عاقبته في الآخرة، قال قتادة لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاء الله الذي قضى، وتلا هذه الآية، ونظيرتاها في المعنى الآية 45 من سورة فصلت في ج 2 والآية 12 من الأحقاف أيضا، وفي هذه الآية تعجيب من أمر القرآن لكونه بآن واحد نور لقوم، ظلمة لآخرين، شفاء لأناس، هلاك لغيرهم، علم لأناس، جهل لآخرين، وقيل في المعني: كماء المزن في الأصداف درا ... وفي ثغر الأفاعي صار سما وسيأتي زيادة تفصيل في تفسير آية فصلت المنوه بها أعلاه، وقدم الشفاء في هذه الآية على الرحمة لأن الشفاء يكون للتخلية، والرحمة تكون للتحلية، والتخلية مقدمة على التحلية لأنها أهم منها، قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ» من كمال فضلنا وعظيم جودنا وكثير عطائنا وفيض رحمتنا بأن وسعنا طرق خيرنا عليه، فأعطيناه رحمة كاملة ومالا كثيرا وجاها وسلطانا وأولادا وخدما وعقارات «أَعْرَضَ» عنا وغفل عن ذكرنا ولم يدعنا، وأظهر الاستغناء عنا كأن ما حصل عليه من ذلك من كسبه وتدبيره لا بتوفيقنا «وَنَأى» أعرض لفرط جهله وعتوه وعناده، فتراة طوى كشحه ولوى عنقه وأدبر موليا عنا، وهذا تأكيد للإعراض لأن المعرض عن الشيء يوليه ظهره ويصد بوجهه ويتباعد عنه «بِجانِبِهِ» مبالغة في عدم التقرب إلى الله تكبرا وتعاظما، وكان عليه أن يقوم بما أنعمنا به عليه من أداء الشكر الواجب عليه بمقابل فضلنا المترادف عليه، لكنه لم يفعل لانه مجبول على الكفران ومقطور على النسيان ومطبوع على النكران، وما ذكره بعض أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم، وقرأ ابن

عامر برواية ابن ذكوان/ وناء/ في هذه الآية والآية 57 من فصلت في ج 2، وهذا من باب القلب ووضع العين محل اللام مثل رأى وراء وناء بمعنى نهض كما في قوله: حتى إذا ما التأمت مفاصله ... وناء في شق الشمال كاهله أي نهض متوكئا على شماله وتفسير نهض هنا بأسرع لمناسبة المقام، أي أسرع بصرف جانبه أو بمعنى تثاقل عن أداء شكرنا كأنه مستغن في ذاته مستقل في أمره بحيث لا يخطر على باله احتياجه إلى ربه «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ» المرض والضيق والذل والإهانة والفقر والخذلان والرق والحرمان من المال والولد والخدم ونحو ذلك من أنواع الشدائد وأصناف النوازل «كانَ يَؤُساً» 83 قنوطا آيسا من رحمة الله لقلة يقينه وضعف دينه، وذلك لأنه لم يحسن معاملته مع خالقه في الرخاء حتى يرجو فضله في الشدة. وقد جاء في الحديث تعرف إلى الله بالرخاء يعرفك في الشدة. فلو عرف نعمة الله وأدى شكرها لما مسه ضره، ولدعاه فاستجاب دعاءه في كشفه، ولو رجع إليه مخلصا لقبله على ما كان منه، وقد جاء في الحديث القدسي رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. وقيل في هذا المعنى: أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا فإن عادوا لنا عدنا ... وإن خانوا فما خنا وإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنى أما من تكاثفت ظلمات قلبه فقد حيل بينه وبين الرضاء، وحال عتوه وشقاؤه دون ما يطلبه ويتمناه، وهؤلاء قد ينطبق عليهم تفسير الآية الأخيرة من سورة سبأ في ج 2 فراجعها، واعلموا أيها الناس أن الله تعالى هو الغني عنكم وأنتم الفقراء إليه، وان الله هو القوي عليكم وأنتم الضعفاء عنده، فاستكينوا إليه ووحدوه يرسل لكم خيره ويدفع عنكم شره، وإلا إذا كان شركم إليه صاعدا وخيره إليكم

نازلا ولم تقوموا بحقه فأبشروا بالدمار. وإن في إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الانعام إليه تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك، وهذا هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة واللطف الشامل وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم أللهم إن الخير بيدك والشر ليس إليك. وإن كل نعمة لا يشكرها العبد أو يستعملها في معصية المنعم فمصيرها الزوال في الدنيا والعذاب في الآخرة. مطلب الكفران يزيل النعم وذات الإنسان تقتضي الطاعة فطرة: قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم في ج 2، وبعد أن ذكر سبحانه حال القرآن بالنسبة للمؤمن والكافر وبيّن حال الكافر في حالتي الإنعام وضده، ذكر ما يصلح جوابا لمن يقول لم كان كذلك بقوله جل قوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهذا السائل أو قل أيها المسئول عن ذلك «كُلٌّ» من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي واليائس «يَعْمَلُ» عملا «عَلى» حسب «شاكِلَتِهِ» حالته وطريقته ومذهبه وطبيعته التي جبل عليها بل التي خلق إليها لما جاء في الحديث الصحيح اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان مخلوقا للشر فمهما عمل من طرق الخير فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الشر ويموت عليه، لأن عمله الخير لم يكن خالصا لله تعالى مهما ادعى الإخلاص فيه، ومن كان مخلوقا للخير فمهما عمل من فنون الشر فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الخير ويموت عليه، لأن عمله الشر كان في غير رغبة منه ورضى وكان يعقبه الندم والندم استغفار والاستغفار توبة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) الآية 25 من الشورى في ج 2، حيث ختمها بقوله (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من خير أو شر ونياتكم فيهما وما يؤول عملكم فيهما إليه، فعمل الإنسان يشاكل نفسه ويشابهها في الحسن والقبح ويناسب جوهره فيهما، فإذا كان شريفا صدرت عنه الأعمال الجميلة والأخلاق النبيلة والآداب الكاملة والأطوار الذكية والأحوال المرضية والأفكار الزكية، وإن كانت نجسة خبيثة نشأ عنه الأفعال الردية والأخلاق الفاسدة والعوائد السيئة والأمور القبيحة والأطوار الرذيلة، وهذه اللفظة مأخوذة من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير، يقال لست من شكلي

ولا على شاكلتي، أما بكسر الشين فمعناه الهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس أن كلا منها يطلق على الآخر «فَرَبُّكُمْ» أيها الناس الذي برأكم وجعلكم هكذا متشابهين في الصور متخالفين في الطبائع والأعمال ورباكم على ما أنتم عليه وفق ما هو مدون في كتابه المحفوظ «أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى» أسد منكم وأوضح وأعدل «سَبِيلًا» 84 وأحسن طريقا ومذهبا وأتباعا ومنهجا من غيره وأرضى عقلا وعملا عنده، قال تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) الآية 58 من الأعراف المارة، وقد جاء في الحديث الصحيح السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه، قالوا فما فائدة العمل يا رسول الله؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له. هذا، وقد فسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة وهي رواية عن ابن عباس، وفسرها بعضهم بالعادة لأن الطبيعة مقيدة وسلطانها على ربها ظاهر، وهذا السلطان ضابط له وقاهر، ولأن العادة محكمة ومن المشهور على ألسنة الجمهور العادات قاهرات، وفسرها بعضهم بالدين وهو دون التفسيرين الأولين وهما دون الأول، قال الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال وهو من فلاسفة الإسلام المتصدرين برأيهم للجمع بين الشريعة والفلسفة. إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة، واقتضاؤها المعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجري المرض والخروج عن الحالة الطبيعية، فيكون ميلها للمعصية الكائنة على خلاف طبيعتها، مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين. وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصّا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب، كما أن الصحة منها، ومن هذا المرأة الحامل زمن الوحام قد تأكل الطين وأشياء لا تؤكل عادة، وذلك بسبب ما يعتريها من انحراف المزاج في بداية حملها، وقد جاء في الحديث القدسي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وجاء في الأثر كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. أي بواسطة الشياطين المخالطين له فعلا في الظاهر أو الموسوسين له معنى وخلسة

بما يعم شياطين الإنس والجن الذين أمرنا الله تعالى بأن نتعوذ منهم. قال تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلخ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) السورتين المارتين، وقال تعالى: (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 112 من سورة الأنعام في ج 2، أو أنها كناية عن العوارض الغريبة، فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصوا الله تعالى، ولبقوا على فطرتهم، لكن مسهم الشيطان فأفسد عليهم فطرتهم الأصلية، فاقتفوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهيّ الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه: ولولا المزعجات من الليالي ... لما ترك القطا طيب المنام وإذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية، ومقتضى ذواتهم البهية، ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولهذا قيل الأنبياء أطباء، وهم أعرف بالداء والدواء. ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا بعروضها لهم ورخصة في لحوقها بهم لم يكونا يعرضان لهم ولا يلحقانهم، فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة بجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة، أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافيه لهم، فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمر آخر. وانظر إلى طبيعة الأرض التي تقتضى يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها، فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من آخر، والإنسان عند عروض فعل هذا المنافي ملتذّ متألم، سعيد شقي متلذذ، ولكن لذته ألمه، سعيد ولكن سعادته شقاؤه، وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا مخلص لكثير من الشبهات في هذا الفعل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي، وأن لكل شيء أصالة في

نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتيادات لا يقاضى عليه إلا هي، لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإنابة والتعذيب تابعان لذلك، فسبحان الحكيم المالك، فتثبّت أيها الرجل وكن رجلا حازما فقد زلت أقدام أعلام كثيرين كالاعلام في هذا المقام الذي لا ينجو منه إلا التائبون الجازمون بما هو كائن عند الله من أعمال وأفعال وأقوال وأحوال، وإن ما هو مدون عنده أزلا للعبد لا بد وأن يدركه لا محالة، راغبا كان أو راهبا، راضيا أو ساخطا. فنسأله تعالى أن ينور قلوبنا ويسدد أفهامنا ويثبت أقدامنا ويقنعنا بما كتب لنا ويرضينا بما قسمه لنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود من حديث صحيح: إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فتأمل هذا حق التأمل وانظر كيف يقسم حضرة الرسول في حديثه هذا الذي صدره بقوله فو الله الذي لا إله إلا هو، ثم ساقه. فتمسك به وتلقّه بالقبول وسل الله الثبات والرسوخ في الإيمان. مطلب أرجى آية في القرآن للمغفرة، وبحث الروح: واعلم أن رؤساء الاصحاب رضي الله عنهم تذاكروا فيما بينهم عن أي آية في القرآن أرجى للغفران، فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: لم أر في القرآن أرجي من هذه الآية، أي التي نحن بصددها إذ لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. وقال عمر رضي الله عنه: لم أر أرجى من الآية التي فيها قوله جل قوله (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) الآية الثانية من سورة المؤمن في ج 2، إذ قدم الغفران قبل قبول التوبة. وقال عثمان رضي الله عنه: لم أر أرجى من قوله تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الآية 50 من سورة الحجر في ج 2، لما فيها من إعلان المغفرة للجميع وطلب إعلانها. وقال علي كرم الله وجهه: لم أر أرجى من آية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا

مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) الآية 54 من سورة الزمر ج 2. وقدمنا في سورة والضحى المارة عن جعفر الصادق أن أرجى آية في القرآن (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) إلا أنه خصّها بأهل البيت فراجعها، والمراد هنا ما يعم الكل غير المشرك لورود النص فيه في الآيتين 47/ 116 من سورة النساء في ج 3، وهناك اقوال سنأتي بها عند تفسير الآيات المشار بها أعلاه فراجعها، قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الذي هو مبدأ البدن الإنساني ومبدأ حياته وقوام دوامها وملاك بقائها، وإنما سألوه عن الروح لأن معرفتها من أدق الأمور التي لا يسع أحد إنكارها ولا يقدر أحد على معرفتها، لذلك فإن كل أحد يشرئب إلى التعرف عليها، توفر دواعي العقلاء إليها، وكلل الأذهان عنها، ووقوف الفكر ببابها، فمن وفقه الله علم أنها لا تعلم إلا بوحي من الله، والوحي خاص بالأنبياء، وقد ختم الله إرسالهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فيفوض أمر معرفتها إلى الله. ويوقن ويسكت، ومن خذله الله تطرق إلى كل ما يتخيلة ليقف على صورتها ومادتها، فيرجع خاشئا، إذ لا طريق إلى ذلك. وقد زعم ابن القيم أن المسئول عنه في هذه الآية قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) الآية 38 من سورة عم في ج 2، وسيأتي في تفسيرها أن الروح هناك يطلق على القرآن وعلى اسم ملك خاص أو صنف من الملائكة أو جبريل عليه السلام، إذ لا يعلم الروح المسئول عنه في الآية المفسرة إلا الله لأنه من الغيب الذي علمه من خصائصه جل شأنه. واعلم أن الروح كما يطلق على ما ذكر آنفا كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الشورى في ج 2، وكما مر في الآية 192 من الشعراء، يطلق على الروح المركبة في الجسم المرادة في هذه الآية ليس إلّا والله أعلم. أخرج أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا لنسأل هذا الرجل، فقالوا اسألوه عن الروح، فسألوه فنزلت هذه الآية. وفي السير عن ابن عباس أيضا أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقال لهم سلوهم ما نسأل محمدا فإنهم أهل كتاب، عندهم من العلم ما ليس عندنا، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم، فقالوا اسألوه عن أصحاب

الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فجاءوا وسألوه، فبين لهم صلّى الله عليه وسلم القصتين الآتيتين في سورة الكهف في ج 2 من الآية 3 إلى 26 ومن الآية 82 إلى 99، ولهذا نزلت هذه الآيات بمكة قبل سورتها، كما سيأتي فيها، وأبهم أمر الروح إذ لم ينزل عليه فيها شيء يبينها، وهي مبهمة في التوراة أيضا. واعلم أن ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب، فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه، فقالوا يا محمد ما الروح؟ فما زال يتوكأ على العسيب، فظننت أنه يوحى إليه، فلما نزل الوحي قال (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية، لا يصح سببا للنزول لأن الآية مكية ولم يستثنها أحد من العلماء، على أنه يصح أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجابهم بهذه الآية لأنها كانت نازلة عليه وهو في مكة، على أنه يتمثل ببعض الآيات المكية في المدنية عند مناسبة تتعلق بها، أما سبب نزولها فهو ما سمعته عن ابن عباس الحديث الأول، ومما يدل على صحة عدم النزول في حديث ابن مسعود الآنف الذكر قوله فيه: فظننت أنه يوحى إليه، أي عند ما سكت حضرة الرسول، على أن حالة الوحي لا تخفى على أحد، ويوشك أن سكوته كان لتدبر الآية وهيبة لكلام الله، ويؤكد هذا عدم قوله في هذا الحديث فنزلت، بل قال فلما نزل الوحي قال (ويسألونك) إلخ، مما يدل على أن كلمة فلما نزل الوحي من عند ابن مسعود رضي الله عنه، وعليه يكون المراد من قوله (فلما نزل الوحي) فلما تذكره وتدبره والكلام يحتمل هذا. وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآية نزلت مرتين ليجمع بين الحديثين فغير سديد، إذ لم يثبت أن شيئا من القرآن نزل مرتين، وقدمنا في مطلع تفسير سورة الفاتحة المارّة وفي أول سورة المدثر المارة أيضا عدم صحة نزول شيء من القرآن مرتين، وفيه بحث نفيس فراجعه. «قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم «الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» لم يعط علمها أحدا من خلقه، لأنها مما استأثر الله بعلمه كالخمسة المذكورة آخر سورة لقمان في ج 2، وإن معلومات الله التي اختص بها نفسه لا يحيط بها علم البشر، إذ ليس

لها نهاية، راجع الآية 27 من سورة لقمان أيضا، وإذا كان الله تعالى لم يطلع رسوله على معنى الروح وهو حبيبه وصفيّه من خلقه، فما بال الناس يبحثون عنها والتعرف إليها؟ وغاية عقول العوالم فيها عضال، ونهاية سعي الفلاسفة فيها ضلال، روي عن أبي هريرة أنه قال: لقد مضى النبي صلّى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيتها بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه، والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك مخلوق مجاور له، فعليه أن يستدل به على أنه عن معرفة خالقه أعجز. ولما أيسوا من معرفة الرّوح اختلفوا في معناها، فقيل إنه جسم دقيق هوائي متشرب في كل جزء من الحيوان، وقيل هو عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم، وقيل هو الدم لأن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم، وقيل هي النفس لأن الإنسان يموت بانحباس نفسه، وقيل هي اعرض، وقيل هي جسم لطيف بمثابة الإنسان، وقيل هي معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بهذه الصفات جميعها، وإذا خرج منه ذهب عنه الكل فلا يوصف بشيء منها، وسبب هذا الاختلاف ناشيء عن عدم المعرفة بحقيقتها، لأن المحدود إذا كان لا يعرف كيف يحد وغير المحدود بما يميّزه، لا يمكن أن يعرف، وإذا كان كذلك فالأولى أن يوكل علم حد الروح إلى الله تعانى كما وكل هو جل شأنه علمها إليه، وهذا هو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة «وَما أُوتِيتُمْ» أيها الناس «مِنَ الْعِلْمِ» بشيء من مكونات الله تعالى «إِلَّا» علما «قَلِيلًا» 85 جدا لا يذكر في جنب معلوماته. واعلموا أن ما أوتيتم من العلم لا يمكن تعلقه باحتمال هذا الذي هو من خصائصه، وفي هذه الجملة معنى النهي عن السؤال عن الروح لعدم تعليمه إلى الرسول. ومما يدلّ على أن هذه الآية مكّية لا مدنية، ما أخرجه ابن اسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الآية بمكة، فلما هاجر الرسول إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد إنا نعجب من قولك، ألم يبلغنا عنك أنك تقول: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية أفتعنينا أم قومك؟ قال كلا عنيت. قالوا إنك تتلو أنا أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء، وتتلو (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ

خَيْراً كَثِيراً) والحكمة هي التوراة وقد أوتيناها، فقال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتين من سورة لقمان أيضا. ولهذه الحكمة أخّرت هذه الآيات عن سورتها بالنزول لأن السورة نزلت بمكة وهذه الآيات بالمدينة. واعلم أن معنى كون الروح من أمر الله أنها من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصيل مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني، والمراد بالأمر واحد الأوامر وهو كن، والسؤال كما ذكرنا هو عن الحقيقة، والجواب إجمالي مآله أن الروح من عالم الأمر، مبدعة من غير مادة، لا من عالم الخلق المبتدع في المادة، وهو أي هذا الجواب من الأسلوب الحكيم كجواب سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون حينما قال له: (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية 25 من سورة الشعراء المارة مشيرا بجوابه هذا إلى أن كنه حقيقة المسئول عنه ما لا يحيط به دائرة إدراك البشر، وإنما الذي يعلمه البشر عن الإله هو هذا القدر الإجمالي المتدرج تحت ما استثنى مما استأثر به نفسه المقدسة. وقال ردّا على ما خطر في قلب السائل من اطلاع على معلوماته الضئيلة بقوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (وتفسيره ما تقدم) تستفيدونه من طرق، فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما. هذا، ولا شك أن الروح مجردة عن علائق الأجسام، وأنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، يدل عليه قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الآية 29 من سورة الحجر في ج 2، وقوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) الآية 170 من سورة النساء في ج 3، وان هذه الإضافات تنبه على شرف الجوهر الأسنى وكونه عريّا عن الملابس الحسية. ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنا النذير العريان) ففيه إشارة إلى تجرّد الروح عن علائق الأجرام، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورة الرحمن) - وفي رواية على صورته- وقوله عليه السلام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ففيها إيذان بشرف الروح وقربه من ربه بالذات والصفات، قربا لا يعرف كيفيته، مجردا عن علائق الأجرام وعوائق

الأجسام. واعلم أنه ليس بوسع الإنسان وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها ونوع تكوينها، فكيف يعلم حقيقة الروح المحببة للجسد بأمر الله المحركة له بالإرادة والاختيار التي إذا انفصل عنها مات وانقطعت شعوره وإدراكاته كلها؟ وكذلك لا يقدر أن يعرف كيفية تعلقها بالبدن ومفارقتها له حالة النوم، ثم لا بد لنا أن نبحث في حقيقة الإنسان والروح مما لخصه العلماء جزاهم الله عنا خيرا، ونأخذ أصح الأقوال في ذلك ونترك ما وقع من الأخذ والرّد فيها، وهذا البحث الأول في حقيقة الإنسان. اعلم وفقك الله أن الروح في الجسم الإنساني وغيره عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك، مختلف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، والدهن بالزيتون والسمسم، والزبد في اللبن، والدهن في الجواز واللوز والبطم وما أشبهها، والهواء في البدن والنار في الفحم، وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء، لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق، مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا يقبل الفيض الإلهي لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة. ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان، إذ أن هذه السراية تفطن الإنسان بأن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها منها ليس إلا، وهذا غاية نهاية ما يمكن أن يتكلم فيه عن الروح، إذ الاطلاع على كنهها أمر خارج علمه عن طوق البشر، وليس له أن يبحث عنه، لأن البحث بأكثر من هذا عقيم، وعليه فإن الروح عبارة عن ذلك الجسم الموصوف أعلاه. البحث الثاني في حدوث الروح وقدمه، واعلم هداك الله أن المسلمين أجمعوا على أن الروح حادثة حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم، والقول الصحيح أن حدوثها قبل حدوث البدن، لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. فإن هذا الحديث يشير إلى الإخبار بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، لأن معنى هذا الحديث الشريف أن ما تعارف منها عند خلقها الأول ائتلف عند خلق أجسادها، والعكس بالعكس. ومن قال إن الأرواح في برزخ منقطع العناصر، فإذا استعد جسد لشيء منها هبط اليه، وإنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة

كابن حزم، فلا دليل له على ذلك. وليس في قوله صراحة خلق الجسم قبل الروح، بل يفيد ظاهره أن الروح مخلوقة قبل، لقوله في برزخ. وإذا كان القول عاريا عن الدليل كهذا فلا محل للأخذ به، بل الأخذ بالقول الأول المعتمد على قول الرسول صلّى الله عليه وسلم. البحث الثالث، هل الروح والنفس شيء واحد أم لا؟ اعلم رعاك الله أن أكثر العلماء قالوا إن النفس والروح شيء واحد، لما جاء في الأخبار اطلاق أحدهما على الآخر، بدلالة ما أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة أن المؤمن حينما ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يودّ لو خرجت نفسه، والله تعالى يحب لقاءه، وإن المؤمن لتصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا. فهذا يدل دلالة ظاهرة على أن الروح والنفس شيء واحد، وقال ابن حبيب هما شيئان فالروح هو النفس المترددة في الإنسان، والنفس أمر غير ذلك، لها يدان ورجلان، ورأس وعينان، وهي التي تلتذّ وتتألم، وتفرح وتحزن، وتتوفى في المنام، فتخرج وتسرح وترأى الرؤيا، ويبقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود إليه. واستدل بقوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الآية 43 من سورة الزمر في ج 2، وسنأتي على ما يتعلق فيها عند تفسيرها في محلها إن شاء الله. البحث الرابع: هل تموت الروح أم لا؟ اعلم علمك الله أن جماعة من العلماء الأعلام قالوا إنها لا تموت استنادا لما جاء في الأحاديث الصحيحة الدالة على نعيمها وعذابها بعد مفارقتها الجسد إلى أن يرجعها الله إليه عند البعث، لأن القول بموتها يلزم منه انقطاع النعيم والعذاب، وموت الروح المذكور في قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 185 من البقرة في ج 3، ومثلها في سورة الأنبياء الآية 35 ج 2 جار على القول بأن النفس هي الروح ويكون بمفارقتها الجسد، وعلى القول بأن النفس غير الروح كما علمت آنفا فلا دليل بالآية على موتها، وما جاء في تفسير قوله تعالى (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الآية 11 من سورة المؤمن في ج 2 بأن الموتة الأولى للبدن، والثانية للروح على رأي من فسر بذلك، غير مسلم. وسيأتي لبحثه بيان في تفسيرها إن شاء الله فراجعه. البحث الخامس في تمايز الأرواح

بعد مفارقتها الأبدان: اعلم نور الله قلبك أن الشيخ ابراهيم الكوراني قال في بعض رسائله إن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها، وإلى هذا الإشارة بما جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود (إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر) ، وبما أخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى الله عليه وسلم (إن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير الجنة) ، أي أنها تكون في أبدان مثالية على تلك الصور، ويؤيد هذا رواية ابن ماجه عن ابن مسعود (أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر) ، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول (إن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة) ، وما جاء في إنكار بعض المتكلمين لهذا بزعمهم أنه يصير متعلق روحين ببدن واحد وهو محال. ناشيء من عدم التأمّل والتثبّت، لأن ما قررناه لا يصيّر للطائر روحا غير روح الشهيد، بل هي نفسها، لأن الأبدان المثالية ليست كالأبدان المحسوسة من كل وجه بل من حيث الصورة فقط، على أنه لم يلزم من ظاهر الأحاديث محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه، تدبر. السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان: اعلم بارك الله فيك ونفع بك ذويك أنه قد صح أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم كان آخر كلامه: اللهم الرفيق الأعلى. وقال تعالى (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) الآية 18 من سورة المطففين في ج 2، فعلى هذا يكون مستقر أرواح الأنبياء في عليين، وقد أخرج الإمام مالك رحمه الله عن كعب بن مالك مرفوعا إنما نسمة المؤمن (أي ذريته بدليل الأحاديث الصحيحة السابقة، لأن الأحاديث كالقرآن من حيث أنها يفسر بعضها بعضا) طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده، وخرجه النسائي من طريق مالك، وخرجه بن ماجه، وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء المار ذكرهم في حديث مسلم عن ابن مسعود، ومستقر أرواح الكفار في سجّين، قال تعالى (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) الآية 7 من المطففين أيضا. وما قاله ابن حزم من أن أرواح الموتى أقبية قبورهم

مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم وهو ما رواء عنه عمر رضي الله عنه: إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى. وبأنه صلّى الله عليه وسلم حين زار الموتى قال السلام عليكم دار قوم مؤمنين، إلخ لا يتجه، لأن الأرواح حينما كانت لها اتصال بأجسادها لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وبهذا الاتصال تردّ السلام وتعرف المسلم عليها ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار، راجع الآية 46 من سورة الزمر في ج 2، على أنه لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودتها إليه في أسرع من البصر، وان حديث البراء بن عازب في صفة روح المؤمن الذي يقول فيه (فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين، ويقول الرّب ردّوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. راجع تفسير الآية 54 من سورة طه المارة. فهو ليس نص في جعل روحه في فناء قبره، وما فيه من الإشارة لا تعارض الأحاديث الكثيرة الصريحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء، وقوله تعالى منها خلقناكم إلخ الآية هو باعتبار الأبدان لا الأرواح، ولا شكّ أيضا أن أحوال الأرواح مختلفة، قال النسفي في بحر الكلام إن الأرواح على خمسة أقام الأول أرواح الأنبياء عليهم السلام تأكل وتشرب وتتنعّم في الجنة نهارا وتأوى ليلا إلى قناديل تحت العرش، الثاني أرواح الشهداء تكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي أيضا إلى قناديل كأرواح الأنبياء، الثالث أرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة فقط، الرابع أرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، الخامس أرواح الكفار في سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة، وهي متصلة بأجسادها تعذّب وتتألم، أجارنا الله وحمانا. قال الإمام الفخر إني أعجب كل العجب ممن يقرأ هذه الآيات ويروي هذه الأحاديث ثم يقول توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما كان يعرف الروح، وفي قوله هذا رحمه الله ردّ على حديث أبي هريرة المتقدم ذكره آنفا بعد تفسير (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولهذا البحث صلة في الآية 42 من سورة الزمر في ج 2

هذا وقد علم مما تقدم أن أرواح الأنبياء والشهداء ممتازة على أرواح سائر البشر، وهو كذلك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال إن أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ولقوله تعالى (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الآية الاخيرة من سورة الفجر في ج 2، وهذا الخطاب متوجّه إلى هذه الروح الزكية وقت الموت لكونها راضية مرضية بما يدل على أن هذا الخطاب لجسد حي حياة لانعرفها، وهذه الحياة مختص بها الأنبياء والشهداء لقوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية 179 فما بعدها من آل عمران ج 3 وسيأتي في تفسير هذه الآية ما به كفاية لتتميم هذا البحث إن شاء الله. مطلب في حفظ القرآن ثم رفعه بالوقت الذي قدره له الله. قال تعالى «وَلَئِنْ شِئْنا» يا سيد الرسل «لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» فنمحوه من قلبك ومما كتب عليه من قبل كتبة الوحي فلا نبقي له أثرا أبدا «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ» بالقرآن الموحي إليك الذي هو شفاء ورحمة لأهل الأرض المصدقين به والذي ثبتناك به من أن تفتتن بأقوال قومك ولا يمكنك أن تحضر «عَلَيْنا وَكِيلًا» 86 يستطيع استرداده منا وإعادته إليك ولا تقدر أن تجد من يتوكل لك علينا بذلك من متعهد أو ملزم البتة «إِلَّا» أن يتفضّل عليك ربّك فيرحمك «رَحْمَةً» عظيمة خاصة بك نازلة عليك «مِنْ رَبِّكَ» تتمكن بها من إبقائه وعدم نزعه من الصدور ومحوه من السطور وهذه منّة عظيمة جليلة منّ الله بها عليك، وجعل ما أوحاه إليك محفوظا، وتعهد لك بحفظه بقوله جل قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من سورة الحجر في ج 2، وتعهد لك أيضا بعدم إدخال زيادة عليه وحذف شيء منه بقوله عزّ قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) الآية 42 من سورة فصلت في ج 2، روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل، له دويّ حول العرش كدويّ النحل، فيقول الرّب مالك؟ فيقول يا رب أتلى فلا يعمل بي. وقال عبد الله بن مسعود اقرأوا القرآن

قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع. قيل هذه المصاحف ترفع فكيف بما في الصدور؟ قال يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون مما في المصاحف شيئا، ثم يفيضون في الشعر. يعارض هذا ما جاء في الحديث الآخر إن الله تعالى لا ينزع العلم انتزاعا من صدور الرجال، وإنما يفقد بموت العلماء، وهو أصوب، لأن الله أكرم من أن يمنّ على عبده بنعمة أنعمها عليه ثم ينزعها منه، لهذا فإن حمل الحديثين المارين على هذا أولى وأوفق. أللهم إلا أن يقال العلم غير القرآن فإنه يرفع رفعا على ما جاء في الحديثين، والعلم يكون رفعه بموت العلماء، وهو الأظهر والله أعلم، «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ» يا أكرم الرسل الذي من جملته إبقاء القرآن راسخا في صدرك ثابتا في الصحف باقيا يتلى إلى الوقت الذي قدره لرفعه، وقد تفضل عليك به وبما سيبيته بعد وما لم يعلم فضلا «كَبِيراً» 87، من ربّك الذي أنعم عليك به وجعلك خاتم أنبيائه وسيد ولد آدم، وأعلى كلمتك على جميع خلقه، وأيدك بنصره، وقواك بملائكته، وأعطاك الشفاعة الكبرى، وخصّك بالمقام المحمود والحوض المشهود، ونعما كثيرة تفضل بها عليك في الدنيا والآخرة. أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدرس الإسلام كما يدرس وشيء الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فتحن نقولها. ولا يبعد أن يكون هذا بموت العلماء والقراء وعدم معرفة الباقين القراءة، وكذلك تأويل ما يأتي بعد إذ ليس إزاء هذه الصراحة إلا التسليم واعتقادنا بأن الله لا يسلب نعمة من عبده بعد أن تفضّل بها عليه إلا إذا كان هذا العبد داخلا في قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية 52 من سورة الأنفال ج 3، وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية 14 من سورة الرعد في ج 3، وعليه يكون الجزاء من جنس العمل، لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ونسيهم، فجعلهم متروكين لا يؤبه بهم. وأخرج ابن

مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه، فيسرى عليه ليلا لا يترك في قلب ولا رق منه حرف إلا ذهب به، فقيل يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال من أراد الله تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال يسرى على كتاب الله فيرتفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة ولا من الإنجيل والزبور، فينزع من قلوب الرجال، فيصبحون في الضلال لا يدرون ما هم فيه. والسرى المشي آخر الليل، ومعنى يسرّى أي يرسل الله تعالى في آخر الليل ما به يرفع القرآن من صدور الناس، بدليل قوله فيصبحون في الضلال إلخ الحديث. هذا، وقدمنا في المقدمة بحثا يتعلق بحفظ القرآن وتهديد من ينساه فراجعه فلعل فيه إيماء إلى هذا. ولما قال النضر وأضرابه من مشركي مكة عند سماعهم تلاوة القرآن من سيدهم سيد ولد عدنان لو نشاء لقلنا مثل ما يقول محمد يعنون به القرآن، وقد أخبر الله نبيه بذلك بقوله جل قوله: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية 31 من الأنفال في ج 3، وهذه آية مكية مستثناة من سورتها المدنية أكذبهم الله تعالى بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الأفاكين المتهورين «لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك من لدنّا «لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» أبدا ولا يقدرون على ذلك البتة «وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» 88 معاونا ومؤازرا في إرادة الإتيان بمثله، لأنه لا يشبه كلام الخلق وهو في أعلى طبقات البلاغة معجزا في نظمه معجزا في تأليفه، فضلا عن إعجازه بالإخبار عن الغيوب مما كون الله تعالى وأظهره للناس، ومما لم يظهره بعد. ولهذا البحث صلة في الآية 78 من سورة يونس والآية 13 من سورة هود في ج 2 والآية 24 من سورة البقرة في ج 3. وجملة لا يأتون جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة له، وسادّ مسدّ جزاء الشرط، ولو لاها لكان لا يأتون جزاء الشرط، وان كان مرفوعا بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا جاز الرفع في الجواب، كما في قول زهير: وإن أتاه قليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم

[سورة الإسراء (17) : الآيات 91 إلى 100]

وقيل لا يأتون جواب قسم محذوف ولولا اللام الموطئة للقسم لجاز أن يكون جوابا للشرط كما في البيت. على أن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده. قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» وكرّرنا فيه من العبر والوعد والوعيد والأحكام والقصص والأخبار والمعاني البديعة والأمور الغريبة والقضايا الغيبية، وجعلناه معجزة دائمة لا تنقطع إلا عند قرب خراب هذا الكون ليؤمنوا به «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» 89 به وإباء عن قبوله ونفورا منه، وهذا أبلغ من إبائهم في عدم الإيمان به لاحتماله هذا المعنى وزيادة أنهم لم يرضوا بخصلة ما سوى الكفر به «وَقالُوا» عند ظهور عجزهم عن الإتيان بمثله، متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه ومما هو محال عقلا «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ» في هذا القرآن ولا في غيره من الآيات «حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» 90 عينا غزيرة من الماء نستقي منها كلنا وأنعامنا ودوابنا ونزرع عليها، وعلى أن تكون عين هذا الماء من أراضيهم المقيمين بها لأنها قليلة الماء «أَوْ تَكُونَ لَكَ» إذا لم تأتنا بذلك الماء «جَنَّةٌ» مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها» 91 كثيرا بين تلك الجنة هائلا، وهذا على وجه الخصوص له كالتي بعدها خلافا للطلب الأول، لأنه على وجه العموم إلا أن الاقتراح الأول لهم والثاني له، ولكن وجود أو يبعد هذا المراد «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ» ونسبت إلى ربك بما تلوته عنه وهو (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) الآية 19 من سورة سبأ في ج 2، وهذا يدل على أن هذه الآية نزلت قبل سورتها، بأن تصبها «عَلَيْنا كِسَفاً» قطعا متفرقة عظيمة «أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» يقابلونا فنراهم عيانا بأم أعيننا ويشهدون لك بصدق دعوتك، إذ ادعيت أنهم واسطة بينك وبين ربك الذي ادعيت رسالته «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» مزين مرصّع بالذهب والفضة والأحجار الكريمة «أَوْ» تأتي لنا بآية ملجئة لنا على الإيمان قاسرة لا نستطيع ردّها، وهي بأن «تَرْقى فِي السَّماءِ» على مرأى منا «وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ» بأن تصعد إليها فقط، لأنا لا نصدّق ذلك ولا نعترف

لك به ولو رأيناك عيانا تصعد إليها لانه قد يكون صوريا بما تخيله علينا وتسحرنا به فتزيغ أعيننا عن أن نرى الحقيقة في ذلك، بل نبقى منكرين جاحدين رقيّك «حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا» من السماء معك «كِتاباً نَقْرَؤُهُ» بلغتنا، ونرى فيه ما يدلّ على نبوتك، وإذا لم يكن كذلك فلا نؤمن لك أيضا بمجرد كتاب تأتينا به، لأنك قد تموّه علينا بما ليس بشيء وتسميه كتابا، واعلم أن السماء كل ما علاك فأظلك ويطلق على كل مرتفع، قال الشاعر: وقد يسمى سماء كل مرتفع ... وإنما الفضل حيث الشمس والقمر وهم لا يريدون هذا وإنما يريدون السماء الحقيقية التي ذكرها لهم في سورة ق المارة في الآية 6 وهي قوله تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) والتي أخبرهم بأنه عرج إليها ووصف لهم ما فيها كما مر أوائل هذه السورة، فيما أكرم الخلق «قُلْ» لهؤلاء الحمقى «سُبْحانَ رَبِّي» أنزهه عما لا يليق بقدسيته عن هذه المقترحات المستحيلات واستغفره عن طلب شيء منها، لأنه إذا كان على سبيل الفرض طلب تفجير الأرض بالأنهار أو تخصيص الجنة أو البيت المزخرف أو اجراء الأنهار بينها ممكنا فلا يمكن طلب إسقاط السماء قطعا متفرقة ولا مجتمعة، ولا الإتيان بالخالق، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا الإتيان بالملائكة الآن، وإن كان هذا قد يقع يوم القيامة حقا لا مرية فيه بأمر الله تعالى وقدرته فقط كما جاء في الآيات المارة في سورة الفجر وفي غيرها من السور المارة والآتية، أما أنا فإني إنسان مثلكم عاجز عما يعجز عنه مثلي وما تظنون بي «هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً» أفعل ما يفعله البشر وأعجز عما يعجز عنه وإنما خصّني ربي بأن أكون «رَسُولًا» 93 إليكم أبلغكم آياته فآمركم بالخير وأنها كم عن الشر، وجعلني من بينكم تعرفون حسبي ونسبي، كما خصّ الله الأنبياء قبلي واختارهم من أقوامهم، وإن ما اقترحتموه خارج عن طوق البشر والرسل منهم الإتيان به من عند أنفسهم، إلا ما شاء الله أن يظهره على يدي من المعجزات كأمثال الرسل السابقين، وإن إتيان المعجزات بيد الله تعالى إن شاء أوقعها على أيدي رسله، وإن شاء منعها. وسبب نزول هذه الآيات أن مشركي قريش استدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم

وقالوا له إذا كنت تريد أن نؤمن بك ونصدقك ونجيب دعوتك فأتنا بكذا إلخ، اقتراحاتهم المذكورة المنطوية على العناد والمنفطرة عن العتوّ، وكان منهم من اقترح ما مر ذكره في الآيات 7 و 8 و 20 و 21 من سورة الفرقان المارة، فلما رأى أباطيل أقوالهم هذه تركهم وقام، فتبعه عبد الله ابن أمية المتصدر لهذه المفترحات فنزلت هذه الآيات فيه وفي قومه. وإنما نسب القول إليهم جميعا لأنهم أصغوا لمقترحاته هذه ورضوا بها وكلفوا النبي بالإجابة عنها، ولهذا جاء الكلام بلفظ الجمع. وخرج هذا سعيد بن منصور عن ابن جبير، وكان ذلك الخبيث عبد الله بن أمية كرر هذا الكلام على حضرة الرسول، وقال له إن قومك عرضوا عليك ما عرضوه من الاقتراحات فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله ربك فلم تقبل، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فو الله لا نؤمن بك أبدا ولو فعلت ما طلبناه منك ولا نصدقك أبدا، ثم انصرف. وقد أسف صلّى الله عليه وسلم لما رأى من مباعدتهم عن الإيمان بعد نزول هذه الآيات وإعراضهم عنها. هذا وما قيل إن الله تعالى أنزل على هؤلاء المقترحين الآيتين 32/ 33 من الرعد في ج 3 وهما: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) الآية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الآية فغير وجيه لأن سورة الرعد مدنية ولم يستثنى منها هاتان الآيتان ولا غيرهما، وما نحن فيه من الوقائع في مكة، وسنأتي على ما يتعلق فيها في محلها إن شاء الله في القسم المدني، قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ» الذين حكيت أباطيلهم آنفا من «أَنْ يُؤْمِنُوا» بربهم ويصدقوا رسوله «إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى» على يديه أن يهتدوا بهديه ويسترشدوا برشده ويتوصلوا إلى معرفة توحيده ويؤمنوا به «إِلَّا أَنْ قالُوا» جهلا منهم وعنادا بمن أرسل إليهم على طريق السخرية والاستهزاء «أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» 94 إلينا مثلنا ألّا يبعث ملكا من الملائكة يدعونا إليه لنطيعه ونؤمن به، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الباغين «لَوْ كانَ» على سبيل الفرض والتقدير «فِي الْأَرْضِ» التي أنتم عليها «مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ» فيها مثلكم «مُطْمَئِنِّينَ» آمنين متوطنين كآحاد الناس ليس لهم أجنحة

يطيرون بها إلى السماء فيسمعون ما يقع فيها ويعلمون ما يجب عليهم، وقد مست الحاجة لإرسال من يرشدهم «لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» 95 مثلهم من جنسهم ليميلوا إليه، لأن الجنس لا يميل إلا لجنسه وأنتم بشر فأرسلنا إليكم بشرا من جنسكم، لأن البشر أيضا لا يميل إلا لجنسه، فلا يميل إلى الملك، والملك لا يميل إلى البشر ولا يأتلف معه لذلك لم نرسل ملكا، وهذا لا ينافي بعثته صلّى الله عليه وسلم إلى الجن، لأنه متى صح فيه صلّى الله عليه وسلم المناسبة الصحيحة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم، كيف وهو صلّى الله عليه وسلم نسخة الله الجامعة وآيته الكبرى الساطعة، فضلا عن أن الجنّ تشكلوا اليه عليه الصلاة والسلام بهيئة البشر كما تشكل له رئيس الملائكة السيد جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وبصورة اعرابي، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه حينما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وامارات الساعة، فعلى هذا لو أنزل الله تعالى لهم ملكا وتشكل بهيئة البشر فلا يجد شيئا، لأنهم يرونه بشرا مثلهم ويقولون ما قالوا ولو جاءهم بصورته الحقيقية لما أطاقوا مقابلته، بل لصعقوا أو ماتوا لأن حضرة الرسول مع ما هو عليه من الكمال والتأييد من الله لم يطق مقابلة جبريل بصورته كما مر في الآية 18 من سورة والنجم المارة وفي الآية 23 من سورة التكوير أيضا ومما يؤيد إرساله صلّى الله عليه وسلم إلى الجن قوله تعالى (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الآية الأولى من سورة الفرقان المارة وما سوى الله تعالى كله عالم وخبر مسلم، أرسلت إلى الخلق كافة والجن من الخلق راجع الآية الأولى من سورة الجن المارة فما بعدها، أما محبة الملائكة له صلّى الله عليه وسلم مع انه من غير جنسهم فإنما هي بإلقاء الله تعالى في قلوبهم واعلامهم بأنه صلّى الله عليه وسلم وسيلة لهم فيما يسألونه منه جل جلاله، ولما جاء في الحديث إذا أحب الله عبدا نادى جبريل فقال له إني أحب فلانا فأحبوه، فينادي جبريل في الملائكة إن الله يحب فلانا فأحبوه ويلقي له القبول في الأرض، فيا أكرم الرسل إن لم يصدق هؤلاء المعاندين الجاحدين رسالتك فأعرض عنهم الآن و «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» على أنه أرسلني إليكم وخصني من بينكم برسالته، وقد اختارني من الأزل

لذلك وهو شهيد على أني قمت بما أمرني به حسبما أمرني، وعلى أن أبلغكم ما أرسلني به إليكم، وهو شهيد أيضا على أنكم كذبتموني فهو الحكم العدل «بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على ذلك كله «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بظواهر المرسل والمرسل إليهم «بَصِيراً» 97 يبواطنهم وخوافي أمورهم، وانه يجازي كلا على عمله. قال تعالى تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم واعلاما بأن ما كان مطابقا لإرادته أزلا سيكون في الواقع لا محالة، وهو «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» بهدايته على يد من شاء من خلقه «وَمَنْ يُضْلِلْ» منهم فهو الضال مهما أراد الناس هدايته فلن يقدروا لهذا يقول الله تعالى «فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ» ينصرونهم علينا أو يقودونهم إلى الهدى «مِنْ دُونِهِ» أي الهادي الحقيقي بل يبقى ضالا على ضلاله حتى يموت. مطلب الحشر على الوجوه وبقاء عجب الذنب: «وَنَحْشُرُهُمْ» أي هؤلاء الظالمين «يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ» منكوسين حالة كونهم «عُمْياً» لا يبصرون «وَبُكْماً» لا يتكلمون «وَصُمًّا» لا يسمعون كما كانت حالتهم في الدنيا، أي كما أن لم ينتفعوا بحواسهم هذه في الدنيا لما فيه خيرهم لم ينتفعوا فيها في الآخرة أيضا راجع الآية 24 من سورة الفرقان المارة، وهؤلاء الذين هذا وصفهم «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» يصيرون إليها بعد الموقف حالة كونها مسعرة «كُلَّما خَبَتْ» هدأ لهيبها وولى سعيرها وخمدت شعلتها «زِدْناهُمْ سَعِيراً» 98 وقودا ليزداد بلاؤهم فيها «ذلِكَ» حشرهم على الصورة المارة فاقدي منافع جوارحهم حالة ازدياد إيقاد النار لزيادة عذابهم «بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا» برسلنا وكفروا أيضا «بِآياتِنا» القرآنية والآفاقيّة الدالة على صحة الاعادة بعد الموت وعلى صدق الرسالة بذلك «وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» 99 تقدم تفسيرها في الآية 49 المارة أي مستأنفين الحياة مرة ثانية كما كنا، وما قيل إن المعنى يخلق الله غيرهم يعبدونه ويعترفون بربوبيته على حد قوله تعالى: (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) الآية الأخيرة من سورة محمد ج 4، وقوله تعالى (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية 17 من سورة فاطر المارة، لا يتجه هنا لأنه لا يلائم السياق كما لا يخفي على ذوي الأذواق، وآية فاطر

هذه مكررة في الآية 19 من سورة إبراهيم والآية 132 من سورة الأنعام في ج 2 لفظا ومعنى والآية 132 من سورة النساء في ج 3، فرد الله تعالى عليهم بقوله «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» وهما أكبر وأعظم من خلقهم كما سيأتي بيانه في الآية 57 من سورة المؤمن في ج 2 «قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» من الإنس الذين هم أضعف من ذلك «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا» لا يتجاوزونه محققا «لا رَيْبَ فِيهِ» ولا ينبغي أن يشك فيه «فَأَبَى الظَّالِمُونَ» المتوغلون في الظلم «إِلَّا كُفُوراً» 100 وجحودا بتلك الآيات الواضحات وهؤلاء هم الذين سألوا الاقتراحات المار ذكرها ومن حذا حذوهم داخل معهم، ولا تعد هذه الآية مكررة بسبب اختلاف اللفظ عن الآية الأولى 89 وقدمنا في الآية 137 من سورة طه ما يتعلق بحشر الأعمى فراجعه. هذا، وقد أخرج الشيخان عن أنس قال: قيل يا رسول الله كيف يحشر الله الناس على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف مشاة على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك أو سحبا عليها قال تعالى (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) الآية 48 من سورة القمر المارة، ويشهد لهذا ما أخرجه أحمد والنسائي عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية ونحشرهم إلخ، فقال حدثني الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أنواع: نوع طاعمين كاسين راكبين، ونوع يمشون ويسعون، ونوع تسحبهم الملائكة على وجوههم. وما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم. وليعلم أن هذه الآية في حال أهل النار بعد دخولهم فيها، وكذلك الأحاديث ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى: (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) الآية 55 من النساء في ج 3، لأن تبديلها يكون بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها، لأنها إذا أحرقت وبقيت لا يحسون بألم العذاب والله تعالى يقول (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فوافقت هذه الآية قوله تعالى هنا (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) الآية المارة في المعنى

واعلم أن الله تعالى يعدم هذه الذرات بالكلية ثم يعيدها نفسها كما كانت. ولا يرد هنا بأن إعادة المعدوم محال، لأن المعيد لها الذي خلقها من العدم أولا فليس محالا عليه أن يعيد ما خلق إلى حالته الأولى. وما جاء في حديث الصحيحين: ليس في الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، منه خلق الخلق يوم القيامة. وفي رواية مسلم كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب. وصحح المزني أنه يفنى لقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الآية 26 من سورة الرحمن في ج 3، وعجب الذنب شيء على الأرض وعليه يكون تأويل الحديث أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت والخلق منه والتركيب يمكن بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه، وبذلك قال ابن قتيبة. قال تعالى «قُلْ» يا محمد لقومك وغيرهم «لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي» من المطر والرزق والنعم الكثيرة من خزائنه الغير متناهية إذ لا يعلمها غيره. واعلم أن إن أنتم هنا مرفوع بفعل يفسره الفعل بعده لأن لولا تدخل على الأسماء أي لو تملكون أنتم إلخ وهي حروف امتناع لا متناع بخلاف لولا فهي حرف امتناع لوجود، وعلى هذا قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية فقال: لو غير ذات سوار لطمتني، أي لو لطمتني غير ذات سوار، وقول المتلمس: ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين حيسما وقول أبي جهل حين قتل ببدر: لو غير أكار قتلني هذا. فمن جعل أنتم مبتدأ فقد أخطأ لأنه فاعل كما علمت. قال تعالى «إِذاً» أي لو ملكتم خزائن رحمة الله «لَأَمْسَكْتُمْ» على الناس أرزاقهم شحا بها عليهم فلم تعطوا أحدا منها شيئا «خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» مخافة النفاد والخلاص لشدة حرصكم مهما كان مالكم كثيرا «وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» 101 شحيحا جدا يبخل على نفسه ويبخل على غيره أيضا من باب أولى. هذا، ولا يقال إن بعض الإنسان جواد فكيف جاء في هذه الآية التعميم وقد قال في حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 110]

له راحة لو أن معشار جودها ... على البر كان البر أندى من البحر وكان أكثر آل البيت كريما وليسوا بأهل دنيا، ويصدق عليهم قول الشافعي رحمه الله: وهم ينفقون المال في أول الغنى ... ويستأنفون الصبر في آخر الفقر إذا نزل الحي الغريب تقارعوا ... عليه فلم يدر المقل من المثري لأن المقصود الأكثر من جنس الإنسان بخيل. وليعلم أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم غير داخل في هذه الآية المخاطب بها بلفظ الجمع، لأن الله تعالى يقول لحضرته قل لهم ذلك، أما غيره فإن الأصل في الإنسان الشح، لأنه خلق حينما خلق محتاجا لكل شيء فيمسك ما تصل إليه يده لنفسه ولأن بعض الكرم يكون منه السمعة والرياء ونشر الصيت، وقد يكون ابتغاء مرضات الله، وأهل هذا قليل وكل خير في القليل، وفي القليل بحث نفيس فإذا أردت أن تقف عليه فراجع الآية 73 من سورة النمل المارة، ووجه مناسبة هذه الآية مع ما قبلها أن المشركين المشار إليهم أعلاء لما اقترحوا على حضرة الرسول طلب الينبوع والأنهار كان لتكثير أرزاقهم واتساع الدنيا عليهم من وجه وتعجيزا للرسول من وجه آخر، وهو المراد إذ أهمهم شأنه بعد أن رأوا آيات الإسراء والمعراج وشاع ذكره في الآفاق أكثر من ذي قبل، فبين الله تعالى في هذه الآية أنهم لو أعطوا ذلك وملكوا خزائن الأرض ومفاتح رحمة الله لبخلوا وشحوا ولم ينفعوا أحدا، وهذا غاية في التشنيع عليهم بالبخل، وأنه كما وصفهم بالآية الأولى بأنهم منكبون على الكفر، وصفهم في هذه أنهم أيضا متلبسون بالشح، وهما صفتان مذمومتان ضرر أولاهما قاصر عليهم، وضرر الأخرى متعد للغير. هذا، وبالجملة فإن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج من عهدة الواجب، فكان إنفاقه في الأصل بمقابل عوض أيضا، فكان بخلا حقيقة، والمراد بهذا الإنسان الجنس فيشمل جميع أفراده، وإذا أريد به المعهود بأن اعتبرت ال فيه للعهد يكون المراد به الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا.. الآية السابقة، والأولى جعله عاما ليدخل في مفهومه هؤلاء وغيرهم، ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكاه من التعنت والعناد تجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم شرع يسليه بما جرى لأخيه موسى عليه السلام مع فرعون اللعين وما صنع بفرعون وقومه

لعدم إيمانهم بنبيهم إعلاما لحضرته بأنه سيكون مصير من لم يؤمن من قومه به مثل مصيرهم، فقال تعالى جده «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» تقدم بيانها في الآية 172 من الأعراف مفصلة فارجعها. وهذه التسع وقعت في حق القبط قبل خروجهم من مصر أما الآيات الخاصة في بني إسرائيل، فقد وقعت بعد ذلك وهي كثيرة، قال ابن رشد سألت اليهود حضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التسع آيات المبينات الواردة في القرآن، فقال لهم: 1 ألا تشركوا بالله شيئا 2 ولا تسرقوا 3 ولا تزنوا 4 ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق 5 ولا تمشوا يبريء إلى السلطان ليقتله 6 ولا تسحروا 7 ولا تأكلوا الربى 8 ولا تقذفوا المحصنة 9 ولا تولوا الفرار يوم الزحف 10 وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت. فقاموا فقبلوا يديه ورجله وقالوا نشهد أنك نبي، قال فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تفتلنا اليهود- قال الترمذي حديث حسن صحيح-. واعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن من معجزات موسى عليه السلام تسع عشرة معجزة منها ما هو خاص به، ومنها ما هو خاص بالقبط، ومنها ما هو خاص بني إسرائيل، أولها إزالة العقدة من لسانه حتى ذهبت عجمته وصار فصيحا، والثانية والثالثة والرابعة هي بياض اليد وإحياء النقباء والخسف بقارون ورفيقيه، والخامسة انقلاب العصا حية، والسادسة جعلها تلقف حبال السحرة وعصيهم مع كثرتها أي ما طلي فيها كما بيناه في الأعراف، والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشر هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، الثانية عشرة الإظلال بالغمام، والثالثة عشرة شق البحر، والرابعة عشرة إخراج الماء من الحجر بضربه له بعصائه، والخامسة عشرة رفع الجبل وإظلاله فوقهم، والسادسة عشرة إنزال المنّ والسلوى، والسابعة عشرة الجدب المعبّر عنه بالسنين، والثامنة عشرة نقص الثمرات، والتاسعة عشرة الطمس على الأموال. وكلها موضحة في سورة الأعراف والشعراء والقصص المارات وفي السور الآتية كيونس وهود وغيرها، وروي أن عمر ابن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى تسع آيات بينات فذكر في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس،

فقال عمر هكذا يجب أن يكون الفقيه، ثم قال يا غلام أخرج ذلك الجراب، فأخرجه ففضه فإذا فيه بيص مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة، أي أن هذه من بقايا ما طمس عليه من ثمرات بني إسرائيل وأموالهم. واعلم أن تخصيص الذكر هنا بالتسع لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليها، لما جاء في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد. وقد اتفق المفسرون على سبع من هذه التسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفت آراؤهم في الاثنتين الأخيرتين وأكثر الأقوال على أنها الأخذ بالسنين ونقص الثمرات كما بيناه في الأعراف لأن العقدة والعصا من خصائص سيدنا موسى عليه السلام وليست لقومه، أما كونها تلقف ما يأفكون فهي لقومه، قال تعالى «فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين في زمنك من أهل الكتابين الذين ستقدم عليهم في المدينة لتعرف كذبهم ويعرفوا صدقك، وليس المطلوب من سؤالهم استفادة العلم منهم عنها، بل لنقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره لهم، وعليه فيكون السؤال سؤال استشهاد لأنهم أولاد أولئك اليهود الذين ظهرت لهم تلك الآيات على يد نبيهم، وقد تناقلوها أبا عن جد فضلا عن ذكرها في التوراة التي هي بين أيديهم، ولهذا حسن النكني بهم عن أسلافهم «إِذْ جاءَهُمْ» موسى بها دليلا على صحة رسالته من ربه إليهم «فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ» لما ظهر عجزه تلقاء تلك المعجزات «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» 102 مفعولا بالسحر الذي استولى على جوارحك فصرت مطبوبا مختل العقل بطلبك قوما هم تحت سلطتي قديما، فكيف أرسل معك بني إسرائيل وأنت على ما أنت عليه. وقال بعض المفسرين معنى مسحورا ماهرا بالسحر معطى علمه ومعلّمه، وهذه العجائب التي بينتها هي ناشئة عن مهارتك فيه، وظاهر الآية يدل على الأول، لأن المقام مقام ذم، والتفسير الثاني مقامه مقام مدح يأباه المقام بدليل ما فتحت به الآية الآتية التي جاوبه بها موسى عليه السلام، وهي «قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ» يا فرعون مما رأيت «ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجعل تلك الآيات «بَصائِرَ» مرئيّات ظاهرات لا تخفى على أحد من شدة وضوحها تبصرك في صدقي، وتعلمك أني

لست كما تقول مخدوعا أو خادعا أو مخيلا إلي أو ساحرا ماهرا مما تتقول به قبلا، لا بل إني عالم حاذق بصحة ما أقول من الأمر والنهي لأني أتلقاه من ربي خالق السموات والأرض وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما، الذي أنزل تلك الآيات دلالة على صدقي وطلبا لإيمانكم، فما ظننت به كله كذب محض وبهت بحت.. والقراءة الفصحى علمت بفتح التاء لأن علم فرعون بأنها آيات نازلات من رب السماء او كد في الحجة، ولأن احتجاج موسى عليه السلام على فرعون بعلم فرعون او كد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه على قراءة الضم التي معناها أنه أخبر عن نفسه أنه عالم بها وأنه غير مسحور، ونسب هذا القول إلى سيدنا علي عليه السلام، وأنه قال والله ما علم عدو الله ولكن علم موسى وهو قول ضعيف لا يستند اليه، لأنه مروي عن كلثوم المرادي وهو مجهول، ولهذا لما بلغ ابن عباس نسبة هذا القول لسيدنا علي لم يرضه واحتج بقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) الآية 14 من سورة النحل المارة بما يدل على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه كما أن بلقيس وقومها علموا معجزات سيدنا سليمان عليه السلام «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» 102 هالكا مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر لانكارك ما عرفت صحته من آيات الله مكابرة وعنادا، وقد قارع الظن منه عليه السلام بالظن من فرعون بالآية السابقة، لأنه لما وصفه بكونه مسحورا أجابه بكونه مثبورا لأن تلك المعجزات مبصرة نيرة لا يرتاب فيها عاقل ولا يقول بها إلا أنها من عند الله وانه أظهرها ليؤمن بها، قال تعالى «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ» أي يخرج فرعون موسى وقومه ويطردهم «مِنَ الْأَرْضِ» أرض مصر أو يعدمهم من ظهر البسيطة لما رأى بقاءهم يهدد ملكه بالخراب وسلطنته بالزوال، ولما كان ثابت في علم أنه لو أمهل فرعون وقومه ما أمهلهم لم يؤمنوا ويبقوا مصرين على كفرهم لهذا أغراه الله تعالى باتباع موسى وقومه وأدخلهم جميعا البحر «فَأَغْرَقْناهُ» لهذه الحكمة «وَمَنْ مَعَهُ» من القبط الذين جنّدهم لاسترجاع موسى وقومه واسترقاقهم فأهلكهم في البحر «جَمِيعاً» 103 فلم يفلت منهم أحد، راجع كيفية إغراقهم في الآية 40 من

القصص والآية 63 من الشعراء والآية 78 من طه المارات، قال تعالى «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ» بعد إهلاكهم وإرائة جثثعم؟؟؟ عائمة في البحر بما فيهم جثة فرعون «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» بعد انجائهم من الغرق ومن فرعون وقومه «اسْكُنُوا الْأَرْضَ» أرض مصر والشام في حياتكم الدنيا «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» الحياة الثانية يوم القيامة «جِئْنا بِكُمْ» مؤمنكم وكافركم وبركم وفاجركم «لَفِيفاً» 104 مختلطين جميعا من هاهنا من محال وجودكم، واللفيف هو الجماعة من قبائل شتى وهو اسم جمع لا واحد من لفظه كالجميع أي من اخلاط شتى شريف ووضيع عالي ورديء مطيع وعاصي قوي وضعيف، قال تعالى في القرآن الذي قال فيه (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ إلخ) الآية 88 المارة «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ» من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا دفعة واحدة كما أنزلنا التوراة والإنجيل والزبور «وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» نجوما متفرقة على قلب محمد الشريف بواسطة الأمين جبريل عليهما الصلاة والسلام من سماء الدنيا محفوفا بالرصد من الملائكة محفوظا بهم من تخليط الشياطين، هذا، ولما كان القرآن نزل بلغة العرب وعادة العرب فيما يتكلمون بشيء يستطردون لغيره، فتذكره ثم تعود إلى ما كانت تتكلم به، وهكذا بعد أن ذكر الله تعالى القرآن واستطرد لذكر غيره وأنهاه، ذكر ما يتعلق به تعظيما له وإجلالا، أي انا لم نرد بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق الذي أخبركم به المنزل عليه رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلم وقد اشتملت هذه الآية على أربع فوائد، الأولى أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذي لا يثبت لأن ما جاء من الشرع لا يتطرق اليه النسخ والنقص والتحريف ولزيادة، فكان حقا في كل الوجوه الثانية ان الانزال في قوله (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) غير النزول الذي هو في قوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) فوجب أن يكون الخالق غير المخلوق على ما ذهب إليه بعض المتكلمين. الثالثة ان الباء في قوله وبالحق بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلامته أي أنزلناه مع الحق. الرابعة ان جملة (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) تفيد الحصر أي ان هذا القرآن ما نزل لقصد آخر سوى اظهار الحق فقط «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا مُبَشِّراً» بهذا القرآن الطائع بالجنة «وَنَذِيراً» 105 به

للعاصي في النار وما عليك من كفرهم شيء بعد أن تتقدم لهم بهذين الأمرين قال تعالى «وَقُرْآناً» نون للتعظيم والتفخيم وهو منصوب بفعل مقدر مثل «فَرَقْناهُ» فصّلناه وبيّنا الحق من الباطل وأنما أنزلناه عليك «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» تؤدة وتثبت وترسل فتتلوه عليهم خلال اثنتين وعشرين سنة وشهور وأيام، راجع المقدمة في بحث نزول القرآن تعلم مدى نزول سورة المكية والمدنية، أي لا تقرأه عليهم بالسرعة والعجلة فورا بل تمهّل به لعله يوقر في قلوبهم، أولا بأول، هذا ومن قرأ فرّقناه بالتشديد فقد أضاع المعنى المراد منه أعلاه وما معناه على قراءة التشديد إلا أنه أنزل متفرقا، ومكث بضم الميم وسكون الكاف وقرىء بفتح الميم وضم الكاف قراءة شاذة والمعنى الذي ذكرناه تحتمله القراءتان تدبر «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» 106 عظيما بحسب الحوادث والوقائع والأسئلة وعفوا حسبما هو كائن في أزلنا على الوصف المذكور فيه، وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتشديد الفعل يفيد التكثير، وذلك لأن تنزيله مفرقا مترادفا متقطعا ومتواليا فيه معنى التكثير، قال تعالى «قُلْ» يا أكرم الرسل للذين كفروا بهذا القرآن الجليل «آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا» اختاروا لأنفسكم أحد الأمرين، واعلموا أن في الإيمان به النعيم المقيم في الجنة الخالدة مع النبيين والصالحين، وفي الكفر به العذاب الأليم الدائم مع فرعون وهامان، وإن إيمانكم بالنسبة له ولمنزله والمنزل عليه وعدمه سواء، لأنه لا يزيده كمالا، وجحودكم لا يورثه نقصا. وفي الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على حد قوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 28 من سورة الكهف في ج 2، وقوله جل قوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من سورة فصلت في ج 2. مطلب آيات القرآن عامة مطلقة ونزولها بأشخاص لا يقيدها ولا يمنع شمولها غيرهم: وقد خص بعض المفسرين هذه الآية بالمقترحين المار ذكرهم وهذا أيضا يقيدها فيهم دون نص بالتقييد أو التخصيص، وليس بشيء وما هؤلاء الذين يريدون حصر معاني القرآن بأناس مخصوصين، والله تعالى أنزله عاما لكل البشر ونزوله في أناس لا يقيد عمومه ولا يخصص إطلاقه بل يبقى على عمومه أبدا شاملا للكل، لذلك فسرناها كغيرها على أنها عامة مطلقة، يدخل فيها المقترحون وغيرهم وهو أولى كما ترى،

قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ» من قبل نزول القرآن وهم قراء الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف الذين عرفوا حقيقة الوحي وامارات النبوة وماهية الحق والباطل والتمييز بينها «إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ» هذا القرآن وسمعوه «يَخِرُّونَ» يسقطون حالا «لِلْأَذْقانِ» على وجوههم لأن الأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، ويطلق على ما ينبت عليها من الشعر، وكذلك يطلق على الوجه من إطلاق الجزء وإرادة الكل فيرمون بأنفسهم على الأرض «سُجَّداً» 107 تعظيما لأمر الله تعالى وشكرا لأنعامه عليهم بإنزاله وبعثة الرسل لإرشادهم وذلك لأن خوف الله تعالى مستول على قلوبهم، لهذا عند ما يسمعون ذكره يطرحون أنفسهم على الأرض خضوعا لعظمته وخشوعا لهيبته. وإنما لم يقل يسجدون لشدة مسارعتهم حتى كأنهم يسقطون سقوطا على الأرض «وَيَقُولُونَ» في سجودهم هذا «سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا» الذي وعد به خلقه على لسان رسله في الكتب القديمة المؤيدة بهذا القرآن «لَمَفْعُولًا» 108 كائنا واقعا لا محالة، وأنهم يقولون هذا في حالة السجود وغيرها لتعلق قلوبهم بربهم، ومن جملة وعده في الكتب القديمة إرسال محمد صلّى الله عليه وسلم وإنزال هذا القرآن عليه، وقد اختلف المفسرون بالمراد في هذه الآية فمنهم من قال إن المراد بها ورقة بن نوفل على أن ورقة لم يحضر إنزال هذه السورة لأنه توفي قبلها بكثير، ومنهم من قال عبد الله بن سلام، وهذا لم يسلم بعد حتى الآن، ومنهم من قال إنهم جماعة من أهل الكتاب، لان الوعد ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم مدون في كتبهم وقد كانوا بانتظاره وإنجاز هذا الوعد، فلما رأوا محمدا وسمعوا كتابه عرفوه أنه هو، فخروا سجودا لله تعالى أن أراهم إياه، وهذان القولان لا يصحان أيضا، لان إسلام عبد الله وقع بالمدينة كما سيأتي في الآية 27 من سورة النساء في ج 3، ولان أهل الكتاب لم يخالطوا محمدا في مكة أبدا، هذا والمقصود من هذه الآية تقرير تحقير أولئك المقترحين والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه، وإنهم إذا لم يؤمنوا فقد آمن به من هو خير منهم، قال تعالى «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ» للرءوس ولم تتكرر هذه الكلمة في القرآن إلا في هذه السورة وفي الآية 8 من سورة يس المارة، أي يرمون رءوسهم حالة

كونهم «يَبْكُونَ» من خشية الله تعالى خضوعا لجلاله «وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» 109 لربهم وانقيادا لحضرته الكريمة ولا تكرار في هذه الآية، لان الأولى لتعظيم أمر الله وشكره لانجاز وعده والثانية لما أثر فيهم من مواعظ القرآن العظيم مما يلين القلب ويرعب الجوارح ويرطب العين ويرعد الأعضاء ويرجف الفؤاد ويرققه، بدليل بكائهم عند سماعه فالسبب مختلف فيها ويدخل في معنى الخرور قوله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يترك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه. ولا يمكن من وضعها قبل ركبتيه إلا بهذه الصورة تأمل، وهؤلاء العلماء الممدوحون هم ما ذكرنا آنفا جماعة من مؤمني أهل الكتاب كانوا يتطلبون ويترقبون بعثة الرسول قيل منهم زيد بن عمرو بن نفيل وأبو ذر، وعد بعضهم سلمان الفارسي والنجاشي واتباعه من اليهود والنصارى، والقول الأحسن إنهم طائفة من أهل الكتابين كانوا قبل البعثة عند ما يسمعون وصف الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم يقع منهم ما يقع رضي الله عنهم، وجاءت هذه الآية على طريق ضرب المثل على جهة التقريع أي أن أهل التوراة والإنجيل عند سماع ما يتلى عليهم من كتبهم من وصف حضرة الرسول كانوا يبكون ويودون أنهم يدركونه ليؤمنوا به، وأنتم حينما تسمعون كلام الله الذي أنزله عليه لا يندى لكم جبين ولا تستفز جوارحكم، بل تهزأون به وتسخرون، وهو إنّما أرسل رحمة لكم، وأحسن الأقوال أولها وهو ما بين في الآية المفسرة، روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم. - أخرجه الترمذي والنسائي وزاد في منخري مسلم أبدا- وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله. وأخرج أيضا عن النضر ابن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أن عبدا بكى في أمته لأنجى الله تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد، وما من عمل إلا وله وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار، فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة.

وينبغي أن تكون هذه الحالة في العلماء أكثر من غيرهم، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الأعلى التيمي أنه قال من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه. لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) الآيتين المارتين، وقال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 38 من سورة فاطر المارة وقدمنا فيها ما يتعلق في هذا البحث ما به كفاية، ومن الفقه الأخذ بما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: إذا كثر الطعام فحذروني ... فإن القلب يفسده الطعام إذا كثر المنام فنبّهوني ... فإن العمر ينقصه المنام إذا كثر الكلام فسكتوني ... فإن الدين يهدمه الكلام إذا كثر المشيب فحركوني ... فإن الشيب يتبعه الحمام ولما سمع أبو جهل عليه اللعنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في دعائه يا الله يا رحمن، قال لقومه إن هذا ينهانا عن تعدد لآلهة وهو يدعو إلهين أنزل الله تعالى «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» أيها الناس فإنكم «أَيًّا ما تَدْعُوا» من أسماء الله تعالى فادعوه بها «فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» المشتملة على معاني التقديس كالخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية وقد مرّ بيانها في الآية 8 من سورة طه المارة فراجعها. وما قيل إن اليهود قالوا لحضرة الرسول إنك تقل من ذكر الرحمن وقد ملئت التوراة من ذكره، فنزلت لا يصح، لأن الآية مكيّة بالاتفاق ولا يهود لهم صلة مع حضرة الرسول في مكة «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها» بحيث لا تسمع نفسك أو تسمع من هو خارج المسجد «وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ» الجهر الزائد والمخافتة الكلية «سَبِيلًا» 110 حالا وسطا بحيث تسمع نفسك إذا كنت منفردا ومن بجوارك إذا كنت إماما. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلّى الله عليه وسلم مختفيا بمكة أي مخف عبادته فيها أو أنه كان وأصحابه إذ ذاك يخفون صلاتهم خوفا من تعدي الكفار عليهم، وكان إذا خلا بأصحابه رفع صوته، فإذا سمعه المشركون يسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال تبارك وتعالى لنبيه (ولا تجهر) . هذا، ولهذا

[سورة الإسراء (17) : آية 111]

البحث صلة في الآية 108 من سورة الأنعام في ج 2 فراجعه، ورويا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، وأخرج الترمذي وابن قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك، فقال إني أسمعت من ناجيته فقال إرفع قليلا. وقال لعمر مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان فقال اخفض قليلا. فهذا على فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لأن الآية صريحة في الصلاة، وعلى كل الجهر بالدعاء والصلاة زيادة على الحاجة وهي اسماع من وراءه إذا كان إماما مذموم والمخافتة بحيث لا يسمع نفسه مذمومة أيضا، والمستحب الوسط في ذلك. قال ابن مسعود من أسمع أذنيه لم يخافت والجهر بأن يسمع من هم وراءه في الصلاة، أو إمامه في الدعاء فقط، والعدل رعاية الوسط قال صلّى الله عليه وسلم خير الأمور أوساطها. وقال تعالى (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) راجع الآية 143 من سورة البقرة في ج 3، والآية المارة 29 من هذه السورة، والآية 67 من الفرقان المارة. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) الآية 154 من الأعراف المارة بعيد عن الصحة لأن الأعراف نزلت قبل الإسراء، والمقدم لا ينسح المؤخر قولا واحدا، لا خلاف ولا معارضة فيه، ورحم الله علماء الناسخ والمنسوخ ما اغلاهم وأحرصهم على القول به لمجرد بادرة. فلا حول ولا قوة إلا بالله القائل «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» كما زعم بعض كفرة قريش وهم بنو مليح إذ يقولون إن الملائكة بنات الله، وكما زعم اليهود بأن عزيرا ابن الله، وكما افترى النصارى بأن المسيح ابن الله، وكلهم كاذبون أفاكون لأنه جل شأنه لم يتخذ ولدا «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» من الناس والملائكة والجن والأوثان، وهذا إبطال لقول كل من يزعم أن لله شريكا تعالى الله عن ذلك «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» فيحتاج إلى من ينصره ويتعزز به لأنه لم يذل قط تعالى عن ذلك ولم يوال أحدا من أجل المذلة من الغير أو المنفعة لنفسه المقدسة، فنزهه عن ذلك كله وعظمه «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» 111 يليق بذاته العلية وبرأه عن جميع سمات خلقه وأعمالهم وعما يقول الكافرون وأهل الكتابين من اتخاذ الولد والصاحبة والشريك والمعين والولي،

ونزه تنزيها كثيرا. وهذه الآية تسمى آية العز كما جاء في الحديث الصحيح، وإن من داوم عليها كان عزيزا محترما، ولهذا كان صلّى الله عليه وسلم يعلمها لكل غلام أفصح من بني عبد المطلب، فعلى الموفق أن يداوم عليها ليل نهار ليوقع الله في قلوب خلقه مهابته واحترامه ويضاعف له الأجر بتلاوتها. أخرج مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت. وعن ابن عباس قال: قال صلّى الله عليه وسلم أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء. عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده. وأخرج أبو يعلى وابن السّني عن أبي هريرة قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويدي في يده فأتى على رجل رثّ الهيئة فقال أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ قال السقم والضر قال صلّى الله عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟ قال بلى، قال قل توكلت على الحي الذي لا يموت، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلخ الآية، فأتى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد مدة وقد حسنت حالته فقال مهيم أي مم أصابك هذا، فقال لم زل أقول الكلمات التي علمتني. وأخرج ابن ابي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية. وأخرج ابن أنس والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي الحمد لله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ما شاء الله قضى، سمع الله لمن دعا، ليس من الله ملجأ ولا وراءه ملتجى، توكلت على الله ربي وربكم، (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية. ثم قال ما من مسلم يقرأوها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فنضره. هذا، ولا يوجد سورة محتومة بمثل ما ختمت به هذه السورة، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده بمعونة الله تعالى وتوفيقه.

تم الجزء الأول من هذا التفسير المبارك، وهو يحتوي على خمسين سورة من القرآن العظيم أولها اقرأ باسم ربك وآخرها الإسراء، بحسب ترتيب النزول، وقد نزلت متوالية متتابعة عدا الآيات المدنيات منها، وقد أثبتناها حسب نزولها كما وعدنا في المقدمة، وكان أول النزول في غار حراء في 17 أو 27 رمضان السنة الأولى من البعثة الشريفة الحادية والأربعين من الولادة الكريمة، هو الخمس آيات الأولى من سورة العلق كما أوضحناه في المقدمة في بحث النزول وسورة بني إسرائيل التي هي آخر هذا الجزء نزلت في 27 رجب السنة العاشرة من البعثة والحادية والخمسين من الولادة الشريفة، فيكون مجموع المدة التي نزلت فيها هذه السور عدا الآيات المدنيات المشار إليها في محالها ثماني سنين وعشرة أشهر إلا عشرة أيام على القول بأن مبدأ النزول كان في 17 رمضان، وعلى القول بأن المبدأ كان في 27 رمضان تكون المدة ثماني سنين وعشرة أشهر تماما، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وقد وقع الفراغ منه يوم الاثنين من رجب الفرد سنة 1356 الموافق 6 أيلول سنة 1937، ويليه الجزء الثاني أوله سورة يونس، وآخرة سورة المطففين، وبها ينتهي القسم المكي من هذا التفسير إن شاء الله، ويعين التاريخ وقع البدء في الجزء الثاني، وتتميما للفائدة ألحقنا بهذا ما اشتمل عليه من المطالب بيانا يسهل لمريد المطالعة ما يريده منه، والحمد لله على توفيقه والشكر له على الإرشاد إلى سلوك طريقه القويم الموصل إلى الصراط المستقيم، والهداية إلى ما به الاتصال بالعناية من الرب الكريم. هذا وليعلم القارئ أن ضعفي في فن الكتابة قد أدى إلى سقوط حرف أو زيادته أو زيادة نقطة في بعض الحروف أو نقصها، ومن هذا القبيل تكبير النقطة أحيانا حتى يظن أنها نقطتان، أو بعدها عن موقعها بما يؤدي للاختلاط «1» ، فأرجو ممن يطالع هذا إمعان النظر في ذلك كي لا يختلف عليه المعنى المراد. وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه وإلى ما به السداد في القول والعمل والنية، ومنّ علينا بألطافه القدسية، ونشر علينا رحمته وستره، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلّى الله وسلم على سيد محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين آمين آمين. الفقير إليه عبد القادر ملا هويش آل غازي

_ (1) هذا قبل طبعه.

[الجزء الثالث]

[الجزء الثالث] [خطبة الكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نحمدك يا من وفقتنا لهذا الخير الجسيم، ونشكرك أن سخرتنا للقيام بهذا السفر الكريم، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فإني أشرع بالجزء الثاني من هذا التفسير متيمنا بفضله ولطفه، سائلا منه المعونة والتيسير على إتمامه، إنه بالإجابة جدير، وهو على كل شيء قدير. تفسير سورة يونس عدد 1- 51- 10 نزلت بمكة بعد سورة الإسراء عدا الآيات 40، 94، 95، 96 فإنها نزلت بالمدينة، وهي مائة وتسع آيات وألف وثمنمئة واثنتان وثلاثون كلمة، وتسعة آلاف وتسعة وتسعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: «الر» تقدم البحث مستوفيا أول سورة الأعراف في ج 1، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بما بدئت به هذه السورة، ويوسف وهود والحجر وابراهيم. قال سعيد بن جبير: الراء وحم ون حروف الرحمن مقطعه. وبه قال ابن عباس. وقال غيرهما كل حرف مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، ولا يعلم المراد منها على الحقيقة إلا الله تعالى. لذلك فأحسن قول في تفسير هذه الحروف المبدوءة بها سور القرآن العظيم أن يوكل علمها إلى الله «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ 1» الذي أودع الله فيه الحكم كلها، فلا رطب ولا يابس إلا في هذا القرآن يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله، لأنه مأخوذ من علم الله المحيط بكل شيء، ولوحه المكنون الحاوي جميع المكوّنات، وهذه

مطلب في معنى القدم:

الآيات تخبر العارف بصواب الحكمة المتقنة، وتهيء المعاني للقلوب الطاهرة على تصديق ما تخبر به قومك، وتلهب قلوب أهل للعزم صادقي النيّة على تأييدك فيما تبشر به وتنذر. فيا أكمل الرسل «أَكانَ لِلنَّاسِ» أهل مكة وغيرهم «عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ» عظيم القدر جليل الخلق (بدلالة هذا التنوين المأتي به للتبجيل) وجعلنا ذلك الرجل الخطير الذي أهلناه لوحينا وللخلافة في أرضنا «مِنْهُمْ» من أحسنهم حسبا وأشرفهم نسبا، وقلنا له «أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» قومك من أهل مكة وغيرهم من سائر الخلق العاقل بأن ينتهوا عما هم عليه من عبادة غير الله الواحد، ومن الأفعال والأعمال الذميمة ويرجعوا عن الكفر، أو ينزل بهم عذاب لا طاقة لهم به «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا» منهم بك وصدقوا ما تتلوه عليهم من هذا القرآن وأقلعوا عما هم عليه من الكفر ودواعيه. «أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ» منزلة ومكانة «صِدْقٍ» سابقة رفيعة أي قد سبق لهم عند الله خير. قال ذو الرّمة: وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة ... لهم قدم معروفة ومفاخر مطلب في معنى القدم: لأن القدم كل ما قدمت من خير وهو كناية عن العمل الذي يتقدم فيه الإنسان، وأطلق لفظ القدم على هذا المعنى لأن السعي والسبق يحصل به، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وفي إضافة القدم إلى الصدق التنبيه على زيادة الفضل. وقال بعض المفسرين المراد به الشفاعة وأنشد: صل لذي العرش واتخذ قدما ... ينجيك يوم العار والزلل هذا، وكل عمل صالح ثوابه قدم صدق لفاعليه «عِنْدَ رَبِّهِمْ» راجع قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) آخر سورة القمر في ج 1، أي أن جزاء أعمالهم الحسنة مخبوءة لهم عند ربهم يوم يلقونه. والقدم هو العضو المخصوص، وقد يراد منه التقدم المعنوي أي المنازل الشريفة قال حسان: لنا القدم العليا إليك وخلقنا ... لأولنا في طاعة الله تابع

وقال الآخر: لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العادي طمّت على البحر وهذا القدم الذي يتخذ عند الله عز وجل هو ما يقدمه العاقل من أعمال صالحة بإخلاص صادق إلى ربه في دنياه ليدخرها له وينميها فيجد ثوابها عنده منازل رفيعة في جنة عالية دائم نعيمها، لهذا فإن كل فعل صالح وأمر طيب يسمى قدما من تسمية الشيء باسم آلته، وهذه الإضافة المشار بها آنفا من إضافة الموصوف إلى صفته مبالغة في تحقيقها، وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم أهله، إذ ليس للكافرين ما يبشرون به، بل لهم الإنذار والتهديد، وما جاء في بعض الآيات من لفظ البشارة لهم فهو من باب التهكم بهم قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 5 من سورة التوبة في ج 3، أما الإنذار فإنه يصرف للفريقين المؤمنين والكافرين إذ قل من لا يستحق الإنذار «قالَ الْكافِرُونَ» لما سمعوا تلك الآيات البينات عتوا وعنادا «إِنَّ هذا» الذي تسمعونه من محمد ما هو إلا «سحر مبين 2» لا خفاء فيه على أحد وقرىء لساحر، وعليه يكون قولهم إن محمدا الذي يأتيكم بالآيات ساحر ظاهر سحره فلا تلتفتوا إليه، وذلك أنهم تعجبوا من أن الله تعالى كيف خص محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم وشرّفه برسالته إليهم، ويقولون الله أعظم من أن يكون له رسول بشر يتيم كيتيم أبي طالب، جهلا منهم بحقيقته صلى الله عليه وسلم فهو الذي لا ريب فيه لأحد من ذوي العقول الكاملة بأن له القدّنح المعلّى وفيه غاية الغايات ونهاية النهايات؟؟؟ والله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وقد قال رائبه فيه: وأحسن منك لم تر قط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء وقال الآخر: ولو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع وقال الأبوصيري: فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم ولم يعلم هؤلاء المتعجبون الذين طمس الله على قلوبهم أن الحظوظ الدنيوية لا دخل

مطلب معنى التعجب والتدبر والأيام الست والعرش:

لها في مختارات الله، ولكن هذا ليس بكثير على من سلب الله عقله. وقد لا تجتمع مع العقل، ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول: ولكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أي تفرق مطلب معنى التعجب والتدبر والأيام الست والعرش: هذا وإن التعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء خلاف العادة، وقد زعموا أن ضيرورة اليتيم الفقير نبيأ لم تجر به العادة فأنزل الله تعالى هذه الآية تهكما بهم. قال تعالى يا أيها الناس «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» تقدم البحث فيها في الآية 59 من سورة الفرقان في ج 1، وله صلة في الآية 9 من سورة فصلت الآتية إن شاء الله «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» المبسوط القابل لانعكاس أشعة أسمائه تعالى وصفاته، واستولى عليه استيلاء يليق بذاته، بلا أين ولا كيف ولا كم، بصرف النظر عما يتصور من معنى ثم في تراخي الزمن والمهلة، وقد تقدم تفسيره وما يتعلق به مفصلا في الآية 51 من سورة طه في ج 1، «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» كله فيهما مما يتعلق في جميع مكوناته العلوية والسفلية فلا يخرج شيء عن قضائه وتقديره مما يقع فيهما، ومن جملة ذلك اختيار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة ومعنى التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها وما ينتج عنها لتقع على الوجه المحمود، قال عليه الصلاة والسلام إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته، والمراد هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل «ما مِنْ شَفِيعٍ» يشفع لأحد «إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» لذلك الشفيع الذي يرتضيه ولا يشفع إلا لمن يرضاه راجع الآية 109 من سورة طه في ج 1، وله صلة في الآية 255 من سورة البقرة في ج 3، وهذا الشفيع عام يشمل الأنبياء والملائكة فمن دونهم، وقد جاء في معرض الرد لقول الكفرة بشفاعة الأوثان، فإذا كان الأنبياء فمن دونهم من كرام الخلق على الله لا يشفعون إلا بإذنه، وإلا لمن يرضاه، فكيف يتمنّى القول بشفاعة الأوثان التي كونتها أيديهم من أحجار وأخشاب وغيرها «ذلِكُمُ» الإله العظيم خالق السموات والأرض ومدبر أمورهما ومن فيهما المستولي

على العرش العظيم هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ» أيها الناس سيدكم ومولاكم ومسوي أموركم «فَاعْبُدُوهُ» وحده شكرا لنعمه الظاهرة والباطنة «أَفَلا تَذَكَّرُونَ 3» عظمته وجميل صنعه إليكم فتعتبرون وتتعظون وتنقادون لهذا الربّ الذي «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» لا إلى غيره ولا مصير لأحد دونه «جَمِيعاً» إنسكم وجنكم وملككم، وقد وعدكم بالبعث بعد الموت على لسان رسله «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» منجزا لا محيد لكم عنه «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» يحييهم أولا كما أحيى أصلهم من العدم «ثُمَّ يُعِيدُهُ» على حالته الأولى بعد إماتته كما بدأه «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» العدل بحيث لا ينقص من أجر أحد منهم شيئا بل يزبده من فضله وكرمه «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» كذلك يجزيهم على أعمالهم بالعدل، فلا يزيد على ما يستحقونه شيئا ولا يعذّبهم على ما لم يفعلوا، وهؤلاء الكافرون «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» ماء متناء في الغليان بدل ما كانوا يتلذذون به من الأشربة المحرمة في الدنيا «وَلهم عَذابٌ أَلِيمٌ» فوق ذلك لا تطيقه أجسامهم «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 4» بالدنيا بالله وكتبه ورسله، وينكرون اليوم الآخر، وفي هذه الآية دلالة قاطعة على البعث بعد الموت والحشر والنشر والمعاد، وردّ صريح على منكري ذلك الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» خصّ القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء الذي خصّه بالشمس لقوّته وكماله، وفيه إشارة إلى أن هذا النور مستفاد من ذلك الضياء، وهذه الاستفادة حاصلة من الشمس إلى القمر، سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة، أو بأن يستنير نفس جوهره بصورة يعلمها الله، راجع الآية 12 من سورة الإسراء في ج 1. و «قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» يتنقل فيها بنظام بديع لا يتغير راجع الآية 39 من سورة يس في ج 1 تعرف المنازل وغيرها، وإنما أعاد الضمير للقمر وحده لأن سيره في المنازل أسرع من سير الشمس، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين المعتبرة شرعا لابتنائها على الأهلة، وما قيل إنه يرجع إلى الشمس والقمر معا، وإنما وحده مع أنه عائد لهما للإيجاز اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر كما في قوله تعالى (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) الآية 68 من التوبة في ج 3 بدل ترضوهما إيجازا

مطلب السنين الشمسية والقمرية وما يتعلق بهما:

واكتفاء، إلا أن الأول أولى لموافقته لظاهر الآية، وللسبب المذكور آنفا المؤيد بقوله تعالى «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. مطلب السنين الشمسية والقمرية وما يتعلق بهما: والمراد بالسنين هنا القمرية التي هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما، وثماني ساعات، وثمان وأربعون دقيقة، راجع الآية 32 من الأعراف في ج 1، على أنه لا مانع من أن تشمل جملة آية السنين والحساب السنة الشمسية أيضا التي هي ثلاثمائة وخمس وستون يوما، وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة أيضا، والفرق بينهما عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة بمقتضى الرصد الأليخاني، وكل من السنتين تكون بسيطة وكبيسة ولهذا يكون شهر شباط في كل أربع سنين تسعا وعشرين يوما إذ ينضم إليه فروق ثلاث سنين لانتظام الحساب الجاري، والأشهر العربية تكون ثلاثين، وتسعا وعشرين يوما للسبب نفسه، فتكون السنة القمرية بانقضاء اثنى عشر شهرا قمريا، والشمسية عند وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من البروج الاثني عشر التي ذكرناها أول سورة البروج المارة في ج 1، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 16 من سورة الحجر الآتية إن شاء الله «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ» الضياء في الشمس والنور في القمر وجعل منهما معرفة السنين والحساب، وما أظهر ما أظهر منها وأوجد ما أوجد في عالمي للغيب والشهادة من مظاهر أسمائه وصفاته «إِلَّا بِالْحَقِّ» الموافق للحكمة البالغة، إظهارا لقدرته وبرهانا لوحدانيته وجعلها دلائل على عظمته، فلم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا بل هي حق لا مرية فيه كسائر مخلوقات ذلك الخالق الجليل الذي «يُفَصِّلُ الْآياتِ» تفصيلا وافيا ويكررها تكريرا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 5» الحكمة التكوينية لهذا الكون العظيم المهمول فيستدلون على شئون مبدعها ويستنبطون منها البراهين على باهر قدرته ووحدانيته «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» من كون أحدهما مضيئا والآخر مظلما، وكون كل منهما يخلف صاحبه فيجيء وراءه متصلا به دون فاصلة ما، وأخذ أحدهما من الآخر بصورة تدريجية ساعات ودقائق، ثم يتلوه صاحبه فيرجع إليه

ليسترد ما أخذه منه حتى يبلغ الغاية المقدّرة في الأزل، وهكذا كل منهما يعيد الكرة على الآخر دواليك بصورة منتظمة لا تختلف قيد شعرة منذ خلقها الله تعالى إلى الآن، وإلى أن يأذن بخراب هذا الكون «وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من الكواكب السيارة والثابتة والبحار والأنهار والمعادن الجامدة والسائلة، مما عرفه الخلق ومما لم يعرفه بعد، والآثار الحكمة والخلائق المتنوعة «لَآياتٍ» واضحات عظيمات دالات على وجود الصانع لهذه المصنوعات المتقنة، وعلى كمال قدرته وبالغ حكمته، وعلى ما أنكروه من البعث بعد الموت، وما تعجبوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب بتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الردى «لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ 6» الله ويحذرون عاقبة ما خوفهم به رسله، وخص المتقين لأن التقوى تدعو إلى النظر في عواقب الأمور والتدبر لنتائجها، وقد تحدو بهم إلى الفكر والتفكر في آيات الله والتذكر بها لتوصلهم إلى معرفة صانعها المكون هيكلها، فيزدادوا إيمانا وتصديقا وإذعانا، فينقادوا إلى الله ويؤمنوا برسله وكتبه واليوم الآخر، فيحصل لهم المقصود الذي خلقوا لأجله وهو عبادة الله تعالى القائل: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات الآتية. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» ولا يتوقعون حصوله ولا يخطرونه ببالهم لتوغلهم بالغفلة عن لتفطن إلى الحقائق الراعنة، لأنهم لا يعتقدون بالثواب والعقاب لإنكارهم اليوم الآخر فلا يخافون وعيدنا وتهديدنا الواقع على لسان رسلنا «وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا» المستعارة الموقتة دار البلاء والمحن التي لم تدم ولم تصف لأحد بدلا من الآخرة الدائم نعيمها دار السعادة والصفاء، وآثروا الأدنى الفاني الخسيس، على الأعلى الباقي النفيس «وَاطْمَأَنُّوا بِها» وركنوا إليها ومالوا بكليتهم عليها وسكنت لها قلوبهم سكون من لا براح له عنها، آمنين من اعتراء المزعجات غافلين عما أعد لهم من العذاب، فبنوا القصور الفخمة القوية، وأملوا الآمال المغوية البعيدة، فأزال ذلك كله الوجل من قلوبهم وصرفها في الملاذ والملاهي حتى أنساهم ذكر الله زخارفها، وصاروا بحالة لم يصل معها إلى قلوبهم ما يسمعون من الإنذار والتخويف والوعيد «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ 7» لا يتفكرون

بها لاهون في ألعابهم، مقبلون على لذاتهم، معرضون عما يأتيهم من قبلنا «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم وهو مبتدأ و «مَأْواهُمُ» مبتدأ ثاني وخبره «النَّارُ» وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول والجملة خبر «إن» التي هي بصدر هذه الآية لذلك لا يوقف على (غافلون) ولو كانت إشارة الوقف عليها لأن الكلام لا يتم بها وإشارة الوقف عبارة عن فاصلة فمنها ما يتم بها الكلام فيوقف عليها ومنها ما يوقف عليها، فيرجع القارئ إليها فيصلها بما بعدها ويقف على ما يصح عليه الوقف، وهذا كثير في القرآن العظيم إذ لا يخفى أن الخبر محط الفائدة وهو الذي يوقف عليه لا المبتدأ، والمعنى أن الموصوفين المذكورين الذين لا يرجون لقاء الله مصيرهم ومثواهم نار جهنم جزاء «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 8» من الأعمال الخبيثة في الدنيا والجار من/ بما/ متعلق بمحذوف تقديره جوزوا بكسبهم القبيح وجاء الرجاء بصدر هذه الآية بمعنى الخوف وهو كثير بلغة العرب، قال أبو ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها. أي لم يخفه والمراد من لقاء الله الرجوع إليه بالبعث بعد الموت والحساب المترتب عليه الجزاء بحسب الأعمال. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ» في الآخرة إلى الجنات العالية «بِإِيمانِهِمْ» الخالص المؤدي إلى ذلك، فتراهم على الطريق السوي في الدنيا مدة لبثهم فيها، ويجعلون بسببه في الآخرة بمكان «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» أي من تحت منازلهم ومن بينها لينظروا إليها من أعالي أصرّتهم وشرفات قصورهم. وقيل إنها تجري بين أيديهم وليس لشيء إلا أن يراد ما بين أيديهم (أمامهم) فإنه شيء يعتدّ به. وقيل يهديهم نور أعمالهم لما جاء في الحديث أن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة، فيقول له أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار. وفي هذه الآية دليل على أن مجرد الإيمان منج، إذ قال بإيمانهم دون أن يضم إليه العمل الصالح، وهو لا شك ينجي من التخليد بالنار ويدخل الجنة من لم يتمكن من العمل كمن أسلم ومات قبل أن يقدم عملا صالحا، فإذا أمكنه تقديم العمل

الصالح فهو من باب أولى «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 9» الدائم لأمثالهم، وحرف الجر هنا متعلق بتجري وهو حال من الأنهار «دَعْواهُمْ» دعاءهم وهو مبتدأ و «فِيها» متعلق به وخبره «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ» أي أنهم يدعون الله تعالى وينادونه في هذه الجملة الدالة على التنزيه تلذذا بذكره تعالى لا عبادة، وانهم يقولون هذه الجملة كلما يعايتون شيئا من عجائب آثار قدرته ونتائج رحمته ورأفته «وَتَحِيَّتُهُمْ» فيما بينهم «فِيها» أي الجنة «سَلامٌ» أي يحيي بعضهم بعضا وتحييهم الملائكة في هذه الكلمة أيضا. وقيل إن جملة سبحانك اللهم علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام، فإذا أرادوا شيئا قالوها، فيأنونهم بما تشتهي أنفسهم وتلذّ به أعينهم من الأطعمة التي لا يشبه بعضها بعضا في اللون والطعم والرائحة والآنية واللذة والكم والكيف والماهية والغداء. فإذا فرغوا حمدوا الله تعالى على ذلك بما يلهمهم المنعم عليهم من أنواع التحميد والتقديس التي منها ما حكاه الله عنهم بقوله عز قوله «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 10» فترجع الموائد عند ذلك واستدل القائل بهذا بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مرّ بهم الطائر يشتهونه قالوا سبحانك اللهم، وذلك دعاؤهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فإذا جاء الملك بسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله وتحيّتهم فيها سلام. فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله تعالى (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) . وهذا ترتيب ذكري بحسب الترتيب الوقوعي، إلا أنه خلاف الظاهر، والأولى ما ذكرناه، لأن أهل الجنة يبتدئون أمورهم كلها بتعظيم الله تعالى وتنزيه، ويختمونها بشكره والثناء عليه، ويتكلمون بينهما بما أرادوا مما يلقيه ربهم على قلوبهم. أخرج مسلم عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا فما بال الطعام يا رسول الله؟ قال جشاء (أي يخرج جشاء وعرقا) ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد. وجاء في صحيح مسلم في وصف أهل الجنة يسبّحون الله تعالى بكرة وعشيا.

مطلب كراهية الدعاء بالشر على النفس:

مطلب كراهية الدعاء بالشر على النفس: قال تعالى «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ» الذي يدعونه على أنفسهم فيجيب دعاءهم فيه ومنه قول أهل مكة (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية 32 من سورة الأنفال في ج 3، ومنه قولهم عند سماع الآيات التي فيها الوعيد (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 48 من سورة يس المارة في ج 1، ومثلها الآية 38 الآتية وهي مكررة في القرآن كثيرا، قال ابن عباس المراد في هذه الآية دعاء الرجل على أهله وولده عند الغضب مثل قوله لعنك الله، لا بارك الله فيك، وكذا المرأة تقول لولدها قصف عمرك أعماك الله كسرك لا وفقك وشبهه، وقال قتادة المراد دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه. راجع الآية 11 من سورة الإسراء في ج 1 أي لو يعجل الله للناس استجابة دعاءهم بالشر «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» أي كطلبه وإرادة إجابته «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ» حالا ولفرغ من إهلاكهم من كثرة ما تلوكه ألسنتهم من ذلك الدعاء السيء لكن الله تعالى بمنه وكرمه، قد يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له بالشرّ، قال ابن قتبية إن الناس عند الضجر يدعون على أنفسهم وأهليهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة، فلو بدلوا الدعاء حال الغضب بالشرّ على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، بالخير، لهم لكان أولى وأنفع لهم تحاشيا عن حصول الشر والوقوع بالملامة إذا صادقت الدعوة ساعة إجابة، حفظنا الله من ذلك. والتفسير الأول أولى وأحسن انطباقا على المعنى، لأن المراد بالناس في هذه الآية- والله أعلم- المذكورون في قوله تعالى (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الآية السابقة، ويؤيد هذا ما جاء أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث أحد رؤساء قريش مكة القائل (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) الآية المارة آنفا، وعليه يكون المعنى ولو يعجل الله لهؤلاء الكافرين العذاب كما يعجل لهم الخير في المال والولد لعجل قضاء آجالهم فأماتهم جميعا، ويدل على هذا أيضا قوله تعالى تتمة هذه الآية «فَنَذَرُ» نترك ونهجر «الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» السابق

ذكرهم ووصفهم «فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 11» يترددون من الحيرة في تمردهم وعتوهم ولكنا بمقتضى الحكمة الأزلية لا نعجل الشر لهم ولا ننقص أجلهم عما هو مقدر لهم، بل نمهلهم ونستدرجهم، لا نتركهم ولا نهملهم، وسنفيض عليهم النعم ونغريهم بالمال والجاء حتى تلزمهم الحجة ويستكملوا جميع ما قدر لهم في أزلنا الذي لا يتبدل، ثم نأخذهم على غرة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وتقربة بها إليك يوم القيامة، واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة. ولا يقال إن هذه الآية أي (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) إلخ لم تنزل بعد، فلا يصح أن تكون الآية المفسرة سببا للنزول في حق القائل لأن الكفرة كانوا يتقولون بما في معناها كلما سمعوا آية وعيد أو تهديد أو تخويف من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل طلبهم استعجال العذاب مثل قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الآية المنوه بها آنفا وأمثالها، ولأن آية الأنفال لم يكن نزولها في المدينة المنورة كي يحتج بها هذا القائل لأنها نزلت بمكة منفردة عن سورتها وليست هي وحدها بل ما قبلها وما بعدها من الآية 20 إلى 26 نزلت بمكة حكاية عن حالتهم السابقة وتهكم بهم كما سنأتي على ذكرها وسببها عند تفسيرها في القسم المدني إن شاء الله وقد أعمي الله قلب النضر المذكور عن أن يقول اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه ووفقنا له بدلا من أن يقول (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) إلخ، ولكن توغله في الضلال وتماديه في العناد أداء إلى قوله ذلك، لأن اللسان ينطق بما يتلقاه عن القلب والدنّ ينضح بما فيه من خذلان الله إياه، قال تعالى «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ» الشدة والضنك «دَعانا لِجَنْبِهِ» مضجعا «أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» أي أنه يثابر على الدعاء في جميع أحواله وحالاته «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ» الذي أنهكه بعد أن التجأ إلينا ودعانا «مَرَّ» مضى واستمر على حالته الأولى من الإعراض عنا ونسي حالة الجهد والبلاء ولم يركن إلينا ويدعنا شكرا على رحمتنا به وإجابتنا لدعائه، وصار من شدة غفلته وعمهه وإعراضه وانهماكه في زخارف الدنيا وشهواتها

«كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا» قبل «إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» وكأنه لم يصبة شيء من الفقر والفاقة والمرض البتة «كَذلِكَ» كما زينا لهذا الإنسان جهله القبيح ونسيانه المليح «زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ» الذين تجاوزوا حدود الله وأفرطوا بكل صفة ذمية وفرطوا بكل خصلة ممدوحة فرأوا حسنا «ما كانُوا يَعْمَلُونَ 12» من القبائح والإعراض عن الله تعالى والانهماك في الشهوات والمثابرة على الكفر. ونائب فاعل زين هو لفظ ما الذي هو بمعنى الذي، أي العمل السيء الذي كانوا يعملونه بإغواء الشياطين وتسويلاتهم. وفي هذه الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهوع إليه في الشدة. ومما يليق بالكامل أن يتضرع إلى مولاء في السراء والضراء فهو أرجى للإجابة، وأن يكثر الخوف حالة الرخاء والصحة، والرجاء حالة الفاقة والمرض، فهو أجدر بالخضوع إلى الله. جاء عن أبي الدرداء: أدع الله تعالى يوم صرائك يستجب لك يوم ضرائك. وعن أبي هريرة: من صره أن يستجاب له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية 83 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه. والمراد بالإنسان هنا من حيث اللفظ والمعنى الكافر بقطع النظر عن كونه معينا فتشمل الآية من نزلت فيه وغيره من كل من هذه صفته من الكافرين والعاصين غير المبالين بما يفعلون، لأن أل فيه للجنس ويدخل تحت الجنس عموم أفراده. هذا، واعلم أن المزين في الحقيقة للعمل هو الله تعالى، لأنه مالك الملك، والخلق كلهم عبيده يتصرف فيهم كيفما شاء وأراد. راجع قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الآية 57 من سورة الأنعام الآتية، وقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من سورة الصافات، وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) الآية 135 من الأنعام أيضا، وإذا كان للشيطان سبب ظاهرى فيكون بإقدار الله تعالى إياه، وإلّا فهو عاجز أيضا عن أن يقسر الإنسان على فعل شيء أو عدمه، راجع قوله تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الآية 76 من سورة النساء في ج 3، والآية 31 من سورة إبراهيم الآتية، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية 121 من سورة طه المارة في ج 1، وفيها ما يرشدك

مطلب ذم الدنيا وحالة الرسول وعمر فيها:

إليه من المواضع التي فيها هذا البحث فراجعها. قال تعالى «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ» السابقة كقوم نوح وعاد وثمود، وقد بينا ما يتعلق بالقرن في الآية 15 من سورة الإسراء المارة في ج 1 فراجعها «مِنْ قَبْلِكُمْ» يا أهل مكة وقد التفت بالخطاب تعالى خطابه إليهم مبالغة في التشديد والتهديد «لَمَّا ظَلَمُوا» أنفسهم بتكذيبهم آياتنا ونماديهم في الغي والبغي «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الواضحة فكذبوهم كما كذبتم محمدا يا أهل مكة الذي جاءكم بمثلها «وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» برسلهم مثلكم بل بقوا مصرّين على كفرهم «كَذلِكَ» مثل ما جزيناهم بالهلاك «نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ 13» منكم فنهلككم أيضا وكذلك نجزي كل طائفة مجرمة لم ترجع عن كفرها بالهلاك «ثُمَّ جَعَلْناكُمْ» يا قريش بعد إهلاك القرون الماضية «خَلائِفَ» لهم «فِي الْأَرْضِ» لإعمارها ونشر السلام فيها وعبادة مكونها وحده «مِنْ بَعْدِهِمْ» أي الهالكين الذين أساؤا التصرف بها وعبدوا الأوثان «لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 14» هل تقتفون آثارهم فتستحقون الإهلاك مثلهم أو تعملون خيرا فتستوجبون النجاة في الدنيا من عذاب الاستئصال والجنة في الآخرة والنعيم الدائم. واعلم أن كلمة كيف منصوبة بتعلمون لا بننظر قبلها لأن معنى الاستفهام فيه يمنع تقدم عامله وعليه يكون المعنى أنكم أيها الناس بنظر منّا وتحت مراقبتنا فانظروا كيف تعملون أتعتبرون بمن قبلكم فتفوزون بالنجاح، أم تعترون بما أنتم عليه فتهلكون، والله تعالى لا ريب عالم بما يقع منهم قبل وقوعه ناظر إليه قبل شروعهم فيه، وإنما قال لهم ذلك إظهارا لقوله سبحانه لعباده بأن يعاملهم معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه على حد قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الآية الثانية من سورة تبارك الملك الآتية فيظهره لخلقه ليتيقنوا أن من يعمل صالحا يجازى بأحسن منه، ومن يقترف طالحا يجازى بمثله. مطلب ذم الدنيا وحالة الرسول وعمر فيها: روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الدنيا

حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واحذروا فتنة النساء أي وفتنتها، ولا تعتروا بزخرفها وخذوا منها ما يكفيكم، ودعوا الفضل تكونوا فاضلين. قال تعالى (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الآية 77 من سورة النساء في ج 3، وليعلم أنه لم يؤت الإنسان في هذا القليل إلا قليلا، وهذا القليل إن تمنّعت به فهو لهو ولعب، قال تعالى (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) الآية 21 من سورة الحديد في ج 3، وقال تعالى (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الآية 14 من سورة العنكبوت ومثلها 32 من سورة الأنعام الآتيتين ومثلها الآية 36 من سورة محمد في ج 3، فعلى العاقل أن لا يشري حياة قليلة فانية بحياة كثيرة باقية، قال ابن عياض لو كانت الدنيا ذهبا يفنى والآخرة خزفا يبقى لوجب أن نختار ما يبقى على ما يفنى، قال تعالى (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الآية 24 من سورة لقمان الآتية. وقال صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك الدنيا بما فيها قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رءوس الناس وقذرات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم، وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد ثم هي صائرة عظما رميما، وهذه القذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها في الدنيا، فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياسهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام رءوس دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك، قال فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا. وروي أن عمر بن الخطاب دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبيه، فبكى عمر فقال صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عمر؟ فقال تذكرت كسرى وقيصر وما كانا عليه فيه من سعة الدنيا وأنت رسول الله وقد أثر الشريط في جنببك، فقال صلى الله عليه وسلم هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا،

وقد تمثل عند ما آلت له الخلافة بالآية الآتية الدالة على معنى قوله صلى الله عليه وسلم هذا وذلك أن ضيفا جاءه ذات يوم وأمامه قصعة يأكل منها وبجانبه ضيفان يأكلان على قصعة أخرى، فجلس معه فرأى عظاما وعصبا، فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال هذا الذي ترى إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايب اللحم إلى آل محمد، والذي يليه للمهاجرين والأنصار، والذي يليه للضيفان، وما بقي من عظم وعصب لعمر وآل عمر، فبهت الرجل ثم قال له عمر اعلم أيها الرجل أنا أعلم بصلاء الجداء منكم، ولكن نتركه لئلا يقال لنا غدا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) الآية 21 من سورة الأحقاف الآتية. قيل أن تيمور لنك لما أسر ببلد رم با يزيد قال له هل أنت آسف؟ قال وكيف لا، فقال لا تأسف فلو كانت الدنيا تساوي عند الله ذرة ما ملكها لمثلك أعور ومثلي أعرج، ثم قال له أتدري من الملك؟ قال أنت، قال لا، الملك من يشهد له الناس في اليوم والليلة على رءوس المنابر خمس مرات. فتدبر قوله هذا، واعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا» المعنيون بالآيات السابقة، وقد وضع الموصول فيها موضع الضمير إشعارا بالذّم لهم أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك «ائْتِ» لنا «بِقُرْآنٍ» ليس فيه عيب آلهتنا ولا ترك عبادتها «غَيْرِ هذا» الذي تتلوه علينا المملوء بما نكره المحشو بتنديد ما نعبده «أَوْ بَدِّلْهُ» بأن تجعل الآية المشتملة على سب آلهتنا آية أخرى في مدحها، ومن هؤلاء الخبثاء عبد الله بن أمية المخزومي والوليد ابن المغيرة ومكرز بن حفص وعمر بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام، وقد قالوا هذا لحضرة الرسول على طريق التجربة والامتحان ليعلموا صدق قوله وعدمه، فأجابهم الله تعالى عن التبديل لأنه في طوق البشر بقوله «قُلْ يا محمد لهؤلاء العتاة «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي» لأني لم آت به من جهة نفسي كي أتمكن من تبديل شيء منه، ولا ينبغي لي أن أفعل هذا «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي فلا أقدر أن أزيد فيه شيئا ولا أنقص البتة «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بالإقدام على تبديل

حرف أو زيادته أو نقصه «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15» هو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا، وهذا جواب لكم عما طلبتموه من التبديل، أما الإتيان بقرآن آخر غير هذا فهو خارج عن طوق البشر، فلا أقدر أنا ولا غيري عليه البتة، وهذا وما بعده في الآية رد صريح على من يقول إن القرآن أتى به محمد من عند نفسه، وكثير من آيات هذه السورة جاءت بمعرض الرد على هذا وآيات غيرها في السور الأخرى أيضا صريحة بالردّ على هؤلاء الذين يشكون يكون هذا القرآن من عند الله، وقد أكد ذلك بقوله جل قوله لحبيبه «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ» لأني أمي كما تعلمون لا أحسن القراءة والكتابة وإن تلاوتي له عليكم أمر غريب أبرزه لكم، وإن إظهار أمر عجيب خارج عن العادة وخارق لها وإن أمّيّا مثلي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء أو يجالسهم وقد قضى ردحا من عمره بين أظهركم وأنتم تعلمون ذلك إذ أنتم أميون مثلي فقراءتي عليكم كتابا بكلام فصيح يعلو على كل فصيح مشحونا بالأخبار الغيبية مما لا يعلمه إلا الله لمن أغرب الأمور وأعجبها إن كنتم تعقلون، واعلموا يا قومي أن الله تعالى لو شاء لم ينزله علي ولم يأمرني بتلاوته «وَلا أَدْراكُمْ بِهِ» ولا أعلمكم بذلك على لساني لأن الأمر منوط به وليس لي شيء منه أصلا، لأني عاجز عن الإتيان بشيء منه مثلكم وقرىء (ادرأتكم) بإسناد الفعل إلى حضرة الرسول عطفا على ما تلوته لتوحيد الضميرين، والقراءة المشهورة هي ما في المصاحف بإسناد الضمير إلى الله تعالى وهي أبلغ في المعنى «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً» مدة أربعين سنة «مِنْ قَبْلِهِ» قبل إنزاله علي من قبل الله وتلاوتي إياه عليكم، فلو كان شيء منه في نفسي لتلوت عليكم خلالها شيئا منه وهذا دليل كاف على ردّ زعمكم بأن هذا القرآن من عندي أو أني تلقيته من الغير، أو أني أقدر على الإتيان بشيء منه، وإلا لوقع منّي ولو بعض آية على طريق السهو على الأقل طيلة تلك المدة. وبما أنكم يا قوم تعلمون عدم وقوع شيء مني من هذا القرآن، ولم أقل لكم إنه أنزل علي شيء منه، ولم أدّع النبوة التي شرفني الله بها إلا بعد مضي الأربعين من عمري، وإذا علمتم هذا وتحققتم عدم ادعائي شيئا من ذلك فاعلموا أنه من عند الله، وأن البشر كلهم عاجزون عن الإتيان بآية

منه أو أقل، وعاجزون عن تبديل ما أوحي إلي منه أيضا، وإني أبرأ مما تتوهمونه وما تسندونه إلي مخافة عذاب الله ربي «أَفَلا تَعْقِلُونَ 16» ما وضحته لكم وتعترفون بأني نشأت بينكم ولم أغب عنكم لأنهم بالتعليم من الغير، فمن له منكم مسكة من عقل سليم وذهن مستقيم يعلم صحة ذلك، ويعرف بأن هذا الذي أتلوه عليكم منزل من عند الله العزيز الحكيم وكما أنكم عاجزون كلكم عن الإتيان بمثله فأنا مثلكم عاجز أيضا لأني من أحدكم فاتقوا الله وآمنوا به يا قوم لعلكم تفلحون. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة (أي بعد كما لها لأن النزول بدأ في الإحدى والأربعين من عام ولادته صلى الله عليه وسلم فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه (أي القرآن إلا شهورا) ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث فيها عشر سنين (أي يوحى إليه أيضا) ثم توفي صلى الله عليه وسلم، فيكون عمره الشريف ثلاثا وستين سنة وهو الصحيح من أقوال ثلاثة، لأن من قال إن عمره ستون سنة اقتصر على العقود وترك الكسر وهو ما بين العقدين وكل عشر سنين يسمى عقدا، ومن قال خمس وستون حصل له اشتباه في مدة الإقامة بمكة والمدينة من حساب السنة مرتين، قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ» لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم ذنبا «مِمَّنِ افْتَرى» اختلق من تلقاء نفسه «عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فنسب إليه ما لم يكن من الشريك والصاحبة والولد «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على أنبيائه فكان مجرما بافترائه هذا «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ 17» المقترفون أوزارا توجب هلاكهم في الدنيا وإهلاكهم في الآخرة وإذا كان كذلك، فاعلموا يا قوم أن من أعظم الإجرام أن آتيكم بشيء ليس من عند الله وأقول لكم هذا من عنده فكيف يسوغ لي أن أجرؤ على ذلك أو يتسنى لي الإقدام عليه كلا لا يجوز لي ذلك أبدا فأكون مفتريا على الله مزورا عليكم بهتا واختلافا، ولكنكم أنتم افتريتم على الله تعالى فنسبتم له شريكا وصاحبة وولدا وهو منزه عن كله، ونسبتم لي الافتراء والسحر والكهانة والتعليم من الغير، وأنا بريء من ذلك كله، فكنتم مجرمين مستحقين عذاب الله، قال تعالى «وَيَعْبُدُونَ» هؤلاء الكفرة المكذبون أوثانا «مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ» إن تركوا

عادتها «وَلا يَنْفَعُهُمْ» إن عبدوها لأنها حجارة لا تحس بالتعظيم والتبجيل والعبادة التي هي أعظم أنواع التعظيم لا تليق إلا لمن يضر وينفع بأن يقدر على الإحياء والإماتة والخير والشر والصحة والمرض والفقر والغنى «وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ» الأوثان جهلا منهم وسخافة بهم «شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» مع علمهم بأنها لا تضر من جحدها ولا تنفع من اعترف بها، ويقولون ما حكى الله عنهم في الآية 3 من سورة الزمر الآتية (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) كما سيأتي بعد من أن هؤلاء العتاة توهموا أن عبادة الأوثان أشدّ وأكثر، في تعظيم عبادة الله وحده لزعمهم أنهم ليسوا بأهل لأن يعبدوا الله الإله الواحد رأسا، بل يعبدون هذه الحجارة والأخشاب، تقربا إلى الله تعالى، ويقولون إنها واسطة بينهم وبينه وإنها تشفع لهم عنده في الدنيا لإصلاح معاشهم، إذ جعلوها على صور رجال صالحين بزعمهم ذوي خطر عندهم ومكانة عالية، أما الآخرة فلا يحسبون لها حسابا لأنهم لا يعتقدون بالبعث بعد الموت، وقد حكى الله عنهم بقوله عز قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) الآية 39 من سورة النحل الآتية، ومن يقول منهم على طريق الشك إن هناك آخرة فيعتقدون أنها تشفع لهم فيها أيضا عند الله إن كان هناك آخرة على ما يزعم محمد وأصحابه فيها بعث ونشور وحساب وعقاب وجزاء، وإن الشفاعات تنفع لأن محمدا يقول بها فإنا نتخذها لتشفع لنا أيضا وقد عبدناها في الدنيا لتكون شافعة لنا في الآخرة، أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحارث يقول إذا كان يوم القيامة شفعت اللّات والعزّى وفيه نزلت هذه الآية ونزولها فيه لا يقيدها بل تشمل كل من قال قوله بشفاعة الأوثان أو اشتراكها مع الرحمن «قُلْ» يا أكرم الرسل «أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ» وجوده «فِي السَّماواتِ» «وَلا فِي الْأَرْضِ» وتسمونه شريكا له وشفيعا عنده، وهو لا يعلم له شريكا البتة ولم يعط الشفاعة لديه أحدا من أهل السموات والأرض إلا لمن يرضاه ولم يفوض من يرضاه بالشفاعة إلا لمن يرتضيه «سُبْحانَهُ وَتَعالى» من أن يتفوّه أحد بمثل ذلك عليه، وله البراءة والتنزيه «عَمَّا يُشْرِكُونَ 18» معه من الأنداد والأضداد، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا. قال تعالى «وَما كانَ النَّاسُ»

في عهد آدم عليه السلام «إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً» حنفاء لله متفقين على عبادته وطاعته واستمر الأمر كذلك إلى أن أغوى إبليس قابيل فقتل أخاه هابيل «فَاخْتَلَفُوا» بعد هذه الحادثة الأولى من نوعها لأنه أول شر وقع على وجه الأرض، فتفرقوا من أجلها، إذ أن قابيل أخذ أخته وهرب من وجه أبيه، وبقي آدم ومن معه على عبادة الله وطاعته، وكفر قابيل ومن معه، فصاروا قسمين مؤمنين وكافرين، وهذا التفسير أولى من القول بأن الناس كانوا أمة واحد متفقين على الكفر والمكر من زمن نوح عليه السلام، مستدلا بقوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية 13 من سورة البقرة في ج 3، لأن هذه الآية تنطبق على قوم نوح عليه السلام إذ بعث فيهم وكلهم كافرون، ولذلك عمهم الله بالعذاب ولم يبق على وجه الأرض منهم أحدا إلا نوحا ومن آمن به، كما فصلناه في الآية 58 من الأعراف في ج 1، ولهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة هود الآتية. هذا إذا كان المراد بالناس على الإطلاق فيجوز أنهم كانوا كذلك وتفرقوا ببعثته عليه السلام، إذ خالفوا أمره واختلفوا فيما بينهم على إجابة دعوته، هذا إذا كان المراد بالناس العرب خاصة، فيكون المعنى أنهم كانوا على دين الإسلام من عهد إسماعيل عليه السلام، إذ أن أباه إبراهيم عليه السلام سمى أتباعه المسلمين كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3، وبقوا مسلمين إلى أن غيرّه عمرو بن لحى، إذ سن لهم عبادة الأوثان، وهو أول من عبدها، إذ أنهم كانوا على الفطرة السليمة الصحيحة أول الخلق، ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه والمراد بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام لأنه دين الفطرة دين الحق والصدق. والتفسير الأول أولى، لأن الاختلاف وقع بعد حادثة ابني آدم عليه السلام كما ذكرناه آنفا. وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يخبره ربه عز وجل بأن لا مطمع لصيرورة الناس كلهم على دين واحد كما يريد لأن الله أراد ذلك كما سيأتي في الآيتين 117/ 118 من سورة هود الآتية، قال تعالى «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي جعله لكل أمة أجلا وقضى بسابق أزله تأخير العذاب عن

[سورة يونس (10) : الآيات 21 إلى 30]

قومك وإمهالهم للإيمان به «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل عقوبة المكذبين وعدم إمهالهم، ولكان إنزال العذاب العاجل بهم فصلا بينهم «فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 19» ولأراهم المحق من المبطل وأهل النعيم من أهل الجحيم حالا، ولكن اقتضت حكمته ذلك التأخير ليبلغ كل منهم جهته المتجه إليها بأعماله التي يزاولها وإظهار ما خفي في نفسه إلى الناس، ليعلموا أن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، لأن من مفاد رحمته التي سبقت غضبه تأخير القضاء فيهم ليوم القضاء، قال تعالى حاكيا جنايتهم الأخرى «وَيَقُولُونَ» لبعضهم كفرة قومك يا سيد الرسل «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» محسوسة مشاهدة كآية موسى عليه السلام اليد والعصا وآية عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص لآمنا به، وبما أنه لم يأت بشيء من ذلك ولا مما اقترحناه عليه مما ذكر في آية الفرقان 6 فما بعدها، وآية الإسراء 90 فما بعدها المارتين في ج 1 فلا نؤمن به «فَقُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء العمه القلوب الذين أعمى الطيش أبصارهم وملأ الحمق قلوبهم إنما تطلبونه من الغيب و «إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» وحده اختص به نفسه وليس من خصائص البشر مثلي «فَانْتَظِرُوا» حصول ما تطلبونه من الآيات من الله الذي أعطاها للأنبياء قبلي «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 20» ذلك لأن الأنبياء لم يأتوا بالآيات من أنفسهم، وهذه الآية جواب لهم وتهديد ووعيد بأنهم إذا لم يكتفوا بما أنزل الله من القرآن والآيات الأخر كانشقاق القمر والأخبار بالغيبات فإن الله تعالى ينزل بهم عذابه فلينتظروه لأن سؤالهم هذا بعد ما أراهم الله من الآيات على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عبارة عن تعنت وعناد، ولو أنصفوا لاكتفوا بالقرآن العظيم الباقي إعجازه على ممر الدهور، لأنه الآية الكبرى والنعمة العظمى، قال تعالى «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من خصب وسعة وصحة وجاه «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ» قحط وفقر ومرض وذلة «مَسَّتْهُمْ» حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، أسند جل شأنه ضمير إذاقة الرحمة إليه وضمير الضراء إليهم ليتعلمّ الناس الأدب بتعاليم الله تعالى المبينة في هذا القرآن، فيسندوا كل ما يدل على الخير إليه تعالى وما يدل على الشر إليهم أنفسهم، وليتأدبوا أيضا بعضهم مع بعضهم بمقتضى تفضيل الله

مطلب الأنواء والحكم الشرعي فيها والإبرة المحدثة:

بعضهم على بعض فيعرفوا قدر ذوي المكانة منهم فيخاطبوهم بما يليق بهم، فهو أحرى بقضاء حوائجهم عندهم واحترامهم لديهم «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ» كيد (والمكر صرف الشيء عن وجهه الظاهر لنوع من الحيلة) خفي منطوفي قلوبهم المريبة «فِي آياتِنا» إذ كذبوا بها واستهزأوا بمن أنزلت عليه من الأنبياء الأقدمين كفعل قريش بمحمد رسولهم. مطلب الأنواء والحكم الشرعي فيها والإبرة المحدثة: أخرج في الصحيحين عن زيد ابن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء (أي مطر وسمي سماء لأنه يقطر منها) كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس، فقال هل تدرون ماذا قال ربكم، قالوا الله ورسوله أعلم، قال قال أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. والنوء جمع أنواء وهي منازل القمر عند العرب فإذا طلع نجم سقط نظيره فيستدلون من ذلك على وجود مطر أو ريح كالمنجمين، فمنهم من ينسب ما يحدث من المطر والريح إلى تأثير الطالع، ومنهم ينسبه إلى تأثير الغارب، ومعلوم أن العلماء استحدثوا الإبرة التي تتأثر من وجود الريح والمطر وغيره في الجو قبل وصوله إلى المحل الذي فيه الإبرة، فيخبرون بما يرون من تأثيرها من تموجات الجو، وقد أشار إلى هذا القرآن الكريم بقوله جل قوله: (هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الآية 57 من الأعراف المارة فراجعها تعلم حقيقة قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من الأنعام الآتية، روي أن الله تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة، حتي كادوا يهلكون، ثم رحمهم الله تعالى بالحيا أي المطر، قال الأبوصيري: إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم. فلما رحمهم وخصبت أراضيهم وكثر عليهم الخير، طفقوا يطعنون بآيات الله ويعادون رسوله ويكذبونه ويقولون لم نمطر بدعائه ولا ببركته، وإنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية. لحكم الشرعي: هو أن من يعتقد أن للنجوم والأنواء تأثيرا فعليا بإنزال المطر

وغيره من دون الله فهو كافر، وما جاء بالحديث الشريف المذكور أعلاء يصرف لهذه الفئة، أما من يعتقد أن التأثير عندها لا بها وينسب الفعل إلى الله تعالى فلا يكفر، وكذلك من يعتقد أن التأثير بها على معنى أن الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة فمتى شاء أثرت ومتى شاء لم تؤثر، وكذلك من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها لا يكفر، والأولى عدم اعتقاده بذلك أيضا، وأما من يستدل بذلك على حدوث المطر والريح وأنه قد يحصل بإذن الله تعالى وقد لا يحصل فلا شيء عليه لأنه لم يجزم بالحصول كما أن الإبرة، إنما تدل عند ترطب الجو على حصول المطر أو حصول أرباح وزوابع لتأثرها بذلك كما ذكرنا آنفا، وأنه قد يقع ما تدل عليه خلال أربع وعشرين ساعة، وقد لا يحصل ما تدل عليه لطوارئ طرأت على تبدل حالة الجو التي كانت عليه أولا، وهذه لا تعارض قوله تعالى في الآية الأخيرة من سورة لقمان الآتية الدالة على أن نزول الغيث خاص بعلمه تعالى، لأنه في الحقيقة لا يعلم وقت نزوله إلا الله، كما أن الغيب لا يعلمه غيره، لأن الإبرة المذكورة لا تدل على أنه ينزل ساعة كذا أو دقيقة كذا، لأنها إذا بقي الجو على حالته قد تصدق خلال أربع وعشرين ساعة وإلا فلا، لأنه من علم الغيب وذلك من التوسم الداخل في قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) الآية 75 من سورة الحجر الآتية، قال تعالى «قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً» منكم وأعجل عقوبة وأشد أخذا، ثم هددهم بقوله «إِنَّ رُسُلَنا» الملائكة الموكلين بحفظكم في الأرض من طوارق الجن والشياطين «يَكْتُبُونَ» في صحفهم «ما تَمْكُرُونَ 21» في هذه الدنيا وتعرض عليكم صحفهم في الآخرة لتجازون بمقتضاها، وهناك يتضح ما كنتم تخفونه من المكر وغيره قابل الله تعالى مكرهم بأشد منه، إذ خبأ لهم جزاء كيدهم إلى يوم القيامة وأمهلهم في هذه الدنيا ليزدادوا إنما. واعلم أن عرض صحف الملائكة على الناس كأفلام السينما الآتي بيانها في الآية 29 من آل عمران في ج 3 والآية 49 من سورة الكهف الآتية، قال تعالى «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ» يا أهل مكة كغيركم «فِي الْبَرِّ» على دوابه وانعامه «وَالْبَحْرِ» على فلكه وسفنه ويهديكم إلى مقاصدكم بالعلامات الأرضية من الأودية والجبال والأنهار والعلامات السماوية من

النجوم السيارة والثابتة ويسهل لكم أسباب معايشكم «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ» أي الفلك بأداة الجمع، لأن فلكا يطلق على الواحد والمتعدد وصرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريق الالتفات أحد أبواب البديع قصدا للمبالغة، كأنه يذكرها لهم بغيرهم ليعجّبهم منها ويطلب زيادة الإنكار، لأن الالتفات على الوجه المار ذكره أو بعكسه من أنواع الفصاحة في الكلام «بِهِمْ» بركاب تلك السفن «بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» لينة الهبوب لا خفيفة ولا عاصفة، وما قيل إنها ساكنة فيكون المراد بها هذا المعنى لا إنها واقفة، إذ لا يستفاد منها بالسير «وَفَرِحُوا بِها» ركابها لموافقتها لمقصودهم ولوجود النفع التام بها والمسرة العظيمة لاستقامة سيرهم وتيسيره «جاءَتْها» جاءت تلك السفينة السائرة بذلك الهواء اللين أو جاءت تلك الريح الطيبة «رِيحٌ عاصِفٌ» شديد سريع الجريان قاطع للأجسام الصلبة ولم يقل عاصفة لأن عاصفا يستوي فيه المذكر والمؤنث «وَجاءَهُمُ» أي ركاب ذلك الفلك بسبب تلك الريح «الْمَوْجُ» هو ما علا وارتفع من اضطراب المياه وغواربها من شدة حركة ماء البحر واختلاطه بعضه ببعض «مِنْ كُلِّ مَكانٍ» من أطرافهم الأربع ومن تحتهم وفوقهم «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» من الجهات الست، وأشرفوا على الغرق وتيقنوا الهلاك، «دَعَوُا اللَّهَ» وحده لا غير «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» إخلاصا حقيقيا لعلمهم يقينا أنه لا ينجيهم من الشدائد والبلايا إلا هو وأن أوثانهم لا تغني عنهم شيئا من ذلك قائلين «لَئِنْ أَنْجَيْتَنا» يا ربنا «مِنْ هذِهِ» الشدة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22» أنعامك علينا بخلاصنا موقنين بأنك الإله الواحد، مؤمنين بصدق أنبيائك، متمسكين بطاعتك، ولم يقولوا لنشكرنّك مبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه، لأن اسم الفاعل يدل على الدوام والتجدد، والفعل يدل على الإنشاء فقط، قال تعالى «فَلَمَّا أَنْجاهُمْ» الذي استغاثوا به جل جلاله من ذلك الضيق الذي أحاط بهم بسبب التجائهم إليه «إِذا هُمْ يَبْغُونَ» يفسدون «فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» يعبثون بمن يمشي عليها ويتجاوزون عليهم ويعملون بغير ما أمروا وأخلفوا ما وعدوا الله به من الشكر والإيمان، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ» الباغون المتجاوزون

مطلب البغي ومتى يكون مذموما ومتى يكون ممدوحا وحكمه:

على الغير «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» يعود إثمه ووباله، قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) الآية 45 من سورة الجاثية ونظيرتيها الآية 56 من سورة الشورى الآتيتين، واعلموا أنكم تتمتعون يبغيكم هذا «مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» مدة حياتكم فيها وهي قليلة «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة الدائمة «فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 23» بأن نخبركم في الآخرة عن أعمالكم في الدنيا ونجازيكم عليها الخير بأخير منه وانشر بمثله. مطلب البغي ومتى يكون مذموما ومتى يكون ممدوحا وحكمه: ولما كان البغي قد يكون بحق مثل هدم دور الكفرة والمعاندين وقطع أشجارهم وحرق زروعهم عند ما يستولي المسلمون عليها عنوة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في يهود بني قريظة الآتية قصتهم في الآية 26 من سورة الأحزاب، والآية 5 من سورة الحشر، ويكون بغير حق كأخذ مال الغير ظلما ومجاوزة حدود الله تعالى عتوا، قيّد تبارك وتعالى البغي في هذه الآية بغير الحق لأنه مذموم، وقد يكون البغي ممدوحا وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع، والقصاص إلى العفو، والحق إلى السماح، لأن معناه اللغوي مجاوزة الحد مطلقا، وقد تكون هذه المجاوزة في الخير كما ذكرنا فيكون ممدوحا، وقد يكون في الباطل فيكون مذموما، وهو بمعناه هذا من أعظم منكرات الذنوب، لأن معناه الاصطلاحي الإفساد والتجاوز على أموال الناس وأنفسهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما، وقد نظم بعضهم معنى هذه الجملة في بيتين من الشعر وكان الخليفة المأمون العباسي رحمه الله يتمثل بهما وهما: يا صاحب البغي إن البغي مصرعه ... فارجع فخير مقال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل ... لا ندك منه أعاليه وأسفله وقال أيضا: لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السهل والجبل ونظمها أيضا الشهاب فقال: إن يعد ذو بغي عليك فخله ... وارقب زمانا لانتقام باغي

واحذر من البغي الوخيم فلو بغى ... جبل على جبل لدك الباغي وأقبح أنواع البغي في الحكام قال بهرام وهو لا يعرف الإسلام: أسد حطوم خير من ملك غشوم، وملك غشوم خير من فتنة تدوم، فكيف بمن هو مسلم مؤمن؟ وإن العقلاء حذّروا من غلطة السلطان العادل فكيف بغيره؟ قال الإسكندر: على العاقل أن يكون مع السلطان كراكب سفينة، إن سلم جسمه من الفرق لم يسلم قلبه من الخوف. أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث هنّ على أهلها المكر والنكث والبغي، ثم تلا عليه الصلاة والسلام هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إلخ، وتلا (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية 43 من سورة فاطر المارة في ج 1، وتلا (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية 10 من سورة الفتح في ج 3. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وأخرج أيضا من طريق بلال بن بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يبغي على الناس إلّا ولد بغي أو فيه عرق منه. هذا، وقرىء متاع بالرفع على أنه كلام مبتدأ أي بغي بعضكم على بعض باطلا هو متاع الحياة الدنيا، ولا يصلح لزاد الآخرة. وقراءة الفتح التي جرينا عليها تبعا لما في المصاحف أولى، لأن الكلام متصل بما قبله، ولأن المعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيا إلا أياما قليلة، فأقلعوا عنه خير لكم، قال تعالى «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا» في زوالها وفنائها وقصر مدة التمتع فيها، والمثل ما شبه مضربه بمورده أي يؤتى بما وقع على ما لم يقع ويستعار للأمر العجيب المستغرب أي إنما حالها في سرعة تقضّيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها «كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ» بذلك الماء «نَباتُ الْأَرْضِ» اشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا لأن الماء كالغذاء للنبات فيجري فيه مجرى الدم من ابن آم «مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ» كالبقول والزروع والحشيش والمراعي «حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها» حسنها ونضارتها وبهجتها باختلاف

أنواع النبات وألوان أزهاره من أحمر وأصفر وأزرق وأبيض وأسود وبين ذلك «وَازَّيَّنَتْ» بنباتها وارواءها فصارت كالعروس إذا نزخرفت بالثياب والحلي واللباس المقول فيه: كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبّغة والبعض أقصر من بعض وزد على ذلك التطرية والتجميل لما يظهر من جسمها «وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها» أي تحقق لأهل الدنيا تمكنهم من إبداع الشؤون الغريبة والأحوال العجيبة بما شاءوا فيها من بناء رفيع وملك خطير وأموال وأولاد وخدم وحشم ورياش وقدروا باقدار الله إياهم على أشياء لم تكن قبل وانقادت لهم معادنها، وفاضت لهم خزائنها وأطلعهم الله على ما كان كامنا فيها ومخبوءا بين طبقاتها من المنافع، فغاصوا تحت البحار، وطاروا في الهواء، وساروا في الأسراب، وعملوا المدمرات والصواريخ، وكلم أهل الغرب أهل الشرق والجنوب الشمال، ورأى بعضهم بعضا بالمرائي المبدعة على البعد ومع الحواجز، وفعلوا ما أرادوا وتصوّروا وتخيّلوا وظنوا أنهم قادرون على كل ما يريدون، ونفخ فيهم إبليس ولبسهم العجب فتعاظموا وتكابروا وبغى بعضهم على بعض، ووليهم أرذلهم، والتهم القوي الضعيف، واستخدم الخرق الشريف، وأعرضوا عن الله، وطغوا في البلاد، وتحكموا في العباد، ولم يبق فيهم من ينهى عن منكر أو يأمر بمعروف، واستحقوا معاجلة عذاب الله كما إذا استحصد الزرع «أَتاها أَمْرُنا» بالإهلاك فأوقعناه فيهم فجأة في زمن لم يتوقعوه في جزء من الليل أو جزء من النهار، وهذا الجزء قد يكون «لَيْلًا» عند أناس «أَوْ نَهاراً» عند آخرين بسبب حيلولة كرة الأرض من الشمس «فَجَعَلْناها» أي الحياة الدنيا بالنسبة لأهلها ومن عليها أي الأرض الجسمية العظيمة بأعين أهلها، وما أقيم عليها من جبال وحصون وقصور وأودية وأنهار وأشجار «حَصِيداً» كالنبات إذا حصده أهله فلم يبقوا منه شيئا ولم يتركوا له أثرا لأنهم يستأصلونه لحاجة التين لدوابهم، ولكن مهما كان استئصالهم له فلا يكون مثل ما إذا كان بحادث سماوي، إذ تكون تلك الأرض وما كان عليها مما ذكر «كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» أي كأن لم تكن تلك الأرض وكأن لم يكن فيها

أحد مقيما قبل، لأن غني بمعنى أقام بالمكان، وهو هنا منفي أي كأن لم يلبث فيها أحد ولم يكن فيها شيء، كما أن الأرض بعد حصاد زرعها إذا رأيتها تقول كأنها لم تزرع، والأمس مثل في الوقت القريب، كأنه قيل لم تغن آنفا. ويطلق على اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وله أوجه في الإعراب والبناء، راجع فيه شذور الذهب في علم النحو، وفيه أن المكسور قد يراد به مطلق اليوم، أي لا يختص باليوم الذي قبل يومك. ضرب الله تعالى هذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وتكبر على أهلها وأعرض عن الآخرة وازدرى الداعي إليها بنبات برز في الأرض ضعيفا فقوي بالماء وحسن واكتسى كمال رونقه، ففاجأته صاعقة أو برد أو ريح عاصف فجعلته حصيدا كأن لم يكن زرع أصلا، ونظير هذه الآية الآية 45 من سورة الكهف الآتية وقد شاهدنا مرارا عند ما يقع البرد على الزرع يترك محله أرضا يابسة كأنها لم تزرع، وكذلك الطاغي الباغي مهما بلغ من زهو الدنيا وعظمتها، فإن أجله يفاجئه على حين غفلة فتقصفه قصفا على غرة، ويكون كأن لم يكن وجد في الدنيا «كَذلِكَ» كما فصلنا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفناكم مصيرها «نُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالة على قدرتنا المنبهة على أحوال الدنيا وعواقبها «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 24» فيها ويعتبرون بما فيها فيقفون على حقائقها ويفقهون معانيها، وخص المفكرين لأن غيرهم لا ينتفع بها ولا يتوصل إلى إزالة الشك والشبعة التي تحوك في القلب لما رسب فيها من الرين والصدأ المتكاثف الذي حجبها عن التفكر في ملكوت الله، قال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الآية 15 من سورة المطففين الآتية وأمثال هؤلاء هم الذين حكى الله عنهم بقوله (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) الآية 6 من سورة فصلت الآتية قال تعالى «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ» من كل مكروه دار الأمان من كل مخوف التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهي الجنة التي يسلم الله تعالى وملائكته فيها على أهلها، وهذه الدار هي الموصوفة بقوله عزّ قوله (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) الآية 27 من الواقعة المارة في ج 1، وهذه هي التي يدعوكم إليها ربكم أيها الناس لا إلى

مطلب معنى الزيادة ورؤية الله تعالى:

زهرة الدنيا الذابلة المحشوة بالمكاره المملوءة بالمخاوف التي هي على شفا جرف هار «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 25» موصل إلى دار النعيم وهذه الدعوة عامة من الله تعالى إلى خلقه كافة على لسان رسوله بالدلالة، إذ حذف مفعولها والهداية خاصة لمن يشاء منهم لإثبات مفعولها، وهي مساوية للإرادة. جاء عن جابر قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم إنه نائم، وقال بعضهم العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا إن لصاحبكم مثلا فاضربوا له مثلا. وفي رواية خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما للآخر نضرب له مثلا، فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المائدة. فقالوا أولوها ليفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان، فقال بعضهم الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس. قال تعالى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل وعبدوا الله حق عبادته لأن حضرة الرسول فسّر الإحسان الوارد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب بما نصه: قال أي الرجل الموصوف أول الحديث وهو جبريل عليه السلام، أخبرنى عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك. فهؤلاء الذين هذه صفتهم لهم «الْحُسْنى» الجنة سميت حسنى إذ لا أحسن منها البتة وعرفت فانصرفت إلى المعهود السابق في قوله تعالى (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) «وَزِيادَةٌ» على الحسنى هي رؤية الله تعالى التي لا توازيها رؤية، وهي عند أهل الجنة أحسن من كل شيء. مطلب معنى الزيادة ورؤية الله تعالى: ولا زائد على نعيم الجنة إلّا رؤية الله تعالى المنعم بها، يدل على هذا ما رواه صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى أتريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر

إلى ربهم تبارك وتعالى، ثم تلا هذه الآية- أخرجه مسلم- وقال به عكرمة والحسن والضحاك ومقاتل والسدي أخذا من قول أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، قال في بدء الأمالي: فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال ومما يؤكد هذا قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 23 من سورة القيامة المارة في ج 1، إذ ثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما النضارة وهي حسن الوجه من نعيم أهل الجنة، والثاني النظر إلى وجه الله تعالى كما هنا، قال الحسن إن الحسنى هي الجنة والزيادة هي العلاوة، وما هي هذه العلاوة المنكرة تعظيما لشأنها هي رؤية الله تعالى، فأثبت لهم في هذه الآية أمرين أيضا، الأولى الجنة والثانية الرؤية، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وقد تقدم بحث الرؤية بصورة مفصلة في تفسير الآية 18 من سورة والنجم، والآية 23 من سورة القيامة، والآية 143 من الأعراف، والآية الأولى من سورة الإسراء المارات في ج 1، فراجعها ففيها ما ترومه من هذا البحث وزيادة قال تعالى «وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ» لا يغشاها غبرة يشوبها سواد «وَلا ذِلَّةٌ» من أثر هوان مما يرهق وجوه أهل النار من الكآبة والكسوف والاكفهرار بسبب ما يعرض لهم من الحزن وسوء الحال والعياذ بالله «أُولئِكَ» بيض الوجوه الكرام الأعزاء «أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 26» لا يخرجون منها أبدا «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ» العظام كالشرك والكفر بدليل التعريف فيكون لهم «جَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملوها في الدنيا «بِمِثْلِها» في الآخرة وهذا عدل منه تعالى، إذ لا يقضي بعقابين على سيئة واحدة بل عذاب واحد، وفيه تنبيه على أن الحسنة يضاعف ثوابها فيعطى بدل الواحدة عشرة إلى سبعمئة إلى ما يشاء، وهذا فضل منه على عباده «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» زيادة على ما يغشى وجوههم من الفتر والاكفهرار، وقلوبهم من الخوف والهوان مما هيء لهم من العذاب وما ظهر لهم من الخيبة لدى أوثانهم التي كانوا يرجون شفاعتها وتبين لهم أنهم «ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يمنعهم من عذابه أو يحول دون وصوله إليهم إذا نزل بهم، كما يكون للمؤمنين شفعاء عند الله يشفعون

مطلب الأوثان وما يقع بين العابدين والمعبودين:

لهم بإذنه وتصير صفة هؤلاء «كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ» من أثر الذل والهوان والفتر «قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» لشدة ما يغشاهم من السواد والعياذ بالله «أُولئِكَ» الموصوفون بالإهانة المشوه وجوههم بالسواد المشبه بطائفة من الليل أو ظلمة آخره «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 27» لا يخرجون منها أبدا، ولا دليل في هذه الآية على خلود أهل الكبائر بداعي أنها هي السيئات المرادة في هذه الآية، لأن لفظ السيئات شامل للكفر والمعاصي، وقد قامت الأدلة على عدم خلود العصاة المؤمنين، فخصصت الآية بمن عداهم، وقسمنا في الآية 59 من سورة مريم المارة في ج 1 ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. مطلب الأوثان وما يقع بين العابدين والمعبودين: قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» مؤمنهم وكافرهم إذ نجمعهم من كل ناحية إلى موضع واحد وهو موقف الحساب، فتدخل المؤمنين الجنة بدليل قوله تعالى «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا» بعد أن نعزلهم عن المؤمنين في المحشر بقوله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» الآية 70 من سورة يس المارة في ج 1 ما معناه الزموا «مَكانَكُمْ» لا تبرحوه «أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ» الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا لتسألوا عن عبادتهم بحضورهم «فَزَيَّلْنا» فرقنا بينهم بعد ما أمرناهم بالثبات في مواضعهم وباعدنا «بَيْنَهُمْ» بين العابدين والمعبودين وقطعنا ما بينهم من التواصل بتمييز بعضهم عن بعض، وسألنا المعبودين على حدة، فأنكروا تصدرهم للعبادة، ثم جمعناهم وسألناهم، فأجابوا بمواجهة العابدين ما ذكره الله بقوله عز قوله «وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ 28» وهذا جواب تبر عن عبادتهم وردّ لقول العابدين إنا كنا نعبدكم، ولا يقال كيف نطقت، لأن منها ما هو جماد وهي إما أن تكون منحوتة من حجر أو خشب أو معمولة من طين أو غيره، فلا يتسنى لها النطق ولا يتيسر، لأن الله تعالى الذي حشرها لهذه الغاية أهّلها في ذلك اليوم للنطق بذلك، وكذلك الحيوانات والكواكب، قال مجاهد تنتصب لهم الآلهة فتقول لهم والله ما كنا نسمع دعاءكم، ولا نبصر عبادتكم،

ولا نعقل ما تقولون، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا، فيقول الكفار والله إياكم كنا نعبد، فتقول الأوثان «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إن» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان «كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» 29 أي أن شهادة الله كافية على أننا لم نعلم بعبادتكم فضلا عن أننا جماد لا نشعر بشيء، وهذا ظاهر في الأوثان لأنها غافلة لا تعلم شيئا من ذلك، أما غيرها من العاقلة المتنبّهة العالمة كالملائكة وعزير والمسيح فتؤول كلمة غافلين بحقهم على عدم الرضاء بعبادتهم، كما تؤول على عدم الشعور بحق الأصنام، فيقول هؤلاء إنا لم نلق لعبادتهم بالا، ولم نرض بها، وكنا غافلين عنها، وتقول الأصنام إنا لم نشعر بعبادتهم ولا نعلم بها. هذا إذا كانت الملائكة وعزير والمسيح عالمين بعبادة العابدين لهم يكون جوابهم على نحو ما ذكر آنفا، أما إذا لم يكونوا عالمين بها وهو أولى لأن الله تعالى لما سأل الملائكة عن الأسماء قالوا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) الآية 32 من سورة البقرة، وكان صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل عن أشياء أحيانا فيقول له لا أعلم، ولقول عيسى عليه السلام جوابا لربه أيضا (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية 115 من المائدة في ج 3، مما يدلّ على عدم شعورهم لعبادة عابديهم، وعلى هذا يكون معنى غافلين بحقهم أيضا مثل معناه في حق الأصنام لتساويهم في عدم العلم. ولا يخفى أن الملائكة الذين عبدوا غير الحفظة الملازمين لبني آدم. وهنا سؤال وهو هل يفني الله الأوثان بعد حشرها وسؤالهم أم لا؟ والجواب والله أعلم عدم إفنائها أي عدم صيرورتها ترابا كالحيوانات، وإنما تحشر وتسأل عن عبادتها فتنكر وتتبرأ مما أسند إليها كما هو صريح الآيات، إذ بضع الله فيها قوة النطق والدفاع، ثم إنها تدخل النار مع عابديها وتحترق معهم بدليل قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الآية 98 من سورة الأنبياء الآتية ولا اعتراض على أفعاله تعالى من أنها لم تعقل الاحتراق ولم تحس به لأن الذي جعل فيها قوة النطق يجعل فيها قوة الإحساس لا يسأل عما يفعل، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أما الحيوانات فقد دلّ النص على فنائها كما سيأتي آخر سورة عمّ الآتية، ولهذا البحث صلة في الآية 22 من سورة الأنعام الآتية «هُنالِكَ» في ذلك الموقف العظيم والهول العميم

[سورة يونس (10) : الآيات 31 إلى 40]

«تَبْلُوا» تختبر وقرىء تتلو بتاءين أي تقرأ أو تتبع «كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ» من خير أو شر لأن العمل هو الذي يهدي النفس إلى الثواب أو العقاب «وَرُدُّوا» مع ما يظهر لهم من العمل «إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» مالكهم ومدبّر أمورهم ومحاسبهم عليه بالعدل المنفرد في ربوبيته، لا ما كانوا يتولونهم في الدنيا مما لا حقيقة له بالربوبية، لأن كلمة مولى تأتي بمعنى المالك وتأتي بمعنى الناصر كما في قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) الآية 11 من سورة محمد في ج 3، كما أنها تأتي بمعنى السيد وبمعنى العبد قال: ولن يتساوى سادة وعبيدهم ... على أن أسماء الجميع موالي ومثل هذه الكلمات تؤول في كل محل بما يتاسبها بحسب المقام «وَضَلَّ عَنْهُمْ» خفي وضاع وغاب «ما كانُوا يَفْتَرُونَ 30» في الدنيا من الأصنام والأوثان بأنها شركاء لله أو أنهم يشفعون لهم، أما من عبد وهو يعلم وقد أمر الناس بعبادته كنمرود وفرعون فهؤلاء لا يشفعون ولا يؤذن لهم فيعتذرون بل يساقون على وجوههم سحبّا إلى جهنم والله أعلم. فيا أكرم الخلق. «قُلْ» هؤلاء المشركين «مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» غيثا ونباتا أأوثانكم أم الله «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ» فلا يقدر أن يسمع أحدكم صاحبه إلا بإذن الله «وَالْأَبْصارَ» فلا يستطيع أن يبصر أحدكم صاحبه بها إلا بأمر الله لأنه هو الملك الحقيقي المالك لجوارح الإنسان والحيوان وهو الذي يحميها من الآفات والطوارئ إن شاء الله مدة الحياة مع ما هي عليه من اللطافة، إذ يؤذيها كل شيء، ومن يقدر على خلقها وتسويتها على هذه الصورة العجيبة والهيئة البديعة إلا الله، وإن من يقف على علم التشريح يرى ما يبهر العقل كما بيناه في الآية 28 من سورة فاطر المارة في ج 1 ويحيّر اللبيب، فسبحان الإله الفعال النادر. وليعلم أن علم التشريح يزيد في الإيمان ويقوي العقيدة لمن يريد الله هدايته «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» المؤمن من الكافر، والفرخ من البيضة، والزرع من الحبة في الأرض والإنسان والحيوان من النطفة في الرحم «وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» الكافر من المؤمن، والبيضة من الطير، والحب من الزرع، والنطفة من الإنسان والحيوان «وَمَنْ يُدَبِّرُ

الْأَمْرَ» في هذا الكون الجسيم علويه وسفليه آلله أم أوثانكم؟ «فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» أي أنهم يجيبونك اضطرارا بأن الفاعل لذلك كله هو الله «فَقُلْ» لهم إذا «أَفَلا تَتَّقُونَ 31» هذا الرب الكبير الفعال لهذه الأشياء وغيرها وكيف تعبدون غيره مما لا يعقل شيئا وهو عاجز عن نفع نفسه ودفع الضرّ عنها. وليعلم أنه لا يوجد نص صريح على أن الله تعالى هو في السماء أو الأرض، وأما ما جاء من أنه جل جلاله في السماء على المعنى اللائق به تعظيما لشأنه لا على ما نتصوره نحن، وأن قوله صلى الله عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قل لها أين الله؟ أعتقها فإنها مؤمنة، وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام كم تعبد يا حصين؟ فقال سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم فمن الذي أعددته لزغبتك ورهبتك؟ فقال الإله الذي في السماء. على ما يقتضيه الظاهر. ومن جملة تنزيهه تعالى نسبته للعلو، ولذلك يرفع الإنسان يديه نحو السماء في الدعاء أي إلى الخزانة المشار إليها في قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 22 من سورة الذاريات الآتية فراجعها، لا لكونه جل جلاله فيها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 13 من سورة طه المارة في ج 1، ولهذا البحث صلة في الآية 18 من سورة الأنعام الآتية، قال تعالى «فَذلِكُمُ» الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو «اللَّهُ رَبُّكُمُ» أيها الناس الإله «الْحَقُّ» الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة وحده «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ» الصريح الثابت أيها الناس «إِلَّا الضَّلالُ» الباطل، إذ لا واسطة بين الحق والباطل، وكذلك لا واسطة بين الإيمان والكفر ولا الجنة والنار، فالذي يتصف به العبد إما حقّا أو باطلا ومن أخطأ أحدهما وقع في الآخر لا محالة، لأن من وقاه الله من النار أدخله الجنة، ومن خصه بالإيمان عصمه من الكفر، وهكذا «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 32» عن الحق إلى الضلال ومن التوحيد إلى الشرك؟ سئل مالك رحمه الله عن شهادة لاعب الشطرنج والنرد، فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة، يقول الله تعالى (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فهذا كله في الضلال. والصارف في الحقيقة هو الله تعالى، والإنكار والتعجب متوجهان إلى منشأ الصرف،

وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم تعلق غرض به، وتقدم في الآية 12 المارة ما له صلة في هذا البحث فراجعه «كَذلِكَ» كما حقت الكلمة على الباغين من الأمم السابقة المتجاوزين حدود الله «حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» أي حكمه لقوله تعالى (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الآية 13 من سورة السجدة الآتية، ونظيرتها الآية 119 من سورة هود الآتية أيضا، أي وقعت «عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا» من أمتك يا محمد الذين تمردوا بالكفر وخرجوا عن حدود الله «أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 33» أي حقت عليهم الكلمة لعدم إيمانهم، وهو قضاء أزلي ولا راد لقضائه المسجل عليهم في سابق علمه، المثبت في لوحه، قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لقومك وغيرهم «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» ينشئه على غير مثال سابق كما أنشأ الله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» بعد موته كما أنشأه أول مرة، وهذا استفهام إنكاري وجوابه لا أحد يفعل ذلك، وهو احتجاج آخر على بطلان الإشراك وحقيقة التوحيد، ولا يقال إن مثل الاحتجاج إنما يأتي على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفى الإلهية، وهم غير مقرين بذلك، لأن في الآية إشارة إلى أن الاعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في ظهوره وجلائه، حدا بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى، ولظهور برهانها صارت أمرا مسلما بالبداهة وجعل ذلك الطيبي من ضعه الإدماج كقول ابن نباته: فلا بدلي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخل أودع الحلم عنده فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما، قال تعالى «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المنكرين إذا لم يجيبوك بالاعتراف «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» هو وحده لا غير، لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 34» كيف تصرفون عن قصد السبيل وتقلبون من الحق إلى الباطل لأن معنى الإفك الصرف والقلب، ومنه قول عروة بن أذينة: إن تك عمن أحسن الصنيعة مأ ... فوكأ ففي آخرين قد أفكوا

وخصّه صاحب القاموس بالقلب عن الرأي وهو أنسب في هذا المقام وهذا أمر من الله تعالى إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم ببيان من يفعل ذلك لا بأن ينوب عنهم في الجواب كما قاله بعض المفسرين بل أكثرهم، لأن القول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له، إذ ليس المؤول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه وتعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) الآية 78 من سورة الرعد الآتية في ج 3، حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلى الله عليه وسلم نائبا عنهم في ذلك، بل إنما هو وجود من يفعل المبدأ والإعادة من شركائهم، فالجواب المطلوب منهم لا لا غير، نعم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعيّنه وتحتمّه وإشعارا بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافة التبكيت، لا مكابرة ولجاجا، قال تعالى «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» فإذا قالوا لك لا وحتما ان يقولوا لا، لأن شركاءهم لا تنطق لكونها جماد «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» ويرشد له، فإذا كان كذلك قل لهم «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ» ويعبد لأنه هو الذي يعطي العقل، ويبعث الرسل، وينزل الكتب، ويوفق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات الدالات على الهدى الكائنة في الأرض والسماء «أَمَّنْ لا يَهِدِّي» يهتدي الشرع الذي يريده «إِلَّا أَنْ يُهْدى» إليه من قبل الغير كالأصنام وهدايتها عبارة عن نقلها من مكان لآخر بواسطة عابديها، هذا إذا أريد بهذه الآية الأوثان، أما إذا أريد العابدون رؤساء الكفرة فيكون المعنى أنهم أنفسهم ضالون فكيف يقدرون على إرشاد غيرهم لأنّهم محتاجون للإرشاد فلا يقدرون عليه إلا بتقدير الله إياهم وما هو بفاعل ذلك لهم، فيكون التمسك بهدايته تعالى أولى وأوجب «فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 35» بأنها آلهة فتساوونها مع الإله الذي بيده الإحياء والإماتة، وأي شيء حدا بكم إلى اتخاذ هذه الفجرة آلهة فتعبدونها وتتقربون بها زلفى إلى الله، وأي شيء ظهر لكم من منافعها حتى أشركتموها مع الإله القادر الحق القهار الفعال، وكيف تحكمون بما يأباه صريح العقل ويقر بطلانه؟ وهذا احتجاج ثالث على بطلان الشرك

وأحقية التوحيد جيء به إلزاما بعد إلزام لهؤلاء الكفرة، وجاء كل من الاحتجاجات الثلاثة منفصلا عن الآخر دون العطف عليه إيذانا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب، والسؤال في كل للتبكيت والتقريع في أقوالهم التي هي ليست بأقوى لهم، وفي أفعالهم التي هي أفعى لهم، قال تعالى «وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ» فيما بزعم من ألوهية الأصنام وشفاعتها «إِلَّا ظَنًّا» منهم بأنها أنداد لله وقضاء بالجور بشركتها له فيما يقولون ويحكمون ويتبعون من الوهم والشبه للتي لا تجدي نفعا، إذ غاية ذلك هي الظن «وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» إذ لا يقوم مقام اليقين فكيف بالظن الفاسد، لأن المراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، لأن اعتقادهم ذلك عبارة عما يستندون فيه إلى الخيالات الفارغة والّا فية الباطلة من ظنونهم الواهية كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة، ولا يلفتون إلى الحقائق ولا يسلكون مالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحقيقة، فيفهمون مضمونها ويقفون على صحتها وبطلان ما يخالفها. هذا وفي تخصيص الأتباع بالأكثر إشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على ماهية التوحيد، ويعرف أحقيته ولكن لا يتبعه مكابرة وعنادا، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم بالجواب هو أن الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك، لأن منهم من يعلم أحقية ذلك إلا أنه كان معاندا ولعل النيابة حينئذ عن الجمع باعتبار هذا البعض، على أن الأكثر قد يطلق على الكل كما قدمناه، كما أن القليل يأتي بمعنى العدم في قوله تعالى (فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ) الآية 88 من البقرة، وعليه قول القائل: قليل التشكي في المصيبات حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وحمل النقيض على النقيض حسن وطريق مسلوك «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ 36» من اتباع الظن والأفعال القبيحة وترك الحق والأعمال الحسنة وهذه الجملة تؤذن بالتهديد والوعيد، قال تعالى «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ» المنزل عليك يا حبيبي «أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال العلامة ابن حجر إن هذه الآية جواب عن قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) الآية 15 المارة، وهو طلب للافتراء في

المستقبل، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية ذلك زعمهم وقيل إن كفار مكة زعموا أن محمدا أتى بهذا القرآن من نفسه اختلاقا، فأخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه وحي أنزله الله إليه مبرأ عن الافتراء وأن محمدا والبشر كافة عاجزون عن الإتيان بمثله أو مثل شيء منه، وأن ما هو عليه من الفصاحة التي أعجزت الفصحاء وكلّت البلغاء عن معارضته وعن الإتيان ببعض نفائس ما فيه من العلوم وأخبار الماضين والأحكام والآداب ومكارم الأخلاق محقق بطلان ما يقولونه فيه ومبطل زعمهم به، فلا هو مفترى ولا مختلق ولا سحر ولا كهانة ولا من أساطير الأولين، ولا تعلمه من الغير ولا أعانه عليه أحد كما يقولون راجع الآية 4 فما بعدها من سورة الفرقان في ج 1، «وَلكِنْ تَصْدِيقَ» أي أنزله الله تعالى مصدقا «الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور وما تقدمها من الصحف السماوية المنزلة على الرسل السابقين، لأن ما فيه موافق لما فيها، ولو أنه جاء مباينا لها لطعن فيه البتة. ومن المعلوم أميّة محمد صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من عند الله لما قدر على إخبار الناس فيما هو نازل من الكتب القديمة، فضلا عن الإتيان بغيرها. فإخباره بالمغيبات الأخر وتلاوته على قومه معجزة عظيمة كافية لنبوّته، ومبرهنة على صدق نزوله من عند الله «وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ» تبيينه من الحلال والحرام والفرائض والأحكام وتوضيح ما فيه من الشرائع دليل صريح وبرهان قاطع على أنه كلام الله نازل من عنده على رسوله «لا رَيْبَ فِيهِ» بأنه «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 37» بلا شك ولا شبهة. والجار متعلق بتفصيل، وجملة لا ريب اعتراضية كما تقول علي- كرم الله وجهه- لا شكّ شجاع، وعمرو بن العاص لا جرم سياسي، وحسان رضي الله عنه حقا جبان ومعاوية عفا الله عنه لا غرو حليم، إلى غير ذلك. قال تعالى «أَمْ» منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه، وبل انتقالية، والاستفهام لإنكار الواقع أي بل «يَقُولُونَ افْتَراهُ» محمد من عند نفسه «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المفترين عليك وعلى ربك «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» بالإخبار بالغيب والأحكام والوعد والوعيد، فضلا عما هو عليه من الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، لأنكم عرب مثل المنزل عليه، وقد

مطلب الفرق بين آيات التحدي على الإتيان بمثل القرآن:

نزل بلغتكم، وأنتم أشدّ تمرنا في النظم واعتيادا بالنثر، وأكثر علما بالأمور الملائمة للطبائع البشرية وترض للنفوس بإعطاء كل ذي حق حقه، فإذا كنتم على هذه الحالة ولم تقدروا على إنشاء سورة من مثل هذا القرآن ولن تقدروا البتة، فاعلموا أنه من عند الله حقا، وأن لو اجتمعت الأنس والجن على الإتيان بمثله لعجزوا، لأن الآية منه نفسها معجزة والسورة خارقة للعادة، فكيف بالقرآن كله الذي لا يقدر على الإتيان بمثله غير الذي أنزله. مطلب الفرق بين آيات التحدي على الإتيان بمثل القرآن: والفرق بين هذه الآية وآية البقرة عدد 23 في ج 3 واضح، لأن المراد هنا بسورة مثل القرآن والمراد بآية البقرة فأتوا بسورة من رجل مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وما قيل إن من هناك زائدة، قيل لا قيمة له، إذ لا زائد في القرآن، فكل قيل بزيادة حرف أو قصه في القرآن قيل غير سديد، وقائله قد زاد في حده وهو عن الحقيقة بعيد، فهنا تحداهم الله تعالى على الإتيان بسورة مثل القرآن بأحكامه وأخباره وبلاغته وفصاحته، وهناك على الإتيان بمثله من رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة معروف عندهم مثل محمد، لأنه أتى به على أميته المحققة عندهم، فكان معجزا بنفسه، كما أن الفرق بين هاتين الآيتين وآية هود الآتية بيّن، لأن تلك تحداهم بها للإتيان بعشر سور منه والإتيان من المخاطبين جميعهم أميهم وقارئهم، لأنه بعد أن تحداهم بكله في هذه الآية وفي آية الإسراء 89 المارة في ج 1 وظهر عجزهم تحداهم بأقلّ منه بأن طلب منهم الإتيان بعشر سور منه فقط، ولم يأتوا ولن يأنوا، فظهر من هذا أن كل آية مختصة بشيء لا تشمله الآية الأخرى «وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لتستعينوا به على ذلك من أمثالكم وآلهتكم التي تزعمون أنها تمدكم في المهمات وتلجأون إليها في المهمات «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 38» في قولكم، لأنه يستلزم الإتيان بمثله من أفرادكم ويستلزم قدرتكم عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن، لأنه عليه الصلاة والسلام تحدّى به على لسان ربه عز وجل مصاقع العرب بسورة ما منه، فلم يأتوا بذلك، وليعلم أن مجموع ما نزل حين هذا التحدي واحد وخمسون سورة، وقد تحداهم على الإتيان بمثلها، فلم يقدروا

لأنه أخبرهم قبل في الآية 89 من سورة الإسراء المارة في ج 1، بأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو عاون بعضهم بعضا، لهذا بعد أن تحداهم بأجمعه تحداهم بما نزل منه، ولما عجزوا تحداهم بعشر سور منه كما سيأتي في سورة هود في الآية 14 الآتية، قال تعالى «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ» أي القرآن، لأن الخلق كلهم عاجزون عن الإحاطة بعلومه، فهؤلاء المكذبون أعجز من باب أولى، وقد سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبّروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا، ويعلمون أنه ليس من الممكن أن يأتوا بسورة مثله، والتعبير هنا بلفظ ما عن القرآن دون إن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه، للإيذان بكمال جهلهم، وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به، وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعليته ما في حيز الصلة له، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما، إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم، لأنه أبلغ «وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه إلى الآن وحتى بعد، بدليل النفي المتصل، وقيل ولما يأتهم بيان ما يؤول إليه من الوعيد الذي هددهم به الله أو ولم يأتهم تفسير ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب، وعلى هذا كله فالمعنى أن هذا القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهؤلاء الكفرة فاجئوه بالتكذيب قبل أن يتدبروا ألفاظه ويتفكروا في معناه، أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة «كَذلِكَ» مثل تكذيبهم هذا الخالي عن التعقل والتأمل «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم وما جاءوهم به من الكتب السماوية ولم يصدقوهم بما وعدوهم به «فَانْظُرْ» يا حبيبي «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 39» أنفسهم من الأمم السابقة إذ عذبوا بأنواع العذاب بسبب تكذيبهم رسلهم، وإن من كذبك يا خاتم الرسل ستكون عاقبته عاقبتهم. وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من أذى قومه، وتحذير للناس بأن يجتنبوا الظلم لئلا يقعوا في مصيره السيء كما وقع الظالمون قبلهم.

مطلب الآية المدنية وشرط النسخ:

مطلب الآية المدنية وشرط النسخ: والآية المدنية من هذه السورة هي قوله تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أي إن من قومك يا محمد من يؤمن بهذا القرآن لسابق سعادته «وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ» لشقائه الأولي «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ 40» استعدادهم الفطري بقبول هذا القرآن واعراضهم عنه باقترافهم الأعمال الفاسدة التي أضلتهم عن الاهتداء به «وَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» أي جزاؤه وهذه الآية من آيات المتاركة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من الكافرون في ج 1، وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 25 من سورة سبأ الآتية «أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ» لا يصل وإليكم من جزائه شيء «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ 41» لا يصل إليّ من جزائه شيء. وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية السيف كما زعمه بعض المفسرين لأن مدلولها اختصاص كل بأعماله وثمراتها له من ثواب وعقاب وإن ما فهم من معناها بعض المفسرين كمقاتل والكلبي وابن زيد، الإعراض وترك التعرض بشيء للكافرين الذين أمر حضرة الرسول أخيرا بقتالهم لا يدل على النسخ، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا للحكم المنسوخ وهنا لا رفع أصلا لأن مدلول الآية الاختصاص فقط كما ذكرنا وآية السيف لم ترفع شيئا من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلا وبعيدا عن الصحة، قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» إذا قرأت عليهم القرآن ويصغون لما تبين لهم ما يأتون وما يذرون، ولكنهم لا يسمعون سماع قبول ولا يعون وعي أهل العقول، فلا تحزن عليهم لأنهم صم عن سماع الحق «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» كلا لا تقدر على ذلك لأن من أصمّه الله وختم على قلبه لا يمكن أن يسمع بأذنيه، ولا تقدر على إسماعه وهو أصم، فكيف إذا ضمّ إليه عدم العقل، إذ يقول الله تعالى «وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ 42» فهل تطمع بإسماعهم بعد أن سلب الله عقولهم مع أسماعهم، لأن الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما تتلوه عليهم، إذ أن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي

الصوت على ما يريده مخاطبه، فإذا اجتمع فقدان العقل مع عدم السمع فقد أيس من إسماعه وإفهامه. وأعيد الضمير في هذه الآية إلى من باعتبار معناها، إذ يكون للمفرد والجمع فأعاده في الآية الأولى للمفرد باعتبار لفظها، وفي الثانية للجمع باعتبار معناها، وفي الثالثة وهي «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» باعتبار لفظها أيضا، أي يتطلع إليك ببصره ظاهرا ليعاين أدلة صدقك، واعلام نبوتك، ولكنه لا يصدقك إذ أنتم إلى عمى بصره عمه قلبه «أَفَأَنْتَ» بعد هذا تقدر «تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ 43» كلا لا تقدر على هداية عمي البصر عمه البصيرة، ولا يمكنك ذلك لئن الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد بحس ويتفطن بالحدس لما لا يدركه البصير، وأما الأعمى الأحمق فلا يؤمل منه ذلك، لأنه جهد البلاء والعمدة على البصيرة، فمن فقدها فقد أيس من اعتباره وإبصاره، لأن من لا عقل له ولا بصيرة فهو جماد، ولا ينتفع انتفاعا كاملا بالحواس الظاهرة، إلا إذا ضم إليها الحواسّ الباطنة قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً» فلا ينقصهم مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق، إذ أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ومتعهم بالعقل والسمع والبصر تفضلا منه عليهم «وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 44» بعدم استعمال ما منحهم الله به من الجوارح لما خلقت لها، وعده انصياعهم للأمر بالخير وتدبرهم فوائده، وركونهم إلى الشر وعدم نظرهم إلى عاقبته، وإقبالهم على المناهي رغبة فيها، وإدبارهم عن الرشد. ورغبتهم عن طرقه، وصدودهم عن الهدى، وعدم مبالاتهم بما يؤول إليه، لهذا فإن تقدير الشقاء عليهم لم يكن ظلما من الله، وحاشاه وهو القائل (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الآية 11 من سورة الحج في ج 3، وإنما نسب فعل الظلم إليهم لأنه كسبهم اقترفوه برغبة منهم إليه واختيار له، ولو أوقعوا شيئا من الظلم كرها لما عوقبوا عليه. وأعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى الله تعالى بوجه من الوجوه، ولو عذب بغير ذنب على سبيل الفرض، لأن الظلم التصرف بحق الغير دون وجه شرعي، والخلق كلهم ملك الله، والمالك يتصرف بملكه كيفما شاء وأراد، والتصرف بالملك ولو على غير وجهه لا يعد ظلما، إذ لا

حق للغير فيه، وهو لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر. قال تعالى «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» واذكر يا محمد لقومك يوم يجمعهم ليوم الحساب، وإذ ذاك يرون أنفسهم «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم هذه التي يرونها طويلة الأمد «إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ» وقيل إن هذا اللبث في قبورهم، والأول أولى بالمقام، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار اللبث في القبور إلى وقت الحشر، فتعين حمل المعنى على الكافر، لأن المؤمن انتفع في مكثه بالدنيا بما عمل من طاعة الله ورسوله بخلاف الكافر، فإنه لم ينتفع بعمره فيها، لأنه أنفذه بالمعاصي، لذلك استغل مدة لبثه في الدنيا، لأنه كان في شهوات ولذات قانية، فصارت كالعدم «يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» إذا خرجوا من قبورهم كتعارفهم بالدّنيا، ثم يشتد عليهم هول الموقف فتنقطع المعرفة، ويعرض الحبيب عن حبيبه، والزوج عن زوجته، والابن عن أبيه، والأخ عن أخيه، والأم عن ولدها، قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآيات 35 فما بعدها من سورة عبس في ج 1، وقال تعالى (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الآية 11 من سورة المعارج الآتية، وقال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية 103 من سورة المؤمنين الآتية لهذا يصير التقاطع بينهم، فلا ينظر أحدهم للآخر، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن صاحبه، وحينئذ يظهر مغزى قوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» إذ شاهدوه حقا وكانوا يجحدونه بالدنيا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 45» في بيع آخرتهم الباقية بدنياهم الفانية وضلوا طريق النجلة، فحصلت لهم خسارة عظيمة لا تتلافى، قال تعالى «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» من العذاب في الدنيا قبل موتك يا محمد «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبل أن نريك عذابا فيهم إذ نرجئه للآخرة «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» فيها، وهناك ترى ما أوعدناهم به من الوبال الدائم «ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ 46» من المعاصي والقبائح لا حاجة إلى شهود عليها، لأنها كلها مدونة عنده لم يخف عليه شيء منها، فكل جارحة تشهد بما فعلت وتبين زمانه ومكانه وصفته، وإذ ذاك يذوقون العذاب الأليم. وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن بلفظها ومعناها كالآية 94 من المؤمنين الآتية وغيرها،

وفيها وعيد وتهديد للكفار وأهل المعاصي، وبشارة لحضرة الرسول بأن الله تعالى سيريه العذاب الذي أوعدهم بإنزاله والذل والخزي في الدنيا والآخرة وقد أراه بعض ذلك يوم بدر، وفي فتح مكة وغيرها من أيام انتصاره عليهم، وسيريه أيضا ما خبىء لهم في الآخرة من العذاب الذي لا ينقضي «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» فرقة وطائفة وقوم ورهط وعشيرة وفخذ وبيت «رَسُولٌ» يرسله الله تعالى لإصلاحها فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم ويبشرهم، فيؤمن به من شاء الله إيمانه ويكفر به من شاء خذلانه، مثلك مع أمتك، وكما يكون حالك يا أكرم الرسل مع أمتك كان حالهم مع أممهم في الدنيا والآخرة، فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أمره به ربه فصدقه أناس وكفر به آخرون كما هي الحالة معك وأمتك، حتى إذا انتهى الأجل المضروب لهم «قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل فينجي الله رسوله والذين آمنوا به، ويهلك من كذبه وجحد ما جاءه به، وهذا عدل منه تعالى لأنه لا يهلك قوما إلا بعد أن يتقدم إليهم بالمعذرة وإقامة الحجة على لسان رسوله، وهذا القضاء قد يكون بالدنيا عذاب استئصال كقوم عاد ونوح، وقد يكون على البعض وقد يؤخر الله عذاب آخرين إلى الآخرة فيوقعه فيهم دفعة واحدة، وهؤلاء الذين ينالون العذاب في الدنيا سينالهم العذاب الأكبر يوم القيامة أيضا إذا شاء تعذيبهم، وفي ذلك اليوم يجمع الله الأمم كلها للحساب ويجاء برسول كل أمة ليشهد عليها بما كان منها، فيفصل بنجاة المؤمنين وإكرامهم عنه وفضله، وبتعذيب الكافرين وإهانتهم بعدله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 47» شيئا من جزاء أعمالهم فينال المؤمن ثواب أعماله الطيبة وما صبر عليه من مضض العيش في دنياء ويجازى الكافر عقاب أعماله السيئة وما بطر ومرح في دنياه، فيربح المؤمن ويخسر الكافر، راجع الآية 11 من سورة الحج في ج 3، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» لك يا حبيبي على طريق السخرية والاستهزاء «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من نزول العذاب إذا لم نؤمن بك وبربك وتهددنا به أنت وأصحابك أنزلوه بنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 48» في ذلك، وهذه الآية لا توجد في ترتيب القرآن من أوله إلى هنا ومن هذه السورة إلى سورة الأنبياء وبعدها تكرر كثيرا عند كل مناسبة، أما في ترتيب النزول فقد مر مثلها

[سورة يونس (10) : الآيات 51 إلى 60]

في سورة يس وغيرها «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المستعجلين ما بسوءهم المستبعدين ما تهددهم به من الشقاء «لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» أي لا أقدر على شيء لنفسي فكيف أقدر أن أنفعكم أو أوقع بكم ما هددتكم به، لأن الأمر فيه لله، وقدم في هذه الآية الضر على النفع وفي الآية 188 من الأعراف المارة في ج 1 النفع على الضر لأن المقام يستدعي ذلك هنا وهناك، أي ليس لي شيء من الأمر كله «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أن يملكنيه بتقديره إياي على فعله، لأن إنزال العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء لا يكونان إلا بتقدير الله تعالى وقضائه لا قدرة للبشر على شيء من ذلك. وإن علم الساعة التي يكون فيها ذلك العذاب الموعود به من خصائصه أيضا لا علم لأحد بوقت قيامها، لأنه لم يطلع أحدا من خلقه على غيبه ولكن «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» معين عند الله، شرا كان أو خيرا ف «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المحتم لنجاتهم أو عذابهم، واستوفوا ما قدره لهم من البقاء في هذه الدنيا كاملا نزل بهم، وإذ ذاك «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه ولا لحظة «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 49» عنه، وليس المراد هنا بالساعة الساعة الزمانية، راجع الآية 33 من سورة الأعراف المارة في ج 1 «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الباحثين عن حتفهم نطلقهم «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ» هذا الذي أوعدكم به «بَياتاً» ليلا وأنتم غافلون في فرشكم «أَوْ نَهاراً» بأن باغتكم به على حين غرّة وأنتم قائمون بأعمالكم وقد عمكم به «ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ» وأي شيء يريد به «الْمُجْرِمُونَ 50» إذا وقعوا فيه، وما الذي يستعجلون من أنواعه فكله مكروه لا يرغب بنوع من أنواعه فكيف تردون حلوله بكم وهو مر المذاق شديد الخناق «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ» فيكم ذلك العذاب ورأيتم ألمه وشدته «آمَنْتُمْ بِهِ» وصدقتم بنزوله من قبل الله وأردتم الإيمان بالله فلا يقبل منكم، لأن وقت نزوله وقت بأس لا تقبل فيه التوبة والرجوع إلى الله، وسيقال لكم «آلْآنَ» تؤمنون وقد فاتكم وقت الإيمان «وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ 51» لأنكم لا تصدقون أن هناك عذابا وتسخرون بالرسل حينما يخوفونكم به «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بتكذيب الرسل وإنكارهم الإله من قبل ملائكة العذاب «ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم

فهو جزاء جحودكم في الدنيا «هَلْ تُجْزَوْنَ» في الآخرة التي كنتم تنكرونها في الدنيا «إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 52» من الأعمال القبيحة جزاء وفاقا «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ» يستوخون منك ويطلبون يا سيد الرسل الاستخبار «أَحَقٌّ هُوَ» قولك إن هناك قيامة أخرى وعذابا على ما نفعل «قُلْ» لهم «إِي وَرَبِّي إِنَّهُ» الذي تستخبرون عنه «لَحَقٌّ» لا مرية فيه البتة «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 53» الله عند إرادته تعذيبكم في ذلك اليوم فلا يفوت شقيا جزاؤه ولا مهرب لأحد، فالعذاب لاحق بكم لا محالة وهناك تتمنى كل نفس قدر عليها العذاب ما قاله تعالى قوله «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ» أشركت بالله وكفرت به في الدنيا «ما فِي الْأَرْضِ» من شيء وطلب منها الفداء مما حلّ بها من عذاب الله في الآخرة «لَافْتَدَتْ بِهِ» نفسها لتنجو منه إلا أنه لا ينفع الفداء ولا يقبل البدل «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ» أضمروا اليأس والحرمان لما علموا ذلك وكتموا تأثرهم وأسفهم على ما وقع منهم في الدنيا من الكفر والإنكار والتكذيب «لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» عيانا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أولئك الظالمون «بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 54» فيما قضي عليهم من العذاب لأنه بما كسبت أيديهم، وإن الله لا يشدد في عذاب الظالم ولا يخفف من عذاب المظلوم لقاء ظلمه، بل ينال كل جزاء على ما عمل. ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بين الأنبياء وأممهم، وهذه بين بعضهم بعضا، وقد جاءت هذه الأفعال بلفظ الماضي مع أنها في القيامة وأحوالها، وهي من الأمور المستقبلة لأنها واجبة الوقوع ومحققة فيها، فلذلك جعل الله تعالى مستقبلها كالماضي. واعلم أن كلمة أسرّ التي مصدرها الإسرار من الأضداد، إذ تكون بمعنى الإخفاء ولإظهار، ولذلك اختلف المفسرون فيها، فمنهم من قال أظهروا الندامة وأعلنوها على ما فاتهم، لأن ذلك اليوم ليس بيوم تصبّر وتصنّع كي يظهروا خلاف ما يبطنون، وهو الأولى، لأن استعمال أسر غالبا في الكتمان وهو ما ينصرف إليه الذهن بادىء الرأي، وهو أنسب بالمقام، ومنهم من قال أخفوا أسفهم وندامتهم لئلا يلاموا عليها من قبل غيرهم فيجتمع عليهم عذابان العذاب واللوم أيضا، وعلى هذا يكون المراد بمن يخفي الندامة رؤساء الكفر خشية لومهم من أتباعهم.

والندامة هي الغم والأسف على ما فرط من الشخص، وإظهارها يكون بعضّ الأصبع والبرطم والبكاء والصياح، وإخفاؤها بعدم إظهار شيء من ذلك وكتم ما يدل على آثارها، وقد وقع منهم ذلك، أجارنا الله، وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا كالرعد والمائدة في ج 3 وغيرها، ثم اتبع جل شأنه ما يدل على عظمته واقتداره مما سبق بقوله «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا، ومن كان كذلك فإنه لا يقبل الفداء فليس للكافر أن يقتدى بشيء مما فيهما من العذاب وهما في قبضة ربه وهو من جملة المملوكين فيهما، فكيف يقتدى المملوك بشيء لا يملكه، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، لأن الآخرة ليس فيها ما يملك لأن الملك يؤمئذ كلّه لله، وقد أكد هذا بقوله «أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ثابت واقع كما أخبر به رسله لا محالة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 55» ذلك ويجحدون الثواب والعقاب في الدنيا فيقعون في ندامة الآخرة «هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ» في الدنيا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 56» في الآخرة يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا القرآن على لسان رسوله، فاتعظوا بها فهي نقاء لكم من الكفر «وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ» من داء الجهل الذي هو في القلب وهو أضر من داء الجسد الذي بمرض البدن «وَهُدىً» من الضلال إلى الصواب «وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 57» من العذاب الدنيوي والأخروي المادي والمعنوي. وهذه الآية عامة لكل البشر المنتفعين به قريش فمن عداهم الموجودين في زمنه صلى الله عليه وسلم والآتين بعده من عامة الخلق إلى يوم القيامة، لأن القرآن ما زال ولا يزال رادعا عن الشر، مرغبا بالخير، مطهرا للأخلاق، مصححا للعقائد، منجيا من الجهالات، لما فيه من الأمر والنهي والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، وخصّ الصدر دون سائر الجوارح لأنه موضع القلب وهو أعز موضع في بدن الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي عبد الله النعمان ابن بشير وهو الذي سميت المعرة الواقعة بين حلب وحماه باسمه: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب:

مطلب معنى الرحمة والفضل ومراتب كمال النفس.

مطلب معنى الرحمة والفضل ومراتب كمال النفس. هذا، وقد خاطب الله عز وجل رسوله سيد المخاطبين بقوله بعد ذلك «قُلْ» لهؤلاء الجهلة ليس الفرح الذي تطمئن له النفس بحطام الدنيا ولذتها الفانية، وإنما الفرح الدائم المحمود العاقبة يكون «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ» وهو الإسلام والإيمان والقرآن وطاعة الرسول «فَبِذلِكَ» الأمر العظيم الحسن العاقبة إذا أرادوا الفرح بمعناه، المبهج للوجوه، المثلج للصدور «فَلْيَفْرَحُوا» إذا فقهوا ونظروا إلى عاقبة الأمر، فلا شيء أحق أن يفرح به غير ذلك، فمن أعطي تلك الأمور الأربعة وعمل بما تفرع عنها فقد أعطي الخير كله لأنه «هُوَ» المشار إليه من الفضل والرحمة «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 58» من متاع الدنيا، لأن ما آتاهم الله تعالى في الإسلام والإيمان والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم والانتفاع بها وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه لا يقاس بالدنيا وما فيها. واعلم أن الفرح لذة في القلب تظهر على الجوارح عند إدراك المحبوب والمشتهى من كل ما يؤمله الرجل، وأكثر ما يستعمل في اللذات البدنية الدنيوية، واستعمل هنا فيما يرغب فيه من الأمور الأخروية، قال بعض المحققين إن في هذه الآية إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها: الأولى تهذيب الظاهر من فعل كل ما لا ينبغي، وإليها الإشارة بالموعظة الحسنة، لأن فيها الزجر عن المعاصي، وإذا انزجرت النفس عن المعاصي جنحت إلى الطاعات ففازت بالرضى، الثانية تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية، وإليها الإشارة بشفاء لما في الصدور، الثالثة تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى، الرابعة تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن وذلك المشار إليه بقوله (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ) إلخ الآية، هذا ومما يدل على تفسير الآية بما ذكرنا ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله، ولا يكون من أهله إلا من هو مسلم مؤمن. وروى ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري، وجاء عن جمع أن الفضل القرآن، والرحمة الإسلام. وقيل إن المراد بالرحمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى

مطلب الحرام رزق مثل الحلال وقول المعتزلة فيه والرد عليهم.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الآية 105 من الأنبياء الآتية ولذلك فسرناها بالقرآن وبمحمد عليه السلام جمعا بين القولين كما فسرنا الفضل بالإيمان والإسلام. وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفضل محمد صلى الله عليه وسلم والرحمة علي عليه السلام وهو كرم الله وجهه وإن كان رحمة جليلة لهذه الأمة إلا أن المقام لا يناسب التفسير بذلك، كما أن الله تعالى لم يطلق الفضل على رسوله محمد بالقرآن، ولهذا فالأولى بالتفسير هو ما ذكرناه والله أعلم. وفي هذه الآية دلالة على الاستشفاء بالقرآن العظيم، ولا شك أنه بركة جليلة قد يذهب الله تعالى به الأمراض الحسية والمعنوية، وهذا مما لا ينكره أحد إلا قليل الاعتقاد، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية 82 من سورة الإسراء المارة في ج 1، «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ» هذا عامّ في كل ما نزل من السماء أو خرج من الأرض أو كان مما بينهما أو حصل من حيوان وطير وحوت وسائر ما به نفعكم أيها الناس «فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا» بأن بعضتموه وقسمتموه، وهو ما ذكره الله تعالى فى الآيات من 136- 140 من سورة الانعام الآتية من تخصيص بعض الحيوان والحرث لأناس دون غيرهم وتحريم بعض الحيوان كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها من تلقاء أنفسهم، كما ستجد تفصيله بمحله إن شاء الله، فيا أكمل الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبدين بالتحليل والتحريم والتخصيص والإباحة «آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ» بذلك أم تلقيتموه عن رسوله أم من كتابه «أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ 59» فتنسبونه إليه دون أن يأذن لكم به، وبما أنه تعالى لم يأمر بذلك ولم ينزّل به شيئا على رسوله فأنتم كاذبون مختلقون لزعمكم في قولكم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) كما مر في الآية 27 من سورة الأعراف المارة في ج 1. مطلب الحرام رزق مثل الحلال وقول المعتزلة فيه والرد عليهم. هذا، وإن ما استدلت به المعتزلة في هذه الآية بأن الحرام ليس برزق لا مستند له، لأن المقدّر للانتفاع هو الحلال، فيكون المذكور في هذه الآية قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام. قال في بدء الأمالي: وإن السحت رزق مثل حل ... وإن يكره مقالي كل قالي

ومعناه أن الحرام رزق مثل الحلال، لأن الرزق ما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان وينتفع به فعلا حراما كان أو حلالا، سواء في ذلك رزق الإنسان والدواب، مأكولا وغير مأكول، ولا يقبح نسبته إلى الله تعالى كما تقوله المعتزلة، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد في ملكه، فكل ما يقع من حلال أو حرام بتقديره كسائر أنواع الخير والشر، إلا أن الحسن برضاه والقبيح بقضاه، وعقاب مقترف الحرام لسوء مباشرة أسبابه فيلزم على القائل إن الحرام ليس برزق أن من انتفع بالحرام طول عمره لم يرزقه الله وهو خلاف الواقع ومباين لقوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ ... إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية 6 من سورة هود الآتية، وأهل الاعتزال لهم مخالفات كثيرة مع أهل السنة والجماعة منها هذه، ومنها رؤية الله تعالى، ومنها أن ما يفعله الإنسان من فاحشة لا دخل لخلق الله وإرادته فيها، حتى قيل إن أبا اسحق الاسفراييني كان ذات يوم عند الصاحب بن عباد، فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء، فردّ عليه الأستاذ أبو اسحق بقوله: سبحان من لا يقع في ملكه إلّا ما يشاء. وإنهم يقصدون بذلك إكبار الله تعالى وتعظيمه عن أن يكون فاعلا لغير الحسن. وإن أهل السنة والجماعة يمجدونه ويبجلونه فيقولون لا يقع في ملكه من خير أو شر إلا بإرادته وقضائه وقدره، وطريقهم هذا لعمري هو للصواب، لأنا نتحاشى أن نقول بوقوع شيء دون إرادته، إلا أن الخير برضاه والشرّ بقضاء، وفي البيت المذكور آنفا من أنواع البديع التسجيع بين مقالي وقالي، والجناس المطرف وهو ما زاد أحد ركبيه على الآخر حرفا في طرفه الأول، وبين الحل والسحت المطابقة وهي الجمع بين متضادّين، ومعنى الحلال ما نص الله أو رسوله، أو أجمع المؤمنون على إباحة تناوله، أو قضى القياس الجلي إباحته بعينه أو جنسه بأن لم يتبين أنه حرام، والحرام ما نص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو أجمع المسلمون على امتناع تناوله بعينه أو جنسه، أو اقتضى القياس الجلي ذلك، أو ورد فيه حدّ أو تعزير أو وعيد شديد مئول سواء كان تحريمه لمفسدة أو مضرّة خفيّة كالزنى فإن فيه فساد الغراس وتضييع الأنساب وقتل الولد معنّى لعدم وجود من يربيه، ومذكّى

[سورة يونس (10) : الآيات 61 إلى 70]

المجوس فإن فيه فساد الأبدان أو مضرة أخرى علمها الشارع، أو مضرة واضحة كالسّم والخمر فإن في الأول هلاك النفس، وفي الثاني ذهاب العقل، تدبر. قال تعالى «وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ» أيحسبون أن الله لا يعلم حالهم، أم يظنون أنهم يعافون من عقابه، أم أن الله يغفل عن افترائهم، كلا، بل يعلم ولا يغفل، وإن شاء يعاقبهم عليه عقابا شديدا في الآخرة، إذ يجازى فيها كلا بما عمل. وفي هذا الاستفهام توبيخ كبير، وتقريع خطير، ووعيد عظيم لجميع أصناف المخالفين أوامر الله الكذب فما دونه بالنظر لإبهامه «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ» عميم «عَلَى النَّاسِ» بتأخير عقوبتهم وإمهالهم ليرجعوا إليه، وقد أنزل عليهم الكتب وأرسل إليهم الرسل وركب فيهم العقل ليميّزوا الخبيث من الطيب، والحرام من الحلال، والحق من الباطل فيتبعوا الأحسن، ولو عاجلهم بالعقوبة لاحتجوا عليه كأهل الفترة والصغير والمجنون والمريض والفقير والملك المار ذكرهم في الآية الأخيرة من سورة طه، والآية 15 من سورة الإسراء المارتين في ج 1، «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ 60» نعم الله المتوالية عليهم ولا يقدرونها قدرها ولا يستهدون يهدي الله ولا يسترشدون بإرشاد رسله ولا يتبعون ما أنزل إليهم من الحق، قال تعالى «وَما تَكُونُ» يا أكرم الرسل «فِي شَأْنٍ» حال وأمر ومطلق خطب. واعلم أن لفظ الشأن لا يأتي إلا فيما له خطر مما يعظم من الأمور «وَما تَتْلُوا مِنْهُ» من ذلك الشأن، لأن تلاوته معظم شؤونه صلى الله عليه وسلم، وعود الضمير إلى الشأن أولى من عوده إلى القرآن لاحتياج تأويل «مِنْ قُرْآنٍ» بمعنى سورة، لأن كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر يكون تفخيما للمضر وهو كما ترى، وقيل إنه يعود إلى التنزيل غير المذكور، وعليه يكون المعنى وما تتلوء من التنزيل «وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ» أيها الناس قليلا كان أو كثيرا، جليلا أو حقيرا «إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» نراه ونثبته ونحصيه عليكم في صحائفكم، لأنا رقباء عليكم. وقيل إن الخطابين الأولين في قوله تعالى (وَما تَكُونُ) (وَما تَتْلُوا) له صلى الله عليه وسلم ولأمته عامة، لأن العادة إذا خوطب رئيس القوم بشيء كان قومه داخلا فيه لانصرافه إليهم بالتبعية، والأول

مطلب أولياء الله من هم والمحبة الصادقة والرؤيا الصالحة:

أولى، إذ روعي في كل من المقامين ما يليق به، فعبّر أولا بالخطابين المذكورين في مقام الخصوص لسيد المخاطبين بالشأن، لأن عمل العظيم عظيم، وعبر بالثاني للأمة جميعهم برّهم وفاجرهم بالعمل العام للجليل والحقير، ليمتاز رأس النوع الإنساني بالخطاب أيضا عن عامة الناس، كما امتاز بغيره عليهم «إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» أي أنه تعالى شاهد عليكم حين الدخول في أعمالكم والخوض بأقوالكم. ومعنى الإفاضة الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه والتلبس به «وَما يَعْزُبُ» ولا يغرب ولا يبعد ويخفى ويغيب «عَنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل ما يقع في ملكه «مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ» أو أقل، وذكر الذرة للتقليل عند الناس، وتطلق على السخلة الصغيرة جدا، وهو تعالى لا تخفى عليه خافية مهما قلت «فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ولا فيما بينهما أو فوقهما أو تحت الأرض «وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ» منها فعلمه بالقليل كعلمه بالكثير وعلمه بالبعيد كعلمه بالقريب سواء عنده فلا يقع شيء في كونه «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ 61» مدون ومثبت بصورة ظاهرة في لوحه العظيم الذي لم يغفل شيئا. قدم في هذه الآية الأرض على السماء وفيما سبق وسيأتي السماء على الأرض في مثل هذه الآية الآية 43 من سورة سبأ الآتية وغيرها، لأن شهادة الله تعالى هنا على أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصلها بقوله (وَما يَعْزُبُ) إلخ حسّن تقديم الأرض، وإلا فحق السماء أن تقدّم على الأرض، لأنها أفضل منها، عدا ما ضمّ جثمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنّه لا شك أفضل من السماء. مطلب أولياء الله من هم والمحبة الصادقة والرؤيا الصالحة: ثم إنه تعالى لمّا عمّم وعده ووعيده في حق جميع من أطاع وعصى، أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه فقال مصدرا كلامه بأداة التنبيه «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ» الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة، وتولى هدايتهم بما آتاهم من الآيات والبراهين على قدرته، والدلائل والحجج على حكمته، وتولوا القيام بحقه والرحمة لخلقه، وتحابوا في الله ومن أجله على غير أرحام بينهم أو أموال يتعاطونها،

فهؤلاء الكرام المتقون «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» يوم يخاف الناس من هول الموقف «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 62» إذا حزنوا وقت الفزع الأكبر زمن الحسرة، ثم وصفهم بقوله تعالى قوله «الَّذِينَ آمَنُوا» بي وبكتبي ورسلي «وَكانُوا» في الدنيا «يَتَّقُونَ 63» ما يغضب الله تعالى من أقوال وأفعال، ويعملون ما يرضيه وهؤلاء الذين إذا رئوا ذكر الله. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي. وروى الطبراني بسنده عن سعيد بن جبير مرسلا قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولياء الله تعالى فقال هم الذين إذا رئوا ذكر الله. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال هم قوم تحابوا في الله على غير أرحاء بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور، وأنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية- أخرجه أبو داود- وروى البغوي بسنده عن ابن مالك الأشعري قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لله عبيدا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة، قال وفي ناحية القوم اعرابي فجثى على ركبتيه، ورمى بيديه، ثم قال حدثنا يا رسول الله عنهم من هم؟ قال فرأيت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم البشر، فقال هم عباد من عباد الله ومن بلدان شتى وقبائل شتي، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورا ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون. وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء. واعلم أن الولي أخذ لفظه من الولاء، وهو القرب والنصرة، قولي الله هو الذي يتقرب إليه تعالى بكل ما افترض عليه، ويكون مشتغلا بالله مستغرق القلب في معرفه نور جلال الله، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله،

وإن سمع سمع آيات الله، وإن نطق نطق بالثناء على الله، وإن تحرّك تحرك في طاعة الله، وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى الله، لا يفتر عن ذكره ولا يرى بقلبه غيره، فإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ومعينه، قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 257 من سورة البقرة في ج 3، فعلى هذا يكون العالم العامل هو ولي الله، وغير العامل هو الأحمق الخاصر، فقد جاء بالخبر ويل للعالم من لاتباع، وقال صاحب الزيد وعالم بعلمه لم يعملن ... معذّب من قبل عابد الوثن وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) الآية 22 من الجاثية الآتية. هذا ومعنى المتقي من اتقى كل ما نهى الله عنه، وأكبر من التقوى الورع، والورع من اتقى الشبهات وترك الحلال مخافة الوقوع بالحرام. روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الله النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. فيجب على المتقي الورع أن يجتنب الحريم والمحرم لأن المحرم حرام لعينه، والحريم محرم، لأنه يت؟ رج به إلى الحرام، فمن كانت هذه صفاتهم. َهُمُ الْبُشْرى» بالنجاة من كل سوء والفوز بكل حسنِ ي الْحَياةِ الدُّنْيا» قال أكثر المفسرين البشرى في هذه الآية الرؤيا الصالحة الصادقة، أخرج الترمذي عن عبادة ابن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالىَ هُمُ الْبُشْرى) قال هي الرؤيا الصالحة يراعا المؤمن أو ترى له. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا وما البشرات؟ قال الرؤيا الصالحة. وروى البخاري ومسلم عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. هذا لفظ البخاري ولمسلم إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من

ستة وأربعين جزءا من النبوة. والرؤيا ثلاث: رؤيا صالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا ممّا يحدّث المرء نفسه، ولا يحمل معنى الآية إلا على الأولى، وهذه الأحاديث تأكيد للرؤيا وصدقها. ومعنى أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهو أنه صلى الله عليه وسلم أقام في النبوة يوحى إليه ثلاثا وعشرين ستة، كان في بدايتها ستة أشهر يرى الوحي في النام، فتكون مدة الرؤيا الصادقة جزءا باعتبار كل ستة أشهر جزءا من ستة وأربعين جزءا، وهذه أصح من رواية خمس وأربعين إلخ، وفي رواية ست وسبعين وغيرها لانطباقها على المعنى دون كسور ما. هذا، وقيل إن البشرى هي الثناء الحسن في الدنيا والجنة في الأخرى، أخرج مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال تلك عاجل بشرى المؤمن، قال العلماء هذه البشرى المعجلة له بالخير في الدنيا دليل للبشرى المؤجلة له في الآخرة المشار إليها بقوله تعالى: (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية 12 من سورة الحديد في ج 3، وهذه البشرى المعجلة دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبّته له وتحبببه إلى خلقه، وقال الزهري وعطاء وابن عباس وقتادة: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله عند نزول الموت بدليل قوله سبحانه (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) وتقول لهم (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) من هول القبر والقيامة (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) الآية 37 من فصلت الآتية، وفي الآخرة أيضا بعد خروج نفس المؤمن يعرج بها إلى الله ويبشر برضوان الله. وقال الحسن هي ما بشر الله به المؤمن في كتابه من جنّته وكريم ثوابه يدل عليه قوله تعالى تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» ولا إخلاف لمواعده التي وعد بها عباده المخلصين العارفين في كتابه وعلى لسان رسله ولا تغيير لشيء من لِكَ» أي تبشير المؤمن بما فيه سعادته في الدارينُ وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ 64» الذي لا أعظم منه، وهذه الآيات الثلاث واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وهو (وَما تَكُونُ) إلخ، وبين ما بعدها وهو «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» في شأنك من التخويف والتهديد ولا يسؤك تكذيبهم وتعزيزهم بكثرة الأموال والأولاد «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» فالغلبة والقهر على الأعداء بالقدرة من خصائص

الله تعالى لا يملكها أحد غيره، فهو الذي يعز من يشاء وحده لا شريك له ولو لم يكن لديه قوة ومنعة، ويذل من يشاء ولو كان ذا قوة ومنعة، وأنت ممن شاء عزّك في الدنيا والآخرة، قال تعالى (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية 21 من المجادلة في ج 3، وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 9 من سورة المؤمن الآتية، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 8 من سورة المنافقين في ج 3، وقال تعالىَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 45 من سورة الروم الآتية، وقال تعالىَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية 17 من الصافات الآتية، ولهذا فإنه تعالى قادر على سلبهم ما يتعززون به عليك بإهلاك أموالهم وأولادهم وذوبهم وإدلالهم وإهانتهم وإظهار عزك عليهم بالنصر و «هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم ودعائك «الْعَلِيمُ 65» بنواياهم وأحوالك، والدليل على أن الآية السابقة معترضة الالتفات إلى الخطاب لتكون معطوفة على (وَما تَكُونُ) التي هي خطاب لحضرة الرسول أيضا، والحذف أي لو حذفتها ووصلت ما قبلها بما بعدها لصح المعنى شأن الآيات المعترضة والآيات المدنية بالسور المكية وبالعكس، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه حذف شيء من ترتيب القرآن بالقراءة للوصل المذكور ولا لغيره قطعا، ويحرم إلا الاتباع لما هو محرر في المصاحف لا تبديل لكلمات الله، قال تعالى قوله «أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» كل آية تصدّر بأداة التنبيه كهذه فيها تنبيه للسامع على النظر لمعناها ومغزاها، فهذه تنبه القارئ أن لا ملك لأحد في هذين الهيكلين العظيمين وما فيهما إلا الله، وأن كل من يدعي العزّة على غيره ولم يرد الله عزّه لا ينالها، لأنه جل شأنه لا يسخر أحدا له مما بين السماء والأرض ينصره ويقويه، وإذا علم هذا فكل أحد ذليل إلا من أعزه الله، وكل أحد ضعيف إلا من قواه الله، وكل أحد مهان إلا من أكرمه الله، فمن أراد عزّه سخر له ما يدعو إلى ذلك من خلقه الذين هم في السموات والأرض، فيكون عزيزا بعزّة الله، ولا تكرار في هذه الآية لأن الآية المتقدمة عدد 55 جاءت بلفظ (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ، وكذلك الآية الآتية عدد 68 وكل ما صدر بما يكون لغير العاقل غالبا، وما صدر بمن

يكون للعاقل، فيدل مجموع الآيات على أنه تعالى مالك جميع ما ومن في السموات والأرض العاقل وغيره، النّامي والجامد وغيرهما من كل ما يطلق عليه جماد وحساس، وإذا كان العقلاء في ملكه فلأن يكون غيرهم في قبضته من باب أولى، وإذا علمت هذا ظهر لك أن ما يعبده المشركون من الأوثان في ملكه وتحت تصرفه، فجعلها شركاء له معبودة من دونه من القدح بمكان بالنسبة لمقام الربوبية الفردة الحقة. قال تعالى «وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ» مفعول يدعون قبله، ومفعول يتبع مقدر تقديره شيئا غير أهواءهم وتسميتهم لأن شركة الله تعالى في ربوبيته محالة، وهذا على أن ما في يتبع نافية وهو الأولى في المقام والأنسب في المعنى، وقد ذكر صاحب الجمل رحمه الله وجوها أخرى في معنى ما، وتفسير هذه الآية. وجعل الشربيني عفا الله عنه مفعول وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء أيضا، وصدر قوله هذا بقوله (وكان حقه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) شركاء وأراه متجاوزا في قوله هذا، لأن الحق ما قاله ربه لا ما جرى عليه هو وغيره، راجع الآية 5 من سورة الحج والآية 108 من سورة التوبة في ج 3، وهو خلافا لما جرينا عليه من أن مفعول يتبع الذي قدرناه تبعا لغيرنا (شيئا) إذ يدل عليه قوله تعالى «إِنَّ» أي ما «يَتَّبِعُونَ» في الحقيقة «إِلَّا الظَّنَّ» على توهم شفاعتها لهم «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 66» يحزرون ويقدرون شركة الله تعالى تقديرا باطلا وكذبا محضا، فتبّا لما يتبعون، وتعسا لما يزعمون، وقبحا لما يفعلون، ويؤسا لما يكذبون، وإفكا بحتا لما يفترون. ثم نبه جل شأنه على عظيم قدرته وشمول نعمته وأنه الذي يستحق العبادة وحده بقوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ» فتستربحوا من أتعابكم التي قاسيتموها في النهار «وَالنَّهارَ» جعله «مُبْصِراً» لتنصرفوا فيه إلى أعمالكم وتأمين معاشكم والنهار يبصر فيه لا يبصر هو إلا أن معناه مفهوم في كلام العرب فخاطبهم بلغتهم، قال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بناثم أضاف النوم إلى الليل ووصفه به وعنى نفسه ولم يكن هو نائما ولا بعيره،

وهذا من باب نقل الاسم من المسبب إلى السبب، قال قطرب تقول العرب أظلم الليل وأبصر النّهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء «إِنَّ فِي ذلِكَ» السكون ليلا والاشتغال نهارا «لَآياتٍ» من آيات الله الكثيرة الدالة على انفراده بالإلهية واستحقاقه وحده للعبادة وعبرة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ 67» سماع قبول واعتبار وتدبر وتذكر لينتفعوا بها ويتعظوا فينتبهوا وينتهوا عما يقولون «قالُوا» أولئك المشركون بعد هذه الدلائل المبرهنة على التوحيد «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» من الملائكة وسموها بنات الله، تعالى عن ذلك، وهذا فضلا عن وصمهم عزّته بالشريك من الأوثان وقد خصوا الإله بالبنات وهم لا يرضونهن لأنفسهم «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتبرأ من أن يكون له ولد «هُوَ الْغَنِيُّ» عن جميع خلقه، والولد إنما يتخذ للحاجة ليتقوى به على غيره، ويستعين به لحوائجه، ويستعز به لذله، ويتشرف به لهوانه، ويتلذذ به لشهوته، وكلّ ذلك من أمارات الحدوث وهي عليه محال، وهو منزه عن ذلك كله، وكيف يتخذ ولدا وهو «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا، والكل في تصرفه وهو خالقهم ومحدثهم من العدم، وهم محتاجون إليه في كل أمورهم مع غناه عنهم، ولما نزه جلّ شأنه نفسه المقدسة عن الولد عطف على من قال ذلك بالإنكار والتوبيخ والتقريع فقال عز قوله نافيا صحة ذلك «إِنْ عِنْدَكُمْ» أيها المفترون «مِنْ سُلْطانٍ بِهذا» الذي اختلقتموه أي ما عندكم عليه حجة ولا برهان به البتة، ثم تابع بالإنكار عليهم بقوله «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 68» حقيقته وتضيفون إليه ما لا صحة له، وهو المبرأ من كل نقص المنزه عن كل شريك فكيف تجوزون نسبة ما لا تجوز نسبته إليه تعالى، وهذا جهل مركب منكم أيها لمختلقون لا يستند إلى برهان، ولا يعتمد على دليل ولا مادة، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لأمثال هؤلاء «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» ويقولون عليه الباطل وينسبونه إلى ما لا يليق بجنابه «لا يُفْلِحُونَ 69» في الدنيا أبدا، ولا ينجون من عذاب الآخرة، وعذاب القبر، ولا يفوزون بريح الجنة، ولا يسعدون السعادة الطيبة وإن اغتروا بطول العمر والسلامة من الأمراض في الدنيا والبقاء بنعيمها الزائل والتمتع بعلو

[سورة يونس (10) : الآيات 71 إلى 80]

المناصب والجاه، لأن هذا كله «مَتاعٌ» قليل زائل يتمتعون به في حياتهم ويقيمون به رياستهم ويرفعون به صيتهم ويتظاهرون به على المؤمنين ويناصبونهم العداء وينشرون عليهم سطوتهم «فِي الدُّنْيا» فقط لا يدوم لهم ذلك ولا ينتفعون به في الآخرة، بل يكون عليهم وبالا فيها «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» بالموت «ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ» بعد الموت وفي الآخرة بعد الحساب على ذلك وغيره ونعذبهم «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 70» نعمنا ولم يستعملوها لما خلقت لها كما أنهم لم يستعملوا جوارحهم لما خلقت لها. هذه نبذة من أحوال قريش قومك يا محمد، قصصناها عليك وها نحن أولاء نقص عليك من أحوال الأنبياء قبلك وما لا قوه من أقوامهم كي تذكره لهم، وتسلي نفسك بما وقع لهم من أقوامهم. قال تعالى «وَاتْلُ» يا محمد «عَلَيْهِمْ» أي قومك «نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» هم بنو قابيل أول رجل أهرق الدم على وجه الأرض وسن القتل الذي لم يعرف قبل، إذ قتل أخاه هابيل وعصى أباه، كما ستأتي قصتهما في الآية 27 من سورة المائدة في ج 3. قال صلى الله عليه وسلم من سن حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة. وهو أول من انشق على أهله ومنه بدأ الخلاف، لأمر أراده الله، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» الآية 118 من سورة هود الآتية، وفائدة هذه القصص إخبار حضرة الرسول بأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم، وإعلامه بأنه ليس هو وحده قاصى شدة بإرشاد قومه بل إخوانه الأنبياء كانوا كذلك، فإنهم كذبوا وأهينوا وطردوا وقتلوا، ليتسلى بذلك ويهون عليه. ما يلاقيه من قومه، قال تعالى حاكيا حاله معهم «يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ» ثقل وعظم وشق «عَلَيْكُمْ مَقامِي» بين أظهركم إذ طال أمده فيهم إذ لبث بعد تشرفه بالنبوة معهم ألف سنة إلا خمسين عاما، كما سنبينه في الآية 14 من سورة العنكبوت الآتية، وهو يدعوهم خلالها إلى الله ولينبذوا الكفر فلم ينجع بهم «وَتَذْكِيرِي» يصعب عليكم ووعظي إياكم «بِآياتِ اللَّهِ» وبيان حججه وبراهينه طلبا لهدايتكم لما به نفعكم، ولقاء هذا تعزمون على طردي وقتلي، فافعلوا ما شئتم «فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ»

ولست مباليا بكم إذ هو حسبي وثقتي، قد فوضت أمري إليه «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ» الذي عزمتم عليه واستعدوا لتنفيذه، ولا تتركوا شيئا تصورتموه إلا أحضرتموه «وَ» ادعوا «شُرَكاءَكُمْ» أيضا فيما أنتم عليه ممن هو على طريقتكم فيما أظهرتموه. يؤيد هذا التفسير قول من جعل الواو بمعنى مع، أي أجمعوا أمركم مع شركائكم. وما قيل إن المراد بالشركاء هنا الأوثان، مخالف للظاهر ومناف للسياق، وإذا صحت الحقيقة فلا مجال للعدول عنها إلى المجاز «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» هما وكربا بل اجعلوه سهلا ويسرا «ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ» ذلك الأمر الذي أجمعتم عليه وأهلكوني، وتخلصوا مني، واطرحوا عنكم ثقلي عليكم، وتخلصوا من مقامي بينكم، ولا تلتفتوا لتذكيري «وَلا تُنْظِرُونِ 71» لا تمهلوني إن استنظرتكم بل عجلوا بما تريدونه. هذا وإن تفسير الغمة بالستر والخفاء والإبهام كما ذكره بعض المفسرين لا يناسب المقام، إذ يكون المعنى على هذا التفسير ليكن أمركم ظاهرا منكشفا، أخذا من غم الهلال إذا خفي والتبس أمره على الناس، وعليه حديث وائل بن حجر: لا غمة في فرائض الله. أو لا تستر ولا تخفي بل تظهر وتعلن، فالمشي على هذا الوجه فيه بعد عن المعنى المراد والله أعلم «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» عن نصحي، وأدبرتم عني وأعرضتم عن تذكيري، فذلك شأنكم، أما أنا «فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» على إرشادي حتى يؤدي نصحي إلى توليكم عني أو تتهموني بالطمع «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» لا على أحد غيره. فإن أطعتموني فهو حظكم وسعادتكم، وإلا فلا ضرر عليّ من عدم قبولكم نصحي المؤدي إلى حرمانكم من الإيمان بالله الموصل إلى نعيمه الدائم، ولكن آسف عليكم والله يثيبني على نيتى آمنتم أو توليتم «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 72» لله المستسلمين لأمره ونهيه، فإني لا أخالف أمره ولا أخاف سواء، هذا آخر كلام نوح عليه السلام لقومه وقد بلغ الغاية في النصح لهم، وأظهر عدم مبالاته بما يريدونه به من العزم على قتله، وقد بلغ النهاية من درجات التوكل والوثوق بالله عز وجل مبينا عدم خوفه منهم ومما أجمعوا عليه به، وصارحهم بأن مكرهم مهما كان فإنه لا يصل إليه لاعتماده على ربه «فَكَذَّبُوهُ» وقابلوا مبالغة نصحه لهم والتصلب

في دين الله بمبالغتهم بالعناد والتمرد والإصرار علي الكفر «فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ» من المؤمنين الذين ركبوا «فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ» جمع خليفة، أي أبقيناهم يخلفون الهالكين غرقا فيسكنون الأرض ويعمرونها بدلهم «وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» لإصرارهم على الكفر وأهلكناهم «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ 73» فإنها عاقبة مشئومة، وقد مرت القصة في الآية 58 من الأعراف في ج 1، ولها صلة في الآية 25 من سورة هود الآتية، وفي هذه الجملة إعلام بتهويل ما جرى عليهم وتحذير لمن يكذب الرسل وتسلية لحضرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بما يلاقيه من قومه، وتخويف لقومه بأنهم إذا لم يؤمنوا تكون عاقبتهم الهلاك مثل قوم نوح، إذ جرت عادة الله تعالى أن يوقع الهلاك بعد الإنذار، ومن أنذر فقد أعذر، والنظر قد يكون بالبصر وبالبصيرة، وعند الخاصة يكون بالبصيرة أكثر منه بالبصر، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ» أي نوح عليه السلام «رُسُلًا» كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام، وهؤلاء ما بين نوح وموسى عليهم السلام «إِلى قَوْمِهِمْ» كعاد وثمود وغيرهم ممن قصّ الله تعالى علينا ومن لم يقصّ «فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الدالة على نبوتهم المثبتة لرسالتهم والحجج المبينة لصدقهم والبراهين الموجبة للإيمان بهم «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» بما أظهروه لهم من المعجزات الباهرات، ولم يتبعوا الشرع الذي جاءوهم به «بِما» بالذي أمرهم به رسلهم بلزوم اتباعه من أصول الدين وفروعه الذي «كَذَّبُوا بِهِ» أمثالهم «مِنْ قَبْلُ» مجيء الرسل إليهم بل أصروا على كفرهم وعنادهم، وجروا على نهج قوم نوح في اتخاذ التكذيب ذريعة، ولم يرتدعوا بما وقع على من قبلهم من العذاب، وكأنه لم يكن، إذ لم يغيروا حالتهم بعد بعثة الرسل، كأنه لم يبعث إليهم أحد وينذرهم عاقبة أمرهم، ويخوفهم سوء أعمالهم، ويزجرهم عن المنكرات، ويأمرهم بالمعروف «كَذلِكَ» مثل ما طبعنا على الباغين الأولين «نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ 74» المتجاوزين حدودنا، الخارجين عن طاعتنا، الباغين على عبادنا ورسلنا.

مطلب رسالة الأنبياء خاصة عدا نوح باعتبار آخرها ومحمد أولا وآخر:

مطلب رسالة الأنبياء خاصة عدا نوح باعتبار آخرها ومحمد أولا وآخر: وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل رسول أرسل إلى قومه خاصة، وإيذان بعموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهذ متفق عليه في بداية كل نبي ونهايته فيما عدا نوح عليه السلام إذ اختلف العلماء في بعثته، هل هي لأهل الأرض عامة أو لصنع مخصوص، وينبني على هذا الخلاف الخلاف في أن الطوفان هل عم وجه الأرض كله أو بعضه؟ قال ابن عطية: الراجح الثاني المؤيد بكثير من الآيات والأحاديث، ولأن كثيرا من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الطوفان. هذا أصح ما قالوه في بداية رسالة نوح، أما نهايتها فهي عامة، إذ أجاب الله دعاءه بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية 26 من سورة نوح الآتية، فالذي لم يهلك بالطوفان هلك بغيره إذ ثبت أنه لم يبق بعد الطوفان على وجه الأرض سوى من كان معه بالسفينة لعموم الآية المستشهد بها والآية المفسرة قبل وظاهر الآيات الأخر والأحاديث الواردة في هذا الشأن، وعلى هذا فالفرق بين رسالة محمد ورسالته عليهما الصلاة والسلام خصوص رسالة نوح ابتداه وعمومها انتهاء، وعموم رسالة محمد ابتداء وانتهاء، وان رسالة نوح مقصورة في زمنه، ورسالة محمد مستمرة إلى آخر الدوران، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية المذكورة من سورة نوح الآتية، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ» أي الأنبياء المذكورين وغيرهم ممن لم يذكرهم الله في كتابه «مُوسى وَهارُونَ» صدر هذه الآية ينفي القول بعدم رسالة هرون عليه السلام، كما ذكر في التوراة الموجودة الآن، لأن صريح بعثة هرون كبعثة موسى، راجع الآية 34 من القصص المارّة في ج 1، وهذه من جملة الآيات المحرفة بالتوراة وهي كثيرة، وسنبين منها كل ماله مناسبة ومساس في تفسير الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» أشراف قومه، ويندرج فيهم بقية قومه، لأنهم تبع لهم، ولذلك خصهم وسمى الملأ ملأ لأن رؤيتهم تملأ العين رواء والنفوس جلالا وبهاء إذ كانوا يمتازون على العامة باللباس والسكن والمأكل والمشرب والمركب وغيره، وهم أهل الحل والعقد في الملك وهم خاصة الملك ومرجع أمره، وعززناهما «بِآياتِنا» المعجزات المار ذكرها في الآية 133 فما بعدها

من سورة الأعراف في ج 1 «فَاسْتَكْبَرُوا» عن قبولها وتعاظموا على رسلنا وأعجبوا بأنفسهم فجحدوا صحتها وأصروا على كفرهم «وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ 75» في ذلك لاجترائهم على ردّ آيات الله تعالى وكفرهم بها «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا» وعرفوه حقا لا مناص لهم من إنكاره «قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ 76» ظاهر يعرفه كل أحد «قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» الصريح «لَمَّا جاءَكُمْ» من الحق «أَسِحْرٌ هذا» خاطبهم على سبيل الإنكار، أي كيف تقولون لهذا الحق سحر وهو حقيقة واقعة، وقد أدى عنادكم لهذا القول البذي الذي سمّيتم الحق به سحرا، ثم احتج على صحة قوله بأنه ليس بسحر بل حق محض بقوله «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» 77 بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم، ولا ينجحون بمشروعهم، لأن السحر عبارة عن تمويه وتخييل غير دائم، فصاحبه مغلوب ومبهوت وخاسر في أمره غير ظاهر ببغيته. وإن ما جئتكم به سيكون له الفوز والغلبة عليكم بصورة واضحة دائمة، وما كان هذا شأنه فليس بسحر «قالُوا أَجِئْتَنا» الكلام فيه حذف أي بهذا السحر يا موسى أنت وأخوك «لِتَلْفِتَنا» تلوينا وتصرفنا بما عندك من السحر، وتلفتنا «عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من الدين القديم المألوف، وتصرفنا إلى دين حديث لا نعرفه «وَتَكُونَ» بذلك «لَكُمَا الْكِبْرِياءُ» العظمة والسلطان علينا، وتطلق هذه الكلمة على الملك لأنه أكبر شيء يطلب في الدنيا ويرغب فيه «فِي الْأَرْضِ» منطقة مصر، لأن ملك فرعون لم يتجاوزها لما مر في الآية 46 من سورة القصص في ج 1 مما حكاه الله على لسان شعيب عليه السلام الدالة على اقتصار ملك فرعون بأرض مصر لا يتخطاها لغيرها «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ 78» ولا مصدقين ما جئتمانا به وفيه تأكيد لإنكارهم السابق، وانما ثنوا الخطاب لموسى وأخيه مع أنه وحده الذي خاطبهم تعظيما لأمر الإعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى وإقناطه من إيمانهم به وبأخيه، وانما أفردوه بقولهم «لِتَلْفِتَنا» لأنه من خصائص صاحب الشريعة وهو موسى عليه السلام «وَقالَ فِرْعَوْنُ» وحده دون ملائه لأن الأمر له ومن خصائصه وما يهمه. أما الاستكبار المار ذكره ونحوه فهو مما يسند

[سورة يونس (10) : الآيات 81 إلى 90]

إليه ولأشراف قومه «ائْتُونِي» أيها الشرطة وهم الحاشرون المار ذكرهم في الآية 27 من سورة الشعراء المارة في ج 1 «بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ 79» ماهر في السحر أمر قومه بذلك ليعارض معجزات موسى بسحر سحرته ليبين لقومه لما رأى أن الشك غامرهم في صدق موسى أنّ ما جاء به هو سحر لا من عند الله، كما ذكر يقصد أضلالهم عن الإيمان به، فذهب الحاشرون وجمعوهم في الوقت والمكان الذي اتفقا عليه كما مرت الإشارة إليه في سورة الشعراء وطه في الآيات 37/ 75 فما بعدها المارات في ج 1 «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ 80» تقدم سبب تقديمهم له في السورتين المذكورتين، وهو بإلهام من الله، لأن سحرهم لا يؤثر بعصا موسى لو ألقاها أولا بخلاف ما لو ألقاها بعدهم، لأنها تؤثر في سحرهم، ولولا هذا التقديم لقال الجهال، وكلهم إذ ذاك جهال ما غلب موسى السحرة فقط «فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي المطلية بالزئبق والمحشوة به قبل طلوع الشمس حتى رآها الناس على حالها، ثم صاروا يدمدمون عليها حتى طرقتها حرارة الشمس، فصارت تتحرك كما مرت الإشارة إليه في تلك السورتين والآية 126 من الأعراف المارة في ج 1 أيضا، وبهذه الصورة موهوا على الناس بأنها انقلبت حيات وجبالا «قالَ مُوسى» مخاطبا للسحرة بعد أن ألقى عصاه، وصارت تلقف الزئبق المطلي بعصيّهم وحبالهم بقدرة الله تعالى الذي جعل فيها قوة جاذبة لذلك الزئبق كالمغناطيس في جذب الحديد «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» هو الشيء الباطل بعينه «إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ» ويفضحكم بمحقه بالكلية حتى يكون لا أثر ولا عين بالحق الذي آتانيه ربي قطعا لمادة الفساد «إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ 81» لا يحسنه ولا يقوّيه ولا يثبته ولا يؤيده وقدمنا في الآية 52 من سورة الشعراء ما يتعلق بالسحر فراجعه «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ» يثبته ويقوّيه ويجعله ما حقا للباطل ومرهقا لأهله، ويظهره «بِكَلِماتِهِ» التي وعد بها أنبياء بالنصر وإعلاء الكلمة «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ 82» ذلك، فإنه يوقعه فيهم ويوجبه عليهم قال تعالى «فَما آمَنَ لِمُوسى» بعد ظهور هذه المعجزات الواضحة على يده وخيبة ما أمله فرعون من سحرته الذين آمنوا بموسى لما عرفوا

الحق «إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ» بني إسرائيل، لأن آباءهم بقوا مع فرعون، فلم يجيبوا دعوته خوفا منه، وفي هذا تعريض لحضرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حيث لحقه الحزن والأسف على عدم إيمان قومه، أي فما يحزنك يا حبيبي إذا لم يؤمن قومك كلهم، وما هذا الاغتمام بشأنهم، أليس لك أسوة بمن قبلك من الأنبياء وخاصة موسى وقومه، وما قيل إن ضمير قومه يعود إلى فرعون بعيد عن الصحة، إذ لم يؤمن من قومه إلا امرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطة بنته ومؤمن آل فرعون، وهؤلاء لا يسمون ذرّية لأن الذرية الطائفة وأولاد العشيرة، ولا وجه للاحتجاج بمن دخل من أبناء فارس إلى اليمن ولقبوا بالأبناء، لأن أولئك أمهاتهم من غير جنس آبائهم، ويريد صاحب هذا القول أن آباء الذرية المذكورة كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، أي وكانوا يتبعون أمهاتهم بالإيمان كأولاد الفرس المذكورين، بل عائد إلى موسى بدليل قوله «أَنْ يَفْتِنَهُمْ» يعذبهم ليصدهم عن الإيمان وبصرفهم عن الهوى، ولم يقل أن يفتنوهم، لأنه هو وحده الفاتن لهم، ولأن قومه كانوا تابعين له ويرغبون مراده، وهذا لا يمنع أن تكون الذرية الحاصلة من أب قبطي وأم إسرائيلية، أو بالعكس، أن يدخلوا في هذه الذرية المؤمنة، لأن الهدى هدى الله يهدي به من يشاء. وما قيل إن الضمير في ملائهم راجع إلى فرعون على سبيل التعظيم كما هو العادة في ضمائر العظمة، مردود، لأن ذلك خاص بضمير المتكلم، مثل نحن والمخاطب كما في قوله «رَبِّ ارْجِعُونِ» الآية 99 من سورة المؤمنون الآتية، وقوله إلا فارحمون يا آل محمد، ولم ينقل أن ذلك يكون في ضمير الغائب كما هنا، وما قيل إنه جمع الضمير باعتبار عوده إلى فرعون وآله مردود أيضا، لأن هذا يكون في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم، وفرعون ليس كذلك، قال تعالى «وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ» في مصر خاصة وهكذا كلما جاءت هذه اللفظة فلا تنصرف إلى غيرها كما مر أي أنه غالب عليها وقاهر أهلها متكبر جبار «وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ 83» المتجاوزين حدود الله المبالغين في الظلم لأنه كان عبدا فادعى الربوبية وكان كثير القتل والتعذيب للناس

«وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» إيمانا خالصا «فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا» وامضوا معي ولا تخافوا من فرعون فإن الله عاصمكم منه وثقوا بكلامي فان الله تعالى ناصري عليه ومهلكه وقومه فاستسلموا لأمر الله «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ 84» له منقادين لأمره تابعين لإرادته فاذا كنتم موصوفين بالإيمان المحض القلبي المذكور في هذه الآية وبالإسلام الظاهري الذي هو مطلق الإذعان المذكور فيها، فامتثلوا قولي وهذا هو كمال الإيمان، لأن من يؤمن بالله إيمانا حقيقيا لا يتوكل على غيره «فَقالُوا» مجيبين له «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» لا على غيره، ثم ابتهلوا إلى ربهم فقالوا «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً» محلا لها بأن تسلطهم علينا فيصرفونا عن دينتا أو يعذبونا فيردونا قسرا عنه فيقول فرعون لو كانوا على الحق لما سلط عليهم، ولم يصابوا بعذابه، فيظنوا أنهم خير منا فيتعنّتوا بذلك، ويزدادوا كفرا وطغيانا فتكون مسخرين «لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 85» المتمادين في الظلم ولا تهلكنا بذنوبنا أو ذنوبهم «وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 86» ومن قبح جوارهم وسوء صنيعهم بعد أن تخلصنا من ظلمهم وبغيهم ولهذا عبر عنهم بالكفر بعد الظلم ووضع المظهر موضع المضمر أي القوم الكافرين بدل منهم هذا ولا جرم أن الله تعالى أجاب دعاهم، وقبل توكلهم، فنجاهم مما يخافون وأهلك عدوهم، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن تستجاب دعوته فليخلص لربه ويرفض ما سواء ويحسن ظنه به، فإنه عند حسن ظن عبده به قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا» اتخذا واجعلا «لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً» للصلاة يرجعون إليها بعبادتهم لإقامة شعائر الدين فيها «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» تستقبلونها في صلاتكم وكلوا أي الأنبياء، عليهم السلام في ذلك الزمن يستقبلون الكعبة، كما روى عن ابن عباس قال قال بنو إسرائيل لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأن يجعلوها قبل القبلة، لأن موسى وهارون كانوا يستقبلونها لكونها قبلة أبيهم إبراهيم عليهم السلام، وكانوا يصلون خفية لئلا يؤذيهم كفرة القبط، كما كان محمد وأصحابه في بداية الإسلام، فإنهم كانوا يخفون صلاتهم وعبادتهم خشية اذية قريش

لهم وقد عمم الله هذا الخطاب، لأن العبادة عامة وواجبة على العامة، وخصص أوله بموسى وأخيه لأن الأمر باتخاذ بيوت العبادة من خصائص الأنبياء لأنهم هم المشرعون لغيرهم، وقيل المراد من قوله «قِبْلَةً» أي اجعلوها متقابلة وليس بشيء على أن ظاهر القرآن لا يدل على المعنى المراد في هذه اللفظة لأن اليهود تستقبل صخرة بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس، ولا يبعد أن تشمل هذه اللفظة الأمر بأن يجعلوا بيوتهم قبلة لرّوادها من الضيفان والزوّار وجعلها مأوى لكل فقير ومسكين ومقطوع يستقبلون فيها العاني وذا الحاجة وغيرهم، لأن هذا من جملة ما حث عليه الشارع ومن مكارم الأخلاق والله أعلم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» في تلك البيوت على المعنى الجاري في التفسير «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 87» بك يا موسى فإنه لا يصيبهم أذى الكفرة ولا ينالهم مكروه منهم «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا» من كل ما يتزين به الناس من اللباس والحلي والمراكب والمساكن ونحوها «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» الناس ويميلوهم عن طاعتك ويصرفوهم عن هداك، وكرر لفظ ربنا للالحاح في التضرع، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء واللام في ليضلوا مثل اللام في قوله تعالى «لِيَزْدادُوا إِثْماً» الآية 78 من آل عمران في ج 3 في اللفظ والمعنى وهذه حجة على المعتزلة لأنهم لا ينسبون ما لا يليق فعله إلى الخالق، والله تعالى يقول ليضلوا وليزدادوا، إذ لا يكون شيء خيرا كان أو شرا إلا بإرادته وقضائه وقدره، راجع الآية 59 المارة من هذه السورة. واعلم بأن هذه اللام للتعليل مجازا لا حقيقة، لأن الله تعالى آتاهم ما آتاهم ليؤمنوا به ويشكروه فتوسلوا بها إلى البغي والطغيان، وتوصلوا بها إلى الكفر والخسران، فاشبهت حالهم حال من أعطى المال لأجل الإضلال فورد الكلام بلفظ التعليل بناء على هذه المشابهة وقال بعض المفسرين إن اللام هذه للعاقبة أي تكون عاقبة أمرهم الإضلال عن الحق. وقيل في هذا المعنى: وأموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها أي أن عاقبة المال والدور تكون كذلك.

مطلب معنى الطمس وعدد الآيات وأن الأنبياء لم يدعوا على أممهم إلا بعد اليأس منهم:

مطلب معنى الطمس وعدد الآيات وأن الأنبياء لم يدعوا على أممهم إلا بعد اليأس منهم: ثم أنه لما رأى موسى عليه السلام إصرارهم على الكفر ولم ينجع فيهم نصحه، ولم يتيقظوا لصبر الله عليهم، ولم يؤثر فيهم ما أظهره لهم من المعجزات على يد رسولهم، ركن إلى الدعاء عليهم بعد أن أيس منهم، فقال «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أهلكها وأذهب آثارها وامحقها لأنهم يستعينون بها على معصيتك والطمس المحو وإزالة الأثر للشيء، قال قتادة بلغنا أن زروعهم وأموالهم وجواهرهم صارت حجارة. وقال ابن عباس، إن دراهمهم ودنانيرهم صارت حجارة منقوش عليها نقشها كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا. وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة وهي حجارة، والجوزة مشقوقة وهي حجارة راجع الآية 101 من الإسراء في ج 1 والأولى أن يراد بهذا الطمس إتلافها وذهاب منافعها وهو أولى، والله أعلم، لتدخل في جملة الآيات التسع المشار إليها في الآية المذكورة من سورة الإسراء، إذ لا يتجه عدها منها على رأي بعضهم بالمعنى الأول، أي قلبها حجارة مع بقاء وصفها، هذا وقدمنا في الآية 143 من الأعراف في ج 1 ما يتعلق بهذا فراجعها يتبين لك أن هذه ليست من الآيات التسع، وأن الآيات تسع عشرة، منها ما هو خاص بموسى، ومنها ما هو خاص بالقبط، ومنها ما هو خاص ببني إسرائيل قبل خروجهم من مصر وبعد خروجهم، وما قيل إن صورهم صارت حجارة لا وجه له، لأنه عليه السلام دعا على أموالهم لا عليهم، وكان عذاب القبط بالغرق لا بالمسخ. واعلم أن النبي لا يدعو على قومه ما زال يأمل إيمانهم، ولم يدع عليهم إلا بإشارة من الله تعالى، وأول من دعا على قومه نوح عليه السلام، وذلك بعد أن أوحى إليه ربه بقوله جل قوله (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) الآية 36 من سورة هود الآتية، فراجعها تعلم منها أنه يئس من إيمانهم فدعا عليهم، وهكذا موسى وغيره ومن قبله وبعده لأنهم أشفق على أمتهم من الأب على ولده، ولذا قال صلى الله عليه وسلم اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون حينما تعدوا عليه وآذوه

«وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» اربطها وقسّها حتى لا تلين للإيمان ولا تنشرح له، وهذه الجرأة من سيدنا موسى بعد أن أيّسه الله من إيمانهم، وإنما قال ما قال لعلمه أن الله تعالى وتعظم يفعل ذلك لمن يشاء، ويحكم به لمن يريد، ثم علل قساوته هذه بقوله «فَلا يُؤْمِنُوا» وهم على حالتهم هذه من الرفاه والصحة، وسيضلون متمادين في الضلال «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ 88» وكان ذلك، فإنهم لم يؤمنوا حى داهمهم الغرق، فكان إيمانهم إيمان يأس حالة يأس، فلا يقبل ممن آمن منهم أو من غيرهم في هاتين الحالتين، قال في بدء الأمالي: وما إيمان يأس حال بأس ... بمقبول لفقد الامتثال فظهر أن دعاء موسى هذا بهذه الشدّة موافق لقضاء الله تعالى وقدره عليهم في الأزل، وقد ألهمه الله إياه، ولما كان هارون عليه السلام يؤمن على دعاء موسى خاطبهما بقوله عز قوله «قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» لأن التأمين دعاءه، ومنه يعلم أن دعاء الإمام دعاء للمأموم، وقراءته قراءة له أيضا. واعلم أن معى آمين اللهم استجب فحال الله تعالى بين فرعون وقومه، وبين الإيمان حتى أدركهم الغرق، إجابة لدعائهما الموافق لما هو في علم الله، لأن الناس جارون على تطبيق ما هو كائن في الأزل، وما هم إلا مظاهر له «فَاسْتَقِيما» على ما أنتما عليه واثبتا على الدعوة وامضيا لأمركما ولا تستعجلا في إجابة دعوتكما، فإنها مجابة لا محالة، ولكن بوقتها المحتوم الذي لا يتبدل. قالوا وكان بين الدعوة والإجابة أربعون سنة، ومن هنا قيل أن أقل صبر الله على الظالم أربعون سنة، على أنه قد يجيب الدعاء حالا في بعض الأحيان، وهو لا يسأل عما يفعل من تقديم الإجابة وتأخيرها «وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 89» حكمة إمهالنا لمن عصانا وانجاز وعدنا لمن دعانا، وهذا النهي لا يدل على صدور النهي عنه من موسى وهرون، كما أن قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 65 من سورة المؤمن الآتية لا يدل على صدور الشرك من محمد صلى الله عليه وسلم لأنه مستحيل عليه بل مجرد تأكيد امر الوعيد، وقد كثر أن ينهى الشخص عما يستحيل وقوعه منه زجرا للغير، والإفادة بأن في تأخير الدعاء حكما إلهية وتعليما للأمة بعدم طلبهم

الاستعجال بإجابة الدعاء، وإيذانا بأن الجهلة لا يعرفون عادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح. وليعلم أن كل دعاء لا بدّ أن يجيبه الله تعالى في الدنيا أو أن يدفع عنه ما يقابله من البلاء، أو أن ما لم يعطه له في الدنيا يعطه له في الآخرة، فأكثروا أيها الناس من الدعاء وألحوا به على ربكم، فإنه يحب الملحين فيه بخلاف البشر منكم، وفيه قيل: لا تسألن بنيّ آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب قال تعالى «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» أي عبرناهم إياه حتى قطعوه «فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ» لحقوهم ليدركوهم ويردوهم إلى مصر ليسترقوهم ويقتلوا من شاءوا منهم «بَغْياً» وتطاولا عليهم بالقول «وَعَدْواً» عدوانا وظلما وطغيانا عليهم بالفعل، فلما تراءى الجمعان قبل دخولهم البحر قالوا لموسى ابن المخلص والبحر أمامنا وفرعون وراءنا، وكان موسى أخرجهم بأمر الله تعالى وتوجه بهم نحو البحر بأمره، ولا يعلم ماذا يفعل بعد ذلك، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه حالا، فانفلق وظهرت أرضه يابسة كأنها لم تنحسر عن ماء فأمرهم بدخوله فدخلوه، فاتبعهم فرعون وجنوده وصار الطرفان فيه بنو إسرائيل بآخره وفرعون وقومه بأوله، فخرج بنو إسرائيل عن آخرهم، وتوسط فرعون وقومه كلهم البحر، فأطبق عليهم والتطم بأمواجه فوقهم جميعهم، قال تعالى حاكبا حالة فرعون حين رأى ذلك «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ 90» المنقادين لأمره، قال هذا ظنا منه أنه ينجيه من الهلاك ليعود لكفره كما كان يقول لموسى عند نزول كل آية كما هو مبين في الآية المارة من سورة الأعراف في ج 1، ولم يعلم بانقضاء إمهال الله إياه، وان إمهاله ذلك لم يكن إهمالا، وإنما ليوافي الوقت المقدر لإهلاكه الذي لا يتقدم ولا يتأخر، ولئلا تبقى له معذرة يعتذر بها أو حجة يحتج بها، وقد أجمعت العلماء على أن الإيمان مهما كان خالصا، والتوبة من المعاصي مهما كانت نصوحا، لا يقبلان حال اليأس، لصراحة قوله تعالى

[سورة يونس (10) : الآيات 91 إلى 100]

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) الآية من آخر سورة المؤمن الآتية، وتقدم ما يتعلق في هذا البحث في الآية 137 من سورة الشعراء المارة ج 1، وله صلة في آخر سورة المؤمن المذكورة، وفي الآيتين 16/ 17 من سورة النساء في ج 3. واعلم أن قول فرعون لا يدل على الإخلاص بل يقيد التشكيك، لأنه لم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو، ولم يقل كما قالت السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) الآية 120 من سورة الأعراف المارة في ج 1، وأن قوله (آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) هذا دليل على عدم اعتقاده صحته، لأنه كان دهريّا ينكر الصانع الأعظم، ولذلك ادعى الربوبية على قومه الذين يعبدون الأوثان، فلم تنفعه توبته ولا إيمانه، لأنه لم يجنح إليها إلا بعد انفلاق بابهما بحضور الموت بصورة لم يبق معها له أمل بالنجاة منه، ولو أراد الله لوفقه لهما عند رؤية معجزة انفلاق البحر، إذ كان في الوقت فسحة ولكن من يرد الله خذلانه فلا هادي له. مطلب الحكمة في عدم قبول إيمان اليائس وإخراج جثة فرعون ومعجزة القرآن: قال تعالى «آلْآنَ» تركن إلى الإيمان وقد ضيعت وقته، لا لا سبيل لك إليه «وَقَدْ عَصَيْتَ» ربك وبغيت وتطاولت بادعائك الألوهية «قَبْلُ» هذا الوقت وقد دعيت للإيمان سنين كثيرة ولم تجب دعوة رسولنا، ولم ترجع إلينا، أما الآن وقد اضطررت في وقت اليأس من الحياة فلا سبيل لإجابة طلبك الإيمان لإعراضك عنه في وقته «وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 91» في أرض الله وعباده وبلاده، وأهنت رسلي وتجبرت على عبادي. والحكمة في عدم قبول إيمان اليائس هو أن الناس إذا صاروا في تلك الحالة يضطرون إلى الإيمان ليخلصوا من العذاب، فلو قبل منهم لآمن كل أتباع الرسل المتقدمين، ولما أهلك الله منهم أحدا فتتعطل الحكمة المرادة من تعذيب الكافر وتنعيم المؤمن، لأنه إذا قبل إيمان الكافر عند آخر رمق من حياته يتساوى مع المؤمن بنعيم الجنة، وهذا مخالف لإرادة الله ووعده ووعيده، ولهذا اقتضت إرادته الأزلية بعدم الانتفاع بإيمان اليائس، وعند نزول العذاب الذي لا محيد عنه لتحصل ثمرة التفاوت بين المؤمن والكافر، وكذلك

لا تقبل التوبة في الآخرة مطلقا لأنها من قبيل العمل المقرب إلى الله، ولا عمل في الآخرة وإلا لآمن كل كافر وتاب كل عاص، ولانتفت الحكمة من خلق النار والعذاب. قال تعالى «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» فنلقيك على نجوة من الأرض، والنجوة المكان المرتفع، فألقي على الساحل كأنه ثور، وإنما قال ببدنك أي جسمك كاملا لم ينقص منه، شيء ليراك ويعرفك من كنت تتأله عليه، وأنت جسد بلا روح، وقيل ببدنك بدرعك المعروف عند قومك، وكان من ذهب مرصع بالجواهر ومن هنا يقول أهالي دير الزور للجية الثمينة بدن وهي لم تكرر في القرآن، ويفهم من هذا أنه كان لا تطوف العروس التي كانوا يطرحونها في النيل لأجل فيضانه «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» أي إنما قذفناك ببدنك الذي كنت تعرف به لتكون علامة لمن وراءك، لأنهم كانوا لا يصدقون أن فرعون يموت، إذ مر عليه أربعمائة سنة في الملك لم تصبه شوكة، فلما رأوه جئة هامدة منتنة صدقوا أنه عبد مثلهم ليس بإله، فيعتبرون عند ما يرونه في غاية الخسّة بعد أن كانوا يرونه في نهاية العظمة، وقال بعض المفسرين تكون آية لمن يأتي بعدك من القرون المستقبلة، وعليه يتجه القول الآن بأن هذا من الإخبار بالغيب، إذ عثر على قبره في مصر سنة 137 وحفظ في متحف مصر حتى الآن، وتكون معجزة عظيمة من معجزات القرآن العظيم، إذ أن التوراة تذكر موته غرقا ولم تذكر جثته، والإنجيل لم يأت بشيء عن ذلك، وظل الذين لا يصدقون بالقرآن ينكرون خروج جثته الثابت بصراحة حتى تاريخ إخراجها، فظهر أمر الله وخذل الجاحدون وأسلم من الأمريكان إذ ذاك ما ينوف عن تسعين رجلا في شهر اكتشافه، وربما أسلم خلق كثير بعده عند ظهور كوامن هذا القرآن الجليل الحاوي على ما في الدنيا والآخرة من وقائع وأقوال وأعمال «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا» هذه وأضرابها مما كان وسيكون «لَغافِلُونَ 92» عنها تلئهون مائلون عن التعرض إليها زائغون عن منهج الحقائق. روي أن جبريل عليه السلام قال لفرعون وهو بصورة رجل من قومه ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفرها وجحد حقه وادعى السيادة عليه دونه؟ فكتب له الجواب. يقول أبو العباس

الوليد بن مصعب الريان: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمائه أن يغرق في البحر. قال فلما الجملة الغرق ناوله جبريل فتواه بخطه فعرفه وقال ما قال. ولا بعد في هذا لأن الله أرسل إلى داود من استفتاه بشأن المرأة التي أخذها كما مرّ في الآية 24 من سورة ص في ج 1، فحكم على نفسه بنفسه وهو نبي مرسل فلأن يرسل إلى هذا الخبيث لتحق عليه الكلمة بفعله القبيح من باب أولى. وروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما أغرق الله فرعون قال (آمَنْتُ) إلخ قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حبال البحر فأذسه في فيه مخافة أن تتداركه الرحمة- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن-. وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله، أو خشية أن يرحمه الله- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح-. وبما أن هذا الحديث مشكل في ظاهره فيحتاج إلى إيضاح في صحته ومعناه، أما صحته فقد ورد من طريقين مختلفين عن ابن عباس، الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو شيخ نبيل صالح صادق، ولكنه كان سيء الحفظ ويغلط، ولهذا ضعفه يحيى بن معين وغيره، والحديث الثاني إنما يضعف إذا لم يتابع عليه أو إذا خالفه الثقات، وكلا هذين الأمرين منتف فيه لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير، وهو إسناد على شرط البخاري، ورواه أيضا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، وعطاء ثقة قد أخرج له مسلم وما تكلم في عطاء من قبل اختلاطه انما يخاف منه إذا انفرد به أو خولف فيه، وكلاهما منتف أيضا، فعلم أن هذا الحديث له أصل ثابت وأن رواته ثقات (وليس في قول ذكر أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم شك في رفعه) وإنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه، وشك شعبة في تعيينه بأنه هل هو عطاء أو عدي، وبما أن كلا منهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك الآخر في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث، وكلمة حبال البحر في الأول وطينه في الثاني لا تكون مباينة، لأن حبال البحر طينه، فالمعنى في الروايتين واحد، فلا يصح الاعتراض عليه بعد

أن ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بالوجه المار ذكره. أما صحة معناه فلا غبار عليها، لأن أهل السنة المثبتين القدر القائلين بخلق الأفعال لله تعالى وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه يحول بين المرء وقلبه كما في الآية 24 من سورة الأنفال في ج 3، فهو تعالى يحول بين الكافر والإيمان بدليل هذه الرواية، وقوله تعالى أيضا: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) الآية 155 من سورة النساء في ج 3، وقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية 111 من سورة الأنعام الآتية، وقوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الآية 101 من الأعراف المارة في ج 1، وهكذا فعل جل شأنه بفرعون إذ منعه عن الإيمان جزاء تركه إياه، ودس الطين في فمه من قبل جبريل عليه السلام من جنس الطبع والختم على القلب، ففعله هذا مع فرعون عليه اللعنة من هذا القبل، ولم يكن إلا بإرادة الله الملك الجليل، وغاية ما فيه أن يقال إن الله منع فرعون من الإيمان عقوبة على كفره السابق، وما قيل إنه لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل كان عليه أن يعينه عليها، هو قيل قد يكون سديدا إذا كان جبريل مكلفا مثلنا يجب عليه ما يجب علينا، أما إذا كان ليس كذلك وإنما يفعل ما أمره الله به وهو الذي منع فرعون من الإيمان، وإنما جبريل منفذ لأمره ليس إلا، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله وكيف يجب عليه اعانة من لم يعنه الله، وقد أخبر عنه بأنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، وقد قضت حكمته أن لا يقبل الإيمان في مثل حالة فرعون، ولما كان في أفعال الله تعالى قولان أحدهما أنها لا تعلل وأن تعليلها محال، فعلى هذا لا يرد شيء من هذا أصلا، ولم يبق إشكال في معنى الحديث، والقول الثاني أن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح، فعلها لأجلها، وكذا أوامره ونواهيه، لها غاية محمودة لأجلها أمر بها، ونهى عنها، وعلى هذا يقال لما قال فرعون (آمَنْتُ) إلخ، وقد علم جبريل بإعلام الله إياه أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب، وأن الوقت المقبول فيه الإيمان نفد، وأن إيمانه في غير الوقت المحدد له لا ينفعه، دسّ الطين في فيه لتعجيل ما قد قضى عليه، وسد الباب عنه سدا محكما بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ، ولا يبقى من

عمره متسع للإيمان المقبول، فيكون عمل جبريل تكميل لما سبق في حكم الله عليه وتنفيذ لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون، وهو سعي في مرضاة الله، وما قيل إن في منعه من التوبة كفرا لأنه رضي ببقائه على الكفر والرضاء بالكفر كفر لا وجه له لما قدمنا من الإضلال والهدى بمشيئة الله تعالى، وجبريل إنما يتصرف بأمر الله وقد فعل ما أمر به والرضاء بالأمر غير الرضاء بالمأمور فأي كفر يكون هذا؟ على أن الرضاء بالكفر إنما يكون كفرا بحقنا لأننا مأمورين بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفرا بحقنا مخالفتنا ما أمرنا به، وإن من ليس بمأمور كأمرنا، ولا مكلفا تكليفنا، بل يفعل ما يأمره سيده ربه كالملائكة، فإنه إذا نفذ ما أمره به ربه لم يكن راضيا بالكفر ولا يكون كفرا بحقه، وما قيل كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بمنع فرعون من الإيمان فقول سخيف لأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل، فإذا علم هذا ويقول كيف فهو سخيف، وإذا لم يعلم فهو جاهل جهلا مركبا، هذا وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى مثل ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد، وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتعصم بكلمة الإخلاص فينجو، فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال (آلْآنَ) إلخ، قال تعالى «وَلَقَدْ بَوَّأْنا» وطنّا وأنزلنا «بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ» منزلا محمودا صالحا مرضيا وصفه بالصدق، لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق فتقول رجل صدق وقدم صدق، راجع الآية الثانية من هذه السورة، وذلك أن الشيء إذا كان كاملا لا بد وأن يصدق الظن به، وهذا المكان هو مصر والشام والقدس والأردن، وهي بلاد الخصب والبركة، ومن أحسن بقاع الأرض وأخيرها نتاجا، فالكامل فيها لا يضاهيه كامل في غيرها، ولهذا كانت مهبط الأنبياء ومهاجرهم ومدافنهم فيها، وناهيك به شرف «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» اللذائذ الحلال من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن ومركوب «فَمَا اخْتَلَفُوا»

في أمر دينهم، بل ثابروا عليه وتمسكوا به «حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بالوقوف على إلهام التوراة فاختلفوا بتأويلها زمن نزولها كما اختلفوا أخيرا في نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فمنهم من آمن بهما ومنهم من كفر، لذلك يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 93» من الحق وإذ ذاك يميز بين المحق والمبطل، ويجزى كلا بما بستحقه، فيدخل من آمن وصدق الجنة، ومن كفر وجحد النار. مطلب معنى الشك المخاطب به محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى الصدق والأراضي المباركة والآيات المدنيات: «فَإِنْ كُنْتَ» يا سيد الرسل «فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» في هذا القرآن على سبيل الفرض والتقدير، لأن الشك في ذلك لا يتصور منه وقوعه لا نكشاف الغطاء له صلى الله عليه وسلم، ولذا عبّر بان التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) الآية 82 من سورة الزخرف الآتية، وقوله تعالى (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) الآية 26 من سورة الانعام الآتية ولم يعبّر في هذه الآيات بإذا لأنها تفيد الجزم بوقوع الشرط بعدها، وصدق القضية الشرطية لا يتوقف على وقوعها، أي إن كنت في شك مما قصصناه عليك من قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» وهم الأخبار والعلماء والربانيون العارفون بالتوراة والإنجيل والزبور، فإنه محقق عندهم لا مرية فيه لأنها مدونة في كتبهم بعضا باللفظ وبعضا بالمعنى وأخرى بالإشارة وطورا بالعبارة وتارة بالرمز ومرة بالامارة، وخص هذا السؤال بالقصص لأن الأحكام القرآنية قد تخالف ما عند أهل الكتاب، لانها ناسخة لكثير منها ومغايرة لها، إذ جاءت موافقة لعصره صلى الله عليه وسلم فما بعده إلى يوم القيامة، بخلاف الأحكام الموجودة في كتبهم، إذ لم تكن صالحة لذلك، والشك لغة خلاف اليقين وهو اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة، وهو ضرب من الجهل وأخص منه،

فكل شك جهل وليس كل جهل شكا، فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه، وظاهر هذا الخطاب لسيد المخاطبين محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد به غيره على حد قوله تعالى (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) الآية 81 من سورة القصص المارة في ج 1 ومثلها الآية 65 من سورة الزمر الآتية وما يشابهما من الآيات، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يصده صاد عن آيات ربه، فثبت أن المراد غيره بمعنى إياك أعني واسمعي بإجارة، فيكون المعنى قل أيها الإنسان إن كنت في شك مما أنزل علي فاسأل أهل الكتاب يخبرونك بصدقه، يدل على هذا قوله تعالى آخر هذه السورة (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فلا يقال والعياذ بالله تعالى أن الرسول شاكّ في نبوته أو فيما أنزل عليه، حاشا ثم حاشا، لأنه يوجب سقوط الشريعة معاذ الله، ولكان غيره بالشك أولى وهو لا يجوز البتة، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم قط ولم يسأل، إذ قال لا أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، فاحذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من ذكر الشك والصاقه بحضرة الرسول بداعي أنه من البشر، فإنه لا يجوز أصلا، نعم إنه بشر ولكنه قال مرارا إني لست كأحدكم، وعبر قول الناظم: محمد بشر وليس كالبشر ... بل هو جوهرة والناس كالحجر وفي هذه الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في أمر دينه فليراجع من يزيلها عنه من أهل العلم وليسارع إلى ذلك، قال تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية 44 من سورة النحل الآتية ولا يعتمد على علمه، فكم زل عالم، وليعلم أن الاعتماد على النفس غرور وخيلاء وليتأمل قوله تعالى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية 76 من سورة يوسف الآتية ليدفع عن قلبه ما طرأ له بالبرهان من قوانين الدين وأدلته ومباحث العلماء العارفين فيه، وبما أن هذه الآية مدنية والآيتين اللتين بعدها كذلك، فإن المراد بالذين يقرأون الكتاب والله أعلم هم عبد الله بن سلام وأصحابه الموثوق بأخبارهم، ولا يخفى أن منطوق الآية عام شامل لمؤمنهم وكافرهم، لأن القصد في هذا الإخبار بصحة هذه القصص، والإخبار

بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهما مدوننان في كتبهم وموضح فيها بعض تلك القصص ونعت حضرة الرسول، ومهما بالغوا في الكذب والإنكار لا يستطيعون جحدها خشية تكذيبهم أمام قومهم، وهم عرب يتحاشون عنه، إلا أنهم يبالغون في كتمها مهما أمكن. هذا وقال بعض المفسرين إن الخطاب في الآية لحضرة الرسول يشمل كافة الخلق على حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الآية الأولى من سورة الطلاق في ج 3 وهو حسن، لكن فيه بعدا لأنه متى قيل إنه داخل في هذا الخطاب كان الاعتراض بما قدمناه موجودا والسؤال عنه واردا، وقال بعضهم أن (إن) في الآية نافية والمعنى ما أنت في شك حتى تسأل، فلا تسأل، ولئن سألت لازددت يقينا، ولكنه خلاف الظاهر، وقيل إن الشك هنا بمعنى الضيق، أي إن ضقت ذرعا من أذى قومك فاسأل إلخ الآية، وليس بشيء، لكونه خلاف الظاهر أيضا، وقيل إن الخطاب ليس له أصلا، لأن الناس كانوا في زمنه ثلاث فرق: مصدقون وهم المؤمنون، ومكذبون وهم الكافرون، وشاكون وهم المترددون، فخاطبهم الله تعالى بقوله فإن كنت أيها الإنسان في شك من الهدى الذي أنزلناه على نبينا ومما أخبر به من القصص، فاسأل أهل الكتاب يدلوك على صحته، وإنما وحد الضمير وهو يريد الجمع، لأن الخطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 7 من سورة الانفطار وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية 7 من سورة الانشقاق الآتيتين، فإنه تعالى لم يرد فيها إنسانا بعينه بل أراد الجمع وهو وجيه، والله أعلم. «لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» في هذه الآيات الواضحة والبراهين القاطعة فهو الحق لا ريب فيه «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ 94» في شيء منه فتتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين، بل دم على جزمك الذي أنت عليه من قبل ولا تلتفت إلى ما ينقولون، والافتراء هو التشكك والتردد وهو أخف من التكذيب، ولذا عقبه بقوله «وَلا تَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» فأنساهم الله ذكره وخسروا الدنيا والآخرة «فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ 95» مثلهم نفسا وعملا، والتعبير بالخاسرين أظهر من التعبير بالكافرين،

والفائدة من النهي في الموضعين التهييج والإلهاب وزيادة التثبت والإعلام بأن الافتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما، فكيف بمن يمكن اتصافه بهما، وفي هذه الآية قطع لأطماع الكفرة. وهاتان الآيتان على حد قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما سيأتي في الآية 104 من هذه السورة، وما قدمناه في الآية 17 من سورة القصص المارة فهي من جملة الخطابات المراد بها غيره صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم من الشك والمرية والتكذيب، كما ثبت لك مما تقدم وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن العظيم، وأحسن الأقوال في تفسيرها ما ذكرناه لك في تفسير هذه الآية، فتمسك بها واحذر أن تكون ممن يشملهم قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ» بالعذاب الداخلين في قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية 120 من سورة هود الآتية المحكوم عليهم بذلك بمقتضى قضائه الأزلي وقدره السابق في علمه المسجل في لوحه المحفوظ «لا يُؤْمِنُونَ» البتة إذ لا يمكن نقض قضاء أبرمه وتخلف إرادة قضاها، وهكذا كل من قطع الله بعدم إيمانه لا يؤمن مهما جاءه من الرسل والكتب ومهما أظهر له من الآيات والمعجزات بدليل قوله تعالى «وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ» من آيات الرسل الأقدمين وغيرها، لأنهم لا ينتفعون بها ولا يتدبرون حكمها ولا يعقلون معناها لصرفهم جوارحهم إلى غير ما خلقت لها، لذلك قطع الأمر بموتهم كفارا وتخليدهم بالنار، لأنهم مثل فرعون لا يؤمنون «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ 96» الذي لا آلم منه ولا مرد له ولا نجاة منه، وإذا آمنوا حينذاك لا ينفعهم إيمانهم للإتيان به في غير محله كما مرّ تفصيله في الآية 90 آنفا وهذه آخر الآيات المدنيات، قال تعالى «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ» أي أهلها من اطلاق المحل وإرادة الحال فيه، كما تقول سال الوادي، وجرت الساقية، وهذا كثير في القرآن أيضا وهو من محسنات الكلام. «آمَنَتْ» عند معاينة العذاب «فَنَفَعَها إِيمانُها» حال اليأس، ولا يرد على هذا عدم قبول إيمان فرعون، لأنه لم يفارقه النبي الذي أرسل لإرشاده حتى أدركه الغرق، أما هؤلاء فإن نبيهم بعد أن أنذرهم بنزول العذاب تركهم كما سيأتي في القصة.

مطلب في المشيئة والاستثناء وقصة يونس عليه السلام:

مطلب في المشيئة والاستثناء وقصة يونس عليه السلام: وقد سبق في علم الله تعالى صدق نيتهم في توبتهم قبل إحاطة العذاب فيهم، كما سنوضحه لك قريبا، بخلاف فرعون لأنه في تلك الحالة الرهيبة لم يزل شاكا كما تقدم في الآية 90 المارة حتى مات «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» استثناء متصل، لأن الجملة في معنى النفي، أي ما آمنت قرية من القرى الهالكة فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا نفعهم إيمانهم، وقوم منصوب على أصل الاستثناء وإذا رفعت (قوم) على القراءة الأخرى كان الاستثناء منقطعا، ويكون المعنى لكن قوم يونس نفعهم إيمانهم «لَمَّا آمَنُوا» إيمانا خالصا لا يشم منه رائحة شك أو غيره ولذلك «كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» الذلّ والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بخلاف غيرهم إذ استأصلناهم بالعذاب لعدم صدق نيتهم وصحة إخلاصهم، وقد سبق في علم الله أن الذين استؤصلوا لو أجاب دعاءهم ورفع عنهم العذاب لردوا إلى ما نهوا عنه، أما هؤلاء فكان في علمه الأزلي إخلاصهم لله في توبتهم، لذلك رفعنا عنهم العذاب «وَمَتَّعْناهُمْ» في الدنيا بعده «إِلى حِينٍ 97» انقضاء أجلهم المقدر لمكثهم فيها، وهو الأجل المبرم المقدّر على حسن توبتهم ونيتهم ولولا ذلك لأهلكوا بالأجل المعلق المقدر على عدم توبتهم ورجوعهم إلى الله، راجع الآية 2 من سورة الأنعام الآتية.، وهؤلاء خصوا من بين الأمم بحسب قضاء الله الأزلي، وتنطبق عليهم القاعدة ما عموم إلا وخص منه البعض، كقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية 69 من الزمر الآتية، وقوله تعالى (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية 88 من سورة النمل المارة في ج 1. هذا ولا يقال إنهم آمنوا قبل نزول العذاب لمخالفته للآية لأن الكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو بعد قرب وقوعه، لأنه وقع قبل إحاطته بهم وبعد مشاهدتهم له، والله أعلم. وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون هي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى أهل نينوى بأرض الموصل، وكانوا مشركين فدعاهم لتوحيد الله تعالى ورفض سواء من الآلهة، فأبوا عليه وأصروا

على كفرهم وكذبوه وجحدوا رسالته، فأخبرهم أنهم إذا لم يؤمنوا فإن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ليال، فأتقوا منه، واشتد غضبه عليهم، ولما لم يجد نصحه لهم نفعا أعرض عنهم وتركهم وذهب خارج قريتهم، فلما فقدوه عرفوا أن ما وعدهم به من العذاب واقع بهم لا محالة لأنهم لم يجربوا عليه كذبا، فخافوا وندموا، فلما أصبحوا توقعوا نزول العذاب فرأوا غيما أسود فغشاهم فأيقنوا أنه ما وعدهم به، فلبسوا المسوح وخرجوا إلى الصحراء بنسائهم وأولادهم ودوابهم وأظهروا توبتهم لله وإيمانهم برسوله وردوا المظالم الى أهلها وعجّوا إلى الله بالدعاء وعملوا ما كان يأمرهم به نبيهم وانتهوا عما نهاهم عنه، حتى انهم صاروا يقلعون الأحجار المغصوبة من بنائهم ويعطونها أهلها، رصاروا يتضرعون إلى الله، وفرقوا بين الأولاد والأمهات من نوع الإنسان والحيوان، وازداد بكاؤهم وبالغوا بالاستغاثة إلى الله. وهم يشاهدون الدخان يظهر من ذلك الغيم، وانه لا يزال بسود ويتكاثف ويقرب منهم حتى غشي مدينتهم كلها واسودت أسطحتهم وأحاط بهم من كل جانب، وهم يلحّون بالدعاء إلى الله ويستصرخونه بالإغاثة، وصار الأطفال يتصايحون والحيوانات تتثاغى، والنساء تبكي، وازداد عويل الرجال لرقة قلوبهم على الأولاد والحيوانات والنساء وأملهم برجاء الله رفع بلاءه عنهم وهو يتقوّى ساعة فساعة، ثم ذهبوا إلى شيخ لهم كانوا يعتقدون به فشكوا إليه نزول العذاب واستطلعوا رأيه واسترشدوا به، فقال لهم قولوا يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. وقال الفضيل قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن له أهل. وأنابوا كلهم إلى الله بإخلاص ونصح وصدق ودعوا كلهم بلسان واحد بذلك الدعاء وابتهلوا إلى الله تعالى موقنين قبول رجائهم، فرحمهم وكشف عنهم العذاب أولا بأول، وبدد تلك الغيوم حتى لم يبق منها شيء، فقرحوا وسبحوا الله وحمدوه وشكروه، ثم أمر الله يونس بالرجوع إليهم، فقال رب كيف أرجع فيجدوني كذابا لأني وعدتهم بالعذاب فكشفته عنهم، وإن عادتهم إذا كذب الرجل دون بيّنة قتلوه، وانصرف مغاضبا. وسنأتي على بقية هذه القصة في الآية 139 فما بعدها من سورة الصافات الآتية حتى لا تتكرر

مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها:

هنا وهناك، وقد ألزمنا أنفسنا التحاشي عن التكرار في القصص وغيرها مهما أمكن، لأن سبب ضخامة تفاسير المفسرين من التكرار لا غير. مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها: قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ» على الإحاطة والشمول «جَمِيعاً» تأكيد بعد تأكيد بحيث لا يتخلف منهم أحد البتة، ولكن الله جل شأنه لم يشأ ذلك، لأنه لا يشاء إلا ما يعلمه ولا يعلم إلا ماله ثبوت في نفسه في لوحه، فما لا ثبوت له أصلا لا يعلم، وما لا يعلم لا يشاء، ولا يشاؤه لكونه مخالفا لحكمته التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. وفي هذه الآية إشارة إلى تحقيق دوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، وإعلام بكمال قدرته ونفوذ مشيئته، وحجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها، وقرية لا يجوز التخلف عنها، وحملوا ما في الآية على الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة إلجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا، لكنه لم يشأ، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له ولضده، وفوض الأمر إليهم، محتجين بقوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 29 من سورة الكهف الآتية، وهذا ديّنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقيد مع أن قوله تعالى «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 98» يأباه قياسهم لأن المعنى ليس لك الأمر بإكراه الناس على الإيمان، وإنما أنت مبلغ ومنذر، فلا تحرص على إيمان من لم يؤمن، لأنه لا يكون إلا بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق. والهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة والفاء للتفريع والمقصود تفريع الإنكار. ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفريع الإنكار وقيل الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء أفأنت يا محمد تكرههم على الإيمان، والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على مشيئته تعالى، والإباء هو الإباء، فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها،

[سورة يونس (10) : الآيات 101 إلى 109]

والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع على طريق المبالغة، ومن المعلوم أن المشيئة غير الإرادة، فإن الله تبارك وتعالى أمر الكافر بالإيمان وأراد منه الكفر بمقتضى مشيئته الأزلية، وهذا مما لا نزاع فيه، حتى أن الإنسان قد يأمر خادمه بشيء وهو يريد غيره، قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره عز وجل أنه لا يؤمن إلّا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولم يقل إلّا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول أي اللوح المحفوظ الذي فيه سابق علم الله الأزلي بما كان وما يكون، قال تعالى «وَما كانَ» ما صح وما استقام ولا جاز «لِنَفْسٍ» من النفوس التي علم الله تعالى «أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ومشيئته وإرادته. وهذه الآية بيان لنبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها بمشيئته وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك، وتقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ» الكفر بقرينة ما قبله قال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآية 137 من سورة التوبة في ج 3. وقيل السخط والعذاب وأصله الشيء الفاسد المستقذر، وعبّر عن الكفر بالرجس لأنه علم في الفساد والاستقذار، راجع الآية 128 من سورة الأنعام الآتية. وقرىء بنون العظمة ونجعل الرجس «عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ 99» أوامر الله ونواهيه فلا يفقهون مغازيها حتى يعوها ويتعظوا فيها، فيا أكرم الرسل «قُلِ» لهؤلاء الكفرة «انْظُرُوا» نظر اعتبار واستدلال وتفكر وتدبر «ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من الآيات العظام الدالة على عظم صانعها، ففي السموات الشمس والقمر والنجوم السيارات والساكنات مما عرفه البشر ومما لم يعرفه بعد، وإن كابر بعضهم وقال بمعرفة كل ما في السموات حتى أنه أحصاها عدا فإن هناك من الأفلاك والبروج السائرة والواقفة الطالعة والغارية الظاهرة والخفية والتي يحصل بها الليل والنهار والإنضاج والرطوبة واليبوسة والتطعيم والتلوين وتأثيرات كثيرة وضعها الله تعالى فيها ومنافع تكون منها بإرادته تعالى للبشر والحيوان والطير والحوت والنبات والجماد، وفي الأودية والجبال والبحار والأنهار والعيون والأشجار

والزروع والمعادن المختلفة نوعا وجنسا وشكلا ولونا طبيعة وعملا مما يتركب منها، وأذواق ما يؤكل منها وطعمها مما لا يعلم إحصاء إلا الله، ففي كل منها آية عظيمة دالة على رب عظيم يغنيكم أيها الكفرة عن طلب آية غيرها: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد إن كنتم تريدون الإيمان بمبدعها «وَما تُغْنِي الْآياتُ» مهما كانت جليلة ونادرة «وَالنُّذُرُ» مهما كثروا وتعبوا في نصح البشر «عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ 100» حالا ومستقبلا لأن الله طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم الذين لا يعقلون المنوه بهم آنفا الذين سبق لهم في الأزل الشقاء «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ» هؤلاء الكفار الذين لا يعقلون آيات الله ويطلبون الآيات من الرسل «إِلَّا» أياما سودا «مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ» بأن بوقع الله بهم مثل ما أوقعه عليهم من الغرق والخسف والريح والصيحة وغيرها من أنواع العذاب الذي صبّ على أسلافهم، وقد أطلقت الأيام على الوقائع الشديدة، لأن العرب تسمي النقم أياما كما هنا والنعم أياما كما في قوله تعالى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) الآية 5 من سورة ابراهيم الآتية، فإذا كانوا ينتظرون إهلاكا مثل إهلاكهم لأنهم سائرون على شاكلتهم، فيا حبيبي «قُلْ» لهم «فَانْتَظِرُوا» ذلك لا تستعجلونه فإنه آت «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 102» له وإني مترقب إهلاككم فيه ونجاتي ومن معي لقوله عز قوله «ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» من ذلك العذاب المنتظر «كَذلِكَ» مثل ما أنجينا الرسل الذين بعثناهم إلى الذين قبلكم وأهلكنا من كذبهم من أمثالكم لأنا نرى «حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ 103» أنت ومن آمن بك يا محمد ونهلك المشركين الذين كذبوك. واعلم أن حروف هذه الآية من كلمة كذلك إلخ 1468 بحساب الجمل وان الآيتين من سورة الصافات 171/ 172 والآية 51 من سورة المؤمن لها مساس في مغزى هذه الآية فراجعها وراجع الآية 47 من سورة الروم الآتية أيضا، وإنا مثلما نفّذنا وعيدنا بإهلاك الكفرة ننجز وعدنا بنصرة الرسل وفوز المؤمنين بهم، وهذا مما أوجبه الله تعالى على ذاته المقدسة من الحق هو من حيث الوعد والحكم لا من حيث الاستحقاق، لأنه تبارك وتعالى ما عليه واجب

والعبد لا يستحق عليه شيئا، ومعنى أن الإنجاء واجب عليه انه كالأمر الواجب عليه تعالى بحسب وعده الذي لا يخلف، وإلا فلا وجوب حقيقة لا بالإنجاء ولا بالإهلاك، لأنه يفعل ما يشاء ويختار، فله أن يعذب المؤمن وينعم الكافر، فلا يسأل عما يفعل كما هو عقائد الأشعرية والماتريدية، وعليها جميع أهل السنة والجماعة، وهذا لا يعد ظلما منه، لأن الظلم التصرف في ملك الغير بلا حق، والله سبحانه وتعالى هو المالك المتفرد في عذا الكون علويه وسفليه، وله التصرف فيه كيفما شاء وأراد، وهذه الآية مقررة لمضمون ما قبلها، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيات 55/ 65 و 91 المارات في هذه السورة، قال تعالى «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» الذي أدعوكم إليه تقدم ما فيها في الآية 91 المارة من هذه السورة أيضا «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الأوثان لأني على دين أبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تعرفونه، لا تشكون فيه، كما أن رؤساء النحل كلها تحترمه وتقر لحضرته بصحة الدين القويم ولا تشك فيه، فالأولى أن تشكوا في دينكم المبتدع الذي لا أصل له البتة، وإنما قدم النفي لأن العبادة غاية تعظيم المعبود فلا تليق لأخس الأشياء كالأوثان التي لا تضر ولا تنفع تارك عبادتها وعابدها، وإنما تليق لمن بيده النفع والضر والإحياء والإماتة الملمع إليه بقوله «وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» فهو الذي يستحق العبادة لأنه خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم يميتكم ثم يحييكم، وقد اكتفى بذكر الوفاة لأنه أشد شيء على النفس وأقوى في الزجر والردع «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 104» المصدقين بالله الواحد وبما جاء من عنده، ولما ذكر العبادة التي هي من أعمال الجوارح اتبعها بما هو من أعمال القلوب وهو الإيمان فقال جل قوله «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ» أي ذاتك كلها، وهذه عطف على أن أكون «لِلدِّينِ حَنِيفاً» مائلا عن كل أباطيلهم وهي حال مؤكدة من الوجه لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والاعراض عن الباطل بكلية الإنسان من إطلاق الجزء على الكل «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 105» في الاعتقاد والأعمال «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ» مما يدعوك إليه

قومك من الاستشفاع بالأوثان وغيرها «فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ 106» لنفسك وغيرك، هذا كله خطاب عام مراد به غير حضرة الرسول وإنما خوطب به تهييجا وإلهابا لقلوب الناس وحثهم على التوحيد والكف عما هم عليه والرجوع إلى الله تعالى كما قدمناه في الآية 94 المارة من هذه السورة. قال تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» من مرض وفقر وشدة وذلة «فَلا كاشِفَ لَهُ» عنك «إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ» صحة وعافية ورفاه وجاه «فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» على عباده من أحد ما «يُصِيبُ بِهِ» بكل من الضر والخير «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» مؤمنهم وكافرهم وقد قطع جل شأنه في هذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه، وسبيل الاعتماد في الأمرين وغيرهما إلا عليه، وقد رجح سبحانه جانب الخير في هذه الآية على جانب الشر لأنه لما ذكر إمساس الضربين أن لا كاشف له إلا هو، فيدل هذا على أنه يزبل جميع المضار ويكشفها، لأن الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير قال (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي أن جميع الخيرات منه لا يقدر أحد على ردها، لأنه هو مفيضها على عباده، ولذلك عضدها بقوله «وَهُوَ الْغَفُورُ» لذنوب عباده الساتر لها «الرَّحِيمُ 107» بهم الرءوف كثير الشفقة عليهم ومن رحمته لا يؤاخذهم بما يفعلون بحسب لطفه بهم، ويرزقهم وهم له جاحدون بمقتضى رأفته بهم، قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية الأخيرة من سورة فاطر المارة في ج 1، وقال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ... ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية 62 من سورة النحل الآتية، فأكثروا من شكره أيها الناس واحمدوه وعظموه ومجّدوه، فهو المختص بالحمد بالدنيا والآخرة وهو المالك له فلا يقدر أحد أن يحمد أحدا إلا بتقديره «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ» هو كتاب الله الذي فيه هديكم «مِنْ رَبِّكُمْ» ومالك أمركم على لسان رسولكم الذي هو منكم «فَمَنِ اهْتَدى» به وصدقه وآمن بما أنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» لأن نفع هداه يرجع إليها «وَمَنْ ضَلَّ» عن سلوك طريق هداه ولم يسترشد به وكذب من أنزله عليه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه نفسه،

وفي هذه الآية تنزيه ساحة صاحب الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه من جلب نفع ودفع ضر لذلك أمره الله أن يقول لقومه العتاة المعاندين «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ 108» للقيام بأموركم وإصلاح أحوالكم، وإنما أنا بشير لمن أطاع الله بالجنة ونذير لمن عصاه بالنار، وفي هذه الآية إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم غير مجبر لهم على الإيمان ولا بمكرههم عليه، ولا هو مكلف بقسرهم على شيء ما وإنما هو مأمور بتبليغهم أوامر الله ونواهيه فقط كما مر في الآية الأخيرة من سورة طه المارة في ج 1، وللبحث صلة في الآية 21 فما بعدها من سورة الغاشية الآتية، قال تعالى «وَاتَّبِعْ» يا سيد الرسل في جميع شئونك اعتقادا وعملا وتبليغا «ما يُوحى إِلَيْكَ» من ربك في هذا القرآن واعمل به وذكر قومك ليعملوا به «وَاصْبِرْ» على عدم قبولهم أوامر ربك، وعلى أذاهم لك، ومخالفتهم لأمرك، ودم على هذه الحالة «حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ» بنصرك عليهم وإعلاء كلمتك وإظهار دينك بالوقت الذي قدرناه هذا وارض بحكم الله فيما تؤمر به وتنهى عنه «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ 109» وأعدلهم وأنفذهم حكما، لأن المطلع على السراء العالم بما تخفيه الصدور من قول الخصمين يوقع حكمه على ما هو الواقع دون حاجة إلى بينة أو شهادة، فالخطأ في حكمه محال والقول بخلاف هذا ضلال، وفي هذه الآية الوعيد والتهديد بالخذلان للكافرين والوعد والبشارة للمؤمنين بالنصر بما لا يخفى على بصير. ويوجد سورة أخرى في القرآن مختومة بمثل هذه اللفظة وهي سورة والتين المارة في ج 1 فقط، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه بالصبر على قومه حتى جزع الصبر ولم يجزع هو كما قيل: سأصبر حتى يجزع الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري وكما قيل أيضا: سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمر من الصبر وكما في قول الآخر: يبيت يريني الدهر كيف انقلابه ... أبيت أريه الصبر كيف يكون وللصبر بحث في الآيات الأخيرات من سورة النحل الآتية فراجعها. هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة هود عدد 2 - 52 - 11

تفسير سورة هود عدد 2- 52- 11 نزلت بمكة بعد سورة يونس عدا آيتي 13/ 14 وآية 114 فإنها نزلت بالمدينة، وهي مئة وثلاث وعشرون آية، وألف وستمئة كلمة وتسعة آلاف وخمسمائة حرفا، وقد بينا الآيات بما بدئت به أول سورة يونس المارة، وختمت بما ختمت به سورة النمل المارة في ج 1. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الر» اسم للسورة وللقرآن وإشارة لأسماء الله الحسنى وصفاته أي بعضها، وقال بعض المفسرين معناه أنا الله أرى، وقد تقدم ما فيه من البحث الوافي أول سورة الأعراف والسور المصدرة بالحروف المنقطعة المارة في ج 1 وفي السورة قبلها وقولنا الله أعلم بمراده بما فيها أحسن ما قيل فى معناها لأنها عبارة عن رموز بين الله ورسوله لا يعلمهما غيرهما على الحقيقة، وهكذا حكم الآيات المتشابهات في هذا القرآن العظيم إذ يوكل معناها إلى الله، قال الإمام الرياني الشيخ نعمة الله بن محمود النخجواني في تفسيره الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية في تفسير هذه اللفظة: أيها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء لوامع أنوار الإلهية وارتفاع رايات رموز أسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ» إحكاما مبرما لا تنسخ ولا يطرأ عليها تبديل أو تعديل إذ لا كتاب بعده، وقد نسخت آياته أكثر أحكام الكتب القديمة وعدلتها إلى أحسن نظما وأخف عبئا وأعظم أجرا، وإني لأعجب ممن يقرأ هذه الآية ويقول بالنسخ إذ ما بعد الاحكام إلا التسليم بجميع ما جاء فيه. واعلم أن الر تقرا كما هو الأصل بتفخيم الراء وهكذا في كل راء مفتوحة أو كان ما قبلها مفتوحا ولا عبرة بالحرف الساكن بينهما أي بينهما وما قبلها لأنه حاجز غير حصين «ثُمَّ فُصِّلَتْ» تفصيلا بديعا ونظمت تنظيما رصينا فبيّنت الحلال من الحرام والحق من الباطل أكمل بيان وأتم تبيان وأوضحت القصص والأخبار أحسن إيضاح، وهذا الإحكام والتفصيل واقع ومنزل «مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 1» بأفعاله عليهم بأقواله يضع الأشياء مواضعها بما يصلح أحوال عباده شاهد لما يقع منهم وقد أمركم أيها الناس «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ»

وحده لا شيء ولا أحد أبدا، وأن هنا مفسرة على ما جرينا عليه وهو أحسن من جعلها على تقدير اللام كما مشى عليه بعض المفسرين، والمعنى على الأول أن الله الذي أنزل هذا الكتاب وأحكم آياته وفصلها أمركم أن لا تعبدوا غيره وذلك لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه، وعلى الثاني تكون مصدرية وتقدر اللام معها تعليلا وعليها يكون المعنى هذا كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله، ويجوز أن تكون هذه الجملة مبتدأة للإغراء على التوحيد أي الأمر بالتبري عن عبادة غير الله تعالى أي الزموا التوحيد واتركوا عبادة الغير وارجعوا إلى الله ربي وربكم «إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ» أي يقول الله تعالى يا محمد قل لقومك إنني أيها العصاة «نَذِيرٌ» لكم من عقاب الله تعالى «وَبَشِيرٌ 2» لكم أيها الطائعون بثوابه «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» مما اقترفتموه من الذنوب واخترقتموه من العيوب «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» بعدها عما سلف منكم حال حياتكم من كل ما يغضب الله فإذا فعلتم ذلك فإن الله تعالى «يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً» في هذه الدنيا بسعة الرزق والعافية والعزّ «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده، واعلم أن ما جاء في الحديث الشريف: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر لا يرد على هذه الآية لأنها سجن المؤمن بالنسبة لما أعده الله تعالى له في الآخرة من النعيم المقيم فكل ما أعطاه له في هذه الدنيا من النعم لا يعد شيئا بجانبه على أن ما يصيبه فيها من البلاء يكون مكفرا لذنوبه كي يلقى ربه وليس عليه ذنب يستوجب المجازاة وهذا لطف من الله بعباده المؤمنين، وكذلك الكافر فإن الدنيا له جنة بالنسبة لما أعده له من العذاب الأليم في الآخرة، فكل ما يصيبه في الدنيا من النعيم لا يوازيه عذاب ثانية واحدة من عذابها وأن ما يناله من الخير فيها فهو بمقابل حسناته التي يعملها كصلة رحم وإقراء ضيف وشبههما كي يلقى الله تعالى وليس له حسنة تستحق الجزاء الحسن وهذا زيادة في شؤمه وعذابه «وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ» زيادة من عمل صالح «فَضْلَهُ» جزاءه لا يبخس منه شيئا أبدا، قال أبو العالية من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال، وقال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له

عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها بالدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول ابن مسعود ملك من غلبت آحاده أعشاره. فعلى العاقل أن يكثر من الخير إبان شبابه وسعته، لأنه قد يعجز في الكبر والفقر عن القيام بما يريده من القربات، ولهذا قال الحافظ: أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب لقد كذبتك نفسك ليس شيىء ... دريس كالجديد من الثياب «وَإِنْ تَوَلَّوْا» تتولوا وتعرضوا عن ما جئتكم به من الهدى وأسديت لكم من النصح والتوجيه والإرشاد «فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» بمقتضى الشفقة والرحمة أن يحيط بكم «عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ 3» هو يوم الجزاء على الأعمال يوم مهول لا أعظم منه. واعلم أن كل عمل منعم عليه في الآخرة منعم على صاحبه في الدنيا أيضا بتزيين عمله في نظره وراحة ضميره إليه وتعلقه برضاء ربه، ورجاء ثوابه عليه، واطمئنان نفسه فيه، وانشراح قلبه له، وثناء الناس عليه، وترغيب الغير لمثله، وضرب المثل فيه بالخير والسماحة والعمل الطيب والفعل الحسن، كما أن كل عمل معذب عليه في الآخرة معذب ضمير صاحبه عليه في الدنيا بقبح صورته في نظره وسوء تصوّر عمله في قلبه، وإن كان ذاق لذته الظاهرة الزائلة بحينها وضيق صدره لما وقع بعد قضاء شهوته الحيوانية وتخوفه من سوء عاقبته إن كان له وجدان أو دين، وندمه على ما فرط منه وحسرته على تفريطه، وذم الناس له وتحذيرهم من عمله، وضرب مثل السوء به. مطلب كل ما ينعم عليه العبد في الدنيا ينعم عليه في الآخرة وبالعكس: روى الإمام أحمد بن حنبل والدارمي رحمهما الله بإسناد حسن في سنديهما عن وابصة بن معبد رضي الله عنه دفين الرقة من أعمال دير الزور- سابقا-، قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البر؟ قلت نعم (وهذا من الإخبار بالغيب لأنه صلى الله عليه وسلم أخبره بما جاء يسأل عنه قبل أن يبديه له) قال استفت قلبك، البر ما اطمأنت

إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك بالفاء وفي رواية بالقاف- فعلى الأول من الفتيا وهي الجواز والرخصة والثاني من الإقتاء وهو الإرضاء، أي وإن أرضوك فلا تركن لقولهم. وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس. وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنهما قال حفظت من رسول الله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. قال تعالى «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ» أيها الناس بعد الموت «جميعا» بركم وفاجركم «وَهُوَ» الذي أحياكم في الدنيا وأماتكم فيها ويحييكم ثانيا يوم القيامة ذلك الإله الواحد المتجلي في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق هو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 4» لا يعجزه شيء «أَلا إِنَّهُمْ» أولئك الكفرة عند سماع آيات الله المنزلة عليك يا أكمل الرسل من ربك الملك الجبار القهار العلام «يَثْنُونَ» يلوون ويعطفون ويصرفون عنك «صُدُورَهُمْ» يزوّرونها عن رؤيتك وينحرفون بكليتهم عنك ويخفون ما فيها من عداوتك، يقال أزوّر عنه وثنى عنه لأن من يقبل على الشيء يقبل بصدره، ومن يدبر يزوّر وينحرف بصدره ويطوي كشحه، وهذه الآية في معرض الجواب عما تقدم من الترغيب والترهيب فكأن أولئك الكفرة بعد ما سمعوا من حضرة الرسول ذلك القول العظيم الإلهي الذي تخر له صم الجبال تمادوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم ودارموا على إعراضهم المشار إليه بقوله (فإن تولوا) الجملة المارة في الآية 3، وإنما خص الصدور بالازورار لأن ما فيها مكتوم، فكأنهم يظهرون له خلاف ما يبطنون، يدل عليه قوله تعالى «لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ» صلى الله عليه وسلم والله لا تخفى عليه خافية فإنه جلت عظمته يخبر نبيّه بما يقع منهم ظاهرا وباطنا «أَلا» تنبيه ثان لما بعده بأنه شيء يهتم له ويجب الاعتناء به، وهو أن الله يعلم كل ما يقع منهم حتى أنهم «حِينَ» وقت وزمن «يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ» فيه فيغطون بها رءوسهم كراهية رؤية من تخطب

رؤيته صلى الله عليه وسلم وكراهية سماع قوله الذي يشتاق إليه الجماد لا لأمر آخر، قاتلهم الله، فإنه تعالى يعلم قبل وقوعه منهم بأنهم فاعلوه وهؤلاء مثلهم مثل قوم نوح عليه السلام إذ أخبر الله عنهم حينما يتكلم معهم نوح عليه السلام بقوله (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلا يسمعوا كلامه (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) لئلا يروه كما سيأتي في الآية 7 من سورته الآتية تشابهت قلوبهم، أخزاهم الله الذي «يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ» في أنفسهم «وَما يُعْلِنُونَ» من كلامهم كما هو عالم من قبل ما يقع منهم سرا وجهرا قبل وقوعه «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 5» بما فيها من الأسرار المستكنة فكيف يخفى عليه حال هؤلاء؟! وفي هذه الآية دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها بل قبل وجودها الخارجي وهو مما لا ينكره أحد إلا بعض المعتزلة القائلين بأنه تعالى يعلم الأشياء بعد حدوثها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لما فيه من تشبيهه بخلقه، لأن العلم بالشيء بعد حدوثه يعلمه بعض خلقه فلا مزية فيه، وهذا كقول بعضهم إن الإسراء وقع مناما لأنه قد يقع لبعض خلقه من غير نكير، قال ابن عباس نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر، وكان يلقى رسول الله بما يحب ويطوي بقلبه عليه ما يكره، وما قيل إنها نزلت في بعض المنافقين الذين كانوا يلقونه صلى الله عليه وسلم بوجه منطلق ويبطنون له غير ذلك لا يتجه، لأن هذه السورة مكية والآية كذلك، والنفاق إنما ظهر في المدينة وهم فيها لا شك يقع منهم ذلك وأكثر، ولذلك سموا منافقين وهذه الآية تنطبق عليهم، إلا أنها لم تنزل بحقهم، اللهم إلا إذا كان هذا من قبيل الإخبار بالغيب عن شيء لم يقع، لعلمه تعالى بوقوعه فيما بعد، فيكون جائزا، ومثله كثير في القرآن، لأنه من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم ومعجزات القرآن العظيم، وهو من قبيل ما تأخر حكمه عن نزوله، راجع أول سورة الطارق المارة في ج 1، قال تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض أي مشى عليها، ويطلق على ذوات الأربع عرفا، والمراد هنا ما هو عام للإنسان وغيره «إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» تفضلا منه وتكرما لا واجبا «وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها» وبقاءها في عالم الشهادة، ومقدار ثباتها فيه وانفكاكها عنه، ومكامنها

ومساكنها، ومحل وكرها الذي تأوي إليه في الأرض والبحار والجبال والهواء وغيرها، «وَمُسْتَوْدَعَها» قبل خروجها إلى عالم الظهور وقبل استقرارها في الأصلاب والأرحام والبيوض وغيرها، وبعد انعدامها من المحلات التي تدفن فيها أو تضمحل بها، وما قيل إن تفسير المستودع بهذا لا يلائم تكفل الله بأرزاقها إذ لا مجال له ولا حاجة للرزق فيه مردود، لأن المراد بالتكفل مدة بقائها في برزخ المادة واحتياجها للرزق، فتنتهي مدته بالأجل المقدر لكل دابة، فكأنه قيل إن الله تعالى متكفل برزق كل دابة، ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه. ولهذا البحث صلة في الآية 98 من سورة الأنعام الآتية، وقد ألمعنا إليه في الآية 9 من سورة مريم المارة في ج 1 «كُلٌّ» من الدواب دوّن اسمه ورزقه ومستقره ومستودعه، وما يطرأ عليه في مدة أجله «فِي كِتابٍ مُبِينٍ 6» ظاهر مثبت فيه كل شيء قبل خلقه وبعد خلقه، وموضح فيه آجال الأشياء ومصيرها بعد موتها وانعدامها بأي صورة كانت وتكون، والدبّ مأخوذ من الدبيب وهو الشيء الخفيف وعليه قوله: زعمتني شيخا ولست بشيخ ... إنما الشيخ من يدب دبيبا ويفهم من هذه الآية أن الله تعالى يسوق رزق كل دابة إليها دون أن تسعى إليه بمقتضى تكفله لها بدليل قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية 22 من الذاريات الآتية، وقوله صلى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله لحق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. وما جاء في الخبر: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. وتؤذن أيضا في حمل العباد على التوكل، إلا أنه لا يمنع من مباشرة الأسباب، مع العلم بأن الله تعالى هو المسبب لها وجاء في الخبر: (اعقل وتوكل) وقال تعالى (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الآية 16 من سورة الملك الآتية، ففيهما إيذان بتعاطي الأسباب مع التوكل على الله، إلا أنه لا ينبغي أن يعتقد عدم حصول الرزق بدون مباشرة سبب، فإنه تعالى يرزق كثيرا من خلقه دون مباشرة الأسباب أصلا، فقد جاء في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله

إذ أمره الله تعالى بالاشتغال بتبليغ الرسالة إلى من يعلم عتوه له وعناده وبغضه له بسبب قتل الرجل من قومه قاتله الله ولم يحسب قتل الألوف من قبله من قوم موسى، فأمره الله تعالى أن يضرب صخرة بعصاه، فضربها فانشقت عن صخرة ثانية، فضربها فانشقت عن صخرة ثالثة، فضربها فانشقت عن دودة كالذرة، وفي فمها شيىء يجري مجرى الغذاء لها، وسمعها تقول سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ولا ينساني، فتنبه موسى عليه السلام لذلك وصرف نظره عن ذكر أهله. وما أحسن قول ابن أذينة: لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... إن الذي هو رزقى سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو أقمت أتاني لا يعنيني وقد صدقه الله تعالى حيث وقد على هشام بن عبد الملك، فلما رآه قرّعه بقوله هذا فقال له وتشد رحلك من المدينة إلى الشام بطلب الرزق، فتركه ورجع، فلما غاب عنه ندم هشام على ما وقع منه نحوه، وكانوا يخشون الشعراء حفظا لكرامتهم، لأن الشاعر قد لا يترك عادته من الهجاء كما لا يتركها في المدح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ذبوا بأموالكم عن أعراضكم، فأرسل بجائزته إليه من دمشق إلى المدينة، فلما رأى أنه أرسلها رغما عنه دون طلب منه، قال للرسول قل له قد صدقت في قولي ولو أراد الله لما بعثك بها من الشام إلى المدينة، فأخبر الرسول هشام بن عبد الملك بما قاله ابن أذينة فسمعه ورجع عن كلامه. مطلب إرسال الرزق عفوا وكون العرش على الماء وكيفية الخلق: ولا ينبغي لمثله أن يفعل ذلك، ويوجد أخبار وآثار كثيرة في هذا الشأن، وقد ألغى أمر الأسباب إلغاء تاما القائل: مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعا ... وإذا وليت عنه تبعك وهذا يكون بحسب مكابرة الأشخاص واعتقاداتهم، وبالجملة فينبغي الوثوق بالله وربط القلب به فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وتشير هذه الآية أيضا إلى

أن الحرام رزق وإلا فمن يأكل طول عمره حراما يلزم أن لا يكون مرزوقا، وهو خلاف الواقع، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية 59 من سورة يونس المارة وما يتعلق بالكسب في الآية 20 من سورة المزمل، والآيتين 40/ 39 من سورة والنجم، وفي الآية 13 من سورة فاطر المارات في ج 1، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» راجع تفسيرها في الآية 60 من سورة الفرقان المارة في ج 1 وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي تعرضنا فيها للبحث عما فيها، وله صلة في الآية 9 من سورة فصلت الآتية «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» قبل خلق السموات والأرض، فتدل هذه الآية على أن العرش والماء خلقا قبل السموات والأرض، وفي وقوف العرش على الماء مع عظمته اعتبار لأهل الأفكار، وفيه من كمال القدرة ما فيه، لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم قد وضع على الماء، ولم يخرج عن حيّزه الطبيعي؟ ولا يقال كيف، لأن افعال الله تعالى لا تعلل وقدرته لا تضاهى كما قدمنا في الآية 92 من سورة يونس المارة، روى مسلم عن عبد الله بن عمر وبن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء. وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء. وروى البخاري عن عمران بن حصين قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتى ناس من تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم، فقالوا بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشر يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا قبلنا يا رسول الله، ثم قالوا جئنا نتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء، ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت،

فانطلقت أطلبها، فإذا السراب يقطع دونها، وأيم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم. هذا ومعنى كان الله ولم يكن معه شيء، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، ومعنى كان عرشه على الماء، يعني خلق الماء وخلق العرش فوقه، ومعنى العماء سحاب رقيق ليس معه شيء، ومعنى قوله ليس فوقه هواء أي ليس فوق العماء هواء، وكذلك وما تحته هواء، وفي رواية في عمى بالقصر لا بالمد، وعليه يكون المعنى أن لا شيء ثابت في ذلك، لأنه من عمى معرفته عن الخلق أي كان قبل أن يخلق خلقه، ولم يكن شيء غيره، ويكون معنى ما فوقه هواء ليس فوق العمى هواء ولا تحته هواء، لأنه لا شيء، وإذا كان لا شيء فليس يثبت له هواء بوجه ما. وقيل العمى كل أمر لا يدركه الفطن والله أعلم، لأن هذا التأويل على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا أحد يدري كيف كان ذلك العماء، فيجب الإيمان به بلا تكييف، لأن الأمور المتشابهة ينبغي الإيمان بها حسب ظاهرها والوقوف عندها، وذلك طريق السلامة، راجع الآية 5 من سورة طه المارة في ج 1 تجد ما يسرك «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» في هذه الدنيا وأكثر ورعا عن محارم الله، وأعظم شكرا لنعمائه، وأحسن تفكرا في موضوعاته، وأشدّ تدبرا في مكوناته أي لهذا خلقها وخلق ما فيها من الخلق الذي من جملته أنتم أيها العقلاء، ورتب فيها ما تحتاجون إليه من بدء وجودكم وأسباب معايشكم، وأودع فيها ما تستدلون به على بدائع مكوناته، وتعتبرون بها على ما يقع من مقدراته ليعاملكم معاملة المختبر الممتحن فيرى المحسن منكم لخلقه ويجاز به على إحسانه، والمسيء التصرف في ذلك فيعاقبه على إساءته، وإلا فهو عالم بالصالح والطالح قبل إيجادهما «وَلَئِنْ قُلْتَ» يا سيد الرسل لكفار قومك «إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ» أحياء كحياتكم هذه فتسألون عما عملتم وتحاسبون عما وقع منكم في الدنيا، فيثاب المؤمن على إيمانه ويعاقب الكافر على كفره «لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا» الذي يقوله محمد ويزعم أنه من القرآن الذي أنزل عليه من ربه ما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 7» ظاهر خداعه باطل لا أصل له، يريد به أن نقول ما يقوله من الحياة بعد الموت وعبادة الإله الواحد ليغرينا به، قال تعالى «وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ

مطلب أداة التنبيه وجواز تقديم خبر ليس عليها:

الْعَذابَ» الذي وعدناك بإنزاله عليهم يا سيد الرسل عند عدم قبولهم ما تتلوه عليهم من وحينا «إِلى أُمَّةٍ» آجال وجماعة من الأوقات «مَعْدُودَةٍ» قلائل معلومة محدودة لأن الدنيا كلها قليلة بالنسبة إلى الآخرة، ويطلق لفظ الأمة على الجماعة من الناس، فكأنه تعالى قوله يقول لو أخرناهم بمقدار حياة أمة وانقراضها ومجيء أمة أخرى «لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ» ما يمنع العذاب الذي توعدنا به يا محمد من النزول استهزاء وسخرية بك يا أكمل الرسل، لشدة جهلهم وعدم علمهم أن لمقدراتنا كلها آجالا مقدرة لا تقدم ولا تؤخر عما هو مدون في علمنا الأزلي، ولكن قل لهم إنه نازل بهم لا محالة، ثم صدّر الخطاب بأداة التنبيه المار ذكرها في الآية الخامسة من هذه السورة فقال «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» بوجه من الوجوه لأن أجل الله إذا حل لا يحول وهو مهلكهم البتة. مطلب أداة التنبيه وجواز تقديم خبر ليس عليها: واستدل جمهور البصريين على جواز تقديم خبر ليس عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف، لأن يوم منصوب بمصروفا الذي هو خبرها، ولا عبرة لمن ادعى عدم الجواز بعد أن وقع في كتاب الله تعالى، قال في البحر: تتبعت دوارين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها، ولا تقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية وقول الشاعر: فيأبى فما يزداد إلا لجاجة ... وكنت أبيا في الخنى لست أقدم فإنه مقدم عليها، قال تعالى «وَحاقَ بِهِمْ» أحاط بهم من جميع جهاتهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 8» أي العذاب المعبر عنه بما من كل جوانبهم فلا محيص لهم للتخلص منه، وأصل (حاقَ) حقّ مثل زل وزال وذم وذام، وجاء بمعنى الماضي لتحقق وقوعه، وإلا فالمقام يستدعي مجيئه مستقلا لعدم وقوعه بعد (ان يحيق بهم) وجاء بيستهزئون مكان يستعجلون، لأن استعجالهم بطلب نزول العذاب كان بطريق السخرية، لأنهم غير مصدقين به قال تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» من صحة وسعة وأمن بحيث يجد لذّتها، ولذلك عبّر

بالإذاقة عن الإعطاء والإيصال «ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ» لعدم قيامه بشكرها، قال عليه الصلاة والسلام اشكروا النعم لا تكفروها، فإنها إن زالت فهيهات أن تعود. فالعاقل يقدر النعمة حال تلبسه بها، والجاهل لا يقدرها حتى تسلب منه بالمرض والضّيق والخوف فإذ ذاك يندم ولات حين مندم، وعبّر عن السلب بالنزع إشعارا بشدة تعلقه بها وإيذانا بزيادة حرصه عليها «إِنَّهُ لَيَؤُسٌ» من عودها إليه قنوط الرجاء من فضل الله، لعدم صبره وتوكله عليه وثقته به، ولو كان متوكلا وثقا بالله لقيدها بالشكر ولكنه «كَفُورٌ 9» لما أسلفه الله من النعم شديد الجحود لها كأن لم ينعم عليه بشيء، لأن الضيق بعد سعة الرزق، والمرض بعد الصحة، والخوف بعد الأمن صعب جدا، لا يقدر من يصبر عليه كل أحد، أجارنا الله من ذلك. قال تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» وأرهقته «لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي» تباعد عني كل ما يسوءني من فقر ومرض وخوف وذل، فيأمن مكر الله إذ يغيب عن باله زوالها إذا لم يؤد شكرها ويصرفها مصارفها ولم يضفها إلى الله تعالى بل إلى الصدقة والعادة والكد، ولهذا فقد ذمه الله بقوله عز قوله «إِنَّهُ لَفَرِحٌ» بما ناله من ذلك الخير «فَخُورٌ 10» به على غيره، ولم يخطر بباله أن ذلك كله من ربه. واعلم أن للفرح لذة في القلب تحصل بنيل المراد، واليئوس والفخور والكفور، أحمد مبالغة تدل على الكثرة والفخر والتطاول على الناس بما عنده من المعاقب والمال والنشب والرياش والرياسة، واللام في لئن في الآيات الأربع المارة موطئة للقسم، وجوابه سادس جواب الشرط كما في قوله: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذا لا أقيلها برفع أقيلها لأن إذن هنا حرف جواب وجزاء فقط، إذ فصلت لا النافية بينها وبين الفعل، وشرط النصب بها عدم الفصل والتصدير وكون الفعل بعدها مستقبلا ولم يغتفر بالفصل بينها وبين الفعل إلا بالقسم كقوله: إذن والله نرميهم بحرب ... يشيب الطفل من قبل المشيب لأن الفصل بغير القسم يمنع تسلط الناصب، وعليه قول أبي محجن الثقفي رحمه الله:

[سورة هود (11) : الآيات 11 إلى 20]

إذا مت فادفنّي إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنّي في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها بالرفع لعدم تسلط الناصب بسبب الفصل بلا، وإنما قلت رحمه الله لأنه تاب توبة نصوحا في حرب القادسية، وسنأتي على قصته في غير هذا الموضع. قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» على الشدائد والمصائب وأيقنوا أن الله تعالى سيبدل عسرهم يسرا، وخسرهم نفعا، وخوفهم أمنا، وذلّهم عزّا، فإن هؤلاء يسندون كل ما يصيهم إلى ربهم ويعلمون أن الخير برضاه والشر بقضاه. واعلم أن هذا الاستثناء متصل من الإنسان إذا أردنا بالإنسان الهار ذكره في الآية المتقدمة الجنس، وأل فيه للاستغراق، ومنقطع إذا أردنا به الإنسان الكافر، وأل فيه للعهد. قال ابن عباس المراد كافر معين وهو الوليد بن المغيرة أو عبد الله بن أمية المخزومي. على أن الإطلاق أولى، فيدخل فيه المذكوران وغيرهم، ولا مندوحة عندي في تخصيص هذين الكافرين وأضرابهما في نزول آيات الله، وهم أصغر من ذلك، والأحسن أن يجنح المفسر إلى عدم تقييد أو تخصيص آيات الله بإنسان أو شيء إلا إذا كان هناك مقيد أو مخصص، وإلا فالإطلاق والتعميم أولى وأحسن للذين فقهوا معنى الآيات «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» مع صبرهم وداوموا عليها حال عسرهم ويسرهم وشكروا الله تعالى على ما آتاهم من فضله من النعم ورجوا منه دوامها وصبروا وحمدوا عند زوالها «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عظيمة لذنوبهم مهما كانت، لأن الغفور لا يعظم عليه شيء «وَ» لهم بعد هذه المغفرة «أَجْرٌ كَبِيرٌ 11» لا أكبر منه وهو الجنة، وقد وصف الله تعالى ثوابهم بالكبر لما يحتوي عليه من النعيم السرمدي ولاشتماله على رضاء الله. هذا ولما تمادى الكفرة على طلب اقتراح الآيات من حضرة الرسول تعنتا لا استرشادا، لأنهم لو كانوا مستهدين لكفتهم آية واحدة ولما داوموا على استهانتهم بحضرة الرسول وعدم اعتبارهم ما يتلوه عليهم من القرآن الحكيم، ضاق صدره الشريف من ذلك، واشتد ضيقه لما يرى من ضحكهم وسخريتهم واستهزائهم عليه وعلى ربه وكتابه، وخاف أن يلحقه ملل من الإدمان على وعظهم هيّجه

مطلب في اسم الفاعل والآيتين المدنيتين والتحدي بالقرآن:

الله تعالى والهب في قلبه التشدد بأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم ما يلقيه إليهم من الوحي، فقال جل جلاله «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ» من هذا القرآن مخافة عدم قبولهم به «وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ» من عتو كفرة قومك، فلا تتلوه عليهم ولا تبلغهم أحكامه. قال ضائق لمشاكلة تارك، وليدل على أن الضيق عارض له لأنه صلى الله عليه وسلم أفسح الناس صدرا وأوسعهم خلقا، كيف لا وقد مدحه ربه بقوله عز قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الآية 5 من سورة نون المارة في ج 1، وقوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية 160 من آل عمران الآتية في ج 3. مطلب في اسم الفاعل والآيتين المدنيتين والتحدي بالقرآن: إلا أن الضيق يطرأ عليه أحيانا بسبب ما يلاقي من قومه، ولأن كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل، فتقول في سيد وجواد وسمين سائد وجائد وسامن مثلا، وعلى هذا قول اللص إذ يصف السجن: بمنزلة أما اللئيم فامن ... بها وكرام الناس باد شحوبها فعلى هذا أن كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد به معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وما قيل إن العدول من ضيّق إلى ضائق لمجرد مشاركة تارك ليس بشيء، ولا يوجد في القرآن اسم فاعل من ضاق على وزن ضائق إلا هذا كما لا يوجد فيه فعل خماسي أصالة. واعلم أن ما قاله بعض المفسرين من أن النبي صلى الله عليه وسلم همّ أن يدع سبّ آلهتهم ظاهرا حينما قالوا له (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) بما ليس فيه سبّ آلهتنا ولا مخالفة آبائنا كما تقدم في الآية 15 من سورة يونس المارة غير سديد وحاشاه من ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من الإخبار مما أمر بتبليغه أن يبلغه بخلاف ما هو لا خطأ ولا عمدا، ولا سهوا ولا غلطا، ومعصوم أيضا أن يسكت عن شيء منه أو يكتمه، لأنه محتم عليه أن يبلغ ما أنزل إليه كما أنزل حرفيا، وإن الله تعالى عاصمه من كيد كل كائد كما سيمر عليك في الآية 70 من المائدة في ج 3، وقد

أجمعت العلماء على ذلك، لأن تجويز ترك شيء من القرآن يؤدي إلى الشك في أداء الشريعة والتكاليف المطلوبة من البشر، إذ المقصود من إرسال الرسل تبليغ وحي الله للمرسل إليهم، فإذا لم يحصل فقد فاتت الفائدة المتوخاة من إرسالهم، وهم معصومون من ذلك كله، راجع آخر سورة والنجم المارة في ج 1 تجد ما يطمئن إليه ضميرك ويشرح له صدرك في هذا البحث «أَنْ يَقُولُوا» أي لعلك تترك تبليغ بعض الوحي مخافة قولهم «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ» مال كثير يستغني به عن السعي ويجلب الناس بسبب بثه إليهم، الكنز هو ما يدخر من المال ولا يكون إلا كثيرا، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء أو الحصول، لأن مرادهم التعجيز يكون ذلك على خلاف العادة، لأن الكنوز إنما تكون في الأرض فتستخرج منها لا أنها تنزل من السماء «أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ» يصدق كل ما يقوله لنا إنه من عند ربه حتى نصدقه، وإلا بمجرد كلامه فلا، لأنا نعلم أنه مختلقه من من نفسه أو يتعلمه من الغير أو يسمعه من خرافات الأولين، يقول الله تعالى لحبيبه إذا صارحوك بهذه الأقوال التافهة فأعرض عنهم «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ» لهم من عذاب الله والله شاهد على رسالتك فلست بحاجة إلى المال الذي فيه مطمع قومك ولا إلى الملك ليشهد لك على وحينا، ولست بوكيل على إيمانهم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 12» بما فيه أنت وقومك، قال ابن عباس إن هذا القول والقول في سورة يونس الآية 5 المارة قالته طائفة من الكفرة، أي عبد الله المخزومي ورفقاؤه من الضلال وإن حضرة الرسول قال لكل منهم لا أقدر على شيء من ذلك، فنزلت تلك الآية هناك وهذه هنا. وأول الآيتين المدنيتين 13/ 14 في هذه السورة هو قوله تعالى «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» اختلق محمد هذا القرآن ونسبه إلى الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المفترين «فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» أي تحداهم يا محمد بذلك، لأنهم عرب مثلك، والقرآن باللغة العربية، فقل إذا كنتم تزعمون أني افتريته فافتروا عشر سور مثله، وكان نزل من القرآن عند هذه الحادثة جميع السور المكية وهي ست وثمانون سورة، وقسم من المدني، لأن هذه الحادثة وقعت في المدينة، وهاتين الآيتين نزلت فيها متأخرتين

عن سورتها المكية التي عددها بحسب النزول، اثنتان وخمسون سورة، فتراهم عاجزين عن الإتيان ببعض سورة من مثل هذا القرآن مهما بلغوا في الفصاحة، لأن كلام الخلق لا يضاهي كلام الخالق، وقد ذكرنا في سورة يونس المارّة عند قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية 38 أن معناها هناك مثل جميع ما نزل، فلما عجزوا تحداهم الآن بعشر سور، وقيل معناها هناك في الإخبار بالغيب والأحكام والوعد والوعيد لا بسورة واحدة، ومثلها الآية 88 من سورة الإسراء المارة في ج 1، ومعناها هنا في الفصاحة والبلاغة من غير إخبار عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد، ولهذا فلا دليل لمن قال إن هود نزلت قبل يونس، لأنه تحداهم بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة، تأمل وقد بينا أن يونس نزلت قبل هود على ما عليه الجمهور، وهود بعدها بالتنزيل وفي ترتيب القرآن أيضا، فضلا عن أن هذه الآية والتي بعدها مدنيتان، وأن بينها وبين آية يونس سنين وأشهرا وأياما، هذا ولما تحداهم بهذا الكلام أمره أن يقول لهم «وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من شركائكم وأعوانكم وأمثالكم من كل خلقه ليساعدوكم على الإتيان بذلك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 13» أنه مفترى، ولا تكرار في هذه الآية وآية يونس لأن هذه مدنية وبعشر سور، وتلك مكية، وبكل سوره النازلة وآية البقرة عدد 23 بخلافها كما سيأتي في تفسيرها في ج 3. وقد بينا عند تفسير آية يونس ما هو أوضح من هذا فراجعه. قال تعالى «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» جاء الضمير بالجمع تعظيما لحضرة الرسول وطبعا لم ولن يستجيبوا لأنهم أقل من ذلك «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ» هذا القرآن كله يا محمد عليكم «بِعِلْمِ اللَّهِ» تعالى بواسطة أمينه جبريل عليه السلام ليس بمفترى، لأنكم وجميع الخلق لا تقدرون على الإتيان بسورة منه، ولا آية معجزة أيضا «وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» وحده الإله القادر على إنزاله وجعله معجزا للخلق أجمع، فقل لعامة الكفار هو كلام الله «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 14» مذعنون له منقادون لعظمته، خاضعون لأوامره ونواهيه. وبعد إظهاركم العجز عن ما تحداكم به لم يبق شائبة شبهة بأنه من عند غير الله بل من عند الله حقيقة، وأن ما أنتم عليه من الشرك والإنكار باطل،

مطلب العمل لغير الله والآية المدنية الثالثة وعود الضمير في منه:

فاتركوا هذه المكابرة والعناد وآمنوا بالله ورسوله. انتهت الآيتان المدنيتان. قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها» بأعماله الحسنة فيها ونيته الصادقة، ورضي باستبدال الباقي بالفاني والدائم بالمنقطع «نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها» كاملة زائدة «وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ 15» شيئا منها ولا ينقصون نقيرا والضميران عائدان للحياة الدنيا، الثاني مؤكد للأول، لأن البخس لا يكون إلا في الدنيا من أولى الأمر، ونجس الآخرة ناشىء عن التقصير في الأعمال الصالحة. نزلت هذه الآية في كل من عمل عملا يبتغي به غير الله، والبخس نقص الحق على سبيل الظلم من أيّ كان، وجاء هنا على ظاهر الحال محافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص، فكأنه نقص لحقوقهم التي يزعمونها، وفعل يبخسون هذا لم يكرر في القرآن. هذا، وما أخرجه النحاس في ناسخه عن ابن عباس بأن هذه الآية منسوخة بآية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) الآية 18 من سورة الإسراء المارة في ج 1، مردود من وجهين: الأول أن هذه من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ كما نوهنا به في الآية 41 من سورة يونس المارة، الثاني أن آية الإسراء مقدمة على هذه بالنزول، والمقدم لا ينسخ المؤخر كما بيناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة ج 1، فلا معنى للقول بالنسخ البتة «أُولئِكَ» الذين وصفوا أعلاه هم «الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ» لأنهم استوفوا ثواب أعمالهم في الدنيا وقد عملوها لأجلها «وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها» من الخير لأنهم صنعوه للسمعة والرياء فلم يقصدوا فيه رضاء الله، فكافأهم عليه في الدنيا لأن عمل الخير لا بد وأن يكون له ثواب لا يعدمه فاعله بمقتضى قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الآية 7 من سورة الزلزلة في ج 3. مطلب العمل لغير الله والآية المدنية الثالثة وعود الضمير في منه: قال تعالى «وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 16» في الدنيا من الخير أي في الآخرة لأنه كان لغير الله ولمكافأتهم عليه فيها، والباطل لا ثواب له في الآخرة. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك

وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصبب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. أي ريحها. وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا دليل له لأنها مكية وليست من المستثنيات والآية مطلقة وسبب نزولها ما ذكرناه آنفا، أما الآية المدنية الثالثة فهي قوله تعالى «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وأراد بأعماله الصالحة وجه الله تعالى ابتغاء ثوابه لأنه يعمل مخلصا على برهان ناصع وحجة واضحة دالة على طريق الحق والصواب فيما يأتيه ويذره لأن البيّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا وهاؤها للمبالغة وتنوينها للتعظيم، أي بينة عظيمة الشان، والمراد بها هنا القرآن المعبر عنه بالبيّنة ولذلك ذكر الضمير هنا بتأويل البينة بالبرهان أو القرآن أي الذي يعمل على هذا النور ليس كمن وصف بالآية المتقدمة من الذين يعملون على جهل وظلمة «وَيَتْلُوهُ» أي القرآن الموصوف بما تقدم «شاهِدٌ مِنْهُ» أي يتبع هذا القرآن دليل منه وهو الإعجاز في نظمه وإخباره بالغيب دليل كاف على أنه من عند الله تعالى «وَمِنْ قَبْلِهِ» أي القرآن، وذكر الضمير تأكيدا لأنه يكون المراد به هو هو «كِتابُ مُوسى» أي التوراة الجليلة لا الصحف المنزلة عليه قبلها لعدم إطلاق لفظ الكتاب عليها فهي شاهدة بصحته أنه من عند الله لأنه يخبر عما قبلها، وهذا كاف في الاستشهاد بكونه «إِماماً» في الدين والأحكام يقتدي به المهتدون «وَرَحْمَةً» عظيمة ونعمة كبرى لمن أنزل عليهم واتبعوه وعملوا بما فيه واهتدوا بهديه، لأن التوراة الجلية أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع التي لا بد للبشر منها إذ الكتب والصحف قبلها كانت تحتوي على التوحيد والإيمان واعتقاد بالنبوة فقط، لذلك يقال لها صحف ولا يطلق عليها لفظ الكتاب إلا مجازا، وقد يجوز أن تتطرق الصحف لبعض الأحكام، راجع الآيتين 36/ 37 من سورة والنجم المارتين في ج 1 «أُولئِكَ» الذين اقتدوا في التوراة وعملوا فيها

من أهل الكتابين المخلصين الذين لا يكابرون ولا يعاندون ولا يبدلون ولا يغيرون شيئا منها برأيهم مما يكون مخالفا لمراد الله تعالى ولما أنزله على رسلهم ولا يكتمون الحق المشار إليهم بأنهم على بينة من ربهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي القرآن لأنه يشتمل على ما في التوراة «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ» الذين تجزّبوا على حضرة الرسول من أهل مكة وأهل الكتابين وغيرهم «فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» يوم القيامة ومصيره فيها، والموعد مكان الوعد قال حسان: أوردتموها حياض الموت ضاحية ... فالنار موعدها والموت لا فيها «فَلا تَكُ» أيها الإنسان الكامل «فِي مِرْيَةٍ» شك أو شبهة «مِنْهُ» بأنه من غير الله بل هو حقا من عنده راجع الآية 94 من سورة يونس المارة «إِنَّهُ» أي هذا القرآن «الْحَقُّ» الصريح الواقع الواضح «مِنْ رَبِّكَ الذي رباك في أمر دينك ودنياك وفضلك على من سواك «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 17» أنه من عند الله لكثافة الرين الغاشي قلوبهم ولشدة عنادهم ومكابرتهم وعتوهم، واختلاف انكارهم، ونظير هذه الآية الآية 28 من سورة الأحقاف الآتية. هذا، واعلم أن بعض المفسرين أعاد ضمير منه الأول إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال إن الشاهد هو علي كرم الله وجهه، لاتصاله بحضرة الرسول، مستدلا بما قاله جابر بن عبد الله قال علي بن أبي طالب ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك؟ فقال عليه السلام ما تقرأ الآية التي في هود (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي من النبي صلى الله عليه وسلم والمراد تشريفه عليه السلام وهو المشرف على جميع الناس بعد الأنبياء، كيف لا وهو ابن عمه وبمنزلة هرون من موسى، وهو ختنه، وهو الذي فداه بنفسه يوم الهجرة، إلا أن سياق التنزيل يأباه، وهذا الخبر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، ولا يكاد يصح، ويرده ما روي عن محمد بن الحنفية، قال قلت لأبي (يعني عليا) أأنت التالي، قال وما تعني بالتالي؟ قلت قوله سبحانه (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) قال وددت أني هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط، ووجه هذا القول أن اللسان. يعرب عن الجنان

ويظهره، فجعل كالشاهد له، لأنه آلة البيان، وبه يتلى القرآن وتظهر فصاحته وبلاغته ودلالته على الغيب، قال محمود الآلوسي عليه الرحمة: إن في تقرير الاستدلال على أن المراد بالشاهد علي عليه السلام ضعفا وركاكة بلغت القصوى. ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر رضي الله عنه مستدلا بقوله تعالى (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) الآية 32 من سورة الزمر الآتية، وفيها بحث نفيس فراجعه. ويعني بالذي جاء بالصدق محمدا صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبا بكر رضي الله عنه، لأنه كان الثاني بالغار، والثاني بالإمامة والخلافة، وكان من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة السمع والبصر، ويجعل عود الضمير للنبي بهذا المعنى لقوله صلى الله عليه وسلم (إنهما يعني أبا بكر وعمر) منى بمنزلة السمع والبصر، نعم إنهما كانا كذلك وإن عليا كرم الله وجهه أقرب منهما لكن اختصاصهما أو أحدهما في هذه الآية بعيد ولم يرد القائل إلا تعزيز مكانتهما وتعظيمهما، وهما عظيمان عزيزان من دون هذا، ومن غير أن تقروا لهما ما هو خلاف الواقع، فمكانتهما عند الله وعند خلقه عظيمة بهذا وبغيره وهما عند الناس معظمان به وبدونه، على أن هناك أقوال أخر بأن الشاهد هو جبريل عليه السلام أو هو ملك آخر أو هو الإنجيل لأنه يتلوه في التصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن وجود نزولها قبل القرآن يأبى الركون إلى القول به، والقول الأول الذي جرينا عليه هو الصحيح، لمناسبته سياق التنزيل وقبوله من كبار المفسرين، كأبي السعود وأضرابه، وناهيك بمفتى الثقلين قدوة، وإنما نقلنا تلك الأقوال- وإن كنا لا نراها- للوقوف على صحتها وعدمه، وليعلم القارئ بالاطلاع عليها أننا لم نغفل شيئا مما له مساس بالمعاني ولا بالألفاظ. هذا، والله أعلم. انتهت الآية المدنية الثالثة، وهذه الآيات كغيرها من المدنيات واقعة بين ما قبلها وما بعدها كالمعترضة، قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» لا أحد أظلم منه البتة، ولا أشد تعديا، ولا أكثر تجاوزا، لأن الكذب في نفسه كبيرة، وهو مجانب للإيمان فيما بين الناس، فكيف بالكذب على الله تعالى؟ فهو من أعظم الكبائر كما تشير إليه هذه الآية «أُولئِكَ» المفترون الكذب على الله «يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ» في الموقف العظيم يوم القيامة «وَيَقُولُ الْأَشْهادُ» الملائكة الذين

يحفظون أعمال بني آدم وغيرهم أو الأنبياء أو أهل الموقف حين يسألون عن ذلك «هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ» في الدنيا، وهذا التشهير والفضيحة يكونان لكل من كذب على الله، وحينئذ يلعنهم أهل الموقف حينما يسمعون قول الله تعالى «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 18» فيتنبه لذلك من لم يلعنهم، فيلعنهم أيضا. وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام الأشهاد بالنظر لظاهرها، والأشهاد جمع شاهد وشهود، ويجمع على شهداء، فيكون جمع الجمع، وقد جاءت بلفظ الجمع في القرآن، وكلاهما بمعنى واحد، إلا أن الأخير أبلغ من الأول. روى البخاري ومسلم عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربّه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا وكذا، فيقول أعرف مرتين، فيقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وفي رواية ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد، وفي رواية فينادي بهم على رءوس الأشهاد من الخلق (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية المارة. وقيل إنه من كلام الله تعالى، والأول أولى بالمقام. ثم وصف الله تعالى هؤلاء الظالمين أنفسهم بالكذب عليه فقال «الَّذِينَ يَصُدُّونَ» الناس ويمنعونهم «عَنْ» اتباع «سَبِيلِ اللَّهِ» ويحولون دون سلوكه «وَيَبْغُونَها» الطريق المعدلة المستقيمة المؤدية إلى الإيمان السويّ «عِوَجاً» مائلة عن السواء منحرفة عن الإستواء، بإلقاء الشبهات في قلوب الناس وقلب معاني الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ 19» جاحدون وجودها منكرون البعث بعد الموت، وكرر لفظ هم تأكيدا لكفرهم «أُولئِكَ» الصادون الناس عن الإيمان المنكرون النشأة الآخرة الطالبون منهج السبل المضلة «لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ» الإله القدير العليم، ومهما ضربوا «فِي الْأَرْضِ» لا يفلتون عن قبضة الرّب، ولا يتمكنون من الهرب إذا أراد عذابهم للانتقام منهم «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» يقدرون على تخليصهم أو يدافعون

[سورة هود (11) : الآيات 21 إلى 30]

عنهم ويقونهم من عذاب الله إذا أراد إيقاعه فيهم، ولكنه تعالى يمهلهم في الدنيا ليزدادوا إثما ويأخذوا ما هو مقدر لهم في الأزل من رزق حرام وعمل سيىء حتى لا يبقى لهم شيء في الدنيا ثم يميتهم و «يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» في الآخرة على عدم إيمانهم وصدّهم الناس عن الإيمان ومنعهم من سلوك الطريق المستقيم وإنكارهم الآخرة، لأنهم صموا في الدنيا عن سماع هذا الحق و «ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ» لما يبلغهم نبيهم من وحي الله «وَما كانُوا يُبْصِرُونَ 20» نهج السلام لينتفعوا به، وقد حرموا فوائد هاتين الحاستين التي منحها الله الإنسان ليستعملها في طلب الخير ودفع الشر، مع أن الحيوانات العجم تستفيد منها بدفع ما يضرهم برؤية أو سماع «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم هم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» بإبدالهم عبادة النافع الضار بعبادة الأوثان التي لا تضّر ولا تنفع «وَضَلَّ عَنْهُمْ» بسبب صفقتهم الخاسرة «ما كانُوا يَفْتَرُونَ 21» في الدنيا على أنفسهم وغيرهم من أن الأوثان أو ما يعبدونهم من الملائكة وغيرهم يشفعون لهم في الآخرة «لا جَرَمَ» لا محالة حقا وجرم في الأصل فعل ماضي بمعنى كسب، قال الشاعر: نصبنا رأسه في جذع نخل ... بما جرمت يداه وما اعتدينا وتأتي بمعنى حقا كما هنا أي مع لا وهي اسم لا، أي حقا «أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ 22» لأنهم باعوا الجنة بالنار واستبدلوا المخلوق بالخالق، فلا أخسر منهم أبدا، وهذا هو الخسران المبين، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» ضميمة على إيمانهم «وَأَخْبَتُوا» خشعوا وخضعوا لله وأنابوا واطمأنوا له فرجعوا «إِلى رَبِّهِمْ» وانقطعوا لعبادته وهذا إشارة إلى أعمال القلوب كما أن العمل إشارة إلى أعمال الجوارح، لأن الأولى لا تنفع في الآخرة بدون الثانية ولا تقبل «أُولئِكَ» الذين هذا نعتهم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ» في الدار الآخرة جزاء إيمانهم وإخلاصهم «هُمْ فِيها خالِدُونَ 23» دائبون آمنون لا يخرجون منها أبدا «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ» أصحاب النار المذكورين أولا «كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَ» مثل أصحاب الجنة المذكورين أخيرا كا «الْبَصِيرِ

وَالسَّمِيعِ» على سبيل المقابلة أحد أبواب البديع وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم بما يقابل كل منهما من أضداد، فيعود الأول إلى الأول والثاني على الثاني بطريق اللّف والنشر المرتب، فانظروا أيها الناس «هَلْ يَسْتَوِيانِ» هذان الصنفان الأولان مع الصنفين الآخرين «مَثَلًا» كلا، لا يستويان، فقل لهم يا سيد الرسل «أَفَلا تَذَكَّرُونَ 24» معاني هذا المثل ومغزاه فتنتفعون به، وبعد أن بين تعالى ما يدل على توحيده وأحوال المؤمنين والكافرين وموقفهم مع حضرة الرسول بين أنبيه أخبار من تقدم من الأنبياء مع أقوامهم بقوله جل قوله «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» ليرشدهم إلى سلوك طريقه، فقال لهم «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ 25» أخوفكم عقاب الله وأحذركم من الإشراك به وآمركم «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» وحده فهو المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن لم تتركوا عباده الأوثان وترجعوا لطاعة الرحمن «عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ 26» شديد عذابه وصف اليوم بالألم لوفوعه فيه «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ» يا نوح «إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» مالك ميزة علينا بشيء فكيف تريد أن تستأثر بطاعتنا إليك «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا» أسافلنا من الحاكة والإسكافية وأشباههم ذرى الحرف الخسيسة الذين أطاعوك «بادِيَ الرَّأْيِ» دون تدبر وتفكر على وهلة بما طليت عليهم من فصاحة لسانك ولين جانبك، ولو أنهم ذوو مكانة عندنا أو أنهم تمعنوا في الأمر الذي دعوتهم إليه وتصوروا العواقب لما اتبعوك حالا وتركوا دين آبائهم، ثم تجارءوا عليه، قاتلهم الله، فقالوا له جهارا «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» في مال أو جاه أو شرف أو غيره من المميزات التي توجب طاعتك، لا أنت ولا من اتبعك السوقة الذين لا نرضى مجالستهم، فكيف تريد أن ننقاد لك وتكون لك السلطة علينا. وجوابكم هذا لحضرته على غاية من الجهل وسوء الأدب، لأن الرفعة في الدين ومتابعة الرسل لا تكون بالشرف والسمعة والصيت والرياسة الدنيوية، وأن الدعوة إلى الله للبشر لا تكون إلا من بشر مثلهم اختصه الله تعالى وشرفه برسالته، لأن الفضيلة المعتبرة عند الله هي الإيمان به والانقياد لأوامره والاجتناب عن مناهيه

لا بما ذكروه من الأمور الدنيوية وشرف الصنعة، وما هذا الجواب منهم إلا لفرط جهلهم وتوغلهم في الدنيا وملاذها وانهماكهم في شهواتهم، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم «بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ 27» في هذه الدعوى أنت وأتباعك، وإن تصديقهم لك عبارة عن مواطئة تمهيد للحصول على الرياسة علينا «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» فيما بشرتكم به وأنذرتكم منه واضحة شاهدة على صدقي «وَآتانِي» الذي أرسلني إليكم «رَحْمَةً» هديا ومعرفة ونبوة ورسالة «مِنْ عِنْدِهِ» وهو إله الكل «فَعُمِّيَتْ» ألبست وأخفيت «عَلَيْكُمْ» فلم تهدكم ولم تهتدوا إليها، لأن الحجة كما تكون بصيرة ومبصرة تكون عماء وعمها، وإن الأعمى والأعمه كما أنه لا يهتدي لا يقدر أن يهدي غيره، لذلك لا نقدر على إلزامكم بها «أَنُلْزِمُكُمُوها» قسرا وجبرا «وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ 28» نافرون عنها، كلا لا نستطيع على ذلك إذ لا إكراه في قبول الدين بل يجب الإقدام عليه والإقبال إليه طوعا برغبته ومحبته «وَيا قَوْمِ» تدبروا ما أقوله لكم وانظروا عاقبته وتلقوه بحسن نية، واعلموا أني «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا» لتظنوا بي طمعا ولا رياسة لتشتبهوا فيّ من أجلها أو تشكّوا أن إنذاري لكم لأمور دنيوية كلا «إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني، وأن ما أبذله إليكم من النصح وأسديه لكم من الإرشاد لمجرد هدايتكم لطريق الله وحمايتكم من عذابه المترتب على إصراركم على الكفر «وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا» بي وصدقوني من أجل قولكم أنهم أراذل خسيسو الحرفة، فقراء وضيعون بالحسب والنسب، فهذا كله لا يمنعي من قبول إيمانهم، ولا يجوز لي أن أتباعد عنهم «إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» بعد الموت، فيشكونني إليه، فيعاقبني على طردهم، لأن وظيفتي قبول إيمان من يؤمن مهما كان، وإن الإيمان سيجعل لهم شرفا وحسبا أعلى عند الله مما أنتم عليه «وَلكِنِّي أَراكُمْ» يا قوم بأقوالكم هذه وتطاولكم عليّ «قَوْماً تَجْهَلُونَ 29» عظمة الله الذي عنده أكرم الناس أتقاهم لمحارمه وأخوفهم من عذابه، لا الأكثرون أموالا والأكبرون جاها والأحسنون حرفة، ولا العالون نسبا وحسبا، فالمؤمن الحقير بأعينكم خير عند الله من العظيم الكافر، فارتكزوا

[سورة هود (11) : الآيات 31 إلى 40]

على الحكمة ولا تتسافهوا بإطالة اللسان على المؤمنين مهما كانوا، فهم أحسن منكم عندي وعند الله، لأنكم لا تعلمون ما ينبغي أن يعلم. هذا وقد يأتي لفظ الجهل بمعنى التعدي على الغير، ومنه قول صاحب المعلقة: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلين وقدمنا في الآية 111 من الشعراء في ج 1 أن خسة الصنعة لا تضر مع الإيمان، وكم من صاحب صنعة خسيسة هو عند الله أفضل من كثير من خلقه، راجع الآية 113 من سورة الحجرات في ج 3 «وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ» يوم الجزاء ويحول دون تعذيبي والانتقام مني «إِنْ طَرَدْتُهُمْ» الآن بعد أن أظهروا الإيمان بالله وأخلصوا دينهم له «أَفَلا تَذَكَّرُونَ 30» عاقبة أمر الذين يطردون المؤمنين، فتنبهوا عما أنتم فيه من الاستكبار والضاد، ونبهوا أنفسكم وغيركم، وأعرضوا عن مجادلتكم هذه التافهة، وآمنوا مثلهم لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. مطلب تبرؤ الأنبياء من الحول والقوة وكون الإرادة غير الأمر وصنع السفينة: «وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» فاتبعوني لأعطيكم منها. وأدعي الفضل بها عليكم، وهذا جواب لقولهم (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) المار ذكره «وَلا» أقول لكم إني «أَعْلَمُ الْغَيْبَ» لأصدق ما ذكرتموه في حق المؤمنين بأن إيمانهم عن غير تدبّر وتفكر، فما لي حق بذلك، وما عليّ إلا قبول الإيمان على ظاهره، والله يتولى السرائر «وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ» وهو جواب على قولهم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) المار آنفا، لأني في الحقيقة بشر مثلكم ولكن الله فضلني عليكم برسالته فقط، ولا دليل في هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر على الإطلاق، لأن قول نوح عليه السلام هذا بمقابلة قولهم له كما مرّ، لأنهم كانوا يظنون أن الرسل لا يكونون من البشر لقرب عهدهم من بعضهم وتفشي أخبار الملائكة بينهم من يوم أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام، فلهذا قال لهم: (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء، وقدمنا في الآية 70 من الإسراء في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه «وَلا

أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ» تحتقرها وتستصغرها وتتصورها بأنهم أراذل (وكلمة تزدري لم تكرر في القرآن) حيث «لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً» رزقا في الدنيا لهوانهم عليه نزولا عند هواكم، فعسى الله أن يؤتيهم خير الدنيا والآخرة، لإيمانهم به وتصديقهم لرسوله وصبرهم على الفقر والذل اللذين تفتقدونهم بهما، فأعرضوا عنهم أيها القوم «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ» من صدق الاعتقاد وخلوص الإيمان، وهذا جواب لقولهم آنفا ما معناه أنهم لم يتبعوك رغبة في دينك بل لكونهم فقراء لا وزن لهم عند أحد فاطردهم ليتبعك الأشراف فإنهم لا يتنازلون أن يجالسوهم ويكونوا من أتباعك معهم، وهذا مثل قول قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم في الآية 50/ 52 من سورة الأنعام والآية 28 من سورة الكهف الآتيتين، وهكذا فقد تشابهت قلوبهم كما أخبر الله عنهم في الآية 167 من سورة البقرة ج 3 من زمن نوح إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم فإنك تجد محاورتهم للأنبياء على وتيرة واحدة «إِنِّي إِذاً» إذا قبلت قولكم وطردتهم «لَمِنَ الظَّالِمِينَ 31» لهم ولنفسي أيضا، وإني لا أرضى بالظلم فكيف أفعله، كما ليس لي أن أكذّب ظاهر إيمانهم ولا أبطله، لأن الله يعلم ما في ضمائرهم «قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا» بما أوتيت من بلاغة في القول وقوة في المحاججة وفصاحة في البرهان، وإنا لا نؤمن بك مهما أسرفت في النصح وبذلت من الرشد الذي تزعم أنه لصالحنا «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من عذاب ربك وأنزله علينا «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 22» فيما تهددنا به من وعيدك، لأنا قد مللنا من تكرار قولك إنك رسول الله وإن لك ربا ينصرك علينا ويعذّبنا إن لم نؤمن بك ونتبعك «قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ» الذي كفرتم به وهو «إِنْ شاءَ» أنزله بكم عاجلا وإن شاء أخره وليس لي أن أقدم شيئا أو أؤخره خيرا كان أو شرا، لأني بشر مثلكم «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 33» الله العظيم القادر، ولا فائتين عذابه. ولا تقدرون على الهرب من قبضته «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ» مهما بالغت فيه وأدمته «إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» فيما أنتم عليه، ويضلكم عن هداه بما يجعله فيكم من البغي والطغيان. وفي هذه الآية دليل على

أن الإرادة غير الأمر كما قدمناه في الآية 98 من سورة يونس المارة، أما ما ذكرناه في الآية 12 منها فهو في حق تزيين الأعمال وكونها من الله. واعلم أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء والتزيين والإضلال حق، وأن وقوع خلاف مراده ممتنع محال، وأما المعتزلة القائلون بضدّ هذا فقد وقعوا في حيص بيض منها، واختلفوا في تأويلها، فمنهم من أولها بالإهلاك، ومنهم من لجأ إلى المجاز عن تركهم، ومنهم من جعل إن نافية، وكلها أقوال أرهى من بيت العنكبوت، لأن الآية صريحة لا تقبل التأويل. والحق أن يقولوا معنا بأن ذلك المهدي المضل المزين «هُوَ رَبُّكُمْ» الذي خلقكم ورباكم في هذه الدنيا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 34» في الآخرة فيجاري المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» أي الوحي الذي يتلوه عليهم كما تقول كفار مكة لك يا أكرم الرسل، لأنهم قاتلهم الله جاءوا على وتيرة واحدة بالاحتجاج والتكذيب والمجادلة مع جميع الرسل، ولهذا قال تعالى في الآية 168 من سورة البقرة في ج 3، تشابهت قوبهم «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي» جمع جرم، وهو اقتراف السوء، يقال أجرم فلان إذا فعل الجرم أي الذنب الكبير، ويقال لفاعله مجرم، أي عليّ إثم إجرامي «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ 35» أنتم في إسنادكم الافتراء إليّ لأنه جرم عظيم، وهذا آخر محاورة سيدنا نوح مع قومه في هذه السورة، وما قيل إن آية (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) المارة ترجع إلى كفار مكة وإنها معترضة بين محاورة نوح وقومه لا وجه له، لأن السياق يدل على أنها من تمام محاورته، والسياق يؤيد هذا، قال تعالى «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ» لا تحزن ولا تأيس عليهم، فإني مهلكهم «بِما كانُوا يَفْعَلُونَ 36» بك يا رسولي من الأذى، وبأنفسهم من الضلال والكفر. قيل كانوا يضربون نوحا عليه السلام حين يدعوهم إلى الله ويدلهم على الهدى ويأمرهم بالرشاد حتي يغشى عليه، فإذا أفاق يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وهكذا كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه، يقابلهم بالدعاء لهم بالهداية. هذا، ولما تمادوا على ما هم عليه وهو ينتظرهم جيلا بعد جيل ولم ينجع بهم نصحه، ولم يكفوا

عن أذاهم له ورأى كل جبل يظهر أنجس من الذي قبله، وقد أيس من إيمانهم، شكا أمره إلى الله بعد أن أقنطه من إيمانهم في هذه الآية، دعا عليهم كما هو مذكور في سورته الآتية في الآية 26 فاستجاب سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بقوله «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا» على مرأى منا لئلا تزبغ عن الصواب في كيفية صنعها المثبتة في أزلنا، وذلك لأن الله تعالى كما خلق في عالم الذر جميع الناميات، صور أيضا كل الجامدات، فكان كل ما يظهر منها طبق ما هو مكون عنده في لوحه وكلمة (بِأَعْيُنِنا) جاءت هنا وفي الآية 14 من سورة القمر المارة في ج 1، «وَوَحْيِنا» أي اصنعها بمقتضى ما نأمرك به من عرضها وطولها وثخنها وارتفاعها وعمقها وهيئتها ومم يكونّها ومقدار ما تستوعبه، قال ابن عباس لم يعلم نوح كيف يصنعها فأوحى الله إليه أن يجعلها مثل جؤجؤ الطائر، «وَلا تُخاطِبْنِي» يا رسولي بعد انهاءك عملها وطوافها على وجه الماء الذي سأقدره لها «فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» من قومك ولا تتشفع لأحد منهم، ولا تسألن بتأخير عذابهم «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ 37» حتما محكوم عليهم في الموت غرقا حكما مبرمأ قضي فيه أزلا وجف به القلم، فلا سبيل إلى كفه «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ» امتثالا لأمر ربّه حسبما أوحي له به. قال الأخباريون: بعد أن سمع نوح من ربه ما سمع أقبل على عمل السفينة، ولهي عن قومه بها، فقلع الخشب وضرب الحديد، ومحيا الإسفلت وهو القار، أي القير الأسود، واستحضر كل ما يحتاجه لعملها، وباشر صنعها بيده بمقتضى ستراءى له من صورتها، فصار لا يخطىء بشيء لأن العلم له هو الله ربه والعمل بجرأة النبوة كما فهمه من معنى الوحي وكيف يخطىء وهو أكمل البشر في زمانه، وصنع الكامل لا يكون إلا كاملا، وجعل يدأب على عملها وحده «وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ» ضحكوا من عمله واستهزءوا به، ويقولون له صرت نجارا بعد أن كنت نبيا، وكيف تصنع سفينة في أرض ييس من برية لا ماء فيها، وذلك أنه بدأ عملها بعيدا عن قومه وعن الماء بوحي ربه، وعادة الرسل أنهم لا يسألون ربهم عند ما يأمرهم بشيء تأدبا ولعلمهم أنه لا يأمرهم إلا بما فيه فوزهم، راجع الآية 62 من الشعراء المارة في ج 1 «قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا» على ما ترون من

عمل أمرني به ربي «فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ» إذا نجانا الله وعذبكم «كَما تَسْخَرُونَ 68» منا الآن، قال هذا على سبيل الإزدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية 40 من سورة الشورى الآتية، لأن السخرية بمعناها المعلوم لا يليق صدورها من منصب النبوة ولما رآهم ازدادوا بالاستهتار به هددهم بقوله «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» غب عملكم هذا وسترون «مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ» في هذه الدنيا فيذله ويهينه ثم يهلكه ويدمّره «وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ 39» في الآخرة لا يتحول عنه، وهو عذاب النار الدائم أنحن أم أنتم، ثم ثابر على عمله ولم يعبا بهم حتى أكملها، قالوا كانت بطول ثمانين ذراعا وعرض خمسين وارتفاع ثلاثين وهو عمقها بذراعه عليه السلام، والذراع من رءوس الأصابع إلى المنكب، وجعلها ثلاث طبقات: عليا ووسطى وسفلى، وجعل فيها كوى ليطل منها إلى الخلاء وليرى بعضهم بعضا منها، وكانت من خشب الساج، وقال الحسن كان طولها ألفا ومثني ذراع، وعرضها ستمئة، وقال غيره طولها ثلاثمائة ذراع، والأول أولى وأنسب وأوجه، أما ما قيل إن صنعها استغرق ثلاثين سنة فإن صح فيكون للقول الثاني وجه، والله سبحانه وتعالى أعلم، إذ لم يبين لنا ذلك، والقرآن اقتصر على ذكرها فقط، ولما أمر بر كوبها عند انتهاء الأجل المقدر لإغراق قومه، حمل عليه السلام أهله ومن آمن به، ومن كل ذي روح زوجين اثنين فيها كما أمر، وهذا ما يدل على عظمتها، قالوا وقد جعل الله له علامة على ركوبها بقوله عزّ قوله «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا» بإنفاد عذابهم، وحان الوقت المقدر لإغراقهم في سابق علمه «وَفارَ التَّنُّورُ» بالماء إذ جعلناه علامة لقرب نزول العذاب لقوم نوح عليه السلام وإنجائه ومن آمن به أي أبق منتظرا ظهور هذه الأمارة فإذا رأيتها «قُلْنَا» لك اركب فيها أنت وأهلك ومن آمن بك و «احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ» من أنواع الحيوان «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» واترك الباقين «وَأَهْلَكَ» احملهم أيضا، ويدخل في الأهل من آمن به لأنهم صاروا من أهله لقول رسول الله سلمان منّا أهل البيت. ويجعله من أهله إلا لإيمانه. هذا، واعلم أن التنور هو الذي يخبز به، وهو بلغ

الفرس أيضا بهذا المعنى لا أنه فارسي في الأصل معرّب، راجع الآية 18 من سورة الشعراء المارة في ج 1، والفور ان الغليان يعني نبع الماء إذا اشتدّ صار كأنه يفور كالماء في القدر على النار، فإنه يفور عند اشتداد الحرارة، واختلف في موقعه قيل بالكوفة، وقيل بالهند، وقيل في الجزيرة في عين وردة، وقيل بالشام، وفي كل هذه المواضع محل يسمى تنورا، والأولى كونه في الجزيرة لقربها من جبل الجودي الذي استقرت عليه بنص القرآن كما سيأتي في الآية 43 لأنهم قالوا إنها رست بالمنطقة التي طافت منها، ويوجد الآن في الجزيرة محل يسمى تينير وفوقه عين ماء عند جبل كوكب الآتي ذكره في الآية 43 المذكورة، وما قيل إن التنور هو وجه الأرض أو هو طلوع الفجر ففيها صرف الحقيقة إلى المجاز دون مسوّغ ما، والحق أنه التنور المعلوم بمعناه الحقيقي، لأن الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة هو الذي يخبز فيه، ومعنى الزوجين كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الآخر، كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج، وليس المراد بالزوج هنا ما يقابل الفرد، ولأن المعنى من كل صنف زوجين ذكر وأنثى، قالوا حشر الله له جميع الحيوانات فجعل يضرب بيديه عليها، فتقع الأنثى بيده اليسرى والذكر باليمنى، فيعزلهم على حده، وقد خصص عليه السلام الطبقة السفلى للوحوش والهوام، والوسطى الدواب والأنعام، والعليا لحضرته ومن معه والطير وما يحتاجونه من الزاد حسبما أمره الله، وكان هذا بعد إكمال عمل السفينة طبقا لمراده وخاطبه جلّ خطابه أن أدخل فيها من شئت مما أمرتك «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» من أهلك وهو ابنه كنعان وزوجته واعلة فقط، وذلك لسابق علمه بغرقهما مع الكفرة لما هو مدون بأزله اختيارهما الكفر على الإيمان حسب تفديره وإرادته ولا يقع في كونه خلاف مراده «وَمَنْ آمَنَ» عطف على وأهلك أي كل المؤمنين معك، قال تعالى «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ 40» جدا بالنسبة لكثرة قومه، ولم يبين جل جلاله مقدارهم ولهذا تضاربت الأقوال في عددهم وأصحها أنهم ثمانون نسمة كما روي عن ابن عباس، ويؤيد قوله وجود قرية بقرب الجودي الذي رست عليه السفينة مسماة بقرية الثمانين وهي معروفة الآن والجزيرة

[سورة هود (11) : الآيات 41 إلى 50]

معروفة بجزيرة ابن عمر «وَقالَ» الملك السلام مخاطبا رسوله نوحا عليه السلام ومن آمن معه «ارْكَبُوا فِيها» فقد آن إغراق الكفرة، فأمر عليه السلام أن يستقر كل في طبقته، ولما تم ذلك لم يعرف عليه السلام كيف يمشيها على الماء فقال تعالى له ولصحبه إذا أردتم سيرها قولوا «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها» فإنها تسير بإذن الله الذي نجاكم عليها «وَ» إذا أردتم إرساءها قولوا بسم الله «مُرْساها» فإنها تقف حالا وهذا تعليم من الله لعباده بأن من أراد أمرا فعليه أن يبدأه بذكر الله ليبارك له فيه وينجح بغايته المحمودة قالوا فصارت الأرض تنبع مياها غزيرة والسماء تمطر مياها وافرة مدة أربعين يوما بشدة وهم بالسفينة لم يبرحوا مكانهم ويشاهدون عظمة الله، قال تعالى (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) الآية 11 (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) الآية 12 من سورة القمر المارة في ج 1، قالوا وارتفع الماء بالسفينة على أعلى جبل أربعين ذراعا فطافت بإذن الله بين عاصفة من الأمواج وصار سيدنا نوح عليه السلام إذا أراد إيقافها قال بسم الله مرساها فتفف، وإذا أراد سيرها قال بسم الله مجراها فتسير مهما كان يحوطها من أمواج وعواصف، ولم يحجه ربه إلى المرابط والمراسي والمجاديف والملاحين فقال عليه السلام شكرا لهذه النعمة «إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 41» بمن تاب وأناب من عباده، ومن رأفته يقبلهم إذا رجعوا إليه بعد كفرهم. ثم وصف الله تعالى سرعة سيرها بقوله جل قوله «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ» عظيم هائل لدلالة التنوين أي في غاية من الشدة والموج ما ارتفع من الماء بسبب اشتداد عصف الرياح وقد شبهه الله تعالى في عظمته «كَالْجِبالِ» وبهذا أنجى الله المؤمنين جميعا وأغرق الكافرين ولم يرحم منهم أحدا استجابة لدعوة نبيهم حتى أم الصبي التي ضرب بها المثل: قالوا لما مر الماء بالسكك من القرية خافت امرأة على ابنها من الغرق فصعدت به إلى الجبل وكلما ارتفع صعدت به حتى بلغت قمته، فتناولها الماء فرفعت ولدها إلى حضنها فتناولها الماء فرفعته إلى رأسها فأدركها الماء فرفعته بيدها فوق رأسها فأخذها وإياه الماء فغرقا، ولذلك قالوا لو رحم الله أحدا من قوم نوح لرحم أم الصبي «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ» كنعان أثناء نبع الماء من الأرض ونزوله من

السماء «وَكانَ فِي مَعْزِلٍ» عنه لأنه لم يركب معه في السفينة وكان منعزلا عن المؤمنين بعيدا عنهم «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا» بالسفينة لتنجو من الغرق الذي ألم بك في الدنيا ومن العذاب المقدر لك في الآخرة إن لم تؤمن وتتبعنا «وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ 42» فتهلك معهم غرقا الآن وتعذيبا غدا «قالَ» كنعان كلا لا أركب معكم ولا أغرق لأني «سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ» بسبب ارتفاعه إذ لا يبلغه الماء مهما ارتفع، وقد اختلف العلماء في هذا الجبل كما اختلفوا بالتنور فمن قال بالجزيرة وهو الأصوب كما نوهنا آنفا قال هو جبل كوكب وهو قريب من محل التنور قريبا من مجرى الخابور من الشرق الشمالي من جهة الحكة والذي يليه من الشرق الجنوبي جبل سنجار والذي يليه من الغرب الجنوبي جبل عبد العزيز والذي يليه من الشمال الغربي جبل ماردين وكلها بالجزيرة قريبة منه، ومن قال إنه بالكوفة أو بالهند أو بالشام ذكر غير ذلك من الجبال الموجودة هناك والأول ينطبق على المعنى لأنه قال (إلى جبل) منكر منون وكل هذه الجبال يراها الرائي من موضع التنور الواقع في الجزيرة أما الأخر على الأقوال الأخرى فلا ندري هل يراها من كان عند التنور الذي فيها أم لا فكأنه قال إني سأعتصم بأحد هذه الجبال «قالَ» له أبوه عليه السلام لا تعتر يا ولدي مما ترى من هذه الجبال ومن إغواء قومك فإنه «لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ولا مانع من عذابه ولا منجى من إهلاكه ولا يخلص من هذا الغرق «إِلَّا مَنْ رَحِمَ» الله منهم إركابهم هذه السفينة التي أمرني ربي بصنعها الذين لم يقدر إغراقهم، وإن ما ترى من قولك وغيرهم فإنهم كلهم هالكون ولا زال يسديه النصح وهو بمانع حتى تباعدا عن بعضهما «وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ» بحيث لم يبق أحدهما يشاهد الآخر ولم يسمع صوته ولا يرى إشارته لأنه بعد ما طافت السفينة ارتفع ارتفاعا هائلا وصار لشدة علوه كالسد بينهما وقد شبهه الله بالجبال آنفا لعظم ارتفاعه «فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ 43» معهم طبقا لقضاء الله وقدره أزلا، قال الأخباريون لما كثر الروث في السفينة لطول بقائها جارية على ظهر الماء أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ففعل فوقع خنزير وخنزيرة ومسح

على الخنزير فوقعت منه فأرتان فأقبل الخنزيران على الروث فأكلوه وصار الفأر يفسد في السفينة ويقرض ما فيها، فأوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر فأكلاه إلا قليلا ودامت السفينة جارية ستة أشهر، إذ ركب فيها لعشر من رجب وهبطت على الجودي يوم عاشوراء، وتناهى الطوفان وخرجوا من السفينة وصاموا ذلك اليوم شكرا لله تعالى، وعمروا قرية هناك تسمى الآن سوق الثمانين وهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان. مطلب المياه كلها من الأرض والبحر المكفوف: وبعد أن تم مراد الله تعالى بإغراق الكفرة وإنجاء المؤمنين خاطب الأرض بقوله عز قوله «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ» تشير هذه الآية على أن الماء كله من الأرض إذ أضافه إليها وهو موافق لقول من يقول أن الأمطار كلها من الأنجرة المتصاعدة من الأرض والبحار والأنهار وغيرها، وهذا مما يعرفه العرب الأقدمون إذ يقولون إن الغيوم تلتقم الماء من البحر تم تمطره، وعليه قوله: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... في لحج خضر لهن أجيج وقال: كالبحر يمطره السحاب وماله ... من عليه لأنه من مائه راجع الآية 30 من سورة النازعات الآتية تجد ما يتعلق في هذا البحث، وقال بعض العلماء المطر قسمان قسم من أبخرة الأرض والمياه وقسم من علم الله وذلك استنادا لما يقوله بعض العارفين بوجود بحر بين السماء والأرض يسمى المكفوف ينزل منه نوع من المطر، يؤيد هذا ظاهر الآية 20 من سورة الزمر الآتية وهي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) وآية المؤمنين 18 الآتية أيضا وهي (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) وتقدم ما يدل على هذا في قصة المعراج أول سورة الإسراء المارة في ج 1، وعدم اطلاع الطبيعيين والفلكيين على هذا البحر لا يكون حجة على عدم وجوده، لأن دعوى النّفي لا تثبت بالنفي بل بالإثبات. والله تعالى قادر على أكثر من ذلك فلا

يستبعد شيء على الله تعالى وهو الخلاق العظيم، ولا يخفى أن أكثر أقوال الطبيعيين والفلكيين مبنية على الظن والحدس لأنها أمور غير محسوسة، والخطأ في الظن أكثر من صوابه وخاصة في غير المرئي ولا يعلم مكنونات الله إلا هو فعلى العاقل أن يؤمن بمثل هذه الأشياء لأن الإيمان بها لا يضره، ولا يجحدها فإن الجحد لها قد يضره والتسليم أسلم وهو مذهب السلف الصالح وناهيك بهم قدوة «وَيا سَماءُ أَقْلِعِي» أمسكي عن القطر «وَغِيضَ الْماءُ» نقص ونضب إذ انقطع من السماء انهماره ومن الأرض انفجاره فغار وذهب ولعبت الرياح شرقا وغربا، ونشفت الأرض وببست «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» بإهلاك قوم نوح عليه السلام ومن قدر عليهم تبعا لهم ممن أراد الله تعالى إغراقه من غيرهم «وَاسْتَوَتْ» السفينة «عَلَى الْجُودِيِّ» جبل معروف الآن شمالي دجلة مما يقابل عين ديوار من أرض الجزيرة الواقعة جنوبي دجلة شمالي غربي الموصل «وَقِيلَ بُعْداً» وسحقا وهلاكا «لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 44» وكلمة بعدا يقولها العرب إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك وعدم العودة، فإنهم يقولون بعدا بعدا، ولذلك خصوها بالسوء وهكذا كلما مرت هذه الكلمة يكون المراد منها ذلك المعنى، وقال الأخباريون لما استقرت السفينة على الجودي بعث نوح عليه السلام غرابا ليأتيه بخبر قومه فوقع على جيفة فلم يرجع اليه، ثم بعث لحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء ذهب بالمرة، فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا تراه يألف البيوت حتى لآن، وطوق الحمامة بالخصرة في عنقها، ودعا لها بالأمان، فمن ذلك اليوم ألفت البيوت واعتاد الملوك إرسالها بالكتب إلى من تريد. وهي كذلك حتى الآن لم يستغن عنها مع وجود الطائرات وغيرها وإذ نعمت النظر فلا تجد شيئا يستغرب الآن إلا وله أصل قبل، وإذا تتبعت هذه المنشآت الحديثة لم تجدها بنت سنتها بل لا بد وقد سبق لها بحث أو عمل، وإذا مر الفكر على عمل شيء أو بحث في أمر قد يستحيله عقل غيره أمعن نظره فيه وأفرغ تدبيره، فجعل له أساسا حتى إذا لم يتوفق لا نجاره تركه لعيره، وهكذا حتى استوت هذه المخترعات فظهرت لعالم الوجود، وهي وإن كانت من صنع البشر إلا أنها من إلهام الله تعالى إياه قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ

وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من الصافات الآتية، وسيظهر لنا هذا القرآن ما تستبعده العقول مثل قول أبي الحسن الأشعري إن بالإمكان أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس راجع الآية 38 من سورة الأنعام الآتية قالوا ومر نوح عليه السلام أثناء سيره بالسفينة على البيت الحرام، وقد رفعه الله تعالى من الغرق وبقي موضعه، فطافت به السفينة سبعا حوله، وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس. قالوا ولم ينج من الغرق سوى عوج بن عنق، لأنه حمل أخشاب السفينة من الشام الى المحل التي هي فيه حال صنعها. هذا ولا يقال كيف أغرق الله تعالى الأطفال والحيوان إذ لا ذنب لها، لأنه تعالى مالك لها والمالك يتصرف بملكه كيفها يشاء، ولأن هذا الإغراق مجرّد سبب للموت في حقهم، وأي مجذور في إماتة من لا ذنب له بالنسبة إلى المحيي المميت الذي في كل لحظة يحيي أمما ويميت أمما بما يقدره من الحروب والطاعون والخسف وغيرها بسبب ولا سبب حسب حكمته البالغة، وهو الإله الفعال لما يريد الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا دافع لقدره ولا يسأل عما يفعل؟ وما قيل إن الله تعالى أعقم أرحام النساء قبل العرق بأربعين سنة كي لا يولد لهم ولد يهلك بسببهم، ليس بسديد، إذ لم يوجد ما يؤيده ويرد عليه إغراق الحيوانات والطيور وأولاد الأمم الأخرى الذين أصابهم الغرق وعمهم البلاء غير قوم نوح عليه السلام، لأن مبدأ دعوته خاصة لقومه ونهايتها عامة كما ذكرناه في الآية 74 من سورة يونس المارة، ولا يوصف جل شأنه بظلم بتعميم العذاب، لما قدمناه غير مرة، وقالوا ان الحيوانات والطيور وقعت على قدمي نوح تلحسها راجية حملها معه بالسفينة، ولم يفعل، لأنه لم يؤمر بذلك. وقالوا إن الطوفان عم وجه الأرض كلها، وهناك أقوال بأنه عم جزيرة العرب وما بجوارها، يريدون قارة آسيا كلها، وان القرآن لم يذكر بأن الطوفان عم الأرض كلها، وان قوله تعالى حكاية عن سيدنا نوح عليه السلام في دعائه (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية 36 من سورته الآتية، وأن الله تعالى أجاب دعاءه، فلم يفهم منه أن إهلاكهم كان بالغرق مع قومه، إذ يمكن أنه أهلكهم بغير طوفان، فلا يكون دليلا قطعيا على إهلاكهم به، ولم يرد فيه خبر أو حديث صحيح، ولأن

مطلب في قوله تعالى انه ليس من أهلك وتفنيد قول من قال إنه ليس ابنه:

لفظ الأرض يطلق على إقليم منها كأرض مصر، راجع الآيات 21- 45 و 56 من سورة يوسف الآتية ومثلها في سورة المؤمن وغيرها، وإذ لم يرد حديث صحيح أيضا في ذلك ولا فيما نقلناه عن الأخباريين والقصاص، فلا يحق لمجادل أن يجادل فيه، وإن تنويه المؤرخين إذا لم يقصد بحديث لا عبرة به أيضا، إذ لا يوجد تاريخ يعتمد عليه قبل التوراة التي هي أول كتاب استمدّ منه المؤرخون أقوالهم. هذا وأما ما جاء في هذه القصة من حسن النظم وبداعة التركيب وبلاغة القول وفصاحة إيجازه واطنابه وخاصة هذه الآية 44، فحدّث ولا حرج، لأن البشر عاجز عن وصفه ولله در القائل في التنزيل وما جمعت آياته: وعلى تفنّن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف ورحم الله الأبوصيري حيث يقول: آيات حق من الرحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن ارم فما تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالسأم مطلب في قوله تعالى انه ليس من أهلك وتفنيد قول من قال إنه ليس ابنه: قال تعالى «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ» بعد أن خرج من السفينة هو وأهله ومن معه وتذكر ابنه كنعان ووعد الله في الجاء أهله «فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» وقد وعدتني بإنجائهم من الغرق «وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» فلم أغرقته وأنت لا تخلف الميعاد ولم تستثنه «وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ 15» فاحكم لي بإنجاز وعدك، لأنك العادل في الحكم للعالم مما تحكم. قال هذا لأن الحاكم إذا حكم بالعدل ولم يعلم أنه عدل موافق للشرع بعد من أهل النار، لأنه بمنزلة العوارف الذين يحكمون برأيهم وبالقياس على أحكام من سلف من أمثالهم، لا يستند إلى كتاب سماوي أو تشريع نبوي أو قياس على أحدهما، فحكمه حكم الجاهل الذي يقضي بخلاف الحق، ولهذا قيل قاضيان في النار وقاض في الجنة، فالذي في الجنة قاضي عرف الحق وقضى به واللذان في النار هما الأولان، ولا فضل لحاكم على

غيره إلا بالعلم والعدل، ورب جاهل ظالم غشم في زماننا لقب بقاضي القضاة بمعنى أحكم الحاكمين كما لقب كافر بملك الملوك وهو مع كفره طاغ باغ، وأكره الناس على الله من تلقب بهذا، كما في الحديث الشريف إذ لا تليق هاتان الصفتان إلا برب العالمين «قالَ» تعالى «يا نُوحُ إِنَّهُ» ابنك الذي تذكرته وغرق مع من غرق «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» الذين هم على دينك وليس هو داخل بالوعد الذي وعدتكه «إِنَّهُ عَمَلٌ» بالتنوين وقرىء بكسر الميم فعلا ماضيا أي عمل عملا «غَيْرُ صالِحٍ» وعلى القراءة الثانية تقرأ غير بالنصب على أنها مفعولة لعمل، وعلى القراءة الأولى وهي كون عمل مصدرا فتضم راء غير على أنها صفة للعمل، ويكون المعنى هو نفسه عمل غير صالح لأنه مشرك كافر هذا مبالغة في ذمه لإفناع نوح عليه السلام بأنه ليس من أهله، ولذلك أغرقته لكونه غير داخل في الوعد. واعلم أن هذا القراءة جائزة لأنه لم يبدل ولم يغير منها حرف، كما أنه لم يزد ولم ينقص من حروف الكلمة، وإنما التبديل وقع فى الإعراب فقط، وكل ما كان على هذا من القراءات لا بأس فيه، أما ما يقع فيها تبديل أو نقص حرف أو زيادته فلا تجوز ولا تعد قراءة إذ هي تفسير لبعض الكلمات وردت من بعض الأصحاب أو كتبت على هامش مصاحفهم. تدبر هذا واعلم أن أهل الرجل من يجمعه وإباهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما، ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر، قال سبحانه وتعالى منزل هذه الآية لشريعته الثابتة في أزله إنه ليس من أهلك الذين هم على طريقتك وملّنك، لأنه لم يؤمن بك مثلهم، ولهذا فإن صريح الآية أبانت أنه ليس من أهله، وفي مثل هذا قال القائل: لا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله لأن مدار الأهلية هو القرابة الدّينية وقد انقطعت بالكفر، ولذا لم يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر، ولا حجة بخبر سلمان منا أهل البيت فإن المراد به قرابة الدين وهي أقرب من النسب لكن في غير الإرث، قال أبو فراس: كانت مودة سلمان لنا نسبا ... ولم يكن بين نوح وابنه رحم

وقال الآخر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد خفض الشرك الحسيب أبا لهب هذا ومن قال إنه ابن زوجته لا يلتفت إلى قوله بعد قول الله تعالى (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) وقوله (يا بُنَيَّ) و (إِنَّ ابْنِي) والقول في هذا كالقول بأن آزر عم إبراهيم مع صراحة القرآن بأنه أبوه كما سيأتي في الآية 74 من سورة الأنعام. أما ما قيل إنه من البغي والعياذ بالله، فإنه قول باطل تتنزه ساحة الأنبياء عنه ويخشى على قائله الكفر، واستدلاله بقوله تعالى (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي من زوجتي لا من صلبي، استدلال واه لا قيمة له ولا عبرة به، كيف وقد سماه ابنه في الآيتين مرتين صراحة ولا بعد صراحة القرآن حاجة إلى تأويل أو كناية، وإنما قال عليه السلام من أهلي لأن الله تعالى وعده بإنجاء أهله وهو منهم على ظنه أن الكفر لم يخرجه من معنى الأهلية، لا لأنه كما زعم هذا القائل الجاهل بأحوال الأنبياء المبرئين من كل عيب مادي أو معنوي. أما ما استبعده بعض المفسرين من أنه لا يكون ابن النبي كافرا فبعيد عن الحقيقة، لأن قابيل كافر وهو ابن آدم عليه السلام، وإبراهيم خليل الله أبوه كافر. وقال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط، ولا يقال كيف طلب النجاة له وهو كافر، لأن رقة الأبوة والأمل من نوبته عند رؤية أهوال الإغراق دعتاه إلى مناداته لعله يسلم وينجو، وهذا من موجبات الدعوة للغير فضلا عن الولد. قال تعالى «فَلا تَسْئَلْنِ» يا رسولي عن شيء «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» جاء لنهي في هذه الآية عام مندرج تحته النهي عن سؤاله بعدم إنجائه بدليل الفاء التفريعية، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ضمير إنه من قوله تعالى (إِنَّهُ عَمَلٌ) إلخ، يعود إلى المسألة المستفادة من معنى السؤال، أي مسألتك إياي يا نوح عن ابنك عمل غير صالح لا أرضاه لك، كما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه، وفي رواية جرير سؤالك ما ليس لك به علم عمل غير صالح. ويستدل بهاتين الروايتين اللتين لم تعلم صحتهما القائل بأنه ابن بغي، ويقول إنما أعاد الضمير ابن عباس إلى المسألة حذرا من نسبة الزنى إلى من لا ينسب إليه، وهو رضي الله عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه ذلك المعنى أو يتصور من عود الضمير

إلى ابن نوح ما تصوره هذا الجاهل بقدر الأنبياء، فيسند الضمير إلى من ليس له لئلا يتصور ما يلزم من ذلك المحذور، كيف وهو حبر الأمة وأعلم الناس بمعاني كتاب الله بعد المنزل عليه ووحيه وخلفائه، فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ترهات كهذه تلصق بأعظم الرجال لتؤخذ عنهم وهم منها براء، ومن له مسكة من عقل أو لمعة من إيمان لا يصدق أقوالا كهذه بمجرد نقلها عنهم، لأن كثيرا من الدساس يفعلون هذا، قاتلهم الله وأخزاهم. قال تعالى «إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ 46» لمثل هذا وأنت من أصفيائي وكان عليه السلام لا يعلم أن سؤاله هذا محظور عليه، ولما علم مما أوحي إليه ربه أن طلبه نجاة ابنه وإدخاله في وعد ربه لا يرضى به ربه رجع واعتذر والتجأ إليه «قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» بجوازه ورضائك به «وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي» جهلي هذا وخطئي بإقدامي على سؤالك شيئا لا يحق لي سؤاله، ولا يجوز لي طلبه البتة «وَتَرْحَمْنِي» بالعصمة عن العود إلى مثلها برحمتك التي وسعت كل شيء «أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ 74» عملا واحرسني يا سيدي من أن أذهل عن شكر نعمتك، فإن الذهول عنه عندها معاملة خاسرة توجب زوالها. واعلم أن لا دلالة في هذه الآية على عدم عصمة الأنبياء، لأن الله تعالى وعد نوحا بإنجاء أهله وقد اتبع ظاهر هذا الوعد فسأل نجاته، فعاتبه الله تعالى على ما ليس له به علم من استثنائه من أهله في سابق علمه، لأنه كافر مصر على كفره، وبين له أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم، وأعلمه بأنه هالك لا محالة مع قومه الظالمين أنفسهم، ونهاه عن مخاطبته فيه، وفي كل ما لا يعلمه مما يوقعه الله تعالى في ملكه، فخاف عليه السلام من إقدامه على سؤاله ذلك الذي لم يؤذن له به، فلجأ إلى ربه وسأله المغفرة حالا عن هذا الذنب الذي ليس بذنب عند غير الأنبياء، لأن العبد كلما ازداد قربا من الله تضاعفت خشيته منه، وقد جاء عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال أعلمكم بالله وأخشاكم له أنا. وذلك لقربه من ربه عز وجل، لأن في ازدياد قربه ازدياد معرفته بربه ووقوفه على بعض عظمته وكبريائه، فيزداد خوفه منه فيستعظم ما يقع منه مما يراه مخالفا للأدب، ولهذا المعنى قبل إن حسنات الأبرار سيئات

المقربين، وكما أن القرب من الله يكون سببا لكثرة أدبه معه فكذلك القريب من السلطان يكون أكثر من غيره أدبا وخوفا منه لما يرى من بطشه ولتأمين مقامه ومكانته عنده وعند الناس. هذا وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب أو معصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ربه بنجاة ابنه، وهو مما لا يؤاخذ عليه ولا يستوجب العتبى إلا عتاب الأحباب، وقدمنا في الآية 121 من سورة طه في ج 1 ما يتعلق بعصمة الأنبياء ومعنى ما يصدر منهم فراجعه. قال تعالى «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ» بسفينتك على المحل الذي استقرت عليه وانزل إلى الأرض المستوية المعتدلة مما حول جبل الجودي «بِسَلامٍ» وأمان من الغرق وتحية «مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ» من ذرية أهل السفينة، وهذه بشارة من الله تعالى إليهم بالنمو والخيرات وإلى قرون تجيء بعده، قال تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) الآية 17 من سورة الصافات الآتية، أي إلى يوم القيامة، لأن الخليقة الموجودة الآن منسوبة إلى أولاده الثلاثة سام وحام ويافث، ولهذا يسمى أبا البشر الثاني بعد الأب الأول آدم عليه السلام، وبهذا يستدل القائل بأن الطوفان عم الأرض كلها، وأن دعوة نوح شملت كل من كان عليها، قال محمد بن كعب القرظي دخل في هذه البشارة كل مؤمن إلى يوم القيامة. وإلى هنا للتمهت قصة نوح عليه السلام التي قصها علينا في كتابة. ثم ابتدأ فقال «وَأُمَمٌ» كافرة يحدثون بعدك وينشأون ممن معك «سَنُمَتِّعُهُمْ» في هذه الدنيا بالسعة بالرزق والخفض في العيش والرفعة في الجاه مدة آجالهم «ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا» يوم القيامة جزاء أعمالهم السيئة «عَذابٌ أَلِيمٌ 48» وقال محمد المومى إليه دخل في هذا المتاع والعذاب كل كافر إلى يوم القيامة «تِلْكَ» القصّة التي قصصناها عليك يا محمد «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ» في جملة الأخبار الغيبية «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن الذي جاءك به ذلك في جملة ما أنزلناه عليك منه، ولا يقال إن هذه القصة معلومة في في التوراة أو غيرها من الكتب فكيف صح قوله (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) إلخ، لأنها كانت معروفة على الإجمال، ومنها ما هو بطريق الرمز والإشارة، أما على هذا

[سورة هود (11) : الآيات 51 إلى 60]

التفصيل فلم يوجد إلا في القرآن ولم يرد ذكرها على هذا الوضوح إلا به، ولأن حضرة الرسول أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يعلم ما في الكتب القديمة، وكذلك قومه جلّهم أمّيّون، ومنهم من لم يسمع بها أيضا، لأن الجهالة باختيار الأمم السابقة وكيفية إهلاكهم غالبة عليهم، فاندفع ما يقال وأخرس القائل. «فَاصْبِرْ» يا سيد الرسل أنت ومن معك من المؤمنين على أذى قومك وتحمل جفاهم حتى يأتي وعد الله، كما أن نوحا ومن بعده من الأنبياء صبروا حتى جاءهم وعد الله «إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ 49» ربهم الصابرين على ما يخبرهم به، فيكون لهم النصر والفوز، قال تعالى «وَإِلى عادٍ» أرسلنا «أَخاهُمْ هُوداً» في النسب، لانه منهم لا في الدين الذي نسبه أقرب ولا في الهوى الذي هو تبع لما جاء به حضرة الرسول القائل (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وأشار إليه ابن الفارض رحمه الله بقوله فيه: كم نسب في الهوى بيننا ... أقرب من نسب من أبوي وتقدم نسب سيدنا هود في الآية 65 من سورة الأعراف في ج 1 «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» يستحق العبادة «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ 50» بعبادتكم غيره كاذبون بادعائكم أن الأصنام آلهة مختلقون ما تزعمون من الشريك له «يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي النصح الذي أسديه لكم وما أبلغه إليكم من رسالة ربي التي فيها هديكم وصلاحكم للخير وخلاصكم من الشر «أَجْراً» جعلا ولا أجرة آخذها منكم لقاءه، لتظنوا أن لي فيكم طمعا ما «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي» خلقني فهو الذي يرزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة «أَفَلا تَعْقِلُونَ 51» وعظي وتأخذون بقولي الذي أبذله لكم مجانا، وهل شيء أنفى للتهمة من هذا فكيف لا تقبلون رشدي؟ واعلم أنه ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم الرشد والنصح، وأن مما يمحضها للقبول هو حسم الطمع. وما دام الرسول لا يريد ولا يتوقع شيئا من هداه المادة يجب أن يركن إليه ويجاب دعاؤه، وإذا كان الناصح يجنح إلى المادة أو يتوهم منه طلبها من المنصوح له لا ينجح بدعوته ولا تنفع هدايته «وَيا قَوْمِ

اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» مما أنتم عليه من الكفر وآمنوا به وحده «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» من الشرك ودواعيه، واخضعوا لعظمته وأنيبوا إليه «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» تباعا المرة بعد المرة، أي ينزل عليكم ماءها، إذ تطلق عليه لأنه نازل منها بالنسبة لما نرى وقيل في هذا المعنى: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا والضمير في رعيناه يعود للغيث المتسبب عن نزول المطر، لأنه هو الذي يرعى لا المطر نفسه، وإنما وعدهم بالغيث لأن بلادهم أجدبت ثلاث سنين متوالية وذهب عنها خصبها بسبب عكوفهم على الأوثان وجنوحهم عن الواحد الديان وردهم دعوة رسوله، فوعدهم إذا هم آمنوا أن يرحمهم الله وبعيد لهم أرضهم خصبة كما كانت قبل المحل «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ» وذلك أن الله تعالى غضب عليهم فأعقم نساءهم كما أمحل أرضهم، فوعدهم نبيهم بأنهم إذا آمنوا يعيد أرحام نسائهم إلى النتاج كما كانت عليه قبل أيضا، فيزداد عددهم وتقوى شكيتهم فتزداد قوتهم في المال والولد والرزق «وَلا تَتَوَلَّوْا» عني وتعرضوا عن نصحي فتكونوا قوما «مُجْرِمِينَ 52» متلبسين الإثم مصدر أجرم إذا أذنب وجنى ويأتي على فلة من جرم وعليه قوله: طريد عشيرة ورهين ذنب ... بما جرمت يدي وجنى لساني «قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ» واضحة وبرهان ناصع وحجة ظاهرة ودليل قاطع على صحة قولك «وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» المجرد عن المعجزة وتقول العرب حتى الآن (جئتني بإثمك) أي بلا شيء معك غير الكلام المجرد، وإذا كنت كذلك فلا نتبعك «وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 53» فيما تقول أو تأتي به «إِنْ نَقُولُ» أي ما نقول «إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» بجنون لأنك تسبّها فخبلتك انتقاما لكراهتها ففسد عقلك «قالَ» ألكم آلهة تفعل شيئا معاذ الله «إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ» على ما أقوله لكم «وَاشْهَدُوا» أنتم علي بأني أحقر آلهتكم وأجهلكم بعبادتها و «أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 54» شيئا «مِنْ دُونِهِ» أي الإله الواحد الذي لا شريك له «فَكِيدُونِي جَمِيعاً»

أنتم وشركاؤكم «ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ 55» ولا تمهلوني لحظة واحدة إن صح قولكم إن لآلهتكم قدرة على إضرار من ينالها بسوء أو يصد عن عبادتها، وقد صارحتكم وأشهدتكم وتحديتكم فلا تتسامحوا معي مثقال ذرة، وهذا الحزم والعزم البالغان الغاية القصوى من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه كان وحيدا فيهم ولم يهبهم على ما هم عليه من الجبروت لما هو عليه من الثقة بالله، ثم كر عليهم بالتحدي فقال «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» بقصد التعريض بهم والتقريع بأوثانهم التي يزعمونها آلهة بأنها ليست برب لهم ولا يتوكل عليها وإن ربهم ورب شركائهم هو الله ربه ورب كل شيء «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» مالكها وقاهرها وميسرها لما خلقت له وفاقا لسابق علمه بها، لأن من أخذت بشعر مقدم رأسه فقد قهرته والناصية هي مقدم الرأس، وأطلق على الشعر النابت فيها للمجاورة، وإنما خصها بالذكر لأن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذل قالوا ناصيته بيد فلان، وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزّوا ناصيته ليمنّوا عليه ويفخروا بذلك، فخاطبهم الله تعالى بما يعرفون، ثم أكد لهم ذلك بقوله عز قوله «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 56» يسير فيه خلقه كلا بما يناسبه بحسب فطرته التي فطر عليها أزلا كما هو مدون في لوحه، لا تبديل لخلق الله، وهو جل شأنه عدل لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم، مطلع على أمور عباده، مجاز لهم بمقتضى أعمالهم، كالواقف على الجادة ليحفظها ويدفع الضرر عن المارين بها بالنسبة لما تعرفون. وهذا كقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الآية 14 من سورة والفجر، قال تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك وأعرضوا عن نصحك ولم يؤمنوا فقل لهم «فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من الله «إِلَيْكُمْ» وقمت بما أوجبه علي من تبشيركم وإنذاركم، فإن لم تسمعوا وتطيعوا فلا بد من إهلاككم «وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ» لإعمار أرضه وخلافته فيها «وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً» بتوليتكم عن طاعته وإنما تضرون أنفسكم «إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 57» ومن جملة الأشياء أنا فإنه لا محالة حافظي من تعديكم بمقتضى وعده إياي بذلك وهو لا يخلف الميعاد وكل هذا لم ينجع بهم وبقوا مصرين على كفرهم فحق عليهم العذاب، قال تعالى «وَلَمَّا

[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 70]

جاءَ أَمْرُنا» بإهلاكهم وحل أوانه المقدر لإنزاله بهم «نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» وهم على ما قيل أربعة آلاف «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» ورأفة بهم، لأن البلاء إذا نزل بمدينة أو قوم عم الكافر والمؤمن، ولكن كرما منه تعالى وفضلا قد أنجى المؤمنين من عذاب الدنيا الذي أوقعه بقومهم عقوبة مقدمة ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى وأدوم «وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ 58» في الآخرة كما أنجيناهم من عذاب الدنيا، ووصفه بالغلظة لأنه عظيم بالنسبة لعذاب الدنيا، وكان إهلاكهم بالريح الشديدة مدة سبع ليال وثمانية أيام حسوما نحسات كما ذكر الله، راجع قصتهم مفصّلة في الآية 72 من سورة الأعراف في ج 1، وأشير إليها اجمالا في أكثر السور، وقد صادف ذكرها الآن خلال الأيام المذكورة المسماة عندنا بالعجوز والحسوم، إذ أن هذا اليوم من أوسطها يوم الخميس في 27 شباط سنة 928، وهذا من جملة الصدف التي وافقت تفسير بعض الآيات المشار إليها في هذا التفسير قال تعالى «وَتِلْكَ» القبيلة المهلكة هي «عادٌ» وسبب إهلاكهم هو أنهم «جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ» هودا فمن قبله «وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 59» من رؤسائهم المتمردين على الله المترفعين عن قبول الحق عنادا «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً» رديفا إلى لعنتهم في الآخرة الملمع إليها بقوله تعالى «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» أتبعهم لعنة أيضا، وحذفت من الأخيرة لدلالة الأولى عليها راجع الآية 30 من سورة آل عمران ج 3، وبين سبب هاتين اللعنتين بقوله «أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ» ولم يشكروا نعمه «أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ 60» عطف بيان على عاد لأن عادا قبيلتان قبيلة هود وقبيلة عاد إرم أي العماليق المار ذكرهم في الآية 8 من سورة والفجر في ج 1، فقال تعالى هنا قوم هود ليزول الاشتباه أي أهلكوا هلاكا أي هلاك، فسحقا لهم وبعدا لا يدرى مداه، بدليل التكرار، لأن العنة معناها البعد أيضا فكررها بعبارتين مختلفتين دلالة على نهاية التأكيد، كما أن تكرار التنبيه بألا مع النداء المستتر بالدعاء عليهم يدل على التهويل وتفظيع حالهم، ويبعث على الاعتبار بهم والحذر من أفعالهم، قال تعالى «وَإِلى ثَمُودَ» أرسلنا «أَخاهُمْ صالِحاً» بالنسب أيضا لأنه منهم

مطلب سبب طول العمر وبقاء الحكم كثيرا عند البعض:

وقد مر نسبه أيضا في الآية 73 من سورة الأعراف في ج 1، وهم سكان الحجر وثمود اسم للقبيلة والثمد الماء القليل «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» البتة «هُوَ» الذي «أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» وحده لا شريك له «وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» فأطال أعماركم وجعلكم سكانها وعمارها. مطلب سبب طول العمر وبقاء الحكم كثيرا عند البعض: قالوا كان أحدهم يعيش كثيرا وتتراوح أعمارهم ما بين ثلاثمائة وألف سنة، وكان قوم عاد كذلك، وسئل نبي من أنبياء زمانهم عن سبب طول أعمارهم، فقال لأنهم عمروا البلاد وعاش بها العباد. وقيل إن الله أوحى لنبي من أنبيائهم بهذا، وقال معاوية لرجل أحيا أرضا آخر عمره ما حملك على هذا؟ قال قول القائل: ليس الفتى بفتى يستفاد به ... ولا يكون له في الأرض آثار وسئل عن بقاء حكمهم، فقال لأنهم لا يولون إلا ذوي العقول، ولا يحكمون إلا ذوي الأصول، ولا يعاقبون إلا بقدر الذنب لا يقدر البغض، ولا يكافئون إلا بقدر العمل لا بقدر المحبة، وقيل إن هذين السؤالين وقعا على ملوك الفرس والله أعلم. «فَاسْتَغْفِرُوهُ» عما سلف منكم من الذنوب «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» توبة نصوحا لا عودة فيها وأطيعوه وآمنوا به «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ» رحمته من عباده المؤمنين لا يحول بينه وبينهم حائل «مُجِيبٌ 61» لدعائهم قابل رجوعهم غافر لما كان منهم «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا» بأن تسعدنا ونفخر بك، لأنك ذو حسب ونسب فينا، ولأنّك تعين الضعيف وتبر الفقير وتحترم الناس، وكنا نطمع بك تأييد ديننا أيضا مع السيادة علينا «قَبْلَ هذا» القول الذي صدر منك حيث أسأتنا به وخيّبت آمالنا فيك «أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة وقد عاش أسلافنا عليها لا لا تفعل هذا، فإن أملنا بك غيره «وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» من عبادة إلهك وحده دون آلهتنا «مُرِيبٍ 62» يوقعنا في مرية من أمرك وما تدعونا إليه، والريبة قلق النفس وانتفاء الطمأنينة والوقوع في الشبهة والركون إلى التهمة «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ

إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً» لآتيها لكم وتشاركوني في منافعها، إذ أمرني أن أدعوكم إليها لإرشادكم إلى الهدى فإذا لم أفعل «فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ» الذي شرفني بالرسالة إليكم وأوجب علي إنذاركم بالكف عن الكفر «إِنْ عَصَيْتُهُ» بعد تبليغكم رسالته وتبشيركم بجنة دائمة النعيم إذا أجبتم دعوتي وآمنتم بربي «فَما تَزِيدُونَنِي» بما ذكرتم من تعجبكم عن نهيي إياكم من عبادة الأوثان «غَيْرَ تَخْسِيرٍ 63» بنسبتكم إياي إلى الخسارة أو نسبتي إياكم إلى الخسران، أي لا تفيدوني غير العلم بخسارتكم مما أدعوكم إليه من الرشد وسلوك طريق الصواب، أما أنا فلست خسرانا شيئا إلا خسارتكم وحرمانكم من فضل الله تعالى الذي وعدة لكم إن اتبعتموني ورفضتم ما أنتم عليه، فقالوا له إن كنت صادقا فآتنا بآية تدل على صدقك، فقال لهم سلوا ما شئتم، قالوا أن تخرج لنا ناقة من هذه الصخرة لصخرة كانت عندهم، قال ربه، فأجابه فقال «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً» عظيمة واضحة على صدقي كما طلبتم «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ» من نباته كسائر أنعامه لتدرّ لكم اللين فتشربونه مجانا دون أن أكافئكم مؤنتها «وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» بأن تضربوها أو تعقروها، لأنكم إذا فعلتم بها شيئا «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ 64» في الدنيا لأنها من آيات الله وهو يغتار لآياته إن أهينت، فخالفوا أمره رغم تحذيرهم مغبة مخالفته وتهديدهم بعقاب الله إن هم مسوها بسوء، فأقدموا عليها «فَعَقَرُوها فَقالَ» لهم نبيهم أما وقد فعلتم ذلك «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» وفي آخرها يحل بكم عذاب الله إذ أخبرني بأنكم لا تعيشون في الدنيا غيرها لمخالفتكم أمري والدار تطلق على البلد وعلى الساحة جمع دارة وسوح قال أمية بن الصلت: له داع بمكة مشتعل ... وآخر فوق دارته ينادي وتطلق على الدنيا أيضا، والمشتعل الرجل الطويل الخفيف اللطيف، فقالوا له أمهلنا أكثر من ذلك على طريق الاستهزاء فقال لهم «ذلِكَ» الوعيد الذي أخبرتكم به «وَعْدٌ» صادق لا يبدل ولا يغير، لأنه صادر من الإله العظيم، فافعلوا ما شئتم فإنه «غَيْرُ مَكْذُوبٍ 65» فيه أبدا وستجدون عاقبة سخريتكم

هذه، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» بإهلاكهم وانقضى أجلهم المقدر عليه أزلا أنزلناه بهم و «نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» منه «بِرَحْمَةٍ» وفضل ولطف «مِنَّا وَ» نجيناهم (مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ» أي ذلّه وهوانه إذ لا أخزى ممن كان هلاكه بغضب الله وانتقامه وقرىء (يَوْمِئِذٍ) بفتح الميم لأنه أضيف إلى غير متمكن، وهكذا إذا أضيف إلى الفعل فيكون مبنيا على الفتح أيضا، وقد وقع عليهم العذاب بشدة «إِنَّ رَبَّكَ» يا أكرم الرسل الذي يخبرك بحوادث من قبلك «هُوَ الْقَوِيُّ» على هذا الإهلاك الفظيع لأعدائه، وإنجاء أوليائه وأحبابه، الذين يحتفظون بدينه وينصرون عباده ويحفظون فقراءه، وهو «الْعَزِيزُ 66» الغالب الذي لا يضاهيه أحد ولا يفلت من عذابه أحد «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» من قبل ملائكة الله والظاهر انه إسرافيل لأنه الموكل بصيحة القيامة وهي صيحة عظيمة دونها كل صوت صاعقة وكل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم من هولها فهلكوا جميعا وسبب إهلاكهم بالصيحة، لأنهم لم يرقّوا لصياح نبيهم وصياح فصيل الناقة، ولم يرحموا ثعاءه، ولم تلن قلوبهم لصياح أمه حين عقروها، والجزاء من جنس العمل «فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ 67» على ركبهم قعودا خامدين صرعى هالكين لا حراك بهم «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» ولم يتوطنوا في الدنيا ولم يقيموا بها ولم يسكنوها أبدا، يقال غنى بالمكان إذا أتاه وأقام به ثم نبه تعالى على سبب إهلاكهم بقوله عز قوله «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ» بعد إنعامه عليهم وإجابة طلبهم ألا بعدا لثمود 68 تقدم مثله آنفا وذكرنا القصة مفصلة في الآية 79 من الأعراف في ج 1، قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى» بأن يأتيه ولد وحفيد والرسل هم الملائكة فلما دخلوا عليه «قالُوا سَلاماً» كأنه قيل له ما قالت الرسل لأن في مجيئهم مظنة لسؤال السامع بهم، لأنهم غالبا يأنون بالعذاب تنفيذا لأمر الله، فأجابهم إبراهيم بما ذكر الله «قالَ سَلامٌ» عليكم إذ ظنّهم ضيوفا، وكان عادته إقراء الضيف بدليل قوله تعالى «فَما لَبِثَ» تأخر وأبطا إلا «أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ 69» مشوي وكان عليه السلام اعتاد أن يلف العجل كله بالعجين ويشويه بالتنور وهو من أحسن أنواع الأكل لا يعدله

مطلب إقراء الضيف ومعنى الضحك وحقيقته:

شيء من الأطعمة عند من يحسن عمله، وفي تقديم العجل كله إشارة إلى استحباب تقديم الأكل إلى الضيفان بزيادة عن كفايتهم، ومنه عليه السلام أخذت عادة تقديم الذبيحة كلها إلى الضيوف والإسراع بتقديم القري لاحتمال أنهم جياع، وذلك من آداب الضيافة لما فيها من الاعتناء بالضيف، وهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، ومن دلائل الإيمان. مطلب إقراء الضيف ومعنى الضحك وحقيقته: روى البخاري ومسلم عن ابن شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ورويا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. وفي خبر آخر قال صلى الله عليه وسلم: من ذبح لضيفه كانت فداءه من النار. ومن السنة تلقي الضيف بطلاقة وجه، لأن البشاشة خير من القري، وأن يبالغ في خدمته بنسبته، لأن زيادة التواضع تخاسس، والعرب لا شك لا تألو جهدا في هذا الشأن، حتى أن أحدهم ليستدين ويكرم ضيفه، إلا أن التكليف للضيف بغير المستطاع مكروه، قال صلّى الله عليه وسلم: أنا وأنقياء أمتي براء من التكلف، وقد جاء عن أنس وغيره من الأصحاب أنهم كانوا يقدمون الكسرة اليابة وحشف التمر ويقولون ما ندري أيها أعظم وزرا الذي يحتقر ما قدم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه، وأن يخدمهم بنفسه، كما فعل إبراهيم عليه السلام، ويظهر لهم السرور ويأكل معهم، ويطيل الحديث على الأكل، ولا ينظر إلى أكلهم، ويكرم دوابهم وخدمهم إن كان ذلك ليزدادوا سرورا، ومن السنة أن يحدث أضيافه بما يسرهم، وأن يقدم الألوان دفعة واحدة، أو يخبرهم بها ليأكل مما يشتهيه، وأن يشيعهم إلى باب الدار إن كانوا من أهل البلد، وإلى آخره إن كانوا غرباء عنه، ولهذا البحث صلة في الآية 44 من سورة الذاريات، والآية 5 من سورة الحجر الآتيتين، قال تعالى «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ» أي العجل المقدم إليهم،

[سورة هود (11) : الآيات 71 إلى 80]

وهذا يدل على أنه عليه السلام لا يعرفهم أنهم ملائكة وإلا لما قدم إليهم شيئا لأنه يعلم أن الملائكة لا يأكلون، وهذا كاف للرد على من قال إنه يعرفهم، ويؤيد عدم معرفته لهم قوله تعالى «نَكِرَهُمْ» خاف منهم، لأن الضيف إذا مس الطعام أمنه المضيف وإلا خاف منه وحذره، ولهذا قال تعالى «وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» في قلبه لأن الوجس رعب القلب ولهذا فإن من خال أنه يعرفهم فقد أخطأ المرمى ويؤكد خطأه قوله تعالى حكاية عنهم «قالُوا لا تَخَفْ» يا إبراهيم إذ عرفوا خوفه من هيولاء فأمنوه وبينوا له أنفسهم ليسكن روعه، فقالوا نحن رسل ربك «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى» إهلاك «قَوْمِ لُوطٍ 70» لتجاوزهم عليه «وَ» كان «امْرَأَتُهُ» سارة بنت عمه بتشديد الراء وتخفيفه كما ذكره صاحب الجمل على الجلالين «قائِمَةٌ» بالرفع على أن الواو من (وَامْرَأَتُهُ) للحال أي حاضرة في خدمتهم، لأن النساء إذ ذاك لا يحتجبن، ولا سيما العجائز، وما قيل إنها كانت وراء الستر وهو ما يسمونه الآن عرب البادية (خدرة) وهي بساط ثخين كبير يوضع فاصلا ما بين مقعد الرجال ومقر النساء في بيوت الشعر في البوادي والقرى. والحجاب من خصائص هذه الأمة، أما حرمة النظر فلا، إذ جاء في الإنجيل من نظر إلى أجنبية يشتهيها فهو يزني. قال تعالى حكاية عن سارة رضي الله عنها «فَضَحِكَتْ» سرورا بزوال الخوف الذي توقعته من عدم أكلهم، ومن فسره هنا بمعنى الحيض، فقد صرفه عن معناه الحقيقي، وإن كثيرا من العلماء أنكروا مجيء الضحك بمعنى الحيض، وما استدل به بعضهم من قوله: تضحك الضبع لقتلي هذيل ... وترى الذئب بها يستهل وقول الآخر: تضحك الضبع من دماء سليم ... إذ رأتها على الحراب تمور بأن الضحك فيها بمعنى الحيض خطأ بين، لأن الشاعر أراد أنها تكشر بأنيابها عند أكل اللحم، فمن زعم أن كثرها هذا ضحك أي حيض فقد سها ولم يفرق بين الريم والمها، ولو أراده تعالى لقال حاضت لأنه لفظ جاء ذكره مرارا في سورة البقرة والطلاق فلا يقال لم يذكره لأنه مستهجن، هذا وحقيقة الضحك انبساط

الوجه من سرور النفس ويستعمل في السرور المجرد في التعجب وسميت مقدمات الأسنان ضواحك لبدوها عند الضحك، وما قاله بعض اللّغويين ان ضحكت بمعنى حاضت، واستدل ببعض أقوال العرب فجائز، إلا أنه فيما نحن بصدده هنا لا ينطق على المعنى المراد، والله أعلم. قالوا إن إبراهيم عليه السلام قال لضيفانه لماذا لا تأكلون؟ فقالوا له لا تأكل طعاما بلا ثمن، فقال ثمنه ذكر الله أوله، وحمده آخره، فقال جبريل لميكائيل حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا. قالوا وضحكت سارة تعجبا لأنها وزوجها يخدمونهم بأنفسهما وهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام الذي هو من أحسن الأطعمة إذ ذاك، وقد يكون الآن أيضا من أحسنها عند كثير من الناس، وقيل إنها ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، والصحيح الأول، لأنها لا تعرف سبب مجيئهم أولا حتى تضحك تعجبا من ذلك، ومن قال إنها ضحكت بالبشارة من أن يكون لها ولد وحفيد على كبر سنها، فهو سابق لأوانه، لأن الملائكة لم تذكر هذه البشارة أولا. قال تعالى «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ» ولد لإبراهيم منها «وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» 71 حفيدا لها من ابنها اسحق، وفي هذه الآية بشارة أخرى بطول عمرهما حتى يريا ولدهما يكبر ويتزوج ويأتيه ولد، وإنما خصّت بالبشارة دون إبراهيم، مع أنها لهما جميعا لأن النساء أشدّ فرحا وأعظم سرورا بذلك من الرجل، ولأن إبراهيم له ولد من جاريتها هاجر، وهو إسماعيل عليه السلام جد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء من اسحق أي من إبراهيم، فما بعد، أما من تقدمه كهود وصالح وغيرهما ممن لم يقصه الله علينا، فإنهم من سيدنا نوح عليه السلام وهو ومن تقدمه كإدريس وشيث وغيرهما من آدم عليه السلام «قالَتْ يا وَيْلَتى» كلمة يستعملها الناس عند رؤية أو سماع ما يتعجب منه مثل يا عجباه نداء ندبة «وأصلها (ويلتي) فأبدل الألف من ياء المتكلم للمضاف «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ» كيف يكون هذا زاعمة أنه من المحال بالنسبة لمثلها، لأنها كانت بنت تسعين سنة على ما قالوا «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» زوجي مسنا كبيرا قالوا كان ابن مئة وعشرين سنة، والبعل هو المستعلي على غيره، ولما كان الزوج مستعليا على المرأة قائما بأمرها سمي بعلا، قال تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى

النِّساءِ) الآية 34 من سورة النساء ج 3، والشيخ لغة من بلغ سن الأربعين، واصطلاحا من بلغ رتبة أهل الفضل ولو صغيرا، وبعد أن استفهمت استفهام تعجب واستبعاد أكدته بقولها «إِنَّ هذا» الذي أخبرتموني به «لَشَيْءٌ عَجِيبٌ 72» مخالف للعادة، إذ لا يتصور أن مثلي يلد لمثله، ولا يتوهم ذلك أصلا، ولم يكن تعجبها هذا من قدرة الله تعالى، لانها تعلم أنه أقدر على أكثر من ذلك، كيف وقد نجى زوجها من النار ومن كيد النمرود وحفظها من الجبار الذي أراد أخذها من زوجها، وإنما تعجبت من حالها وحال زوجها بالنسبة للبشارة ليس إلا، «قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» الذي يخرج الحي من الميت والميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها كلا، لا تعجبي فإن الله أقدر على أن يجعل العجوز مثلك تلد من الشيخ الذي هو مثل زوجك، فقالت لا عجب من أمر الله، وإنما من أمري وأمر بعلي، فلما أعجبهم كلامها دعوا لهما بما ذكر الله، وهو «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» آل إبراهيم «إِنَّهُ حَمِيدٌ» على أفعاله كلها ومنها تعجيل النعم وتأجيل النّقم «مَجِيدٌ 73» شريف منيع لا يرام كريم جواد واسع العطاء، وإن كلمة مجيد كررت في القرآن أربع مرات فقط هنا وفي أول ق وفي الآيتين 15/ 21 من سورة البروج المارتين في ج 1، قال تعالى «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ» الخوف الذي نشأ من عدم إقدامهم على أكله «وَجاءَتْهُ الْبُشْرى» بالولد والحفيد، المتضمنة إطالة عمره بعد هرمه شرع «يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ 74» لانه لما علم أنهم ملائكة الله وعلم أن مجيئهم لإهلاك قوم لوط سبب مساوئهم الخبيثة وتعديهم على نبيهم، قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون مؤمنا أتهلكونها؟ قالوا له لا، ثم لم يزل بهم حتى قال مؤمن واحد قالوا لا، كما في بحث التكوين ص 18 من التوراة، قال لهم إن فيها لوطّا، قالوا نحن أعلم بمن فيها وإنا لننجينه بأمر الله وأهله إلا امرأته، ونظير هذا في الآية 32 من سورة العنكبوت الآتية، ثم طلب تأخير العذاب عنهم علّهم يؤمنون، فبين الله تعالى أن الذي حمل إبراهم على هذه المجادلة مع الملائكة ما هو مجبول عليه من الشفقة على عباد الله، ومشرب فيه من الصفات

مطلب قصة لوط عليه السلام وعرض بناته على أشراف قومه لتخليص ضيوفه الكرام:

التي ذكرها الله بقوله «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ» لا يحب تعجيل العقوبة على من يسيء إليه، كثير الاحتمال للأذى، صفوح عن زلة غيره، عفو على من اعتدى عليه «أَوَّاهٌ» كثير التأوه والتحسر خوفا من الله «مُنِيبٌ 75» رجاع إلى الله رقيق القلب شديد الرأفة عظيم الإخبات إلى ربه كبير الرحمة بعباد الله، فهذه الصفات الجليلة حملته على الاستغفار لأبية كما أدت به إلى طلب تأخير العذاب عن قوم لوط، لأن الكامل لا يقصر خيره على الأقارب فقط بل يعم من عرف ومن لم يعرف، ولما كان الأمر بالإهلاك لا محيص عنه مقضيا مبرما بعلم الله جفّ القلم به في اللوح المحفوظ، خاطبه ربه عز وجل لأن الملائكة لا تقدر أن ترده لعلمهم بقربه من الله واتخاذه خليلا له، قال عز قوله «يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» الأمر لا تطلب تأخير عذاب جفت به الصحف عن أمري واترك رسلنا وشأنهم في تنفيذه «إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ» الذي لا راد له «وَإِنَّهُمْ» قوم لوط البغاة الذين تجاوزوا حدود الله بشيء لم يسبقوا به، ولولا هم لم يعرف «آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ 76» بدعاء ولا جدال ولا بطريق من الطرق، فسكت إبراهيم وترك جدال الملائكة لما عرف أن الأمر مقطوع به من عند الله لا حول لأحد ولا طول بتأخيره عن وقته طرفة عين، فخرج الملائكة من عنده وتوجهوا إلى قرى لوط وكان بينهما أربعة فراسخ. مطلب قصة لوط عليه السلام وعرض بناته على أشراف قومه لتخليص ضيوفه الكرام: قال تعالى «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ» عليه السلام وحزن لأنه رآهم بصفة رجال حسان مرد، وخاف عليهم من تعدي قومه «وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» صدرا ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن، والذرع الوسع تقول العرب ليس هذا في يدي أي في وسعي، والذراع من اليد مر ذكره في الآية 39 المارة ويقولون ضاق فلان ذرعا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه، لأن الذرع يوضع موضع الطاقة، والمعنى ضاق بمكانهم صدره عليه السلام لأنهم اعتادوا القبائح وعمل الفاحشة مع كل من قدروا عليه من المارين في قريتهم وغيرها، لا يراعون

حرمة أحد ولا يذعنون لنهيه، وإنما قلق باله عليه السلام لظنه أنهم من الإنس ولعلمه أنه لا يقدر على تخليصهم من مراودة قومه الخبثاء «وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ 77» شديد، كأنه قد عصب وربط بالشر والبلاء، ولم تتكرر هذه الكلمة أيضا بالقرآن، روي أن الله تعالى قال للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم أربع شهادات باستحقاقهم الإهلاك، فقام عليه السلام واستقبلهم على ما هو عليه من الكرب، ومشى معهم إلى منزله الخاص بالضيفان، وقال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية، قالوا وما أمرهم؟ فقص عليهم حالتهم الخبيثة مع الناس وبعضهم وقال أشهد بالله أنهم لشر أهل قرية في الأرض، وكررها أربع مرات لشدة تأثره منهم، وكلما قالها مرة يقول جبريل لرفقائه اشهدوا، فدخلوا معه المنزل ولم يعلم بهم أحد من قومه، وقد عجب هو عليه السلام من أمرهم كيف دخلوا ولم يتعرضهم أحد، ولم يعلم أنهم ملائكة، والملائكة يوجدون بالمحل الذي يريدونه بمثل البرق فمن أين يتوصل إليهم الناس، فلما رأتهم امرأته التي هي من أهل القرية خرجت فأخبرت قومها بهم، فلما سمعوا قولها بادروا وتوافدوا على بيت لوط، قال تعالى «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» يسرعون المشي نحوه، والهرع مشى بين الخبب والهرولة والجمز فصاروا من كثرتهم كأنهم يدفعون دفعا «وَمِنْ قَبْلُ» مجيئهم هذا «كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» الفعلات الخبيثات وهي إتيانهم الرجال، فتلقاهم لوط و «قالَ يا قَوْمِ» اتركوا ضيفاني لا تعتدوا عليهم وإن كنتم لا تراعون خاطري وتقصدون فضيحتي ولا بد لكم مما عزمتم عليه فدونكم «هؤُلاءِ بَناتِي» اللاتي كنتم تخطبونهن مني وكنت أمتنع من زواجهن لكم لأنكم على غير ديني، وهذا الخطاب لملأ قومه عليه السلام الذين كانوا خطبوهن منه قبل هذه الحادثة، وقد فداهنّ للمحافظة على ضيفانه، وقال لهم «هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» مما أنتم قادمون عليه وقاصدون فعله فإني أفتدي أضيافي بهن وأوافق الآن على زواجهن لكم أيها الوجهاء، فادفعوا قومكم وانصروني واحموا أضيافي منهم، وكان في شريعته عليه السلام جواز زواج المسلمة من الكافر، وكان امتناعه من زواجهن لأشرافهم بقصد جلبهم للإيمان به، واستدامت هذه الشريعة لزمن محمد صلى الله عليه وسلم

إذ زوج بنته زينب لأبي العاص وهو كافر ورقية إلى عتبة وهو كافر حتى نزل الوحي بالمنع في المدينة المنورة، فحرم زواج المؤمنة بالكافر، ولا تزال الحرمة حتى الآن كما سيأتي بيانه في الآية 230 من البقرة في ج 3، وستدوم هذه الشريعة المطهرة إن شاء الله إلى يوم القيامة، وعلى هذا يظهر أن الامتناع من إعطائهن إلى أشراف قومه هو ما ذكرنا لأنه يرى عدم كفاءتهم لهن لما هم عليه من العمل القبيح، لا لأجل منع شرعي غيره، وإنما بادرهم بهذا الكلام ليكفوا عن أضيافه، وإن كان ليس من المروءة أن يعرض الرجل بنته على غيره ليتزوج بها لا سيما وهم كفار وهو نبي مكرم على الله، ولا يليق بمنصبه الشريف ذلك، ولكن للضرورة أحكام والضرورات تبيح المحظورات، وتفسير البنات بيناته نفسه عليه السلام جاء على الحقيقة وموافق لسياق التنزيل، أما من قال إن المراد ببناته نساؤهم لأن النبي كالوالد والأمة كالولد له ولهذا أضافهن لنفسه، لأن كل نبي أب لأمته، فهو قول وجيه إلا أن المراد حينئذ المجاز لا الحقيقة، ولا يصرف القول إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، وإن من رأي أن الأخذ بالمجاز هنا متعذر لعدم الصارف فسر بما فسرناه عملا بحقيقة اللفظ وظاهر القرآن، وإلا فلا، لأن المعتل معتل أبدا مهما علّلته، والضمير لا يرتاح إلى ما به علّة دون أن يقف على الصارف أو المانع، وقد مر في الآية 47 ما يتعلق بمثل هذا فراجعه، إلا أنه لما كان القوم كثيرين وبناته ثلاثا أو اثنتين وللفظ يؤيد الأول وليس يكفين كبار قومه رأي بعض المفسرين الأخذ بالمجاز أشبه من الحقيقة استنادا إلى هذا التعليل العليل، ويكون قوله لنسائهم بناتي مبالغة في التودد إليهم والتواضع هم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوه عليه طعما في أن يستحيوا منه ويرقوا له، فيتركوا ضيوفه عند سماع قوله هذا مع ظهور الأمر عنده واستقرار العلم عندهم، إذ لا مناكحة بينه وبينهم، فأقول هذا هو المناسب ويجوز القول به أنه هو الصحيح لولا قوله تعالى الآتي في الآية التالية لأنه صريح بأنهن بناته نفسه، وأنه إذا صاهرهم بهن فيكونون أصهاره وهم وجوه قومهم حماة له من تعدي الآخرين، وقد يوجد كبير واحد يحمي من ألف وأكثر إذ ليس شيء بألف مثله إلا الإنسان وهو بحاجة للنصرة لما ذكرنا أنه

غريب عنهم لا علاقة معهم إلا بمصاهرتهم، هذا ولا يقال إنه يفهم من قوله تعالى هن أطهر لكم أن إتيان الرجال طاهر لأنه جاء بأفعل التفضيل، وكلما كان كذلك يؤذن بوجود رائحة الأفضلية في المفضول أيضا كما تقول فلان أعلم من فلان فإنه يقتضي وجود علم ما بالمفضول لأن الكلام خرج مخرج المقابلة وله نظائر كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم لما قال المشركون يوم أحد (أعل هبل) ثم قالوا إن لنا العزى ولا عزى لكم، قال لأصحابه ردوا عليهم فقالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال قولوا الله أعلى وأجل، وقولوا الله مولانا ولا مولى لكم. إذ لا مماثلة بين الله تعالى والصنم فضلا عن المفاضلة، ومنها قوله تعالى (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الآية 26 من سورة الصافات الآتية، ومعلوم أن شجرة الزّقوم لا خير فيها البتة حتى يظن التفاضل بينها وبين المشار إليه وهو الفوز العظيم بنعيم الجنة، فأفعل فيها مجاز وهو عبارة عن كلام جار مجرى ما في الخبرين والآية، لأنه من المعلوم أن إتيان الرجال محرم نجس فمن أين تناله الطهارة ليتصور ما يزعم من مفهوم الآية، فتنبه أرشدك الله لعلو مكارم الأخلاق وارتفاع محاسن الآداب. قال تعالى «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس وآثروا الطاهر النقي على النجس الخبيث «وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي» تسوؤني فيه وتفضحوني بما تريدونه منهم فتهينوني وتذلوني أمامهم وجاء في الآية 71 من سورة الحجر الآتية (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي ما آمركم به وأنهاكم عنه أو إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فاقضوها فيما أحل لكم واتركوا الحرام الذي في عاقبته خذلانكم «أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ 78» سديد العقل صحيح الرأي يفعل الجميل ويكف عن القبيح، وهذا الاستفهام للتعجب أي إنكم على كثرتكم وادعائكم العقل السليم ما فيكم واحد يسمع قولي ويزجر قومه عن ذلك «قالُوا» معرضين عن قبول النصح غير مبالين بكرامة نبيهم «لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ» في نكاحهن لأنك تزعم أننا لسنا بأكفاء لهن لإيمانهن بك وكفرنا ولما نحن عليه من الفعل الذي تكرهه، هذا على القول الأول الذي جرينا عليه وهو المقبول وعليه المعول، وعلى القول الثاني فإن صاحبه يفسر الحق في هذه الآية الصريحة بأنهن بناته نفسه بالشهوة، أي مالنا شهوة في وقاع

[سورة هود (11) : الآيات 81 إلى 90]

النساء، أي نسائنا الذين تزعم أنهن بناتك وما لنا حاجة بهن، وهو لعمري بعيد والأخذ به غير سديد، لأن هذه الآية كانت فصل الخطاب لا تقبل التأويل ويبطل معها كل دليل «وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ 79» وهو إتيان الذكور دون النساء فلما رأى إصرارهم ورأى نفسه ضعيفا تجاههم «قالَ» عليه السلام متأثرا متحسرا آسفا «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» على مقاومتكم لدفعتكم بنفسي عن أضيافي وأهلكتكم دون أن أمكنكم منهم «أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ 80» من قبيلة أو عشيرة يمنعوني منكم إذا أوقعت فيكم مكروها لفعلت وفعلت ومنعتكم من الوصول إلى داري. تمنى هذا عليه السلام لا نشغال فكره بأضيافه وقومه، وإلا فهو يأوي إلى ركن أشد من كل ركن، روى البخلوي ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته. وقال أبو هريرة ما بعث الله نبيّا بعده إلا في منعة من عشيرته. ومعنى الركن في الحديث هو الله تعالى، فلا ركن يضاهي عظمة ركنه، ولا بأس يعادل شدة بأسه، ولا قوة تقابل كبير قوته، ومن كان اعتماده على الله لم يبال بشيء، ومن اعتمد على الخلق ذل، وقيل: إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد ومعناه في الأصل الناصية من البيت أو الجبل، ومن قال إن أو هنا بمعنى بل أي قال سيدنا لوط بل آوي إلى ركن شديد، ينافيه الحال، واستغراب سيد الرجال قوله وعده منه بادرة، فقال الحديث السالف الذكر، ولو كان يعلم أن ذلك قصد لوط لما ذكر هذا الحديث، وإن مما يدحض هذا القول الآية التالية ومجيء أو بمعنى بل في بعض المواقع لا يفيد أنها هنا بمعناها، ثم أغلق لوط بابه وصار يدافع قومه ويناظرهم ويناشدهم الله من ورائه، وهم لا يلتفتون إليه، ويعالجون فتح الباب ليدخلوا عليه ويتسلطوا على أضيافه، وهو عليه السلام أقوى منهم على الانفراد، ولكن الكثرة تغلب الشجعان، فلما رأت الملائكة ما يقاسيه لوط من الكرب بسببهم وهم ينتظرون الساعة المقدرة لإهلاكهم «قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» أرسلنا لإهلاكهم، فتنح عن الباب واتركنا وإياهم، وإنك

تلجأ إلى ركن شديد، فإنهم «لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ» لأن الله حافظك منهم، ولن يستطيعوا علينا، فإن الله سلطنا عليهم، فبعد صراحة هذه الآية يطرح قول كل من يقول إن أو بمعنى بل، ويكذبه، إذ لو كانت أو بمعنى بل فلا حاجة للإتيان بها، ولا محل لقول الملائكة إنا رسل ربك، أي ناصروك عليهم، قالوا فترك الباب لما عرفهم أنهم ملائكة، فدخلوا يتسابقون إلى الملائكة، ولما أرادوا مد أيديهم إليهم تحوّلوا إلى صورتهم الحقيقة، واستأذن جبريل ربّه رب العزة في عقوبتهم، إذ جاء أجلها، لأنهم لا يقدرون أن ينفذوا شيئا أرسلوا إلى تنفيذه إلا بعد الاستئذان، لأنه قد يعفو عن العقوبة وهو الذي لا يسأل عما يفعل، فأذن لهم، فضربهم ضربة واحدة بجناحه، فطمس أعينهم، فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا ويقولون النجاة النجاة، فإن في بيت لوط سحرة! وجاء في رواية أخرى أنهم كسروا الباب ودخلوا فلطمهم جبريل فطمس أعينهم، فقالوا وهم هاربون يا لوط جئتنا بسحرة، وتوعدوه، فأوجس في نفسه خيفة منهم إذ قال سيذهب هؤلاء ويذرونني لا ناصر لي، لأني غريب عنهم، فعندها قال جبريل لا تخف والتفت هو وجماعته إلى لوط وقالوا «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ» قرىء أسر بالقطع والوصل من الإسراء وهما بمعنى واحد، وقيل إن أسرى سار أول الليل وسرى آخره، ولا يقال في النهار إلا سار كما بيناه أول سورة الإسراء المارة في ج 1، «بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» آخره أو شدة ظلمته، قال مالك بن كنانة: وقائمة تقوم بقطع ليل ... على رحل أهانته شعوب يؤيد هذا التفسير قوله تعالى (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) الآية 34 من من سورة القمر المارة في ج 1، والسحر آخر الليل وأشده ظلمة، وأصل القطع القطعة من الشيء، لذلك قال ابن عباس طائفة من الليل، وقال قتادة بعد صدر منه «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ» وراءه وضمير منكم يعود على أهله، وقوله لا يلتفت من تسمية النوع وهو من بديع النكات، إذ أن المتأخرين من أهل البديع زعموا أنهم اخترعوا نوعا من البديع لم يكن قبل وسمّوه تسمية النوع، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام:

واستخدموا العين مني فهي جارية ... وكم سمعت بها في يوم بينهم ويتبجحوا في ذلك ولم يعلموا وجوده في كتاب الله الذي لم يغفل شيئا في مثل هذه الآية، وإن علومهم وعلوم من تقدمهم مستقاة من هذا القرآن العظيم الذي يقول الله تعالى فيه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من الأنعام الآتية فلم يترك شيئا من أفعال وأعمال الأولين والآخرين، قال الأبوصيري رحمه الله: لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن ارم فلا تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالسأم ثم استثنى من أهله عليه السلام فقال «إِلَّا امْرَأَتَكَ» بالنصب على الاستثناء المتصل من أهلك، وبالرفع على البدلية من أحد، أي اتركها لا تأخذها معك «إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» من العذاب فهي هالكة معهم لرضائها بفعلهم، فلم تمنعهم ولم تزجرهم وكانت تخبرهم بمن يأتي عنده، حتى إنها أخبرتهم بحضور الملائكة ظنا منها أنهم بشر، ولم يروهم حين مجيئهم، وذلك لأنهم لا يمشون مشي البشر، إذ يصلون إلى المحل الذي يريدونه بلحظة، فلا يحس إلا وهم أمام من يقصدونه، قال لوط متى ينزل فيهم العذاب قالوا له «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ» قال لهم أريد أسرع من ذلك قالوا له إن الوقت المقدر لإهلاكهم هو الصبح «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ 81» ولم يكن بيننا وبينه إلا هذا الليل المضل، وقرئ الصبح بضم الباء، وعي لغة جائزة لأنها ليست بحركة إعراب، أما حركة الإعراب كحركة الميم في أنلزمكموها وأضرابها فلا يجوز فيها الإسكان بداعي الخفة إلا ضرورة كقوله: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إنما من الله ولا واغل بإسكان الباء من أشرب للخفة ضرورة، وقول الآخر: وناع يخبرنا بمهلك سيد ... تقطع من وجد عليه الأنامل بإسكان باء يخبرنا، أما الإسكان لتوالي الحركات فقد أجازه بعضهم بلا ضرورة مثل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الآية 58 من سورة النساء ج 3، وأمثال كثير، وكان سيبويه يخفف الحركة ويختلها، قالوا وهو الحق، ولما دخل الليل تهيأ لوط وهيأ أهله، ثم أخذهم وترك زوجته، وأوصاهم بعدم

الالتفات وراءهم، امتثالا للأمر قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» حان وقته بعذابهم «جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» إذ أدخل جبريل عليه السلام جناحه تحت قراهم الخمس، ورفعها حتى بلغ بها عنان السماء، وهم نائمون لم ينتبه أحد منهم ولم يكفأ لهم إناء وقلبها بهم، فسمعت امرأته وهي لا حقة بلوط وأهله راكضة خلفهم (هوة العذاب) الهوة صوت انهدام الجدار هنا صوت انقلاب القرى، فالتفتت ورافعا فهلكت، وهذه الحكمة من منعهم من الالتفات إلى الوراء، إذ قدر الله إهلاك من يلتفت منهم وراءه، قال تعالى «وَأَمْطَرْنا عَلَيْها» أي القرى المقوبة «حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» حتى لا يبقى منهم أحد ممن كان سارجا عن القرى وآتيا إليها، فمن شذ عنها فلم يهلك بالخسف هلك بالحجارة مثل امرأة لوط المار ذكرها، ومعنى سجيل الطين لقوله تعالى في الآية 33 من الذاريات (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) والقرآن يفسر بعضه وفي الفارسية أصلها سنك، راجع الآية 82 من الشعراء المارة في ج 1، وهذه كالسندس والإستبرق وغيرها. فإنها كلمات عربية استعملها الغير، لأن العرب نطقت بها قبل القرآن «مَنْضُودٍ 82» متتابع نعت لسجيل مأخوذ من النضد وهو وضع الشيء بعضه على بعض فعلا، أو كون بعضه فوق بعض خلقة، مثله في قوله تعالى (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الآية 29 في الواقعة المارة في ج 1 «مُسَوَّمَةً» نعت ثان أي معلمة بعلامة العذاب لا تشبه حجارة الدنيا، قالوا كان مكتوبا على كل واحدة منها اسم من تهلكه، ولا عجب لأنها «عِنْدَ رَبِّكَ» القادر على كل شيء وهي من جملة ما في خزائنه التي لا يطلع على ما فيها ولا يملكها غيره، أو أنها ساقطة من لدنه من مكان لا يعلمه غيره، وضمير الخطاب هذا يعود إلى سيد المخاطبين على طريق الالتفات وتقدمت القصة مفصلة في الآية 84 من الأعراف المارة في ج 1، ولهذا قال تعالى «وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ 83» أي من قومك يا محمد المتغالين في الظلم، بل هي قريبة منهم إذا أصروا على ظلمهم ولا شك أنا نوقع بهم ما أوقعناه بغيرهم من العذاب، وفي الآية تهديد لكل ظالم لأن الذي أهلك الله به شذاذ قوم لوط من الحجارة لا يبعد أن يرمي العرب أهل الظلم كافة، قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» تقدم نسبه بالأعراف

«قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» في سعة من الرزق موسرين غير محتاجين لأكل أموال الناس باطلا بالخلسة «وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ 84» بكم وباله لا يترك منكم أحدا، ويبدل الله خصبكم قحطا، وسعتكم ضيقا، ورخصكم غلاء، فيسلب نعمكم كلها ويحل بكم نقمه إن لم تتوبوا من عملكم هذا، وذكرنا في الآية 85 من الأعراف أن مدين أحد أولاد إبراهيم عليه السلام، وأنه بنى المدينة هذه فسمّاها باسمه، والمراد أهلها، ثم أكد عليهم بما يزيد في زجرهم بقوله «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» العدل، بتقويم لسان الميزان ومكانه وتسوية المكيال من كل أطرافه، وفائدة التصريح بالأمر بالإيفاء مع أن النهي الوارد في الآية السابقة يستلزمه، لأن النهي عن الشيء عين الأمر بضده أو مستلزم له تضمنا أو التزاما، لأن الخلاف بمقتضى اللفظ، لا أن التحريم والوجوب ينفك عن مقابلة الضدّ. النعي بما كانوا عليه من القبح وهو النقص مبالغته بالكسف، ثم الأمر بالضد مبالغته في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكفر عكسا، وتقييده بالقسط يفيد أن الفضل الزائد يكون محرمّا أيضا كالنقص، لأن النقص سرفة من المشتري والزيادة سرفة من البائع، وهذا ما هو واقع ببعض بلادنا، ولا مانع ولا وازع، لأن من الكيالين والملتزمين للباحات التي يباع بها الحبوب وغيرها يفعلون ذلك على علم ومرأى من الحكومة، فنسأل الله أن يبصّر المؤمنين بعيوبهم ويرشدهم للسداد والصواب في كل أمورهم «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» أي لا تنقصوا أموالهم، وفيه معنى التكرار لما سبق أيضا تحذيرا من عاقبة الأمر ومبالغة بالتأكيد، لأن التكرار مرتين يفيد شدّة الاهتمام والعناية بالمنهي عنه أو المأمور به، فكيف إذا كان ثلاثا «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 85» وهذا تذييل وتتميم لما تقدم من الأمر والنهي. واعلم أن العثي يعم تنقيص الحقوق كلها، لأن معناه مطلق الفساد، وإنما أكّده بلفظ من معناه إعلاما بأن فعلهم هذا قبيح بذاته، مشين لهم، فيه مفسدة لمصالح دينهم وأمر آخرتهم، ولهذا يقول «بَقِيَّتُ اللَّهِ» التي أبقاها لكم من الحلال في

الدنيا وانتظار الثواب على ترككم الحرام بالآخرة «خَيْرٌ لَكُمْ» مما تسرقونه بالتطفيف إذا بعتم والزيادة إذا اشتريتم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 86» بالله المنتقم منكم بالدنيا وإن أمهلكم فإنه سينتقم منكم بالآخرة، وإني أتقدم لكم بالنصيحة ابتغاء بقاء نعمكم وخوفا من سلبها إذا أصررتم على ما أنتم عليه (وكلمة بقية) لم تكرر في القرآن «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 87» لأموالكم وأنفسكم ولا أقدر أن أنمّيها لكم مع ما أنتم عليه من نقص الكيل والوزن، لأن الله نهانا عن ذلك، ولست بحفيظ أيضا على أعمالكم كي أجازيكم عليها، لأن ذلك كله بيد الله وحده وإنما أنا ناصح ومنذر لكم بأن تحفظوا نعمكم بأداء شكرها وإعطاء حقها «قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ» بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك. هذا وإن قصدهم بهذا الاستفهام الإنكاري التهكم والتعريض بركاكة رأيه وحاشاه من ذلك، كيف وهو خطيب الأنبياء، وإنما خصوا الصلاة دون بقية أحكام الإيمان لأنه عليه السلام كان أكثر صلاة ممن تقدم من الأنبياء، وكان قومه ينتقدونه بذلك ويقولون له ما تفيدك هذه الصلاة؟ فيقول هم إنها تنهى عن القبائح كلها وتأمر بمحاسن الأخلاق، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا. لأن الله تعالى يقول (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) الآية 25 من العنكبوت الآتية، أي أن صلاتك هذه تأمرك «أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» من الأوثان «أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» من النقص والزيادة «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ 88» في زعمك وزعم أصحابك فلماذا ابتدعت هذا علينا فلو كنت كذلك لما كان يجوز لك أن تشق عصا قومك، ولا يجدر بك أن تخالفهم وتسفه عاداتهم. هذا إذا كان وصفهم له بتلك الصفتين على الحقيقة، وإذا كانوا يريدون الاستهزاء فيكون المراد ضدهما أي السفيه الضال الغاوي، لأن العرب تصف الشيء بضده فتقول للديغ سليم، وللأعمى بصير، وللفلاة المهلكة مفازة، وهكذا «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» تقدم مثلها «وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً» حلالا بفضله ورحمته من غير نجس وتطفيف، وكان عليه السلام كثير النعم كثير الخير، وفي هذه الجملة

معنى الاستفهام، أي إذا كنت كذلك فهل يمكن أن أخالف أمره وأوافق هواكم وأكتم عليكم ما أمرني به ربي أن أبلغه إليكم كلا لا أقصد ذلك «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» فاسبقكم لفعله وأستبد به دونكم مع اعترافكم بكمال عقلي وحسن سجيّتي وإني أختار لكم ما أختاره لنفسي وأنهاكم عما أنزه نفسي عن اقترافه ولا أفعل شيئا قط وأنا أنهى عنه إذ لا يليق بالرجل ذلك، وعليه قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «إِنْ أُرِيدُ» لا أريد قط فيما آمركم به وأنهاكم عنه شيئا «إِلَّا الْإِصْلاحَ» لكم بنصحي وموعظني فيما بيني وبينكم وبين ربي وربكم «مَا اسْتَطَعْتُ» من جهدي وما دمت متمكنّا من الإصلاح فإني لا آلو فيه جهدا، وسأبدل قصارى وسعي برشدكم وهدايتكم من غير إبصار ولا إكراه. هذا واعلم أن شأن هذه الأجوبة الثلاثة المبينة على مراعاة حقوق ثلاثة مطلوبة لكل من يأمر وينهى، فالأول حق الله تعالى، والثاني حق النفس، والثالث حق الناس، تدبر قوله البالغ ذروة المعنى والبلاغة وقمة الفقه والفصاحة «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» لا أفعل شيئا أو أتركه إلا بمعونة الله وتأييده، لأنه هو الموفق لطرق الخير والطاعة واجتناب سبل الشر والعصيان، والتوفيق تسهيل الله تعالى على عبده ما يعسر عليه وتيسير ما يصعب «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» في أموري كلها «وَإِلَيْهِ أُنِيبُ 89» أرجع خاضعا خاشعا إليه فيما ينزل بي من الخير فأحمده عليه، ومن الشر فألجا إليه في دفعه، وقد طلب عليه السلام التوفيق من ربه لإصابة الحق فيما يأتي ويذر والاستعانة به على مجامع أمره، مظهرا بهذا عدم مبالاته بكفار قومه مهما قالوا أو فعلوا، ثم كر على قومه فقال «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ» لا يوقعنكم في الجزم ويكسبنكم إياه «شِقاقِي» خلافي معكم وتحملكم عداوتي لأجل خيركم «أَنْ يُصِيبَكُمْ» بسببه عذاب عاجل في هذه الدنيا جزاء كفركم وفعلكم السيء فيحل بكم «مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ» من الإهلاك غرقا «أَوْ قَوْمَ هُودٍ» من التدمير بالريح العاصف «أَوْ قَوْمَ صالِحٍ» من الموت بالصيحة «وَما قَوْمُ لُوطٍ»

[سورة هود (11) : الآيات 91 إلى 100]

الذين أهلكوا بالخسف والرجم بالحجارة «مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ 90» لقرب عهد إهلاكهم منكم وهم جيرانكم بالسكن، وقد حل بهم ما لم يحل بغيرهم، كما أن جرمهم لم يقترفه غيرهم، فاتعظوابهم «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» تقدم مثله «إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ» بعباده إذا تابوا وأنابوا «وَدُودٌ 90» بهم كثير الرأفة والمحبة لإيمانهم به ليكونوا قريبين منه «قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» لأن الله أصمهم وأعمى أبصارهم عن سماع الحق ورؤيته، وإلا فهل يوجد أنصح كلاما مما خاطبهم به وأبلغ معنى في النفس، وهو أحسن الخلق مراجعة إلى قومه، ولكن قولهم هذا والعياذ بالله من الطبع على القلب والختم على الفؤاد، ومن يضلل الله فما له من هاد، وانظر لسخافة قولهم «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» يتعذر عليك منعنا مما نحن عليه لكبر سنك وضعف بصرك، وإذا أردنا أن نوقع فيك مكروها فلا تقدر على صدنا منه ولكنّا نحترمك لأجل عشيرتك ولم يقولوا لله الذي أرسلك، قاتلهم الله، لأنهم ينظرون إلى ظاهر الدنيا، وهو عليه السلام كان قويا في عشيرته ولهذا قالوا «وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» بالحجارة حتى تموت «وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ 92» بعد أن أهنتنا وأهنت ديننا فلا نحترمك ولا نكرمك، وقتلك علينا هين، وما قيل إن المراد بعزيز كونه أعمى لا يصح في المعنى، ونحن ذكرنا في قصته في الآية 85 من سورة الأعراف المارة في ج 1 أن القول بعماه لا صحة له، لأن الله لم يبعث نبيا أعمى ولا من به زمانة، ولهذا البحث صلة في الآية 84 من سورة يوسف الآتية «قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي» جماعتي وعشيرتي «أَعَزُّ عَلَيْكُمْ» أهيب وأمنع «مِنَ اللَّهِ» فتكرموني لعزّتهم ولا تكرموني لأجل الله الذي خلقكم ورزقكم «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» كالشيء الملقى إلى الوراء مثل قدح الراكب، لا تلتفتوا إليه إلا عند الحاجة «إِنَّ رَبِّي» الذي نبذتموه خلفكم ونسيتموه «بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 93» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم الظاهرة والباطنة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم، لأنهم راعوا جانب الرهط ولم يراعوا جناب الله، ولم يعلموا أنه سيعاقبهم على ذلك، ثم أكّد التهديد بوعيد أشدّ منه فقال «وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ»

وقدرتكم مما تنوونه لي من الشر من كل ما تتمكنون عليه «إِنِّي عامِلٌ» ما أتمكن عليه بقدر ما يؤيدني به الله من النصر ويمكنني من القدرة، فابذلوا أنتم غاية جهدكم في شقاقي وأقصى طاقتكم في عدواني وإني لا أزال أثابر على عمل الخير لكم وترغيبكم لطاعته لعلكم تتنبهون فترجعون إليه، وإن أصررتم فمصيركم إليه يوم القيامة وهناك «سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» أنا أم أنتم «وَارْتَقِبُوا» نزول العذاب بكم فقد قرب أوانه «إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ 94» لنزوله منتظر عاقبة أمركم وما يحل بكم من الذلة والإهانة مترقب نتيجة وعيدي لكم ونصرتي عليكم، قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» المحتوم المقدر لنزول العذاب فيهم وانتهى أمد إمهالهم للإيمان «نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» وفضل، لأن عادتنا إنجاء المؤمنين ونصرتهم «وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» من أحد ملائكة الله العظام جبريل أو غيره كإسرافيل وميكائيل لأن هؤلاء هم الموكلون بتنفيذ مهام الأمور وعظائمها بأمر الله تعالى «فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ 95» على ركبهم من هول سماعها، فماتوا جميعا حالة كونهم لا طين في الأرض ملازمين لها في أمكنتهم التي كانوا عليها حين الصيحة، لأنها أماتتهم حالّا بحيث لم يتحرك أحد من مكانه لهول الصيحة «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» في قرية مدين ولم يسكنوها ولم يعمروها وصاروا نسيا منسيا. فتنبهوا أيها الكفرة وسارعوا بالتوبة إلى ربكم قبل أن يحل بكم ما حلّ بهم «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ» قوم شعيب وسحقا لهم «كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ 96» قوم صالح لأنهم أهلكوا بالصيحة أيضا مثلهم ولم تعذب أمتان بعذاب واحد غيرهما إلا أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب من فوقهم، وما قيل إن الصيحة نوع من العذاب، لأن العرب تقول صاح بهم الزمان إذا هلكوا، مستدلين بقول امرئ القيس: فدع نهبا صيح في حجرته ... ولكن حديث ما حديث الرواحل ليس بسديد لما فيه من صرف الكلام عن ظاهره دون مبرر ولمنافاته لما جاء في سورة الأعراف بلفظ الرجفة الحاصلة لهم من خوف الصيحة راجع الآية 91 منها

ج 1، وبعدت قرئت بضم العين كما في الآية، وقرئت بالكسر، وعليه قوله: يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ومعناها على كلا القراءتين الهلاك، والقصة مفصلة في الآية 93 من الأعراف المارة في ج، قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ 97» سميت الحجج والبراهين سلطانا لأن صاحبها يقهر من لا شىء له منها، كالسلطان بالنسبة لرعيته «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» لإرشادهم وهدايتهم باتباعه، ولكنهم لم يلتفتوا إليه «فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ» الطاغية وكيف يتبعونه وينقادون لأمره «وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ 98» لأنه ضال وكافر وأمره ضلال وكفر غير محمود العاقبة لأنه لا يدعو إلى هدى وسترونه «يَقْدُمُ قَوْمَهُ» إلى النار «يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهم وراءه «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ» أدخلهم فيها لأنه كما كان أمامهم في الضلال في الدنيا حتى أغرقهم في البحر يكون أمامهم في الآخرة حتى يدخلهم جهنم «وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ 99» النار لأن القصد من الورد تسكين ألم العطش والنار ضده فاستعمل في ورود النار على سبيل الفظاعة، لأنه شبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردين إلى الماء وأتباعه بالواردين والماء بالنار والعياذ بالله، «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً» طردا وبعدا من الرحمة «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» لعنة أخرى أفظع من لعنة الدنيا وسيقال لهم «بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ 100» العون المعان بترادف اللغتين لأن كل شيء جعلته عونا لآخر وأسندت به شيئا فقد ردفته، ولهذا اخترنا تأويل الرفد بالعون على تفسيره بالبطاء الذي هو من معناه أيضا لملاءمة المقام، إذ لكل مقام مقال «ذلِكَ» الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل من أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام مع أقوامهم، وكيفية إهلاكهم لما أصروا على كفرهم ولم يطيعوهم كله «مِنْ أَنْباءِ الْقُرى» السابقة «نَقُصُّهُ عَلَيْكَ» لتخبر به قومك فينتبهوا من غفلتهم ويتعظوا بما حل بهم علهم يرجعوا عن غبهم، ولتسلي نفسك وتتأسى بما تأسى به إخوانك الأنبياء قبلك، لئلا يضيق صدرك مما يجابهونك به، ولتعلمهم أنهم إذا لم يؤمنوا ويرجعوا إلى الله فيصيبهم ما أصابهم من

[سورة هود (11) : الآيات 101 إلى 110]

العذاب، وما عليك إلا أن تحذرهم سوء العاقبة وتذكر لهم أحوال أسلافهم وآثارهم «مِنْها» أي القرى المهلك أهلها أثرها «قائِمٌ» لم يزل إذ أن قسما من بنائها باق وجدران أكثرها قائمة واقفة على حالها «وَحَصِيدٌ 101» ومنها خراب مندثر محي أثرها بالكلية لطول الزمن على تركها بلا سكن، كالأرض المحصود زرعها التي كأنها لم تزرع قبل، وأطلقت العرب لفظ الحصيد على الفناء كما قيل: والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بما أوقعنا فيهم من العذاب المهلك «وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بإصرارهم على الكفر ورفض نصح الرسل حتى ماتوا مشركين بالله كفّارا منكري الآخرة «فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ» أوثانهم «الَّتِي يَدْعُونَ» يعبدونها ويستغيثون بها عند المحن ويرجون نصرتها «مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» ولم ترد بأسه عنهم في الدنيا «لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ» بإهلاكهم «وَما زادُوهُمْ» في الآخرة عند استشفاعهم بهم «غَيْرَ تَتْبِيبٍ 102» تدمير وتخسير وتب بمعنى خسر وتبّه غيره أوقعه في الخسران، أي أن عبادتهم للأصنام فضلا عن أنهم لم تفدهم شيئا فقد أهلكتهم فوق إهلاكهم حتى دمّروا تدميرا، قال بشر ابن أبي حاتم: هم جدعوا الألوف فأذهبوه ... وهم تركوا بني سعد تبابا «وَكَذلِكَ» مثل ذلك الأحد العظيم: «أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ» حالة كون أهلها كافرين عتاة «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ 103» كما علمت من كيبة أخذ الأمم لكذبة لرسلها، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: ثم قرأ هذه لآية. وحكم هذه الآية عام في كل ظالم إلى يوم القيامة، ألا فليحذر الظالمون هذه العاقبة السيئة ويتداركوا أنفسهم بالتوبة وإرجاع المظالم إلى أهلها، كي لا يعرضوا أنفسهم لغضب الله فيدخلوا في هذا الوعيد الشديد المؤلم «إِنَّ فِي ذلِكَ» الأخذ والإهلاك «لَآيَةً» عظيمة وعبرة كبيرة «لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ» لأنه إذا علم ما وقع في الدنيا على المجرمين اتعظ وعمل لما يقي نفسه من مثله،

ومن العذاب الأخروي المعد لهم الذي لا يقاس بعذاب الدنيا، لأنه بالنسبة لعذاب الآخرة قليل من كثير «ذلِكَ» اليوم الذي يكون فيه عذاب الآخرة «يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ» لأجل الحساب أولهم وآخرهم برهم وفاجرهم «وَذلِكَ» اليوم العظيم «يَوْمٌ مَشْهُودٌ 104 فيه أنواع العذاب مما لا تطيقه الصنم الرّواسي ومن أنواع النعيم ما تبتهج به النفوس وكل منهما مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والمعنى كثر شاهدو ذلك اليوم فحذف الجار وصار المجرور مفصولا على التوسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به لأن الضمير لا يجوز نصبة على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه فيكون من باب الحذف ولإبصال وهو كثير في كلام العرب ويكون في الاسم كمشترك وفي الفعل كقوله: ويوم شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى طعن الدراك نوافله وفي رواية النهال بدل الدراك أي مشترك فيه وشهدنا فيه، والمعنى أن الخلائق كلهم يشاهدون ذلك الموقف المهول ليس أهل الأرضين فقط بل أهل السموات جميعهم أيضا «وَما نُؤَخِّرُهُ» أي ذلك اليوم الذي يجمع فيه الخلق كلهم «إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ 105 سنبينه وشهوره وأيامه ولحظاته كما هو في علمنا لا يطلع عليه أحد «يَوْمَ يَأْتِ» أجل ذلك اليوم بانتهاء الأمد المضروب له عند الله الذي لا يتخطاه. مطلب في ضمير يأت والجمع بين الآيات المتعارضة ومعنى الاستثناء في أهل الجنة والنار: وقد أعدنا ضمير يأت إلى الأجل خلافا لبعض المفسرين، وقد منع بعضهم عوده إلى اليوم محتجا بأن تعرف اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به، لأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان، وأعاده للجزاء الذي يقع فيه وبعضهم أعاده لله تعالى. وليعلم أن منع عوده لليوم ممنوع لأن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد وعاشوراء والنيروز والساعة مثال يجري مجرى الزمان وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا فالأولى زمان وضميره أعني فاعل الفعل

زماني وعود الضمير للجزاء لا وجه له لعدم ذكره سابقا وعود الضمير على ما لم يكن موجودا إذا لم يكن معلوما أو لم يسبق له ذكر لا يجوز، وعوده لله تعالى غير سديد لأنه جل شأنه هو المتكلم والضمير لا يعود لنفس المتكلم في مثله وكذلك الحال على قراءة يؤخره بالياء لا يتجه عود الضمير إليه تعالى بل ضمير يؤخره يعود إليه تعالى، وحذف ياء يأت وصلا ووقفا جائز للتخفيف كما في لا أدر ولا أبال وأثبتها النحويان ونافع بالوصل وابن كثير بالوصل والوقف وباقي السبعة بالحذف في الحالتين لأن الإجذاء بالكسرة عن الياء كثير لا سيما في لغة بل «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ» مطلقا أو بما يتعلق بالشفاعة بدليل قوله عز قوله «إِلَّا بِإِذْنِهِ» أدبا واحتراما من جهة ولشدة الخوف وطول زمنه من جهة أخرى، وهذه الآية وإن كانت ظاهرا تتعارض مع قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) الآية 111 من سورة النحل، وقوله تعالى (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الآية 24 من سورة الأنعام الآتيتين وغيرهما من الآيات الدالة على وجود التكلم والخصام يوم الموقف، إلا أنه لا معارضة في الحقيقة لأن يوم القيامة يوم طويل تختلف فيه أحوال أهله فتارة يسكتون ومرة يجادلون وطورا يتعاتبون وأخرى يجحدون ويحجمون عن الكلام لما تأخذهم الدهشة من هيبة الموقف فكأنهم ألجموا بألجمة محكمة لا يستطيعون معها التكلم وبعضا يؤذن لهم بالكلام وإبداء للعذر وقد ينسح لهم بالكلام فينكرون ما عزي إليهم كما أوضحناه في الآيتين 35 26 من سورة الأعراف وما قبلها والآية 109 من سورة طه والآية 27 من سورة فاطر المارات في ج 1، وللبحث صلة في الآية 19 فما بعدها من سورة فصلت والآية 21 من سورة إبراهيم الآتيتين، لهذا جاز التوفيق بين الآيات المتعارضات لصرف كل منها لما يناسبها وهذا هو وجه الجمع بينها فلا تعارض من حيث المعنى ولا تنافي من جهة الحكم ولا تباين من حيث اللفظ هذا على أن منع التكلم مطلقا، أما إذا كان منع التكلم مما يتعلق بالشفاعة فلا معارضة لا من حيث الظاهر ولا من جهة الحقيقة، لأن الشفاعة لا تكون لأحد إلا بإذن الله ومن تكلم بإذنه كان مأمورا بالتكلم ولا يقال لمئله أنه تكلم من تلقاء نفسه «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ» بسوء عمله «وَسَعِيدٌ 106» بحسنه أي ينقسمون إلى قسمين

لا ثالث لهما وقدمنا في الآية 41 فما بعدها من سورة الأعراف فيما يتعلق بها فراجعه ثم بين ما لكل منها فقال «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا» بحكم الله الأزلي لما هم عليه من الكفر «فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» مد النفس وإخراجه من الصدر وترديده فيه حتى تنتفخ منه الضلوع «وَشَهِيقٌ 107» رد النفس وإرجاعه إلى الصدر وهما معروفان عند العرب قال الشماخ في حمار وحشي: بعيد مدى التطريب أول صوته ... زفير ويتلوه شهيق محشرج «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» في الآخرة لأنهما في الدنيا زائلتان قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 49 من سورة إبراهيم الآتية، وكل ما علاك فأظلت فهو سماء وكل ما استقرت عليه قدماك فهو أرض، وهذا كلام يؤذن بالتأبيد وبعلم بدوام الشر. جريا على عادة العرب، فإنهم يقولون لا آتيك ما دامت السموات والأرض، وما دام الملوان، وتعاقب النيران، وتخالف الجديدان، يكنون بذلك التأبيد، وهذا الخلود المحتم في النار للكافرين ينفي صرف الدوام للسموات والأرض الموجودة الآن «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» لبعض عصاة المؤمنين الذين يدخلهم النار جزاء اقترافهم عظائم الذنوب ثم يخرجهم منها إن شاء فيكون الاستثناء منقطعا، لأنه من غير جنس المستثنى منه، لأن الذين أخرجوا من النار بعد تعذيبهم فيها موقتا سعداء في الحقيقة، وقد استثناهم الله تعالى من الأشقياء، يدل على هذا ما أخرجه البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله سبحانه وتعالى يخرج قوما من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة. وفي رواية يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة. وروى البخاري عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بالشفاعة فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ 108» لا معارض له ولا راد لإرادته «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ» لهم فيها بهجة وسرور، وقرىء سقوا بالبناء للفاعل، وسعدوا للمفعول، وقرىء بالمفعول والفاعل «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» وهم قوم من العارفين المخلصين وينقلهم ربهم إلى مأوى أكبر وأجل منها وهو المقام الذي يرون به ربهم

عز وجل، فيحل رضوانه عليهم ويتجلى لهم فيه، وعليه يكون الاستثناء متصلا، لأنهم من السعداء ولو تفاوتت درجاتهم، ويكون الاستثناء منقطعا إذ أرجع إلى مدة لبث المستثنين من النار قبل دخولهم الجنة، فلا يكون خلودهم فيها كامل، بالنسبة لأمثالهم، لأنهم لم يدخلوها ابتداء «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ 109» غير مقطوع بل هو مستمر أبدا دائم سرمدا هذا ما شاءه الله لأهل الجنة أللهم اجعلنا من أهلها ولم يخبرنا بما شاءه لاهل النار، روى ابن مسعود عن أبي هريرة وعمرو بن العاص قال: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، فإذا صح هذا يحمل على إخلاء أماكن المؤمنين الذين استحقوا النار من النار بعد إخراجهم منها، أو على إخراج الكفار من النار إلى الزمهرير، إذ ثبت بالدليل الصحيح القاطع وإجماع أهل السنة والجماعة خلود المؤمنين بالجنة والكافرين بالنار وإخراج جميع الموحّدين من النار وإدخالهم الجنة. وقال بعضهم إن العصاة لا يخرجون، ويرد قولهم ما نقلناه في الأحاديث الصحيحة، ولا حجة لهم إلا الطعن بصحتها ولن يتيسر لهم فعلا. هذا، وقد أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية يريد الاستثناء الوارد فيها. وليعلم أن السعادة هي معاونة الأمور الإلهية للإنسان ومساعدته على فعل الخير والصلاح وتيسيره لها، وهذه السعادة الدنيوية تؤول إلى السعادة الأخروية التي نهايتها الجنة، والشقاوة علي خذلان العبد وانهماكه فيما حرم الله عليه وتماديه في موارد البغي والطغيان، وهذه الشقاوة الدنيوية توصله إلى الشقاوة الأخروية التي غايتها النار وفاقا لما هو في علم الله الأزلي. روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه قال: كنا في جنارة في بقيع الفرقد (مقبرة أهل المدينة) فاتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكث (يضرب الأرض) بمخصرته (وهي عصاة كالسوط رأسها يشبه القوس للزناد) ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال اعملوا فكل ميسّر لما خلق له، أما من كان من

أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) الآية 5 فما بعدها من سورة والليل المارة في ج 1، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا في سورة والعصر المارة في ج 1 فراجعه. هذا وهناك أقوال أخر في الاستثناء الآنف الذكر في حق الفريقين أعرضنا عن ذكرها لمضاربة بعضها لبعض فضلا عن كثرتها، وفائدة دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له نقضه، وهو جل شأنه ما عليه واجب وغاية ما فيه إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه تعالى وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا حق لأحد عليه ولا يجب شيء عليه (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) الجملة من الآية المارة، فإذا شاء تعذيب أهل الجنة فعل وإذا شاء تنعيم أهل النار فعل، لا منازع له، له الخلق والأمر، ولا يبعد أن يكون هذا الاستثناء على نمط الاستثناء الذي ندب إليه الشرع في كل كلام على نحو قوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) الآية 28 من سورة الفتح في ج 3 استثناء في واجب وهو في حكم الشرط كأنه قيل إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل أو منقطع، وذكرنا في الآية 19 من الفرقان والآية 72 من مريم المارتين في ج 1، دحض قول من يقول إن مرتكب الكبيرة يخلد في النار فراجعه، وقد أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) قلت يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له. وأخرج الترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال الذي بيده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال الذي بشماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي بشماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم

ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده هكذا فنبذهما وقال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير، وجاء في حديث آخر الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وحمل معناه على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك. واعلم أن في هذه الآية من أنواع البديع صفة الجمع مع التفريق والتقسيم، أما الجمع ففي قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن النفس كما تقدر عامة لكونها نكرة في سياق النفي وكل نكرة جاءت في سياق النفي تعم. وأما التفريق ففي قوله تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وأما التقسيم ففي قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ الآية (وَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ، وعليه جاء قول الشريف القيرواني: لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فنّ وهذا له فنّ فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العتبى وللخائف الأمن وأمثاله كثير، هذا وقد جاءت الأفعال في الآية بالماضي مع أنها في الواقع مستقبلة إشارة إلى تحقيق وقوعها كما ذكرنا في مثلها غير مرة، قال تعالى «فَلا تَكُ» يا سيد الرسل «فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ» الكفرة من الأصنام «ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ» من الأوثان قبلهم وهو مستندهم في عبادتها لا غير لأن غاية ما يحتجون به هو أنهم رأوا آباءهم تعبدها فعبدوها فلا تنعب نفسك فيهم أو تشك في أمرهم «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ» من العذاب تاما كاملا كما أوفيناه لأسلافهم «غَيْرَ مَنْقُوصٍ 110» إذا أصروا على ما هم عليه على أنا سنوفيهم رزقهم الدنيوي كاملا أيضا ليستوفوا تمام أجلهم فيها وفي هذه الآية إشارة إلى مزيد فضل الله على عصاته إذ لم يقطع شيئا من رزقهم مع ما هم عليه من الكفر على أن معنى النصيب يدل على أن المقصود به رزق الدنيا لأنه مما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك ويؤكد هذا قوله تعالى (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) الآية 76 من القصص المارة في ج 1، وقال بعض المفسرين: المراد بنصيبهم عذابهم في الدنيا

[سورة هود (11) : الآيات 111 إلى 120]

والآخرة، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» إذ صدق به بعض قومه وكذبه آخرون كما فعل قومك معك فلا تضجر من تكذيبهم فلك أسوة بمن قبلك «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب عن منكري حقك لأجل معلوم عندنا محدود لا يبدل ولا يغير «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» حال تكذيبهم وكذلك الأمم السابقة فقد أمهلوا لانقضاء آجالهم المعينة عندنا «وَإِنَّهُمْ» لا يزالون «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» بأنه أي القرآن بدليل سبق كتاب موسى عليه السلام بأنه من عند الله منزل عليك أو أنهم في شك «مُرِيبٍ 111» من نزول العذاب بهم وقد أوقعهم هذا الشك في الرية بنزوله وتوهموا عدم صحته «وَإِنَّ كُلًّا» من الفريقين المختلفين المصدق منهم والمكذب (والتنوين في كلا يسمى تنوين العوض لأنه عوض عن المضاف) «لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ» أي والله ليوفينهم جزاء أعمالهم فاللام فيه للقسم فيثبب المصدق الجنة والمكذب النار، ولما هنا بمعنى إلا مثلها في قوله تعالى في الآية 4 من سورة الطارق المارة في ج 1 وهي (كل نفس لما عليها حافظ) وقرىء لما بالتنوين بمعنى جميع مثلها في قوله تعالى (أكلا لمّا) الآية 19 من سورة الفجر المارة في ج 1 أيضا، وقد تكون ظرفا بمعنى حين وعليه يكون المعنى وإن كلا حين يبعثوا ليوفينهم جزاء أعمالهم دون حاجة إلى الإثبات «إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 112» لا يخفى عليه شيء من عملهم، وفي هذه الآية وعد وبشارة للمصدقين ووعيد وتهديد للمكذبين. مطلب في الاستقامة والتقوى والورع وما يتفرع عنهما: قال تعالى يا سيد الرسل «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» من الاستقامة التي أمرناك بها لا تعدل عنها قيد شعرة فهي طريق توفيقك لما وعدناك به من النصر والظفر وهذا أمر تأكيدي بطلب المثابرة والدوام على الحالة الأولى كقولك للقائم قم حتى آتيك، أي دم على ما أنت عليه «وَمَنْ تابَ مَعَكَ» وآمن بك وبما أنزل عليك، فعليهم أيضا أن يلازموا الاستقامة ويداوموا عليها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب.

وروى مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم. فالاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق، كالتقوى فإنها كلمة جامعة لكل خير، وكالورع فإنها كلمة جامعة لكل بر، فالاستقامة تشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين، بل وبين الخلق أجمع، وتشمل الأمور الخاصة به عليه السلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقالوا إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل لأحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله تعالى، ونفي الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بالشيء الموجود غير المدرك الذي يكون بين ضوء الشمس والظل، فإنه ليس بشمس ولا ظل، بل هو أمر فاصل بينهما، ولعمري إن ذلك لدقيق، راجع الآية 25 من سورة الفرقان في ج 1 ولذلك قالوا لا يطيق الاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية، ثم عصم بالتثبت بالحق. قال تعالى (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية 75 من الإسراء في ج 1، وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أرق من الشعرة واحد من السيف إشارة إلى هذا النهج المتوسط، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم شمروا شمروا، وما رئي بعدها ضاحكا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق. واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم شيبتني هود. كما أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبل. وذلك لأن مبنى هذه السورة على إرشاده تعالى شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مبدئها إلى آخرها، وإلى ما يعزى لمن تصدى لهذه المرتبة العظيمة من الشدائد، واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد، وهي أي هذه السورة الجليلة جامعة لإرشاده صلى الله عليه وسلم من مفتتح أمره إلى مختتمه، وهذه الآية كالفذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد، وخاف من عدم

مطلب الزجر عن مخالطة الظالم وأن الدين بين لامين والآية المدنية والصلوات الخمس:

القيام بأعبائها، حتى إذا لقي الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسّه نصيب من السؤال عنها، فذكر القيامة في تلك السور أي هود وإخوتها كآل حميم وغيرها، يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له فيها، وقد كررت الجملة الأولى من هذه الآية في الآية 14 من سورة الشورى الآتية، وهذا لا ينافي عصمته عليه السلام وقربه من ربه، لكونه الأعلم بالله والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة، فكأنها هي المشيبة له من بينها، ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة والله أعلم. وسنأتي على تتمة هذا البحث في الآية الآتية إن شاء الله ثم خاطب جل خطابه الخلق أجمع بقوله «وَلا تَطْغَوْا» أيها الناس فتخرجوا عن حدود الله، ولا تعلوا في الدين أيها المؤمنون فتتجاوزوا عما أمرتم به ونهيتم عنه فتغلبوا ولا تخالفوا أيها الناس أوامر الله فتعصوه في شيء ما، ولا تنحرفوا بإفراط ولا تفريط، فكلاهما ذميم، وسماء الله طغيانا تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله عليه وسلم «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 113» قال ابن عباس ما نزلت آية على رسول الله أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها الحافة والواقعة والنبأ والغاشية والمرسلات وكورت وآل حم، لكثرة ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار. واعلم أن هذه الآية الكريمة تؤذن بوجوب اتباع المنصوص عليه من الأحكام الشرعية دون انحراف، وان أعمال العقل الصرفة بما يخالف المشروع طغيان وضلال، أما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص الشرعية فهو من باب الاستقامة بمقتضى النصوص الآمرة بالاجتهاد. مطلب الزجر عن مخالطة الظالم وأن الدين بين لامين والآية المدنية والصلوات الخمس: قال تعالى «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بمخالطتهم، أي لا تميلوا أيها المؤمنون إلى الظالمين، ولا تحبوهم، ولا ترضوا بأعمالهم المؤدية إلى غضب الله ولا تطيعوهم فيما يخالف دينكم، فإنكم إن فعلتم شيئا من هذا «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» وتذيب أعضاءكم بحرها، لأن الركون إليهم رضا بأعمالهم التي قد تؤدي إلى الكفر،

ولا شك أن الرضا بالكفر كفر، والمحبة للشيء إلحاق به. قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية 35 من التوبة في ج 3، قال الحسن: جعل الله الدّين بين لامين (ولا تطغوا ولا تركنوا) . وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك، لأنهم يداهنونهم ويسكنون عن مظالمهم. وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وقال صلى الله عليه وسلم: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه. وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء، فقال لا، فقيل له إنه يموت، فقال دعه يموت. أي إن كان انقضاء أجله معلق على عدم إعطائه هذه الشربة فدعه يموت وإلا فلا يموت وله شيء في الدنيا حتى نسمة الهواء إلا يستوفيها، فقد جعله رحمه الله أدنى حالا من أدنى حيوان، إذ النصوص الشرعية تقضي على من عنده ماء واحتاج للوضوء به وعنده كلب ظمآن بأن يسقي ما عنده من الماء ذلك الكلب ويتيمم بالتراب، إذ في كل كبد حراء أجر، وذلك اجتهاد من سفيان رضي الله عنه، وهو أن بقاء الحيوان لا ضرر فيه على أحد، وأن بقاء الظالم فيه ضرر، ولهذا رجح الحيوان عليه. وروي عن الموفق أبي أحمد بن طلحة العباسي، أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه، فلما أفاق قيل له ما بالك؟ فقال هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم نفسه! لذلك ينبغي هجرهم وعدم التزيي بزيهم، وعدم زيارتهم، لما فيها من تعظيم، وهو حرام، وينبغي لمن لا يخاف من شرهم أن يهبنهم ولا يجالسهم إلا لمعذرة شرعية، ولقضاء مصلحة من لا ناصر له. هذا، واعلم أن خطاب الله تعالى حضرة رسوله بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبت عليها والتأكيد على ملازمتها لأنه من مقتضاها. والحث على الدوام والثبات عليها من واجبات المسلمين لبعضهم وعلى بعضهم، وانه يجب على كل فرد أن يتحلى بها في بيعه وشرائه، وأكله وشربه، ولبسه ومحبته، ومع أصحابه، وسائر معاملاته مع ربه وأهله والناس أجمعين، فإن الدين المعاملة أي حسنها وسلامتها من الشوائب، لأن المراد من جملتها عماد الدين حسن المعاملة، كما أن الدين النصيحة لله ولرسوله والناس أجمعين، لأن المعاملة والنصيحة جزء عظيم من أمور الدين لا معظمه، مثل الحج عرفة،

لأن الوقوف بعرفات معظم الحج، وبغيره لا يسقط الفرض، بل هذا من قبيل الناس تميم، والمال الإبل، والطعام اللحم، إلى غير ذلك، فإذا تحلّى العاقل بالصفات المارة في معنى الاستقامة دخل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) الآية 30 من فصلت الآتية، فمثل هؤلاء يموتون ميتة سعيدة هنيئة، ويخاطبون ربهم دلالا، فيقولون له يا ربنا ما حال أولادنا بعدنا؟ فيقال لهم «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» عليهم نتولاهم بذاتنا بعدكم «وَفِي الْآخِرَةِ» نتولاكم وإياهم في جنتنا» (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من جميع الملاذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) من كل ما تريدونه وتقر أعينكم به، قال تعالى «وَما لَكُمْ» إذا لم تستقيموا على الطاعة والعمل الصالح وتجتنبوا الطغيان والركون إلى الظلمة «مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» يمنعونكم من عذابه إذا حل بكم في الدنيا والآخرة «ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ 114» أبدا ولا تظفرون بمطلوبكم ولا تفوزون بنجاح مهماتكم، ولا شك أن هذا الخطاب مقصود به المؤمنون كما ذكر آنفا، وأنه تغليظ أو تغليب لحال المؤمنين عليه صلى الله عليه وسلم وإلا فهو معصوم من الطغيان ومن الركون إلى الظلمة والظلم كليته وجزئه. وهذه الآية المدنية الأخيرة من هذه السورة قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» غدوة وعشية، فدخل فيها الصبح والظهر والعصر «وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» أقرب ساعاته وزلف بمعنى قرب فيدخل فيه المغرب والعشاء «إِنَّ الْحَسَناتِ» التي أعظمها الصلوات الخمس «يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» على اختلاف أنواعها بمنه وكرمه إذا شاء وأراد «ذلِكَ» إشارة إلى قوله استقم فما بعده «ذِكْرى» عظيمة لمن يتذكر وعظة كبيرة لمن يتعظ في مغزى الأمرين والنّهيين المارين وفيها نفع جليل «لِلذَّاكِرِينَ 115» الله تعالى في جميع أحوالهم، لأن ذكر الله يمنع من مخالفته. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، وفي رواية أصاب منها كل شيء إلا الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت هذه الآية، وكانت هذه الحادثة في المدينة، فقال الرجل هو هو أبو اليسر الأنصاري يا رسول الله الي هذه الآية؟ قال لمن عمل بها من أمتي. وفي رواية قال رجل

من القوم يا نبي الله هذه له خاصة؟ قال بل للناس كافة. وهذا مما يؤيد أن الأسباب لا تقيد الآيات فإنها وإن نزلت بمعين فمعناها يبقى عاما شاملا غيره. هذا وما ذكرناه قبلا بمناسبة الآيات المدنيات بأنها كالعترضة قبلها وبين ما بعدها لا يمنع أن تشير إلى ما قبلها من الآيات كهذه، لأنها لم تأت إلا لمناسبة، وكذلك الآيات المكيات في السور المدنيات، وكذلك بين السور. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن. زاد في رواية: ما لم يغش الكبائر. وزاد في أخرى: ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. وروى البخاري عن جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات. قال الحسن وما يبقى من الدرن. وروى الترمذي عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. وقال العلماء الصلوات والأعمال الصالحة تكفر الذنوب الصغائر، استنباطا من هذه الأحاديث. أما الآية فهي عامة للصنفين، إلا أن جمهور العلماء خصّوها بالصغائر، وقالوا أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح. وسنأتي على ذكرها في سورة التحريم في ج 3 إن شاء الله تعالى القائل «وَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل على أذى قومك وما تلاقيه منهم وعلى القيام بما أمرت به من الاستقامة وأداء ما افترضته عليك، وأحسن لمن أساء إليك «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 116» لأنفسهم ولربهم بالإحسان إلى عباده والناس أجمعين، بل يجازيهم عليه جزاء حسنا وافيا. وانظر رعاك الله إلى بلاغة هذه الآيات الجليلة (وكل آياته جليلة، إلا أن بعضها أبلغ من بعض، كما أن منها الحسن والأحسن) راجع الآية 5 من سورة يوسف والآية 55 من الزمر الآتيتين، كيف أفرد بخطابه جل خطابه أوامر أفعال الخير لحضرة الرسول، وإن كانت في المعنى عامة له ولأمته، وجمع أوامر النهي لصرفها لامته تعظيما لشأنه وإجلالا لقدره، وكل منها يفيد المعنى المطلوب. قال تعالى «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ» الذين أهلكناهم «مِنْ قَبْلِكُمْ» يا أمة

محمد، وكلمة لولا للتحضيض وكذلك أخواتها لوما ولو وأما ولما وإذا وكلما، وكل منها يقيد الشرط ويحتاج للجواب، لكنها لا تجزم، وكلمات التحضيض كهذه تختص بالمضارع، وكذلك أحرف العرض كألا وأما، أما إذا كانت للتوبيخ والتذميم فتختص بالماضي كقوله تعالى (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وقوله (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) الآيتين 12/ 16 من سورة النور في ج 3، وغيرها كثير في القرآن أما كلما ولما فلا تدخلان إلا على الماضي هذا واسم كان المارة «أُولُوا بَقِيَّةٍ» من فضل وخير وتقى ورأي سديد وعقل رشيد، وأطلقت البقية على هذه الألفاظ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فيصطفيه لنفسه ويدخره، ومن هنا يقال فلان من بقية القوم أي خيارهم، وعليه فسّر بيت الحماسة: إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم ... فما على مذنب عندكم فوت ويقال في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، وقرىء بقية على وزن صورة مصدر بقي يبقى كرضي يرضى بمعنى راقب وانتظر، وعليه يكون المعنى فهلا كان لهم ذو ابقاء لنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله وعقابه «يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» ويقيمون العدل فيها لما أهلكناهم ولكن لم يكن فيهم جماعة من أولى النهى والدين ينهى عن الفساد، وفي هذه الآية تعجب من الله لرسوله وأمته بأن الأمم السالفة لم يكن فيهم من يزجر عن المعاصي ويحذر من عاقبة السوء، ومثل هؤلاء في عداد من قال الله تعالى فيهم (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الآية 78 من سورة المائدة ج 3، ولو كان لرفعوا عن قومهم العذاب وإنما أهلكوا لعدم وجود من يأمر بمعروف وينهى عن منكر، وإيذان بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم من يقوم بذلك، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله أي بقيام الساعة. ولهذا لم يهلكهم إهلاك الأمم المكذبة استئصالا «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا» استثناء منقطع، أي لكن قليلا منهم وهم الذين آمنوا بالرسل أنجيناهم مع رسلهم، لأنهم كانوا عونا لهم في النهي عن الفساد وسائرهم تاركون له، ومن في قوله ممن للبيان لا للتبعيض، لأن النجاة للناهين وحدهم بدليل قوله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ

ظَلَمُوا) الآية 165 من الأعراف في ج 1 «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ» من النعم وترفهوا فيه من الشهوات وحب الرياسة، ورفضوا الأمر بالمعروف ونبذوا النهي عن المنكر، وأعرضوا عن حق الله فجعلوه ظهريا. والترف التوسع في النعمة، وقد يتعدى به إلى ما لا يحل، قال تعالى (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) الآية 16 من الإسراء في ج 1 «وَكانُوا مُجْرِمِينَ 117» بعملهم ذلك فحكم الله عليهم بالعذاب لارتكابهم الجرائم وأعظمهم الكفر. قال تعالى «وَما كانَ رَبُّكَ» يا سيد الرسل «لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ» منه والتنوين للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم ويراد منه تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه، وإلا فلا ظلم منه أصلا فيما يفعله بعباده، كائنا ما كان لما علم مما مر من قاعدة أهل السنة والجماعة الملمع إليها في الآية 92 من سورة يونس المارة وفي مواضع كثيرة في الجزء الأول. مطلب لا يجوز نسبة الظلم إلى الله وأن الأمر غير الإرادة: واعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى الله تعالى بوجه من الوجوه، لأن ذلك محال، قال صاحب الزبد: وله أن يؤلم الأطفالا ... ووصفه بالظالم استحالا لأن الكل ملكه ولا يعد المتصرف بملكه ظالما كيفما كان تصرفه «وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ 118» في أعمالهم ولكن يهلكهم لكفرهم وركوبهم المعاصي والإفساد فيها، وقال بعضهم إن الظلم هنا يراد به الشرك، وعليه يكون المعنى أنه لا يهلك أهل القرى بسبب الشرك الذي هو أعظم مناوأة للوحدانية إذا كانوا مصلحين في معاملتهم أنفسهم، وغيرهم، ويجرون الحقوق لأهلها، ويتحاشون مضرة أنفسهم ومضرة الناس، والواو في صدر الجملة للحال. واعلم أن المراد بالإهلاك على الوجهين عذاب الاستئصال في الدنيا، أما عذاب الآخرة فلا مناص منه، ومن هنا قال بعض الفقهاء إن حقوق الله مبنيّة على المسامحة إذ قد يشملها عفوه الضافي وكرمه الوافي، وحقوق العباد مبنية على المشاححة أي التضييق والتشديد. وعليه جاء المثل:

الملك يبقى مع الكفر والمعاصي، ولا يبقى مع الظلم والجور. وهذان أي قول الفقهاء والمثل مأخوذان مما رواه الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ) إلخ، فقال: وأهلها ينصف بعضهم بعضا. وأخرج هذا الحديث ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا، ولم أقف على صحته. قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ» يا أكرم الرسل «لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد وشريعة واحدة، لكنه جل أمره لم يشأ، كما أنه تعالى قال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) الآية 13 من سورة السجدة الآتية، ولكنه لم يشأ أيضا، إذ لا يفعل أحد الطاعة إلا بمشيئته ورضاه، ولا يقدر على فعل المعصية إلا بمشيئته وقضاه، ولهذا قال «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» باعتقادهم أديانا شتى وشرائع مختلفة وعبادات متباينة «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» منهم، فإنهم يتفقون على دين واحد وعبادة واحدة وشريعة واحدة، كما يأمرهم نبيهم وكتابهم المنزل إليه من ربهم «وَلِذلِكَ» لأجل بقائهم مختلفين «خَلَقَهُمْ» ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير كما هو في علمه الأزلي، لأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه، والتعذيب والإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا في الآخرة إلى أن التعذيب والإثابة اللذين هما من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب والمثاب في نفسه، ومن هنا قالوا إن المعصية والطاعة أمّارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيان لها، فيندفع قول القائل بأنه إذا كان خلقهم لذلك فلم يعذبهم، واستدل في هذه الآية على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان به من كل، وأن ما أراده سبحانه بحسب وقوعه، وقدمنا في الآية 12 من سورة يونس المارة ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. وذكر بعض العارفين أن منشأ تشبيب سورة هود له صلى الله عليه وسلم اشتمالها على أمره بالاستقامة على الدعوة مع إخباره بأنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف، وأنه لا يشاء اجتماعهم على دين واحد، وقد حقت «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» على ذلك الوجه، ونفذ قضاؤه بالوعد للسعداء بالجنة، والوعيد للأشقياء

[سورة هود (11) : الآيات 121 إلى 123]

بالنار، طبقا لما هو مدون في كتابه، وحق أمره بذلك، وهو قوله للملائكة أزلا وعزتي وجلالي «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ» الهاء فيها للمبالغة، وهي والجن بمعنى واحد، أما من قال إن الجن يقع على الواحد فتكون الجنة جمعا له ويكون من الجموع التي يفرق بين مفردها وجمعها بالهاء مثل كمأة فليس بشيء، لأن الحق أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه والكمأة جمعها أكمؤ قال. ولقد جنيتكم أكموء عساقلا ... ولقد نهيتكم عن نبات الأوبر «وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» 119 من عصاتهم كما سبقت كلمته بملء الجنة من تقاتهم لما علم شرعا أن العذاب والوعيد مخصوصان بالكافرين والمصرين على المعاصي بدليل قوله تعالى في الآية 18 من الأعراف المارة في ج 1 (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) . والنعيم والوعد مخصوصان بالمؤمنين لقوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جنات تجري) إلخ الآية 10 من سورة المائدة في ج 3 وهي مكررة كثيرا في القرآن باللفظ والمعنى، والقرآن يفسر بعضه بعضا فما قيل إن ظاهر الآية يقضي بدخول الفريقين جهنم، قول واه يخالف آيات الله وأخبار رسوله التي لا تقبل التأويل والتفسير، وليس للرأي فيها مدخل، ولهذا البحث صلة في الآية 14 من سورة السجدة الآتية فراجعه. قال تعالى «وَكُلًّا» مفعول مقدم والتنوين للعوض عن المضاف إليه أي وكل نبأ «نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ» السالفين قبلك، وهو بيان لكلا ويبدل منها قوله تعالى «ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك وتتأسي بأخبارهم معهم ليسهل عليك تحمل أذاهم «وَجاءَكَ» يا حبيبي «فِي هذِهِ» السورة العظيمة كما جاءك في غيرها من القصص «الْحَقُّ» الواضح الصريح الذي لا يغير ولا يبدل وكل ما جاء في القرآن فهو حق ثابت، وخصصت هذه السّورة العظيمة كما جاءك في غيرها من القصص «الْحَقُّ» الواضح الصريح الذي لا يغير ولا يبدل وكل ما جاء في القرآن فهو حق ثابت، وخصصت هذه السّورة به تشريفا وتكريما «وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» 120 جاء فيها أيضا، فإذا تذكر قومك أحوال الأمم السالفة وكيفة إهلاكهم وأسبابه واتعظوا وتذكروا وأخبتوا إلى ربهم «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» من قومك وغيرهم، لأنك مرسل لجميع الخلق بمقتضى الآية 158 من سورة الأعراف المارة في ج 1 وما ترشدك إليه من الآيات على سبيل التهديد

تفسير سورة يوسف عدد 3 - 53 و 12

«اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم وما تتمكنون أن تعملوه، وهذا الوعيد تهكم بسوء عاقبتهم إذا بقوا مصرين على ما هم عليه على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 47 من سورة فصلت الآتية «إِنَّا عامِلُونَ 121» دائبون على ما أمرنا به «وَانْتَظِرُوا» بنا ما تتصورونه أن يقع بكم من الدوائر «إِنَّا مُنْتَظِرُونَ 122» ما يحل بكم من العذاب وينتقم منكم كما انتقم ممن قبلكم أمثالكم المكذّبين «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من كل ما يقع فيها وفوقها وتحتها، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء من أعمال من هو بينهما وأعلاهما وأسفلهما «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» فيما يتعلق فيكم وفي غيركم، وعليه فلا بدّ من مصيركم إليه فينتقم من الكافر، وينعم المؤمن، ثم التفت إلى صفيّه محمد صلى الله عليه وسلم فقال عزّ قوله وأنت يا أكمل الرسل «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» فهو كافيك وكافلك، وقد جاء في الحديث الشريف من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى. ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم متوكل على ربه حق التوكل، وإنما يراد منه الدوام والاستمرار، أي فداوم على ما أنت عليه يا سيد الرسل ولا تبال بالذين لا يؤمنون بك، ولا يضيق صدرك من تكذيبهم «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 123» أنت ومن آمن بك وأمتك كلهم مؤمنهم وكافرهم، لأن أعمالكم جميعا يحصيها عليكم ويجازيكم عليها السيء بمثله والحسن بأمثاله. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد غير الموفق غافل عن عمله لا يدري ما يفعل به، حتى إذا وقع أمر الله به انتبه فندم من حيث لا ينفعه الندم. أجارنا الله من ذلك. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. تفسير سورة يوسف عدد 3- 53 و 12 نزلت بمكة بعد سورة هود عدا الآيات 2 و 3 و 7 فإنهن نزلن بالمدينة، وهي مئة واحدي عشرة آية، ومثلها في عدد الآي سورة الإسراء فقط، وألف وستمئة كلمة، وستة آلاف وستون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.

[سورة يوسف (12) : الآيات 1 إلى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «الر» تقدم ما فيه أول سورتي هود ويونس المارتين فراجعهما وما يرشدانك إليهما «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ» الأزلي المدون في اللوح المحفوظ «الْمُبِينِ» 1 لكل شيء من علوم الدنيا والآخرة. وهاتان الآيتان المدنيتان من هذه السورة، قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» سمي بعض القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير، وكما يطلق على الكل يطلق على البعض، ولا يرد ما قيل إن بعض كلماته أعجمية في الأصل على قوله عربيا كاليم والقسطاس وغيرهما، لأنها عربية قبل نزول القرآن والعرب يتكلمون بها قديما بما يدل على أن الأصل استعمالها في اللغة العربية والأعاجم أخذوها منها كغيرها من الكلمات المستعملة عندهم، راجع الآية 182 من الشعراء المارة في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث مستوفيا، وقد يكون بعضها من باب توارد اللغات كما يكون في الشعر أحيانا من باب توارد الخاطر، وسبب إنزاله باللغة العربية «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» 2 معانيه وتتدبرونها فتعلمون المراد منها، ولو أنزله بلغة أخرى لا حتججتم وتقدمتم بالأعذار من عدم فهمه وصعوبة تعلمه، فيا أكمل الرسل إنا «نَحْنُ» إله السموات والأرض «نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» في هذه السورة قصة واقعة قبل زمنك مدونة في الكتب القديمة، ولكن كل ما نقصه في هذا القرآن أحسن مما قصصناه قبل وأوسع وأصح، لأن الكتب الموجودة لعبت فيها أيدي غير طاهرة فبدلت وغيرت فيها لذلك لا يعتمد على ما جاء فيها إذا كان مخالفا لما في هذا القرآن، وقد قصصناها عليك الآن كاملة لنقصها على قومك لما فيها من العبر والحكم، والنكت، والفوائد الدينية والدنيوية، وسير الملوك، والمماليك، والعلماء، ومكر النساء، والصبر على الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء، والعفو عند المقدرة، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، بصورة مفصلة لم يعلمها غيرك، كما سنقص عليك في غير هذه السورة قصصا أخرى غير ما تقدم لتحيط علما بما كان وما سيكون من علمنا الأزلي. قال خالد بن سعداه: يتفكه أهل الجنة بسورة يوسف وسورة مريم وسماعهما يريح كل محزون. والقصص بفتح القاف اتباع الخير

بعضه بعضا، وبالضم جمع قصة وهي الحكاية تذكر شيئا فشيئا، أي إنا نبين لك يا أكرم الرسل أخبار الأمم الماضية أحسن بيان، ولذلك قال أحسن القصص وكل قصص القرآن حسن، وفيه ما هو أحسن، قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله فتلاه على أصحابه زمانا، فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت هذه السورة. وقيل إن كفار مكة أمرتهم طائفة من اليهود أن يسألوا رسول الله عن السبب الذي أحل بني إسرائيل في مصر، فسألوه، فنزلت. وقيل قالت اليهود لمشركي مكة صلوا محمدا عن أمر يعقوب وقصة يوسف مع اخوته، وكانت عندهم بالعبرانية، فأنزل الله هذه السورة ليفهمها للعرب. وقدمنا في المقدمة أن القرآن منه ما نزل بسبب أو على سؤال أو حادثة، ومنه ما نزل بغير ذلك، فلا يشترط للنزول سبب، بحيث لم ينزل بشيء من القرآن إلا بسبب، تدبر «بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ» قبل نزوله وإيحائه إليك «لَمِنَ الْغافِلِينَ» 3 عنه يا محمد وعما فيه من أخبار الأمم الماضية، وقصص الأنبياء، وكيفية الخلق مما لم يخطر ببالك أننا ننزل عليك وحينا ولم تتصور إخبارنا لك عن عجائب أخبار الأولين. وما في صدر الآية مصدرية، وإن مخففة من الثقيلة، واللام في لمن الفارقة بينها وبين ان النافية، انتهت الآيتان المدنيتان الأوليان. قال تعالى واذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ يُوسُفُ» وهو الكريم بن الكريم بن الكريم «لِأَبِيهِ» يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام المتصل نسب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إليه وهو: نسب كان عليه من شمس الضحى ... نورا ومن ضوء الصباح عمود «يا أَبَتِ» بتاء التأنيث المعوضة عن ياء الإضافة لتناسبها، لأن كل واحدة منها زائدة في آخر الاسم، ولهذا تقلب هاء بالوقف، وجاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر كما في رجل ربعة، وكسرت التاء لتدل على الياء المحذوفة، ومن فتح التاء فقد حذف الألف في يا أبتاه، واستبقى ما قبلها كما فعل في حذف الياء في غلام، ومقول القول قوله «إِنِّي رَأَيْتُ» رؤيا منامية. واعلم أيها القارئ أنا سنأتي على هذه القصة تدريجيا بحسب نزولها ليكون أوقع في النفس وأقرب للفهم، وأخصر للفظ، وحذرا من تكرارها، فتدبرها تباعا من أولها في هذه الآية إلى آخر

مطلب في الرؤيا وماهيتها وما يفعل رائيها وفي الحواس العشرة:

الآية ... منها «أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» 4» جمعها جمع من يعقل وقال رأيتهم ولم يقل رأيتها لأنه أخبر عنها بفعل العقلاء كقوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» الآية 18 من سورة النمل في ج 1 لتنزيلها منزلة العاقل، ومثل هذا كثير في القرآن حتى في الأصنام لهذه العلّة «قالَ يا بُنَيَّ» صغّره تعظيما له وشفقة عليه أو لعذوبة اللفظ وقال له «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ» هذه الآن «عَلى إِخْوَتِكَ» فإن لها مغزى عظيما وأخاف إذا قصصتها عليهم أن يحسدوك عليها لما يتخيلون من معناها «فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» عظيما يخشى عليك من عاقبته، أمره عليه السلام بكتمان رؤياه، لأنه عرف من معناها أن الله تعالى يصطفيه لنبوته وينعم عليه في الدارين، وإن لها عاقبة حسنة، فحذرا من أن يتفرس إخوته بتأويلها فيغاروا منه فيحتالوا عليه فيهلكوا، لأنهم وإن كانوا عقلاء فلا يؤمن عليهم من اتباع وساوس الشيطان، لذلك قال «إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ» أراد جنسه ليشمل كل أفراده الأنبياء، فمن دونهم قبل نبوتهم، لأنه بعدها لا تأثير له عليهم لعصمتهم من قبل الله «عَدُوٌّ مُبِينٌ» 5 عداوته لأنه لم يخفها منذ أظهرها لآدم عليه السلام، وإنما قال يا بني بالتصغير حنانا عليه ورأفة به، لأنه كان يحبه حبا مفرطا أوجب حسد إخوته له قبل الرؤيا، فإذا سمعوا هذه الرؤيا يزداد حسدهم ويفتح لهم الشيطان باب التزيين لإهلاكه. ولهذا خاف عليه من أن يبيّن لهم نتيجة محبة أبيه وما يؤول أمرهم منها، ويحسن لهم التخلص منه وبين لهم سبلها قبل أن يكبر فيعجزوا عنه ويسيطر عليهم. مطلب في الرؤيا وماهيتها وما يفعل رائيها وفي الحواس العشرة: روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحبّ فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا. ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشرّها فإنها لا تضره.

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبّها فإنها من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها (أي من يحب حملا للمطلق على المقيد لأن الحديث الأول قيد التحدث بها لمن يحبه الرائي) وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنها من الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ومن شرها، أي ويفعل كما فعل بالحديث السابق ولا يذكرها فإنها لا تضره. وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال إن رسول صلى الله عليه وسلم قال إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه. لم نعرف نحن مدخلية البصق على اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه لكن القائل يعرفه حق المعرفة لأنه لا ينطق عن هوى، فعلى العاقل أي يفعل ما أمره به نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم، فهو سبب السلامة من المكروه الذي يراه، كما أن الصدقة سبب للوقاية في المال والجسم ودفع البلاء وأخرج الترمذي وأبو داود عن أبي ذر العقيلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة. وفي رواية من ستة وأربعين وهي على رجل طائر ما لم تعبّر، فإذا عبرت وقعت ولا نقصها إلا على وادّ وذي رأى. وهذه الرؤيا التي تحتمل وجودها، فإذا عبر بأحدها وقع والله أعلم. وقدمنا أول الإسراء في ج 1 والآية 142 في الأعراف في ج 1 أيضا، وفي الآية 94 من سورة يونس المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه ترشد إلى المواقع المتعلقة في هذا البحث وفي رؤية الله عز وجل أيضا ونزيدك هنا إيضاحا، فاعلم رعاك الله ان حقيقة الرؤيا خلق الله في قلب المؤمن النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، وجعلها علما على أمور أخرى يجعلها في ثاني الحال وهو يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة، وماهيتها عبارة عن ارتسام صورة المرأى وانتقاشها في مرآة القلب في النوم، فيحتفظ بها المؤمن بعد اليقظة، راجع الآية 60 من سورة الإسراء في ج 1. واعلم ان الحواس ظاهرة وباطنة، فالظاهرة خمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والباطنة خمس أيضا: المفكرة والذاكرة والحافظة والمخيلة والواهمة والحس المشترك، وتسمى هذه الحواس والحس المشترك

المعدود في الباطنة قوى، ويسميها المناطقة والمتكلمون العقول العشرة، ولكل واحدة منها كوكب يضيء يدرك به معنى يناسبه سواء في اليقظة أو في النوم. وقال علماء الصوفية الرؤيا من باب العلم ولكل علم معلوم، ولكل معلوم حقيقة، وتلك الحقيقة صورته، والعلم عبارة عن وصول تلك الصورة إلى القلب وانطباعها فيه، سواء كان في النوم أو في اليقظة، فلا محل له غير القلب، ولما كان عالم الأرواح متقدما في الوجود والمرتبة على عالم الأجسام، وكان الإعداد الرباني الموصل إلى الأجسام موقوفا على توسط الأرواح بينها وبين الحق، وتدبير الأجسام مفوض إلى الأرواح وتعذر الارتباط بين الأرواح والأجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط، فإن الأجسام كلها مركبة والأرواح كلها بسيطة، فلا مناسبة ولا ارتباط بينهما، وما لم يكن ارتباط لا يحصل تأثير ولا تأثر، ولا إمداد ولا استمداد، فلذلك خلق الله تعالى عالم المنازل برزخا جامعا بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصبح ارتباط أحد العالمين بالآخر، فيتأتى حصول التأثير والتأثر ووصول الامداد والتدبير، وهكذا شأن روح الإنسان مع جسمه الطبيعي العنصري الذي يدبره ويشتمل عليه علما وعملا. ولما كانت المباينة ثابتة بين روح الإنسان وبدنه، وتعذر الارتباط الذي يتوقف عليه التدبير ووصول المدد اليه خلق الله تعالى لنفسه الحيوانية برزخا بينهما أي بين البدن والروح المفارق، فنفسه الحيوانية في ميزاتها قوة معقولة، فهي بسيطة تناسب الروح المفارق، ومن حيث انها مشتملة بالذات على قوى مختلفة متكثرة منبئة في أقطار البدن متصرفة بتصرفات مختلفة ومحمولة أيضا في البخار الضبابي الذي هو في التجويف الأيسر من القلب الصنوبري يتناسب المزاج المركب من العناصر. فحصل الارتباط والتأثير والتأثر وتأنى وصول المدد، فإذا علمت ما وضحناه لك أعلاه فأعلم أن القوى الخيالية التي في نشأة الإنسان من كونه نسخة من العالم المثالي المطلق كالجزء بالنسبة إلى الكل وكالجدول بالنسبة إلى النهر الذي هو مشروعه، وكما أن طرف الجدول الذي يلي النهر متصل به فكذلك عالم الخيال الإنساني من حيث طرفه الأعلى متصل بعالم المثال، والمثال نوعان مطلق ومقيد، فالمطلق ما حواه العرش المحيط من جميع

الآثار الدنيوية والأخروية، والمقيد نوعان: نوع مقيد بالنوم، ونوع غير مقيد به مشروط بحصول غيبة أو فتور عما في الحس، هذا وأول ما يراه الأنبياء عليهم السلام الصور المثالية في النوم والخيال في اليقظة، ثم يترقّبون إلى أن يروا الملك في المثال المطلق والمقيد يقظة مع فتور في الحس وكونهم مأخوذين عن الدنيا عند نزول الوحي، إنما هو مع بقاء العقل والتمييز ليس إلا، ولهذا لم ينقص وضوءهم لأنهم عليهم السلام تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، وهذه ميزة اختص بها الله أنبياءه دون سائر البشر، كما خصهم بالرسالة والنبوة، فلا مجال لقول بذلك والسؤال عن السبب فيه، لأنه من أفعال الله تعالى وأن أفعاله لا تعلل، وإنما لم تنم قلوبهم تبعا لأعينهم مثلنا لأن بواطنهم متحلية بصفات الله متخلقة بأخلاقه، مطهرة من أوصاف البشرية من كل ما فيه نقص ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال، فضلا عن كل ما يذم لأنه عجز وضعف وآفة، ولو حلّت الآفة قلب النّبي الذي هو عمود بدنه الشريف لجاز أن يحل فيه سائر الآفات الأخرى، من توهم في الوحي والغفلة عنه والسّآمة منه وفزع يمنعه عن واجب عليه، وحاشاهم من ذلك، وقد ذكرنا قبلا في مطلع هذا البحث أن الرؤيا عبارة عن اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب النائم، وأن تلك الاعتقادات تكون علما على أمور أخر يخلقها الله في ثاني الحال أو حال اليقظة، والحال الأول هو النوم وهذا قول الإمام محي الدين النووي رحمه الله نقلا عن المازني، وتتمته فما يكون علما على ما يسر يخلقه الله تعالى بغير حضرة الشيطان، وما كان علما على ما يضرّ يخلقه بحضرته أي عند الرائي فيسمى الأول رؤيا وتضاف اليه تعالى اضافة تشريف، ويسمى الثاني حلما وتضاف الى الشيطان كما هو الشائع من إضافة كل مكروه إليه، وإن كان الكل من الله تعالى. وهذا معنى ما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا من الله والحلم من الشيطان لأن الرؤيا اسم للمحبوب، والحلم للمكروه، ولهذا لا ينبغي أن يقول رأيت حلما بل رؤيا. وقال المحدثون إذا كانت الرؤيا صادقة فهي أحاديث الملك الموكل به أي النائم، وإن كانت كاذبة فهي وساوس الشيطان والنفس، وقد يجمع بين قول المحدثين وقول المازني الذي نقله النووي بأن القصد من أنها اعتقادات إلخ أي اعتقادات تخلق

بواسطة الملك أو وسوسة الشيطان مثلا، وقد تكون الرؤيا مما يحوك في صدر الرائي قبل النوم من أمور الدنيا والآخرة، فتنطبع له بمثال خيالي في نومه. واعلم أن المسببات في المشهور عن الأشاعرة مخلوقة له تعالى عند الأسباب لا بها، تدبر. وقال الفلسفيون الرؤيا انطباع الصور المنحدرة من أفق القوة المخيلة إلى الحس المشترك، فالصادقة منها إنما تكون بالملكوت لما بينهما التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبها فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم إن كانت المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلا احتاجت إليه. واعلم أن الرؤيا كالرؤية من حيث الرسم، والمعنى على القول الصحيح، إلا أن منهم من خص الأولى بالنوم والثانية باليقظة وجعل الفرق بينها، حرفي التأنيث كالقربى والقربة، وذكرنا أول سورة الإسراء أن كلا منهما يطلق على الآخر فلا فرق بينهما، وفيه تعليل نفيس فراجعه، قال تعالى «وَكَذلِكَ» أي مثل ما اصطفى الله غيرك من الأنبياء «يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ» في الدنيا لإرشاد عباده وفي الآخرة لقربه في نعيم الجنان مما رفع منزلتك في هذه الرؤيا، واجتباء الله تعالى للعبد اصطفاؤه له وتخصيصه بفيض إلهي يحصل له منه أنواع المعجزات أو الكرامات بلا سعي منه، وهذا لا يكون إلا للأنبياء ومن يقاربهم من الصديقين العارفين «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» التي يرونها الناس في منامهم بحيث يلقى ما تؤل به في قلبك، فكان عليه السلام أعلم الناس في تأويل الرؤيا وإنما خصه الله تعالى بهذه الزيادة على عيره ممن تقدمه من الأنبياء، كما خصّ كثيرا من أنبيائه بخصائص متباينة، فالتي خصّها بهذا لم يعطها لغيره راجع الآية 14 من سورة النمل في ج 1 لأن خلاصه من السجن مقدر على تعبيره رؤيا الملك الآتية كما هو مقدر في سابق علمه «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ» الدنيوية التي نبشرك بها في الرؤيا «عَلَيْكَ» بنعمته الأخروية فيكمل لك نعمة النبوة ونعمة الملك في الدنيا ونعمة النعيم وتجلي المنعم في الآخرة «وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ» من أهله ونسله يتمها أيضا عليهم «كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ» يعقوب «إِبْراهِيمَ» حيث خلصه

مطلب الآية المدنية، وأسماء أخوة يوسف وأسماء الكواكب والكيد ليوسف منهم:

من الإحراق وشرفه بالنبوة واتخذه خليلا وفدى ولده إسماعيل من الذبح «وَإِسْحاقَ» إذ أخرج من صلبه يعقوب ومن صلب يعقوب الأسباط الاثني عشر الذين أنت أجدهم وشرفهم بالنبوة ومنّ على أبيهم فجعله أبا الأنبياء كلهم من بعد نوح «إِنَّ رَبَّكَ» الذي رباك وحفظك مما قدره عليك «عَلِيمٌ» بمن يستحق الإعطاء والاصطفاء «حَكِيمٌ 6» يضع الأشياء مواضعها، ولا يفعل شيئا إلا بحكمة وعن حكمة لحكمة وفي حكمة، وقد حقق الله تعالى لسيدنا يوسف ذلك، إذ تاب عليهم بعد فعلتهم به، وحفظه منهم بعد أن هموا بقتله، وردّه على أبيه بعد أن قارب قلبه اليأس منه وخلصهم جميعا من قشف البداوة وجعل فيهم الملك والنبوة، وهذه الآية المدنية الثالثة من هذه السورة. مطلب الآية المدنية، وأسماء أخوة يوسف وأسماء الكواكب والكيد ليوسف منهم: قال تعالى «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ» أي في خبرهم وقصتهم معه وهم شمعون ولاوى ويهوذا وزلبون ويشجز من ليّا زوجته يعقوب الأولى بنت ليّان بنت خاله ودان وتفتوتا وجاد واستين من جاريته زلفه وبلهة ويوسف وبنيامين من راحيل أخت ليا. وأسماء الكواكب التي رآها في منامه هي: 1 أجريان 2- والطارق 3- والدنيال 4- وقابس 5- وعمودان 6- والفليق 7 والصبح 8- والضروع 9- والفرخ 10- ووثاب 11- وذو الكتفين. وهم كناية عن أخوته الأحد عشر المار ذكرهم، والشمس والقمر عن أمه وأبيه، وكان بين مبدأ الرؤيا وتحقيقها أربعين سنة، إذ كان عمره حين الرؤيا اثنتي عشرة سنة، وحين الإلقاء في البئر سبع عشرة سنة، وحين الخروج ثماني عشرة سنة، وحين الخروج من السجن أربعين سنة، إذ أدخل فيه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ومكث في بيت العزيز خمس عشر سنة وحين السجود اثنتين وخمسين سنة ووقع خلال ذلك «آياتٌ» عظيمات وعبر وعظات «لِلسَّائِلِينَ 7» عنها أخيرا في المدينة المنورة وهم اليهود إذ وجدوها موافقة لما في كتبهم وأوضح وأنصح وأبلغ مما فيها ودلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم سمعوها منه وهو أمي فكانت برهانا على أنها وحي من الله

عز وجل بلا شك ولا شبهة وكون هذه الآية والآيتين قبلها 2/ 3 مدنيات مروي عن قتادة وابن عباس رضي الله عنهم ومثبت في الكتب التي ذكرناها بالمقدمة في بحث مأخذ هذا التفسير، لذلك لا يلتفت إلى قول من قال أنهن مكيات والبينة تقام على الإثبات لا على النفي، قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرسل تفاصيل هذه القصة التي كثر السؤال عنها «إِذْ قالُوا» أخوة يوسف إلى بعضهم والله «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ» بنيامين «أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» أقسموا قسمين على جهتين أصابوا في الأولى هذه وأخطأوا في الثانية، وهي «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 8» ظاهر في عمله هذا. والعصبة الجماعة جمع لا واحد له من لفظه كالرمط والنفر والفلك والنساء، والواو للحال أي كيف يكون هذا وهما اثنان ونحن جماعة ويفضلهما علينا ويحبهما أكثر منا مع أنه لا فائدة له منهما لصغرهما، فكيف إذا كبرا ورأى منهما ما يرى منا الآن من المنافع والخدمة ونحن القائمون بمصالحه، ونحن أحق بمودته منهما. واعلم أن سبب هذه المودة والمحبة لهما لصغرهما ووفات أمهما أو لأمر تفرسه فيهما، وهذا أقرب لأنه لو كان الحب بسبب الصغر لأحب بنيامين أكثر من يوسف، ولكنه عليه السلام رأى فيه من مخايل الخير ما لم يره فيهم، وزاد ذلك ما فهم من مغزى الرؤيا وليس هو بالصغير ليقال لصغره، والصغير محبوب عند كل أحد، قيل لابنة الحسن أي بنيك أحب إليك؟ قالت الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يحضر، والمريض حتى يشفى. وقيل في هذا المعنى: إن البنان الخمس أكفاء معا ... والحلي دون جميعها للخنصر وإذا الفتي فقد الشباب سماله ... حب البنين ولا كحب الأصغر وهذان البيتان وقبلهما بيتان للوزير أبي مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري. هذا وأنه عليه السلام لم يفضله إلا بالمحبة القلبية، وهي خارجة عن وسع البشر لأنها أمر باطني، وليس في طوقه دفعها، يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم اللهم هذا قسمي فيما أملك ولا قدرة لي على ما لم أملك. وذلك لأنه من مقتضيات حس الأرواح التي هي من أمر الله وقد وقع منهم هذا قبل النبوة على القول المعتمد فلا يعد حسدهم

هذا لأخويهما ورمي أباهما بالعقوق المستفاد من قولهم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وإلقائهم أخاهم في البئر قادح في نبوتهم، لأن العصمة بعد التشرف بالنبوة، ويجوز قبلها أن يقع من النبي مثل ذلك، وقدمنا ما يتعلق بعصمة الأنبياء في الآية 23 من سورة الأعراف والآية 2 من سورة طه في ج 1 وكذلك في الآية 15 من سورة القصص المارة فراجعها. ثم بين تعالى ما قرّ عليه رأيهم من الكيد ليوسف بقوله «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً» بعيدة بدلالة التنكير أي أن التخلص منه بأحد أمرين: إما بقتله أو تغريبه في مكان بعيد، لأن التغريب يحصل به المقصود كالقتل وجرمه هين خفيف، وقيل في هذا: حسنوا القول وقالوا غربة ... إنما الغربة للأحرار ذبح وقال بعضهم لبعض إذا فعلتم أحد هذين الأمرين بيوسف «يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» من يوسف وأخيه ويقبل عليكم بكليته لا يلتفت إلى غيركم، والمراد بالوجه الذات، قال تعالى (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) الآية 35 من سورة الرحمن في ج 3، ولفظ الوجه بهذا المعنى مكرر كثيرا في القرآن، لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه فلذلك خص الوجه «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ» أي تنفيذ الأمر الذي تجمعون عليه من أحد الأمرين «قَوْماً صالِحِينَ 9» بأن تتوبوا إلى ربكم من جرمكم فيعف عنكم «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ» هو يهوذا على الأصح لأنه صاحب مشورتهم وأحسنهم رأيا، يدل عليه لفظ قائل المنوّن وإلا لقال أحدهم أو أكبرهم «لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ» لأن القتل جريمة عظيمة أخاف أن لا تغفر لكم، وإذا كنتم لا بد فاعلين يا اخوتي خذوه «وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ» قعره المظلم وأسفله العميق. والغيابة كل موضع ستر شيئا وغيبه عن النظر. والجب البئر الكبيرة غير المطوية، فإذا طرحتموه فيها حصل المقصود من تغريبه، إذ قد «يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ» الواردين على الجب فيأخذونه إلى بلادهم، هذا رأي لكم «إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ 10» به ما ترومون افعلوا ما أشرت به عليكم، وهذا الجب معروف عندهم لذكره بال التعريفية، قيل هو بئر بيت المقدس، وقيل في الأزرق، والأحرى أن يكون البئر الموجود الآن قرب صفد في فلسطين

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 إلى 20]

المسمى حتى الآن ببئر يوسف، فاستصوبوا رأيه مع أن فيه إشارة إلى عدم الفعل بدليل قوله (إِنْ كُنْتُمْ) إلخ، أي إذا كنتم مصرين على الإيقاع بيوسف فافعلوا فيه ما ذكرت لكم فهو أهون جرما عند الله، وفيه أمل، ثم ذهبوا إلى يوسف وصاروا يرغبونه بالذهاب معهم إلى البرية وحسنوا له النزهة في البادية، وأروه من اللطف والعطف ما حدا به أن يكلفهم بأن يقولوا لأبيهم ليأذن له بالذهاب معهم إلى المرعى، وأنه هو موافق ومحبذ ذلك، ويمنعه أدبه أن يتقدم لك بهذا، وكان ما كان وجاءوا إلى أبيهم «قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» أنطقهم الله تعالى بما يوقع الريبة في قلب أبيهم، حتى إذا وقع منهم ما يلام عليه يلوم نفسه، لأنهم لم يقولوا له مالك لا ترسل يوسف معنا، بل قالوا مالك لا تأمنا عليه ليذهب إلى المرعى يتسلى بين أزهار الأرض ويستنشق ريحها العذب مع رغبته بذلك، لأنه كلفنا أن نستأذنك بالسماح له «وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ 11» فلا تخف عليه فإنا نشفق عليه ونريد له الخير، ولا غرو إنه عليه السلام أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه من إيماء هذه الآية، ثم ألحّوا عليه بقبول رجائهم، فقالوا «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ» معنا في البرية الواسعة ليتمتع بنضارتها وبهجتها، ومعنى الرتع الاتساع في الملاذ وأصله أكل البهائم في الخصب من الربيع، ثم أكدوا له رعايتهم إليه وعنايتهم به ومناظرتهم إليه بقولهم «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 12» له من كل مكروه، وكيف لا تكون له كذلك وفيه رضاك ولم يزالوا به راجين ليأذن لهم بأخذه ليتسع صدره بالتفرج على الصيد والرمي والجري الذي يفعلونه بالبادية، وبعد أن أكدوا له مقالتهم بأصناف التأكيد، إذ أوردوا الجملة اسمية وحلوها بأن واللام وأسندوا حفظه إليهم جميعا «قالَ» يعقوب عليه السلام «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» أي مجرد ذهابكم به يؤلمني لشدة مفارقته علي وقلة صبري عن رؤيته، وقرىء ليحزني بالإدغام ثم قال وإنه ليريبني أن تهملوه وتتركوه وحده بانشغالكم عنه بالرعي والصيد «وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ» وقرىء بالياء كما قرىء يأكله بدون همز، ولم يأت لفظ الذئب بغير هذه السورة، قالوا إنما قال هذا لأنه رأى في منامه ذئبا شدّ عليه ولم يعلم أن قوله هذا الذي

أنطقه به الله فيه تعليم لمكيدتهم، إذ لم يقع في نجواهم شيء من هذا ولم يخطر ببالهم أن الذئب يأكل البشر إذ ذاك، قال الشاعر: ومن سرّه أن لا يرى ما بسوءه ... فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا ثم ألهمه الله زيادة على ذلك بأن بين لهم ما يعتذرون به فختم كلامه بقوله «وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ 13» لاهون بصيدكم ولعبكم ورميكم، فقد لقنهم عليه السلام ما يحتجون به وما يعتذرون منه إليه وقد وقع هذا القول منه عليه السلام لأولاده لأن الأنبياء عليهم السلام لمناسبتهم التامة بعالم الملكوت تكون واقعاتهم واقعة، ومن الأمثال: البلاء موكل بالمنطق. أخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم كذبوا، فقالوا أكله الذئب. والحزن ألم القلب لفقد محبوبه. والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه «قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ 14» عاجزون هالكون إذا لم نقدر على حفظه من الذئب بل من الأسد، كيف وهو أعزّ شيء عندنا، فلما رأى عزمهم على حفظه وحزمهم على محافظته بعد أن أقسموا إليه بإزالة ما خطر بباله واطمأنوا على سلامته ورأى رغبة يوسف بالذهاب معهم، عهد إليهم بمراقبته، وتعهدوا إليه بذلك كله، أذن لهم به، ففرح يوسف لموافقة أبيه ولم يصدقوا متى ينقضي الليل، فلما أصبحوا أخذوه معهم «فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ» إلى البادية وبعدوا عن العمران وصرفوا النظر عن قتله اتباعا لقول يهوذا صاحب مشورتهم «وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ» المار ذكره فعمدوا إليه وقبضوه وطرحوه فيه. هذا ما قصه الله علينا في كتابه. أما الأخباريون فقالوا لما بعدوا به عن العمران أظهروا له الجفاء والعداوة مما هو كامن في صدورهم، طفقوا يضربونه، وصار كلما استغاث بواحد منهم ضربه، فلما رأى عزمهم على قتله شرع يصيح يا أبتاه لو رأيت ما نزل بيوسف من اخوته لأحزنك وأبكاك، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك، فأخذه روبيل وضرب به الأرض وجثم على صدره ليقتله، فاستغاث بيهوذا فأدركته رحمة الأخوة ورقّ له، فقال يا اخوتي

ما على هذا عاهدتموني فخلّصه من يده، وقال ألقوه بالجب، فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيّارة. فذهبوا إلى بئر هناك ضيق الرأس واسع الأسفل فشدوه بحبل ودلوه فيه، فتعلق بشفيرها وكانوا شلحوه قميصة، فقال دعوه أستتربه، فلم يفعلوا، وقال لهم أتتركوني في هذه البرية وبهذا الجب فريدا وحيدا؟! فقالوا له دع الشمس والقمر والكواكب يسترونك ويؤنسونك، وأرسلوه في البئر وهو يستغيث بهم ولا مغيث، ولما بلغ نصف البئر ألقوه إرادة موته، وكان في البئر ماء فسقط فيه، وتركوه ورجعوا وقالوا إن ملكا أرسله الله إليه فحلّ وثافه، وأخرج له صخرة من البئر فأجلسه عليها، وقالوا إن يعقوب لما بعثه مع إخوته أخرج له قميص إبراهيم الذي كساء الله إياه في النار حين ألقي فيها وهو من الجنة، فجعله في قبعته وجعلها في عنقه، فأخرجه الملك وألبسه إياه، فأضاء له الجب من بريقه، وعذب ماء الجب، وصار له غذاء وشرابا، ولما نهض الملك ليذهب وكان جبريل عليه السلام قال له يوسف إذا خرجت استوحشت، فقال له إذا رهبت فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين، قد ترى مكاني، وتعلم حالي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، فقالها فاستأنس وحفته الملائكة. قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ» في البئر حال صغره كما أوحينا إلى عيسى ويحيى من بعده في صغرهما، وكان عمره سبعة عشرة سنة كما قدمناه في الآية 7 المارة «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا» الذي فعلوه بك وأنت صاحب السلطة عليهم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 15» أنك أنت يوسف كما أنهم لم يشعروا كيف آنسناك بالبئر وجعلنا ماءه لك طعاما وشرابا، ولا يعلمون حينما يأتونك في مصر ليمتاروا لأهلهم وأنت عامل فيها، ولا يعرفونك إذ يأتونها وأنت ملكها لطول العهد وعدم تصور أذهانهم بما تصير إليه إذ ذاك من علو الشأن وعظمة السلطان ولا يدرون بأنا أعلمناك بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا معك، وفائدة هذا الوحي تطبيب قلبه وإزالة الهم عنه وغم الوحشة تقوية لجنانه، وهذا الوحي إما بواسطة الملك الذي كان معه في البئر أو بإلهام من الله، والأول أولى لما مر. قالوا ولما أتموا فعلتهم هذه لم يروا ما يعتذرون به إلا ما لقنهم أبوهم، فعمدوا إلى

ذبح سخلة ولطخوا ثوبه بدمها ليعرضوه إلى أبيهم علامة على صدقهم المموّه قال تعالى «وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً» تأخروا عن موعدهم كل يوم تبريرا لعذرهم وصاروا «يَبْكُونَ 16» بأعلى صوتهم عند ما دخلوا الدار، فقال لهم يعقوب ما لكم هل أصاب أغنامكم شيء؟ قالوا لا وإنما أصابنا ما هو أعظم، فأحسّ هنالك وقال أين يوسف «قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ» في العدو والرمي في البادية «وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا» ثيابنا وزهابنا «فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» حال غفلتنا عنه «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» ونعلم أنك لا تصدقنا بهذا «وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ 17» حقيقة فيما ذكرناه لك من واقع الحال لشدة محبتك له بل قد تتهمنا بالكذب، وقد تقدموا له بعدم تصديقهم لأنهم كاذبون مختلقون ما قالوه، وقالوا له إن الدليل على صدقنا هو هذا المحكي عنهم بقوله تعالى «وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ» دم سخلة، ومما يثبت كذبهم أن القميص غير ممزق ولا يعقل أن ذئبا يأكل إنسانا وهو لابس قميصه ولا يمزقه، كما لا يعقل أنه نزع عنه القميص ثم أكله، لذلك كذبهم «قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» عظيما أوقعتموه بيوسف، فاذكروا إلي ما هو حقا، قالوا لا غير ذلك، وأنكروا عليه أمره وأصروا على أقوالهم، فأعرض عنهم وقال «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» لا شكوى فيه إلا إلى الله، ولا جزع ولا تحدث بالمصاب لغيره، ولا تزكية للنفس «وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ» به على ما أنا عليه لا أطلب العون من غيره «عَلى ما تَصِفُونَ 18» من الكذب في أمر يوسف، قال هذا إظهارا للتجلد وعزما على الصبر، وتفويضا لأمر الله، قال ابن الفارض: ويحسن إظهار التجلد للعدى ... ويقبح غير العجز عند الأحبة أي لا يحسن إظهار التجلد والصبر على صدمات الدهر مطلقا، بل يحسن للأعادي، أما عند الأحبة فيحسن العجز، لأن إظهار التجلد عندهم قبيح جدا، قال سحنون يخاطب ربه: وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني قالوا فابتلاه الله تعالى بحصر البول، فاعترف بعجزه، فصار يطوف بسكك

بغداد ويقول للأولاد أدعوا لعمكم الكذاب يعني نفسه، فعفا الله عنه. وإنما كذبهم عليه السلام لأنهم احتجوا بما قاله لهم، ولأنه وقع في خلده كذبهم، ولأنه يعلم حنقهم عليه، ولذلك فعلوا فعلتهم أول يوم ذهبوا به إذ لم يبق بوسعهم تصوّره، عفا الله عنهم، هلا صبروا عليه يوما أو أسبوعا ليرى صدقهم فيما تعهدوا به، ثم يفعلوا فعلتهم هذه، وإن مغزى قوله تعالى (أَنْ تَذْهَبُوا) وقوله (فذهبوا) ينمّ على ذهابهم به أي إهلاكهم إيّاه، لو قدرهم الله عليه، ولكن منعهم فألقوه في البئر وأوقع في قلوبهم أن هذا الإلقاء هلاك له، وبعد أن رأوا من أبيهم ما رأوا برد صدرهم، وقالوا قضي الأمر بهذه الكلمات وسيزول من صدره أولا بأول، وقد تم ما أردناه وانصرفوا لعملهم، قال تعالى «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» الذي يستسقي لهم الماء، قالوا إنه مالك بن ذعر الخزامي من أهل مدين «فَأَدْلى دَلْوَهُ» في ذلك البئر لإخراج الماء لقومه، فتعلق يوسف بالدّلو فلما خرج إلى فمه ورآه الوارد على أحسن صورة من الغلمان، وقد جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطي يوسف شطر الحسن، قالوا وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع النور في ثناياه، فلم يتمالك نفسه من شدة الفرح، إذ «قالَ يا بُشْرى» خاطب أصحابه بعد أن ذهب به إليهم وهم قريب منه بقوله «هذا غُلامٌ» خرج مع الدلو فأمسكته وأتيت به إليكم، أن ناسا خطفوه من أهله «وَأَسَرُّوهُ» خبأوه هنا وجعلوه «بِضاعَةً» ليبيعوه كي لا يعلم به أحد «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ 19» لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه، فابتهج به كل السيارة وكل تمنى أن يكون له، قالوا وكان أخوه يهوذا يتعهده الفينة بعد الفينة كلما يأتي قريبا من البئر لأجل المرعى وكان يأتيه بطعام خلسة عن أخوته فيطرحه في البئر، ولم يعلم أنه ليس بحاجة إلى طعامهم، إذ كفاه الله بالماء، وأنه جاء كعادته فنظر في البئر فلم يره، وقد مضى على إلقائه ما يقارب السنة، وإن إخوته الآخرين لم يعلموا يعمل يهوذا ولم يتعاهدوه وظنوا أنه قد هلك من وقته، فلما لم يجده رجع وأخبر إخوته بالأمر، فتحسس دمهم عليه وحدا بهم داعي حب الأخوة فندبهم إلى التحري عنه، فأجابوه وأطاعوه وساروا في طلبه

مطلب جرائم إخوة يوسف وفائدة العفو وصلاح الوالدين وعظيم فضل الله تعالى:

يمينا وشمالا، فوجدوه عند السيارة، وتحدثوا بينهم عما يقولون، فاتفقوا على أن قالوا هذا عبدنا أبق ونظروا إليه وهددوه بالقتل إن هو كذبهم، فاعترف لهم بذلك خوفا منهم لما ذاق من ضرهم، لا سيما وقد أشار إليه يهوذا بذلك وهو أرقهم عليه وأرأفهم به، إذ لم ير العطف إلا منه، وهو الذي خلصه من الذبح من يد روبيل، وإذ ظهر للسيارة أنه عبد لهم بسكوته على قول إخوته وسكوته قبلا على قول الذي أخرجه من البئر طلبوا بيعه منهم، فاتفقوا على ذلك. مطلب جرائم إخوة يوسف وفائدة العفو وصلاح الوالدين وعظيم فضل الله تعالى: قال تعالى «وَشَرَوْهُ» منهم «بِثَمَنٍ بَخْسٍ» ناقص عن قيمة أمثاله فيما لو فرض أنه عبد أو مبخوس حرام، لأنه حر لا يجوز بيعه «دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» إشارة إلى قلتها، قالوا هي ثلاثون درهما، لأنهم كانوا يعدون ما دون الأربعين، والأربعون أوقية فيزنونها وزنا، وفي هذا المبلغ عينه دلّ يهوذا الأسخريوطي اليهود على عيسى ليغتالوه، فألقى شبهه عليه، رفداه الله به، فقتل ورفع عيسى إلى السماء كما ستوضحه في الآية 58 من النساء في ج 3، «وَكانُوا فِيهِ» أي تساهل أخوة يوسف في أمره حتى جعلوه عبدا وباعوه بقيمة بخسة بما يدل على أنهم «مِنَ الزَّاهِدِينَ 20» فيه الراغبين عنه لبقاء حنقهم عليه، قالوا وبعد أن قبضوا ثمنه من السيارة قالوا لهم استوثقوا منه لئلا يهرب منكم كما أبق منا، قالوا وسبب بيعه لهم لأنهم لم يقدروا على أخذه من السيارة لكثرتهم، ولم يقدروا على قتله بعد أن صار بأيديهم، وتأسوا بقولهم قد حصل ما كنا نريده من تغريبه والذين أخذوه من أهل مصر، وهي بعيدة عنا فيكون فيها بحكم المعدوم لعدم إمكان وصول خبره إلى أبيه، فتركوه وذهبوا ولما وصلوا إلى مصر باعوه إلى العزيز خازن ملكها الريان بن الوليد بن يزوان من العماليق بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين، هذا ولم يوقع الله في قلوب أخوته أن بيعه للسيارة قد يفضي إلى مجيئه أو إعلام أبيه به، ولم يوقع في قلوبهم أن ردوه إلى أبيهم واعتذروا له وأزاحوا عن قلبه الغم والهم الذي حل فيه من أجله

[سورة يوسف (12) : الآيات 21 إلى 30]

بل أوقع في قلوبهم أنه صار بحكم الميت وأن حجتهم التي احتجوا بها لأبيهم تمت لئلا يظهر كذبهم لأمر أراده الله، ولا يكون إلا ما أراده، وقد اشتمل عمل أولاد يعقوب بأخيهم على عدة جرائم: 1- قطيعة الرحم 2- وعقوق الوالد 3- وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له 4- والغدر بالأمانة 5- وترك الوفاء بالعهد 6- والكذب 7- وبيع الحر 8- والافتراء بأنه عبد أبق منهم 9 وقصد القتل دون جرم 10- واجتماعهم على هذه الخصال التي كل واحدة منها موجبة لغضب الله فضلا عن كذبهم على أبيهم فيما أخبروه به، ومع هذا فإن الله واسع الرحمة عفا عنهم وشرفهم بالنبوة وبارك في ذريتهم وجعل فيها الملك والنبوة، وذلك لصلاح والدهم وعفوه عنهم واستغفاره لهم واستغفار أخيهم لهم وعفوه عنهم حال القدرة، فصلاح الوالدين نافع بالدنيا والآخرة قال تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية 20 من الطور وبمعناها الآية من سورة المؤمن والآية 141 من سورة الكهف الآتيات، ألا فلا يقنط أحد أو بيأس من رحمة الله ولو عمل ما عمل إذا تاب وأصلح ورد المظالم لأهلها، راجع ما قدمناه في الآية 70 من سورة الفرقان ج 1 وهذا من عظيم فضل الله الذي ألمعنا إليه في الآية 12 من سورة القصص وقرىء يا بشراي أي على إضافة البشرى لنفسه، أو على كونه اسم غلام عنده، وبعضهم أعاد ضمير (وَشَرَوْهُ) إلى مالك المذكور وبعض رفاقه من السيارة، أي خبأوه وجعلوه بضاعة ليبيعوه ويختصوا بثمنه دون بقية السيارة، وبعضهم فسر (شَرَوْهُ) بباعوه، وما مشبنا عليه أوفق لظاهر القرآن وأنسب للمعنى. قال تعالى «وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ» بعد وصوله إليها واسمه قطفير ويلقب بالعزيز «لِامْرَأَتِهِ» زليخا بنت يمليخا وقيل راعيل بنت رعابيل، ومقول القول «أَكْرِمِي مَثْواهُ» إقامته عندك وقدمي له أحسن الطعام والشراب واكسيه أفخر الحلل وا أمري له بألين الفراش لأن فراستي فيه عظيمة ونحن ليس لنا ولد «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» في مصالحنا أو نربح به إذا أردنا بيعه «أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» إذا تبين لنا صلاحه، وكان لا يولد لها وذلك لما رأى من سيماه وأخلاقه وما هو عليه من الحسن والأدب، قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف، وابنة شعيب في موسى،

وأبو بكر في عمر حين استخلفه على الأمة عند موته رضي الله عنه «وَكَذلِكَ» مثل ما أنجينا يوسف من القتل وأخرجناه من البئر وعطفنا عليه قلب العزيز «مَكَّنَّا» جعلنا قرارا ومكانة ومقاما عظيما كريما «لِيُوسُفَ» الصديق الصابر «فِي الْأَرْضِ» من مصر تمكينا ثابتا، وجعلنا له فيها منزلة راسخة عليه عند عزيزها حتى إنه أمر امرأته بإكرامه وعلمها بكرامته عليه دون سائر حاشيته وغرسنا حبه في قلبه وقلب زوجته حتى صار مقربا عندهما على غيره من الخدم وصارا ينظران إليه بصفة ولد «وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» بغير الرؤيا التي هي السبب في خلاصه ممّا سيبتلى به من السجن وبراءته مما يتهم به، ونملكه على مصر، إذ أن الملك سيفوضه بكل شيء ويقيمه مقامه كما سيأتي «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» الذي شاءه ليوسف عليه السلام، وهو المتولي عليه لا يكله إلى غيره حتى يبلغ منتهاه من الدارين، وهو الذي يفعل ما يشاء له ولغيره، ويفعل ما يريد لا رافع لأمره ولا راد لقضاه، ولا يغلبه غالب، وهو الذي يبلغه ما قدره له في علمه ويخلصه مما يبتلى به، وأعاد بعض المفسرين ضمير أمره إلى يوسف، ولا مندوحة فيه، لأنه غالب على أمر يوسف وغيره وكافة خلقه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 21» صنع الله في يوسف وما يراد منه أن يكون، وعلم ذلك منوط به وحده، «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ» تقدم معنى الأشد في الآية 212 من سورة القصص في ج 1 «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» يقضي به بين الناس بحسب شريعة آبائه لا بمقتضى ما يراه من ملكه لأن الأنبياء يلهمون خلقة من حين الولادة، فضلا عن أنه عليه السلام نبىء بالبئر كما مر وهو في الثامنة عشرة من عمره، وأدخل في السجن وهو أبن ثلاث وثلاثين، كما نبىء عيسى بالمهد ويحيي في السابعة من عمره، راجع الآيتين 41 من سورة مريم، و 1 من سورة طه في ج 1، فالنبوة سابقة لهذا، وما قيل إنه حين ألقي بالجب كان عمره عشر سنين ضعيف إذ يكون بقاءه في الجب ثماني سنين، ولم يقل به أحد، وقيل إن المراد بالحكم هنا الحكمة، وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل، لان العلم بدون العمل لا يعتدّ به، والعمل بخلاف العلم سفه، والمراد بالعلم هنا تأويل الرؤيا، والأولى أن يؤول الحكم

على ما جرينا عليه كما عليه أكثر المفسرين، والمراد بالعلم الفقه بالدين لأنه عليه السلام كان يرجع إليه جل أهل مصر في أمورهم، حتى إن العزيز صار يحيل من يأتي إليه ليتحاكم مع خصمه إلى يوسف لما رأى من حدة عقله وإصابة رأيه، لهذا فإن ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما إن المراد بالحكم هنا النبوة وبالعلم الشريعة وجيه أما القول برسالته فلا، لأنه أرسل بالسجن، وكذلك القول بأنه أعطي شريعة خاصة أو أنزل عليه كتاب، وهذا يقال إذا كان هناك نص صريح يستند إليه، وليس فليس، «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 22» في هذه الدنيا الصابرين على النوائب أمثال يوسف عليه السلام، وفي الآية إعلام بأنه كان محسنا في أعماله متقنا مسالك التقوى والورع في عنفوان شبابه، ومن هنا قال الحسن من أحسن عبادة الله تعالى في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله، قال تعالى «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها» خادعته ودعته لنفسها وطلبت منه أن يواقعها، والمراودة مفاعلة من راد يرود، إذا جاء وذهب «عَنْ نَفْسِهِ» الطاهرة الزكية وجيء بعن بدل من دلالة على أن السيدة زليخا زوجة العزيز نازعته في ذلك لما هو عليه من حسن الأدب والصورة، بأن صارت تطلب منه الفعل وهو يطلب الترك، كما تقول جاذبته عن كذا، لأن عن، تدل على البعد، فكأنها تجذبه لنفسها جذبا بالغا وهو يتباعد عنها تباعدا مقصودا. وهذا إعلام بكمال نزاهته وإظهار عفته، لأن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لحسنها وقربه منها مثبت لذلك، وأن استعصاءه عليها مع كونه تحت يدها يؤذن بأنه في أعلى معارج العفّة ويعلن أنه بأسنى درجات النزاهة، كيف لا وقد شرفه الله بالنبوة وزاده عليها الحكم بين الناس وتعبير الرؤيا؟ ولما رأت عدم رغبته بما طلبته ناشىء عن أمر قلبي كرهه في تنفيذ طلبها غضبت عليه، وجرته لداخل الدار «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ» عليه، واعلم أن تضعيف الفعل يدل على التكثير، أي أنه ليس بابا واحدا بل أبواب كثيرة، قالوا إنها سبعة، واحد داخل الآخر والتفتت إليه «وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» تعالى أقبل إلي، فقد هيئت لك، وهي لغة حوارن إذ ذاك، أي هلم أفعل ما آمرك به، وفيها معنى الحث على الفعل، وقيل إن هيت بالعبرانية. بمعنى تعال فعرّبت

إلى هيت لك، أو أنها في الأصل كلمة عربية وافقت العبرانية كما وافقت لغة العرب لغة الروم في القسطاس، ولغة العرب لغة الفرس بالتنور، ولغة العرب لغة الترك في الغسّاق، ولغة العرب لعة الحبشة في ناشئة الليل من باب توارد اللغات، وقد مر لك تحقيق هذا وغيره من الكلمات المقول فيها أنها أجنبية مفصلا في الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1، وقرىء هيئت لك بالهمز، أي تهيأت، وهو اسم فعل مبني على الفتح كأين، وما قيل إنها سريانية أو قبطية أقوال لا مستند لها إلا استعمالها، وإن استعمالها في اللغات الأخرى لا يدل على أنها منها دلالة قطعية، لأن اللغات متداخلة بعضها في بعض، والأحسن أن يقال عربية استعملها الغير كما أوضحناه هناك. ولما سمع عليه السلام منها ذلك ورأى عزمها عليه من حالها وتعليق الأبواب عليه ولا محل للهرب منها، صدّ عنها وولاها ظهره وصارحها بقوله «قالَ مَعاذَ اللَّهِ» اعتصم به وألجأ إليه ممّا دعوتني إليه وتريدينه مني «إِنَّهُ» زوجك العزيز «رَبِّي» ربّاني تربية حسنة وأكرمني و «أَحْسَنَ مَثْوايَ» عنده وأمرك بإكرامي، وقد عظمت منزلتي عنده وجلّ مقامي لديه وفوضني القضاء بين الناس قصدا لعلو شأني عندهم، وأنت زوجته ولك من الحق عليّ مثل ما له، فإن خنته فيك فأنا ظالم من وجهين لإقدامي على ما هو محرم وخيانتي لمن له فضل علي لأني عشت بنعمته «إِنَّهُ» أستعيذ به وألجأ إليه هو الله ربي وربك ورب العالم أجمع «لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 23» عنده ولا يفرزون بالنجاح لديه والزناة يؤوبون إليه بخسران سعادة الدنيا والآخرة. وهذا منه عليه السلام اجتناب ما وراءه اجتناب وامتناع ما بعده امتناع، لأنه قد علله من جهات أولا أنه منكر فاحش يجب أن يعاذ منه بالله ويلجأ إليه بالخلاص من قربانه لما علم بتعليم الله إياه من قبحة وسوء عاقبته، ثانيا أن زوجها سيده وقد أحسن إليه وأوصاها بإكرامه فكيف يمكن أن يسيء إليه بالخيانة، وهو سبب ظاهري ذكره لها علّه أن يؤثر فيها وتتأثر منه فتردع وتزجر نفسها مما سولت لها به، ثالثا أن من يفعل هذا الفعل الخبيث يكون ظالما محروم الظفر بالبغية الطيبة والسعادة ورفاه العيش في الدنيا والآخرة. وأن إجابة طلبها في غاية الخسة ونهاية الرذالة تجاه من يتعاهده بالخير ويعطف عليه، وكل هذا

مطلب خلاصة القول بالهم وبطلان أقوال من قال به والشهادات على براءة يوسف عليه السلام:

لم يؤثر فيها لما داخل قلبها من حبه، فأدركته وأقبلت عليه وحرّضته وحذّرته، فلم يفعل وأكد لها إعراضه، ووعظها بما أوتيه من فصاحة في اللفظ وبلاغة في المعنى وشدة في الخطاب، وهي عن ذلك بمعزل، فرمت نفسها إليه وعكفت بكلها عليه وهذا مغزى قوله تعالى «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» عزمت عزما شديدا عليه إلّا أن يفعل وقربت نفسها منه، وهو يدافعها ولم ينجع بها الوعظ ولا غيره، إذ لم يبق عندها المزجر مسمع ولا للتحذير من سوء العاقبة مطمع، وهنا يحسن الوقف ثم الابتداء بقوله تعالى «وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» وهو النبوة الجليلة، فلولاها ولولا حصول العصمة بها شأن كل نبي لهمّ بها وقاربها، مثل الهم والقربان الله الذي فعلتهما هي، ولكن عهد إليه بالنبوة حال دون ذلك. وقال السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنسوب إلى محمد عبده: أرادت قتله حين امتنع من إجابة طلبها وهو أراد قتلها ليتخلص مما دعته إليه، ولكن القتل أمر عظيم حال دونه مقام النبوة التي تتباعد عن كل مخالفة لما نهى الله. وهو رأي جيد إلا أنه لم يقل به أحد من المفسرين، مع أن الهم قد يأتي بمعنى القتل. مطلب خلاصة القول بالهم وبطلان أقوال من قال به والشهادات على براءة يوسف عليه السلام: هذا وكان الهم منه هم الطباع مع الامتناع لا كهمها هي الذي هو هم السباع المقصود منه إجراء الفعل، ولو كان كذلك وحاشاه من ذلك لما مدحه الله عليه بآخر هذه الآية بقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وقيل إنه قصدها بخاطره قصدا غير مختار، وهو من دواعي القلب ولا صنع للعبد فيما يخطر في قلبه، ولا مؤاخذة عليه بل يثاب عليه ويكتب له به حسنات كثيرة، ومن سماء ذنبا فهو بالنسبة لمقامه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإلا فالهم الحقيقي منتف في حقه عليه السلام بنص قوله تعالى (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) وفيه كفاية، ويفهم مما تقدم أن هم النفس لا يؤاخذ عليه البشر مطلقا كما بيناه في الآية 84 من القصص في ج 1، وله صلة في الآية 254 من البقرة في ج 3، وقال إذا وطنت النفس على الهم فهو سيئة وإلا فلا، والقول الحق إن مطلق الهم لم يقع منه، ولم يجل بخاطره، ولم تحدثه

به نفسه البتة، وحاشا أن تتوطن نفس السيد يوسف على مثل ذلك الهم، وأنى لها ذلك وهي مقدسة في جسد طاهر شريف عصمه الله تعالى من كل شائبة. ومن هنا تعلم سخافة قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيدها وجمع بينهما، وأنى للشيطان من مقاربة من تكفل الله بعصمته بقوله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الآية 43 من سورة الحجر الآتية، وقال تعالى حكاية عن إبليس (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية 41 منها أيضا، وشناعة قول القائل إنه عليه السلام وحاشاه جلس منها مجلس الخائن، وقباحة قول الآخر بأنه حل سراويله وصار يعالج ثيابه، كأن هذين الخبيثين كانا ثالثهما والشيطان حاضرين معهما، قاتلهم الله، وكذب من قال أن البرهان المذكور في الآية هو أنه لما أراد مقاربتها رأى كفا مكتوبا عليه (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) الآية 10 فما بعدها من سورة الانفطار الآتية التي كانت في علم الله الأزلي الذي لم يطلع عليه أحد غيره، ولم يعلم بها جبريل مع قربه من ربه، لأنه لا يعلم ما في القرآن، وحتى القرآن لا يعلم ما هو إلا بعد نزوله ووضعه في بيت العزة، فمن أين يا ترى رأوا ذلك الكف فإن كان كما يقول فهو كاذب، وإن كان غيره فلا صحة له. قال فلما رأى ذلك ولى هاربا ثم عاد فرأى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) الآية 32 من الإسراء المارة في ج 1، قال فلم ينجع به، ثم رأى الآية 284 من سورة البقرة في ج 3 وهي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) على ذلك الكف أيضا، ثم انفرج سقف البيت فرأى يعقوب عاضّا على إصبعه يقول له أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء، وأن جبريل ضربه بصدر الذي فخرجت شهوته من أنامله، وأقوال أخر يأبى القلم كتابتها ويندى الجبين من ذكرها، ويستحي الجاهل من سماعها فضلا عن قبولها، وباليته استشهد بشيء مما نزل على إبراهيم فمن قبله من الأنبياء، لأن هذه الآيات بلفظها نزلت في القرآن العظيم بعد يوسف بقرون كثيرة، واختلاق القائل أقاله الله من رحمته بأنه حل سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية وأنه سمع صوتا يقول إياك وإياها مرتين، وصوتا ثالثا اعرض عنها، فلم ينجع به، فهذه كلها أقوال واهية باطلة منكرة لا نصيب لها من الصحة،

ونسبة بعضها إلى ابن عباس وغيره من خيار الناس افتراء محض وافك خالص وبهت مختلق وكذب مدبر، وحاشاهم من هذه التهم التي لا تقع من أدنى الناس، وقد ألصقها بهم من لا خلاق له في الآخرة، قصد توجيه أنظار الناس إليها للأخذ بها والتصدي لكرامة الأنبياء المعصومين من النقائص المادية والمعنوية، قاتل الله الأفاكين المنافقين، فانظر أيها العاقل حماك الله أن هذه الآيات التي يزعمونها ظهرت إلى السيد يوسف عليه السلام، ولم يرتدع بها لو وقعت لأكبر زنديق وأفسق فاسق وأشقى شقي وأفجر فاجر وأدنى دنيء وأعصى العصاة وأعتى العتاة وأبغى البغاة وأطغى الطغاة لا نكف عن ذلك الفعل، فكيف يتصور أن يتصور رؤية ذلك كله من قبل السيد يوسف ولم يرتدع وهو نبي الله معصوم بعصمته محفوظ بوقايته؟! واعلم أن مما يفتد هذه الأقوال ويكذبها عدم إسنادها لنقل صحيح أو نص صريح من آية أو حديث. وهاك الشهادات الواقعة ببراءته عليه السلام من الآيات: أولا شهادة المرأة نفسها كما حكى الله تعالى عنها بقوله (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقوله تعالى (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي في قوله بريء مما عزي إليه. وثانيا شهادة زوجها فيما حكى الله عنه في قوله (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر لا تتكلم به ولا تحدث أحدا فيه، فإني عالم ببراءتك. ثم نظر إليها بغضب وقال (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) بادعائك على يوسف وإسنادك الفعل إليه. ثالثا شهادة الولد كما حكى الله عنه بقوله (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) إلخ (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) . رابعا شهادة يوسف عليه السلام بقوله كما ذكر الله عنه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وهو لا ينطق عن هوى لاعتصامه بالنبوة الكاملة المبرأة من كل عيب، وقوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) . خامسا شهادة الله تعالى ذاته بقوله عز قوله (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ومن أصدق من الله قيلا، ومن أصدق من الله حديثا، فتنبه رعاك الله، أبعد هذه الشهادات القاطعة يجترىء أحد على مس كرامته عليه السلام، إلا من

أعمى الله بصره وأعمه بصيرته، ومن ناصب العداء لأولياء الله؟ هذا، أما ما حكاه الله عنه في قوله (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي ما أبرىء نفسي من مجرّد الهم النفسي ليس إلّا، على أنه يحتمل أن لا يكون هم نفسي أصلا، وإنما قال ما قال على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لقولها. أما عدم ضربها لدفعها عما همّت به كما يقول بعض المنهوكين فهو لحكمة أرادها الله، ولأنه أوّلا لا يجسر عليها لأنها سيدته بحسب الظاهر وهو تحت تربيتها ونعمتها وإسارتها أيضا، لأن سيدها اشتراه كالعبد، ثانيا لأنه لو ضربها لتسببت في قتله وادعت أنه ضربها لعدم انقيادها له، ثالثا لو دافعها فعلا باليد لمزقت ثيابه من قدام فيكون دللا على اقدامه بخلاف تمزيق ثيابه من خلف لأنه دليل على هروبه وتوليه عنها وتعلقها به مع نفوره منها. هذا، ومن قال إن البرهان هو الآيات التي رآها ورؤيته إباه على الصورة المذكورة، أو أنه صنمها الذي قامت إليه وسترته لئلا يطلع عليها وغير ذلك مما بمجّه القلب، فقد مال عن الحق وتاه عن الرشد وضل الطريق القويم وعدل عن الصراط المستقيم وما البرهان إلا ما ذكرناه وهو مقام النبوة الشريفة التي هي حجة الله وبرهانه، وآيته في تحريم الزنى، والعلم بما يستحقه الزاني من العقاب الدنيوي والأخروي. قالوا وحينما أدخلته الدار الداخلة ضمن دور سبعة وهو لا يعلم ماذا تريد به منه وإنما طاوعها على الدخول لأنه منقاد لأمرها كسائر الخدم، إذ لا يستطيع أحد أن يخالف أمرها، ولما رأى أنها غلّقت الأبواب أي ردتها دون ان تنفلها بالغال ليتم مراد الله بطهارة السيد يوسف، وكلفته بالفعل، امتنع ونفر إلى الباب الأول فنفذ منه، فتبعته فهرب إلى الثاني، وهكذا هو يهرب وهي تتابعه وتجذبه لجانبها وهو يزداد نفورا، حتى خرجا إلى صحن الدار، وكان ما كان عند باب الدار كما سيأتي. هذا وإن نفوس الأنبياء مطهرة من كل خلق ذميم وفعل رذيل وسوء أدب، ومجبولة على الأخلاق الطاهرة والآداب السامية والأفعال المقدسة والأقوال العالية، وبعض هذا يحجزهم عن فعل ما لا يليق، بل عن قربانه، فظهر من هذا ان كل ما نقل عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهم أو عن غيرهما من أعلام الإسلام بهت صرف لا ظل له من الحقيقة، وحاشاهم أن يقدموا على أقوال هكذا، ولا سيما

بحق خلص عباد الله تعالى، ولا قصد لهؤلاء اللاصقين هذه الأقوال بهم إلا تقوية حججهم ليأخذ الناس بها، لأنها منسوبة إلى أولئك الأعلام، فينقلونها للخاص والعام كي يصدقوها، ولكن من عنده لمعة من عقل أو ذرة من دين يأنف سماعها فضلا عن نقلها، والقول بها هذا. واعلم أن الهم نوعان هم ثابت مع عزم وقصد وعقيدة ورضى مثل هم امرأة العزيز، ومثل هم عمرو بن صابىء الرجمي في قوله: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله فهذا النوع يؤاخذ به العبد، ولهذا لمّا أقرّ قائل هذا البيت به أمام الحجاج قتله، وقتله له افراط وتفريط كسائر أفعاله، عليه ما يستحق من الله، لأن مجرد قول هذا البيت لا يستوجب القتل بل التأديب، وهمّ عارض وهو ما يخطر بالقلب أو تحدث به النفس من غير اختيار ولا عزم ولا نية ولا رضى ولا عقيدة كهمّ يوسف عليه السلام، فالعبد ليس مؤاخذ به ما لم يتكلم أو يعمل، يؤيد هذا ما روي عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة ولم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له عشرا. هذا لفظ مسلم، وللبخاري بمعناه، على أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم البتّة كما مشينا عليه من تفسير الآية، ولأن الله تعالى لم يحك عنه شيئا كما حكى عن آدم عليه السلام في قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية 23 من سورة البقرة ج 3، وعن داود عليه السلام في قوله (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) الآية 24 من سورة ص في ج 1، وعن موسى عليه السلام في قوله (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) الآية 26 من القصص المارة في ج 1، وعن سليمان عليه السلام في قوله (رَبِّ اغْفِرْ لِي) الآية 26 من سورة ص أيضا، إلى آخر ما جاء عنهم عليهم السلام كنوح وذي النون وغيرهم، فيظهر من هذا أنه براء مما نسب إليه من الهم المطلق لأنه لو وقع منه لأتبعه بالتوبة والاستغفار كإخوانه الأنبياء عليهم السلام، ومن هنا يعلم عدم صدور شيء منه البتة، وما قيل إن هذه الحادثة قبل نبوته مردود لما تقدم أن الله تبارك وتعالى نبأه في البئر، وينافيه سياق الآية، وسياق إتيانه النبوة على هذه الحادثة يرده أيضا، وإن

مطلب في لولا والسبب في نقل ما فيه وهم يوسف عليه السلام والأحاديث الموضوعة:

ما جرينا عليه مأخوذ من أقوال السلف الصالح كجعفر الصادق وغيره من كبار المحققين، والآية على حد قوله تعالى (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) الآية 10 من القصص المارة في ج 1، وعلى هذا يكون معنى الآية لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها واللام ليست بواجبة في جواب لولا إذا كانت بصيغة الماضي كما هنا، فيأتي باللام وبدونها يقال لولا زيد لأكرمتك، فحيث وجد البرهان انتفى الهم، كما أن وجود زيد في المثالين ينفي الإكرام. مطلب في لولا والسبب في نقل ما فيه وهم يوسف عليه السلام والأحاديث الموضوعة: ولولا حرف امتناع لوجود، تقول لولا علي لهلك عمر، ولولا عصمة الله لقارفت الذنب، أي امتنعت مقارفة الذنب لوجود العصمة. وهنا امتنع الهم المزعوم لوجود البرهان، قال السيد محمود الآلوسي رحمه الله في تفسيره روح البيان بعد الأخذ والرد: نقول للجهلة الذين نسبوا تلك الفعلة الشنيعة إلى يوسف عليه السلام إن كانوا من اتباع الله فليقبلوا شهادته على طهارته- يريد بعض ما ذكرنا من الشهادات الخمس التي ذكرناها آنفا- وإن كانوا من اتباع إبليس فليقبلوا شهادته، يريد ما ذكرناه أيضا، وقوله (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وإذا كان هؤلاء السفلة زادوا على إبليس كما قال الحريري: وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي فذاك أمر آخر، فعلم مما مرّ أن ما نقله الواحدي واضرابه من هذه الشبهات الشائنة والشوائب السافلة مصدره القصص والحكايات وكتب أهل الكتاب المحرّفة، أما الصحيح منها فمبرا من ذلك، وقد تصلّف بعض القائلين لهذه الأقوال فقال إن ما ذكرناه نقلناه عن الذين أخذوا التأويل ممن شاهدوا التنزيل، وهو لعمري غير صحيح، وإنما هو من قال وقيل، وان بعض المفسرين الذين اغتروا بما وجدوه من تلك الأقوال الواهية المدونة في كتب غير معتبرة ونقلوها كما وجدوها، ولم ينظروا إلى الأقوال الواردة في تفنيدها، ولم يلقوا لها بالا، كما وقع للإمام

السيوطي وبعض علماء الحديث إذ نقلوا أحاديث موضوعة لا أصل لها وأثبتوها في كتبهم بناء على سلامة طويتهم وظنهم أن أحدا لا يختار الكذب على حضرة الرسول كما ظن آدم عليه السلام أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، فصدق إبليس في قسمه كما حكى الله عنه في قوله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الآية 21 من الأعراف المارة في ج 1، ومن هذا القبيل الإمام البيضاوي رحمه الله مع جلالة قدره نقل مائة وأربعة عشر حديثا وأثبتها في أواخر سور القرآن من تفسيره، مع أنها جلها موضوعة، ولا يقال لمثله إنه جاهل بمعرفة الأحاديث، ولكنه نقلها كما رآها عن حسن نية، تجاوز الله عنه وسامحه، وهو نقلها تبعا للثعلبي، وكذلك مفتي الثقلين أبو السعود وجار الله الزمخشري ذكراها على ما هما عليه من العلم الواسع والفضل العميم، وهي في الحقيقة من وضع بعض المتعبدين الجملة الذين يزعمون أن في ذلك قربة، مع أنها فرية عظيمة جرت على ألسنة العوام وتداولوها بينهم حتى الآن، ويسندونها بأقوالهم لحضرة الرسول وهو منها براء، راجع بحث الحديث الموضوع في حاشية لقط الدرر على متن نخبة الفكر للإمام ابن حجر رحمه الله تجد ملاك هذا البحث بما يقنعك أنها مكذوبة على حضرة الرسول ولا يجوز نقلها، تدبر. قال تعالى معلنا براءة يوسف عليه السلام والثناء عليه بموقفه الذي وقفه أمام سيدته بقوله عز قوله «كَذلِكَ» مثل هذا التثبت ثبتناه حتى عن الهمّ بالسّوء «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ» أي جنسه وحقيقته بما يشمل الخيانة وغيرها «وَالْفَحْشاءَ» اي الزنى القبيح نصرفه عنه أيضا «إِنَّهُ» السيد يوسف عبدنا ونبينا «مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ 24» الذين اخترناهم لعبادتنا وخلافتنا في أرضنا، وفي هذه الجملة معنى التعليل أي صرفنا عنه ذلك لكونه من خلص عبادنا. هذا على القراء بفتح اللام وعلى كسرها يكون معناه الذين أخلصوا لنا فأطاعونا كما أردنا فحفظناهم مما لا نريد وعصمناهم مما يشين، وفي هذه الآية عند من له لب أو ألقى السمع للحق ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل بها من سلطان، ولم يقل بها أحد من أهل الشان، وأن ما زعموه من إلصاقها ببعض الرجال زور وخال عن البرهان، وما لهم عليه من بيان، اللهم إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس، راجع الآية 22

من سورة والنجم في ج 1، ومما يؤذن في براءته قوله جل قوله «وَاسْتَبَقَا الْبابَ» هو هربا منها وخلاصا مما تريده، وهي لحاقا به وطلبا له لئلا يفلت من يدها وتفلس مما أرادته عليه، فأدركته فأمسكت قميصه من الخلف وجذبته بشدة لئلا يخرج من الباب وهو جبذ نفسه إلى الأمام ليخرج منه، فلو كان هناك بعض الهم لما وقع منه هذا «وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ» بسبب تلك المجاذبة القوية لأن كلّا منهما بذل غاية قوته فيها، فاجتماع القوتين سبب القدّ، إذ لو تراخى أحدهما لما وقع، وهناك في هذه الحالة صادقا «وَأَلْفَيا سَيِّدَها» أي زوجها لأن العادة في ذلك الزمن تدعو الزوجة زوجها بسيدها، وأهل دمشق الأول كانوا كذلك، وحتى الآن لهم بقية تسمي الزوج سيدا، ولم يقل تعالى سيدهما لأن يوسف عليه السلام لم يكن مملوكا حقيقة للعزيز، لأنه حرّ لا يملك فضلا عن أنه نبي كريم «لَدَى الْبابِ» رأياه مقبلا نحوه يباشر فتحه ليدخل، وهذه صدقة لم تتوقعها زليخا وإنها كما غفلت عن تسكير الأبواب على يوسف بالغال غفلت عن إغلاق باب الدار، فهابت زوجها وخافت التهمة، واحتالت لتبرىء ساحتها عنده، وسبقت يوسف بالكلام «قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً» تريد زنى، ثم أنها لشدة حبها بيوسف خافت عليه أن يقتله زوجها لهذه التهمة وتحرم مما هي طامعة فيه منه ومؤملة صدوره ولو بعد حين، فبادرت زوجها قبل أن يتكلم وقالت ليس جزاؤه القتل إذ لم يقع منه فعل ولا جزاء له على المراودة «إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ 25» بأن يضرب ضربا مبرّحا ولم تذكر اسم يوسف بذلك، بل قصدت العموم أي كل من أراد ذلك بأهلك حقه أن يفعل به هكذا، لأنه أبلغ فيما قصدت من تخويفه طعما في أن يوافقها على ما تريده منه ولم تقدر أن تستخدم كلامها بأكثر من ذلك لحراجة الموقف، وإلا فهي لا تريد أن تصم يوسف بشيء أصلا لأنها لم تقطع أملها منه «قال يوسف عليه السلام مدافعا عن نفسه لأنها وصمته أولا، ولو سكتت لما كشف أمرها، ولكنها لما قالت ما قالت ولطخت عرضه بمواجهة سيدها وهو بريء فاضطر إلى إزالة التهمة عنه ولم يثنه الخوف فخاطب سيدها بما ذكر الله عنه قال «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي»

مطلب من تكلم في المهد وكيد النساء والحذر من مخالطتهن:

وأنا لم أرد بها سوءا فالحت علي فأبيت وضايقتني بتغليق الأبواب، فهربت فلحقتني واجتذبتني من الوراء وجذبت نفسي إلى الامام للتخلص منها فأخرج إلى الطريق فقدّ قميصي بسبب تجاذب القوتين كما ترى، فأمعن نظره في كلامها فلم يعرف أيهما أصدق بسائق الميل إلى زوجته، وهناك جاء ابن عم زوجته. مطلب من تكلم في المهد وكيد النساء والحذر من مخالطتهن: قالوا وكان رجلا حكيما وهو المعني بقوله تعالى «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» وقيل إنه ابن خالها أو أختها وعلى كل فالمراد به أنه رجل كبير ذو رأي سديد وهناك قول آخر مشى عليه أكثر المفسرين بأنه طفل في المهد من أقاربها استدلالا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تكلم في المهد أربعة وهم صغار ابن ماشطة ابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم. قال الطيبي وهذا الحديث ذكره البغوي بلا سند، فلا يعتمد عليه، ومما يؤيد عدم اعتماده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم وصاحب جريح وصي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الصبي الثدي وقال اللهم لا تجعلني مثله، وردّه الجلال السيوطي فقال هذا منه أي من الطيي على جاري عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح على شرط الشيخين، أخرجه أحمد في مسنده، وابن حيان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه من حديث بن عباس، ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط الشيخين، وفي حديث الصحيحين المشار إليه آنفا زيادة على الأربعة وهي الصبي الذي يرضع من أمه المذكور فصاروا خمسة، وهم أكثر من ذلك، ففي صحيح مسلم رحمه الله تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود كما تقدم في سورة البروج في ج 1، وفي الآية 13 فما بعدها من سورة ص في ج 1 أيضا، وقد جمع الألوسي من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر صبيا وبينهم بقوله: تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم

ومبري جريح ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم وما شطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم وقيل إن الطيبي لم يرد الطعن بالحديث المذكور وإنما أراد أن يبين الحديث الدال على الحصر وغيره تعارضا يحتاج إلى التوفيق والله أعلم. وما قيل إن الشاهد هو القميص المقدود ليس بشيء كما لا يخفى، وقد جعل الله تعالى الشاهد من أهلها على كلا القولين أي كبيرا كان أو صغيرا ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها، فإذا كان كبيرا تكون شهادته بمثابة الحكم أي حكم حاكم من أهلها، وإذا كان صغيرا وقد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع لأن شهادة الصبي حجة قاطعة لا فرق فيها بين أن يكون قريبا أو بعيدا، وسمي شاهدا لأنه أدى كلامه جهرا لدى الطرفين تأدية الشاهد شهادته لدى الحاكم، ولأنه دل على الشاهد الحسي وهو تمزيق القميص المذكور في قوله تعالى «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ 26» فيما دافع به عن نفسه وهي صادقة بدعواها «وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ 27» في دفاعه وهي كاذبة في دعواها وظاهر الحال يؤيده إذ لا يعقل شق القميص من الوراء من قبل الطالب، وهذه الآية تشير إلى أن الشاهد كان طفلا لأنه لو كان كبيرا وكان معهم على الباب فلا بدّ وأن يطلع على التّمزيق هل هو من أمام أو من خلف، ولم يسأل عن شق القميص، فلو قال القائل بهذا إنه جاء بعد العزيز وأن العزيز حكى له الحالة دون أن يطلع على القميص وأنه حكم بما حكم له بحالة لم يشاهد معها شيئا من ذلك، لكان أقبل للأخذ به. هذا وبعد أن سمع العزيز كلام الشاهد نظر زوجها إليه وعاينه قال تعالى «فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أيها الماكرات المحتالات «إِنَّ كَيْدَكُنَّ» أيتها النساء «عَظِيمٌ 28» جدا يعجز عنه الرجال جانحا بهذا إلى تصديق شهادة الشاهد المكذبة لا دعاء زوجته والمحققة صدق دفاع يوسف، وقد خاطبها بلفظ عام بمقابلة خطابها له به إذ قالت

(ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ، وتنبيها إلى أن الكيد خلق لهن عريق، والمكر من شأنهن قديم، والحيل من عاداتهن والخداع دأبهن، والفتنة من ديدنهن، قال أبو تمام: ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها ... سجيّة نفس كل غانية هند وإنما وصف الله كيدهن بالعظم أشدّ تأثيرا في النفس ولأنه منهن يورث العار بخلاف صدور لكونه من الرجال، ولربات القصور منهن القدح المعلّى لأنهن أكثر تفرغا من غيرهنّ، ولأن أحدا لا يجسر على فضيحتهن غالبا. هذا ولعظم كيد النساء اتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغوائه، ففي الخبر ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء، وفي خبر آخر: اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن إبليس طلاع رصاد وما بشيء من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء بالنساء، قال بعض العلماء إن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهنن به. وقال آخر أنا أخاف من النساء أكثر من الشيطان لقوله تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الآية 75 من سورة النساء في ج 3. وقال هنا (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وجاء في الحديث: اطلعت إلى النار فوجدت أكثر أهلها النساء إلخ يكفرن العشير. وجاء، النساء حبائل الشيطان. وقال عليه السلام: لا تطلعوا النساء على حال، ولا تأمنوهن على مال، ولا تذروهن إلا لتدبير العيال، إن تركن وما يردن أوردن المهالك، وأفسدن الممالك، ينسين الخير، ويحفظن الشر، يتهافتن بالبهتان، ويتمادين في الطغيان. وقال سليمان عليه السلام امش وراء الأسد ولا تمش وراء المرأة. وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحادثة المرأة فإنه لا يخلو رجل بامرأة ليس لها محرم إلا هم بها. وقال علي كرم الله وجهه: إياك ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن (ضعف ونقص) وغرمهن إلى وهن (ضعف في الأمر والعمل والبدن) اكفف أبصارهن بالحجاب، فإن شدة الحجاب خير لهن من الارتياب، وليس خروجهن بأضرّ من دخول من لا يوثق به عليهن، فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل، ويأتي الأفن بمعنى الأحمق ضعيف الرأي قليل التدبير، والوهن الضعف والفتور. وقال أبو بكر رضي الله عنه: ذل من أسند أمره إلى امرأة. وقال عمر رضي

الله عنه: أكثروا لهن من قول لا، فإن نعم تغريهن على المسألة وقال استعيذوا بالله من شر النساء وكونوا من خيارهن على حذر. وجاء في حكمة داود عليه السلام وجدت في الرجال واحدا بألف ولم أجد واحدة في جمع النساء. وقال الحكماء لا تثق بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثر. وقال النخعي من اقتراب الساعة طاعة النساء، ويقال من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه، وقال بعض الحكماء: إياك ومخالطة النساء فإن لحظات المرأة سهم ولفظها مهم. وورد: ما اختلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان رسولها إليه ورسوله إليها وللنساء حيل في إتمام مرادهن لا يقدر على بعضه عظام الرجال، فالمرأة إذا أحبتك أكلتك، وإذا أبغضتك أهلكتك، وهي الشر كله فاتقها بكلك. ثم التفت العزيز إلى يوسف وقال يا «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» الذي وقع لك مع سيّدتك لا تذكره واطو حديثه، والتفت إليها وقال توبي «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ» اقترفتيه مضاعفا بتهمتك غلامك من إرادة السوء الذي أنت مصدره، واندمي على تعديك عليه بما رميته به «إِنَّكِ كُنْتِ» بعملك هذا «مِنَ الْخاطِئِينَ 29» لخيانتك زوجك والبهت على غلامك، ولم يقل الخاطئات تغليبا للرجال على النساء. واعلم أن الحكم الماهر بجملته تلك التي حكم بها قد عرف زوجها منها خيانتها من وجوه: لأن يوسف مملوك عندهم والمملوك لا يتجاسر على سيدته، ولأنه شاهدهما هو هارب وهي طالبة والطالب لا يهرب، ولأنه رآها مزينة بأكمل الزينة ويوسف بدرعه لا غير، ولم ير عليه شيئا من علائم الرغبة، بل عليه علامة الرهبة منها والخوف من الله، ولأنه خبره في هذه المدة الطويلة خمس عشرة سنة ووقف على حاله وكمال أدبه وأحاسن أخلاقه وحيائه وخجله وعدم اطلاعه على حالة تناسب إقدامه على مثل تلك الحالة، وقد أيد عدم رغبته قد قميصه من دبر، ولذلك ألصق التهمة فيها، هو وابن عمه على القول بأنه هو الشاهد وبرأه مما عزي إليه، وإذا كان الشاهد صغيرا وهو ما يركن إليه الضمير فإن براءته قطعية لا ظن فيها، لأنها من الله معجزة له عليه السلام، والله خير الشاهدين، وبما أن الله تعالى لم يبين لنا هذا الشاهد فقد جمعنا بين أقوال المفسرين في هذا الشأن ووكلنا العلم إلى الله، وإنما ملنا إلى القول الثاني لأن الشاهد الكبير ابن عم زوجها والصغير ابن خالها أو أختها، والله تعالى يقول من أهلها، تدبر.

مطلب أقسام الخطأ ومراتب الحب ومعنى الفتى والمتكأ والإكبار:

مطلب أقسام الخطأ ومراتب الحب ومعنى الفتى والمتكأ والإكبار: واعلم أن الخطأ ثلاثة أقسام: الأول أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله وهذا الخطأ التام المأخوذ به، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا أصاب في الإرادة وأخطأ بالعمل، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم من اجتهد فأخطأ فله أجر، والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ بالإرادة مصيب بالفعل. وما نحن فيه راجع إلى الأول. قالوا وكان العزيز مع حلمه قليل الغيرة فقد اقتصر على هذا القول وكان عليه بعد أن قنع بخطأ زوجته أن يفعل بها ما يفعل غيره بمثلها من أهل المروءة والشرف، وقد جاء في البحر أن تربة إقليم العزيز أي في زمنه اقتضت ذلك ولكونه وثنيا لا يعبأ به، وأين هذا مما جرى لبعض الملوك في المغرب، وذلك أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجاريته تغتيهم من وراء ستار، فاستعاد بعض خلصائه ببيتين من الجارية كانت غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في دست، وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس فأسقط في يده ومرض مدة حياته. ولهذا فإن المصريين تركوا المدينة التي كان فيها العزيز وشيدوا غيرها وسكنوا فيها لما هم عليه من المروءة والشهامة والغيرة، قالوا وشاع الكلام بين خدم القصر وانتقل لغيرهم كما قال الشاعر: وكل سرّ جاوز الاثنين شاع. قال تعالى «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ» جماعة من النساء لما سمعن الخبر من امرأة الساقي والخباز وامرأة صاحب الدواب وصاحب السجن والحاجب وغيرهن من ملازمي القصر اللاتي أشعن الخبر للنساء اللاتي اتصلن بهن من أهل المدينة، قيل هي الأقصر أو عين الشمس أو غيرهما في ذلك الزمن، وسرى الخبر لأشراف النساء من صنف امرأة العزيز وصرن يتحدثن به بكون «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا» علقها حبه والشغاف جارة معلقة بالقلب تسمى غلافه ولسانه، يعني أن حبها دخل هذه الجلدة ووصل إلى القلب فأحاط به، فصارت مغرمة به لا تعقل شيئا سواه، وقيل الشغاف سويداء القلب، وقال الحسن باطنه، وقرىء شعفها بالعين أي حرق فؤادها حبه وعليه قول الأعشى:

[سورة يوسف (12) : الآيات 31 إلى 40]

يعصي الوشاة وكان الحب آونة ... مما يزيّن للمشعوف ما صنعا وقال بعضهم الشعف الجنون ويأتي الشعف بمعنى البغض وليس مرادا هنا، وللحب مراتب أولها الهوى ثم العلاقة وهي الحب الملازم للقلب، ثم الكلف وهو شدة الحب، ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب، ثم الشغف وهو احتراق القلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج ثم الشعف بالعين وهو كذلك أيضا، وزيد فيه أن يبلغ الحب شفاف القلب فيخترقه إلى الفؤاد، ثم الجوى وهو الهوى الباطن، ثم اليتم وهو أن يستعبده الحب، ثم النّيل وهو أن يسقمه الحب بأن ينال من قواه فيهلكها، ثم التوله وهو ذهاب العقل من الحب، ثم الهيوم وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه فلا يدري أين هو، ولهذا قالوا الهاثم لا يقصر الصلاة لأنه لا جهة له معينة ولا مدة معلومة، قال ابن الفارض: هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل الأبيات، إلى أن قال: فأوله سقم وآخره قتل. راجع هذه القصيدة فقيها ما تريده من معاني الحب وأنواعه ومباديه ونتائجه. وجاء في الآية تراود بالمضارع مع أن المراودة انقطعت والمقام يناسبه الماضي دلالة على دوام المراودة كأنها بقيت مستمرة حتى صارت سجية لها، وهو كذلك، والله أعلم بما في القلوب. والفتى الطري من الشباب والسخي والكريم، ويطلق على المملوك والخادم، رجاء في الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي. ويطلق على الشهم ذي المروءة، وأطلق على يوسف لأنه جامع لهذه الصفات كلها، وإنما عبروا عنه بلفظ فتى مبالغة باللوم عليها، لأن التي لها زوج عظيم مثل زليخا لا يليق بها أن تراود غيره ممن هو دونه في زعمهنّ، لأنه كان يخدمها وليس بينه وبينها كفاءة، يرون أن جنوحها إلى عبدها في غاية الغي ونهاية الضلال، لذلك قلن كما ذكر الله عز ذكره «إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 30 في إقدامها على ذلك وخيانتها لزوجها الرجل الجليل بمراودتها خادمها، وذلك من الخسة بمكان، قالوا هذا لأنهن لم يعلمن أنه أشرف من على وجه الأرض في زمنه. قال تعالى «فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ» قولهن واغتيابهن لها وسمته مكرا لشبهه له في الإخفاء عنها، لأنهن لم يصارحنها به

لما بلغهن عن يوسف وأردن بقولهنّ هذا اغضابها تعمدا كي تريهن يوسف لما بلغهن من جماله وكماله حيلة منهن لهذه الغاية، ولذلك «أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ» كي تريهنّ إياه فتقطعن اللوم عنها، وقد عرفت ذلك لأنها تعرف من أمرها ما تعرفه من أمر غيرها عند ما تراه «وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً» أترجا هو نوع من البرتقال، وما قيل إنه تفاح ينفيه قوله تعالى «وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً» لأن التفاح يغسل ويؤكل بقشره لما فيه من النفع الذي لا يوجد بلبّه، والأترج لا يؤكل قشره لأنه مفصول عنه وليس من لونه وطعمه، وهكذا جعل الله تعالى كل قشر لا يؤكل مع اللب مفصول عنه كالموز والرمان وأنواع البرتقال والجوز واللوز والفستق والبندق وأنواعه وما شابهه، وإنما قلنا يغسل لأن القشر قد يحمل جراثيم كثيرة تعرضه الذرات الممتزجة بالهواء والسّم الذي فيه وهي لا تخلو من ضرر للوجود الذي أوجب الله تعالى عليه محافظته، وقد جاء في الخبر: من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه، وجاء في خبر آخر: اتقوا الغبار فإن فيه النسمة وهي ما يعبرون عنها ب (الميكروب) وبما أن قشور الفواكه لا يخلو من التراب وهو قد لا يخلو من النسم فقد اعتادوا تقشيرها زيادة في الترف ووقاية من الضرر، وإذا كان قشر الفاكهة أو الخضرة المتصل بها مخالفا للبّها في اللون أو الطعم كالبطيخ الأخضر والخيار وما يشبههما فإن شاء قشره وإن شاء أكله بقشره لأنه غالبا لا يكون بينه وبين لبه مباينة في الطعم تمنع من الأكل كالباذنجان والقرع والقثاء والعجور وما ضاهى ذلك، وإذا لم يكن عاسيا فطبخه وأكله مع لبه أحسن فائدة للوجود، والبطيخ الأصفر يؤكل بقشره أيضا ويجوز بغيره للمترفين إذ يأكله خدمهم وأنعامهم، روي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لم يأكل البطيخ الأصفر إذ لم يبلغه أن حضرة الرسول أكله بقشره أو بغير قشره، لأنه غالبا يكون قشره من لونه وطعمه وليعلم أن تقشير التفاح والإجاص والخوخ والكمثرى والمشمش وما شاكلها يكون من البطر وازدراء النعمة وإظهار العظمة، وقد يكون كسلا عن القيام بغسله غسلا جيدا. هذا وإنما أتتهم بالسكاكين لأنهن مترفات لينات البنان لا يقدرن أن يزلن القشر بأيديهن، وما قيل إن المتكأ هنا كناية عما يتكأ عليه من النمارق والوسائد

يرده الإتيان بالسكاكين لعدم الحاجة إليها فيه، وقال بعضهم إنه نفس الأكل إذ يقال اتكأنا عند فلان، أي أكلنا عنده، وعليه قول جميل: فظلنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله وعلى هذا فقد اختلف في نوعه هل كان لحما أو ورقا ملفوفا بجبين أو بلحم أو بلوز، وشبهه من الحلويات التي تقص بالسكين وتؤكل بالشوكة، ولكن الأول أولى وأليق بالمقام، لأن ما يقدم للزائرين عادة فاكهة أو حلو مقطع ناسف لا طعام. ثم تركنهن حتى باشرن بتقشيره وأشغلتهن به وكانت قد ألبست يوسف عليه السلام من الديباج الأبيض، لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض صيفا والسواد شتاء كما قيل: إذا لبس البياض حسبت بدرا ... وإن ليس السواد سبى العبادا والتفتت إليه بما يتنبهن له «وَقالَتِ اخْرُجْ» للسلام «عَلَيْهِنَّ» فخرج، فإذا هو كالبدر ليلة تمامه «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ» أعظمته بأعينهن ودهشن لما هو عليه من الحسن والجمال المزينين بحلل الكمال، قالوا إنه كان يشبه آدم عليه السلام حين خلقه ربه قبل أكله من الشجرة وإهباطه للأرض، وجاء في الحديث إن الله خلق آدم على صورته، وفي رواية على صورة الرحمن وناهيك بذلك، وما قيل إن أكبرن بمعنى حضن بالاستناد لقول القائل: يأتي النساء على أطهارهن ولا ... يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا أي حضن فقد أنكره أبو عبيده وقال لا نعرف ذلك في اللغة، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر. ونقل مثل هذا عن الطبري وابن عطية، وقد أخرج رواية أكبرن بمعنى حضن جرير وابن المنذر من طريق عبد الصمد عن ابن عباس، وهو أي عبد الصمد وإن كان روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس، فلا يعول عليه لقولهم إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم. وقال الكميت إن أكبرن بمعنى أمنين، ولعل الكلام فيه كالكلام في الذي قبله، نعم له أصل في اللغة إذ قال المتنبي: خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... إذا لحت حاضت في الخدور العواتق

إلا أنه لا دليل على ذلك، لأنه قال حاضت ولم يقل أكبرت أو أمنت، ولا يبعد أن تحيض أو تمني المرأة إذا اشتد شبقها، وكذلك الرجل قد يمني بمجرد النظر إلى المرأة، ولكن ما في الآية لا يراد منه ذلك، على أنه لو فرض مجيء أكبرن بمعنى حضن فهو لازم لا يتعدى إلى المفعول به لأنه من الطبائع والنعوت، وكل ما كان كذلك فهو لازم، وما في الآية متعد، فيكون بمعنى أعظم المتعدى كما جرينا عليه، والله أعلم. «وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» بدلا من الأترج لفرط دهشنهن بطلعته وخروج جوارحهن عن منهاج الاختيار، حتى أنهن لم يحسسن بالألم لا نشغالهن بالنظر إليه «وَقُلْنَ» بلسان واحد تعجبا من قدرة الله الكاملة على صنع ذلك القوام الرائع والحسن البديع «حاشَ لِلَّهِ» بالألف وإسقاطها وهو حرف وضع للاستثناء والتنزيه والتبعد معا، ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء، ولم ينون مراعاة لأصل المنقول عنه، وكثيرا ما يراعون ذلك فيقولون جلست من على يمينه فيجعلون على اسما ولم يعربوه، وكذلك عن في جلست من عن يساره ومن في غدت من عليه، ولم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة، كل ذلك مراعاة للأصل، وقال ابن الحاجب إن (حاشَ لِلَّهِ) اسم فعل بمعنى برىء الله تعالى من السوء وليس بشيء، لأن الحرف لا يكون اسما إلا إذا نقل وسمي به وجعل علما، فجينئذ تجوز فيه الحكاية والإعراب وفيه أقوال كثيرة أعرضنا عنها خشية الإطالة والملالة، ولا طائل تحتها، على أن الذي يعلل الكلمات يرى الكل جائزا بحسب وسعته في اللغة، كما ان الذي له وقوف على العربية لا يكاد يغلط أحدا، إذ يرى لكل وجهة، وغير خاف أن وجوه الإعراب كثيرة ولغات العرب فيها أكثر، أي أن الذي ذكروه لنا بأنه عبد اغترت به زوجة العزيز ما هو عبد بل «ما هذا بَشَراً» أيضا فضلا عن أنه ليس بعبد «إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ 31» نفين عنه صفة البشرية لما هالهن من جماله، لأنهنن لم يرين بشرا بشبهه بالحسن وقوام الجوارح، وأثبتن له الملكية لما ركز في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك ولو لم يره أحد، كما ركز في

الأذهان أن ليس بشيء أقبح من الشيطان ولم يره أحد أيضا، أي بصورتهما الحقيقية وعليه قول بعض المحدثين: ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسنا وإن قوتلوا كانوا شياطينا ولا سيما وقد انضم لذلك الجمال الرائق نور النبوة وآثار خضوعها واخباتها لرافع السماء وباسط الأرض من الحالة التي أوقعته فيها مما زاده مهابة ووقارا، فلا غرو أن يصيبهن الدهش والذهول فيصرعهن ويصرف نظرهن عما في أيديهن من الأترج إلى أيديهن، فيغقلن عنه ويقطعن أيديهن بدله، ولم يشعرن بما عملن لأن طلعته البهية ألهبت في قلوبهن ما يمنعهن من الإحساس بألم الموسى، وانهماك انسان أعينهن في التطلع إليه حال دون رؤية الدماء التي سالت من أيديهن على ثيابهن، فلما رأت زليخا ما صنعن بأنفسهن وعلمت أنهن قد أعذرنها بما فعلت، ولو أنهن شاهدنه قبل مثلها واختلطن معه اختلاطها لما لمنها، لأنهن رأينه لحظة فوقع منهن ما وقع، فكيف وهي معه ليل نهار، لهذا تسلطت عليهن و «قالَتْ فَذلِكُنَّ» العبد الذي تتقولن وتتفوهن فيه، والفتى «الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» ثم صرحت أمامهن بما وقع منها فقالت مقسمة «وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» امتنع وأبى، والاستعصام مبالغة في الامتناع والتحفظ الشديدين، ثم أقسمت ثانيا فقالت «وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ» به من الوقاع والله والله والله «لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ 32» الأذلاء المهانين مع السراق والسفاك في السجن، قالت ذلك لأنها علمت مما شاهدته من دهشتهنّ به انهن لا يلمنها بعد بل يعذرنها، قالوا ثم قال النساء كلهن يا يوسف أطع مولاتك لئلا تسجن، فلم يصغ لهن وانصرف عنهن قائلا «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» أضاف الضمير إليهن كلهن مع أن مولاته وحدها تدعوه لأنهن أمرنه بامتثال أمرها بالفعل، فناجى ربه عز وجل ملتجئا إليه وآثر السجن لأن مشقته نافذة طلبا إلى راحته الأبدية برضاء الله تعالى، ومن هنا قالوا يختار أهون الشرين، وقد جاء في الخبر أنه عليه السلام لما قال هذا أوحى الله إليه يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت، ولهذا قال محمد صلّى الله عليه وسلم لما سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك

الصبر فقال سألت البلاء فاسأل الله العافية، ثم التجأ إلى ربه فقال «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ» ومكرهن واحتيالهن أخاف يا رب «أَصْبُ» أميل ميلا قلبيا لا اختيار لي فيه بحسب الطبيعة البشرية قد تحدّت النفس نفسيا ركوني «إِلَيْهِنَّ» ولو تخطرا بالقلب أو هاجا في النفس، وأخاف يا مولاي ان يؤثر (ومعاذ الله يا مولاي) فيّ لأني بشر، وحاشاك يا مولاي أن تريد ذلك مني أو تتغلب على نفسي بشيء من ذلك، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف ربه جريا على سنن الأنبياء وطرق العارفين الكاملين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب الله تعالى، وسلب القوى والتصور عن أنفسهم مبالغة في استدعاء عطفه تعالى عليه في صرف كيدهن عنه بإظهار عدم طاقته بالمدافعة إلا بحوله وقوته عز شأنه كقول المستغيث أدركن يا رب وإلا أهلك، وقد لا يهلك، لأنه عليه السلام يطلب الالتجاء إلى ربه ليعصم وفي نفسه داعية سوء إن لم يعصمه، كلا وحاشاه من ذلك، وفي هذه الآية جواب استدلال للأشاعرة بأن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى (وأصل إلا) أن الشرطية ولا النافية فأدغمت النون باللام (وأَصْبُ) مضارع صبا إذا مال ومنه ريح الصبا لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها والصبابة إفراط الشوق، وفي القاموس صبى بمعنى مال، وصبى بمعنى حنّ، والصبوة جهلة الفتوة، ثم قال منددا من خوف ما سيكون من إحساسات قلبية خشية مغبته باثا سوء نتيجته إلى ربه «وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33» الذين لا يعلمون ما يعملون، وفي هذه الجملة إشارة إلى أن من يرتكب الذنب فإنما يرتكبه عن جهالة وهو ليس من أهلها، لذلك دعا ربه إنقاذه مما يراد فيه «فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ» كما هو عادته جل جلاله في أنبيائه وأوليائه وأحبابه في إجابة أدعيتهم عند الضيق كما سيأتي في الآية 110 من هذه السورة «فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ» وثبته بعصمته وأبقاه على عفته وحال بينه وبين المعصية ودواعيها «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لدعاء عباده المتضرعين إليه «الْعَلِيمُ» بأحوال الداعي ونيته وما يصلح له. وتدل هذه الآية على أن الإنسان لو أتى بكل مكر وحيلة لإزالة ما وقر في صدره من حب وعداوة لعجز، لأن حصولها ليس باختياره ولو كان لتمكن من

مطلب اختيار السجن ليوسف والمتآمرين على اغتيال الملك وتأويل رؤيا السجينين:

قلب الحب كرها والعداوة صداقة، وبالعكس، ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى ربه ليصرف ما حاك في صدره الشريف، قال المتنبي: يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل ولهذا فإن العاشق كثيرا ما يريد إزالة العشق من قلبه ولكنه يعجز. واعلم أن أكثر ما يوقع في المعصية الجهل والخطأ، ولا تقع إلا بتقدير الله تعالى وقضائه وهي للمغفرة أقرب، أما والعياذ بالله من يوقعها عالما عامدا فقد تؤدي إلى كفره، لأن العلم والعمد دليلان على الاستحلال واستحلال ما حرم الله كفر، قال بعض النادمين على ما فعلوا: وما كانت ذنوبي عن عناد ... ولكن بالشقا حكم القضاء ومن كان كهذا فباب العفو يشمله، قال تعالى «ثُمَّ بَدا لَهُمْ» أي العزيز وأهله وأصحابه رأي آخر بعد ذلك الرأي، إذ أن زليخا قالت لزوجها إن هذا العبد قد فضحني، فإما أن تأذن لي بالخروج لأعتذر إلى الناس، وإما أن تحبسه ليقطع هذا الكلام ويقف عند حده، وذلك بعد ما أيست منه و «مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ» الدالات على براءته وطهارته بما قص الله عنه. قال عكرمة سألت ابن عباس عن هذه الآيات، فقال ما سألني عنها أحد قبلك هي قدّ القميص وأثرها في جسده وشهادة الشاهد وأثر السكين في النساء، وفي قوله من الآيات إيذان بأن هناك آيات أخر لم يذكرها، كما أنه لم يذكر كثيرا من معجزات الأنبياء عليهم السلام، وفاعل بدا ضمير يعود إلى البداء بمعنى الرأي كما ذكرنا وعليه قوله: لعلك والموعود حق لقاؤه ... بدا لك في تلك القلوص بداء مطلب اختيار السجن ليوسف والمتآمرين على اغتيال الملك وتأويل رؤيا السجينين: واما السجن المفهوم من قوله تعالى «لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ 35» إلى أن ينسى الناس هذه الحادثة وينقطع ذكرها في المدينة، وإنما اختار الحبس على خروج زوجته واعتذارها من الناس، لأن الاعتذار لا يقطع الإشاعة عن زوجته بل يزيدها، والحبس قد يقطع خبرها بطول الزمن المستفاد من قوله (حَتَّى حِينٍ) ،

والحين وقت من الزمن يقع على القليل والكثير، قالوا مبدأه خمس وآخره أربعون سنة، وسنأتي على بيانه مفصلا في تفسير سورة الإنسان في ج 3، وعلى كل في هذه المدة تذهب استفاضة تلك الواقعة، قالوا فأمر به فحمل على حمار وسيق للسجن، قالوا وكانت تتأمل أنه بعد أن يذلل في السجن تلين عريكته وتنقاد لها قرونته فتظفر بما أرادته منه بطوعه بعد أن تصرمت حبال رجائها منه بعرض جمالها بنفسها وبإغوائها وبمالها وبتأثيرها فلم يجد شيئا، قال تعالى «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» قالوا إن أحدهما خباز الملك صاحب طعامه، والثاني ساقيه وصاحب شرابه لأنهما أدينا بجرم الموافقة مع جماعة من أشراف مصر أعداء الملك لا غتياله لقاء جعل معلوم على أن يدسا السم في طعامه وشرابه، وأن الخباز قبل الجعل المسمى له والساقي أبى، وقد وصل إلى الملك بأن ما يوضع أمامه من الطعام والشراب مسموم، وحذره من أخبره من تناول شيء منه، وقيل إن الساقي أخبر الملك بأن الطعام الذي هيأه له الخباز مسموم، وأن الخباز قال للملك إن الشراب الذي أحضره لك الساقي مسموم بمقابلة قول الساقي له إن الطعام مسموم، فكلف الملك الساقي أن يشرب ذلك الشراب ففعل ولم يصبه شيء، ثم كلف الخباز أن يأكل الطعام الذي أحضره له فأبى، فأطعمه دابة فماتت لساعتها، فظهرت خيانته فحبسهما معا على توهم أن الساقي تواطأ مع الخباز أي الطاهي قبلا ولم يخبره إلا عند الأكل حتى يظهر التحقيق براءته، ولما كان هذه القصة عظيم من الأهمية فقد يظلم في بدايتها كثير من الناس ثم ينجو من قدر له النجاة. قالوا ولما دخل يوسف السجن صار يعظ الناس وينصحهم ويحذرهم من الموبقات، ويأمرهم بالمعروف، ويحبّذ لهم عمله، وأن يحسنوا لأنفسهم وغيرهم ويتباعدوا عن المنكرات لئلا يقعوا في سوء عواقبها، ويقول لهم من رأى منكم رؤيا فليأت إليّ أعبرها له بما يلهمني الله تعالى مما يدل على خيرها وشرها، فقال الفتيان لنجربنّه ونتراءى له رؤيا، وكان عليه السلام يراهما مهمومين، فقال لهما ما شأنكما، فقصا عليه الأمر الذي حبسا من أجله وأتبعا حديثهما بما صوراه من الرؤيا «قالَ أَحَدُهُما» صاحب الشراب «إِنِّي أَرانِي» رأيت نفسي في المنام وعبّر في المضارع لاستحضار الصور الماضية في ذهنه

«أَعْصِرُ خَمْراً» عنبا سماه بما يؤول إليه، لأن الخمر لا يعصر، وإنما يعصر العنب، والعصر إخراج المائع من الفواكه وغيرها، قالوا وكان اسمه نيو فقال يا سيد إني رأيت في المنام حبلة من كرم حسنة لها ثلاثه أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك «وَقالَ الْآخَرُ» صاحب الطعام واسمه مجلّت «إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ» قالوا إنه قال أيها السيد إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وأنواع الطعام وسباع الطير تنهش منها «نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ» أي تفسير ما رأيناه وما يؤول أمر رؤيانا، وقد عرضنا عليك ذلك لحسن عقيدتنا بك «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 36» إلى الناس أجمع، لأنك تعود المرضى في السجن وتأخذ من عناء المسجونين بما تسديه إليهم من النصح، وتهديهم إليه من الرشد، وتوسع على فقيرهم وتجمع للمحتاجين ما يسد عوزهم ممن عنده فضل بما ترغبهم به من الثواب، وتجتهد في عبادة ربك ليل نهار، وإنك صبيح يرجى منك الخير ويؤمل منك الفلاح، ولذلك فإنا وكل أهل السجن يحبونك كأنهم يعلمون أن الرؤيا لا تقص إلا على من يحبه الرائي كما أخبر بذلك حضرة الرسول في أحاديث متعددة، وذلك لأنهم مخالطون للملك وليسوا من السوقة، فقال لا تحبوني فما جاءني البلاء إلا من المحبة، فإن عمتي أحبتني وكنت عندها، فطلبني والدي منها فلم تفعل، فلما أصر عليها كان عندها منطقة اسحق عليه السلام، لأنه أكبر من والدي يعقوب وثوب إبراهيم جدي الذي جاء به إليه جبريل من الجنة، فألبسه إياه حين ألقي في النار لأن اسحق ورثه من إبراهيم أبيه، وهي ورثته منه، وكان التوارث لمثل هذه الآثار للأكبر، فشدتها على بطني وأرسلتني إليه، ثم ادعت فقد المنطقة، وكان في شريعته أن السارق يؤخذ نفسه بما سرق، فتحروا المنطقة فوجدوها عندي، فأخذتني وبقيت عندها حتى ماتت، فدخل علي من حبها بلاء، وأحبني أبي فنشأ من حبه لي حسد اخوتي، فألقوني في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست بسبب محبتها، ثم أعرض عنهما كراهية أن يعبرها لهما لما في تعبيرها على أحدهما من الشرّ وهو لا يحب أن يجابه به أحد إلا بالخير، أخرج أبو حاتم عن قتادة قال: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه

قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا إن لكم بهذا لأجرا، فقالوا يا فتى بارك الله فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب ان كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت؟ قال أنا يوسف ابن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله اسحق بن خليل الله ابراهيم، فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك لما أنت عليه من اللطف وما لديك على الناس من العطف وكثرة البر والمجاملة ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت ومن هنا اعتيد تعيين وعاظ للسجون يخففون عن المظلومين بلاءهم ويحبذون للظالمين التوبة والرجوع إلى الله ورد المظالم ويمنونهم بعفو الله عنهم واطردت العادة حتى الآن، ثم إن الفتيين ألحا على يوسف بتعبير رؤياهما فقال أولا لتثقا في قولي فإني أقول لكم «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ» في حبسكما هذا أو من أهلكما «إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ» بأن أبين لكما ماهيته وكيفيته ومن أين أتاكما ولونه وطعمه ووقت أكله «قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما» وقبل أن ترونه وهذا من معجزاته عليه السلام أظهرها إليهم ليركنوا إليه ويأخذوا بقوله أملا بهدايتهم، ونظيرها معجزة سيدنا عيسى عليه السلام المبينة في قوله تعالى (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) الآية 50 من آل عمران ج 3، فقالا له هذا من علم الكهنة فمن أين جاءك، قال لست بكاهن وإنما «ذلِكُما» الذي ذكرته لكم «مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» من جملة العلوم التي منّ بها علي وعلمنيها بوحيه المقدس يشير إلى أن ذلك معجزة له وأنها جزؤ يسير مما أفاضه الله عليه، وكأنه قيل له أنى لك هذا ولماذا علمك ربك هذه العلوم واختصك بتعبير الرؤيا فقال «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» يريد العزيز وقومه إذ أعرض عنهم وترك رأيهم وما يتعبدون به ويرجونه ولم يوافقهم على ما يريدون لأنهم عبدة أوثان «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ 37» جاحدون البعث بعد الموت منكروا المعاد وأن الجملة الأولى كافية للإشعار بكفرهم وأتى بالثانية تأكيدا وكرر لفظ هم لهذه الغاية، وليس المراد بالملة ملة آبائه كما قد يخطر بالبال السقيم باعتبار ما كانوا عليه قديما كما يقوله بعض الأغبياء لأن الأنبياء عليهم

مطلب مبادئ رسالة يوسف عليه السلام وتعبير رؤيا السجينين ومشروعية الرجاء:

السلام من حين ولدوا وظهروا إلى الوجود هم على التوحيد الخالص «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» ذكرهم عليه السلام ليعلمهم أنه من بيت النبوة وأنه نبي لأن آبائه مشهورون في مصر وغيرها بأنهم أنبياء مرسلون من الله إلى البشر ولعلهم إذا عرفوا نبوته ونسبه يسمعون نصحه وإرشاده ولعلهم يدينون بدينه ويتركون ما هم عليه من عبادة الأوثان وقال هذا ليفهمهم أن ما فاز بما فاز به من النبوة إلا باقتفاء آثارهم وعدم اتباع ملة الكافرين بإنكار الحشر والنشر حينما جئت إلى مصر، وقال إنا نحن قوم أبدا «ما كانَ لَنا» ما صح ولا استقام قط منذ القدم «أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» أي شيء كان بل نعبده وحده وقد عصمنا من عبادة غيره واختارنا لتحمل وحيه واصطفانا لتبليغ خلقه أوامره ونواهيه يسير بذلك عليه السلام أن ما أنتم عليه يا أهل مصر من الإشراك هو كفر محض وأن الله المنفرد بالألوهية لا يقبل ولا يرضى من المشرك عبادته «ذلِكَ» رفضنا عبادة الأوثان وعكوفنا على عبادة الرحمن والإخلاص إليه واختصاصنا بالنبوة كله «مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا» إذ علمنا ما لم نعلم وألهمنا طرق العدل ومسالك الصواب في كل ما يتعلق بنا وبالناس من أمور الدنيا والآخرة «وَ» فضله «عَلَى النَّاسِ» إذ بين لهم مناهج الهدى والرشد وأرسل إليهم من خلص خلقه من يرشدهم ويهديهم «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 38» فضله ونعمه ويشركون بعبادته غيره مما لا يستحق العبادة فيخسرون الدنيا والآخرة ويندمون ولات حين مندم. مطلب مبادئ رسالة يوسف عليه السلام وتعبير رؤيا السجينين ومشروعية الرجاء: ثم شرع يدعوهم إلى الإيمان تأدية لأمانة ربه التي وكلها إليه، فقال «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ» يا ساكنيه جميعكم، على قراءة الجمع، اسمعوا ما أقول لكم وأطيعوني فيما آمركم به، وتأملوا فيه وتدبروا معناه، وعلى قراءة التثنية، يريد به رفيقيه الذي دخلا معه اللذين يطلبان تأويل رؤياهما، وعلى كل قال لهم «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ» شتى، من حفر وحديد وخشب ونحاس وفضة وذهب وحجارة وغيرها من صورة صغيرة

أو كبيرة وبين ذلك، لا تضر ولا تنفع، ولا عن نفسها شرا تدفع، «خَيْرٌ» بأن تتخذوها ربا وتعبدوها «أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 39» لكل شيء القادر على الإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، الذي قهر الجبابرة بالخذلان والموت الذي لا يشبهه شيء من خلقه، والمنفرد بالإلهية، المنقطع النظير، والقوي الذي لا يغلبه غالب ولا يطلبه طالب، لا زوجة له ولا ولد، ولا معين، ولا وزير، وهذا الخطاب عام للمخاطبين ولمن هو على دينهما من أهل مصر، وعلى هذا فتكون التثنية باعتبار أنهم جماعة من سلفهم جماعة على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 45 من سورة النمل في ج 1، ومن هنا تعلم أن هذا يشمل طالبي تعبير الرؤيا وغيرهما، وهذا أحسن في التعبير وأنسب بالمقام راجع تفسير الآية المذكورة، وعليه جاء قوله تعالى «ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ» أربابا وآلهة من الأوثان «إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» بلفظ اجمع على المعنى الأخير، وكذلك ما تدعون التقرب إلى الله به من عبادة الكواكب والحيوانات والجمادات، كلها إفك «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» يؤيد وجودها ولا برهان يثبت عبادتها، ولا يوجد دليل على تسميتها آلهة لأنها ذليلة حقيرة يقدر على إهانتها كل أحد، ويحطمها المرأة والولد، ثم قال مظهرا لهم التأثر على عكوفهم على عبادة ما لا يصلح للعبادة والأسف على الركون إليها وهي لا شيء «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» أي ما الحكم في أمر العباد والعبادة إلا للإله المنفرد بالحكم الذاتي الذي «أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا» أيها الناس ملكا ولا بشرا ولا جنا ولا إنسا ولا جسما ولا شيئا «إِلَّا إِيَّاهُ» إذ لا معبود بحق غيره «ذلِكَ» تخصيص الإله الواحد القهار بالعبادة والسيادة ونفيهما عن غيره هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ» الثابت بالأدلة القطعية والبراهين الساطعة «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 40 وهذا من مبادئ رسالته عليه الصلاة والسلام، لأنه نبىء بالبئر وهو ابن ثماني عشرة سنة، وأرسل وهو في السجن وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على أصح الأقوال بدليل هذه الآية، وقد وصف الأكثر بأنهم لا يعلمون دين الله وأوامره ونواهيه لجهلهم الحجج السماوية والأرضية الدالة على الألوهية وعدم استعمالهم ما منحهم الله به

[سورة يوسف (12) : الآيات 41 إلى 50]

من العقل ووقوفهم عند ما ألفوا عليه آباءهم وألفوه، ولما فرغ عليه السلام من دعوة الخلق إلى الحق حسبما أمره ربه رجع إلى تعبير رؤياهما فقال «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما» الساقي فإنه يرجع إلى وظيفته «فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» إذ تظهر براءته مما عزي إليه من العلم والاشتراك باغتيال الملك «وَأَمَّا الْآخَرُ» الطاهي فيثبت عليه الجرم المعزولة «فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ» لتسببه في اغتيال الملك ومباشرته لها فعلا لعدم امتثال أمر الملك بالأكل وبراءة الأول بالشرب، وهما دليلان كافيان على براءة الأول وحكم الثاني، وقال إن هذا سيكون بعد ثلاثة أيام، وذلك لأن الأول قال ثلاث عناقيد عنب، والآخر قال ثلاث سلال، فقال له ما رأينا شيئا فقال لهما «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ 41» ووجب حكم الله تعالى عليكما بما أخبرتكما، رأيتما أو لم تريا، وإنه آتيكم لا محالة بعد ثلاث، ومن هنا قيل البلاء موكل بالمنطق «وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ» تيقن وتحقق «أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي» إذا خرجت من السجن «عِنْدَ رَبِّكَ» سيدك ومولاك لعله يتذكر مظلمتي فيخرجني من السجن، قالوا وبعد ثلاثة أيام خرج الأول وصلب الثاني، وهذا حكم عدل من ملك مصر في براءة الساقي، لانه لم يقبل الجعل على المؤامرة في حق الملك ولم يباشر عملا. أما قتل الطاهي ففيه ما فيه لأنه وإن كان أتم جميع الأسباب إلا أنه لم يقع الفعل كما علمت، ولكن الملوك اعتادت قتل من يتآمر عليها وسنّت بذلك قوانين فهي تعمل بها حتى الآن، قال تعالى «فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ» أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر الملك بيوسف. مطلب في ضمير أنساه ورؤيا ملك مصر الأكبر وخروج يوسف من السجن: وما قيل إن الضمير في أنساه يعود إلى يوسف غير وجيه، لأن المعنى بصير حينئذ أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله بطلبه الفرج عنه من ملك مصر دونه، وهو محال لما فيه من التعريض إلى الغفلة، والأنبياء بعيدون عنها منزهون منها، لذلك اخترنا ما عليه جل المفسرين من عود الضمير إلى الساقي لأنه أولى وأنسب بالمقام وأوفق للسياق والله أعلم «فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ 42» بسبب ذلك، وعلى ما قالوا إنه أتم في

في السجن سبع سنين، والبضع ما بين الثلاثة والعشرة، روي أن أنسا قال أوحى الله إلى يوسف من استنقذك من القتل حين همّ إخوتك أن يقتلوك؟ قال أنت يا رب، قال من استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال أنت يا رب، قال فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال أنت يا رب، قال فما بالك نسيتني وذكرت آدميا غيري؟ قال يا رب كلمة تكلم بها لساني، قال وعزتي وجلالي لأدخلنك في السجن بضع سنين. وروي عن الحسن أنه قال: قال صلّى الله عليه وسلم رحم الله يوسف لولا كلمته التي قالها أي (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ولما لبث في السجن ما لبث. ويستدل من قول يوسف عليه أن الاستعانة بالعباد لقضاء الحوائج جائزة لقوله تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) الآية 3 من سورة المائدة في ج 3 وقال صلّى الله عليه وسلم: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء. وقال عليه الصلاة والسلام أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فمن أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة. وقال تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) الآية 85 من سورة النساء في ج 3، إلا أن هذا يختلف باختلاف الأشخاص، والأليق بمقام الأنبياء تركه لأنفسهم والأخذ بالعزيمة، وهكذا جرت عليه عادتهم، قالوا إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وعاتبه على كلمته تلك. وإن من يتمسك بهذه الأخبار استدل على عود الضمير من أنساه إلى يوسف لا إلى الساقي كما ذكرناه آنفا، ووكلنا علمه إلى الله تبرئة لساحة الأنبياء عما لا ينبغي، ولم نجزم به لأنا لسنا من أهل الترجيح. هذا ولما أراد الله تعالى إخراج يوسف من السجن أرى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة، وهي ما قصها الله تعالى بقوله «وَقالَ الْمَلِكُ» الريّان بن الوليد لمن عنده من السّحرة والكهنة والمنجمين والمعبّرين «إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ» هزال ضعاف من البقر «وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» سبع أيضا «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ» هذه لأنها هالتني وإني لمتخوف منها «إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ 43» تفسرون سمي المفسر معبرا لأنه يعبر من أول الرؤيا إلى آخرها ليستخرج المعنى المراد منها، والتعبير خاص في هذا، أما التأويل فعام فيه وفي غيره. راجع بحثه في المقدمة ج 1 «قالُوا» السحرة وأمثالهم أشراف

مملكته الذين قصها عليهم هذه «أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أخلاطها وأباطيلها، وأصل الضغث الحزمة من أنواع الحشيش والأحلام جمع حلم مما يرى في النوم من وسوسة الشيطان وحديث النفس الخبيثة كما بيناه في الآية 5 المارة «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ 44» فقلق الملك وتشوش أكثر من ذي قبل لتوقف الناس عن معرفة تأويل رؤياه، وصار يتعجب منها خاصة قضية تغلب ضعاف البقر على السمان على عكس العادة، لأن القوي من كل دائما يتغلب على الضعيف، وصار يبحث عمن يعبرها له، فتذكر الساقي إذ ذاك حذاقة يوسف في التعبير وشدة اختصاصه به، قال تعالى «وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ» تذكر وتفطن «بَعْدَ أُمَّةٍ» مدة طويلة على تعبير رؤياه ورفيقه في السجن ووقوعها كما عبرها وصيّته له بأن يذكر سيده فيه «أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ» أيها الملك «فَأَرْسِلُونِ 45» لآتيكم بمن يعبرها، ولذلك لم يقل أفتكم وذكر الضمير لعوده على الأمر الذي استصعبه الملك من الرؤيا، قالوا قال هذا بعد أن تمثل أمام الملك بالاستئذان وجثى على ركبتيه احتراما على حسب عادتهم، فأرسله الملك بعد أن فهم مما ذكر له من أحواله ومما قص عليه من أطواره، وأنه من سلالة ابراهيم عليه السلام وانه يتمكن من تعبير رؤياه فذهب ودخل السجن وقال «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» سماه صديقا لصدقه في تعبير رؤياه وغيرها، «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ» الملك وأتباعه وأهل مملكته، لأن هذه الرؤيا شاعت لدى العامة ولم يقدر أحد على تعبيرها وصارت شغلهم الشاغل، فبينها لنا مما علمك ربك لنذكرها للملك وملائه «لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ 46» تأويلها، ويظهر لهم فضلك فتخلص من محنتك هذه، فسأله عن الرأي لأن له مدخلا في التعبير إذ المعبر يعبر لكل بحسبه وما هو عليه، فقال له الملك الأكبر، «قالَ» قل للملك ومن أهمه شأن هذه الرؤيا هي رؤيا مشؤومة وعاقبتها وخيمة، ولكن إذا أردتم أن تتخلصوا من هولها وتكونوا في مأمن من مغبتها «تَزْرَعُونَ» خبر بمعنى الأمر لأنه فسر البقرات السمان والسنبلات الخضر بسبع سنين مخصبة، والبقرات العجاف

والسنبلات اليابسة بسبع سنين مجدبة، أي ازرعوا أيها الناس «سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» بحسب عادتكم لأن الدأب العادة المتمادية، حتى إذا بلغ الزرع الحصاد «فَما حَصَدْتُمْ» منه كل سنة «فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ» لا تدوسوه ولا تذرّوه فإنه يسوس «إِلَّا قَلِيلًا» جدا بأن تدوسوا وتذروا منه بقدر «مِمَّا تَأْكُلُونَ 47» في كل سنة واحتفظوا بالباقي بسنبله واتركوه على حاله إلى السنين المجدبات المنوه بها في قوله «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» السبع المخصبات. ولم يؤنث الضمير تفخيما لشأنهن «سَبْعٌ شِدادٌ» مرهقات للناس لأنهن ممحلات مجديات «يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ» أن يأكل الناس فيها ما ادخرتموه من السنين المخصبات ولم يتركوا منه «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ 48» تحززونه للبذر فتبقونه في الحصن ليحفظ فلا يسقع ولا يطرأ عليه ما يفسده، والإحصان هو الاحراز بعينه، كما أن البذر هو البزر «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» السبع الممحلات «عامٌ» نون للتعظيم لما فيه من الخير الجسيم، وهو كالسنة إلا أنه يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب غالبا كما تستعمل السنة فيما فيه الشدة والجدب، يدل عليه قوله تعالى «فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ» بأمطار كثيرة نافعة «وَفِيهِ يَعْصِرُونَ 49» الأعناب والزيتون والسمسم وكل ما من شأنه أن يعصر كالبرتقال والليمون والرّمان، وهو كناية عن كثرة الخيرات فيها والبركات الأرضية والسماوية، وقل لهم إذا فعلوا ذلك نجوا من سرها، وإلا فالويل كل الويل لهم، فرجع الساقي فرحا مسرورا وأتحف الملك بذلك، فاستحسنه ورآه مصيبا واعتقد الحكمة في المعبر لإرشاده لما يجب أن يعمل ويحتاط لذلك الأمر العصيب، واشتاق لرؤيته لينعم عليه جزاء لتعبيره هذا، وإراجة فكره من هول تلك الرؤيا، ومن التدبير المستقبل لحفظ رعيته من الهلاك، فالتفت لخدمه وذكر ما قص الله عنه بقوله عزّ قوله «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ» من سجنه لأنظر اليه وأكافئه، فذهب منهم الاول بدليل قوله «فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ» لأن أل هنا للعهد والمعهود وهو الأول الذي ذهب اليه إجابة لدعوته إذ اشتاق لرؤيته وأخبره بما قال الملك «قالَ» يوسف للرسول لا أذهب معك الآن

[سورة يوسف (12) : الآيات 51 إلى 60]

ولا أخرج من السجن بل «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ» الذي فعلنه بي واحتلن به عليّ «عَلِيمٌ 50» لم يرد عليه السلام اخبار الملك بأمر النسوة معه، وانما أراد أن يطلع هو والعزيز على حقيقة ذلك، ولهذا اكتفى عليه السلام بذكر تقطيع الأيدي ورمز إلى المراودة التي كلفته بها امرأة العزيز بالكيد الذي وقع منها على طريق المجاملة، واحتراز من سوء المقابلة ولعلهن يتكلمن إلى الملك بواقع الحال، إذ لم يصمهنّ بشيء ظاهرا، وكان ما ظنّ وكان تأنيه بالخروج من السجن إصابة لتظهر براءته عند الناس أجمع كما هو بريء عند الله، وليعلموا أنه سجن ظلما، ومن كرم أخلاقه عليه السلام لم يذكر اسم سيذته مع مع السبب في إحضار النسوة، وقد أثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فضله وحسن أناته بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي وأخرجه الترمذي بزيادة ثم قرأ فلما جاءه الرسول إلخ، وجاء في حديث آخر: لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات السمان والعجاف، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال إرجع إلى ربك إلخ الآية، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرت الباب ولما ابتغيت العذر، وانه لحليم ذو أناة وهذا من تواضعه صلّى الله عليه وسلم، وإلا فحلمه وأناته وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه من قول الخلق وامر الحق لا يقاس بغيره، فقد أعطى من كل شيء غايته ومنتهاه وعبر بحرا وقف الأنبياء بساحله الأدنى، فرجع الرسول وأخبر الملك بقوله، فأمر حالا بجمع النسوة واحضارهن ثم خاطبهن بقوله «قالَ ما خَطْبُكُنَّ» ما شأنكن وأمر كن «إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ» خاطبهن جميعا بهذا القول سترا لامرأة العزيز، ولا نهن أمرنه بمطاوعتها «قُلْنَ» للملك بلسان واحد «حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» ذنب أو خيانة فى شيء ما وقد بالغن في نفي جنس السوء عنه بتكيد لفظ السوء، وزيادة من،

وابتداء جوابهن بكلمة التبرؤ والتعجب من زيادة عفته، ثم «قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ» بانفرادها للملك «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ» ظهر ظهورا واضحا بينا «أَنَا» يا حضرة الملك «راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 51» بقوله هي راودتني اعترفت هنا اعترافا صريحا علنا، لأن اعترافها الاول في الآية 32 المارة كان بحضور النسوة فقط، فلم يكن كافيا لبراءته عند زوجها والعامة قالوا ثم أمر الملك الرسول أن يخبر يوسف بذلك، فذهب اليه وبشره بالاعتراف العلني العام ببراءته بحضور الملك مما عزى اليه قال يوسف عليه السلام «ذلِكَ» عدم خروجي من السجن وامتناعي من اجابة الملك أولا وسبب تثبتي وأناتي هو لظهور براءتي عند العزيز الذي كان أحسن إلي وأكرمني مدة إقامتي عنده «لِيَعْلَمَ» علما حقيقيا «أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» في زوجته كما لم أخنه في ماله وخدمته ولا بحضوره «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ 52» ولا يسددها ولا يسهل مكرهم ولا يرشدهم لطريق الخلاص، فلو كنت خائنا لما أنقذني من هذه الورطة ولم يوفقني للنجاة منها. وهذه الآية بالنسبة لما قبلها على حد قوله تعالى (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) من قول ملأ فرعون وقوله بعد (فَماذا تَأْمُرُونَ) من قبل فرعون كما مر في الآية 110 من سورة الشعراء، وما قيل ان (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) من قول امرأة العزيز تبعا للآية قبلها فليس بشيء كما أن من قال إن الضمير في ليعلم للملك، وفى لم أخنه له ليس بشيء أيضا، وما جرينا عليه هو الأولى وعليه أكثر المحققين، وكذلك قوله تعالى «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي» هو من قول يوسف عليه السلام لا من قول المرأة كما قاله بعض المفسرين هذا ولما ذكر عليه السلام براءته مما عزي اليه قال على طريق هضم النفس والتواضع إلى ربه ولئلا يزكي نفسه على أتم وجه وليبين ما وفق اليه من الأمانة والعصمة التي منّ الله بها عليه قال (وَما أُبَرِّئُ) إلخ من الهم الذي أوطنها عليه لأنه عبارة عن خطرات قلبية جارية عادة في طبيعة البشر مجردة عن القصد والعزم وكذلك لا أبرىء نفسي من الميل المجرد الذي هو من طبع النفس.

مطلب مراتب النفس ومواقف التهم وحكاية الزمخشري واجتماع يوسف بالملك بعد توليه الوزارة:

مطلب مراتب النفس ومواقف التهم وحكاية الزمخشري واجتماع يوسف بالملك بعد توليه الوزارة: «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» أي جنس النفس طبعها الأمر بالسوء لما فيها من القوى الشهوانية، والسوء لفظ جامع لكل ما يتهم به الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية، أما السيئة فهي الفعلة القبيحة، والنفس من حيث هي واحدة لها صفات منها هذه، ومنها اللوامة ومنها المطمئنة، فإذا دعيت النفس إلى شهواتها ومالت إليها فهي الأمارة بالسوء، فإذا منعتها النفس اللوامة على ما نوته من القبح يحصل لها الندامة فيكون من صفاتها المطمئنة أي أن النفس على الإطلاق تأمر صاحبها بعمل السوء، لأن الإنسان إذا ترك وشأنه كان شريرا بالطبع «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» إلا النفس التي رحمها الله وعصمها كنفوس الأنبياء أمثال يوسف عليه السلام، ولم يخص نفسه تواضعا وهضما لنفسه، وقد تأتي ما بمعنى من كما هنا وكما في قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية 3 من سورة النساء في ج 3، راجع الآية 16 من سورة الفرقان في ج 1 وجعل الاستثناء هنا متصلا أولى من جعله منفصلا كما لا يخفى «إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ» لما يعتري النفوس بمقتضى طباعها لأن منه ما لا يكون في طوق البشر دفعه كالهم والميل المجردين عن القصد والنية وهو «رَحِيمٌ 53» بعصمة تلك النفوس من الجري على موجب ذلك لخروجه عن الوسع وإنما تورع عليه السلام بالقول ليتوصل إلى ما يحمل الملك على الهداية والإيمان بالله تعالى كما توصل إلى إيقاع الحق لصاحبه بالسجن لهذه الغاية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف مواقفها، قال عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم. وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه وقال هذه زوجتي، فقال يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك، فقال صلّى الله عليه وسلم إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم، أي يأخذه لطرق الشرّ من حيث لا يحس ويأتيه من كل جوانبه من كل مسلك كما أن الدم يجري في جميع عروق ابن آدم وهو لا يحس به فهو من قبيل المعلوم غير المحسوس مثل

حركة الظل وفلكة المهواية والرحى وسريان النار في الفحم والزيت في الزيتون والسمسم وما أشبه ذلك، راجع الآية 112 من سورة هود المارة، وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي سبط رسول الله وريحانته رضي الله عنهم قال حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. أي ما تشك وتشتبه به إلى ما لا تشك ولا تشتبه فيه. وجاء في خبر آخر رحم الله امرأ جبّ المغيبة عن نفسه. أي قطعها بعدم وقوفه ومروره في مواقف التهم وعدم مشيه مع المشبوهين باقتراف المعاصي ومجالستهم ومكاتبتهم فيجب على الإنسان أن يحفظ نفسه وسمعته من كل ذلك. كان جار الله محمود الزمخشري مقطوع الرجل وقد أخذ حكما من قاضي زمانه بأنها قطعت بعاهة لئلا يظن أنها قطعت بسرقة أو فساد في الأرض، وكلما دخل بلدة اظهر لأهلها حكم القاضي بأنها قطعت بعاهة خوفا من تهمة السوء، قيل إنه ذات يوم أمسك عصفورا فكسر رجله فقالت له أمه كسر الله رجلك كما كسرت رجله، وكان ذهب إلى بخارى لطلب العلم وكسرت رجله بسبب وقوعه عن الحمار، فقال هذه دعوة أمي إلا أن الإثبات الذي لديه يدل على أنها تعطلت بالثلج. هذا ولا يبعد أن السيد يوسف عليه السلام خشي أن يخرج ساكتا من السجن عن أمره الذي سجن من أجله وشاع خبره لدى العامة ولم تتضح براءته منه بصورة جلية ليطلع عليها الخاص والعام، وقرف به من أن يتسلق به الحاسد إلى تقبيح أمره ذلك، فيكون سلّما إلى الحط من قدره ونظر الناس إليه بعين الاحتقار، فلا يعلق كلامه في قلوبهم وهو بحاجة إلى ذلك لتمهيد دعوته إلى ربه، وقد لا يترتب على دعوته قبولهم فيما لو بقي ساكتا عن إظهار واقعته، لذلك فإنه وضحها للناس على الصورة المذكورة أعلاه، هذا ولما ثبت لدى الملك براءته ورأى علمه وفضله ودرايته وثناء العامة عليه أحبّ أن يصطفيه لنفسه، لأن الصابر العفيف الحسن الكتوم أهل لأن يكون من خواص الملك، وكان عليه السلام العفيف الحسن الكتوم أهل لأن يكون من خواص الملك ، وكان عليه السلام متحليا بكل وصف حميد، فأراد أن يوليه أمر ملكه وتدبير رعيته المنبئ عنه قوله تعالى «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» فذهب الرسول الأول حالا فرحا مسرورا ودخل السجن وبلغه أمر الملك على رؤوس الأشهاد،

وقال إن الملك أمر بإخراجك من السجن بلا عودة، وطلب مقابلتك ليوليك أمره، فودع أهل السجن ودعا لهم بخير، ولما خرج أسفوا كلهم على فراقه وفرحوا بخروجه، قالوا ولما خرج كتب على باب السجن هذا بيت البلاء، وقبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء. ثم اغتسل خارجه ولبس ثيابه وتوجه نحو الملك، فلما قرب منه قال حسبي ربّي من دنياي، حسبي ربي من خلقه، عز جارك يا الله وجلّ ثناؤك ولا إله غيرك. ولما وقف بين يديه وأبصره قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره وشر غيره. وسلم عليه بالعربية، فقال له ما هذا اللسان؟ قال لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية، فقال له ما هذا اللسان؟ قال هذا لسان آبائي، قالوا وكان الملك يحسن سبعين لغة، فكلمه بها كلها، فأجابه بما يكلمه، وزاد عليه بالعبرية والعربية، فأعجب به غاية الإعجاب وقربه وأجلسه بجانبه، قالوا وكان خروجه من السجن بعد بلوغه الأربعين سنة من عمره، لأنه أدخل فيه بعد كمال الثالثة والثلاثين وبقي فيه سبع سنين على أصح الأقوال، وما قيل إنه لبث في السجن خمس سنين قبل أن أوصى ساقي الملك ليعرض أمره على ربه فليس بشيء، لأنه دخل معه وخرج بعد تعبير الرؤيا بثلاثة أيام، ولأنه حين خرج كان عمره أربعين سنة وإذا مشينا على هذا القيل يكون عمره إذ ذاك خمسا وأربعين سنة، ولم يقل به أحد. قال تعالى «فَلَمَّا كَلَّمَهُ» وشاهد منه ما لم يكن بالحسبان وما وقع منه حين مواجهة الملك من الاحترام اللائق به مما أعجب الملك ودهش منه كان بتعليم الله تعالى، لأن الملوك لا يبدأون بالكلام بل بالتحية والدعاء فقط، ثم يسكت أمامهم حتى يكون الملك البادئ ثم يجاب على قدر السؤال، فلما رآه الملك واقفا على هذه الأصول وزيادة لم يرها من غيره أقبل عليه وخاطبه بقوله كما حكى الله عنه «قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ» ذو مكانة عالية ومنزلة سامية «أَمِينٌ 54» ذو مقام مؤتمن على أسرارنا وعلى خزائننا، قالوا وقال الملك يا يوسف أحب أن أسمع منك تأويل الرؤيا فقصّها كما رآها ثم قص له تأويلها كما ذكره أولا، فقال والله ما أخطأت منها شيئا، وإنها كانت عجبا وما سمعته منك أعجب، لأنك أخبرتني عن شيء رأيته أنا وأوّلته

أنت بشيء لم يخطر على بالي، ثم قال له ماذا ترى نعمل؟ فأشار عليه بما تقدم مع تفصيل وتوضيح، وقال إذا فعلت هذا تؤمن قوت قومك وتأتيك الناس طلبا للميرة من كل مكان، فتبيعهم الفضل فيجتمع عندك خزائن الأرض، وتستعبد الناس بما تضع لهم من معروف بصيانة حياتهم من الموت جوعا وما، تبيعه لهم منة يعدونه صدقة منك لشدة الحاجة إليه، فقال ومن لي بمن يقوم بهذا العمل العظيم الذي فصلته لي لأنه يحتاج إلى جماعة مدرّبين محنكين يعون ما يعملون ويعلمون عاقبة ما يفعلون فيأمنون مما يعتذر منه «قالَ» يوسف عليه السلام أنا أكفيك ذلك كلّه أيها الملك «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» التي يشملها ملكك وخولني ما فيها من أموال وطعام وأنعام وغيرها من جميع أنواع الخراج الذي قننته عليهم لأقوم لك بذلك كما ينبغي إن شاء الله «إِنِّي حَفِيظٌ» لها أمين عليها «عَلِيمٌ 55» بطرق جبايتها وجمعها وحفظها خبير بوجوه تفريقها وتعيين مواردها وتبين مصالحها وكيفية صرفها، فقال له الملك نعم إني لا أرى أليق منك ولا أحق بذلك، قالوا فولاه واردات دولته ونفقاتها (وزارة المالية) ولا محل للقول هنا بأنه لا يجوز طلب الإمارة فكيف ساغ للسيد يوسف طلبها مع ما هو عليه من النبوة لما جاء في الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها. لأن هذا إذا لم يتعيّن عليه طلبها، فإذا تعين وجب عليه طلبها، وإيضاحا لذلك نضرب مثلا: لو كلف رجل بمنصب القضاء وعرف أنه إذا لم يقبله يعين له من ليس من أهله، وجب عليه قبوله إياه، بل يجب عليه طلبه لما في ذلك من الخطر على مصالح المسلمين وغيرهم وضياع حقوقهم، ولما كان السيد يوسف عليه السلام مرسلا لمصالح الخلق ومكلفا برعاية حقوقهم ومحافظة أمورهم، وقد علم بإعلام الله إياه أن غيره لا يتمكن من ذلك كما يجب، لاسيما في هذه القضية، وأن الناس سيترامون بأموالهم وأنفسهم على مصر للميرة منها، وأنه لا بد لهذه الوظيفة من أمين صادق رؤوف على العباد يقوم بها، وجب عليه طلبها لأنه إذا لم يقبلها لا يستطيع أحد القيام بها كما ينبغي ويحافظ على حقوق الأمة ويصونها

مطلب تمرين الموظف وزواج يوسف بزليخا ودخول السنين المجدبة واجتماع يوسف بإخوته:

من الهلاك بصورة عادلة لا تفضيل فيها للخطير على الحقير، ولا الغني على الفقير، لذلك طلبها وزكى نفسه أمام الملك بما تقدم لتطمئن نفسه ويستريح ضميره، إذ شغل باله بمن يوليه عنه هذه المهمة ويكفيه مؤنتها ويريحه من هذا الأمر الذي ذكره له على ما هو عليه من الخطورة، ولا يقال أيضا كيف زكى نفسه والله تعالى يقول (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ؟ الآية 30 من سورة والنجم المارة في ج 1 لأن تزكية النفس إذا قصد بها إيصال الخير والنفع إلى الغير مطلوبة ومحمودة، وانما تكره لا تحرم التزكية للنفس إذا قصد بها التطاول على الناس والتفاخر بما عنده عليهم والتوصل إلى ما لا يحل، وهذه كلها بعيدة عن ساحته عليه السلام وغاية تصديه لذلك إنما هي إعلام الملك بما تقدم وايقافه على أنه ليس مختصا بأمور الدين فقط كما ظن الملك به اولا من تعبير الرؤيا والنصح لأهل السجن، وان من كان هذا شأنه بعيدا عن أمور الدنيا لا يعرف ما يلزم لها أو يتعلق بها، بل له علم كامل بها وما يتفرع عنها أيضا، ومن هنا قال أهل هذا العصر بفصل الدين عن السياسة ولم يعلموا أن الواقف على أصول الدين أعلم بالسياسة من غيره، وهذه المصلحة من أمور الدنيا بحسب الظاهر بقطع النظر عما يلزم لها من العدل وما فيها من الثواب العظيم عند الله، فإنه قد علم بتعليم الله تعالى إياه لو تولاها غيره لجار وارتشى وفضل أناسا على آخرين، فأدى إلى هلاك الأمة أو أكثرها فاجابه لذلك، وإنما لم يذكر الله تعالى اجابة الملك إلى توليه يوسف إيذانا بأن ذلك أمر لا غنى له عنه، لأنه لم يقل له يوسف ما قال إلا حينما رآه متحيرا بمن يوليه ذلك الأمر الخطير، قالوا وكان بين طلب توليه وإسنادها اليه سنة واحدة، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال قال رسول صلّى الله عليه وسلم يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لا ستعمله من ساعته، ولكنه أخّر ذلك سنة وسبب هذا التأخير أن الملك لا يولي أحدا قبل أن يختبره بما يوليه عليه وان السنة كافية للتحقيق عن حال الموظف خارجا وداخلا. مطلب تمرين الموظف وزواج يوسف بزليخا ودخول السنين المجدبة واجتماع يوسف بإخوته: ومن هنا اتخذت الملوك قاعدة التمرين لمدة سنة على الأقل لمن يريدون توليته حتى إذا ظهر لهم خلالها كفاءته عينوه وإلا صرفوه ألم تر أن حضرة الرسول قال

سودوا قبل أن تسودوا أي صيروا أهلا للسيادة قبل أن تقلّدوها. قالوا ولما انقضت السنة وظهر للملك من اختباره أحوال يوسف من جميع نواحيها أنه ذلك الرجل الذي هو أهل لأن يعتمد عليه في هذه المهمة واطمأن من لباقته ولياقته ووثق من اقتداره وكان العزيز شاخ وهرم فعزله عن العمل وأحاله إلى المعاش ثم أحضر يوسف عليه السلام إلى مجلسه بحضور ملائه وقلده الوزارة وبلغه أمر تعيبنه ووشحه بسيف مرصّع وحلاه بخاتمه ووضع له سريرا من ذهب مكللّا بالورد والياقوت وأجلسه عليه وتوجه بتاج الملك، وسلمه خزائنه وفوض اليه أمر الملك كله بصورة فوق العادة الجارية لمن سلف من وزرائه، وتخلى له عن كل شيء وأبلغ ذلك إلى عماله في جميع أقطار مملكته، فدانت له الملوك وأذعنت اليه الأمم وانقادت له أعيان المملكة وشيوخها، وتولى الأمر والنهي بنفسه، وكان عمره إذ ذاك واحدا وأربعين سنة، قالوا وتوفي العزيز في هذه السنة، فزوجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال أليس هذا أحسن مما كنت تريدينه؟ قالت لا تلمني أيها الصديق فقد كنت غضة طربة ناعمة، في ملك ودنيا كما رأيت، وكان صاحبي شيخا لا يأتي النساء وأنت على ما جعلك الله عليه من الجمال والأخلاق والهيبة والوقار فغلبتني نفسي وعصمك الله، قال ووجدها عذراء وولدت له افرائيم وميشا، قالوا ولما بدأت السنون الخصبة أقام السيد يوسف العدل بين أهالي مصر وغيرهم وأحبه الخاص والعام وهيء محالا لخزن الحبوب، واستحضر ما يؤمن لأهالي مملكته وغيرهم طيلة السنين المجدبة قالوا ولما دخلت السنون المجدبة فأول من أحسّ بالجوع الملك، فأرسل إلى يوسف يقول له الطعام الطعام، نخصص له وحاشيته وله نفسه كل يوم أكلة واحدة وسط النهار، ومن ثم صار غداء الملوك نصف النهار، وحتى الآن وهم سائرون على هذه العادة، وكان عليه السلام نبه جميع الأهالي إلى أن يدخروا طعام سبع سنين كما فعل هو، إذ ادخر لأهل مملكته ما يكفيهم تلك المدة، وقد فعلوا ولكنهم استهلكوه بسنة واحدة لعدم انتظامهم في الأكل وعدم اقتصادهم على أكلة واحدة كما فعل هو والملك، ولأن العادة في الغلاء (أعاذنا الله منه) تتغير إذ ان الإنسان يأكل فيه اكثر من زمن الخصب والرخص

والرخاء، ولفراغ العين تقل البركة فطلبوا الابتياع منه، فباعهم بالسنة الأولى والثانية من السنين المجدبة بالنقود، والثالثة بالحلي والجواهر، والرابعة بالدواب والأنعام، والخامسة بالعبيد والجواري، والسادسة بالضياع والعقارات، والسابعة بأنفسهم وأولادهم، حتى صار جميع ما في مملكته ملكا له، واسترق أهلها فصاروا عبيدا له من جملة حاشيته، ثم ذهب فقابل الملك وقال له كيف رأيت صنع الله فيما خولتني فيه بحسن نيتك وعقيدتك في؟ فقال الملك نعم ما فعلت وحسن ما صنعت، أنا لك تبع والرأي لك فيهم وفي غيرهم، فقال الملك نعم ما فعلت وحسن ما صنعت، أنا لك تبع والرأي لك فيهم وفي غيرهم، فقال إذا، إني أشهدك وأشهد الله على أني أعتقتهم كلهم، ورددت لهم أموالهم وضياعهم، ثم ظهر عليهم وأبلغهم ذلك، فقالوا ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم ولا أرأف من يوسف، بل ولا سمعنا من آبائنا ملكا تحىّ بصفاته وحبه لرعيته، وكان عليه السلام لا يشبع طيلة السنين المجدبة، فقيل له في ذلك، فقال أخاف ان أنا شبعت أن أنسى الجائع، ولهذا فقد آمن به الملك وجميع الناس الذين وقفوا على أخلاقه هذه، وكان لا يبيع أكثر من حمل بعير للواحد لئلا يضيق الطعام على الباقين وكان يلقاهم بوجه طلق ويحسن إليهم ويوفي لهم الكيل ولا يميز بين أحد ويعدهم بأن يبيعهم مرة أخرى كلما نفذ ما عندهم ويقول إن الحبوب كثيرة فلا تخشوا نفادها، وان في الخزائن ما يكفيكم إلى وقت الخصب والحصاد، لذلك لا ترى أحدا إلّا ويدعو له بالخير. قال تعالى (وَكَذلِكَ) كما أنعمنا على يوسف بما تقدم ذكره من تخليصه من إخوته ومن البئر ومن امرأة العزيز ومن السجن «مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ» أقدرناه على أهلها وثبتنا قدمه وجعلناها راسخة في أرض مصر «يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» لا ينازعه فيها منازع، ولا يعارضه فيها معارض، له الأمر والنهي فيها من بعد الله تعالى وقد أكرمناه بذلك إكراما من لدّنا وقرىء نشاء بالنون لمجانسته قوله تعالى «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا» عطائنا الواسع في الدنيا من الغنى والملك والنبوة «مَنْ نَشاءُ» من عبادنا المخلصين لنا النّافعين لعبادنا «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» 56 منهم فيها لأن الإضاعة تكون للعجز أو الجهل أو

البخل، والكل محال عليه تعالى، فامتنعت الإضاعة وحل الإحسان، وهو يعم أمورا كثيرة وحقيقة الشاهد والعيان، قال صلّى الله عليه وسلم في حديث جبريل الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه، قال أخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه الرؤية ليست برؤية عيانية بل حالة تحصل عند الرسوخ في كمال الإعراض عما سوى الله، وتمام توجهه إلى حضرته المقدسة بحيث لا يكون لسانه وقلبه وهمه غير الله تعالى، وسميت هذه الحالة مشاهدة لمشاهدة البصيرة إياه تعالى كما أشار إليها بعض العارفين بقوله: خيالك في عيني وذكرك في فمي ... وحبك في قلبي فإين تغيب وقال الكندي: وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي خيالك في عيني أم الذكر في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي قال تعالى: «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» من أجر الدنيا مهما كان عظيما وهو مهيء «لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ 57» الله تعالى فيأتمرون بأمره وينتهون بنهيه وفيه إشارة إلى أنه كان من المتقين زمن الهم والميل، واعلام بأن الله تعالى أعد ليوسف عليه السلام في الآخرة أعظم مما أتاه في الدنيا قالوا ولما اشتد القحط وعم البلاء احتاج أهل البادية إلى الميرة من الحاضرة فأتوا مصر ومن جملتهم أهله حيث كانوا نازلين بالعربات من أرض فلسطين عند ثغور الشام فقال السيد يعقوب عليه السلام لأولاده بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فاقصدوه ثم جهزهم وأرسلهم وذلك قوله تعالى «وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ 58» جاهلون كونه هو إذ لم يعرفوه البتة، وذلك لأنهم جاءوا عليه على حالتهم البدوية التي تركهم عليها، فعرفهم هو لذلك وهم رأوا ملكا متوجا بتاج الملك بزي ملوك مصر فمن أين يعرفونه، على أن العرفان يخلقه الله تعالى في القلب ولم يخلقه فيهم إذ ذاك ليحقق الله ليوسف عليه السلام ما وعده به في قوله (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الآية 15 المارة.

مطلب أول من سن التحقيق عن الهوية ومعنى الأخوه وفضلها ومحاسن الأخلاق:

مطلب أول من سن التحقيق عن الهوية ومعنى الأخوه وفضلها ومحاسن الأخلاق: قالوا ولما دخلوا عليه حيوه بالعربية فرد عليهم بها، وكلمهم وسألهم، فأخبروه بهويتهم وحالهم ومحلهم والسبب الذي جاء بهم إليه، فقال لهم عليكم جئتم تنظرون عورة بلادي؟ فقالوا ما نحن بجواسيس وإنما نحن أخوة أولاد أب واحد، وكنا اثنى عشر وها نحن عشرة ولنا أخ آخر لأب تركناه عند والدنا حيث كان له أخ أحبنا إلى أبينا وقد هلك بالبرية، فأمسك أخاه يتسلى به، وان مجيئنا للميرة ليس إلا كما ذكرنا. قالوا وبعد إكرامهم أراهم من لين الجانب ما قرت أعينهم به، قال ومن يعرفكم ويعلمنا صدق قولكم؟ قالوا لا أحد لأنا غرباء، قال ائتوني إذا بأخيكم لأبيكم الذي هلك أخوه كما زعمتم ليظهر لي حقيقة قولكم، قالوا ان أباه يحزن لفراقه، قال اتركوا أحدكم عندي رهينة حتى إذا تبين أنكم جواسيس أجريت معه ما يستحقه الجاسوس من الجزاء، لأن هيئتكم تدل على أنكم عيون لا ممتارون كما تزعمون، وإنما قال لهم ذلك مع علمه بخلافه توطئة وتقدمة لأن يستنزلهم لجلب أخيه وإلا فبعيد عليه عليه السلام أن يتهمهم بذلك لأن هذا إذا كان على حقيقة يكون من البهت والبهت لا يليق صدوره منه ويصرف هذا عن معناه الحقيقي زيادة إكرامهم وحسن مكالمتهم وايفاؤه الكيل لهم وتزويدهم لما يحتاجون من الطعام في سفرهم وقوله لهم بعد هذا «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ 59» فوافقوه على ما قال وافترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا بعد يهوذا، فسلموه إليه قال تعالى «وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ» بفتح الجيم، وكسرها لغة رديئة، إذ حمل لكل منهم بعيرا وبالغ بملاطفتهم وإكرام وفادتهم واحسان ضيافتهم، فلما غادروه «قالَ» لهم «ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ» يطلق على الأخوة لأب بنو الأعيان والإخوة لأم بنو العلّات ويقال للأخوة من أم واحدة وآباء متفرقين بنو الأخياف وللأخوة من أب وأم أشقاء وقد نكر الأخ مبالغة في عدم معرفته لئلا يتهموه بمعرفتهم أو ينتبهوا لها، والأخ قد يكون أكثر شفقة من الابن وقد أثنى الله على الأخوة بقوله جل قوله (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) الآية 110 من آل

عمران في ج 3، وقال «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» الآية 48 من سورة الحجر الآتية وقال صلّى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها أتلف وما تناكر منها اختلف وقال صلّى الله عليه وسلم ان روحي المؤمنين يلتقيان في مسيرة يوم، وما رأى أحدهما صاحبه، وقد سنّ الإخاء وندب إليه وآخى بين أصحابه، وجاء في الخبر عنه صلّى الله عليه وسلم كم أخ لك لم تلده أمك، وقال عليه الصلاة والسلام الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين. وقال جعفر الصادق عليكم بالإخوان فأنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة. وقال الشاعر: أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح وقال زياد خير ما اكتسب المرء الإخوان، فإنهم معونة على حوادث الزمان، ونوائب الحدثان، وعون في السراء والضراء. قال ابن السماك أحق الإخوان ببقاء المودة الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملّك على القرب ولا ينساك على البعد ان دنوت منه داناك، وان بعدت عنه راعاك، وان استعنت به عضدك، وان احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله، فهو الذي يواسيك في الشدة أكثر من الرخاء، ويغار عليك كما يغار على نفسه ويساوي حاجتك بحاجته بل تقتضى مروءته تقديمها على حاجته ولو أضرّت به. وفي هذا قيل: دعوى الإخاء على الرخاء كثيرة ... ولدي الشدائد تعرف الإخوان وقال الآخر: إن أخاك الحق من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتّت فيك شمله ليجمعك وقيل لخالد بن صفوان أي اخوانك أحب إليك؟ قال الذي يسد قلّتي، ويغفر زلّتي، ويقبل عثرتي وقيل من لم يوأخ إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا بايثاره على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه وكثر تعبه. وقيل في ذلك: إذا كنت في كل الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه وإن أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

وقالوا إذا رأيت من أخيك أمرا تكرهه، أو خلة لا تحبها فانصحه وانهه واضرب له الأمثال على قبح عاقبتها، ولا تهجره رأسا، ولا تقطع صلته ولا تصرم ودّه، ولكن داو كلمته، واستر عورته، وابقه وابرأ من عمله قال تعالى (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) الآية 267 من سورة الشعراء في ج 1، فإن الله لم يأمره بقطعهم بل بالبراءة من سيء عملهم، وقيل: أخاك الذي إن تدعه لملمة ... يجبك كما تبغي ويكفيك من يبغي وان تجفه يوما فليس مكافئا ... فيطمع ذو التزوير والوشي ان يبغي وقالوا ليس سرورا يعدل لقاء الاخوان ولا غم يعدل فراقهم، ولكن من هؤلاء الإخوان فإن اخوان أهل هذا الزمن خوّان، ان أبديت لهم شيئا أحبوك وان منعتهم رفدك بغضوك، وهم كما قالوا شر الإخوان الواصل في الرخاء الخاذل في الشدة، وهذا الصنف منهم كثير، وفيهم يقول القائل: بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئابا على أجسادهن ثياب وأتى هؤلاء ممن نوه بهم حضرة الرسول بقوله ما تحابّ اثنان في الله الا كان أفضلهما عند الله أشدهما حبا لصاحبه، وما زار أخ أخا في الله شوقا إليه ورغبة في لقائه إلا نادته الملائكة من ورائه طبت وطابت لك الجنة. وما أحسن ما قيل: وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحبا بعد صاحب فلم ترني الأيام خلأ تسرني ... مباديه إلا ساءني في العواقب راجع الآية 29 من سورة الفرقان في ج 1 تجد ما يتعلق بهذا البحث، وله صلة في الآية 67 من سورة الزخرف الآتية فراجعها، قال تعالى «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» لكم ولغيركم إيفاء مستمرا بدلالة استقبال الفعل لأن هذا الكلام وقع بعد أن كال لهم «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ 59» المقرين للضيف سابقا ولا حقا بدلالة الجملة الاسمية ولم يقل هذا بطريق الامتنان بل قاله حتما لهم على تحقيق ما أمرهم به يدل عليه قوله «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي» مرة أخرى ففيه إيعاد لهم على عدم الإتيان بأخيهم المتضمن مخالفة أمره وزاد في

[سورة يوسف (12) : الآيات 61 إلى 70]

الوعيد بقوله «وَلا تَقْرَبُونِ 60» البتة إذ يظهر له عدم صحة قولكم هذا على قراءة الكسر، وعلى قراءة الفتح يكون المعنى لا تدخلوا بلادي لأني سأعاملكم معاملة العيون. وتأتوني تقرأ بالهمز وبدونه مثل يأكل ويأكل، أي أنه يعاملهم معاملة الجواسيس فضلا عن عدم الإيفاء بالكيل والإحسان في الضيافة أي لا أمدكم ولا أدخلكم بلادي وسأردكم خائبين وذلك عبارة عن ترهيب وتضييق ووسيلة لاهتمامهم بجلب أخيه «قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ» فنحتال عليه حتى ننتزعه منه ونحضره لك وأكدوا له تنفيذ ما أمرهم به بقولهم «وَإِنَّا لَفاعِلُونَ 61» ما أمرتنا به إذ لا غنى لنا عن العودة لحاجتنا إلى الميرة لأنا آل بيت معروف تطرقه الضيفان من كل مكان وما تصدقت به علينا لا يكفينا، وأذن لهم بالانصراف «وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ» من طعامهم الذي ابتاعوه منه «فِي رِحالِهِمْ» أوعيتهم التي يحملون فيها أشياءهم «لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 62» إلينا، لأن ديانتهم وأمانتهم تحملهم على ردها فيحصل المطلوب من قصد حضورهم بأخيهم، وهذا التفسير أولى بالمقام وبسياق الكلام من أن يراد بالبضاعة معرفة كرمه وسخائه لأنهم قد علموا ذلك مما تقدم، أوانه رأى أخذ الثمن من أهله لؤما مع أنه ليس بشيء عنده، وقد صمم على بيعهم إليه أو أنه أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب فرده إليهم، فهذه الأوجه كلها وان كان يحتملها التفسير إلا أنها بعيدة عن المرمى نائية عن المغزى، والله أعلم. قال تعالى «فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» قال لهم ولم ذلك قالوا إن ملك مصر أحسن وفادتنا وأكرمنا إكراما لو كان من ولد يعقوب ما فعل بنا مثله، إلا أنه ظن أنّنا جواسيس وعيونا على مملكته لأنا من قطر غير قطره، طلب أولا منا من يعرّفنا بعد أن عرفناه بحالنا ونسبنا فقلنا له إنا غرباء لا يعرفنا أحد، فازداد تنكرّه منا وأخذ أخانا شمعون رهنا على أن نحضر له أخانا بنيامين دلالة على صدقنا إذ ذكرنا له قصتنا وفقد أخينا الذي هو أحبنا لأبينا، وإننا لم نأت به لأن أبانا أبقاه يتسلى به، وقال لنا إن لم تأنوا به فلا أميركم بعد أبدا «فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا

نَكْتَلْ» ثانيا لأن الزمن زمن قحط وإنا بحاجة للطعام كما تعلم، ولا تخف عليه فاتركه يذهب معنا «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 63» لا نفرط به البتة، فلم يجب طلبهم، لأنه لما أجاب طلبهم بيوسف فعلوا ما فعلوا به، ولهذا «قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ» أي كيف آمنكم عليه وقد فعلتم في أخيه ما فعلتم وقد قلتم مثل هذا القول المؤكد بأصناف التوكيد وأكثر ثم فرطتم به لا أسلمه لكم ولا آمنكم عليه «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً» منكم ومني ومن الخلق أجمع «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 44» بي وبه وبكم وبسائر مخلوقاته ولكن اذهبوا إليه وقولوا له إن أبانا يصلي عليك أي يدعو لك على ما أوليتنا من معروف وهو يجيب طلبكم إن شاء الله، ولما رأوا جزم أبيهم على عدم إرساله سكنوا «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ» إذ رأوها مدسوسة بين أمتعتهم فدهشوا وعادوا إلى أبيهم «قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي» أيّ شيء نعمل وراء ما فعل بنا من الإحسان ملك مصر وأوفى لنا الكيل وأكبر وفادتنا فما نطلب منه بعد ذلك كله و «هذِهِ بِضاعَتُنا» التي أعطيناها له من ثمن القمح الذي باعه لنا «رُدَّتْ إِلَيْنا» أيضا فلا نحتاج إلى ثمن آخر، فهيء لنا أخانا لنذهب به إليه ثانيا «وَنَمِيرُ» نحمل الطعام ونجلبه من بلد آخر من مار يمير والمصدر الميرة، أي نمير «أَهْلَنا» به «وَنَحْفَظُ أَخانا» من كل ما نخاف عليه مما خطر ببالك ومما لم يخطر حتى نرده إليك سالما «وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» على السفرة الأولى، لأن الملك لا يعطي الرجل الواحد أكثر من حمل واحد «ذلِكَ» القمح الذي جلبناه في المرة الأولى «كَيْلٌ يَسِيرٌ 65» قليل لا يكفينا وأهلنا فضلا عن الضيفان، وأن الملك يسهل عليه ما يعطينا ولا يتعاظمه علينا لما شاهدنا منه من العطف واللطف «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ» بالتاء والياء «مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ» عهدا موكدا باليمين «لَتَأْتُنَّنِي بِهِ» سالما كما أخذتموه وتحسنوا رفقته، وهذا اليمين لا أقبله منكم على الانفراد بل من جميعكم، على أن لا تتركوه «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» من قبل الأعداء فتغلبوا جميعكم عليه، بحيث لا تقدرون على خلاصه والرجوع به إليّ، بأن تقاربوا الهلاك، في ذلك تقول العرب أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك.

مطلب تعهد أولاد يعقوب بأخيهم الثاني والإصابة بالعين وسببها وما ينفعها:

مطلب تعهد أولاد يعقوب بأخيهم الثاني والإصابة بالعين وسببها وما ينفعها: فقبلوا ما اشترطه عليهم لأنهم رأوا أنفسهم مضطرين لأخذه لما ذكر ولإيفاء وعدهم للملك ولخلاص أخيهم الذي تركوه رهينة عنده، «فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ» على الصورة التي أرادها «قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ 66» في هذا العهد وأذن لهم به وفوض أمره إلى الله وأرسله معهم، ولما خرج يودّعهم ويدعوا لهم ويوصيهم بعضهم ببعض ورأى هيئتهم وكثرتهم خاف عليهم من العين «قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ» فتتطرق إليكم أعين أهل مصر ولكن تفرقوا «وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» أي كل ثلاثة أو أربعة من باب، وذلك حرصا عليهم من أعين أهل مصر لما هم عليه من الحسن وعظم القامة، وخوفا من الحسد أيضا لما في هاتين الخصلتين من تشعث القلوب من أنهما يؤثران بالإنسان من ذوي النفوس الخبيثة، ومذهب أهل السنة والجماعة أن العين إنما تفسد أو تهلك عند نظر العاين بفعل الله تعالى، وإذا أخبر الشرع بوقوع شيء وجب اعتقاده، ولا يجوز تكذيبه وإنكاره لأنه من مجوزات العقل، فلا يعتد بقول جساحده، روى أبو داود عن عائشة قالت: يؤمر العاين فيتوضا ثم يغتسل منه المعين وقد ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيفة لما أصيب بالعين عند اغتسالة رواه مالك في الموطإ، وقدمنا في الآية 52 من سورة القلم ج 1 ما يتعلق بهذا البحث مفصلا وموثقا بالأدلة فراجعه، وكان صلّى الله عليه وسلم يعوذ بالحسن والحسين، فيقول أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة، ومن كل عين لامة. وزعم الطبيعيون أن العاين تنبعث من عينيه قوة سميّة تتصل بالمعان فيفسد أو يهلك كانبعاث قوة سمية من الأفاعي والعقارب فتصل بالملدوغ فيهلك، وإن كان غير محسوس لنا، فهكذا المعان تتصل به من عين العاين قوّة سمية غير مدركة فتصعقه أو تهلكه، إلا أن انبعاث السم من الأفاعي والعقارب يكون بالاتصال وهناك لا اتصال، فلا يحسن التمثيل، إذ لا يقره العقل الذي جعلوه مصدرا للقبول والعدم، ولذلك قال المازني هذا غير مسلم لأنا بينا في كتب الكلام أن لا فاعل إلا الله، وبينا فساد

القول بالطبائع، وبينا أن المحدث لا يفعل شيئا فيبطل ما قالوه، على أن هذا المنبعث من العين، إما جوهر أو عرض، فباطل أن يكون عرضا، لأنه لا يقبل الانتقال، وباطل أن يكون جوهرا لأن الجواهر متجانسة، فليس لبعضها بأن يكون مفسدا لبعض بأولى من عكسه، فبطل ما قالوه، لكن من تخيل الإسلام منهم قال لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرثية من عين العاين فتتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه فيخلق الله تعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السموم، عادة أجراها الله تعالى، وليست ضرورية، ولا طبيعية الجاء الفعل إليها، ولكون العين حقا شرعت الرّقيا من أجلها، لأنها من جملة الأسباب الدافعة لها، فينبغي لمن عرف نفسه أنه ذو عين أن لا ينظر إلى الأشياء نظر إعجاب، وأن يذكر الله تعالى عند رؤية ما يستحسنه، وعلى السلطان أن يمنع من عرف ذلك منه منى مخالطة الناس، وقالت المالكية: لا فرق بين العاين والساحر، أي أنهما يقتلان إذا قتلا، ويحبسان إذا خيف وقوع ضرر منهما. هذا وينبغي لكل أحد أن يقول كل يوم ما شاء الله لا قوة إلا بالله، حصّنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت، ودفعت عنها السوء بألف لا حول ولا قوة إلا بالله. وما قيل إن من له نفس شريفة لا تؤثر عينه مدفوع بما رواه القاضي أن نبيّا استكثر قومه فمات منهم في ليلة واحدة مائة ألف، فشكا ذلك إلى الله فقال له سبحانه أنت استكثرتهم فعنتهم، هلا حصّنتهم إذا استكثرتهم، فقال يا رب كيف احصّنهم؟ قال تقول حصنتكم بالحي القيوم إلخ. ومن قال إن يعقوب عليه السلام خاف عليهم الاغتيال أو لئلا يفطن عليهم أعداؤهم فيهلكونهم أو يصل بنيامين قبلهم فيتصل بأخيه ينفيه قوله تعالى «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» لأن القدر كائن لا محالة لا قدرة لي على دفعه عنكم «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» وحده، إذ هو تفويض منه عليه السلام في أموره كلها إلى ربه عز وجل دون سواه، ومن جملتها ما خاف عليهم من العين، ولم يخطر بباله اتصال بنيامين بأخيه لأنه لو علم ذلك لما امتنع أولا من إرسال بنيامين معهم، ولما أخفى على أولاده كونه يوسف فيما بالغوا بإكرامه لهم، ولما وقع منهم هذا التفويض الذي ينم عن الأسف

والحزن على يوسف الدال عليه قوله «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 67» وفيه إرشاد لأولاده وغيرهم بالتوكل على الله في كل الأمور. قال تعالى «وَلَمَّا دَخَلُوا» أبواب المدينة الأربعة «مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ» أي دخلوا متفرقين في أبواب المدينة تنفيذا لأمر أبيهم، وإلا في الحقيقة التي هي في علم الله «ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ» ذلك التفرق في الدخول «مِنَ اللَّهِ» إذا كان قدر عليهم شيئا من أقداره الأزلية أن يرد عنهم «مِنْ شَيْءٍ» قط كما ذكرنا وفيها إيذان بتصديق قول يعقوب عليه السلام وما أغنى إلخ، لأنه بعد أن أمرهم بالدخول من الأبواب خوفا عليهم من العين والحسد رجع ففوض أمره إلى ربه، وما كان ذلك منه يقينا «إِلَّا حاجَةً» هي شفقة الآباء على الأبناء، وقد كانت «فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ» أن يقولها في وصيته لهم، فلما ذكرها لهم وذكرهم فيها «قَضاها» فلم يبق في نفسه ما يوصيهم به، والاستثناء منقطع، وإلا فيه بمعنى لكن «وَإِنَّهُ» يعقوب عليه السلام «لَذُو عِلْمٍ» غزير وفهم كثير بأن الحذر لا يغني عن القدر، وأن لا دافع لما أراده الله، ولا مانع «لِما عَلَّمْناهُ» بالوحي الذي أنزلناه عليه عند تشريفه بالنبوة. ويشعر تأكيد الجملة بأن واللام والتنكير وتعليلها بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة. إلى جلالة قدر يعقوب عليه السلام وعلو شأنه وواسع علمه وعظيم تبجيله «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 68» ما يعلمه يعقوب لأنه على نور من ربه وعلم جليل علمه إياه، وأن جميع ما في الكون علويه وسفليه لا يعلمون شيئا مما يعلمه الله إلا بتعليمه إياهم. قال تعالى «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ» قالوا له أيها الملك هذا أخونا الذي ذكرنا لك عنه وأمرتنا بإحضاره فشاهده وعرفه، ولكن لئلا يحسو بما أراده ودبره سأله عما قالوه لهم بشأنه وشأن أخيه، فذكر له ما ذكره له اخوته حرفيا فقال لقد تبين لي الآن صدقكم وقد أحسنتم بأن أزلتم الشبهة عن أنفسكم وعن ما كنت أتصوره فيكم، قالوا فزاد في إكرامهم وقراهم وأجلس كل اثنين على مائدة فجلسوا وبقي بنيامين وحده، فتنهّد وقال في نفسه لو كان أخي حيا لجلس معي، فأحسّ يوسف بما جال في خاطره وصار يتفقدهم ويبش في وجوههم ويجلب لهم الأكل والشراب

الذي أحضره لهم، ومر في بنيامين فقال له أنت وحدك على مائدة وإخوتك كل اثنين، وجلس معه وصار يأكل، ولما جن الليل هيأ لكل اثنين غرفة وأمرهم أن يناموا فيها، فناموا كذلك وبقي بنيامين وحده في غرفة فيها سريران، فدخل عليه بعد أن تفقدهم أيضا ونام معه في غرفة واحدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «آوى إِلَيْهِ أَخاهُ» قالوا فلما خلا به، قال له ما معنى بنيامين بالعربية لأنها كلمة عبرانية؟ فقال معناها المتوكل، فقال تعرف أخاك الذي قيل إنه هلك بالبرية؟ قال نعم ولكن لا يشبه أحدا من إخوتي ولا من غيرهم، قال تحب أن أكون أنا بدله؟ قال ومن يجد أخا مثل الملك وأنت الذي لا نظير لك في محاسن الأخلاق ومكارم الآداب والبهجة والجمال والكمال، إلا أنه لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عليه السلام وضمه إليه و «قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ» يوسف ابن يعقوب وراحيل «فَلا تَبْتَئِسْ» لا تحزن ولا تأسف «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 69» بي وبك فيما مضى، والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس، وقالوا قال له لا تخبر إخوتك بهذا واذهب معهم، قال لا أفارقك أبدا، قال افعل ما آمرك وسترى كيف آخذك منهم، قال نعم الأمر إليك قال تعالى «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ» تقدم مثله، وذلك بأن كال لهم وزودهم ووفى لهم بأحسن مما مر ثم انهم أخبروه ببضاعتهم، الأولى بأنهم وجدوها بين أمتعتهم وأتوا بها إليه قالوا إنا لا نستحل كتمها لأنا أخذنا قمحا بدلها ويحرم علينا في ديننا ذلك وقالوا إن أبانا يدعو لك ويحبك ويصلي عليك، لأنا ذكرنا له حسن وفادتك لنا وإكرامك إيانا، فلمّا سمع منهم ذلك لم يسئلهم كيف وصلت إليهم لأنه عالم بها فقال إذ كان ذلك منكم، وقد توسمت فيكم الخير، فإني أسمع لكم بها لقاء صدقكم وأمانتكم وإتيانكم بأخيكم، وهو قد سمع لهم بها حين وضعها بأمتعتهم، ولكن لقصد وقد حصل، ثم تفكر كيف يتمكن من إبقاء أخيه عنده فتخيل في نفسه أن لا يكون ذلك إلا بتدبير فيه تهمة لذلك «جَعَلَ السِّقايَةَ» علبة الكيل وأصلها مشربة الملك التي كان يشرب فيها وكانت من ذهب وبسبب الغلاء الشديد، وعزة الطعام جعلها صاعا للكيل ووضعها بيده نفسه «فِي رَحْلِ أَخِيهِ» لئلا يحس أحد فيما

[سورة يوسف (12) : الآيات 71 إلى 80]

دبره لأخذ أخيه، وقيل أنه أمر الكيالين أو أحدهم بوضعها في حمل أخيه، لأن الملك عادة لا يباشر ذلك بنفسه كما يفهم من قوله وجهزهم، لأن المجهز فتيانه لا هو والله أعلم أي أنه دسه فيه من حيث لا يعلم هو أيضا، ثم أمرهم بنقل متاعهم وودعهم وتركهم يتحادثون في حسن صنيعه لهم دون سائر الممتارين، حتى إذا علم أنهم تجاوزوا عمران المدينة أرسل إليهم فتيانه وأخبرهم بفقد السقاية وأنهم آخر من خرج من حمل الكيل وأمرهم أن يسرعوا ليلحقوهم ويسألوهم عنها، فتبادروا يهرولون حتى قربوا منهم ولذلك عبر بأداة التراخي قال «ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ» نادى مناد منهم عليهم قائلا «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» يا أهلها والعير الإبل المحملة «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ 70» وقصد بمناداتهم بلفظ السرقة سرقتهم إيّاه من أبيه، لأنهم لما احتالوا عليه بأخذه للنزهة وكان قصدهم قتله فكأنهم سرقوه، وهذا من المعاريض وفيها مندوحة عن الكذب، وهذا على القول بأن القائل هو يوسف عليه السلام، وعليه فلم يبق مجال لقول من قال إنه لا يليق به وهو نبي أن يتهمهم بشيء، يعلم أنهم براء منه وعلى القول بأنه أخبر فتيانه الموكلين بالكيل بفقد الصاع وأمرهم أن يتبعوهم لأنهم هم الذين أخذوه ليلحقوهم ويستردوه منهم، ولم يأمرهم بالمناداة عليهم بلفظ السرقة فليس في الأمر شيء من ذلك، والقضية لا تخلو ولكنها للمصلحة، تدبر «قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ» ووقفوا مكانهم حتى وصلوا إليهم وقالوا أيها الفتيان «ماذا تَفْقِدُونَ 71» قالوا لهم ألم يكرمكم الملك ويأمر بحسن قراكم ويبيتكم عنده ووفى لكم الكيل ورد عليكم بضاعتكم قالوا بلى وله الشكر وحسن الثناء منا ما حيينا «قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ» فقدناه بعد ذهابكم ولم نكل لغيركم به فردوه إلينا والله يجزيكم خيرا، واعلموا أن الملك تفضل وقال «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ» بأن رده من تلقاء نفسه حلوانا من عنده حلالا «حِمْلُ بَعِيرٍ» من الطعام ثم قال المنادي «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ 72» كفيل بإعطائه لمن يعطينا إياه ويكفينا مؤنة التحري عليه، والزعيم الكفيل بلغة اليمن، ويأتي الحميل بمعنى الكفيل أيضا، قال صلّى الله عليه وسلم الحميل غارم فلما سمعوا بهتوا وردوا عليهم بلسان واحد «قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ» ديانتنا وأمانتنا، وذلك أنهم حينما قربوا من المدينة شدوا أفواه

رحالهم لئلا تأكل من الزروع والطعام العائد لأهل القرى، ولم يزالوا كذلك حتى دخلوا المدينة، وأنهم ردوا البضاعة حين اطلعوا عليها دون طلب أو سؤال، ثم قالوا «ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ» وذلك لأنه حين قال لهم الملك إنكم جواسيس وأثبتوا له خلافه وأحضروا له أخاهم وشهد له بما ذكروة وتركوا له أخاهم شمعون رهينة حتى ظهر له صدق قولهم، ثم قالوا له «وَما كُنَّا سارِقِينَ 73» السقاية ولا غيرها من قبل حيث لم يصدر هكذا أفعال سيئه منا وهذه الجملة نفي لقولهم أنكم لسارقون ثم قالوا لهم بعد أن أقسموا على تلك الأمور الثلاثة إنا آل يعقوب لا نقدم على شيء مما ذكرتم، وفي الآية قسمان، لأن العرب تجري العلم مجرى القسم، كما أن الشرع أجرى لفظ الشهادة مجرى اليمين، قال قائلهم ولقد علمت لتأتين منيّتي ... ان المنايا لا تطيش سهامها فأجابهم للفتيان عن تقديم السرقة «قالُوا فَما جَزاؤُهُ» أي السارق عندكم بينوه لنا «إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ 74» بحلفكم هذا حتى تجرى عليه ذلك «قالُوا جَزاؤُهُ» عندنا آل يعقوب «مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ» أي الذي يوجد الصاع في حمله «فَهُوَ جَزاؤُهُ» بأن يسلم نفسه لصاحب السرقة ليسترقه سنة كاملة، وهذه سنتنا في كل سارق إنما قال جزاؤه ولم يقل هو، لأن الأنسب الإضمار في مثله، قالوا بل الإظهار أحسن هنا لإزالة اللبس، وعليه قوله: لا أرى الموت يسبق الموت بشيء ... نغص الموت ذا الغني والفقيرا «كَذلِكَ» مثل هذا الشرع الذي ذكرناه لكم أيها الفتيان شرع آل يعقوب ومثل هذا الجزاء «نَجْزِي الظَّالِمِينَ 75» السراق وهذه من جملة كلام أولاد يعقوب عليه السلام لا من كلام الفتيان كما قاله بعض المفسرين، لأن الفتيان ليس لهم من الأمر شيء حتى يقولوا نجزي، فقال أصحاب يوسف لا بد لنا حينئذ من تحري أوعيتكم ورحالكم حتى يتقن، قالوا لا بأس دونكم، قالوا ورجعوهم إلى المدينة ليتحروهم أمام الملك، لأنهم لم يجسروا على تحريهم استبدادا من أنفسهم لما رأوا ما لهم من الاحترام عنده دون سائر الناس، وذلك بعد أن ذكروا له ما دار بينهم من الكلام وما اتفقوا عليه من جزاء السارق وأنهم وافقوا على التحري

مطلب اتهام بنيامين بالسرقة وما وقع لأخوته مع ملك مصر من جراء ذلك:

براءة لساحتهم، فأمر يوسف كبير أعوانه بذلك «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ» أي فتش أولا أوعية أخوته لأبيه «قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ» الشقيق بأن أخره بعدهم. مطلب اتهام بنيامين بالسرقة وما وقع لأخوته مع ملك مصر من جراء ذلك: قالوا فلم يروا شيئا، وكانوا كلما فتحوا متاعا أو وعاء لا ينظر إليه يوسف ويستغفر الله ربه تأثرا مما رماهم به حتى لم يبق إلا رحل بنيامين، فأراد الأعراض عنه فقال اخوته لا والله لا نتركك حتى تتحراه أيضا، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا فأمر بفتحه إجابة لطلبهم، ثم تحروه فوجدوه فيه، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» أنت الضمير هنا وذكره آنفا لأن الصواع يذكر ويؤنث أو أنه عند التأنيث يعود للسقاية، وفي التذكير يعود للصواع، قالوا لما رأوه الأخوة بهتوا ونكسوا رءوسهم وأقبلوا على بنيامين يلومونه. ويقولون له يا ابن راحيل فضحتنا وسوّدت وجوهنا، فقال والله ما وضعته ولا سرقته، فقالوا يا ابن راحيل ما زال يأتينا منكم بلاء، فقال لهم بعد أن شددوا عليه بالتأنيب إن ابن راحيل ما زال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، وأقيلتم تؤنبوني على ما لم أعلم، ان الذي وضع الصاع في رحلى هو الذي وضع البضاعة في رحالكم في المرة الأولى، وقصد بهذا يوسف عليه السلام لأنه في الحقيقة هو الذي فعل الأمرين بنفسه أو بأمره ولكنه عرض بهم ليفهمهم انكم أنتم جئتم أولا بالبضاعة والآن بالسقاية، فتذكروا إن كنتم تعلمون بمن وضع البضاعة في رحلكم، فأنا أعلم الذي وضع السقاية في رحلي، وإذا كنتم لا تعلمون فأنا أيضا لا أعلم. ولما سمعوا منه هذا القول سكتوا وظنوا أن ما قاله هو الواقع، قالوا فأخذ يوسف بنيامين بمقتضى شرع أبيه الذي ذكره إخوته وأمرهم بالانصراف، قال تعالى «كَذلِكَ» مثل الكيد العظيم «كِدْنا لِيُوسُفَ» وعلمناه إياه والكيد من الناس حيلة ومكر ومن الله تعالى تدبير بالحق، ولولا هذا التعليم والتدبير السديدين «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» لأن شريعة ملك مصر أن يغرم السارق مثل ما أخذ ويضرب فقط، لا أن يؤخذ ويسترق «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» ذلك، لأن هذا كله إنما وقع من يوسف بالهام من الله تعالى ومشيئته، ولولا

ذلك لما جرى الأمر على ما أراد قال في درر المرتضى إن كدنا تأتي بمعنى أردنا، وعليه أنشد: كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى هذا وانا نحن إله السموات والأرض الخافض الرافع «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» بالعلم والعمل كما رفعنا رتبة يوسف على إخوانه باقتضاء حكمتنا وما تستدعيه المصلحة «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 76» من البشر إلى أن ينتهي إلى ربه تعالى مما لا يناله البشر، راجع الآية 43 من النجم المارة في ج 1، ولما رأى الإخوة أن سقط في أيديهم وقد احتفظ الملك بأخيهم وأمرهم بالانصراف أقبلوا عليه كلهم و «قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» وعرضوا بكلامهم هذا بأن أمهم ليست بامه، قيل إن السرقة التي عزوها ليوسف وعيروا بها أخاه هي ما ذكرناه قبل في قصة المنطقة عند قوله تعالى، (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الآية 34 المارة، وما قيل إنه عليه السلام كان سرق بيضة أو صنما أوانه كان يسرق الطعام ويعطيه للفقراء أقوال أضعف من القول الذي أخذنا به، لأن هذا وأمثاله مما لم ينبه عليه الله تعالى ولم يوقف على حقيقته أحدا، وإن علمه عند الله وحده، وما ذكر كله على علاته لا يسمى سرقة على فرض صحتها، وإنما سميت سرقة لشبهها بها، وبما أنهم لم يجدوا ما يعدوه عليه عيبا من شيء ظاهر معقول ولا ما يمس بكرامته غير ذلك، عدوه عيبا عليه، من حيث لا يعد إلا على حد قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فأول من قراع الكتائب قال تعالى «فَأَسَرَّها يُوسُفُ» عليه السلام أخفى تلك المقالة التي وصموه بها بالسرقة حيث جعلها مكتومة في سره «وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ» لا قولا ولا فعلا بل صفح عنها حلما وعفوا أو كتم ما أراد ان يجابههم به من القول جوابا على مقالتهم تلك، وهي المعني بها بقوله تعالى «قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» منزلة ممن رميتموه بالسرقة، أي ذكر هذه الجملة في نفسه عليه السلام لما حصل في قلبه من الحزازة الحاصلة من قولهم ذلك، والحزازة وجع القلب من غيظ ونحوه، وقيل أنه عليه السلام أراد بقوله لاخوته (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) لما أقدموا عليه من

أخذهم له بطريق الاحتيال وظلمهم بضربه في الأرض والقائه في الجب، وكذبهم على أبيهم بأن الذئب أكله، وبيعهم له بثمن بخس، وبعد هذا كله ومرور الزمن الطويل ترى بقاء الحقد عليه بقلوبهم حتى رموه الآن بالسرقة، وهذا وجيه كله لولا كلمة الحقد لأنه بعد أن شرفهم الله بالنبوة لم يبق في قلوبهم حقد ولا حسد، ولكنها كلمة سبق بها اللسان في مثل هذا الحال، واختطفها القلم فأثبتها «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ 77» به يوسف وأخاه ثم تذكروا موثقهم الذي أعطوه لأبيهم بأن لا يفرطوا به حتى يغلبوا جميعهم كما مر في الآية 66 وعزموا على إيفاء عهدهم لأبيهم وهم أحق ممن يفي بعهده، فالتفتوا إلى يوسف وخاطبوه بما ذكر الله عنهم عزّ ذكره «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً» في السن والقدر والجاه، وأن من كان كذلك فان ابنه يستوجب العفو والصفح احتراما له فضلا عن أنه لا يصبر على فراقه مدة استرقاقه، إذ أقعدته الكآبة على أخيه الأول وصار يتعزى عنه بهذا، فنرجو منك أيها الملك الصفوح الحليم أن تعفو عنه وإلا «فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 78» للناس عامة ولنا خاصة، وعددوا فضائله التي أجراها لهم «قالَ» يوسف أنا لا أمنّ بإحساني إليكم «ولكن مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ» لم يقل من سرقه تورعا، ولذلك سنّ للشاهد أن يقول أخذ لا سرق درأ له في الحد «إِنَّا إِذاً» إذا أخذنا بدله وتركناه «لَظالِمُونَ 79» مبالغون في الظلم بأخذنا البريء وتركنا المدان بإجابة طلبكم ونحن ما أخذناه إلا على قولكم وفتواكم حسب شريعتكم، ولو تركتمونا وشأننا لعاملناه معاملة رعيتنا بمقتضى شرع البلاد بأن نأخذ منه مثل ما سرق ونضربه ثم نتركه، أما الآن وقد تم ما توافقنا عليه فلا مجال لتركه إذ لا يجوز للملك أن يرجع عن أمر أنفذه إلا بعفو، والسارق ليس بأهل له «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ» وعرفوا يقينا أنه لا يرده إليهم ولا يقبل فداءه بأحدهم «خَلَصُوا نَجِيًّا» انفردوا عن الناس بأنفسهم يتناجون بينهم ويتشاورون ماذا يفعلون «قالَ كَبِيرُهُمْ» وصاحب مشورتهم يهوذا المنوه به في الآية 10 المارة «أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ

اللَّهِ» بزده إليه إلا أن يحاط بكم فتغلبوا جميعكم عليه ولا يمكنكم تخليصه بصورة من الصور «وَمِنْ قَبْلُ» بنيامين هذا «ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ» قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه والقول بكون ما هنا مصدرية أحسن من كونها زائدة، إذ لا زائد في كتاب الله ومن القول بأنها موصولة لأنه يؤدي لجعل كلمة قبل تكرار، إذ يكون المعنى من قبل الذي فرطتم، وعلى الأول من قبل تفريطكم وهو أحسن، قالوا قال لهم يهوذا انكم حين أخذتم يوسف قلتم لأبيكم إنا له لناصحون، إنا له لحافظون، وإنا إذا لخاسرون، راجع الآيات 10 فما بعدها ولم تراعوا محافظة أقوالكم هذه ولم تفوا بوعدكم وعهدكم لما كنتم عليه قبل تشريفكم بالنبوة، أما الآن وقد أكدتم إيمانكم ومواثيقكم أيضا وجزمتم بأنكم لا تتركونه إلا أن تغلبوا أو تقهروا «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ» هذه ولا أغادرها معكم أبدا «حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» بمبارحتها فيقبل عذري بعدم التمكن من استخلاص بنيامين لأنه صار بيد الملك، وقدرته محيطة بنا، إذ لا يمكن أن يباري الملك أو يجارى أو يقابل أو يشادد، لأن قدرته محيطة بنا قالوا إن الكبير الذي قال هذا القول هو روبيل وهو الذي تخلف في مصر وقد مر أنه شمعون راجع الآية 62 المارة، والصحيح أن كبيرهم في السن روبيل، وفي الرياسة شمعون، وفي العقل والمشورة يهوذا، والله أعلم وقال أرى أن نخبر أبانا بهذا ونعلمه بأنا قد أقمنا بما يجب علينا إزاء موثقه الذي أخذه علينا، فيعذرنا أو يأمرنا بما يراه «أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي» برد أخي لأبيه، ولو بقيت ما بقيت أو أخرج قسرا من مصر أو أقاتل الملك، فإما أقتل فأعذر أو أستخلص أخي فأكون بارا بوعد أبي، وهذا الذي أبتغيه من الله «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ 80» فلما سمع روبيل قول أخيه يهوذا غضب، وكان إذا غضب لم يقم لغضبه شيء ولم يقاومه أحد، وكان إذا صاح ألقت الحوامل حملهن، ولكن إذا مسه أحد من ولد يعقوب سكن ما فيه، فقال يا إخوتي كم عدد أبواب مصر قالوا عشرة، قال لهم اكفوني الأسواق، وأنا أكفيكم الملك، ثم تقدم إلى الملك فقال أيها الملك لتردنّ أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقى بمصر امرأة حاملا إلا وضعت، فنظر إليه وإذا

[سورة يوسف (12) : الآيات 81 إلى 90]

كل شعرة منه قائمة ورأى شعر صدره خارجا من ثيابه، فأشار يوسف لابنه الصغير أن يلمسه فذهب إليه وصار الملك يكلمه حتى مسه فسكن غضبه، ونظر إلى اخوته وقال لهم أيكم مسّني قالوا لا أحد، فقال في نفسه ان هذا بذر من بذور يعقوب يريد ابن يوسف لظنه أنه مسه، ثم غضب ثانيا وتطاول على الملك بصوته وكلامه. ولما لم ير يوسف بدا من التخلص منه إلا بمسه تقدم إليه ووكزه برجله فرماه على الأرض وقال له أنتم أيها العبرانيون تزعمون أن لا أحدا أسد منكم قوة، وانما فعل هذا بنفسه ليسكن غضبه بمجرد مسّه، وعرف أنه لو سلط عليه جميع فتيانه لعجزوا عنه ولبطش بهم، فظن اخوته انما سكن غضب أخيهم من شدة وكزة الملك، ووقع على الأرض من قوة تلك الرفسة، فقال بعضهم لبعض لا قدرة لنا على مقابلته، وابتعدوا عنه وقال بعضهم لبعض «ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ» صواع الملك وان الملك ذو بطش وقوة لا طاقة لنا به، وقصّوا له ما حدث بينه وبين كبيرهم روبيل، وتحقق العجز عن تخليصه بمشاهدتنا كلنا «وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا» من ثبوت السرقة بوجود الصاع في رحله فقط، إذ لا شاهد على الفعل، وبما أن وجوده في رحله يحتمل أن دسه فيه وقع ممن لا يعرف طلبنا منه العفو عنه وأن يسدينا معروفا فوق أفضاله السابقة علينا فلم يفعل، لأن السارق لا يعفى عنه بشريعته هذا «وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ 81» ولو لم تعلم ما قدر عليه من غيب الله ما أعطيناك ذلك الموثق الذي أخذته علينا، بل لما أخذنا معنا، فاذا صدقكم فيها والا قولوا له «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها» أي أهل مصر «وَالْعِيرَ» واسأل أهل العير «الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها» إذ كلوا من كنعان جيران ليعقوب عليه السلام، وأصل العير قافلة الحمير ثم توسع بها لكل قافلة، لذلك قلنا آنفا في الآية 70 المارة إنها قافلة الإبل وأكدوا قولكم بما شئتم، فقولوا له «وَإِنَّا لَصادِقُونَ 82» فيما ذكرناه لك، وإنما تآمروا على هذا القول الفصل مبالغة في إزالة التهمة عنهم بسبب واقعة يوسف، قالوا فذهبوا وتركوا كبيرهم في السن في مصر ليديم المراجعة بشأن أخيهم ويتعاهده برا بعهدهم

يحفظه، ولما وصلوا قصّوا له القصة وما تفرع عنها من المناجاة ومكالمة الملك لأخيهم، فقال لهم ومن أعلم الملك بأن السارق عندنا يؤخذ بسرقته لولا أنكم أخبرتموه؟ قالوا إنما أخبرناه حينما سألنا عن جزاء السارق بعد إنكارنا لسرقة الصواع لعلمنا أننا براء من سرقته، فذكرنا له ذلك لئلا يؤثر علينا كذبا، هذا ولا يقال كيف يجوز ليعقوب عليه السلام وهو نبي أن يقول هذا القول لما فيه من إخفاء الحكم الشرعي، لأن هذا مشروط فيما إذا كان المسروق منه مؤمنا تابعا لشريعته ومن يعامل معاملة المؤمنين بالمثل، لا إذا كان كافرا، وكان عليه السلام يظن أن حكومة مصر كافرة إذ ذاك، قالوا فلم يقبل عذرهم، لذلك «قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» أردتموه في بنيامين فزينت لكم أنفسكم إيقاع السوء به كما زينته لكم قبلا في يوسف «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» على فعلكم هذا معى بأخويكم، اذهبوا عني «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً» يوسف وبنيامين وروبيل. قال هذا من قبيل الإلهام الإلهي وحسن الظن بالله، إذ كان حزينا على يوسف فاشتد حزنه على بنيامين وروبيل أيضا وما بعد الشدة إلا الفرج، وأنه عليه السلام لم يصدق أولاده بهلاك يوسف وقد وقر في صدره أنه سيرده الله عليه ويرى تأويل رؤيته وهو يترقب ذلك كله، ولذلك قال عسى إلخ «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ» بحالي ووجدي عليهم «الْحَكِيمُ 83» فيما يدبره ويقضيه من إتيانهم إلي «وَتَوَلَّى عَنْهُمْ» ولا هم ظهره وأعرض عنهم لأنه لما سمع كلامهم ضاق صدره ولم يبق بوسعه مكالمتهم ولم يقدروا أن يعيدوا عليه الكلام لما رأوا من شدة حزنه فانكفوا عنه ثم طلبهم ليوقفهم على حاله «وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» الأسف أشد الحزن لأن الحزن إذا تقادم وأتاه حزن آخر جدد الأول فكان أوجع للقلب، وأعظم لهيجان الحزن الأول الماكث فيه، قال متمّم ابن نويرة لما رأى قبرا جديدا جدد حزنه على أخيه مالك وصار يبكي ويقول: يقول أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر توى بين اللوى والدكائك فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذا كله قبر مالك يعني أن الحزن يجدد الحزن، وانما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخيه،

مطلب جواز البكاء والحزن والأسف بما دون الضجر وتحريم شق الجيب وتحجيم الوجه واللطم وقص الشعر:

لأن رزءه كان قاعدة الارزاء عنده، وقد أخذ بمجامع قلبه فصار لا يزول عن فكره ولا ينساه، وقيل في هذا: ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع مطلب جواز البكاء والحزن والأسف بما دون الضجر وتحريم شق الجيب وتحجيم الوجه واللطم وقص الشعر: ولا يقال إن هذه شكاية منه عليه السلام ولا يليق بمنصب النبوة صدورها، لأنه عليه السلام إنما شكا أمره إلى الله لا إلى غيره، ولم يشتك من الله لأحد لأن باء النداء مختصة بالأسماء، فكأنه قال يا رب ارحم أسفي على يوسف، فكان غير ملوم، وشكواه إليه تعالى، ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ» على أولاده للثلاثة «فَهُوَ كَظِيمٌ 84» الحزن ممتلىء القلب به لأنه لا يبثّه إلى أحد إلا إلى ربه، وقد غشى عينيه بياض من كثرة الدمع لا أنه عمي وفقد النظر فيها، لذلك فلا صحة لقول من قال إنه عمي، لأن العمى عيب والأنبياء مبرأون من جميع العيوب الحسية والمعنوية، وتؤذن هذه الآية بجواز التأسف والبكاء عند المصيبة، لأن الكف عن أمثال ذلك عند حدوث النوائب لا يدخل تحت التكليف، ويخرج عن الوسع والطاقة، فقد قل من يملك نفسه عند الشدائد، روى الشيخاني في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون. وهذا فإن البكاء والحزن والتأسف بما دون الضجر غير منهي عنه شرعا، وإنما المنهي عنه ما يفعله بعض الجهلة من النياحة، ولطم الخدود، وضرب الصدور، وشق الجيوب، والتحمم، وتمزيق الثياب، وقص الشعر، ونثر التراب، وتخميش الوجه، ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلّى الله عليه وسلم رفع إليه صبيّ لبعض بناته يجرد بنفسه، فأقعده في حجره ونفسه تنقعقع كأنها في شنّ، ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال سعد يا رسول الله ما هذا؟ فقال هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده، وانما يرحم الله من عباده الرحماء. وفي الكشاف: قال يا رسول الله تبكي وقد

نهيتنا عن البكاء؟ قال ما نهيتكم عن البكاء وانما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح وصوت عند الترح. وعن الحسن أنه بكى على ولد له أو لغيره فقيل له في ذلك فقال ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام وقد ينشأ ذلك عن المحبة الشديدة التي تزيل من القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الدعاء والتضرع له وقد يوصل ذلك إلى الكمال ويعد سببا للاستغراق في الله تعالى، قال تعالى «قالُوا» أولاد يعقوب الموجودون عنده لما رأوا شدة تأثره «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا» لا تزال «تَذْكُرُ يُوسُفَ» ولا تعتر عن ذكره «حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً» دنفا مشرفا على الموت ذائبا من الهم مضمحلا من الأسى «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ 85» الميتين بسببه، وهذا من قبيل بناء الأمر على غالب الظن لما رأوا من حاله وكظمه غيظه، لأن تردد الحزن في الجوف مما يودي إلى الهلاك غالبا، فلا يقال كيف حلفوا على ما لم يعلموه، وإنما وقع من يعقوب عليه السلام هذا لأنه لم يقطع بوفاة يوسف كما ذكرنا آنفا، ولم يصدقهم بوقوع السرقة من بنيامين، وان زيادة صبره على يوسف وطول فراقه قد حزّ قلبه، وزاد في جزعه ما وصم به بنيامين فلا لوم عليه. هذا، وحذف حرف النفي من تفتأ في جواب القسم تخفيفا لمعلوميته موضعها لأن تفتأ تدل على النفي المحض، فإذا دخلت عليها لا النافية صارت متمحضة للإثبات ولذلك قالوا إن نفي النفي إثبات، قال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي لأن برح وفتيء ودام أخوات متمحضات للنفي، فإذا ادخل عليها حرف النفي تمحضت للإثبات، والحرض معناه في الأصل فساد الجسم والعقل من الحزن والهم حتى يكون مهزولا نحيفا، وهو مصدر حرض بكسر الراء، وجاء أحرض أيضا كما في قوله: اني امرؤ لجّ بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شقني السقم ولكونه كذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، لأن المصدر يطلق على القليل والكثير والمؤنث والمذكر.

مطلب الصبر الجميل وشبهه وكتاب يعقوب لملك مصر:

مطلب الصبر الجميل وشبهه وكتاب يعقوب لملك مصر: واعلم ان الصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه والهجر الجميل الذي لا حسد فيه، والقول الجميل الذي لا فظاظة فيه والنظر الجميل الذي لا إصابة فيه، والمدح الجميل الذي لا حسد فيه، والشكر الجميل الذي لا شكوى فيه الَ» يعقوب عليه السلام ردا لما وصفوه به من عدم التحمل لمقدورات الله ولما ذكروا مما يؤول اليه حاله إذا بقي كذلكِ نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ» لا لكم ولا لغيركم والبث الغمّ الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه ولم يبق في وسعه حمله فيفرقه على من يعنيه مأخوذ من إثارة الشيء وتفريقه تقول بثت الريح الترابَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 86» من عظيم لطفه وكثير رحمته وجليل عطفه، وإني لارجوه ان يرعاني ولا يخيب رجائي، وان يأتيني بالفرح المزيل لما انا فيه من حيث لا أحتسب، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنه عليه السلام يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه، ولهذا قال «يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ» اطلبوا خبرهما بحواسكم ومثله تجسسوا بالجيم، إلا أنه في طلب الشرّ قال تعالى ولا تجسسوا الآية 13 من سورة الحجرات ج 3، وإنما نهى الله عنه لانه من أقبح الخصال، لا سيما إذا كان في عورات المسلمين وبلادهم وإخبار العدو بمواقعهم وعددهم، فهو أعظم من القتل، أي تحروا يوسف الذي قلتم إنه هلك، وأخاه الذي قلتم أنه سرق، ولم يذكر روبيل لانه بقي باختياره في مصر انتظارا لما يفعل بقضية أخيه «وَلا تَيْأَسُوا» تقنطوا فنقطعوا أملكم ورجائكم «مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» فرجه ورحمته وفضله وتنفيسه، وهو بالفتح يقال أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعير للفرج وقرىء بالضم اشتقاقا من الرحمة لانها سبب الحياة كالروح وأضيفت اليه تعالى لانها منه أي لا تقطعوا أملكم من حي معه روح الله فان من بقيت روحه في جسده يرجى لقياه فالتمسوه وعليه قول عبيد الأبرص. وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب وقوله وفي غير من وارث الأرض فاطمع، ثم حذرهم ترك العمل بما أمرهم فقال «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ 87» لعدم

علمهم بالله وصفاته أما المؤمن العارف فلا يقنط بحال من الأحوال لشدة وثوقه بالله قالوا ثم كتب كتابا إلى ملك مصر وعبارته (من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله إلى ملك مصر، أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء، أما جدي ابراهيم فشدت يداه ورجلاه والقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما وأما أبي إسحاق فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب اولادي الي فذهب به اخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فصبرت وتوكلت، ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه، فكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق، وانا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك) ثم أعطاهم إياه وأمرهم بالرجوع إلى مصر، فأخذوه وذهبوا وعند ما وصلوا الى مصر واتصلوا بأخيهم روبيل واطلعوه على الكتاب فوقع في قلوبهم قبول الملك لما فيه من الترغيب والترهيب فحملوه جميعا، وتوجهوا نحو الملك، قال تعالى «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا» لا بدّ وان يكون القائل واحدا، وبما أنهم كلهم دخلوا عليه فكانوا بمثابة الجمع، لان ما يقوله أحدهم يقول به كلهم، لذلك جاء الضمير بلفظ الجمع، والا لا يعقل انهم كلهم قالوا ذلك بلسان واحد لما فيه من عدم مراعاة الأدب «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ» الملك المنيع الغالب، قالوا وكان ملوك مصر يلقبون بالعزيز قديما قبل لقب فرعون، وبما أن يوسف كان قائما مقام الملك ومفوضا من قبله بكل أمور الدولة لقبوه بلقب الملك، وفي الحقيقة هو بمثابة وزير مالية مفوض ورئيس وزراء برتبة سلفه، وزاد عليه بلقب مفوض عن الملك بالأمور كلها «مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» الشدّة والفاقة «وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» رديئة كاسدة لا تنفق إلا بتجوز من البائع وأصل الإزجاء الدفع قليلا قليلا كتزجية الريح اللينة السحاب الكثيف، وقللوا بضاعتهم وصغروها أمام الملك ليستميلوه ويستعطفوه، «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» بردّ أخينا، لأن رده إلينا صدقة كما أن توفيتك الكيل لنا صدقة، وليس معناه تصدق علينا بالطعام أو أعطنا مالا كما قاله بعض المفسرين،

مطلب تعريف يوسف نفسه لاخوته وكرم أخلاقه معهم وتبشير يعقوب به:

لأن الأنبياء، لا تحل لهم الصدقة، فكيف يليق بهم طلبها؟ وما قيل إن الأنبياء قبل محمد تحل لهم الصدقة لا صحة له فهو قول مجرّد عن الدليل لأن حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم قال (نحن معاشر الأنبياء» ولم يخص نفسه بذلك، والأنبياء كلهم على طريقة واحدة، وكل منهم يقول لقومه (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) فإذا كان لا يطلب على تعليمهم الطريق الموصل إلى الله ونجاتهم من عذابه أجرا، فكيف يطلب الصدقة عفوا؟ وكذلك القول بأن اجعل مسامحتك بأخذ الرديء من الثمن وإعطاء الجيد من الطعام صدقة لا وجه له، لأن الثمن الذي جاءوا به كان متداولا في ذلك الزمن فضلا عن أنهم يأخذون الجيد من الثمن طمعا بابتياعهم الطعام للمحتاجين إليه، لأن الزمن زمن غلاء وقحط، وانما حقروه بالنسبة لمقام الملك، لأن كل كثير عنده حقير «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ 88» بثوابه الجزيل على العمل القليل ولم يقولوا يجزيك لأنهم لم يعلموا إيمانه قالوا ثم أعطوه الكتاب وانتظروا بماذا يجيبهم فلما قرأه اغرورقت عيناه ولم يتمالك نفسه أن «قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ 89» في سن الطيش صغار لا تعقلون عواقب الأمر ولا يخفى أن فعلهم بيوسف ظاهر معلوم أما فعلهم بأخيه فهو كناية عما لحقه من الغم على فراق أخيه والهم على افرادهم له عنه واذلاله لديهم حتى صار لا يستطيع أن يكلمهم ومنه ما خاطبوه به عند وجود الصاع في رحله ومن كماله عليه السلام تقدم لأخوته بالمعذرة على فعلهم به حيث نسبهم إلى الجهل لأن له حالات تتقدم بالعذر عن فاعلها فهو كالتلقين لهم كي يعتذروا به على حد قوله تعالى ما غرك بربك الكريم الآية 7 من سورة الانفطار الآتية. مطلب تعريف يوسف نفسه لاخوته وكرم أخلاقه معهم وتبشير يعقوب به: فلما سمعوا ذلك انتبهوا وأقبلوا إليه وتقربوا منه «قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» على طريق الاستفهام التقريري، ولذلك أكد باللام وأن، لأن التأكيد يقتضي التحقيق الذاتي للاستفهام الحقيقي، وذلك لأنهم لم يعرفوه، لأنه كان في ابّهة الملك وعظمته، إلا أن لهم علامة فيه وهي زائدة كالشامة في فرقه، وهي موجودة في إسحاق ويعقوب وسارة أيضا، وكانت مغطاة بالتاج، فلما خاطبهم

[سورة يوسف (12) : الآيات 91 إلى 100]

بذلك القول رفع التاج عن رأسه فظهرت لهم تلك العلامة، وهذا أيضا قوله تعالى (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الآية 15 المارة، وقيل أنّهم قالوا أولا على سبيل الشك والوهم لتشبيههم ثناياه بثنايا يوسف لشدة بياضها، فلما رفع التاج عن راسه عرفوه يقينا فصرخ و «قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» ذكر أخاه مع أنه معلوم لأن البحث كان دائرا حوله، وصرح باسمه هو تعظيما لما نزل منهم به، ولما عوضه الله تعالى من الظفر والملك، ثم أكد لهم تعريفه بقوله «قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» بالألفة بعد الفرقة، والمحبة بعد العداوة، وجمعنا وخلصنا مما وقع بنا، وفضلنا بالدين والدنيا والآخرة «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ» الله في جميع أموره ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه «وَيَصْبِرْ» على ما يصيبه وعلى ما حرمه الله وعلى مشاقّ الطاعة وشهوة المعصية، فإن الله تعالى يعده محسنا ويجزيه الجزاء الأوفى. وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام، لأنه مندرج في معناها «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 90» في هذه الدنيا، وهذا من كماله أيضا عليه السلام، إذ بدأهم بتذكير نعم الله عليه بالسلامة والكرامة ولم يفاجئهم بالتعنيف والملامة، «قالُوا» كلهم بلسان واحد «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» اختارك وفضلك بالعلم والحلم والصبر والتقوى والحسن والعقل والملك والرسالة، ومن قال بالنبوة فقد أخطأ المرمى، لأنهم كلهم أنبياء إذ ذاك، والنبوة من حيث هي متساوية بخلاف الرسالة، لأن منهم من هو من أولي العزم، وتفضيل الأنبياء الوارد في قوله تعالى، ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض الآية 55 من الإسراء المارة في ج 1، إنما ذلك بكثرة الاتباع وما خص به بعضهم من النعم والمعجزات، وما نزل عليهم من الصحف، ثم بادروا بالاعتراف بخطئهم دون تقدم عذر ما بقولهم «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ 91» فيما صنعناه بك عمدا لأن فعل خطأ بمعنى تعمد بخلاف مخطئين فإنه من أخطأ إذا نسى وسها، أي لا جرم أننا لم نتّق الله والإثم فيك، ولم نصبر على ما رأيناه من اصطفاء أبينا لك دوننا حال صغرنا ولهذا فإن الله تعالى أعزك وأجلّك، وسلطك علينا، وأن الله تعالى قدّر سلطانك هذا على فعلنا فيك. وفي اعترافهم بالخطأ استنزال لإحسانه عليهم واستعطاف لعفوه

عنهم، فجاوبهم بما يثلج الصدر ويقرّ الأعين إذ «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» ، وأصل الكلمة الثرب وهو الشحم الرقيق على الكرش، وفي الجوف، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع، واستعير للّوم الذي يخرق الاعراض ويذهب بهاء الوجه، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى، كما أنه باللوم تظهر العيوب، لذلك شبه به، والجامع بينهما طروء النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال بكل، وهي اسم لا وخبرها مقدر تقديره كائن متعلق عليكم، واليوم ظرف متعلق بذلك الخبر المقدر أيضا، ولفظ اليوم هنا ليس لا قيد لأنه إذا لم يلمهم أول لقائه واشتعال ناره، فلأن لا يلومهم ولن يعاقبهم بعده بطريق الأولى. وقال المرتضى إن اليوم موضوع للزمان كله، مستدلا بقوله: اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا كأنه أريد بعد اليوم، قال هذا عليه السلام تطييبا لخاطرهم، وسدا عن بحث ما سلف منهم، وعلى هذا ينبعي أن يوقف على كلمة اليوم، لأنه راجع للتثريب ومتعلق بما تعلق به خبر لا كما ذكرنا، ويبتدأ بقوله عز قوله «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ» وهذه جملة دعائية لهم بالمغفرة من الله، لأن فعل الدعاء لا ينصب ما قبله غالبا، وإذا رجعناه لما بعده وعلقناه بقوله تعالى يغفر فينبغي أن يوقف على كلمة عليكم ويبتدأ بكلمة اليوم ويوصلها بما بعدها، وعلى هذا يكون المعنى مبادرته لهم بالبشارة بمغفرة ربهم عما سبق منهم بحقه وحق أخيه، وذلك لما لحقهم من الخجل والحياء، إذ لم يبق لهم بد من اعترافهم بالخطأ وندمهم على فعلهم، ويكون ذلك من قبيل الإخبار بالغيب، وعلى هذا قول صلّى الله عليه وسلم لقريش عند فتح مكة ما تروني فاعلا بكم؟ قالوا نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، فقال أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم، وقولهم هذا فضلا عن اعترافهم بالذنب فإنه توبة أيضا، ولا شك أن الذنب مرض وشفاؤه التوبة، ولهذا قال لهم ما قال، وهو مصدر العفو، ولما جاء أبو سفيان ليسلم قال له العباس اتل على رسول الله لا تثريب عليكم اليوم، ففعل، فقال صلّى الله عليه وسلم يغفر الله لك ولمن علمك. وهذا قد يصح لأن السورة

مكية، وأن سنة الفتح وإن كانت في السنة الثامنة وكان حضرة الرسول بالمدينة ولم يأت أبو سفيان إلى المدينة ويسلم، إلا أنه يجوز أنه تعلمها حين نزولها في مكة كالعباس لأنه آخر من هاجر ولم يتعلمها إلا في مكة، هذا والوقف على كلمة اليوم أولى وأحسن وأليق، وان أكثر القراء عليه، وجملة يغفر دعائية إذ يبعد على السيد يوسف أن يقولها بقصد الإخبار بالمغفرة من الله، ولو لم تكن الجملة بقصد الدعاء لقطعوا بالمغفرة لهم بمجرد سماعها من أخيهم الصديق، ولم يقولوا لأبيهم استغفر لنا كما سيأتي، ثم بشرهم بقبول عذرهم وأن الله تعالى سيغفر لهم برحمته بقوله «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 92» بي وبكم وبالخلق أجمع لأني إذا رحمتكم وأنا الفقير القتور، فبالأحرى أن يرحمكم ربي وهو الغني الغفور المتفضل على التائب بالعفو الشامل والرحمة الواسعة، ومن كرم يوسف عليه السلام أنه قدم لهم الطعام وجلس يؤاكلهم فقالوا له إنا نستحي أن نأكل معك بما فرط منا فيك، فقال لا يا إخوتي لأن أهل مصر وإن كنت ملكهم، فإنهم ينظرون إلي بالعين الأولى، لأنهم يعرفونني عبدا للعزيز وخادما له، ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في أعينهم، إذ علموا حقيقة ما ذكرته لهم قبلا بأني ابن يعقوب من صلب إبراهيم عليه السلام. وجاء عن ابن عباس أن الملك قال يوما ليوسف عليه السلام: أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي، وأنا آنف أن تأكل معي، أي لأنه غلام العزيز وزيره السابق، فغضب يوسف عليه السلام وقال: أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله. وفي التوراة التي في أيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال لا يشق عليكم إذ بعتموني، وإلى هذا المكان أوصلتموني، فإن الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمتكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم، ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها. (هذا وقد مضت سنتان من سني الجدب وبقي خمس سنين، إذ ابتدأت المجدبات بعد خروجه من السجن بثلاث سنين وبعد رؤيا الملك بستة وبعد تولية يوسف بسنتين) وقد صيرني الله تعالى مرجعا للعزيز وسيدا لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر، فلا يضيق عليكم أمركم ثم سألهم عن حال أبيه

فذكروا له شأنه كما هو عليه، ففال لهم «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» وهذا بوحي من الله عز وجل، وهذا القميص قميص إبراهيم عليه السلام الذي ألبسه الله إياه حين ألقي بالنار بواسطة جبريل عليه السلام، إذ ألقي فيها عريانا كما ألمعنا إليه في الآية 31/ 15 المارتين، لأن فيه ريحه وريح الجنة، وهذا أمر معلوم عقلا، فضلا عما فيه من الكرامة، لأن الحبيب إذا رأى ثوب حبيبه أو شيئا مما يلازمه ينشرح صدره وتزول كآبته، وقيل في هذا المعنى: وإني لأستشفي بكل غمامة ... يهب بها من نحو أرضك ريح حتى إن الرجل وهو في سكرات الموت إذا كان له غائب عزيز وقيل له ها هو جاء يفتح عينيه وتبدو عليه ملامح السرور، حتى إنه إذا جيء له بشيء من ملابسه يضمه ويشمه وقال لإخوته أيضا «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ 93» لينعموا بآثار ملكي كما اغتموا بأخبار هلكي، فأخذوه فرحين مسرورين قاصدين تبشير أبيهم به كما كدروه قبلا بفقده تكفيرا لما وقع منهم عنده، قال تعالى «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ» عن أرض مصر وتوجهت لأرض كنعان «قالَ أَبُوهُمْ» لأحفاده ومن عنده من أهله «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ 94» تنسبوني إلى الخرف والهرم وقلة العقل والجهل، وأصل التفنيد ضعف الرأي فقال أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل، قال الأصمعي: إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو التفنيد، أي لولا تنسبوني لذلك لصدقتموني، قالوا إن الريح استأذنت ربها بإيصاله ريح يوسف إلى يعقوب على مدة ثمانين فرسخا ولا يبعد على الله تعالى إيجاد ريح القميص بحاسة يعقوب عليه السلام، أو أنه أمر ريح الصبا بنقل ريحه إليه حين أعطاه يوسف لإخوته، وما ذلك على الله بعزيز، قال أهل المعاني إن الله تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء المحنة وحلول وقت السرور من محله إليه بلحظة واحدة ومنع دخول هذا إليه مدة أربعين سنة من نفس المحل، ليعلم خلقه أن كل سهل زمن الإدبار صعب، وكل صعب زمن الإقبال سهل ثم انهم لم يلقوا بالا لكلامه وأكدوا له ما ظنه فيهم إذ «قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ 95» الذي كنت عليه ولا تزال تلهج به من ذكر يوسف،

ولما سمع ما أجابوه به سكت واستحضر للبشارة مما ذكره، والضلال الذهاب عن طريق الصواب. قال تعالى «فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ» وهو يهوذا المار ذكره، لأنه هو الذي فاجأه بأن يوسف أكله الذئب وأعطاه ثوبه الملطخ بالدم المزيف، فأحب أن يقابل هذه البشارة بتلك الإساءة، قالوا وكان تقدم إخوته لهذه الغاية وأخذ معه سبعة أرغفة زادا، فوصل قبل أن يستوفي أكلها حلال ثمانين فرسخا، لشدة عدوه بالطريق بسائق فرحه وسروره، فبادر والده بالتحية والبشارة بحياة يوسف، وقال له هذا قميصه علامة على صحة قولي، ثم «أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً» بأن عادت له قوة النظر كما كانت، وانقلب ضعفه قوة ووهنه فطنة، وهذا من باب خرق العادة، وليس بدعا في هذا المقام، وقيل إنه انتعش فقري قلبه وازدادت حرارته الغريزية، فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهبب عليهم من جهة أرض المعشوق، قال: ألا يا نسيم الصبح مالك كلما ... تقربت منا فاح نشرك طيبا كأن سليمى نبئت بسقامنا ... فأعطتك رياها فجئت طبيبا وأن هنا ليست بزائدة لأن الزائد عبث ولا عبث في القرآن لأنها أفادت تحسين اللفظ والتأكيد واستقامة وزن الكلام «قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 96» أنتم ولا غيركم ثم قال لهم كيف تركتم يوسف قالوا هو ملك مصر قال ما أصنع الملك على أي دين هو يعامل الناس هناك قالوا على الإسلام قال الآن تمت النعمة فانبسط وظهر على وجهه السرور «قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا» التي واوقعناها معك ومع أخينا يوسف وأخيه ولا تؤنبنا على ما مضى «إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ 97» معكم ومع الله «قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 98» لعباده التائبين أمثالكم وهو كثير المغفرة لعباده أجمع، واسع الرحمة، جدير بأن يعفو عنكم ولا يعاقبكم عما وقع منكم. قالوا إنه عليه السلام أخر طلب المغفرة لوقت السحر في ليلة الجمعة، لأنه أدعى للإجابة، وذكروا أنه قال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لي ولأولادي مما أتوا إلى أخيهم وما أوقعوه فيه. فأوحى الله إليه

اني قد غفرت لك ولهم أجمعين، أما ما قاله عطاء الخراساني من أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ مستدلا بقول يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) إلخ، وقول يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) فهو غير مطّرد، على أن يوسف نفى عنهم اللوم فقط، ووكل أمر المغفرة إلى الله، ويعقوب وعدهم بالاستغفار، لأنه من خصائص الله، وهذا من أدب الرسل، وأن يوسف طلب المغفرة لهم من الله فقط، لأن الوقف في الآية على كلمة اليوم كما نوهنا به آنفا في الآية 92 المارة، ولا عبرة بقول من قال إن الوقف على كلمة عليكم لأن الابتداء بكلمة اليوم يشمّ منه رائحة التحتم على الله بالمغفرة، ولا يتصور صدوره من مثل السيد يوسف والله تعالى لا يفرض عليه شيء بل هو الذي يفرض على خلقه إرادته الأنبياء فمن دونهم، قالوا ثم إن يوسف عليه السلام أرسل إلى أبيه مائتي راحلة وجهازا كثيرا مما يكفيه وأهله، وصار يترقب حضورهم، ثم ان أهل مصر صاروا ينظرون إليه بغير النظر الأول بعد أن تبين لهم أنه من آل إبراهيم حقيقة، وعظم بأعينهم، ووقر وقارا عظيما. بعد أن كان ينظر إليه بأنه عبد قيمته ثلاثون درهما، وقد اشتراه العزيز بمايتي درهم أي بعشرين دينارا وكانوا يحترمونه لعلمه وأدبه ومروءته وأخلاقه وكثرة عطفه على الفقراء ولطفه بالعامة وإكرامه الخاصّة بما هم أهله، لذلك تشرب حبه في قلوبهم لتلك المحاسن العالية والمكارم السامية. أما وقد علموا الآن أنه من بيت إبراهيم عليه السلام الذائع الصيت الذي يحبه أهل السماء والأرض بصورة لم يبق معها شك أو شبهة، وقد شاع هذا لدى أعاليهم وأدانيهم، فقد ازداد وقاره وتبجيله وتعظيمه وهيبته بأعينهم وقلوبهم، لأن الحاكم إذا كان عريقا في الحكم يعظّم في ثلاث جهات لأصالته ولتوليته ولعدله، وهناك خصلة رابعة هي كمال أخلاقه وعفته. قالوا ثم رحل السيد يعقوب وآله إلى مصر وهم كالجيش العظيم وتهيأ يوسف لاستقبالهم لما علم بخروجهم فخرج هو وفتيانه ووجهاء مصر وقادتها إلى فناء المدينة لملاقاتهم، وأخرج أهله وأولاده، وكان عدد المستقبلين أربعة آلاف نسمة عدا أعوام أهل المدينة وسوقتهم، وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك رئيس الوزراء لأنه بعد أن ولاه الملك وزارة المالية ودخلت أعوام الغلاء

ورأى تدبيره وعلو شأنه فوضه بإدارة الملك كله وجعله نائبا عنه. قال تعالى «فَلَمَّا دَخَلُوا» فناء المدينة «عَلى يُوسُفَ» وحاشية المستقبلين، وكان آل يعقوب ثلاثا وسبعين نسمة، عدا الخدم والرعاة والرحالة والمرضعات، وكان يعقوب أمامهم وعند ما أشرف عليهم ترجل، وأقام يهوذا عن يمينه، وروبيل عن يساره يتوكا عليهم، وشمعون وبقية أولاده وأحفاده وراءه صفوفا، فتقدم إليه يوسف، وهذا المراد بقوله تعالى «آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ» فضمهما لنفسه وعانقهما وصافح الباقين، وبعد أن صافحهم الوزراء والأمراء والوجهاء والقادة «قالَ» عليه السلام لأهله «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ 99» على أنفسكم وأموالكم وأنعامكم دون جواز لأن الكنعانين كانوا لا يدخلون مصر إلا بجواز من ملوكها، لأنها حكومة على حدة، وآمنين أيضا من مخاوف القحط وهذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشروع فيه للتيمن والتبرك، وهو داخل في الأمن لا في الدخول الثاني إلى المدينة والأول لفنائها، والثالث لقصر الملك، قالوا ثم تقدم آل يعقوب بموكب عظيم وسار وراءهم موكب الملك والناس وراءهما حتى دخلوا القصر، وهو معنى قوله تعالى «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ» السرير الخاص بالملك «وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» أبواه وأخواته والناس وراءهما، وهذه تحيتهم إذ ذاك وهو خضوع لحد الركوع كما هي تحية الأعاجم الآن، وليس المراد من السجود هنا وضع الجبهة على الأرض، والله أعلم، لأنه تحية العباد لرب العباد خاصة، فلم يكن لأحد قبل، ولا يكون لأحد بعد، وهذا وان كان زعم البعض غير جائز لأن اخوته الأنبياء مثله وأكبر منه سنا وفضلا عن أبويه، إلا أنه يتصور ذلك الزعم إذا كان أمرهم بذلك، أما وانه لم يأمرهم فقد انقضى ذلك الزعم، وقد وقع منهم ذلك بتقدير الله تعالى تحقيقا لرؤياه، فلا يقال كيف أجازه وقبله وكيف أقره ورضي به؟ مما يدل على هذا قوله عز قوله حكاية عنه «وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ» سجودكم هذا والحوادث التي تلتها «قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» في اليقظة قالوا وكان بين الرؤيا وتصديقها أربعون سنة كما مر في الآيتين 53/ 7، لأن الرؤيا فى الثانية

مطلب نسبة النزغ إلى الشيطان مجاز وسبب بلاء يعقوب وإتيان الفرج وحسن الموت:

عشرة والسجود في الاثنين والخمسين، وقيل أكثر حتى أوصلها بعضهم إلى ثمانين سنة، راجع الآية 93 في تفسير الإمام الرازي وكلها أقوال، إذ لم يذكر الله ولا رسوله شيئا عن ذلك «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» ولم يقل من البئر مع أنه أصعب وأشد من السجن لئلا يخجل أخوته لكريم خلقه وعظيم أدبه معهم، وجليل احترامه لهم، وكثير لطفه بهم، وزيادة عطفه عليهم، ولأن خروجه من الجب أعقبه العبودية وخروجه من السجن أورثه الملوكية «وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ» سمي سكان البادية بدوا كما سمي سكان الحاضرة أي المدن حضرا «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» مطلب نسبة النزغ إلى الشيطان مجاز وسبب بلاء يعقوب وإتيان الفرج وحسن الموت: أضاف عليه السلام الإحسان إلى الله تعالى والنزغ إلى الشيطان على طريق المجاز وكمال الأدب مع الله تعالى، والا في الحقيقة الكل من الله القائل (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية 78 من سورة النساء ج 3، لأنه جل شأنه هو الفاعل المطلق المختار فلا يقع في الكون شيء ولا يرفع منه شيء إلا بعلمه وقضائه وقدره وإرادته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعليه فلا وجه لاستدلال المبتدعة في هذه الآية من بطلان الجبر، لأنهم يقولون لولا أن يوسف يعلم أن النزغ من فعل الله لما أضافه إلى الشيطان، بل لأضافه لله، كما أضاف الإحسان إليه، وهذا باطل، لأنه يكون حينئذ في الكون فاعلان، ولا فاعل في الحقيقة إلا الله وحده قال تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) راجع الآية 22 من سورة الأنبياء الآتية، ولهذا وبخ الله تعالى الناسبين لغيره بقوله بعد تلك الآية (فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فقد نبههم جلت عظمته بأن ليس للشيطان مدخل فيه إلا إلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين، وهذا أيضا باقداره تعالى إياه وتسليطه على بعض خلقه، فظهر أن الكل من عند الله، راجع الآية 12 من سورة يونس المارة تجد هذا البحث، وله صلة في الآية 35 من سورة

[سورة يوسف (12) : الآيات 101 إلى 110]

فصلت الآتية فراجعه «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» من التدبير وحسن الاستخراج وتسهيل الأمور «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ» بمصالح عباده يجريها حسب إرادته «الْحَكِيمُ 100» في جميع أفعاله، فهو الذي يهيء الأسباب ويؤخر الآمال إلى الآجال كما في هذه القضية، فإن أولها كان هما وغما وحزنا وآخرها غدا فرجا وسرورا وانشراحا حتى بلغت أعلى مراتب الدنيا والدين، ولما تم ليوسف الأمر على ما أراده له الله، تحدث بنعمة ربه فقال «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» من هنا تبعيضيّة لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا وبعض علم التعبير، وكثير من أحاديث الله لا يعلمها هو ولا غيره، قال هذا عليه السلام على طريق إظهار الشكر لربه لذلك طفق يعددها على نفسه، وهذا قبل وفاته بأسبوع كما قيل، إذ انتهت القصة بختام الآية المارة عد 100، يا «فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 101» من آبائي قالوا وأقام يعقوب وآله بعد التلاقي في مصر أربعا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأرغد بال وأحسن حال، وقد حضرت يعقوب الوفاة فأوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدسة ويدفنه مع إسحاق وإبراهيم، فلما توفي وضعه في تابوت من ساج وحمله إلى الشام، فوافق موت أخيه العاص توءمه الذي خرج قبله، وتلاه هو، أي أن يعقوب خرج عقبه ولذلك سميا بهذين الاسمين فأخذه معه ودفنهما في قبر واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة، وعمر يوسف بعدهما ثلاثا وعشرين سنة، ورجع إلى مصر وسأل الله حسن الخاتمة وقيل عاش عليه السلام بعد أبيه وعمه ستين سنة أو أكثر على ما قيل، وهما ابن مائة واثنين وأربعين سنة، ووضع في صندوق من رخام، ودفن في نيل مصر، لأن أهله والمصريين تشاحوا في جسمه المبارك كل يريد دفنه في جبانته طلبا لبركته، ثم اتفقوا على دفنه في وسط النيل كي ينال بركته كل من شرب منه من الإنسان والحيوان والنبات والأرض بسبب جريانه على تابوته، فلا يختص به واحد دون آخر، وبقي تابوت يوسف بالنيل وعمت بركته فيه، ولم يسمى المبارك إلا بعد وضع تابوته فيه كما سيأتي بيانه،

مطلب أول من سن النداء إلى الطعام وملاذ الدنيا وتمني الموت وقبح الانتحار:

وكيفية العثور عليه في الآية 50 من سورة البقرة ج 3، أي زمن موسى عليه السلام إذ أخرجه من النيل عند خروج بني إسرائيل ودفنه مع آبائه في الأرض المقدسة. قالوا وانما ابتلى الله يعقوب بهذا البلاء، لأنه ذبح شاة فقام على بابه مسكين صاثم فلم يطعمه منها، أو انه شوى عناقا وأكله ولم يطعم جاره منه بعد أن شم ريح قترها، أو أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور عليه فلم يرحمها. وهذه روايات لو فرض صحتها فلا تقدح بعصمة الأنبياء لانها ليست بسيئات، إلا أنهم عدوها سيئات إذ يطلب من الأنبياء أعمالا بحسب علو تاجهم وشريف مراتبهم، وكل منهم امتحن وصبر وفوض أمره إلى الله، قالوا والسبب في إتيان الفرج هو أن يعقوب عليه السلام كان له أخ في الله فقال له ما الذي أذهب نور بصرك وقوس ظهرك ولم تبلغ في السن ما بلغه أبواك؟ قال البكاء على يوسف والحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال له إن الله يقرؤك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكوني إلى غيري فقال إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وانما رجل سألني فأجبته لا على طريق الشكوى، فقال جبريل الله أعلم بما تشكو. فقال يعقوب يا رب تلك خطيئة أخطأتها فاغفرها لي، فقال غفرتها لك، قال يا رب أردد علي ريحانتي ثم اصنع بي ما شئت، فقال جبريل ان الله يقرئك السلام ويقول أبشر فو عزّتي وجلالي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وحدت عليك؟ قال لا، قال لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا، وأن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين، اصنع طعاما وادع إليه المساكين، فصنع طعاما ثم نادى من كان جائعا فليفطر عند آل يعقوب، مطلب أول من سن النداء إلى الطعام وملاذ الدنيا وتمني الموت وقبح الانتحار: وصار بعد ذلك إذا تغدى أو تعشى نادى مناديه من أراد أن يتغدى أو يتعشى فليأت آل يعقوب فهو أول من سن النداء للطعام وجدد هذه السنة السيد هاشم جدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يشاركه في هذه الخصلة أحد من العرب، وفي عصرنا هذا أحباها الشيخ جدعان بن مهيد من عشائر عنزة، أما الكرم المطلق فيكثر

في العرب وغيرهم ممن خالطهم، بارك الله فيهم، وأدام الكرام وأسبل عليهم ستره ونشر عليهم خيره، ودرّ عليهم من بركاته ووفقهم لما يحبه ويرضاه. وهنا بحث آخر وهو أنه عليه السلام طلب الوفاة قال قتادة لم يسأل نبي من الأنبياء الوفاة غير يوسف عليه السلام، وأنه توفى بعد هذا التمني بسبعة أيام، وذلك لأنه بعد أن تم له ملك مضر وحواليها وبلغ كل ما تمناه البشر الكامل لا سيما بعد جمع شمله مع أبيه وأهله، وهو يعلم أن مصير الدنيا بما فيها إلى الفناء لا محالة، ولو عمر ما عمر تاقت نفسه الطاهرة إلى الملك الدائم بجوار ربه الكريم، ولا يبعد بالرجل الكامل أن يتمنى ذلك رغبة بالنعيم الذي لا يزول، ولا يمنع من هذا قوله صلّى الله عليه وسلم لا يتمنى أحدكم الموت لأمر نزل به، وفي رواية لا تمنوا الموت فإن هول المطلع عظيم وان من سعادة المرء أن يطول عمره ويحسن عمله، وعليه فإن الموت عند وجود الضرر ونزول البلاء مكروه، والصبر عليه أولى، لأنه عليه السلام لم يتمنّه إبان شدته عند ما كان في الجبّ أو السجن، بل تمنّاه بعد ما تم له كل شيء تتوق النفس إليه، وفيه معنى آخر وهو محبة لقاء الله تعالى، فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. وقد تمناه إلياس عليه السلام كما سيأتي في قصته في الآية 123 من الصافات الآتية، وروى البخاري في صحيحه حديث عدم تمني الموت، وهو تمناه رضي الله عنه، وذلك أن أهل بلدته اختلفوا فيما بينهم حينما رجع إلى بلده بعد غيابه عنها بسبب طلب العلم، فكان منهم من يريد دخوله، ومنهم من لا يريده، ولما رأى خلافهم يؤدي إلى المقاتلة فيما بينهم، ويسبب موت بعضهم، تمنى الموت، فتوفاه الله حالا خشية حصول الفتنة، والإفساد بين أهل بلدته، وهذا لا بأس به أيضا، لهذه الغاية، أما تمنيه للفاقة والفقر وما ضاهاها من البلاء فلا يجوز، إذ عليه أن يلجأ إلى الله وينقي محارمه ونواهيه، ويسأله الفرج، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ولو تأمل هذه الآية 4 من سورة الطلاق الذين ينتحرون والعياذ بالله لضيق ذات يدهم أو لأمر آخر داهمهم أو لمرض مزمن ألم بهم لما انتحروا وعجلوا بأنفسهم إلى النار،

فعلى الرجل الذي يمتحن بمثل ذلك أن يطلب من الله تعالى العافية فهو أحسن وأجدر بالعاقل، ويعلم أن الله قادر على معافاته مما هو فيه فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الذي يكشف السوء عن عباده، وما قيل انه عليه السلام كيف يتمنى اللحاق بالصالحين والصلاح أول درجات المؤمنين، وهو من الأنبياء مردود، لأن القصد بالصالحين آباؤه عليهم السلام، وكلهم أنبياء لا مطلق الصالحين كما جرى عليه بعض المفسرين الذي فتح طريقا لمثل هؤلاء المعترضين، على أنه قد يكون لهضم النفس على طريق استغفار الأنبياء من بعض ما يقع منهم بالنسبة لدرجتهم. واعلم رعاك الله أن الملاذ الدنيوية كلها خسيسة وأهمها الأكل والجماع والرياسة، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع وهو ترطب الطعام بالبزاق الذي هر مستقذر في نفسه، وأنه عند ما يصل إلى المعدة يتعفن، وقد يشاركه في لذته الحيوان، وأن يتلذذ بالروث تلذذ الإنسان بأكل الفستق مع الحلوى، وقال العقلاء من كان همه ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منها، ولذة الجماع عبارة عن دفع الألم الحاصل من الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، فهو إخراج تلك الفضلات المتولدة في الطعام بمعونة جلدة وأعصاب مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس، مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك ولعبته بها، ولهذا قال الشافعي رحمه الله الجماع عبارة عن ساعة جنون، ويكفي الرجل أن يجنّ في السنة مرة واحدة، ويشاركه فيها الحيوان أيضا. ولذة الرياسة عبارة عن دفع ألم الذل وطلب السمعة والشهرة وحب الانتقام، وهذه إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازعه فيها ويحسده عليها لكفى بها هما وغما، لأن صاحبها لا يزال خائفا وجلا مترقبا الحوادث بسببها. فإذا كل ما في الدنيا خسيس، وفي الموت التخلص من الخسيس والرجوع إلى الحسن النفيس، فعلى العاقل أن يعمل صالحا في دنياه لتصلح له عقباه، ويحب لقاء الله، ولله در المعرّي حيث يقول: ضجعة الموت رقدة يستريح ... الجسم فيها والعيش مثل السهاد تعب كلها الحياة فما ... أعجب الا من راغب في ازدياد

إن حزنا في ساعة الموت أضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد فاتق الله أيها الإنسان وارض بما قسم الله لك، واحسن يحسن الله إليك. قال تعالى «ذلِكَ» الذي ذكرناه لك يا أكرم الرسل من هذه القصة البديعة «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ» الذي «نُوحِيهِ إِلَيْكَ» كأمثاله من الأخبار والقصص الأخرى الماضية والآتية، «ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» أي أولاد يعقوب عليهم السلام فيما فعلوا أخيهم ما فعلوا «إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ» على إلقائه في الجبّ بعد إرادة قتله «وَهُمْ يَمْكُرُونَ 102» به إذ احتالوا عليه وعلى أبيهم لأخذه معهم إلى المرعى كي يمكروا به كما صوروه بينهم، وإنما أخبرناك بتفصيل هذه الحادثة لتخبر بها قومك والسائلين عنها فيتحققوا أنها بإخبار الله تعالى إياك، لا كما يزعمون أنك تلقيتها من الغير سماعا أو تعليما، لأنك أمي وبينك وبينها قرون كثيرة، فلم يكن في زمنك من حضرها، وهذا آخر ما قصّ الله على نبيه من قصة يوسف ووفاته، وليعلم أنه لا يجوز أن يقال ما تقوله العامة (وليد ضاع ووجده أهله) لما فيه من التصغير بحق هذه القصة وعدم المبالاة بشأنها، مع لزوم تعظيمها وإجلالها، لأن الله تعالى سماها أحسن القصص، كما لا يجوز أن يقال أنت أو هذه أقصر من سورة الكوثر، أو هذا ما عنده شيء كالسماء والطارق، أو هذا فارغ كفؤاد أم موسى، إلى غير ذلك لما علمت من وجوب الأدب والاحترام لكلام الله، وإن أقصر آية منه لها معان عظيمة يكل أكبر عالم عن الإحاطة بها «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ» وبالغت في الجهد على أن يؤمنوا بك فما هم «بِمُؤْمِنِينَ 103» بك أنك مرسل من لدنا لأنهم مصرون على الكفر والعناد مهما بالغت بالحرص على إيمانهم، «وَما تَسْئَلُهُمْ» أي كفرة قومك «عَلَيْهِ» على تعليم هذا القرآن أو قبول ما فيه أو الإصغاء لأخباره وأحكامه «مِنْ أَجْرٍ» يثفلهم إعطاؤه ليتهموك بأنك إنما تتلو عليهم لطمع نفسي مادّي مما يكن في صدورهم الخبيثة «إِنْ هُوَ» ما هذا القرآن «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ 104» تذكرهم به مجانا، وتنصحهم وتعظهم لعلهم يرجعون عن عنادهم، فيتذكرون ما ينفعهم ويضرهم، وهذا تسلية لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أنه بعد أن أخبرهم بهذه القصة التي وعدوه أنهم يؤمنوا به إذا

هو أخبرهم بها كما هي عند أهل الكتاب الذين سألوهم عنها وقد قصها بأوضح من ذلك، فلم تزدهم إلا عتوا ونفورا، قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ» بينة وعبرة ظاهرة دالة على الإله الواحد وصفاته مما هو موجود «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يتفكر بها هؤلاء الكفرة ولا يعتبرون بمبدعها «يَمُرُّونَ عَلَيْها» بأسفارهم، لأن آثار الأمم الماضية وأطلالهم فيها أي الأرض ظاهرة للعيان مشاهدة، وقد بلغهم بالتناقل عن كيفية إهلاك أهلها وهم لا يتعظون بها، أما آيات السماء فهي ملازمة لهم يشاهدونها أيضا كل ليلة ويرون اختلاف الليل والنهار، وسير الكواكب فيها، والانتظام العظيم الذي أبدعه الخالق الذي لا ينخرم قيد شعرة على ممر العصور وكرّها، ومع ذلك فلا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على صانعها، لأن الله تعالى طمس على قلوبهم لما فيها من الخبث وأعمى أبصارهم تبعا لبصائرهم، لذلك يقول تعالى قوله «وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ 105» عن ذلك كله وإعراضهم هذا ليس بأعجب من إعراضهم عنك يا حبيبي، فاصبر عليهم، ولا تجزع من أفعالهم «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ» بأنه هو الذي خلق هذين الفلكين العظمين وما فيها من أنس وجن ووحش وحوت وطير وديدان، وألهم كلا ما ينفعه ويضره، وقدر أرزاقهم لكل بما يناسبه بحكمة عظيمة، ومع هذا فإن كل من كلف بالإيمان به منهم لا يؤمنون «إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ 106» به غيره من الأوثان، لأنهم يعلمون أن الله تعالى الخالق الرازق ويستغيثون به إذا دهمهم أمر، ومع ذلك يعبدون غيره. قال ابن عباس وغيره إن أهل مكة يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكا وهو لك، تملكه وما ملك! فنزلت هذه الآية، ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول لبيك لا شريك لك يقول له قط قط يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكا هو لك إلخ، قيل إن كفار العرب مطلقا، وقيل هم الذين قالوا إن الملائكة بنات الله، والكل جائز، فكما يجوز نزول آية لأسباب كثيرة يجوز أيضا انطباق أسباب كثيرة على سبب نزول واحد. قال تعالى مهددا لهم «أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ» عقوبة عظيمة مسجّاة محلّلة لا يعلمون ما فيها تشملهم وتغشاهم داهية «مِنْ عَذابِ اللَّهِ»

فتهلكهم جميعا «أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» على حين غرة وغفلة تفاجئهم من غير سبق علامة أو أمارة فتأخذهم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 107» بها فيموتون على كفرهم موتة رجل واحد، القائم قائما والقاعد قاعدا، وهكذا بحيث لا يستطيع أحد أن يتغير عن حالته التي هو عليها عند نزول العذاب «قُلْ» يا أكرم الرسل «هذِهِ» الحالة التي أنا عليها من الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء من عند الله والإيمان بالبعث بعد الموت «سَبِيلِي» طريقي ومنهجي «أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ» عباده إليها «عَلى بَصِيرَةٍ» معرفة واضحة تميز الحق عن الباطل أسير عليها «أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» وصدق بما جئت به من عند ربي، قال ابن مسعود رضي الله عنه من كان مستنّا فليستنّ بأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرّها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم واسلكوا طريقهم فهو الطريق القويم والسبيل المستقيم، كيف وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن، أفضل الناس هداية وأحسنهم طريقة، وقل «وَسُبْحانَ اللَّهِ» أنزهه وأبرئه عن الإشراك «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 108» البتة وهذا لما سبق في الدعوة إلى التوحيد واتباع الطريق التي هو عليها وأصحابه ونفي الإشراك، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» مثلك بالنسبة لأهل مكة ومن حولها. وفي هذه الآية ردّ لقول من قال (لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) الآية 23 من سورة المؤمنين الآتية، وإنما خص أهل القرى في هذه النعمة العظمى لأنهم أكمل عقلا وأفضل علما من أهل البوادي، لأنهم أهل جفاء وقسوة، وأهل المدن أهل لين وعطف غالبا، ولهذا قالوا إن التبدّي مكروه إلا في الفتن، وجاء في الحديث من بدا فقد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، قال قنادة ما نعلم أن الله تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى، أي المدن والأمصار. ونقل عن الحسن أنه قال: لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن. وجاء في الخبر من يرد الله به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة. هذا وإن يعقوب عليه السلام تنبأ قبل

مطلب في قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر:

أن ينقل إلى البادية. قال ابن عباس كان يعقوب تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم يوسف وله بها مسجد تحت جبلها، قال جميل وقيل كثير: وأنت التي حبّبت شعبا إلى بدا ... إليّ وأوطاني بلاد سواهما قال ابن الأنباري: بدا اسم موضع معروف، يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان كما ذكر في البيت، وإنما سميت البادية بادية لأن ما فيها يبدو للناظر لعدم وجود ما يواريه، وهي عبارة عن بسيط من الأرض، وما قيل إن هذه الآية أي قوله تعالى (إِلَّا رِجالًا) إلخ، نزلت في سجاع تميمة بنت المنذر التي يقول فيها الشاعر: أمست نبيّتنا أنثى نطوف بها ... ولم تزل أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ماء مزن أينما كانا قول لا صحة له، لأن ادعاءها النبوة كان بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا قرينة تدل على أن هذا من الإخبار بالغيب، وقد أسلمت أخيرا وحسن إسلامها وقصتها مشهورة بالسير والتواريخ، قال في بدء الأمالي: وما كانت نبيا قط أنثى ... ولا عبد وشخص ذو افتعال قال تعالى «أَفَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الكفرة «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الذين كذبوا رسلهم كيف أهلكناهم فيعتبرون بهم فيؤمنون بالله ويتركون هذه الدار الفانية وما فيها لمن اغتر بها من الكفرة المصرين «وَلَدارُ الْآخِرَةِ» الباقية الحسنة «خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والمعاصي وعملوا الخير ووحّدوا ربهم «أَفَلا تَعْقِلُونَ 109» ذلك يا أهل مكة فتتركون ما أنتم عليه وتتبعون ما يأمركم به نبيكم لتفلحوا وتفوزوا. مطلب في قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر: قال تعالى «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» وقطعوا أملهم من إيمان قومهم والنصرة عليهم في الدنيا لتماديهم في الكفر مع توالي نعم الله عليهم «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

قَدْ كُذِبُوا» قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف، أي ظنت أممهم كذبهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم عليهم وإهلاكهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد، أي أن الرسل أيسوا من إيمانهم وأيقنوا أن أممهم كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم واستبطئوا النصر عليهم. والقراءتان على البناء للمفعول تدبر هذا، واعلم أن من رجع الظن إلى الأنبياء وأراد به ترجيح أحد الجانبين لا ما يخطر بالبال ويهمس بالقلب في شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية، فقد أخطأ، لأنه لا يجوز على أحد من المسلمين، فكيف يجوز على أعرف الناس بالله وأنه متعال عن خلف الميعاد؟ ويبطل هذا الزعم ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية، قالت بل كذبهم قومهم، فقلت والله لقد استيقنوا بذلك، فقلت لعلهما قد كذبوا أي بالتخفيف، فقالت معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت فما هذه الآية؟ قالت هم اتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن اتباعهم كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك. وقيل أن هذا تكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر. وفي رواية عبد الله بن عبد الله بن أبي مليكة قال قال ابن عباس رضي الله عنهما ذهب لها هنالك وتلا (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) الآية 214 من سورة البقرة في ج 3، قال تلقيت عروة ابن الزبير وذكرت له ذلك، فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله رسوله في شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم، فكانت تقرأها، وظنوا أنهم قد كذبوا، بالتشديد مثفلة، أما ما نقله البعض عن ابن عباس من أنه قال وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر، قال وكانوا بشرا وتلا قوله تعالى (وَزُلْزِلُوا) الآية المارة من البقرة، لا يصح إلا إذا أراد بالظن ما يخطر بالبال وكما ذكرنا آنفا، لأن الأنبياء منزهون عن الظن بربهم

بخلف الوعد والوعيد، ويجب علينا تطهيرهم وبراءتهم من مثله تنبه، ولا يخفى أن الظن في القرآن بمعنى اليقين كثير، كفوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) إلى يتقون الآية 47 من البقرة في ج 3، هذا. واعلم، أن الخبر في استيئاس الرسل مطلق إذ ليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا يكونه، وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد رسله بنصر مطلق كما هو الغالب في أخباره لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته، فكثيرا ما يعنقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق جل وعلا، بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما أعتقد طائفة من الصحابة رضوان الله عليهم أخبار النبي صلّى الله عليه وسلم لهم أنهم سيدخلون المسجد الحرام ويطوفون فيه، أن ذلك يكون عام الحديبية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى، فما استيأسوا من ذلك العام إذ صدّهم المشركون، ثم عقد الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي الله عنه ألم تخبرنا يا رسول الله أن ندخل البيت ونطوف به؟ قال بلى أنا خبرتك أنك تدخله هذا العام؟ قال لا، قال انك داخله ومطوف به، وكذلك قال له أبو بكر رضي الله عنه فبين له أن الوعد منه عليه كان مطلقا غير مقيد بوقت، وكونه صلّى الله عليه وسلم سعى في ذلك العام وقصد مكة لا يوجب تخصيصا بوعد الله بالدخول في تلك السنة، ولعله إنما سعى بناء على الظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن، ولا محذور في ذلك وليس في شرط النبي أن يكون كل ما قصده واقعا بل من تمام نعمة الله عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية، ولا يضر أيضا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه السلام فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل أي تلقيحه حيث نهاهم عنه أولا، ولمّا لم يأت بالثمر المطلوب سألهم فقالوا لأنا لم نلقحه أي اتّباعا لأمرك فقال إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذون بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله تعالى، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين حينما سلم على رأس الركعتين في صلاة رباعية حيث قال له أقصرت

الصلاة يا رسول الله؟ فقال ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان، ومنه أيضا في قصة الوليد بن عقبة النازل فيها (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية 6 من سورة الحجرات في ج 3 كما سنبينها في محلها وقصة ابن البيرق النازل فيها (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) الآية 115 من سورة النساء في ج 3 أيضا كما سنبيّنها في محلها إن شاء الله، وفي هذا كفاية في العلم بأنه صلّى الله عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر، لأنه بشر ويجوز عليه ما يجوز على البشر، فإذا كان خاتم الرسل وأفضلهم هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام؟ ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء أجمعوا على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك، لكن لا يقرون عليه، فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس في الأحكام الشرعية من شيء، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال أن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له، فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة، فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم، وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا، فلا محذور، وأنت عليم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول ما يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم كما جاء في حديث عائشة المتقدم وشرحه لابن الزبير، لأن ما جاء به في الردّ والتأويل في غاية الحسن منها رضي الله عنها وعن أبيها والله أعلم. قال تعالى «جاءَهُمْ نَصْرُنا» الذي وعدناهم به فجأة من غير احتساب ولا ترقب «فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ» من العذاب الواقع أي نجّى النبيّ ومن آمن معه ومن شملته إرادة الله وقرأ بعضهم فنجّي بالتشديد ونون العظمة بالباء على الفاعل وقريء بتشديد الجيم وسكون الياء، وهي خطأ إذ لا يجوز إدغام النون بالجيم، والقراءة الصحيحة هي ما عليه المصاحف بالبناء للمفعول «وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا» عذابنا بالإهلاك «عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 110» إذا نزل بهم البتة وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمعاصري حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنهم إذا

[سورة يوسف (12) : آية 111]

لم يرجعوا عن كفرهم ينزل بهم عذابه، وإذا نزل فلا يرده رادّ. قال تعالى «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ» أي الأنبياء السابقين وأممهم الماضية الطائعة والعاصية الناجية والهالكة «عِبْرَةٌ» عظيمة وعظة خطيرة «لِأُولِي الْأَلْبابِ» العقول الصحيحة السليمة، أما غيرهم الذين لم ينتفعوا بهذه العبر فلا تكون عظة لهم لعدم سلامة قلوبهم من الرين والصدأ المتكاثف عليها ولذلك لم يعتبروا والعبرة الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى غيره فيقيس بينهما ويتأمل ويتفكر، فيأخذ ما هو الأحوط والأصوب بالأمر الواقع ويترك الخطأ، وقد بدأ الله تعالى هذه السورة بقوله أحسن القصص وختمها بقوله (فِي قَصَصِهِمْ) مما يدل على أن في هذه السورة الكريمة عبرا كثيرة لمن يعتبر فيها من الأخبار بالغيب والوقائع ما لم يكن بغيرها فضلا عن أنها معجزة عظيمة لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم قال تعالى «ما كانَ» هذا القرآن الذي لقبّناه بأحسن القصص يا أيها الناس «حَدِيثاً يُفْتَرى» يختلق من قبل البشر، وإنما هو من عند إله البشر ونزل على خيرهم «وَلكِنْ» كان في الأزل ويكون في الحاضر والمستقبل «تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من التوراة والإنجيل وغيرهما مما أنزل الله تعالى من كتب وصحف «وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ» تحتاجه يا سيد الرسل أنت وأمتك الموجودون والآتون إلى يوم القيامة من بيان الحلال والحرام والحدود والأحكام والقصص والأخبار والمواعظ والأمثال في كل ما يتعلق في أمور الدنيا والآخرة وما فيهما فمن عرفه حق معرفته لا يحتاج إلى غيره «وَهُدىً» للناس من الضلال والتيه والزيغ أيضا «وَرَحْمَةً» لهم من العذاب وخيرا ينالون به نعم الدارين «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 111» به ويعتقدون أنّ ما فيه حق لأنهم هم المنتفعون به لا غير، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذا الفعل إلا سورة المرسلات فقط هذا، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تفسير سورة الحجر عدد 4- 54- 15 نزلت بمكة بعد سورة يوسف إلا الآية 85 فإنها نزلت بالمدينة وهي تسع وتسعون آية، وستمئة وأربع وخمسون كلمة، وألفان وسبعمئة وستون حرفا.

[سورة الحجر (15) : الآيات 1 إلى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى الر 1» تقدم ما فيه، والله أعلم بما فيه، راجع ما قبلها وما تدلك إليه تجد ما يتعلق في معناه مفصلا «تِلْكَ» إشارة إلى أن ما تضمنته هذه السورة من الآيات بأنها هي «آياتُ الْكِتابِ» المعهود الذي وعد الله به حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم بإنزاله عليه «وَقُرْآنٍ مُبِينٍ 1» لكل شيء في الدنيا والآخرة، والتنكير يشعر بالتفخيم والتعظيم لشأن ذلك الكتاب الذي هو القرآن المدون في اللوح المحفوظ، ومن قال إن المراد بالكتاب التوراة أو الإنجيل لأن القرآن عطف عليه والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه لا دليل له على ذلك إذ لم يرد ذكر لهما بعد حتى يشار إليها به، وأن مجيئه بوصفين كان زيادة في إجلاله واحترامه لما فيه من الآيات والأحكام الهامة لهذا المجتمع الإنساني، أما اقتضاء المغايرة فليس على إطلاقه. مطلب كلمة لوما ولولا في ربما وفي كلمات التهكم وعهد الله في حفظ القرآن دون سائر الكتب: «رُبَما» بالتخفيف وتقرأ بالتشديد وهما لغتان في ربّ، وتكون للتقليل والتكثير وهي هنا للتكثير، وزيد عليها ما يليها الفعل لأنها من حروف الجر فلا تدخل وحدها على الأفعال كأن وأخواتها فإنها لا تدخل على الأفعال بدون ما، ولك أن تجعل ما هنا بمعنى شيء فتقول رب شيء، وتختص بالنكرات وتكون ما كافة لها عن العمل، وهي تختص أيضا بالماضي من الأفعال، ودخلت هنا على المضارع لأنه بمنزلة المحقق وقوعه، لأن كل ما هو مترقب من أخبار الله تعالى مقطوع في وقوعه لتحققه فيكون بمنزلة الماضي، وكأنما قيل هنا ربما ودّ «يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» يوم الجزاء والحساب في ذلك الموقف المهيب الذي ترتعد له الفرائض وتتفطّر له القلوب أي أن الكافرين يتمنون في ذلك اليوم «لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ 2» مؤمنين بالله في الدنيا وذلك حين يشاهدون أهوال أحوال الآخرة أو حين يحل بهم الموت، إذ تتراءي لهم منازلهم ويعلمون أنهم كانوا في ضلال، لهذا يتمنون كثيرا أنهم كانوا مسلمين، ولكن لا فائدة من ذلك التمنّي إذ لا يقبل الإيمان حال اليأس من الحياة، فلئلا يقبل في الآخرة من باب أولى

فيكثر ندمهم حينذاك ولات حين مندم، ولهذا كانت ربما هنا للتكثير لأنهم كلما شاهدوا هولا من أهوال القيامة وكلما رأوا شفاعة الأنبياء لأتباعهم والمؤمنين بعضهم لبعض وكلما عاينوا رحمة الله بالمسلمين ونكاله في الكافرين والعاصين أمثالهم يتمنون أنهم كانوا مسلمين، ويكونون أكثر أسفا وحسرة وندما على ما فاتهم وخاصة حينما يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار، أجارنا الله منها، ومن قال إنها هنا للتقليل أراد أنه أبلغ في التهديد والزجر، أي قليل التمني والندم كافيك في كونه زاجرا لك عما كنت فيه، فكيف بكثيره؟ ولأن أهوال القيامة تشغلهم عن كثرة التمني وانغماسهم بالعذاب ينسيهم الندم، وإنما يخطر ببالهم عند الأفاقة من سكراته، والأول أنسب بالمقام، إذ لكل مقام مقال. قال تعالى «ذَرْهُمْ» يا أكمل الرسل «يَأْكُلُوا» كما تأكل الأنعام ويتمتعوا بحطام الدنيا البالية «وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ» بكثرة الأموال والأولاد والنعم عن الإيمان بنا ويغويهم الشيطان بالانهماك في الكفر والشهوات والإعراض عن الطاعة لك «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 3» سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه وذاقوا وباله، وفيه تهديد عظيم لمن أخذ حظه من الدنيا وترك نصيبه من الآخرة لأنه صدر الآية بكلمة ذرهم وهي للتهديد أيضا، فمتى يهدأ العيش لمن هو بين تهديدين تضمنا وعيدين إذا كان له قلب لين أو عين رطبة وفكر يقرّب له ما يستعبده غيرة؟ هذا، ولما كان طول الأمل ينسى الآخرة واتباع الهوى يبعد عن الحق والعياذ بالله وهما ليسا من أخلاق المؤمنين قال تعالى «وَما أَهْلَكْنا مِنْ» أهل «قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ 4» أجل مضروب ووقت معين لإهلاكها لا يتقدم ولا يتأخر، ولهذا قال ذرهم إذ لم تنزل آية القتال ولم يؤمر حضرة الرسول بقتالهم وقسرهم على الإيمان، وما قاله بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا عبرة في قوله، بل هي محكمة جاءت تقوية للقتال وتمهيدا له وتبيبنا لأسبابه، لأن من أراد أن يبطش بعدوه المخالف له وهو قوي لا يفاجئه ببطشه بل يتقدم له بالإنذار حتى إذا أيس من القبول لما يأمره به وينهاه عنه بطش به، فيكون معذورا، لأن من أنذر فقد أعذر، وهذا من هذا، قال تعالى «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» المحتم

لها في أم الكتاب بل تنتظره حتما «وَما يَسْتَأْخِرُونَ 5» عنه لحظة واحدة إذا حل أجله وقد أنث أولا وذكر ثانيا باعتبار اللفظ والمعنى «وَقالُوا» كفار مكة لرسولهم محمد صلّى الله عليه وسلم «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» القرآن المذكر للرشد والهدى والحق والصواب «إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ 6» وصموه بما هو براء منه لما يرونه حال نزول الوحي عليه كالمغشي عليه من ثقل ما يلاقي من الهيبة الإلهية ورزانة المنزل مما لا تطيقه الجبال الراسيات، راجع قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) الآية 6 من سورة المزمل المارة في ج 1 وقوله تعالى (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) الآية 22 من سورة الحشر في ج 3، وقولهم له هذا على طريق الاستهزاء إذ يقولون (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) إلخ فيعترفون أنه ذكره وينسبونه إلى الجنون،، والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم جار شائع، وقد جاء القرآن على ذلك المنوال الذي ألهمه لهم منزله لما هو معلوم في سابق علمه، قال تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 27 من سورة آل عمران ج 3، ومثلها في القرآن كثير، وقال تعالى (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) الآية 87 من سورة هود المارة وقال تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية 49 من سورة الدخان الآتية، وقد جاءت هذه الآية على حد قوله تعالى حكاية عن فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) الآية 27 من سورة الشعراء المارة في ج 1 والمعنى أنك تقول قول المجانين بادعائك أن الله نزل عليك الذكر قال تعالى «لَوْ ما» هي لو ركب معها ما، وهي لامتناع الشيء لوجود غيره مثل لولا، فتحتاج للشرط والجواب، ولكنها لا تجزم وإخوانها كذلك وراجع الآية 115 من سورة هود المارة ومعناها هلا، وهذه أصلها هل ركبت مع لا، وتفيد التحضيض وهو طلب الشيء بحث وإزعاج، فعند إرادة المعنى الأخير لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر كما في الآية، وعند إرادة معنى امتناع الشيء لوجود غيره لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدّر عند البصريين وعليه قول ابن مقبل: لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وهذه بخلاف ربما إذ لا تدخل على الأسماء كما بيناه آنفا في الآية الثانية «تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ» ليشهدوا على دعواك رسالة الله لنا كي نصدّقك «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 7» بها قال تعالى ردا عليهم «ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ» على طلبكم الواهي وما ننزلهم «إِلَّا بِالْحَقِّ» عند إرادتنا إنزال العذاب بأحد، وعند قبض الروح، وعند إنزال الوحي، وعند اقتضاء أمر تقتضيه حكمتنا «وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ 8» ممهلين بل لأوقعنا بهم العذاب حالا مع نزول الملائكة، نزلت هذه الآية في كفار مكة القائلين إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أنزل علينا ملائكة ربك الذين تزعم ليشهدوا أنك صادق بوعدك ووعيدك كي نصدقك، قال تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» عليك يا سيد الرسل أصدّقوا أم كذّبوا «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9» من كل ما يقدح فيه كالتحريف والتغيير والزيادة والنقص، بحيث لو أن أكبر رجل قرأه بزيادة حرف أو نقصه أو تبديل حركة منه لردّ عليه الصبيان، إذ لا يراعى في لحنه كبير لكبريائه، وهو الموجود بين الدفتين الآن كما كان قبل يكون بعد المتواترة قراءته كما هي فيه، كيف لا وهذا العهد من الله تعالى بحفظه له على الصورة التي أنزلت عليها، وبقائه معمولا به إلى آخر الزمان فلا يقدر أحد على إحداث شيء فيه أو إزالة شيء منه البتة بمقتضى عهده هذا، وهذا من خصائصه، لأن غيره من الكتب السماوية تطرقت إليها الأيدي بالزيادة والنقصان من تحريف وتبديل، وأدخل فيها من ما ليس منها يسبب تسلط بعض الملوك على القسوس والرهبان وأهل العلم من أهل الكتابين، وبسبب الترجمة وأسباب دنيوية وقسرية، لأن التوراة حرفت مرارا وتداولتها أيدي الملوك وعلماء السوء، والإنجيل لم ينزل دفعة واحدة ولم يجمع على عهد المسيح ولم يعلم بصورة صحيحة الذي نفله من السريانية إلى العربية، وأن الأناجيل الأربعة المعمول بها الآن وإن كانت من حيث المعنى على توافق غالبا فإنها مختلفة من حيث اللفظ، وكلام الله لا بدّ وأن يكون موافقا بعضه لبعض حرفيا في اللفظ والمعنى، وكلها مخالفة لإنجيل برنابا الذي هو موافق من حيث المعنى للقرآن العظيم بشأن صون سيدنا عيسى من الصلب وعدم توصل أيدي اليهود القذرة إلى طهارته وقدسيته، وأن المصلوب هو يهوذا الأسخريوطي المنافق الذي دلهم عليه

[سورة الحجر (15) : الآيات 11 إلى 20]

ليمسكوه ويقتلوه، فألقى الله شبهه عليه جزاء وفاقا كما سيأتي تفصيله في الآية 187 من سورة النساء في ج 3، وقال الله تعالى في حق هذا القرآن (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) الآية 50 من آل عمران في ج 3، بما يعم التوراة والإنجيل وغيرهما، ولذلك تعهد الله بحفظه ولم يشر إلى مثل تلك الآية فيها لعلمه أن يقع فيها ما يقع من التغيير والتبديل، وقد ولى حفظها إلى الربّانيين والأحبار فاختلفوا وذهب كل منهم مذهبا في تأويلها، ففسر كل منها على ما تهواه نفسه، أما القرآن فقد أنزله الله تعالى على النبي العربي الأمي بلغته ولغة قومه وأبقاه كما أنزله وسيبقى على حاله إلى يوم القيامة إذ جعله معجزا مباينا لكلام البشر لا يقدر أحد أن يعارضه في إعجازه وفصاحته وبلاغته ولو زيد فيه حرف أو أنقص منه حرف لتغيّر نظمه ومبناه، ولو غيرت منه كلمة أو بدلت ذهب رونقه ومعناه، ولو قدم أو أخر منه شيء لاختلف المراد من مغزاه، ولو حرف حرف منه لنبدلت أحكامه وقضاياه، فيظهر لكل عاقل بالضرورة أنه ليس من القرآن ويخرج عن كونه كلام الملك الديان، وقد سخر الله تعالى عبادا من خلص عباده يذبّون عنه دواعي المبتدعة والملاحدة وأهل الكتابين المتعصبين بغير الحق، وأبقاهم كذلك إلى اليوم الذي قدر فيه رفعه ممن ليس بأهله، فصانه على هذه الصورة من كل إفساد وإبطال، وأبقاه كما أنزله صادعا بالحرام والحلال والأخبار والأمثال والحمد لله رب العالمين. وقدمنا ما يتعلق بهذا في المقدمة من بحث حفظ القرآن ما به كفاية فراجعه. هذا وما جرينا عليه من عود الضمير في له إلى القرآن أولى وأليق وأحسن من عوده إلى محمد صلّى الله عليه وسلم بداعي أن الله تعالى ذكر الإنزال والمنزل وكنى به عن المنزل عليه بعود الضمير له وهو محمد صلّى الله عليه وسلم مع أن هذا معلوم بالبداهة، وإن سياق الآية يأبى عود الضمير إليه بل عوده لأقرب مذكور، وهو الذكر أوجب وأصح وأشهر. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ» يا محمد رسلا كثيرة «فِي شِيَعِ» فرق «الْأَوَّلِينَ 10» السابقين «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 11» فكذلك قومك قد أساءوا الأدب معك مثلهم، راجع الآية 30 من سور يس المارة في ج 1، والآية 9 من الزخرف الآتية. أنزل الله هذه

مطلب عدم وجوب الصلاح على الله والبروج ومواقعها ومعانيها:

الآية تسلية لحضرة الرسول عند ما تجرّأ عليه قومه وسلطوا عليه السفهاء والعبيد بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة رضي الله عنها يخبره فيها أن عادة الكفار قديما التعدي على أنبيائهم وإساءة الأدب معهم، فلك أسوة بهم وعليك أن تصبر على أذاهم وجفاهم كما صبر من قبلك «كَذلِكَ» مثل ما سلكنا الضلال والكفر والتكذيب للرسل والاستهزاء بالذكر في قلوب فرق الأولين، فإنا أيضا «نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ 12» من قومك لأنهم أشر وأكفر من غيرهم، والشيعة أتباع الرجل وفرقته إذا اتفقوا على مذهب واحد وطريقة واحدة. ومعنى السلك النفاذ وهو إدخال الشيء بالشيء كالخيط بالإبرة. مطلب عدم وجوب الصلاح على الله والبروج ومواقعها ومعانيها: وهذه الآية حجة على المعتزلة القائلين في وجوب خلق الأصلح للعبد على الله تعالى خلافا لاعتقاد أهل السنة والجماعة، قال في جوهرة التوحيد: وما قيل إن الصلاح واجب ... عليه زور ما عليه واجب وقال في بدء الأمالي: وما ان فعل أصلح ذو افتراض ... على الهادي المقدس ذي التعالي وقال الواحدي: قال أصحابنا أضاف الله سبحانه إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار وحسن ذلك منه، فمن آمن بالقرآن فليستحسنه، ومن قال إنه لم يجر للضلال والكفر ذكر في هذا اللفظ، فكيف تضيفون الضمير في نسلكه إليه، هو قول مردود لأنه تعالى قال (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فالضمير في به عائد إلى الرسول والضمير في نسلكه عائد إلى الاستهزاء، والاستهزاء بالرسول كفر وضلال، فثبت صحة للقول بأن الذي يسلك في قلوب المجرمين هو الكفر والضلال، وقد بينّا في الآية 12 من سورة يونس والآية 100 من سورة يوسف المارتين ما يتعلق في هذا البحث فراجعهما، وإنما نسلكه في قلوبهم لأنهم «لا يُؤْمِنُونَ» أولئك الكفرة «بِهِ» بالذكر المنزل عليك، وهو القرآن «وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ 13» التي سنها الله لعباده في عدم إيمان الكافرين الذين سبق في علمه أذلّا أنهم يموتون كفارا وأنهم يهلكون بعذاب منه، لأنهم

يصرّون على الكفر، وفيه وعيد وتهديد لأهل مكة بأنهم إذا لم يؤمنوا يكون مصيرهم الهلاك كالأمم السابقة، قال تعالى «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ» على خلاف العادة ليؤمنوا بك «فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ 14» يصعدون وينظرون ما فيها من العجائب العظيمة، والمعارج المصاعد وهي قواطع السلم الذي يصعد عليه بها كالدرج، «لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا» حبست عن النظر وتحيّرت وأغشيت بما يمنعها من حقيقة المرأى، أي لأنكروا ما شاهدوه فيها وجعلوه خيالا ولم يتعظوا بشيء من ذلك ولقالوا «بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ 15» من قبل محمد، إذ موّه وخيل لنا أشياء لا حقيقة لها، والمعنى أن الله تعالى يقول لو جعل لهم ذلك على سبيل الفرض وشاهدوه عيانا لما آمنوا ولقالوا قد سدت أبصارنا عن الحقيقة أو سحرنا محمد، وأصروا على كفرهم، وهؤلاء الذين هم في أزل الله يموتون على كفرهم لا ينتفعون بما آتاهم الله من الهدى والرشد. قال تعالى «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً» عظاما كالقصور العالية الفخمة في الأرض، من حيث الاسم وإلا فلا يقاس بعظمتها ما في الدنيا كلها، وصيرناها منازل للشمس في سيرها وهي بروج الفلك الاثني عشر، ولكل برج منها ثلاثون درجة، فمجموعها ثلاثمائة وستون درجة وتقطعها الشمس في كل سنة مرة واحدة كل برج في شهر، وبها تتم دورة الفلك، ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوما، وتنقسم على المواسم الأربعة، ونظير هذه الآية الآية 60 من سورة الفرقان المارة في ج 1، وقد ذكرنا فيهما بعض ما يتعلق في هذا البحث فراجعه، وقد أوضحنا ما هية البروج في سورة البروج المارة في ج 1 أيضا، ولهذا البحث صلة في أوائل سورة تبارك الملك الآتية، أما منازل القمر فهي ثمانية وعشرون منزلة لكل برج منزلتان وثلث، إذ ينزل كل ليلة منزلة وتقيم الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما، وهي مواقع النجوم التي أقسم الله بها في الآية 75 من سورة الواقعة المارة في ج 1 كما أشرنا إليه في الآية 40 من سورة يس المارة في ج 1 أيضا فراجعها تجد ما تريد وما يخطر ببالك، وقد نسبت العرب إليها الأنواء الممطرة التي وعدنا ببيانها قبل في الآية 21 من سورة يونس المارة، وها نحن أولاء نبينها على التفصيل فنقول وبالله التوفيق وهو الملك الجليل:

المنزلة الأولى الشرطان بفتح الشين والراء مثنى شرط بفتحتين، وهما كوكبان نيّران من القدر الثالث على قرني الحمل معترضان بين الشمال والجنوب، بينهما ثلاثة أشبار بالنسبة لما نراه وبقرب الجدي منهما كوكب صغير، قد سمتها العرب كلها أشراطا ويقولون بسقوطها علامات المطر والريح والقمر يحاذيهما وبقرب الشمال منهما كوكب صغير نيّر وهما الشرطان عند بعض، ويقال الشرطين الناطح أيضا. وأما السرطان بالسين فهو ورم سوداوي يبتدىء مثل اللوزة وأصغر، فإذا كبر ظهر عليه عروق حمر وخضر شبيهة بأرجل السرطان لا مطمع من برئه، وإنما يعالج لئلا ينمو ويزداد، أو داء في رسغ الدابة، أو دابة نهرية كثيرة النفع لنهش الكلب، وبحرية تحرق وتوضع بالأكحال راجع القاموس المحيط في تفاصيلها، ويطلق على البرج السماوي. الثانية البطين تصغير بطن، وهي ثلاثة كواكب صغار كأنهن أنافي خفية من القدر. الخامس على شكل مثلث حاد الزوايا على فخذي الحمل بينه وبين الشرطين قيد رمح بالنسبة لرؤيتها، وهكذا فيما بعده، والقمر يجتاز بها أحيانا. الثالثة الثّريا تصغير ثروى من الثراء وهو الكثرة وتسمى النجم، وهي ستة كواكب مجتمعة كشكل المروحة مقبضها نحو المشرق فيه انحناء من جانب الشمال، وقد شبهها قيس بن الأسلت بعنقود عنب، قال أحيحة بن الجلاح: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نوّرا والمرصود من كواكبها أربعة من القدر الخامس وموضعها سنام الثور، ويليه الحمل وقد يكسفها القمر. الرابع الدبران بفتحتين سمي به لأنه دبر الثريا وخلفها وهو كوكب أحمر نير من القدر الأول على طرف صورة السبعة من رقوم، ويسمى المجدع وموقعه عين الثور، والذي على طرفه الآخر من القدر الثالث على عينه الأخرى، والثلاثة الباقية وهي من القدر الثالث أيضا على وجهه وزاوية هذا الرقم على خطم النور، وقد بسمى بقلب الثور، وقد يكسفه القمر أيضا. الخامس الهقعة بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين المهملة، وهي ثلاثة كواكب خفقفة من القدر الخامس مجتمعة شبيهة بنقط الثاء كأنها لطخة سحابية شبهت بالدائرة التي تكون في عرض زور الفرس أو بحيث تصيب رجل الفارس أو بلمعة بياض

تكون في جنب الفرس الأيسر، وتسمى الأثافي جمع أثفية، وهي الأحجار الثلاثة التي يركب عليها القدر حين توضع تحته النار، وهي على رأس الجبار المسمى بالجوزاء والقمر يحافيها ولا يقاربها. السادسة الهنعة بالنون على وزن الهقعة، وهي كوكبان من القدر الرابع والثالث شبهت بسمة في منخفض عنق الفرس وهما على رجل التوأمين مما يلي الشمال بمنكب الجوزاء الأيسر والقمر يمر بهما. السابعة الذراع وهو كوكبان زهراويان من القدر الثاني على رأس التوأمين ويقال لهما ذراع الأسد المبسوطة، لأن المقبوضة هي الشعرى الشامية مع فروعها والقمر يقارب المبسوطة. الثامنة النثرة وهي الفرجة بين الشاربين حيال وثرة الأنف وهو أنف الأسد وهما كوكبان خفيان من القدر الرابع بينهما قدر ذراع ولطخة سحابية وهي على وسط السرطان وبقربهما كوكبان يسميان بالجمارين واللطخة بينهما بالمعلف تشبيها لها بالتبن وبمحنطة الأسد أي موضع استتاره ويكسف القمر كلا منهما. التاسعة الطرف من القوس وهو ما بين السبّة والأنهرين أي قريب من الذراع من كبدها، والأنهران العوا والسماك، وسمي الأنهران لكثرة ما بهما من النجم، وهي كوكبان صغيران من القدر الرابع أيضا أحدهما على رأس الأسد قدام عينيه، والأخر قدام يده المقدمة، والقمر يحاذي أشملهما، ويكسف أجنبهما، ويعنون بالطرف عين الأسد. العاشرة الجبهية أي جبهة الأسد وهي أربعة كواكب على سطر فيه تعريج آخذ من الشمال إلى الجنوب أعظمها على طرف السطر مما يلي الجنوب، وتظهر للرائي واحدة منفردة وثلاثة كالأثافي ويسمى قلب الأسد لكونه في موضعه، ويسمى الملكي أيضا وهو من القدر الأول والقمر يمرّ به وبالذي يليه. الحادية عشرة الزبرة بضم الزاي وسكرن الباء وهي كوكبان نيّران على أثر الجبهية بينهما أرجح من ذراع وهما على زيرة الأسد أي كاهله عند العرب وعند المنجمين عند مؤخره، فزبرة الأسد شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه أجنبهما من القدر الثالث وأشملهما من الثاني، وتسمى ظهر الأسد، والقمر يحاذيهما من جهة الجنوب حتى كأنه نزلهما رأي العين. الثانية عشرة الصرفة سميت بذلك لأن البرد ينصرف عند سقوطه، وهو كوكب واحد على طرف ذنب الأسد، وتسمى ذنب الأسد، والقمر محاذبه من جهة الجنوب.

الثالثة عشرة العوّي بالقصر وقد تمد وهي خمسة كواكب من القدر الثالث على هيئة لام في الخط العربي تشبه القنا ثلاثة منها آخذة نحو من منكب العذراء الأيسر إلى تحت ثديها الأيسر وهي على سطر جنوبي من الصرفة، وينعطف اثنان منها على سطر يحيط مع الأول بزاوية منفرجة، زعمت العرب أنها كلاب تعوي خلف الأسد، ولذلك سميت العواء، وقيل كأنها تعوي فى أثر البرد، ولذلك تسمى طارودة البرد أو مأخوذة من الانعطاف تقول عوى الشيء إذا عطفه، وتطلق على سافلة الإنسان، وتسمى ورك الأسد، والقمر يخرقها. الرابعة عشرة السماك الأعزل وهو كوكب نيّر من القدر الأول من حيث الضياء وهو يتفاوت ما بين الواحد والواحد والعشرين، إلا أن البشر لا يدرك أكثر من ذوي القدر الخامس، لأن السادس هو السها وقل من يدركه من البشر، لأن بصره لا يتعداه، وهو على كتف العذراء الأبسر، قريب من المنطقة، والقمر يمر به ويكسفه، ويقابله السماك الرامح الذي لم يعد من المنازل، وسمي رامحا لكوكب يقدم كأنه رمحه، وسمي سماكا لأنه سمك أي ارتفع، ومن قال إنه كوكبان نظر إليهما معا تسامحا والصواب ما ذكرناه. الخامسة عشرة الغفر وهي ثلاثة كواكب من الرابع على ذيل العذراء، ورجلها المؤخرة على سطر معوج حدبته إلى الشمال، وقيل أيضا كوكبان والقمر يمر بجنوبهما وقد يحاذي الشمال وهو منزل خير بعد عن شرين مقدم الأسد ومؤخر العقرب، ويقال إنه طالع الأنبياء والصالحين وسميت غفرا لسترها ونقصان نورها، وقيل هي من كواكب الميزان. السادسة عشرة الذّبانا بالضم وهي كوكبان نيران من الثاني متباعدان من الشمال والجنوب بينهما قيد رمح على كفتي الميزان، وقيل إنهما قرنا العقرب والقمر قد يكسف جنوبهما. السابعة عشرة الإكليل وهو ثلاثة كواكب خفية معترضة من الشمال إلى الجنوب على سطر مقوس يشبه شكلهما شكل المغفر، الأوسط منها متقدم والاثنان تاليان، وهي من الرابع والقمر يمر بجميعها، وقيل هي أربعة كواكب برأس العقرب، ولذلك سميت إكليلا الذي معناه في الأصل تاج الملك. الثامنة عشرة القلب وهو قلب العقرب كوكب أحمر ونهر وسط الثلاثة التي على بدن العقرب، على استقامة من الغرب

إلى الشرق، وهو من الثاني واللذان قبله وبعده من الثالث، ويسميان بناطين، والقمر يمرّ به ويكسفه من المنطقة. التاسعة عشرة الشولة بفتح الشين واللام وتسمى ابرة العقرب عند الحجازيين، وهي كوكبان من الثاني وزهران متقاربان على طرف ذنب العقرب في موضع السحمة والقمر يحاذيهما. العشرون النّعائم وهي أربعة كواكب من الثالث على منحرف تابع للشولة وتسمى النعائم الواردة إلى المجرّة، والقمر يمر باثنين منها ويحاذي الباقية، ويقرب منها أربعة أخرى من الثالث على منحرف، وهي النعائم الصادرة من المجرة وكلها من صورة الرامي، وسميت نعائم تشبيها بالخشبات التي تكون على البئر. الحادية والعشرون البلدة وهي قطعة من السماء خالية من الكواكب مستديرة تقع بين النعائم وبين سعد الذابح فينزلها القمر وقد يعدل عنها فينزل بالقلادة وهي ستة كواكب صغار في برج القوس تنزلها الشمس في أنصر أيام السنة، شبهت ببلدة الثعلب وهي ما يكنّه بذنبه، وتسمى المفازة والفرجة أيضا تشبيها بالفرجة الكائنة بين الحاجبين وموضعها خلف الكواكب التي تسمى بالقلادة، وهي عصابة الرامي. الثانية والعشرون سعد الذابح وهو كوكبان على قرن الجدي بينهما قدر باع بالنظر لما نرى جنوبيهما من الثالث والقمر يقاربه ولا يكسفه، وبقرب الشمال كوكب صغير يكاد يلتصق به يقال إنه شاته التي يريد أن يذبحها، وقيل إنه في مذبحه ولذلك سمي بالذابح. الثالثة والعشرون سعد بلع على وزن زفر وهو كوكبان على كف ساكب الماء اليسرى فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع، وبقرب مقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه، فلهذا سمي به. وقيل هو كوكبان مستويان في المجرة أحدهما خفي والآخر مضيء يطلعان في آخر ليلة من كانون الثاني ويسقطان بأول ليلة من آب. وسمي بلع لأنه حين يرى أحدهما كأنه يبلع الآخر، وجاء في القاموس أنهما طلعا حين قال الله (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الآية 44 من سورة هود المارة، ولهذا تقول العامة إن الأمطار فيه لا تمكث على سطح الأرض والقمر يقارب اجنبيهما ولا يكسفه. الرابعة والعشرون سعد السعود وهو كوكبان وقيل ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجبنهما من القدر الخامس على طرف ذنب الجنوبي

والقمر يقرب منه وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في قول آخر من كواكب القوس، وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيش الناس ومواشيهم. الخامس والعشرون سعد الأخبية وهي أربعة كواكب من القدر الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة منها على شكل مثلث حاد الزوايا، والرابع وسطه وهو السعد والثلاثة خباؤه، ولذلك سمي بذلك، وقيل لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج فيه من الهوام ما كان مخبأ والقمر يقاربها من ناحية الجنوب وما قيل إنه عبارة عن كواكب مستديره فيه تسامح، قال في القاموس سعود النجوم عشرة الأربعة المذكورة في منازل القمر وسنة ليست بمنازل وهي سعد ناشرة وسعد الملك وسعد العليم وسعد الغمام وسعد البارح وسعد مطر، وكل منها كوكبان بينهما نحو ذراع. السادسة والعشرون فرع الدلو المقدم، ويقال الأعلى، وهو كوكبان نيّران من الثاني بينهما قيد رمح أجنبيهما على متن الفرس الأكبر المجتح، أي ذي الجناحين، وأشملهما على منكبه، والقمر يمرّ بالبعيد منها. السابعة والعشرون فرع الدلو المؤخر ويسمى الأسفل وهو كوكبان نيّران من الثاني بينهما قيد رمح أيضا أجنبيهما على جناح الفرس وأشمليهما مشترك بين سرّته ورأس السلسلة شبهت العرب هذه النجوم الأربعة فيهما بقرع الدلو بفتح الفاء وسكون الراء وهو مصب الماء منه لكثرة الأمطار فيهما. الثامنة والعشرون بطن الحوت وتسمى الرشا بكسر الراء أي رشا الدلو وهو حبله، ويقال له قلب الحوت أيضا، وهو كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة، يحاذي القمر ولا يقاربه، وسمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها في العرب في سطرين عليهما كواكب خفية بعضها من السلسلة وبعضها من إحدى سكن الحوت. هذا وإن الأربعة عشر الأولى أي من الشرطين إلى السماك تسمى شامية، الأربعة عشر الأخيرة من الغفر إلى بطن الحوت تسمى يمانية والسنّة القمرية عبارة عن اجتماع القمر مع الشمس اثنى عشر مرة، ويتم زمانها في ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، ولا يوجد شهر أقل من تسعة وعشرين يوما ولا أكثر من ثلاثين، ولا سنة أقل مما ذكر

مطلب استراق السمع والرمي بالنجوم وماهية الأرض وأن كل ما فيها له وزن خاص:

أعلاه ولا أكثر من ثلاثمائة وخمس وخمسين يوما، وقدمنا ما يتعلق بهذا، وفي السنة الشمسية أيضا في سورة البروج بصورة مفصلة في ج 1 فراجعها. ولما ذكر الله تعالى حال منكري النبوة وكانت متفرعة على التوحيد وقال جلّ شأنه لو رأوا الآية المطلوبة من السماء لما آمنوا ولبقوا مصرين على كفرهم عقب ذلك بذكر الدلائل السماوية والأرضية، فقال وأن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه، فقال «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً» هي عبارة عن أجزاء الفلك الأعظم المحدد المسمى بالفلك الأطلس وفلك الأفلاك وسماه الشيخ الأكبر قدس سره فلك البروج ويسمونه الفلك الثامن وفلك التوايت، وقد أوضحنا ما يتعلق فيها أول سورة البروج أيضا في ج 1 فراجعها. قال تعالى «وَزَيَّنَّاها» أي السماء بالشمس والقمر والميزان والثريا والكواكب السبعة والمحيرة وغيرها زينة بديعة «لِلنَّاظِرِينَ 16» حديدي النظر في ملكوت الله يستدلون بها على قدرة مكونها ليؤمنوا بخالقها ويرشدوا أقوامهم إلى الإسلام والإيمان «وَحَفِظْناها» أي النجوم، وإنما أعيد الضمير إلى السماء لكون النجوم فيها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه، فالسماء المحل والنجوم حالة فيها «مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ 17» مرجوم بالشهب ملعون مطرود عنها، كما هو مطرود من رحمة الله «إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ» منها استثناء منقطع أي الذي يقع منه الاستراق يعرض نفسه للهلاك. مطلب استراق السمع والرمي بالنجوم وماهية الأرض وأن كل ما فيها له وزن خاص: لأنه إذا تصدى ذلك فيتبعه ما يحرقه وجاء بالماضي «فَأَتْبَعَهُ» راجع الآية 172 من الأعراف المارة في ج 1 تجد معنى هذا الفعل «شِهابٌ مُبِينٌ 18» أو شعلة ساطعة من نار سمي الكوكب شهابا لما فيه من البريق كشهاب النار. واعلم أن قوله تعالى وزيّناها يعود إلى السماء باعتبار أل فيها للجنس فتشتمل السموات السبع، لأن الكواكب ليست بسماء الدنيا فقط بل فيها كلها يدل على هذا قوله: زحل شرى مرّيخه من شمسه ... فتزاهرت لعطارد الأقمار

لأن زحل في السابعة والقمر في الأولى والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والزهرة في الثالثة وعطارد في الثانية، وكل منها معها نجوم لا تعد ولا تحصى، وإن قالوا إنهم أحصوها، وأن قوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) الآية 5 من سورة تبارك الملك الآتية بالنسبة لما يبدو لنا وإلا فالتزيين لكل السموات، والمراد بحفظها من الشياطين عدم قربانهم لها كما يحفظ الإنسان داره من العيون والجواسيس، وإلا فهي محفوظة بحفظ الله لا قدرة للشيطان على هدمها وإفساد ما فيها وإنما يحفظها من استراقهم ما يقع فيها من الكلام الذي تتلقاه الملائكة من رب العزّة، راجع تفسير أول سورة الجن المارة في ج 1 وما يأتي عليك الآن روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر في السما حتى ضربت الملائكة أجنحتها خفقانا لقوله كالسلسلة على صفوان إذا فزّع عن قلوبهم (قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا) للذي قال (قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) الآية 22 من سورة سبأ الآتية، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض. ووصف سفيان بكفيه فحدقهما ومدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة، فيقال له أليس قد قال لنا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء. قال ابن عباس لما ولد عيسى عليه السلام منعت الشياطين من ثلاث سموات، ثم منعوا من الكل عند ولادة محمد صلّى الله عليه وسلم، والرمي بالنجوم كان موجودا قبل مبعثه وإنما زاد وشدد بعده. وقد جاء له ذكر في الشعر الجاهلي قال بشر بن أبي خازم: فالعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفها انقضاض الكواكب وقدمنا في بحث أولاد الحيوانات في الآية 148 من الأعراف المارة في ج 1 أن الجحش ولد الحمار فراجعه. وقال أويس بن حجر الجاهلي: فانقض كالدرّي يتبعه ... نقع يثور تخاله طينا بما يدل على أن الانقضاض لم يكن قبل بمجرد كوفه غير جاهلي، وإذ كنا

أوضحنا ما يتعلق بهذا أول سورة الجن المارة في ج 1 وأوردنا الحديث الذي رواه ابن عباس وغيره فلا حاجة للإطالة في هذا البحث هنا، وستأتي له صلة في سورة الصافات الآتية الآية 6 فما بعدها وفي سورة سبأ الآية 24 أيضا ان شاء الله «مَدَدْناها» على وجه الماء أو بسطناها بالنسبة لما نراه، لأن النّملة إذا مشت على البيضة تحسبها مفروشة ممهدة مبسوطة وقال أهل الهيئة بعضها في الماء وبعضها خارج عنه وهو الجزء المعمور، ولعظمها يكون بالنظر كل جزء منها ممدودا مبسوطا، ولا منافاة بين الآية على ما قاله المفسرون وبين قولهم هذا من حيث المعنى كما ذكرنا، لأن الكرة إذا كانت عظيمة كان كل جزء منها سطحا عظيما بالنسبة لمن فوقه «وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ» أراد وهو أعلم بالرواسي الجبال العظام الثوابت حيث ثقلها بها لئلا تتحرك قال تعالى في الآية 16 من سورة النمل الآتية (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) » والآية 22 من سورة الأنبياء الآتية أيضا بمعناها مما يدل على أنها طائفة والقرآن يفسر بعضه فلولا تثقيلها بالجبال لبقيت مضطربة لا يستفاد منها قال ابن عباس أن الله لما بسط الأرض على الماء ما لت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها، وما قاله الإمام الرازي في أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعالى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تحيد الناس عن الجادة المستقيمة، ولا يقعون في الضلال، لا يسوغ الذهاب إليه، لأن الأخبار تأباه، وكان هو رحمه الله لم يرض به لتصدير قوله بيجوز، لأن العالم إذا تردد في شيء صدره بكلمة يجوز إعلاما بعدم تحققه لديه لعدم العثور على مايجزم به فيه «وَأَنْبَتْنا فِيها» أي الأرض بما فيها الجبال لأنها منها، وإن أحسن النبات يكون فيها فضلا عن أن أكثر المعادن تكون فيها، وقد يوجد فيها ما لا يوجد في غيرها، كيف لا وهي مخازن المياه، لهذا فإن من قصر عود الضمير على الأرض فقد قصر كما أن تخصيص عود الضمير للجبال فقط غير جائز، ولهذا فإن عود الضمير لكليهما أولى وأوفى بالمرام «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ 19» بميزان الحكمة معلوم القدر والثقل، فكل ما ينبت أو يكون في الأرض والجبال والأودية له وزن خاص به سواء

مطلب كل شيء من عند الله وبسط الرزق وقبضه لحكمة أرادها ومعنى الريح والرياح:

كان نباتا أو معدنا، لأن المعادن كلها موزونة، ولا يقال إن موزون لا يعود إلى النبات، لأن النبات لا بوزن بل يعود إليه أيضا، ولأن ما يحصل من النبات منه ما هو موزون، وفيه ما هو مكيل والكيل يرجع إلى الوزن. واعلم أن هذه الآية تشير إلى ما يسميه علماء هذا العصر بالثقل النوعي، فالإخبار به في عصر نزول القرآن من المعجزات العظام إذ لا يوجد من يعرف إذ ذاك ممن عاصر حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم في مكة وحواليها بأن كل شيء يخرج من الأرض والجبال والأودية مائع أو جامد له ثقل مختص به لا يشاركه غيره فيه، فثقل الذهب النوعي 5/ 19 والفضة 5/ 10 والنكل 28/ 9 والزئبق 59/ 12 والراديوم الذي عنصره مثل عنصر الزئبق يشبه ملح الطعام، ولا يوجد منه في العالم كله (كما يزعمون) إلا بضع أوقيات، وقد اهتم العلماء به لأنه يشع حرارة وضوءا لا ينطفىء ولا يبرد مهما مضى عليه من السنين، فكأنه شمس تحتوي على كمية كبيرة منه، ويستخرج من مادة تدعى بنسيلند توجد في مناجم الرصاص والفضة والقصدير، وهلم جرا في بقية الأجسام والمائعات المختلفة في الوزن كما هي مختلفة بالنوع والصفة، وهذا برهان قاطع على علائم نبوته صلّى الله عليه وسلم وكما يطلق لفظ موزون على ذلك يطلق على الكلام المتناسب. قال عمرو بن ربيعة في هذا: وحديث النوى وهو مما ... تشتهيه النفوس بوزن وزنا وأبواب الشعر لها أوزان مخصوصة أبلغوها إلى ستة عشر عدا الرجز كما هو مبين في علم العروض «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» تنمون بها حياتكم «وَمَنْ» ولمن على تقدير الجار، لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، وعليه فلا يكون محل من مجرورا بالعطف على الكاف من لكم فيكون المعنى ومعايش لمن «لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ 20» من العيال والخدم والعبيد والدواب والطيور والحيتان والوحوش والديدان وغيرها. مطلب كل شيء من عند الله وبسط الرزق وقبضه لحكمة أرادها ومعنى الريح والرياح: فإن الله تعالى يرزق خلقه كافة، وأنتم تنتفعون من مخلوقاته تلك من غير أن

[سورة الحجر (15) : الآيات 21 إلى 30]

ترزقوها، لأن الله يرزقكم وإياها، فلا تظنوا أنكم الرازقون لها ولما خولكم منها. وكلمة معايش لم تكرر إلا في الآية 9 من سورة الأعراف المارة في ج 1، «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ» من كل ما يطلق عليه لفظ شيء وتخصيص بعض المفسرين كلمة شيء هنا بالمطر تحكم وتقيبد لا معنى لهما، أي لا يوجد في الكون شيء «إِلَّا عِنْدَنا» نحن إله الكل وخالق الكون بما فيه ورازقه «خَزائِنُهُ» من كل ما يحتاجه البشر والحيوان والطير والحوت والدود وهو جمع خزانة بكسر الخاء، ومن نوادر ما قالوا لا تفتح الخزانة ولا تكسر القصعة وهي اسم للمكان والمحل الذي يحفظ فيه نفائس الأموال والحلي «وَما نُنَزِّلُهُ» من تلك الخزائن الموجودة في علمنا «إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ 21» معين لكل شيء مما خلقناه لكل منها ما يناسبها بقدر كفايته حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وتريده المشيئة مع إمكان إنزال ما يزيد على الحاجة، لأن خزائنه تعالى لا تنفد وإمكان ما ينقص عن الحاجة لأمر يريده، راجع الآية 26 من سورة الرعد الآتية. هذا وان ما يرى من كثرة الرزق عند بعض الناس فهو عبارة عن حفظه لديهم لغيرهم، لأنهم لا يرزقون منه إلا بقدر ما قدر لهم منه مما تستوجبه المصلحة، وما يرى من قلته على أناس فهو أيضا بتقديره تعالى لأمر يريده بهم، لأنه يعلم أنه لو نقص على الأول وزاد للآخر لضرّ بهما، قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) الآية 27 من سورة الشورى، وكذلك لو قتّر على بعض عباده لبغى بعضهم على بعض، فقد جاء في الحديث القدسي: ومنهم من إن أعنيته لبغى، ومنهم من إن أفقرته لكفر. ولهذا فإنه تعالى يعطي كلا ما يناسبه كي لا يبغي الفقير ولا يكفر الغني المترتب على الحكمة فقرهم وغناهم، وما قيل إن المراد بالخزائن هنا المطر لأنه سبب الأرزاق لجميع المخلوقات ينفيه لفظ الآية، والمطر داخل فيه لأنه مما يحتاجه الخلق، وقد ضرب الله الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور، وتطلق الخزانة على الصّندوق الحديدي الذي يخزن فيه الذهب والفضة وغيرها، وعلى الخزانة الخشبية التي تحفظ فيها الألبسة وغيرها، قال تعالى «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» حوامل بالسحاب ضد العقيمة لأنها تحمل السحاب في جوفها من بخار الماء ثم تدرّه كما تدر

اللقحة ثم تمطر، وهو معنى قوله تعالى «فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ» بأن جعلناه لكم ولأنعامكم وأراضيكم، ويدخل فيه جميع مخلوقاته سقيا من نتاج الرياح المذكورة «وَما أَنْتُمْ لَهُ» لهذا الماء أيها الناس «بِخازِنِينَ 22» في ذلك الفضاء الواسع بل نحن نخزنه فيه ونمنعه من الهبوط إلا على المكان الذي نريده، وفي الزمان الذي نشاؤه، وبالقدر الذي خصصناه، ولولا إمساك الله إياه لهبط كما ارتفع، لأن الماء ثقيل ومن طبع الثقيل الهبوط إلى الأسفل، وهذا هو معنى خزنه وادخاره لوقت الحاجة، وهذا من معجزات القرآن العظيم، لأنه يوم نزوله ما كان بشر يعلم أن الرياح تهب حبالى من بخار المياه، وتلد السحاب في جو السماء، وتسقينا من نتاجها الذي تخزنه يد القدرة الإلهية. قال ابن عباس: لواقح للثمر والنبات، فتكون كالفحل. ولم يأت لفظ الرياح في القرآن إلا في الخير، ولا لفظ الريح إلا في الشر حالة الإطلاق، ولكن إذا قيدت تتبع قيدها، قال تعالى (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) الآية 22 من سورة يونس المارة، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. وروى البغوي بسنده إلى الشافعي أن ابن عباس رضي الله عنهم قال: ما هبت ريح قط إلا جنى النبي صلّى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها ريحا ولا تجعلها ريحا. وقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) الآية 20 من سورة القمر المارة في ج 1، وقال جل قوله (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) الآية 42 من الذاريات الآتية. وقال عزّ قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الآية 57 من الأعراف المارة في ج 1، والرياح اللواقح هي ريح الجنوب لما جاء في بعض الأخبار ما هبت رياح الجنوب إلا وانبعت عينا غدقة، وأخرج بن جرير عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّا ثم يبعث المثيرة فتنثر السحاب فيجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فتجعله ركاما، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر. ولهذا البحث صلة في الآية 16 من سورة النور في ج 3، وقد مرّ له بحث في

الآيات المنوه بها أعلاه. قال تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي» الأجسام القابلة للحياة بإيجاد الحياة فيها «وَنُمِيتُ» من نحييه عند انقضاء أجله المقدر له بإزالة تلك الحياة التي جعلناها فيه فالحياة صفة وجودية تقتضي الحس والحركة الإرادية، والموت زوال تلك الصفات المادية عنها «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ 23» لما نخلق، الباقون بعد فناء ما نخلق قاطبة، المالكون للملك الحقيقي عند زوال الملك المجازي الذي هو في قبضتنا أيضا لأنا نحن الحاكمون في الكل أولا وآخرا. وتفسير الوارث بالباقي نصا على حد قوله صلّى الله عليه وسلم اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا لأن الذهن يصرف معنى الوارث للمتأخر من المتقدم والله تعالى هو الأول والآخر قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ» ولادة وموتا «مِنْكُمْ» أيها المخلوقون «وَلَقَدْ عَلِمْنَا» أيضا «الْمُسْتَأْخِرِينَ به 24» كذلك إلى النهاية من جميع مخلوقاتنا النامية والجامدة، ونعلم أيضا طائعهم وعاصيهم لا يخفى علينا شيء من أمرهم، والآية عامة، فما روي عن حمزة أنها نزلت في القتال قول لا يصح، لأن الجهاد لم يفرض بعد، وكذلك ما قاله الربيع أنس من أن النبي صلّى الله عليه وسلم حرّض على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه، وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد، فقالوا نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد، فأنزل الله هذه الآية، لا يصح أيضا، لأن هذه الآية مكية قولا واحدا، وليس في مكة إذ ذاك إلا الكعبة المشرفة، والمسجد لم يتخذ إلا في المدينة، وكذلك القتال للكفرة لم يؤمر به إلا بالمدينة. هذا وأن ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون بالصف الأول لئلا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت أبطيه، فأنزل الله هذه الآية لا يصح أيضا للسبب نفسه، وأن شمولها لما يتعلق بالجهاد وصفوف الصلاة وغيرها بعد نزولها لا يعني أنها سبب للنزول البتة، لأن اللفظ عام ولا يوجد ما يقيده من شيء، ولم يسبق ذكر للجهاد والصلاة، والعبرة دائما لعموم اللفظ إذا كان هناك سبب، فلأن تكون العبرة لعموم اللفظ بلا سبب

مطلب خلق الإنسان والجان ونشأة الكون وعمران الأرض:

من باب أولى، وفي تكرير لفظ (لَقَدْ عَلِمْنَا) دلالة على تأكيد إحاطة علمه تعالى بالعباد وأحوالهم أولا وآخرا، وأن علمه بالأولين كعلمه بالآخرين لأن الكل مدون في لوحه داخل في علمه قبل إبرازه لخلقه. قال تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ» يوم القيامة كلهم على ما ماتوا عليه كما أماتهم على ما عاشوا عليه. ويجازيهم بحسب أعمالهم الدنيوية والأخروية، روى مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعث كل عبد على ما مات عليه. وتوسيط الضمير في الآية يفيد الحصر، أي أن الله تعالى هو وحده يحشرهم، وفي إضافة لفظ الرب إلى الضمير العائد لحضرة الرسول دليل على اللطف به والعطف عليه، وقريء يحشرهم بكسر الشين من الباب السادس والأفصح الفتح على أنه من الباب الأول على ما هو في المصاحف «إِنَّهُ حَكِيمٌ» باهر الحكم بالغ منتهى الإتقان في أفعاله «عَلِيمٌ 25» واسع العلم كثيره يعلم ما يستحقه كل منهم من الثواب والعقاب. مطلب خلق الإنسان والجان ونشأة الكون وعمران الأرض: قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» آدم عليه السلام الذي هو أصل الخليقة بدليل قوله «مِنْ صَلْصالٍ» طين يابس تسمع له صوت إذا ضربته كالصلصلة «مِنْ حَمَإٍ» ضارب للسواد وهو صفة الصلصال «مَسْنُونٍ 26» متغير قال تعالى فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه الآية 260 من البقرة في ج 3، أي لم يتغير وهو صفة لحمأة، فهذه القيود تعين أن المراد بالإنسان هنا أبو البشر آدم عليه السلام لا مطلق انسان لأنه خلق من الماء المعبر عنه بالنطفة الحاصلة من الزوجين وما قيل إن معناه مصور استدلالا بقول حمزة رضي الله عنه في مدح ابن أخيه محمد صلّى الله عليه وسلم: أغرّ كأن البدر سنّة وجهه ... جلا النعيم عنه ضوءه فتبددا وقول ذي الرّمة: تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب لا يستقيم هنا والله أعلم. قال الله تعالى «وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ» أي أبا الجن «مِنْ

قَبْلُ» خلق آدم «مِنْ نارِ السَّمُومِ» شديد الحرارة تنفذ في المسام، أجارنا الله منها، تؤيد هذه الآية أن الجن كان في الأرض قبل آدم وهو كذلك ولكن لا نعلم مبدأ خلقهم، مما يدل على أن الأرض قديمة قبل آدم بكثير، وقد جاء في الأخبار أنهم لما أفسدوا فيها- كما يدل عليه قوله تعالى (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) الآية 20 من سورة البقرة في ج 3- قرضهم الله تعالى، ولم يبق منهم إلا إبليس لما كان عليه من العبادة والزهد فيما يبدو للملائكة، فألحقه بهم مع علمه بنتيجة حاله ليقع عليه اللوم. ثم أعلم رعاك الله أن هذه الأرض التي خلق الله أصلنا منها وقضى بعودتنا إليها وإخراجنا منها ثانيا كما مر في الآية 64 من سورة الأعراف الآية 55 من سورة طه المارتين في ج 1 قد مرّ عليها قرون كثيرة وهلك فيها أقوام لا عداد لهم، وقد شاهدت بعيني حالها من صنوف الحياة العجائب المدهشات، ومهما تاق الإنسان لمعرفة عمرها فلا يقدر أن يتوصل إليه، ولا يزال عاجزا مهما بالغ في التنقيب، لذلك لجأ الكلدانيون أولا لتقدير عمرها بحسب التخمين، فقدروه بمليون سنة، ثم ظهر العالم بطبقاتها زور ولستر سنة 1950 وقال إن عمرها لا يزيد على سبعة آلاف سنة، وجاء بعده آثر فقال إن عمرها قبل المسيح بأربعة آلاف سنة أي تكون الآن قريبا من ستة آلاف سنة، فانظر إلى هذه المباينة، واعلم أن كل قول فيها مصدره الحدس وهو لا يغني عن الحق شيئا، لأن هذين القولين لا يمكن أن ينطبقا على عمر الأرض بل قد ينطبقان على نشأة آدم عليه السلام فقط، وبعد أن مضى عمر هذين العالمين وضعت على بساط البحث بين الأثريين فقدر علماؤهم أن تحسب المدة اللازمة لترسب سمك خاص من الطبقات الأرضية المنتظمة كالأرض الزراعية، إذ يترسب فيها سنويا مقدار من الغرين بقدر سمك (ميليمتر) واحد، فإذا كان سمك الطبقة مترا فمعنى ذلك أن هذه الطبقة استغرقت على الأقل ألف عام في تكوينها، وقد استخدمت هذه الطريقة في أمريكا الشمالية ولو حظ أن الترسب فيها يقرب من الترسب في أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية فقدروا عمرها على ذلك بعشرين مليونا من السنين، ثم عيب على هذه الطريقة عدم انتظام الترسب واختلاف الحبيبات والبواعث الموجبة

للترسب مما يؤدي إلى خطأ كبير في التقدير، وهو كذلك، ثم انبعثت طريقة أخرى تتوقف على تقدير الأملاح في المحيطات، إذ أن ماء المحيطات بخار كان غلافا للكرة الأرضية أيام انصهارها، فلما بردت تكاثفت تلك الأبخرة وكون ماء المحيطات ولم يكن إذ ذاك ملحا بل أتاه الملح من (الصوديوم) الذي هو مادة الملح، إذ حملته الأنهار من الأرض إلى البحر، فإذا قررت كميّة الملح التي تضاف إلى مياه المحيطات سنويا وقدرت كمية الملح الموجودة فعلا يمكن تقدير عمر الأرض، لأن انتفاء الشرط يؤذن بانتفاء المشروط، وقد تعددت الأبحاث في مختلف بقاع الأرض على طرق اتفقوا عليها فظهر أن عمرها ما بين ثمانين وتسعين مليونا، ثم اكتشف الراديوم سنة 1902 فتبين أن هذا العنصر يشع في نفسه باستمرار منتظم من غير تدافع أجزائه وتساقطها نحو المركز، وإن هذه الأجزاء تنحل وتنحول إلى جسم آخر وهو الرصاص، وباستخدام هذه الطريقة قدر عمر الأرض بألف وأربعمائة ألف سنة، ولا زالت الآراء متضاربة، ولا يزال أهلها يحاولون عبثا إدراك مبدأ الكون أي تجمد الأرض، وقال الأستاذ رضوان بن محمد رضوان عند ما تمثل بقوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) الآية 4 من سورة تبارك الملك الآتية بأن عمر الأرض لا يقل عن مائة مليون سنة، وانتقل إلى تاريخ حياة الأرض مستدلا بما كتبه الدهر على صفحات الصخور، أو في أعماق الأرض من بقايا الكائنات الجية، معترقا بأنه دون الحقيقة بالنظر للحوادث التي تعاقبت فبدلت آثارها، ولمرور مصور كثيرة من غير أن تترك أثرا على سطحها، ثم قال يعتقد الأكثرون أن الأرض كانت كتلة غازية بردت تدريجيّا فتصلّبت ثم أحاط بها نطاق من الهواء تكشف ما به من البخار، فهطلت أمطار عزيرة كونت مياه البحار والمحيطات، ثم بدأت الرياح والأمطار تعمل عملها في تغيير معالم اليابس باستمرار، فكثيرا ما ارتفعت سلاسل جبال شامخات ثم تعود الرياح فتفتتها وتفذفها في البحر، وكانت القارات أعظم اتساعا مما هي عليه الآن، إذ كانت تمتد شرقا وغربا أكثر منها شمالا وجنوبا أما الآن فقد تبدل الحال إذ أنمار المحيط على جوانبها فأنقصها. وللعلماء في أصل الأرض نظريات فقد وضع العالم الألماني سنة 1755

نظريته السديمية فقال إن الكون نشأ من كتلة لا شكل لها، وأن الفضاء كان يشغله سديم (هو تركيب في بعض الأجرام السماوية على شكل سحابة صغيرة) عظيم أي سحابة كبيرة مكون من مواد غازية مرتفعة الحرارة (راجع الآية 6 من سورة هود المارة حيث سمي هذا السديم عماء وتدبر معناه وقسه مع هذا) ثم انقشعت هذه السحابة تدريجيا بتركيز هذه الغارات بالجاذبية حول نقطة معينة أكثر كثافة من أجزاء السديم، فكانت هذه النقطة فيما بعد النجوم الحارة والشموس المختلفة وتعتبر شمسنا هذه أصغرها حجما، وقد اشتق من هذه النظرية المجملة العالم الأفرنسي لابلاس نظرية في أصل الأرض سنة 1842 فقال إن المجموعة الشمسية كانت كتلة غازية مضيئة تشغل فراغا عظيما ثم انكمشت تدريجا بسبب تشعّع حرارتها فتركت حلقات غازية انفصلت عنها الواحدة تلو الأخرى، ثم تركزت كل حلقة منها حول نقطة معيّنة أصبحت فيما بعد كوكبا من الكواكب وبذا تكونت الكواكب الثمانية السيارة التي منها الأرض والسيارات السبع وهي زحل والمشتري والمريخ وعطارد والزهرة والقمر، فكل واحدة من هؤلاء في طبقة أعلى من الأخرى على هذا الترتيب، أدناها الأرض، وأعلاها زحل، كما مر في الآية 18 من هذه السورة، قالوا وانفصل منها كذلك ما يقرب من ألف كوكب صغير، فتكون الأرض إذا بحسب هذه النظرية مثلها مثل باقي الكواكب الأخرى بدأت حياتها سحابة غازية ثم بردت وتحولت مادة سائلة فتصلّبت قشرتها الخارجية، وأنها تزداد برودة يوما فيوما وتزداد قشرتها سمكا، وقد بقيت هذه النظرية مقبولة مدة طويلة حتى أن التحقيق العلي والمشاهدات الحسية أقاما البرهان على عدم صحتها، لأن قبولها يقتضي أن تكون حرارة الكرة الأرضية في تناقص مستمر والواقع يخالف هذا إذ تبين أن أقدم أنواع الكائنات التي عاشت على سطح الأرض في الأزمان السحيقة لم تكن تتحمل حرارة أكثر مما تتحمله الأحياء الحالية كما أنه ثبت أن أجزاء من الكرة الأرضية كانت تغطيها الجليد. ولما ظهر بطلان نظرية (لابلاس) السديمية ظهرت نظرية (تشجرلن) المسماة الذرات الكوكبية أو الأرض الباردة، فقال أن الشمس كانت أول أمرها سديما أيضا فدنت من

نجم أكبر منها فحدث من تأثير الجاذبية بينهما أن تفككت الأجزاء الخارجية للشمس واندلعت منها ألسنة نارية حلزونية طويلة مركبة من ذرات معدنية بينها كتل حارة كبيرة، ثم انقشع السديم تدريجبا باجتماع الأجزاء الصغيرة حول الأجزاء الكبيرة بالجاذبية فكانت الكواكب ومنها الأرض، ثم ظهرت نظرية الكوكبيات (لبرل) وهي تشبه النظرية السابقة إلا أن الذرات استبدلت بكوكبات صغيرة لا يزيد قطر الواحدة منها على 485 ميلا، فهذه الكوكبيات سقطت على نواة الأرض فنشأ من الاصطدام حرارة فتكونت أرض حارة ذات قشرة منصهرة، وبعد ذلك قل الاصطدام وبدأت الأرض تبرد بالتدريج. ثم اعلم أن كثيرا من العلماء ينسب أصل الجوّ إلى غازات حارة أغلبها بخار الماء ثم قليل من أول وثان أكسيد الكربون وحمض الكلوروديك وبعض الآزوت، أما الأكسجين فلم يكن حرا، ويرجح العلماء أن انطلاق الهواء في الجو يعود إلى عوامل بركانية، أي أن أصل الهواء عبارة عن غازات أو أبخرة لفظتها البراكين والينابيع الحارة من الأعماق البعيدة في باطن الأرض، إذ كانت مكتومة تحت ضغط جبار في المنصهرات الباطنية، فلما خفّ الضغط انطلقت هذه الغازات وملأت الجو وعليه قول القائل: فبطنها محشوة بالنار ... وقشرها قد شق بالبخار ولما كان سطح الأرض تعلوه سجف كثيفة مستديمة بدأت الأمطار تهطل بغزارة شديدة ولكنها قبل ما تصل إلى سطح الأرض تستحيل إلى بخار بسبب الحرارة الشديدة المنبعثة من سطح الأرض فينطلق إلى الجو ويكون سحبا يتراكم بعضها فوق بعض فتهطل الأمطار ثم تعود فتدخر دون أن تصل إلى الأرض وهكذا دواليك فلما بردت الأرض أمكن للأمطار أن تصل إلى سطحها ولكنها لم تمكث بل تتبخر ثانية وقد ظللت الحال كذلك زمنا وجيزا لا يزيد على بضع آلاف من السنين (ان الأزمان الجولوجية تعني ملايين السنين وتعد مليون سنة فترة قصيرة من الوجهة الجولوجية) ثم بدأ يتكون محيط هائل يطم الأرض بأجمعها وكانت مياهه عميقة وهنا بدأت الشمس تمد الأرض بالحرارة وترسل أشعتها خلال السحب

وبقيت البراكين على حالها في الثوران فتسبب عن إطلاقها المعادن المنصهرة بقوة عظيمة ومقادير هائلة أن غيرت من استواء سطح الأرض فهبطت أجزاء تجمعت فيها المياه فيما بعد وبذا تكونت أحواض المحيطات وأما الأجزاء التي لم تتراكم فوقها الحمم فكونت القارات وعلى هذا فلربما كانت الكائنات المائية هي أولى الكائنات التي ظهرت على وجه البسيطة عند ما تهيأت أسباب الحياة فنشأت في المحيطات أنواع كثيرة من الحيوانات اللافقرية البحرية وقد هاجر بعضها إلى الأنهار وتطورت مع الزمن إلى سمك المياه العذبة ولما كان الجفاف الذي كثيرا ما تتعرض له الأنهار يهدد حياتها بالخطر، لذلك قد أخذت تهيء نفسها للعيش على اليابس فكانت منها الحيوانات الضفدعية وهذه تطورت إلى أنواع أرقى حتى ظهرت الحيوانات الندية ثم خلق الله تبارك وتعالى الإنسان فاستخلفه في الأرض قال تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً الآية 30 من البقرة ج 3. فظهر مما تقدم أن كل ذلك لم يخرج عن الظن والتخمين كما ذكرنا آنفا لأن أهم الوسائل التي يستندون عليها في عمر الدنيا ومبدأ الحياة فيها هو الحفريات وهي عبارة عن العثور على بقايا حيوانات أو نباتات عاشت في الأزمنه الجولوجية القديمة التي لا توجد في الصخور وليس من الضرورة أن تكون هي البقايا الأصلية للكائنات. وعلى الطبقات المترسبة في الأرض وهي تختلف باختلاف الهواء والمكان والزمان كما علمت فلا تدل على حقيقة راهنة وأن ما يوجد من الصور والتماثيل المنقوشة على الصخر لا يمكن أن يعرف منها الزمن بصورة يثق فيها الإنسان إذ لا يوجد تاريخ قبل التوراة بإجماع أهل العلم الحديث والقديم وعليه فان النقوش وحدها وإن أثبتت وجود ناقشيها ومهارتهم فأنها لا تثبت زمانهم والعبرة في معرفة التاريخ للزمن فضلا عن أنهم قالوا لا يوجد من الكائنات الحية التي اندثرت أجسامها إلا نحو واحد بالمائة لأن جسم الحي يتحلل بتأثير الباكتريا والفطر والديدان فيزول من الوجود وإذا لم يكن محنطا لا يتجاوز محق ومحو هيكله الصلب السبعين سنة أما الأعضاء الرخوة التي لا هيكل لها فتندثر بسرعة بحسب مادة الأرض ولا يبقى لها أثر ما وأنسب الأماكن لحفظ الحفريات هي المحيطات والبحار وأصلح الرواسب هي المواد الجيرية

مطلب أقوال الأجانب في بدء الكون ونهايته وشيء من المخترعات الجديدة ونبذة في الروح:

الموجودة في البحار. هذا بعض ما يقوله أهل العلم الظاهري في نشأة الكون وأنه قد يكون له نصيب من الصحة وقد لا يكون أما العلماء الرومانيون فلا يعتقدون صحتها اعتقادا جازما لأن الأمور التي تستند إلى الدين الحق لا يطبق عليها نظريات فرضت فرضا مصدرها الظن والتقدير والوهم لأنها لا تستند على شيء حقيقي ثابت ولا على دليل قاطع ولذلك يمكن لكل أحد أن يجادل فيها وينكرها أو يحاول على عدم إثباتها، وكذلك القياس فيها منتف إذ لا يقاس على أقوال لم ترتكز على حقيقة واضحة فضلا عن أصحاب هذه الأقوال فإنك لو سألتهم عنها لا يجيبونك عن أنها صحيحة بضمير مطمئن لمضاربة كل نظرية منها الأخرى وتباينها بعضها مع بعض، وعدم إجماع قائليها على مبدأ واحد كما علمت، أما ما جاء من الإشارة إلى مبدأ لكون بالقرآن العظيم وهو قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية 70 من سورة الأنبياء الآتية وما بعدها وشبهها من الآيات الدالة على ذلك وعلى أصل الخلقة إجمالا، وما جاء في الأخبار والأحاديث الواردة عن حضرة الرسول التي ذكرنا قسما منها في الآية 6 من سورة هود المارة وأشرنا فيها إلى المواقع الأخرى منها فلا يستطيع أن ينكره إلا من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة. مطلب أقوال الأجانب في بدء الكون ونهايته وشيء من المخترعات الجديدة ونبذة في الروح: وانظر ما يقوله العلامة اسحق نيوتن الفلكي الشهير صاحب القوانين المعروف (في صدد حركات الفلك) : المؤكد أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تأتي مع محض الجاذبية لان هذه القوة تدفع الاجرام نحو الشمس فقط وعليه وجب أن توجد قوة إلهية خارقة لتديرها في مداراتها. وإلى ما يقوله اللورد (كلفن) العالم الشهير الطبيعي: (ولا بد أن يكون للأرض مبدأ وسوف يكون لها نهاية، وهناك قوة إلهية تدبر هذا الكون وهو الخالق الأوحد، هذا ولعل المخترعات الحديثة تظهر لنا غير هذا مما يسوق الناس قهرا إلى الاعتراف بالإله الواحد،

وقد بدأت قديما وستتابع إن شاء الله، فقد اخترع الترياق سنة 100 والسوائل سنة 410 ودود القز سنة 500 وطواحين الماء سنة 600 والورق سنة 700 واستخراج السكر سنة 800 وصناعة الطباعة سنة 939 وعلامات الأصوات الموسيقية سنة 1000 والمرائي من الزجاج سنة 1204 ونظارات العيون سنة 1270 والبارود والساعات الدقاقة سنة 1280 والإبر المغنطيسية سنة 1312 وآلة ضفط الهواء سنة 1340 وساعات الجيب سنة 1500 وميزان الهواء سنة 1643 وميزان السوائل سنة 1692 وغيرها كثير، وفي عصرنا هذا اخترعت السيارات والطائرات والدبابات والراديو والهاتف واللاسلكي والقنابل والصواريخ والنفاثات والذرة والأقمار الاصطناعية وللركبات الهوائية وغيرها، وما نعلم ماذا يلهم الله تعالى خلقه من المخترعات الأخرى حتى يتم مراده في قوله عز قوله (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) الآية 23 من سورة يونس المارة. أللهم إنا نسألك اللطف فيما جرت فيه المقادير والستر والعافية، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 28» تقدم تفسيره في الآية 26 المارة، وما قيل إن مسنون بمعنى مصور أو مصبوب لا قيمة له في هذا المقام، راجع الآية 26 المارة ولا يعد هذا تكرارا لأن الآية الأولى جاءت بمجرى الاخبار، وهذه مخاطب بها حضرة الرسول ليعلمه كيفية بدأ الخلق لأجله، وما نجم عن مخالفة بعض مخلوقاته لأمره والثالثة الآتية حكاية عن قول إبليس يبين فيها بماذا قابل ربه تجاه إنعامه عليه، تدبر. «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» عدلته وأتممت خلقه على ما هو في سبق علمي الأزلي «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» وهذا معنى قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) الآية 60 من آل عمران في ج 3، والنفخ في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، والمراد هنا والله أعلم تمثيل إفاضة مادية الحياة بالفعل على المادة المقابلة لها، وليس هناك نفخ حقيقية بالمعنى الذي نعرفه، وهذا الروح هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه، ولا متصل

[سورة الحجر (15) : الآيات 31 إلى 40]

به ولا منفصل عنه، وليس بجسم يحل بالبدن حلول الماء في الإناء، ولا هو عرض يحل بالقلب أو الدماغ حلول السّواد في الأسود والعلم في العالم، وقد تقدم هذا البحث مستوفيا في الآية 85 من سورة الإسراء في ج 1 «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ 29» سجود تحية لا سجود عبادة والخطاب للملائكة أو أن السجود لله تعالى يجعل آدم عليه السلام بمنزلة القبلة لهم لما ظهر فيه من أعاجيب آثار قدرة الله تعالى وحكمته، وعليه قول حسان رضي الله عنه: أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن وفي هذه الآية دليل على جواز تقدم الأمر على وقت الفعل، فيكون حد الأمر بكونه ملابسا للفعل به ليس على إطلاقه «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 30» تأكيد لعدم تخلف أحد منهم «إِلَّا إِبْلِيسَ» لأنه في الأصل لم يكن من الملائكة، ولهذا كان الاستثناء منقطعا، ومن قال إنه متصل لم يقل إنه من جنس الملائكة كما هو الشرط في تعريف الاستثناء المتصل، بل لأنه كان حين الأمر الإلهي معهم، وقد أمرهم كلهم بالسجود فسجدوا ولم يسجد هو لسابق سقائه، فاستثني منهم على طريق التغليب، لأن أصله من الجن، راجع الآية 53 من سورة الكهف الآتية، أي أنه خرج عن طاعته لأنه «أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ 31» من الملائكة الذين كان معهم حين الأمر «قال» تعالى موبخا له ومؤنبا سوء صنيعه على امتناعه «يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ 32» أخالفت أمري «قال» عليه اللعنة متقدما في حجته الواهية معتذرا عن السجود بعذره السخيف «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 33» تقدم تفسيره أي وقد خلقتني قبله من النار والنار أفضل من الطين، وهو قياس مغلوط، لأن الفاضل من فضله الله، وليس لأصل الخلقة أو أصل المخلوق دخل في التفضيل، ولو أراد الله هداه لامتثل وما عليه أن يسجد بأمر الله لآدم أو غيره، لأن القصد الامتثال لا غير. راجع مقاييس إبليس في الآية 12 من الأعراف المارة في ج 1، «قال» تعالى لإبليس بعد أن أظهر عناده وعتوه وحسده لآدم أمام الملائكة كما هو ثابت في علم الله

«فَاخْرُجْ مِنْها» أي الجنة ويستلزم الخروج منها الخروج من السماء أيضا، والخروج من زمرة الملائكة الذين كانوا يغبطونه على ما هو عليه من العبادة لله والعلوم والمعارف التي أنتجت ذلك الغلو وانبثقت عن الجهل المفرط الراسخ في قلبه، إذ ظن أن الفضل باعتبار المادة، وما درى أن يكون باعتبار التحلي بالمعارف الرّبانية، قال: فشمال والكأس فيها يمين ... ويمين لا كأس فيها شمال وما عرف أن الأدب هو المقدم الأول في الفضائل كلها ولله در القائل: كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك محموده عن النسب ولما فضح الله سريرته على ملأ من الملائكة الذين كانوا يحترمونه ويفضلونه على أنفسهم وأبان لهم قريطه، وعلموا أن عبادته ونشر علمه بينهم في مخالطته لهم رياء لنشر السمعة والصيت بينهم بقصد التعاظم عليهم أمره بالخروج من بين الطائعين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به من قبله. قال جل جلاله مبينا جزاءه الدنيوي على مخالفته هذه واحتجاجه الواهي ومقابلة عظمة ربه بما فاه به على رؤوس الأشهاد وبيّن العلّة في ذلك بقوله عزّ قوله «فَإِنَّكَ» بامتناعك هذا «رَجِيمٌ 34» طريد من الرحمة والكرامة بعيد من العطف واللطف «وأنّ عليك اللّعنة» عقوبة لك في الدنيا مني ومن خلقي مستمرة «إِلى يَوْمِ الدِّينِ 35» يوم الجزاء الذي يكون عليك فيه العذاب المهين الدائم، ولم يجعل الله حدّ ابعاده عن فيض رحمته بضرب هذا الأجل كما يفهمه البعض من معنى إلى النائية، بل جعله غاية في البعد لأنه أي يوم القيامة أبعد ما يضرب الناس المثل في كلامهم إليه من الآجال البعيدة لا أنها أي اللعنة تنقطع عنه بعد ذلك اليوم، كلّا بل تكون في الدنيا مستمرة بلا عذاب حسّي من الله والناس أجمعين، وفي الآخرة دائمة عليه أيضا مع العذاب الأكبر الباقي، ولما عرف الخبيث أن سقط في يده ولم يبق له بدّ من تلافي عصيانه لربه ولا أمل في فيض رحمته، أراد بحسب طويته النجسة أن يتمادى في الضلال والإضلال «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 36» أي كافة مخلوقاتك، لأنه عارف بالبعث بعد الموت، وأنه لا موت بعد

مطلب جهل إبليس وأن المزين في الحقيقة هو الله، وأن مبنى الأيمان على العرف وخلق الأفعال:

البعث، يقصد أن لا يموت أبدا، فينجو من العذاب الأخروي، لأنه إذا بقي يوم البعث يكون حاله حال الخلق بعد البعث لا يموتون أبدا، لأن هذه الحياة حياة موقته مهما طال أجلها وتلك حياة دائمة ما بعدها إلا الخلود في الجنة رزقنا الله إياها، أو الخلود في النار أجارنا الله منها. «قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 37» المؤخرين ولكن «إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 38» أي موت جميع الخلق السابق علمه بأنه سيموت على كفره قال تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية 88 من القصص المارة في ج 1 وإجابته تعالى له بتأخير أجله لا إكراما له ولا لميزته على غيره، بل زيادة في شقائه، ولو أراد به خيرا لوفقه لطلب العفو عن جرمه وقبول توبته، ولكن حق قوله عليه في الأزل بشقائه، ولا راد لما قدره وقضاه. ولما عرف عدم إجابة طلبه كما أراد وأنه تعالى سيميته على كفره الذي عاش عليه ويبعثه على ما مات عليه وانقطع أمله مما توخّاه، صرح بما أكنه في قلبه من الغلّ والحقد لعباد الله، مطلب جهل إبليس وأن المزين في الحقيقة هو الله، وأن مبنى الأيمان على العرف وخلق الأفعال: «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ» أي آدم وذريته ما داموا «فِي الْأَرْضِ» وقدمنا في آيات متعددة أن المزيّن في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو أقدر إبليس عليه أي أنه يزين حب الدنيا لهم مدة حياتهم وبقائهم على أرضها، وأحبذ لهم معصيتك «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ» في زخارفها وشهواتها حتى يضلوا طريقك السوي «أَجْمَعِينَ 39» بحيث لا أترك منهم أحدا إلا صددته عن الهدى، وقد حدى بالملعون سائق الانتقام فأقسم على أن يجتهد في إغواء آدم وذريته من بعده لأنه السبب الظاهري في طرده وعنائه وقد جاء القسم في الآية 82 من سورة ص بلفظ (فَبِعِزَّتِكَ) لأن الحلف على ما قاله العراقيون بصفات الذات كالعزّة والعظمة والقدرة يمين، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والسخط والعذاب ليس بيمين، وقد حلف الخبيث بكليهما، على أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف

به يكون يمينا، وما لا فلا، وهذه الآية حجة على القائلين في خلق الأفعال وأن حملهم إياها على التسبّب عدول عن الظاهر. وليعلم أن في تمكين إبليس من الإغواء ردّ على القائلين بوجوب رعاية الأصلح من المعتزلة، وردّ على زعم من قال إن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أدنى أحد منهم فقد خرج عن الفطرة البشرية، فحينئذ الذي تحكم به الفطرة هو أن الله تعالى أراد بالأنظار إضلال بعض الناس، فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقول هذا الزاعم على حد قول قائلهم: ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه في كل حال أيها الرائي ألقاه في اليم مكتوبا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء الذي رد عليه أهل السنة والجماعة بقوله: إن حفه اللطف لم يمسسه في بلل ... ولم يبال بتكتيف وإلقاء وإن يكن قدر المولى بغرفته ... فهو الغريق وإن أضحى بصحراء والسبب الذي حدى بأهل الاعتزال على هذه الأقوال هو عدم اعترافهم بأن للإنسان جزء اختياريا وهو إقدام العاصي على المعصية عن رغبة ورضى، وأن قولهم أن ما يقع منه مقدر عليه، ولكنه فيما يفعله طائعا مختارا لا يعلم أنه مقدر عليه، وأنه إنما يفعله تبعا لتقدير الله، فلو أن إبليس حينما امتنع عن السجود كان امتناعه تبعا لما هو في علم الله وقد علم ذلك وامتنع لما طرده ربه، ولكن امتناعه كان حسدا لآدم، لأنه بالسجود له يصير مفضلا عليه، وأن نفسه الخبيثة تأبى أن يفضل أحد عليه، وكذلك مقترف المعاصي لو أنه إنما يقترفها لعلمه بأن الله قدرها عليه أو أنه إنما فعلها تنفيذا لأمره لا لشيء آخر لما عذبه الله، ولكن إنما يفعل المعصية لمجرد شهوة نفسه الخبيثة، مع علمه أن الله حرّمها عليه، فلذلك يعاقب ويعذب، تدبر. وهذا الملعون غلط غلطة لا تلافي لها، إذ يجب على المحب امتثال أمر المحبوب مهما كان، أعجز الخبيث أن يكون مثل ابن الفارض الصادق في محبته إذ يقول: لو قال تيها قف على حجر الفضى ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقف

[سورة الحجر (15) : الآيات 41 إلى 50]

أو عجز أن يكون مثل أحد غواته يزيد حيث قال: قال خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد هذا ومن وقف على معنى قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ، الآية 113 من سورة الأنعام الآتية، وقف يراعه عن البحث ولسانه عن الكلام وقلبه عن التخطر، راجع الآيتين 12- 18 من سورة يونس المارة والآية 108 من سورة هود والآية 100 من سورة يوسف المارات والآية 12 من هذه السورة وما ترشدك إليه في هذا البحث تجد ما يكفيك، علما بأن المزين في الحقيقة هو الله تعالى لمن قدر شقاءه في الأزل، وما إبليس وغيره إلا أسباب ظاهرة جعلها الله تعالى، فأعتقد بهذا أيها المؤمن لا تحد عنه. ثم استثنى الملعون من هو عاجز عن إغوائه لسابق سعادته في علم الله فقال «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 40» بفتح اللام وكسرها وتقدم معناها في الآية 26 من سورة يوسف المارة ولها صلة في الآية 4 من سورة الصافات وفي غيرهما. مطلب عهد الله لأوليائه ودرجات الجنة ودركات النار وإرضاء الله أصحاب الحقوق بالعفو والعطاء الواسع وعزل خالد: «قال» تعالى قاطعا أمله منهم «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ 41» حق علىّ مراعاته «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» فلا تصل إليهم قوتك ولا تنالهم وسوستك ولا يقدر عليهم إغواءك ولا يميلون إلى تزينك، لأن الخبيث عارف عدم تأثيره في المخلصين الذي أخلصوا لله واستخلصهم لنفسه، ولكنه توهم أن له سبيلا على غيرهم من عباده العارفين وأوليائه الكاملين، فبين له جل شأنه أن ليس له سبيل على عباده أيضا الذين هم من هذا الصنف غير الأنبياء وفي هذا العهد الجليل من الرب الجليل بشارة عظيمة لعباد الله الذين يعبدونه عبادة حقيقة خالصة لوجهه، أما من يعبده سمعة ورباء وجهلا أو لطلب حاجة أو دفع مضرة فقد استثناهم الله تعالى من هذا العهد بقوله عز قوله «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ 42» المنهمكين في الغواية اختيارا منهم المنقادين لإضلالك بطوعهم

ورضاهم، فلك عليهم سلطان لأنهم أتباعك الآن وأحباؤك، ولكنك ستتبرأ منهم في الآخرة وتوبخهم على اتباعك راجع الآية 22 من سورة إبراهيم الآتية. قال تعالى «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ 43» التابعين والمتبوعين من الناس وإبليس وجنوده ثم وصف جهنّم بأنها «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ» واحد تحت الآخر لأنها دركات كما أن أبواب الجنة الواحد فوق الآخر لأنها درجات «لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ 44» أي لكل دركة قوم أسفلها للمنافقين لقوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، الآية 145 من النساء في ج 3 والتي فوقها للمشركين مع الله إلها آخر والتي فوقها للمجوس عابدي النار، والتي فوقها للصابئين لأنهم منهم، والتي فوقها لكفرة اليهود، والتي فوقها لكفرة النصارى والسابعة لعصاة الأمة المحمدية وهي الطبقة الأولى أجارنا الله منها، وبين كل طبقة ما لا يعلمه إلا الله، وكذلك ما بين درجات الجنة. ثم بين الله تعالى للمتقين عنده المؤمنين به، فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الشرك والنفاق وعبادة الأوثان المتباعدين عن الكفر والمعاصي يكونون في الآخرة الباقية دائمة النعيم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 45» ماء عذبة غير أنهار الجنة، لأن الله يتفضّل عليهم بأشياء خاصة، لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد وأن ذلك يكون لهم بحسب مراتبهم، ويقال لهم يوم الجزاء «ادْخُلُوها» أي الجنان المذكورة «بِسَلامٍ» من الآفات والمنغصات مسلمين بعضكم على بعض، والملائكة تسلم عليكم أيضا «آمِنِينَ 46» من الخروج منها ومن كل منغص أو مكدر للصفاء، لأنها دائمة لا موت فيها ولا فناء لها. ثم وصف الله طهارتهم بقوله «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» كان بينهم في الدنيا وما هو بمعناه من حقد وحسد من أثر عداوة أو شحناء أو تطاول، فتنقي قلوبهم من كل ما يؤدي إلى البغضاء قبل دخول الجنة، لأن الله تعالى يحاسبهم عليها ويسترضي بعضهم مع بعض بعطائه الواسع وفضله العميم حتى تطيب أنفسهم، بعضهم على بعض فيكونون بالجنّة «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ 48» بوجوههم ينظر بعضهم إلى بعض، لان النظر إلى القفا أو إلى الجانب ممن يخاطب جفاء واستهتارا به، وهم هنا منزهون عنها مطهرة قلوبهم من التحاسد على

علو الدرجات بحيث يوقع الله تعالى الرضاء في قلب كل منهم على ما هو فيه من المنزلة، بحيث يرى نفسه راضية مطمئنة فيها فرحة مسرورة. وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي بسبب ما كان بينهم في الجاهلية من الضغائن فغير سديد، لأن الإسلام طهرهم فلم يبق في قلوبهم شيئا، على أن عليا كرم الله وجهه أسلم صغيرا ولم تستول عليه خصلة من خصال الجاهلية، مما يدل على عدم الوثوق بنزولها فيهم، وهم رضي الله عنهم أولى بمن ينزل فيهم القرآن ويشملهم مضمون آياته كهذه وغيرها من كل ما فيها خير، إلا أن الآية عامة في كل مؤمن ومؤمنة، وفيها ردّ على من بهت سيدنا عمر رضي الله عنه بأنه عزل السيد خالد ابن الوليد رضي الله عنه بسائق العداوة التي كانت بينهما حال الصغر، وهي أن خالدا رمى عمر على الأرض أو أنه خاف منه على الملك أن يتولاه هو فعزله عن أمارة الجيش في فتح الشام، وحاشا عمر من ذلك، على أن حادثة رميه كانت في الجاهلية فمحاها الإسلام إن كان لها من صحة، وحادثة عزله عن الإمارة ما هو إلا ليعلم الناس أن النصر من الله تعالى يجريه على يد من شاء من عباده لا على يد خالد فقط، لأن الناس صاروا يتقولون فتح خالد وفعل خالد ولولا خالد لما كان كذا، فأراد أن يريهم خلاف ما وقر في صدورهم، فضلا عن أن عزله كان طبقا لمراد الله لأن فتح الشام كان مقدرا على عبيدة بن الجراح وكان ذلك فيكون عمله هذا كرامة له من الله تعالى إذ توسم ذلك فيه، وقال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) الآية 75 الآتية ولو كان في عزله شيء مما ذكره هؤلاء المعزولون عن رحمة الله لما بقي في الجيش ورضي أن يكون من جملة جنوده حتى ثم الفتح على يده، فتح الله له أبواب الجنة. قال تعالى في وصفهم أيضا «لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ» ولا تعب ولا إعياء كما في جنات الدنيا التي لا تخلو من ذلك، وأن لكل مؤمن جنّة لا يعادلها جنان الدنيا، لأن أقل حظ أقل رجل من أهل الجنة أكثر من ملك أكبر ملك من ملوك الدنيا «وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ 48» أبدا وهذا النص قاطع بالخلود في الجنة، ثم صدع جل شأنه بالبشارة العظيمة بقوله «نَبِّئْ عِبادِي» يا سيد الرسل «أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ»

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 إلى 60]

لمن عصاني فندم وأناب إلي، فإن مغفرتي الكبيرة تسع ذنوبه مهما كانت وأنا «الرَّحِيمُ 49» بمن أطاعني وتوكل علي، فإن رحمتي تغمره وإن عظمتي تستصغر خطاياه مهما كانت «وَأَنَّ عَذابِي» لمن كفر بي وجحد نعمتي ولم يرجع إليّ «هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ 50» الذي لا تطيقه قوى المعذبين. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله سبحانه وتعالى خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأدخل في خلقه كلهم رحمة واحدة. فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم بيأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن النار، ولم يقل جل شأنه أنا المعذب كما قال أنا الغفور ترجيحا لجانب الوعد على الوعيد، وذلك من عظيم فضله. ويقوي هذا الترجيح الإتيان بالوصفين الكريمين بصيغة المبالغة، وما أخرجه ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون، ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر، رجع إلينا القهقرى فقال: إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي اني أنا الغفور الرحيم. وتقديم الوعد يؤيد ذلك، وفيه إشارة إلى الحديث القدسي الذي فيه (سبقت رحمتي غضبي) وقدمنا في الآية 20 من سورة يوسف ما يتعلق بهذا وفيها ما يرشدك لمراجعة المواقع التي فيها هذا البحث فراجعها. مطلب بشارة إبراهيم وقصة قوم لوط: قال تعالى «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ 51» الضيف الميل مأخوذ من مال إليك لينزل بك، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر ويجمع على ضيوف وأضياف، وهؤلاء هم الملائكة المار ذكرهم في الآية 69 من سورة هود المارة، وقد ألمعنا إلى إقراء الضيف وآداب الضيافة فيها أيضا فراجعها «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً» عليك يا إبراهيم «قالَ» بعد أن رد عليهم السلام وقدم لهم الطعام كما مر في سورة هود المارة أيضا ورآهم لا يأكلون «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ 52» خائفون لأن أكل الضيف طعام المضيف دليل على الأمان، والامتناع

[سورة الحجر (15) : الآيات 61 إلى 70]

منه علامة على أنهم أعداء وهي عادة مطّردة حتى الآن عند عرب البادية، ولديهم عادة أخرى وهي أنهم إذا جاءوا بحاجة لا يأكلون قبل قضائها أو أن يتعهد لهم يخلافها، وثالثة وهي أن المضيف عند ما يقدم الطعام يأكل منه قبل الضيوف لقيمات ثم يقوم ويأمرهم بالأكل حتى لا يظن أن في الأكل شيئا ضارا ولمعرفة نضجه ولذته «قالُوا لا تَوْجَلْ» من شيء ولا تخف بل افرح وطب نفسا «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ 53 كثير العلم يأتيك من زوجتك العقيم سارة على ما هي عليه من الكبر واسمه إسحاق «قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ» والهرم «فَبِمَ تُبَشِّرُونَ 54» بعد هذه الشيخوخة، على طريق الاستفهام التعجي، أي أن بشارتكم لي على ما أنا عليه وزوجتي من الحال أعجوبة «قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ» الصدق الواضح لأنه من أمر الله ولا عجب فيه «فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ 55» لأن ذلك من قضاء الله وهو يقين فلا تيأس «قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ 56» عن طريق الهدى، وإلا لا أحد يقنط منها البتة لأن الكل محتاجون إليها. هذا وانه عليه السلام لم يستبعد ذلك بالنسبة لعظيم قدرة الله، وإنما استبعده بالنسبة لواقع، لأن مثله ومثلها لا يتصور أن يولد لهما، وأن العقم وحده كاف للاستبعاد فكيف إذا ضم إليه الكبر؟ ثم لما عرفهم أنهم ملائكة «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ 57» غير بشارتي هذه «قالُوا» إن الخطب الذي جئنا به هو «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ 58» لنهلكهم بجرمهم القبيح ولذلك عبر بالخطب لعظمته ثم استثنى فقال «إِلَّا آلَ لُوطٍ» أهله وشيعته وأتباعه المؤمنين «إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ 59» من الإهلاك ثم استثنى من أهله الناجين ما يتصور دخوله فيهم فقال «إِلَّا امْرَأَتَهُ» فهي هالكة معهم لأنا «قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ 60» الباقين في العذاب معهم في علمنا الأزلي، هذا وقد أسندوا الفعل لأنفسهم مع أنه لله تعالى لاختصاصهم به وقربهم منه كما تقول خاصة الملك أمرنا وقضينا وفعلنا مع أنه بأمر الملك، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ 61 قال» لهم لوط حينما دخلوا عليه «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ 62» لا أعرفكم إذ جاءوا بزي شباب حسان وكان مثلهم

[سورة الحجر (15) : الآيات 71 إلى 80]

يتحاشى عن المجيء إلى قريته لما شاع عنهم أنهم يفعلون المنكر فيمن يأتي إليهم وكان دخولهم بيت لوط دون استئذان فلهذا أنكر مجيئهم وخاف عليهم من شناعة قومه «قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ 63» يشكون به من العذاب الذي كنت تهددهم به فيكذبوك لنرقعه فيهم، أما نحن فلا تخف علينا منهم فإنا جئناهم لهذه الغاية «وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ» اليقين الذي لا مرية فيه «وَإِنَّا لَصادِقُونَ 64» فيما أخبرناك به من أن إرسالنا لإنزال العذاب عليهم، أما أنت «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ» سر خلفهم على أثرهم لئلا يفلت منهم أحد «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ» يا آل لوط «أَحَدٌ» فيصيبه بعض ما ينزل عليهم من العذاب، قالوا إنما نهاهم لئلا ترق قلوبهم على المعذبين حين ينزل بهم العذاب فيرتاعون لمشاهدته ويدهشون لشدة هوله «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ 65» وقد أمرهم جبريل بالذهاب إلى قربة لم تعمل عمل قومه «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ» أوحينا إلى لوط «ذلِكَ الْأَمْرَ» الذي هو «أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ 66» أبهم جل شأنه هذا الأمر ثم فسره تفخيما له وتعظيما لشأنه ثم طفق جل جلاله يقص حال قوم لوط مع ضيوفه وما وقع منهم فقال عز قوله «وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ 67» يبشر بعضهم بعضا بضيوف لوط الحسان وأتوا مهرولين إلى بيته طمعا بالنيل منهم فاستقبلهم عليه السلام «قالَ» لهم يا قوم اتقوا الله «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ 68» بالتعدي عليهم «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ 69» فيهم ويظهر الأمر لأهالي القرى الأخرى فيصيبكم الخزي والعار لأن الضيف في حمى المضيف «قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ» بأن لا تضيف أحدا منهم ولا تقبل غريبا في بيتك ولا تكلمنا فيما نريد أن نفعل بالناس، وقد علموا ذلك إذ شاع أمرنا بأن نفعل فيمن يقدم على قرانا مهما كان له من مكانة بقصد قطع أملهم من الدخول فيها «قالَ» يا قوم إذا كنتم لا تسمعون قولي ولا تجيبون دعوتي وأصررتم على اخزائي في ضيفي فاتركوهم و «هؤُلاءِ بَناتِي» اللاتي كنتم تريدون الزواج بهن ولم أفعل، فإني أزوجهن لكم الآن «إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ 71» ما تريدونه بأضيافي وقد تقدمت القصة مفصلة في الآية 78 من سورة هود المارة، وقال عليه

مطلب في كلمة عمرك والفراسة والفأل وتعبير الرؤيا:

السلام (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) على طريق الشك في قبولهم، فكأنه قال إن فعلتم ما أقوله لكم وأظنكم فاعلين، فلم يقبلوا منه وتزاحموا على الباب، فلما رأت الملائكة أن قومه ضايقوه قالوا له إنا رسل ربك، وأنزل فيهم العذاب كما مر في القصة هناك وفي الآية 84 من سورة الأعراف المارة في ج 1. مطلب في كلمة عمرك والفراسة والفأل وتعبير الرؤيا: قال تعالى «لَعَمْرُكَ» وحياتك يا حبيبي «إِنَّهُمْ» كفار قومك «لَفِي سَكْرَتِهِمْ» وغفلتهم هذه وغوايتهم وبغيهم «يَعْمَهُونَ 72» يترددون بالحيرة ويتحيرون في النيه ويخورون في الضلال، لا يسمعون قولك ولا يقبلون نصحك، وكيف يقبلونه وقد اعتراهم ما أزال عقولهم، لأن العمه عمى القلب، لهذا لم يميزوا بين الخطأ والصواب. وقد جاءت هذه الآية معترضة بين قصة لوط عليه السلام، وقيل إن الضمائر فيها لأهل المدينة من قوم لوط فلا تكون اعتراضية، والخطاب في لعمرك من الملائكة إلى لوط، ولكن أكثر المفسرين على الأول بطريق الالتفات والسياق، والسياق يؤيد الثاني والله أعلم. وما قيل إن عمرك بمعنى دينك مستدلا بقول القائل: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان فالثريا شامية ما استهلت ... وسهيل إذا استهل يمان لا يستقيم هنا وجاز إضافة عمرو إليه تعالى لقوله: إذا رضيت عليّ بنو تشير ... لعمرو الله أعجبني رضاها وقول الأعشى: ولعمرو من جعل الشهور علامة ... منها يبين نقصها وكمالها فمن زعم عدم جوازه لأن الله ازلي أبدي توهم أنه لا يضاف إلا فيما له انقطاع وليس كذلك. وكلمة عمرو هذه إذا أضيفت إلى الضمير تكتب بلا واو كعمرو في حالة النصب للفرق بينها وبين عمر، قال تعالى «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ 73» عند بزوغ الشمس «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ» على أهل قرى لوط، والضميران الأولان عائدان على القرى نفسها لأنها هي التي جعل أسفلها

أعلاها وهم الذين ألقى عليهم «حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ 74» طين متحجر مرّ تفسيره في القصة المذكورة في سورة هود «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإهلاك الفظيع «لَآياتٍ» عظيمة وعبرة جليلة وعظة كبيرة «لِلْمُتَوَسِّمِينَ 75» أي المتفرسين الذين يعرفون بواطن الأشياء بسمة ظواهرها. والفراسة على نوعين: نوع بوقعه الله تبارك وتعالى في قلوب أوليائه فيعلمون به من أحوال الناس ما خفي على غيرهم بإلهام من الله تعالى، وهو من باب الكرامة التي خص بها بعض أوليائه، وهي شبيهة بالمعجزة عدا دعوى التحدي الذي هو من خصائص الأنبياء ولا يجوز لأحد القول به. أخرج البغوي في حديث غريب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. والفراسة بكسر الفاء، تقول توسمت في فلان كذا، أي عرفت وسم ذلك فيه. والثاني من إصابة الحدس والظن والتثبت وقوة التفكير والتأمل وما يحصل بدلائل التجارب والنظر في الخلق والخلق والأخلاق مما يعرف به أحوال الناس، فهو من باب الحذق والفطانة فيكون هذا النوع لكل من يتصف بما ذكر، ولذلك قالوا التوسم هو النظر من اقدم إلى الفرق واستقصاء وجوه التعريف، قال الشاعر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسم ويقال إني توسمت بفلان خيرا وعليه قول ابن رواحة في حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم: إني توسمت فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أني ثابت البصر ومن هذا القبيل الفال الذي يشتغل به بعض الناس من رجال ونساء لأنه من قبيل التوسم في أحوال الناس والأخذ مما يسألونهم عنه، ومن هذا القبيل تعبير الرؤيا، فإنها تحتاج للفطنة والحذق ومعرفة القياس، راجع ما بيناه في الآية 5 من يوسف المارة، ومن هذا السحر الذي ألمعنا إليه في الآية 52 من الشعراء المارة في ج 1، ومنه أيضا الإصابة بالعين التي ألمعنا إليها آخر سورة المزمل في ج 1 وفي الآية 66 من سورة يوسف المارة أيضا. قال تعالى «وَإِنَّها» القرى المهلكة وهي سدوم وعاموراء ودومة وساعوراء وصفرة وهي التي رحل إليها، لأن أهلها لا يعملون عمل القرى الأربع المذكورة التي وقع فيها الهلاك وتسمى في التوراة

[سورة الحجر (15) : الآيات 81 إلى 90]

(صوغره، وبالع، وعمودة، وأدمة وجويم) كما هو في الاصحاح 14 من التكوين وجاء في الاصحاح 13 أنه ترك هذه المدينة خوفا من نزول العذاب فيها وصعد هو وبناته إلى الجبل وسكنوا في مغارة فيه، وفيه أن هذه المدينة لم تقلب، ويطلق على هذه القرى المؤتفكات أي المنقلبات «لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ 76» أي واقعة على طريق واضح لم يندرس بعد أثرها يراها الذاهب إلى الشام والآتي منها إلى الحجاز «إِنَّ فِي ذلِكَ» الأثر الباقي لهؤلاء الطغاة «لَآيَةً» عظيمة «لِلْمُؤْمِنِينَ 77» المصدقين بما ذكرنا لأنهم المنتفعون بالآيات المتعظون بالعبر «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الغيضة وهي الأشجار الملتفة كالغابة وتسمى حرشا، وفي لغة أهالي دير الزور (زور) ولهذا تسمى البلدة دير الزور لأنها كانت محاطة بالغابات، وهؤلاء قوم شعيب عليه السلام «لَظالِمِينَ 78» جاحدين نعم الله لا يشكرونه على ما خصهم به من الأشجار المحيطة ببلدتهم فضلا عن النعم الأخرى من أموال وأولاد «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» لتكذيبهم إياه، راجع قصتهم في الآية 84 من سورة هود المارة. «وَإِنَّهُما» أي أهل الأيكة وأهل مدين لأنه عليه السلام أرسل إليها ولم يرسل نبي إلى قومين قبله مرة بعد أخرى، وإن هاتين المدينتين باق أثرهما مثل قرى قوم لوط «لَبِإِمامٍ مُبِينٍ 79» ظاهر على طريق مستقيم، وسمي الطريق إماما لأن المارة تسلكه فكأنها تتبعه كالإمام الذي يتبعه الناس «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ 80» صالحا فمن قبله لأن الحجر كانت تسكنه ثمود قوم صالح «وَآتَيْناهُمْ آياتِنا» التي من جملتها الناقة «فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ 81 لا يلتفتون إليها «وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ 82» من خوف خرابها لقوتها، فكذبوه أيضا وعقروا الناقة «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ 83» مع الصباح حال غفلتهم «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 84» من الأموال والأملاك من الله شيئا لإصرارهم على الكفر، وإن قراهم موجودة الآن آثارها ظاهرة للعيان بين المدينة والشام. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا

باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي. وتقدمت القصة أيضا في الآية 62 فما بعدها من سورة هود المارة، قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما» من المخلوقات الأخرى من نام وجامد «إِلَّا بِالْحَقِّ» لا عبثا ولا باطلا ولا لهوا بل للاعتبار والتفكر ليصدق المؤمن ويجحد الكافر، فيثاب الأول ويعذب الثاني يوم الجزاء المعين لإبادتها «وَإِنَّ السَّاعَةَ» التي يكون فيها خرابها «لَآتِيَةٌ» حقا لا محالة، فيا أكرم الرسل تحمل أذى قومك في هذه الدنيا الفانية، ولا تستعجل عذابهم فهو آتيهم حتما، وإن كل ما يلبثون فيها فهو قليل «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ 85» أي أعرض عنهم مع الحلم عليهم والصبر على أذاهم والإغضاء مع العفو عن مساوئهم معك، وما ذكره بعض المفسرين بأن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له، لأنها عبارة عن أن الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلم بأن يعامل قومه بالعفو والصفح الخاليين من الجزع والخوف وأن يظهر لهم مكارم أخلاقه الحسنة، وهذه المعاملات اللينة تكون مقدمة للمعاملات القسرية عادة عند اصرار المفترح لهم على كفرهم فأي نسخ فيها رعاك الله، راجع معنى الجميل في في الآية 85 من سورة يوسف المارة «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ 86» بك وبهم فلا يخفى عليه ما يجري بينك وبينهم، لأنه خلق الخلق وعلم ما هم عليه وما هم فاعلون إلى يوم القيامة، قال تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) الآية 14 من سورة الملك الآتية، وهذه الآية المدنية من هذه السورة، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْناكَ» يا سيد الرسل «سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي» قبل هي الحواميم السبع، وقيل الصحف السبعة التي أنزلت على الأنبياء قبله، وقيل الأمر والنهي والبشارة والنذارة والأمثال والأخبار وتعداد النعم، والذي عليه أكثر المفسرين هو آيات سورة الفاتحة السبع كما أشرنا إليه في تفسيرها في ج 1 «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ 87» المشتمل عليها بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين هي السبع الثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيه، وبه قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعطاء، وناهيك بهم قدوة. هذا وإن السبب في تسميتها سبعا لأنها سبع

آيات، وتسميتها بالمثاني لأنها تثنى أي تكرر في كل ركعة من الصلاة، وسميت قرآنا لإطلاق القرآن على بعض السورة فضلا عن السورة الكاملة، قال تعالى (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) الآية من أول سورة يوسف المارة أي هذه السورة، وقال تعالى أول هذه السورة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) ولم ينزل القرآن كلّه فقد عبّر بالآية الأولى بالسورة عن القرآن، وفي الثانية بالآيات عنه بما يدل على جواز تسمية السورة والآية قرآنا، وما قاله البعض بأن المراد من السبع الفاتحة ومن المثاني القرآن أو أن المراد بالسبع السور السبع الطوال البقرة فما بعدها حتى براءة باعتبارها مع الأنفال سورة واحدة لعدم ذكر التسمية بينهما، أو أن المراد بها القرآن كله أقوال ضعيفة لا يعتمد عليها، والسبب في تسميتها بالمثاني لما ذكرنا ولأنها تكرر في الأدعية أيضا، وما قيل لأنها نزلت مرتين قيل لا قيمة له، وقد مرّ تنيده في تفسيرها في ج 1، والعطف من عطف الكل على الجزء إذا أريد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين، وأريد بالسبع المثاني الفاتحة فقط أو من عطف العام على الخاص إذا أريد به المعنى المشترك بين الكل والبعض، وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه، وإن أريد بها الإشباع فهو من عطف أحد الموضعين على الآخر، قال ابن الجوزي: وسبب نزول هذه الآية أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع البرّ والطيب والجواهر، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فنزلت. أي الله أعطاكم سبع آيات خير من هذه القوافل السبع. ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ولا تطمح بصرك أيها الإنسان الكامل «إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ» أي هذا الذي هو من حطام الدنيا الزائل أصنافا «أَزْواجاً مِنْهُمْ» من أولئك الذين جاء منهم تلك القوافل، وقد فرحوا بها حتى تماها بعض قومك فتتمنى شيئا منه أو مما أوتوا من غيرها من الأموال والأولاد والأملاك لأنك أوتيت النعمة الكبرى التي هي فوق كل نعمة، فاستغن بما أوتيت عما أوتوه فكل شيء دونه، وهذا وإن كان خطابا لحضرة الرسول فإن المراد به قومه الذين تمنوا ذلك، لأنه عليه السلام أبعد عن أن يمد بصره إلى الدنيا

وما فيها لذاتها استحسانا لها وقد يلتفت إليها بالنسبة لكفرهم بالله مع كثرة انعامه عليهم، وقد تأول سفيان بن عيينة قوله صلّى الله عليه وسلم من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا، أو ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن، فقال أي لم يستغن به عن غيره من كل ما في الدنيا، هذا من ضعف سبب النزول المذكور أعلا واحتج بأن السورة كلها مكية، وهذه الحادثة وقعت بالمدينة والحال أن هذه الآية مستثناة منها، وقد نزلت بالمدينة كما أشرنا إليه أول السورة، ويضاهي أول هذه الآية الآية 132 من سورة طه المارة في ج 1 «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» على كفار قومك لتأخرهم عن قبول هداك أو لعدم شكرهم نعم الله، فقد وقع من اتباع الرسل قبلك ما هو مثله وأكثر. روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تغبطنّ فاجرا نعمته فإنك لا تدري ما هو لاقيه بعد موته إن له قاتلا لا يموت، قيل عند الله وما هو قال النار. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه. ولمسلم أنظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزوروا نعمة الله عليكم، وجل هذا في المال الذي لا يجمع إلا بخمس خصال: التعب في كسبه، والشغل عن الآخرة في إصلاحه، والخوف من سلبه، واحتمال اسم البخل دون مفارقته، ومقاطعة الإخوان بسببه وهو مفارقه لا محالة، قال تعالى «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ 88» ألن جانبك لهم وأرفق بهم، ولا تعنّفهم على كل شيء، ومن جملته تمنّيهم ذلك وإطماح بصرهم إليه، لأنه من طبع محبي الدنيا «وَقُلْ» لهم يا رسولي «إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ» لكم من عذاب الله «الْمُبِينُ 89» لكم وقوعه إذا لم تؤمنوا بالله إيمانا خالصا، والموضح لكم كل ما تحتاجونه من أمر دينكم ودنياكم «كَما أَنْزَلْنا» أي أنذركم من نزول عذاب عظيم كالعذاب الذي أنزلناه «عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ 90» الذين آمنوا ببعض ما أنزل عليهم وكفروا ببعضه، قال تعالى (فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الآية 85 من البقرة ومثلها الآية 149 من النساء في ج 3، أي أنهم يؤمنون بقسم من القرآن مما يوافق ما عندهم ويكفرون بما يخالفه.

مطلب معنى المقتسمين ومواقف القيامة وأعلال العبارة:

مطلب معنى المقتسمين ومواقف القيامة وأعلال العبارة: وهذا القول أولى من القول إن هذه نزلت بحق الذين اقتسموا القرآن من الكفرة بقولهم سورة كذا لك وسورة كذا لي وهلم جرا على طريق الاستهزاء والسخرية، وأوفق من القول بأن هذا الاقتسام عبارة عن قول الكفرة سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين، وأنسب من القول بأنها في حق الكفار الذين اقتسموا عقاب مكة أي طرقها ووقفوا عليها ليخبروا المارة بأن محمدا كاهن ساحر أو شاعر متعلم وغير ذلك، ومما يؤيد الاول قوله تعالى «الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ 91» جمع عضضة تقول عضت الشيء إذا فرقته، وقيل جمع عضة وهي الكذب والبهتان والسحر أي جعلوه فرقا واجزاء، روى البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال هم اليهود والنصارى جزّءوه أجزاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، قال تعالى «فَوَ رَبِّكَ» يا حبيبي «لَنَسْئَلَنَّهُمْ» أي هؤلاء المتجاسرين على الكفر بالقرآن الذين يصدقون ببعضه ويكفرون ببعضه «أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 93» في هذه الدنيا من هذا وغيره من جميع ما يقولونه فيك وفيّ وفي القرآن، كما أنا نسألهم عما كانوا يقولون في الكتب الأخرى، قال ابن عباس لا يقول الله لهم هل عملتم هذا لانه أعلم به منهم بل يقول لهم لم عملتم، وقد قدمنا أن القيامة أحوالا ومواقف مختلفة متباينة منها ما يسأل فيها ويجاوب، ومنها ما يحاجج، ومنها ما لا سؤال ولا جواب، ومنها سؤال بلا جواب، ومنها سكوت مطلق، ومنها ما يصار فيها إلى الاستنطاق من اللسان، ومنها من الأعضاء، ومنها ومنها، أجارنا الله منها، راجع الآية 54 من سورة يونس المارة والآية 82 من سورة النحل في ج 1، قال تعالى «فَاصْدَعْ» الصدع الشق والفصل قال ابن السكّيت لجرير: هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم ... بالحق يصدع ما في قوله حيف وعليه يكون المعنى فرق يا أكرم الرسل بين الحق والباطل ويأتي بمعنى انفطر وانفلق وظهر أي اجهر واظهر وامض «بِما تُؤْمَرُ» به من تبليغ دعوة ربك إلى خلقه وأعلن رسالتك إليهم «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 94» لا تلتفت إليهم ولا تبال بلومهم، يحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرأ هذه الآية فسجد،

فقيل له في ذلك فقال سجدت لبلاغتها. وكان صلّى الله عليه وسلم يعبد ربه وأصحابه المؤمنين خفية تحاشيا من أذى المشركين، فلما نزلت هذه الآية خرج هو وأصحابه وأعلنوا عبادة الله، ذكره عبد الله بن عبيدة وعبد الله بن مسعود، وكان هذا بعد إسلام عمر رضي الله عنه الكائن في السنة السادسة من البعثة بأربع سنين تقريبا، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فليس بشيء، والمعول عليه أنها محكمة لأنها لا تتضمن الإقرار على ما هم عليه أو السكوت بل طلب الإعراض فقط إلى أن يأتي اليوم الذي قدر في أزل الله لقتالهم، وإذا تتبعنا أقوال هكذا بالنسخ نجد أن آية السيف وغيرها نسخت مائتي آية من القرآن العظيم، كما ذكره السيد محمد بن أحمد الجزّي بمقدمة تفسيره، ولكنها أقوال مجرّدة لا يعبأ بها تناقلها أناس عن آخرين دون مستند يطمئن إليه الضمير إذ لم يتكلم أحد في بحث النسخ زمن الرسول ولم يتطرق أحد لتفسير القرآن زمن الخلفاء الأربعة ولذلك وقع ما وقع من مثل هذه الأقوال التي مصدرها قبل وقال، قال تعالى «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ 95» فلا تخف أحدا منهم، ومن كان الله كافيه لا يخشى أحدا، نزلت هذه الآية في خمسة من كفار قريش، وهم المبالغون في إيذاء حضرة الرسول فأهلكهم الله جميعا وكفاه شرهم، وهم الوليد بن المغيرة المخزومي مرّ بنبال فعلقت شظية من النبل بإزاره فمنعه الكبرياء أن يطأطئ رأسه فينزعها، فصارت تضرب ساقه فخدسته فمرض فمات، والعاص بن وائل دخلت في أخمصه شوكة فقال لدغت وانفخت رجله فمات، والأسود ابن عبد المطلب عمي بدعوة الرسول عليه، والأسود بن عبد يغوث أصابه خبال فصار يضرب رأسه بالشجر ووجهه بالشّوك حتى مات، والحارث بن قيس صار يتمخط قيحا ولم يزل حتى مات، وهؤلاء الخمسة الذين تفانوا في الاستهزاء والسخرية، وقد أهلكهم الله في الدنيا هم «الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 96» عاقبة أمرهم الوخيمة، وفيها تهديد عظيم لشؤم حالهم في الآخرة على كفرهم واستهزائهم بأفظع ممّا جوزوا عليه في الدنيا. قال تعالى «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ 97» من الفحش فيك وفي ربك

وكتابك مما تأباه الجبلة البشرية، فلا تلق لهم بالا وأعرض عنهم واشتغل بما يفرج انقباضك ويشرح صدرك من عبادة ربك المطلوب فعلها دائما من عباده، قال تعالى (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) آخر سورة الإنشراح في ج 1، «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» أيها الرسول واستمر على تمجيده وذكره وتنزيهه وأفزع إليه فيما ينوبك بأسباب التقرب إليه «وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ 98» المتواضعين المخبتين له أي كن من المصلين المداومين على الصلاة وعبر بالجزء الذي هو السجود عن الكل الذي هو الصلاة وهو من محسنات البديع، كما عبر بالكل عن الجزء في قوله تعالى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي رءوسها كما سيأتي في الآية 18 من سورة البقرة في ج 3، وذلك لأن الصلاة تنور الباطن فيشرق القلب وينكشف له المغيبات وينفسح الصدر فيزول ما فيه من هم وغم وكدر، وهذا تعليم من الله تعالى لعباده بأن كل من أصابه حزن أو جزع من أمر ما أن يسرع للتسبيح والصلاة، وهكذا كانت عادته صلّى الله عليه وسلم وهذا الأمر بهما من الله له مع أنه لا يفتر عنهما لاستدامة استمراره عليهما وليعلم بهما أمته. هذا وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة «وَاعْبُدْ رَبَّكَ» وأدم عبادته لا تتركها بحال من الأحوال «حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99» الذي لا شك فيه وهو الموت، وهذه على حدّ قوله تعالى (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) الآية 32 من سورة مريم المارة في ج 1، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة ولا مثلها في عدد الآي وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم ما لا يخفى من اللطف به عليه السلام والإشعار بعلة الحكم أي وهي الأمور المذكورة ضيق الصدر والتسبيح والتحميد والسجود والعبادة والموت. هذا والله أعلم، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الأنعام عدد 5 - 55 - 6

تفسير سورة الأنعام عدد 5- 55- 6 نزلت بمكة بعد الحجر عدا الآيات 2/ 32 و 92/ 93 و 114/ 141 و 151/ 152 و 153 فإنها نزلت بالمدينة وهي مئة وخمس وستون آية، وثلاثة آلاف وخمسون كلمة، واثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا، وتقدمت السور المبدوءة بما بدئت فيه في سورة الفاتحة في ج 1، ولا يوجد مثلها في عدد الآي. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ابتدأ جل شأنه الخلق بالحمد في هذه الآية، وختمه بالحمد، في قوله جل قوله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آخر سورة الزمر الآتية، وبدأ الربع الأول بحسب ترتيب القرآن الموافق لما هو في علم الله بالحمد في سورة الفاتحة، التي ذكرنا فيها معاني الحمد وما يتعلق فيه في ج 1، وفي المقدمة في بحث الحمد أيضا ما به كفاية عن الإعادة في موضع آخر، وبدأ ربعه الثاني في هذه السورة، وربعه الثالث بالحمد في سورة الكهف، وربعه الرابع بالحمد في سورة فاطر، كل ذلك لتعظيم الحمد لديه تعالى ولحث عباده على المداومة عليه لما فيه من الفضل الجزيل والثواب الكثير وحق التأدية لنعم الله تعالى، وبين لهم كيفيته ليحمدوه بها، وجملة الحمد هنا وفي كل موضع خبرية لفظا إنشائية معنى، إلى أن من يقول الحمد لله كأنما قال أحمده على الدوام والاستمرار، وخص السموات والأرض لأنهما من أعظم مخلوقاته فيما يراه الناس، وإلا فالعرش والكرسي أعظم بكثير، وقد جاء في الخبر أن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة ملقاة بفلاة، وال فيها للجنس فتشمل جميع أفرادها، وإذا كانت للعهد فالمعهود كلاهما أيضا، وإذا أريد الاستغراق فكذلك فهي صالحة للجميع. قال تعالى «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» فيها إذ خلقها بعد خلقها، وجعل فيهما منافع جمة للعباد والحيوان والجماد، ومنهما جعل الليل والنهار، وفي هذه الآية رد على الثنوية القائلين بقدم النور والظلمة، وقد أفرد النور لإرادة الجنس فيصدق على الواحد والمتعدد، وجميع الظلمات باعتبار الإفراد يشمل ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموقع وظلمة البطن لمخالفة كل منها الأخرى، والنور لا يختلف.

مطلب نشأة الكون ومبدأ الخلق وأن لكل إنسان أجلين وما يتعلق بذلك:

مطلب نشأة الكون ومبدأ الخلق وأن لكل إنسان أجلين وما يتعلق بذلك: ومن هذا الترتيب يفهم أن خلق السموات قبل الأرض والظلمة قبل النور، إلا أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب كما هو ظاهر. قال تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وقال تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) الآية الأولى من سورة تبارك الملك الآتية، والثانية الآية 55 من المائدة في ج 3، وقدمنا ما يتعلق بنشأة الكون في الآية 27 من سورة الحجر المارة وما يتعلق بمبدأه ولبحثها صلة في الآية 30 من سورة الأنبياء الآتية «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 1» يساوون به غيره من الأوثان بعد أن علموا أنه الخالق، لذلك كله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وبعد أن جعل هذه المخلوقات لمنافعهم ذكرهم بأصول خلقهم علهم ينتهون فقال «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» ابتدأ خلق أبيكم آدم منه، أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض (أي ألوانها) منهم الأحمر ومنهم الأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك. وقد نزلت هذه الآية ردا على المشركين الذين ينكرون البعث بعد الموت يفهمهم فيها أن الذي يخلق من الطين بشرا ألا يقدر على إعادته بعد فنائه وإحيائه بعد إماتته، بلى، وهو أهون عليه، لأن الخلق الأول على غير مثال سابق والإعادة عبارة عن خلقه على حالته الأولى، فالذين يعملون الآن السيارات والطيارات والدبابات والقذائف والألغام وغيرها لا فضل لهم بها لأن الفضل كله إلى الذي ابتكر صنعها إبداعا بتعليم الله إياه، ولهذا يقول الله تعالى (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الآية 15 من سورة ق في ج 1، وإنما قال ذلك لأن الخلق الثاني عبارة عن إعادة ما خلقه أولا وليس بشيء عنده، واعلم أن ما يخلقه الإنسان هو من خلق الله، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 97 من الصافات الآتية، وإن عملهم هذا تقليد للمخترع الأول الذي ابتكر صنعها ليس إلا، لأن الشيء بعد إيجاده يسهل تقليده والعسر كل العسر في إبداعه وتصويره وإنشائه، ولا سواء بين الخالق والمخلوق، لأن المخلوق يحتاج للتعب والتفكر والتدبر وما يعتمد

عليه من آلات ومعادن واحتياجه إلى المعونة، والله تعالى يقول للشيء كن فيكون حالا إذا أراده بين الكاف والنون، أنظر بساط سليمان عليه السلام المشار إليه في الآية 12 من سورة سبأ الآتية، وسفينة نوح عليه السلام الملمع إليها في الآية 41 من سورة هود المارة وقس بينهما وبين طائراتنا ومراكبنا وخذ العبرة، فإن البساط يطير والسفينة تجري بمجرد قولهما بسم الله وينزل البساط وترسو السفينة بمجرد قولهما باسم الله أيضا دون حاجة إلى رجال وآلات وزيت وكاز وغيرها، ومصنوعات البشر تحتاج لذلك كله فضلا عن أنها معرضة للخراب وهلاك ركابها، وصنع الله لا يخرب وأهلها في مأمن من ذلك «ثُمَّ قَضى أَجَلًا» لكل شيء خلقه من وقت بروزه وتكوينه، أي وقت ولادته ووجوده ومن الولادة والوجود إلى وقت الموت والفناء «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» قضاء أيضا لهذه المخلوقات غير الأجلين المذكورين وهو من الموت والفناء إلى البعث والنشور، ومنهما إلى دخول الجنة والنار، فيكون لكل أجلان في الدنيا والآخرة لا يعلم مقدارهما ووقتهما إلا هو، لأنه من جملة الخمسة التي اختص بها نفسه المقدسة المذكورة آخر سورة لقمان الآتية، قال ابن عباس رضي عنهما في تفسير هذه الآية: لكل أحد أجلان (يريد في الدنيا والآخرة كما جرينا عليه) فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر أي في الدنيا، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص له من أجل العمر وزيد في أجل البعث، مستدلا بقوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) الآية 7 من سورة فاطر المارة في ج 1، ولهذا البحث صلة في الآية 39 من سورة الرعد في ج 3، وفي الآية 4 من سورة نوح، والآية 9 من سورة إبراهيم الآتيتين، وبهذا قال قتادة والحسن والضحاك، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأول أجل الدنيا والثاني أجل الآخرة، أي بقطع النظر عن أجل البرزخ لدخوله في أجل الآخرة، والظاهر هو ما جرينا عليه في تفسير الآية، ومعنى قضى قدر وحكم وكتب في الأزل، ويراد بالكتابة ما تعلمه الملائكة، كما جاء في حديث الصحيحين: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح

ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ 2» في آلهتنا وتشكون في وحدانيتنا، مأخوذ من المرية أو تجادلون إذا كان المراء، وقد أتى بحرف التراخي في الآيتين للاستبعاد في هذا الشك بعد أن ثبت أن الفاعل لخلق السموات وما بعدها الوارد ذكره في الآية والقادر على الإحياء والإماتة والبعث هو الله وحده، ومع هذا يشكون ويجادلون «وَهُوَ اللَّهُ» الإله الواحد المعبود بحق «فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ» وهذه على حد قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) الآية 48 من سورة الزخرف الآتية «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ» في أعمالكم وأقوالكم «وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ 3» من خير أو شر في الخفاء والجهر، وما يستحقه كل منكم من ثواب وعقاب «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم ومربيهم على يد رسولهم «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ 4» لا يلتفتون إليها ولا يحترمونها ولا ينظرون إلى من أنزلت عليه ولا لمن أنزلها لهم، ووصف الله تعالى كفار مكة بكثرة التهاون في ذلك حتى كأنهم لم يرسل إليهم رسولا ولم يظهر لهم آية «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ» المنزل إليهم وهو القرآن الذي شرفنا به نبيهم آية عظيمة على صدقه «لَمَّا جاءَهُمْ» به وتلاه عليهم «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 5» عند نزول العذاب عليهم في الدنيا بالقتل والأسر والجلاء، ويوم القيامة بالإحراق بالنار، وحينذاك يعرفون عاقبة استهزائهم وأخبار سخريتهم وإعلام تكذيبهم، وفيها من الوعيد ما لا يخفى. قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» من زمن نوح إلى زمنهم، لأن القرن هنا عبارة عن كل أمة هلكت ولم يبق منها أحد وهو المراد والله أعلم، وإن كان القرن يطلق على مطلق الوقت، والزمن ما بين عشر سنين ومئة سنة على أقوال فيه، راجع الآية 38 من سورة الفرقان في ج 1 وهؤلاء المهلكون قد «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» جعلناها قرارا لهم ومكنّا لهم فيها وملكناهم وزودناهم بالأموال والأولاد «وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً» لتكثير خيراتهم ودوامها بتتابع الغيث على أراضيهم «وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ» زيادة في التنعيم وسقي جناتهم ولابتهاج النظر إليها،

ولما أرسلنا الرسل ودعوهم للإيمان بنا وبرسلنا والوفاء بالعهد الذي أخذ عليهم في عالم الذر وترك الأوثان والتمسك بطرق الخير وترك سبل الشر والإيمان بالبعث بعد الموت (راجع الآية 172 من سورة الأعراف في ج 1) لم يلتفتوا إليهم وأنكروا عليهم دعوتهم وكذبوهم «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» لأنهم لم يراعوا حقّ نعمتنا المتوالية عليهم ولم يصدقوا رسلهم «وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ 6» بمقتضى سنتنا المطردة وهي أنا كلما أنشأنا قرنا ودعوناه للإيمان بنا فلم يؤمن أهلكناه وأنشأنا غيره، وأنتم يا أهل مكة سيكون مصيركم الهلاك إن لم تؤمنوا بنبيكم لأنا لا نخرم سنتنا، قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد: لا نؤمن بك يا محمد حتى تأتينا بكتاب من عند الله مع أربعة من الملائكة يشهدون على أنه من عند الله وأنك رسول الله، فأنزل الله «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» وظهر لهم كما أرادوا، لأن اللمس أبلغ من المشاهدة «لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» والمقترحون خاصة «إِنْ هذا» ما هو بقرآن ولا هو مكتوب على ورق وليس بشيء وإن كنا نراه ما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 7» تخيّل علينا به ووقّه كما قالو في انشقاق القمر تعنتا وعنادا لأنهم لا ينتفعون بالآيات بسبب إصرارهم على الكفر «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» يشهد له بأنه مرسل من الله لآمنا به وصدقناه. قال تعالى «وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً» على رسولهم محمد كما طلبوا «لَقُضِيَ الْأَمْرُ» بإهلاكم لأنا لا نرسل الملائكة إلا لتنفيذ أوامرنا وإنجاز وعيدنا وقد جرت عادتنا أن كل أمة اقترحت على نبيها شيئا وآتاهم ما اقترحوه ولم يؤمنوا استأصلناهم بالعذاب ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ 8» إذ لا تقبل التوبة عند نزوله، وإنما لم نفعل ذلك لما هو ثابت في علمنا أزلا أن منهم من يؤمن «وَلَوْ جَعَلْناهُ» ذلك الرسول «مَلَكاً» وهذا رد لقولهم لو شاء ربك لأنزل ملائكة لهداية البشر، لأن البشر لا يهدي مثله بزعمهم الباطل «لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» على صفة المرسل إليهم، لأن البشر لا يستطيع النظر إلى صورة الملك الحقيقية، ولذلك حينما نرسل الملائكة إلى البشر نرسلهم بصورة البشر كما فعلنا ذلك مع داود ولوط وابراهيم وكما جاء جبريل إلى محمد بصورة

[سورة الأنعام (6) : الآيات 11 إلى 20]

دحية الكلبي مرارا وبصورة اعرابي غير معروف وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة في الحديث المشهور «وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ 9» بأن نجعل الملك بصورة البشر فنوهم عليهم ونشبّه لهم فنشكل الملك بالبشر حتى يختلط عليهم الأمر فلا يعرفوه أبشر هو أم ملك، فيظنونه بشرا ويقولوا مقالتهم هذه بأنهم لا يرضون برسالة البشر، وتعود المسألة بحالها دورا وتسلسلا، وإذ ذاك أيضا يقولون ما هو إلا بشر مثلكم فكيف تطيعونه، هذا وإن محمدا صلّى الله عليه وسلم في الحقيقة بشر ولكنه ليس مثلهم، لأن الله تعالى فضله بوحيه وشرفه برسالته، وأعطاه ميزة على جميع خلقه وخصّه بأشياء لم يطلع عليها غيره، لهذا فإنه صار بحقيقة سامية وصفة كريمة لا يقدره إلا الذي أرسله، ولله در القائل: محمد بشر وليس كالبشر ... محمد جوهر والناس كالحجر وقال الأبو صيري: وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم ثم شرع يسليه ربه بذكر ما وقع لإخوانه الرسل قبله مع أممهم فقال جل قوله «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» كما استهزأ بك قومك «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ» العذاب الذي لا مرد له، وحاق بمعنى حل ونزل وتفيد معنى الإحاطة ولا تكاد تستعمل إلا بالبشر وقيل في المعنى: فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ... وحاق بهم من بأس ضربة حائق وهذه الإحاقة جزاء «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 10» فاهلكوا جميعا بسبب إيذائهم أنبيتهم، وفيه تحذير لكفار مكة بأنهم إذا لم يقلعوا عما هم عليه من الإيذاء لحضرة الرسول فإن الله يسلط عليهم عذابا يهلكهم به كما فعل بغيرهم «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا» ببصركم وتأملوا ببصيرتكم على تأويل النظر بالاعتبار، وقد يؤول السير أيضا بالاعتبار وبالشيء على الأقدام، أي اعتبروا وانظروا «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 11» أمثالكم إذ أورثهم كفرهم

مطلب في الرحمة ومعنى كتبها على نفسه المقدسة وأن الضار والنافع هو الله تعالى:

وتكذيبهم الدمار حتى صارت أطلال بلادهم عظة لمن يمر بها وقصتهم عبرة لمن يتفكر بها، فيا أكرم الرسل سل كفرة قومك و «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن أجابوك بأنها وما فيها ملك لله فعليهم أن يؤمنوا به لأن المملوك تابع لسيده، وإن لم يجيبوك فأخبرهم أنت و «قُلْ لِلَّهِ» وحده فإنهم لا يستطيعون أن يجادلوك في ذلك، لأنهم يعرفون أن أصنامهم مملوكة لا مالكة ويعلمون أنهم وأصنامهم وما تملكه أيديهم لله يتصرف فيه حسبما يشاء ولا يقدرون أن يقولوا خلاف هذا، لأنهم يتحاشون عن الكذب وينتقد بعضهم بعضا به، ومنهم من يقتلون الكاذب كقوم يونس قبل إيمانهم، قاتلهم الله ولا يتحاشون عن الكفر. ولما بين تعالى كمال قدرته بمخلوقاته أردفه بكمال إحسانه إليهم فقال «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» لعباده وهو منجز وعده بها لهم لا محالة وعليهم أن يكونوا أهلا لها ليحلّها عليهم. مطلب في الرحمة ومعنى كتبها على نفسه المقدسة وأن الضار والنافع هو الله تعالى: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي. وفي البخاري: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش. وروى مسلم عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مئة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها فى الأرض رحمة واحدة (أي وأخر التسعة والتسعين كما مر في الآية 50 من سورة الحجر المارة) فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. وروى البخاري ومسلم عن عمر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي (تطلب وتتحرى) إذ وجدت صببا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال صلّى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها. راجع الآية 50 المذكورة آنفا تجد ما يتعلق بهذا البحث «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» بأنه آت بلا شك «الَّذِينَ» نصب بفعل الذم المقدر

ينبىء عنه «خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» باختيارهم ورضى منهم «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 12» لشقائهم الأزلي بسوء نياتهم وخبث صنايعهم «وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» وما تحرك فيهما من إنسان وحيوان من كل نام وجامد في البر والبحر والهواء ملك لله وحده. وقد اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر على حد قوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) الآية 82 من سورة النحل الآتية للعلم به «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال وأفعال وإحساس كل متحرك وجامد ونام قالا أو حالا على اختلاف لغاتهم وأصواتهم «الْعَلِيمُ 13» بما يحتاجه كل منهم وما يفعله سرا وعلانية وما يفعل به من خير أو شر والفاعل أيضا، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة الذين يعبدون الأوثان ويدعونك لعبادتها «أَغَيْرَ اللَّهِ» أيها الجهلة يسوغ لي «أَتَّخِذُ وَلِيًّا» وهو ولي كل شيء القادر على كل شيء كلا لا يصح ولا يستقيم لي أن أتخذ غيره أبدا، وكيف يسوغ لي التصدي لذلك مع الإله العظيم «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» قرىء بالجر صفة للفظ الجليل، وبالنصب على المدح أو الاختصاص، وبالرفع على الابتداء وهو أولى بالنسبة لقوله تعالى «وَهُوَ يُطْعِمُ» جميع خلقه بما يدرّه عليهم من الرزق لكل بما يناسبه وبقدر حاجته «وَلا يُطْعَمُ» من قبل أحد لاستغنائه عن مخلوقاته واحتياج الكل إليه فهو الغني وهم الفقراء ومن هذه صفته وجب أن يتخذ إلها ووليا لا غير «قُلْ» هذا لهم يا حبيبي وقل لهم أيضا «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» من هذه الأمة الموجودة على البسيطة وأنقاد لطاعة ربي الذي قال لي أسلم «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 14» بي أحدا غيري ولا شيئا من خلقي، هذا ومن عطف هذه الجملة على الأمر تكلف بتحوير لفظ الفعل إذ يكون المعنى وأمرت أن لا أكون من المشركين، لهذا فإن انقطاعها على الاستئناف وحملها على غيره صلّى الله عليه وسلم من أمته كما هو الشأن في الآيات الممائلة المارة آخر سورة القصص والآية أواخر سورة الزمر أولى كما جرينا عليه أي أمرت بالإسلام وقد نهيت ونهيتم أيها الناس عن الشرك وهي رد على غواة قومه الذين كلفوه أن يكون على دينهم «قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بعبادة غيره خلافا لما أمرني به وكلفني بتبليغه إليكم «عَذابَ

يَوْمٍ عَظِيمٍ 15» لا مخلص منه لأحد «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ» أي ذلك العذاب ويتخلص من وباله «يَوْمَئِذٍ» عند حلوله في موقف القيامة المهيب «فَقَدْ رَحِمَهُ» الله بالنجاة منه وفاز بخير الدنيا والآخرة لأنهما حالتان واقعتان لا ثالث لهما، إما الرحمة والجنة أو العذاب والنار «وَذلِكَ» صرف العذاب الناتج عنه دخول الجنة «الْفَوْزُ الْمُبِينُ 16» الذي لا غبار عليه «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ» أيها الإنسان «بِضُرٍّ» من كلّ ما تكرهه نفسك «فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ» وحده جل جلاله «وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ» من كل ما تحبه نفسك فكذلك لا راد له إلا هو «فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 17» ومن جملة الأشياء المقدورة دفع الضر وجلب الخير لمن يشاء، وهذا الخطاب وإن كان خاصا بحضرة الرسول إلا أنه عام له ولأمته. فيعلم من هذه الآية أن الضار الحقيقي والنافع هو الله تعالى وحده لا دخل لأحد من خلقه به البتة، وإن ما نراه من وجود النفع والضر بواسطة بعض خلقه هو بتقديره أيضا، لأنه عبارة عن واسطة وأسباب ظاهرية اقتضت حكمته وجودها على أيديهم وفقا لسابق علمه الأزلي بحدوثها كذلك فسخرهم للقيام بها. أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، أي بما هو كائن بحيث لا يبدل ولا يغير ولو أطبقت عليه أهل السماء والأرض لأنه من كلام الله، وقد قال جل شأنه (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1، وقد زاد رزين بالحديث السابق. (تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وفيه أيضا: إن استطعت أن تعمل لله بالرضاء باليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر فإن الصبر على ما تكره خير كثير) واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا، ولن

يغلب عسر يسرين. ومثله في سند أحمد بن حنبل، فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث الصحيح أمام عينيه، ومرآة قلبه، وشعار حديثه، فيعمل به ويأمر به غيره، ففيه العزّة بالله والراحة لنفسه، ورفع العتب عن الغير، وفي هذه الآية الجليلة ردّ على من يرجو كشف الضر من غيره تعالى، وعلى من يؤمل قضاء مصلحته من غيره، وليس فيها ما يمنع الأسباب الظاهرة والتوسل بها، بل ذلك مطلوب، وإنما عليه بعد ذلك أن يجزم بأن ما يكون له هو المقدر عليه أو له لا غير، وأن الله تعالى مجريه لا محالة سعى أو لم يسع. قال تعالى «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» المتسلط عليهم فلا يقدر أحد أن يخرج من تحت قهره، وهذا هو معنى القاهر لأنه عال على المقهور، فهو جل شأنه يدبر أمر خلقه فيما يريده لا يحول دونه حائل، ينعّم ويعذب، ويفرح ويحزن، ويغني ويفقر، ويصح ويمرض، ويعز ويذل، ويحيى ويميت، لا يستطيع أحد رد شيء مما قدره «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بما يفعل بعباده «الْخَبِيرُ 18» بما يقع في ملكه، وهذه الآية من آيات الصفات التي ألمعنا إليها في الآية 5 من سورة طه في ج 1، وبما في الآية 3 من سورة يونس المارة المحال التي تبحث عن آيات الصفات كهذه فراجعها، وهي لا تقضي إثبات الفوقية بمعنى الجهة لله، تعالى الله عنها، وإنما هي بمعنى العلو والغلبة كما ذكرنا، على أن مذهب السلف الصالح جعلنا الله من أتباعهم إثبات الفوقية المطلقة لله تعالى تحاشيا عن ضدّها لما فيها مما لا يليق بجانبه العالي كما أثبته الإمام الطحاوي وغيره بأدلة كثيرة، روى الإمام وأحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلّى الله عليه وسلم للرجل الذي استشفع بالله تعالى: ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى فوق عرشه، وعرشه فوق سمائه، وقال بأصابعه مثل (القبة) وانه ليئط أطيط الرحل الجديد بالراكب. وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات. وروى ابن ماجه يرفعه قال: بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا

الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال يا أهل الجنة سلام عليكم، ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم قوله تعالى (سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) الآية 59 من سورة يس المارة في ج 1، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الآية 17 من سورة الأعراف في ج 1، أنه قال لم يستطع أن يقول من فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى فوقهم. وجاء فيما أخرجه مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلم وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وقوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الآية 43 من فصلت الآتية ولا يكون التنزيل إلا من الفوق، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الآية 10 من سورة فاطر المارة في ج 1، وقوله تعالى (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) الآية 158 من سورة النساء في ج 3، وقوله جل شأنه (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) الآية 5 من سورة المعارج الآتية والصعود والرفع والعروج لا تكون إلا لجهة الفوق، وقد سأل أبو مطيع البلخي أبا حنيفة رضي الله عنهما عمن قال لا أعرف ربي سبحانه في السماء أو في الأرض، فقال قد كفر لأن الله تعالى يقول (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وعرشه فوق سمواته، فقال قلت فإن قال إنه على العرش، ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، فقال هو كافر، لأنه أنكر آية في السماء، ومن أنكر آية في السماء فقد كفر، فقد ثبت لك من أقوال الله ورسوله والأئمة من المسلمين بأنه لا مانع من إطلاق الفوقية على الله تعالى، وأنه لا يجوز عليه سواها، تدبر. قال تعالى «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» نزلت هذه الآية في المشركين القائلين لحضرة الرسول أرنا من يشهد لك أنك رسول الله لأن أهل الكتاب يزعمون أن ليس لك ذكر في كتبهم، أي عليك يا سيد الرسل أن تقول لهم الله يشهد بذلك ولا أعظم من شهادته فإن صدقوك فيها وإلا «قُلِ اللَّهُ» ربي وربكم ورب كل شيء هو «شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على دعوى رسالته إليكم «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» من لدنه يا قوم «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» من سوء ما يحل بكم إذا لم تركنوا لأمره

ونهيه وأخوفكم عاقبة عدم إيمانكم به فهي عاقبة وخيمة «وَ» وأنذر أيضا «مَنْ بَلَغَ» أمره إليه ممن يأتي بعدكم إلى يوم القيامة. روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: بلّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. أي مهما قلتم عن بني إسرائيل فقولوا فلا ضيق عليكم بالمنع ولا إثم في ذلك، لأنهم كانوا في حال أكثر مما قلتم وأوسع. وفي هذا الحديث رخصة عن جواز التحدث عنهم على معنى البلاغ، وإذا لم يتحقق فقل لتعذر تحققه عنهم لطول المدة وعدم الضبط، وليس في هذا الحديث ما يفهم منه إباحة الكذب في الإخبار عنهم وإنما جواز نقل الأخبار الواردة عنهم في كتبهم، وفي بعض القصص التي لم ينص على كذبها ولم تخالف صراحة ما جاء في كتاب الله وحديث رسوله، فقد أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع. وعن زيد ابن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى بلّغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه. «أَإِنَّكُمْ» أيها الناس الكافرون «لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى» وتقرّه عقولكم أيها الحمقاء فيا أكرم الرسل إذا أصر هؤلاء على مقالتهم هذه ولم يتعظوا بما تقدمت إليهم من النصح ولم يصغوا لكلام ربك «قُلْ لا أَشْهَدُ» أنا البتة بذلك وأكد لهم قولك هذا و «قُلْ إِنَّما هُوَ» الإله المعبود في السموات والأرض «إِلهٌ واحِدٌ» لا إله غيره واقطع أطماعهم بقولك «وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» 19» به من الأوثان. هذا وقد استنبط العلماء من هذه الآية استحباب قول الرجل أو المرأة أو غيرهما كل يوم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله برئت من كل دين يخالف دين الإسلام. وتدل هذه الآية على جواز اطلاق الشيء على الله لأنه اسم للموجود، ولا يطلق على العدم، قال في بدء الأمالي: فسمّى الله شيا لا كالاشيا ... وذاتا عن جهات الست خالي وما المعدوم مرثيا وشيئا ... لفقه لاج في ضوء الهلال

[سورة الأنعام (6) : الآيات 21 إلى 30]

وقال المتكلمون (والشيء عندنا هو الموجود) وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة، قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» على يد رسلهم ولسانه من اليهود والنصارى الذين منهم من ينكر صفة محمد صلّى الله عليه وسلم ورسالته في كتبهم هم أنفسهم «يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» وقد كذبوا بما قالوه من إنكارهم نعته فيها، خصّ تعالى ذكر الأنبياء لأن الناس أشد معرفة بهم من غيرهم ومع هذا بأنهم يعرفون محمدا بما وضح من وصفه في كتبهم أكثر معرفة من أبنائهم الذين يشاهدونهم صباح مساء، هذا قول الله ولا أصدق من الله قولا، وقد حدث به رسول الله ولا أصدق منه حديثا، قال عبد الله بن سلام إلى عمر بن الخطاب حين أسلم: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، فقال عمر وكيف ذلك، قال أشهد أنه رسول الله حقّا بإخبار الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسله، ولا أصدق من هذا الإخبار، أما ابني ففي مظاهر الحال ابني ولكن لا أدري ما تصنع النساء إن النساء المتزوجات قد يحملن من غير أزواجهن فلا يدري الرجل إلا ان المولود ولد من زوجته التي هي في حجره وفراشه، فينسب إليه وقد يلحقه الشك في ذلك، أما محمد صلّى الله عليه وسلم فلا مرية ولا شبهة أنه رسول الله حقا لما رأينا من أوصافه وعلاماته في التوراة ومعجزاته في القرآن. ولهذا فإن الجاحدين نبوته هم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» وباعوها بالكذب والإنكار «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 20» به ولا يوفقون للإيمان بالله الذي أرسله جزاء جحودهم له عتوا وعنادا. انتهت الآية المدنية وهي كما ذكرنا في غيرها من كونها كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها، قال تعالى منددا من نسب إليه ما لا يليق بذاته المقدسة وأنكر ما جاء به على لسان رسله «وَمَنْ أَظْلَمُ» لا أحد أشد ظلما وأكثر بغيا وأعظم بهتا «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» وزعم أن له شريكا أو أنه لم يرسل محمدا أو لم ينزل كتابا عليه «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة عليه ومعجزاته التي أظهرها الله على يديه وكذلك سائر الأنبياء، فلا أقبح ولا أشنع ولا أفظع ممن هذه سجيته، ولا أخسر منه صفقة ولا أشد عنادا ولا اخطأ فعلا ولا أكبر كفرا ولا أكثر بغيا، لأنهم كذبوا على الله باتخاذ الشريك وكذبوه بإرسال الرسل، وكذبوا الرسل بأنهم

رسل الله وأنه لم ينزل عليهم كتابا، هؤلاء المشئومون أكثر الناس ظلما والله تعالى يقول «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 21» بالنجاة من العذاب ولا يفوزون بخير ولا ينجحون بأمل، واذكر يا أكرم الرسل لقومك وغيرهم «يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» العابدون والمعبودون والمقترحون والمكذبون والجاحدون والمنكرون «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا» في الموقف يوم القيامة «أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 22» في الدنيا أنها تشفع لكم وعبدتموها من دون الله الملائكة وغيرهم من الإنسان والكواكب والحيوان والجماد فيسكتون بدليل حرف التراخي المبين بقوله «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ» معذرتهم التي يعتذرون بها لأن الفتنة هي التجربة، ولما كان سؤالهم هذا تجربة لإظهار ما في قلوبهم من الكفر، وسمى جوابهم فتنة لأنهم كانوا مفتونين في محبة أوثانهم التي يعبدونها من دون الله في الدنيا كما يفتتن العاشق بمعشوقته، فإذا أصابته محنة من أجلها تبرأ منها بعد قضاء وطره، ومثلهم في الدنيا كمثل بعض الأكراد والحوارنه الذين يغرون الفتيات والنساء ويخطفونهنّ ويفترسونهنّ حالا بسائق الشهوة الخبيثة، حتى إذا أدركتهم الحكومة وحبسوا وعذّبوا أنكروا إغواءهنّ ليتخلصوا من الجزاء الشاق، وما هو بنافعهم، وهؤلاء الكفرة كذلك يوم القيامة حين يشاهدون العذاب والمحنة التي تحل بهم من أجل معبوديهم، يتبرأون منهم ما يكون جوابهم بعد السكوت الطويل المستفاد من أداة التراخي «إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ 23» وحين يصرون على إنكارهم هذا ويجحدون إشراكهم تشهد عليهم جوارحهم، ولا يقال هنا كيف يجوز تعذيب الشاهد لأن شهادة الأعضاء بمثابة الاعتراف عما اقترفت في الدنيا، والاعتراف لا يكون مسقطا للعقوبة، فإن القاتل إذا اعترف لا يعفى من القصاص، وكذلك الشارب والزاني لا يعفوان من الحد إذا اعترفا، تدبر. فيا أكرم الرسل «انْظُرْ» إلى هؤلاء «كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» بإنكارهم الشرك الذي كانوا يتفاخرون به في الدنيا ويحاربون الرسل بهم «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ 24» في الدنيا من وجود معبود غير الله إذ لم يروا شيئا أو أحدا يناصرهم أو يعترف لهم بالعبادة راجع الآية 29 من سورة يونس

مطلب لا يصح نزول الآية في أبي طالب وفي حمل الأوزار والآية العظيمة التي نزلت في حق الرسول صلى الله عليه وسلم:

فيما يتعلق في هذا البحث «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» حين تتلو القرآن كأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية ابن خلف والحارث بن عامر، ويقولون لمن معهم النضر بن الحارث ما يقول محمد؟ فيقول لهم ماأدري أراه يحرك لسانه بأساطير الأولين كما كنت أحدثكم عنه، فقال أبو سفيان إني لأرى بعض ما يقوله حقّا، فقال أبو جهل كلا لا تقرّ له بشيء الموت أهون علينا من إقرارك بشيء مما يقوله محمد، فأنزل الله «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً» أغطية كثيفة «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يعوه ويفهموه فيعلموه «وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» ثقلا شديدا وذلك أن الله تعالى بشرح قلوب بعض عباده لتقبل الهدى والإيمان والرشد ويضيق بعضها حتى لا تعي شيئا من ذلك ولا تسمعه فيبقى على ضلاله «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها» لذلك السبب «حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ» فيما أنزل عليك من لدنا يا سيد الرسل «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا» الذي تتلوه علينا ليس بقرآن وليس من عند الله وما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 25» أكاذيبهم وخرافاتهم جمع أسطورة أي أكذوبة وخرافة وَهُمْ يَنْهَوْنَ» يمنعون الناس «عَنْهُ» أي القرآن فلا يتركونهم يسمعونه ويحذرونهم من الإيمان به والتصديق بما أنزل عليه «وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ» يتباعدون بأنفسهم عن سماعه وعن المنزل عليه لئلا يراهم قومهم فيقلدونهم «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» بهذا النبي والنأي «وَما يَشْعُرُونَ 26» بأن الوبال يخصهم وحدهم ويضاعف عليهم لصدهم أنفسهم وغيرهم من سماع الحق واتباع الهدى وسلوك طريق الرشد. مطلب لا يصح نزول الآية في أبي طالب وفي حمل الأوزار والآية العظيمة التي نزلت في حق الرسول صلّى الله عليه وسلم: نزلت هذه الآية في الكفرة المذكورين أعلاه وهي عامة في كل من يتباعد عن الحق وينهى من يتقرب منه، أما ما روي أن رءوس الكفر قالوا لأبي طالب بعد أن تذاكروا معه بشأن محمد وتعديه على آلهتهم خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا نقتله، وانه قال لهم ما أنصفتموني أدفع إليكم ابني لتقتلوه وأربي لكم ابنكم، وانه كان من جملتهم وكان ينهاهم عن أذاه ويتباعد عن الإيمان به، فلا

يصح أن يكون سببا للنزول، لأن أبا طالب توفى نصف شوال السنة العاشرة من البعثة كما أشرنا إليه في الآية 56 من القصص المارة في ج 1 أي قبل نزول هذه الآية بكثير، وكذلك ما روي أن حضرة الرسول دعاه إلى الإيمان فقال لولا أن تعيرني قريش لأفررت بها عينك، ولكن أذب عنك، وقال في ذلك أبياتا منها: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقر منه عيونا ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا فنزلت هذه الآية لما ذكرنا وان الرواية قد وقعت منه لأن له مواقف هامة في الذب عن الرسول والوقوف بوجوه صناديد قريش من أجله، وكانت تهاب محمدا لمهابته لديهم ولقد صدق رحمه الله في قوله لأن قريشا لم توقع فيه أذى إلا بعد موته ولكن هذا كله قبل نزول هذه الآية حتى انه مرة كلف ابن أخيه ذات يوم أن يصفح عن التصريح بدعوته بإلحاح من عظماء قريش عليه لأنهم عرضوا عليه أمورا كثيرة من أمور الدنيا على أن يكف عن سب آلهتهم ولم يفعل فقال يا عم والله لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى، وهذه القصة مفصلة في سيرة ابن هشام، على أن هذه الآية واللائي قبلها واردة في ذم المشركين، فلا يناسب المقام ذكر النهي عن أذيته صلّى الله عليه وسلم، قال تعالى «وَلَوْ تَرى» بأكمل الرسل «إِذْ وُقِفُوا» هؤلاء المشركون الذين ينهون الناس عن الإيمان بك ويتباعدون عنه أيضا فلو رأيتهم حين يشرفون «عَلَى النَّارِ» لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه وموقفا عجيبا عظم بلاء «فَقالُوا» في ذلك الموقف الرهيب والمشهد العام «يا لَيْتَنا نُرَدُّ» إلى الدنيا فنصدق هذا الرسول وما جاء به من الله «وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» ورسله بعد ردنا إلى الدنيا أبدا «وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 27» بالله وكتابه ورسوله. ونصب الفعلين بأن مضمرة على جواب التمني أو بإبدال الواو من الفاء وجاز فيهما الرفع عطفّا على نرد وعليه فتكون الأفعال الثلاثة داخلة في التمني فيكونون تمنوا الرد إلى الدنيا وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين أو بقطع ولا نكذب ونكون عن فعل

[سورة الأنعام (6) : الآيات 31 إلى 40]

نرد وعليه يكون المعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله ليس الأمر كما ذكروا «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» من الكفر والجحود أي إنما قالوا هذا القول لظهور كفرهم الذي نطقت به جوارحهم ولم يغن عنهم سكوتهم ولا إخفاء فظائعهم. لا إنهم قالوه تائبين. ومع هذا لو أجيب تمنيهم لما وفوا بوعدهم «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» أولا في الدنيا ولفعلوا فيها ما فعلوه قبلا «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 28» في قولهم هذا بأنهم إذا رجعوا إلى الدنيا يؤمنون كلا لا يؤمنون البتة لسابق شقائهم بحسب خبث طوييتهم «وَقالُوا» هؤلاء الكفرة «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها كما يقول محمد وضمير هي يعود إلى الحياة ويجوز عوده على المتأخر رتبة ولفظا قال المتنبي: هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيدا لأن ما بعده خبر له وكذلك يجوز إذا كان ضمير الشان وقد منعه الجمهور لاشتراطه في خبره أن يكون جملة والأحسن عود الضمير إلى ما هو في الذهن أي ما هي الحياة إلا حياتنا الدنيا لا غير «وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 29» مرة ثانية كما كانوا يقولون قبل لا محالة فلا فائدة من إجابة طلبهم على تقدير إمكانها «وَلَوْ تَرى» يا سيد الرسل «إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ» للحكم والقضاء حيث يعرضون عليه يوم الجزاء «قالَ» الله تعالى لهم «أَلَيْسَ هذا» البعث بعد الموت الذي كنتم تجحدونه في الدنيا وتكذبون رسلكم إذ يخبرونكم به وتنكرون كلامي المنزل بذلك «بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه «قالُوا» إذ لم يروا بدا من الإقرار «بَلى وَرَبِّنا» إنه الحق لا شبهة ولا شك فيه «قالَ» تعالى بعد أن شهدوا على أنفسهم «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ 30» بذلك وتنكرونه إذ لا فائدة لكم الآن أأقررتم أم كذبتم، ثم يقول الحق تبارك وتعالى على ملأ الأشهاد «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» غبنوا وخابوا وفاتهم الثواب المؤدي إلى الجنة المنعم به على المصدقين وتلبسوا بالعقاب الموصل إلى النار إذ تمادوا في الدنيا على تكذيبهم ولم يحسوا بأنفسهم «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» فجاة على حين غرة

وغفلة في وقت لا يعلمه إلا الله وسميت القيامة ساعة لأنها تباغت الناس بسرعة بحيث لا يستطيع القائم أن يقعد ولا القاعد أن يقوم «قالُوا» منكروا الساعة «يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا» قصرنا من العمل الصالح «فِيها» في الدنيا وفاتنا كسب هذه الصفقة إذ بعنا ما يستوجب الرضا بالسخط. روى الطبري بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله يا حسرتنا إلخ قال: يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون يا حسرتنا «وَهُمْ» والحال أنهم «يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» أي أثقال ذنوبهم وهذا الحمل إما معنوي بحيث يتخيّلون جزاءها الثقيل فهم كالحاملين له، وإما أن تتجسم لهم فيحملونها راجع الآية 18 من سورة فاطر في ج 1. جاء في الأخبار والآثار: يتبع الميت ثلاث ماله ويفارقه عند خروج روحه، وأهله ويفارقونه عند ما يوارونه بالتراب، وعمله يبقى معه إلى يوم القيامة، فإن كان خيرا أوصله إلى الجنّة وإن كان شرا أدخله النار. ولهذا يقول الله تعالى لأهل الشر «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ 31» بئس الحمل الذي يحملونه لما فيه من الخزي والعار «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» باطل وغرور لأن اللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع واللهو الميل عن الجد والهزل، وهذا رد لقولهم (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا) إلخ يعني أن حياة الكافرين أمثالكم لعب لا تعقبه منفعة أما حياة المؤمنين فهي تفكير وعبادة فتعقب عليهم منفعتها في الآخرة خيرا ولهذا قال تعالى «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ» من الدنيا الفانية لأنها باقية «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» الله ويؤمنون برسله وكتبه «أَفَلا تَعْقِلُونَ 32» هذا أيها الكفرة فتعلمون أن الدنيا شر الذين يجحدون لقاء الله في الآخرة، قال تعالى «قَدْ نَعْلَمُ» يا حبيبي «إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» فيك ما لا يليق بحضرتك من التكذيب والسخرية «فَإِنَّهُمْ» بعملهم هذا «لا يُكَذِّبُونَكَ» وإنما يكذبون الذي أرسلك إليهم لأن تكذيبك تكذيب للحضرة الكريمة وانك صادق أمين مبجّل عند ربك «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 33» وهذا غاية في الظلم لأن تكذيب الله أعظم من كل ظلم وهو نهاية في الضلال. وهذه الآية من أعظم آيات القرآن في التبكيت على الكفرة وفيها تسلية لحضرة الرسول بما يعتريه من الحزن على جحودهم آيات الله وإنكارهم

رسالته إليهم لأن الله تعالى يقول له لا تأس بما يقولون لك لأن هذا الذي يصمونك به هو تكذيب للذي أرسلك وأنزل عليك الكتاب الذي جئنهم به فبعد أن يتعدى تكذيبهم للحضرة الإلهية المقدسة ولم يقتصروا فيه عليك فقد بلغوا الذروة القصوى في الكفر، فاعرض عنهم والله يتولى أمرك فيهم. نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق حين قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فليس أحد يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة اللائي أقررنا لهم بها فإذا صدقناهم بالنبوة أيضا فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله هذه الآية. أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن أبا جهل قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلّى الله عليه وسلم ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به من الدين المخالف لدين آبائنا وإذعانك أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على ما كان منا في هذه الدنيا. وإنما سلى الله رسوله في هذه الآية لأنهم مع اعتقادهم صدقه على ما علمت من قول أبي جهل المار ذكره لا يؤمنون بما جاءهم به حسدا، ويضاهي هذه الآية ما أنزله الله بحق غيرهم في قوله عزّ قوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) الآية 14 من سورة النمل المارة في ج 1، قال تعالى «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» من أقوامهم وأتباعهم «فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا» ألا تصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك «وَأُوذُوا» أيضا بأكثر مما أوذيت به وانتظروا وعد الله بنصرتهم عليهم وبقوا متحملين أذاهم «حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا» فلك أسوة بهم فثابر على الصبر حتى يأتي الوقت المقدر لذلك «وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» التي وعد بها عباده المخلصين المنوه بها بقوله عزّ قوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية 172 و 173 من الصافات الآتية، وقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 من سورة المؤمن الآتية أيضا، وقوله تعالى (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية 21 من سورة المجادلة في ج 3 والآية 103 من سورة يونس المارة فراجعها، ولا خلف لوعد الله

كيف وهو يأمر عباده بالوفاء ويعيب الناكثين والمخلفين، إلا أن لوعده أجلا لا يتخطاه «وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ 34» أخبارهم التي قصصناها عليك من قبل وظفرهم بعد صبرهم فما عليك إلا الانتظار لهذا الظفر القادم «وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ» عن الإيمان بك واستعظمت ذلك ولم تركن إلى الصبر فافعل ما بدا لك «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ» سريا ومنفذا من تحتها بدليل الظرفية فانفذ فيه «أَوْ سُلَّماً» تصعد عليه «فِي السَّماءِ» فاصعد إليها، وفي هنا بمعنى إلى لأن حروف الجر تخلف بعضها والسلّم يذكر ويؤنث. قال أوس في تأنيثه: لنا سلم في المجد لا يرتقونها ... وليس لهم في سورة المجد سلم وقال في تذكيره: الشعر صعب وطويل سلّمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه أي إذا كان لك شيء من ذلك فافعل «فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ» تدل على صدقك وتمنعهم من تكذيبك فافعل ولكنك لست بفاعل ما لم نقدرك على فعله وحيث كان كذلك فما عليك إلا أن تتحمل وتصبر، نزلت هذه الآية العظيمة في المنزل عليه صلّى الله عليه وسلم حين عظم عليه استهزاء قومه وتكذيبهم إياه وإصرارهم على الإعراض عن الإيمان وتاقت نفسه الكريمة أن يظهر الله تعالى على يده الآيات التي طلبها قومه ليسلّموا له ويؤمنوا بربه فأخبره الله بهذه الآية بما يقطع أمله من ذلك لأن إنزال الآيات مقدر على أوقات وأسباب لا تتعداها وكذلك الإيمان وعدمه موقت بأوقات لا يتخطاها سواء أجيب طلبهم أم لا، ثم أخبره بما هو مراده في الأزل فقال «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» من دون إرسالك إليهم ولكنه لم يشأ فلا تتعب نفسك وتتأذى بما تراه منهم لأن المشيئة قضت بذلك وفاقا لما هو مقدر عليهم في الأزل الذي لا يتغير ولا يتبدل، فاعلم هذا وتبه وإياك أن يخطر ببالك ما لم يكن في مراد الله فإنه لا يكون «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ 35» الذين يشوبهم الجزع ويضيق صدرهم لكل بادرة فأنت على ما أنت عليه من سعة الخلق وشرح الصدر وطول البال ولين الجانب. وإنما غلظ تبارك وتعالى لحبيبه هذا الخطاب في

هذه الآيات ليبعد جنابه العالي عن هذه الحالة ولا يحرص على إيمانهم إذ سبق في قضائه عدم إيمانهم لأنهم في معزل عن الإجابة لدعوته لانهماكهم في مهاوي الكفر واقتصارهم على الأقوال الفارغة وإذ زاد القول فقد نقص العمل، واعلم أن هذه في أناس مخصوصين علم الله موتهم على الكفر ولهذا قال تعالى «إِنَّما يَسْتَجِيبُ» لك ويقبل دعوتك «الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» تلاوتك سماع قبول بآذانهم وتعيها قلوبهم «وَالْمَوْتى» الكفار الذين لا يصغون لقولك ولا يتعظون بوعظك «يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» يوم القيامة فيسألهم عن عدم إذعانهم هذا «ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 36» بعد الحساب فيجازيهم على إعراضهم قد شبههم الله تعالى بالموتى بجامع عدم الإجابة والإسماع في كل منهما ولأن الجاهل ميت قال الشاعر: لا يعجبن الجهول بزيه ... فذاك ميت ثيابه كفن وقال: أبا سامعا ليس السماع بنافع ... إذا أنت لم تفعل فما أنت سامع إذا كنت في الدنيا عن الخير عاجزا ... فما أنت في يوم القيامة صانع «وَقالُوا» أولئك الكفرة «لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» تشهد على رسالته مثل الأنبياء قبله لآمنا به فأنزل الله تعالى إنزاله «قُلْ» لهؤلاء الكفرة يا سيد الرسل «إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» مثل ما أنزل على من قبلك «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 37» عاقبتها لأنهم إذا لم يؤمنوا بالآيات المقترحة يستأصلون بالعذاب دون مهلة ما كأمم الأنبياء قبلهم الذين أعطوا ما اقترحوه ولم يؤمنوا فأخذهم الله والله تعالى عالم بأن هؤلاء المقترحين لا يؤمنون وان الذين سيؤمنون منهم لم يحن وقت إيمانهم المقدر لهم وان البلاء إذا نزل عم راجع الآية 25 من سورة الأنفال في ج 3، على أن من يريد الإيمان عن صدق فلديه القرآن أكبر آية وأعظم معجزة وأجل برهان ولكن لا يقصدون من ذلك إلا العناد والتمادي في الضلال «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» من كل ما دب على ظهرها «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» أي أن كل جنس من الحيوان أمة مثل البشر والجن، فالطير أمة والوحش أمة والحوت أمة والجراد أمة والديدان أمة وهلم جرا من كل ما كان من خلق الله بالولادة أو التوالد سواء كان على وجه

مطلب كل شيء في القرآن مما كان ومما سيكون والآية الخارقة لعقيدة المعتزلة:

الأرض أو داخلها أو كان عائما في الماء أو الهواء لأنه إذا اتصل بالأرض دب عليها فالكل داخل في معنى الآية ووجه المماثلة هو أن كل حيوان يعرف خالقه ويوحده ويسبحه ويصلي له بحسبه قالا أو حالا، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الآية 44 من الإسراء المارة في ج 1، وكما أن البشر مخلوق لله فهي مخلوقة له وكما أن البشر يألف بعضه بعضا فهي يألف بعضها بعضا أيضا، وكما يفهم بعضه على بعض يفهم بعضها على بعض، وكما أنه يموت ويبعث فهي أيضا كذلك وقد اقتصر الله تعالى على ما في الأرض في هذه الآية وإن كان ما في السماء أمما أيضا مخلوقة له جل شأنه ولكنها غير مشاهدة وقد جاءت الآية بمعرض الاحتجاج والاحتجاج بالمعاين أولى منه فيما لم يعاين وفي ذكر الجناح للطائر إشارة إلى أنه تعالى سيحدث طائرا بلا جناح يتحرك بطبعه مما هو داخل في قوله تعالى بمعرض ذكر الأنعام (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) مما كان من الدواب والملك التي تركب ومما سيكون من هذا النوع بعمل البشر الكائن بتعليم الله إياه وإلا فما هو الموجب لتقييد الطير بالجناح ومن المعلوم أن الطائر لا يكون بلا جناح فتنبه رحمك الله إلى معجزات القرآن العظيم التي تظهر أولا بأول وقد ظهرت الأفلاك العظام كما وصفها الله بقوله (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الآية 24 من سورة الرحمن في ج 3، ثم السيارات ثم الطائرات ولا تزال تظهر هذه المصنوعات البشرية بما يفوق العقل تصورها راجع الآية الثانية من هذه السورة. مطلب كل شيء في القرآن مما كان ومما سيكون والآية الخارقة لعقيدة المعتزلة: وهنا يظهر سر قوله تعالى «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» مما علمه البشر ومما لم يعلمه بدليل التنكير والتفريط يتعدى بعن وقد ضمن هنا معنى ما أغفلنا ولا تركنا شيئا إلا وقد أشرنا إليه في اللوح المحفوظ وألمعنا إلى بعض ما في علمنا في هذا القرآن من أمر الدين والدنيا والآخرة، روى البخاري عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فقالت له امرأة في ذلك فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله فقالت له قرأت ما بين اللوحين (تريد القرآن كله)

فما وجدت فيه ما تقول قال لئن قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر في ج 3، قالت بلى قال فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه. وقال الشافعي رحمه الله مرة في مكة سلوني عما شئتم أخبركم عنه في كتاب الله فقيل له ما تقول في المحرم يقتل الزنبور فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو ما استدل ابن مسعود من أن الرسول أمر بقتل الهوام المؤذية وقد أمر الله في كتابه بالأخذ بكلامه هذا، وقد أخرج أبو الشيخ في كتاب الفطرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة راجع الآية 26 من سورة البقرة في ج 3 والآية 23 من سورة الشورى الآتية والآية 44 من سورة الأنبياء الآتية تجد ما تريده وما قاله ابن الجوزي في هذا المعنى، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه قال: أنزل الله في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال الشافعي: لا تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الهدى فيها، وقال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله، وقال المرسى: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما إلا المتكلم به والمنزل عليه عدا ما استأثر الله به لنفسه «ثُمَّ إنّهم إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 38» كما يحشر البشر ويحاسبون كما يحاسب البشر بحيث يجعل الله في كل منها قوة النطق والادعاء والدفاع والعفو والإصرار ثم تكون ترابا وحينذاك يتمنى الكافر لو كان مثلها لشدة ما يرى من العذاب راجع الآية الأخيرة من سورة النبأ الآتية، روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الواضحة إنما كذبوا بها لأنهم «صُمٌّ» عن سماعها «وَبُكْمٌ» عن النطق بها لكونهم غارقين «فِي الظُّلُماتِ» المتكاثفة راجع الآية 40 من سورة النور في ج 3، أي أنهم يكونون في الآخرة كما هم في الدنيا وهي ظلمة الكفر وظلمة الجهل وظلمة الحيرة لذلك تراهم غافلين عن التأمل في آيات الله لاهين عن التفكير فيها ساهين عن النظر إليها وهم في معزل عن معانيها

[سورة الأنعام (6) : الآيات 41 إلى 50]

لسابق شقائهم والحقيقة التي لا غبار عليها هي ما ذكره الله بقوله «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ» فلا يهتدي أبدا «وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 29» فيهديه للإسلام وهذا عدل منه تعالى فهو الفاعل المختار المتصرف في ملكه يفعل ما يشاء كيف يشاء كما أن أحدكم إذا هدم داره هل يسأل عنها وهل يعد مقترفا جرما كلا والله لا يسأل عما يفعل بل خلقه يسألون إذا تجاوزوا على أحد، وهذه الآية دليل قاطع على عدم خلق الأفعال وإرادة المعاصي من العاصي ونفي الأصلح وأن الكفر والإيمان بإرادته تعالى والإرادة لا تتخلف عن المراد كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا لأهل العقائد الفاسدة من المعتزلة وأضرابهم الذين لما رأوا هذه الآية خارقة لعقيدتهم وعجزوا عن مقاومتها لوّوا أعناقهم فراموا رفضها وأوّلوا يضلله بيخذله ولم يلطف به، وقالوا إن معنى يجعله يلطف به كأن الله تعالى عاجز أن يقول ما قالوا لو كان المراد كما قالوا وله القول الفصل أو أنه تعالى ضاق كلامه عن التعبير بما أولوه حاشا ثم حاشا، وقدمنا في الآية 12 من سورة الحجر المارة ما يتعلق في هذا البحث فراجعها. قال تعالى يا سيد الخلق «قُلْ» لهؤلاء المعاندين «أَرَأَيْتَكُمْ» أخبروني، تقول العرب أرأيتك أي أخبرني عن حالك والمراد بهذا الاستخبار تبكيتهم والقامهم الحجر بما لا سبيل إلى إنكاره «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» في الدنيا كما أتى على من قبلكم من الموت الفجائي بخسف أو رجم أو غرق أو صيحة أو غيرها فصعقتم حالا دون مهلة أتدعون أحد يكشف ما حل بكم أو أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» على حين غرة «أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» لكشف ذلك عنكم وهل تغيثكم أصنامكم إذا استغثتم بها على كشفه أجيبوني «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 40» أنها تنجيكم من ذلك فإن قالوا لك شيئا أو لم يقولوا فقل يا سيد الرسل «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» لا غير لأنكم تعرفون أنها لا تنفعكم في مهماتكم ولا في غيرها ولكنكم إذا دعوتم الله عن صدق نية وحسن عقيدة وحقيقة يقين «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ 41» لشدة الهول النازل بكم فنتضرعون إلى الله بادىء الرأي وتدعون أصنامكم لعلمكم بعجزها عن دفع الضر عن نفسها فضلا عن غيرها، فإذا كان كذلك وهو كذلك أيليق بكم وأنتم تدعون العقل أن تتركوا

الإله الواحد الذي يلجأ إليه في المهمات وتعبدوا غيره حال الرخاء وهو جماد أو حيوان مخلوق لله لا يتمكن من عمل شيء أما بكم من عقل يمنعكم من هذا أما تعتبرون بمن مضى قبلكم «وَ» أنت يا أكمل الرسل لا تجزع لما ترى منهم «لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» رسلا كثيرة فخالفوهم وكذبوهم وآذوهم أقوامهم مثل ما فعلت بك عشيرتك وأمتك وقد أمهلناهم ختى انقضى الأجل المضروب لهم فأصروا على كفرهم ولم يؤمنوا «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ» الفاقة والشدة والسوء «وَالضَّرَّاءِ» نقص الأموال والأنفس والثمرات والأولاد «لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 42» لنا ويخضعون لأوامر رسلنا ويتذللون فيتوبون فنعفو عنهم ولكنهم لم يفعلوا «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» لنا لعلنا تكشفه عنهم كما كشفناه عن قوم يونس راجع الآية 98 من سورة يونس المارة «وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فلم يتضرعوا لنا عنادا هذا على أن لولا هنا نافية كما هي في الآية المذكورة من سورة يونس المارة إلا أن الجمهور على أنها أداة تحضيض بمعنى هلا كما في أكثر المواضع، وحملوا المغني على التوبيخ والتنديم وهو يفيد عدم الشرك وعدم الوقوع بدليل أداة الاستدراك تدبر «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 43 فأعجبتهم صنايع كفرهم ومعاصيهم وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 38 من سورة الحجر فراجعها «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ» ولم يتعظوا بما أصابهم لكثافة الرّين الذي على قلوبهم وطبقات الصّدأ «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» من السعة والرخاء والصحة والسلامة والحياة والرياسة بدل الفقر والشدة ونقص الأموال والثمرات والذل والمهانة لنستدرجهم «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا» من الخيرات والقوة والسلطان وظنوا أن ما كان بهم لم يكن للانتقام بل للسعادة والرضاء «أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً» فجأة وهم على أحسن حال يتمنونه لتشتد حسرتهم ويتضاعف ندمهم على ما تركوا من اللذات والشهوات لأنهم لو أخذوا حال الضيق لهان عليهم الأمر لأن كثيرا من المبتلين يتمنون الموت ليتخلصوا من بؤسهم وقد قال قائلهم: ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا الحال مما لا خير فيه ولا تجد أحدا من المنعمين يريده بل أكره ما عليهم ذكره «فَإِذا هُمْ

مُبْلِسُونَ 44» آيسون كثيروا الأسف والحسرة حزنا على ما فاتهم فيها لأن المبلس المطرق رأسه أسى على ما حل به من الندم وعدم تلافي ما فرط به، روى عامر بن عقبة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا هذه الآية أسنده الطبري وذكره البغوي بغير سند «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وأهلكوا عن آخرهم يقال دبر فلان القوم إذا كان آخرهم، أي فكأنهم لم يلبثوا فيها وقد انقلب فرحهم ترحا وعزهم ذلة كما قال القائل: ألا إنما الدنيا كظل سحابة ... أظلنك يوما ثم عنك اضمحلت فلا تك فرحانا إذا هي أقبلت ... ولا تك جزعانا إذا هي ولت وقيل: إذا جاءت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرا قبل أن تتفلت فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هي ولت ولكن هؤلاء كلهم جزع لأن ما هم قادمون عليه أشر مما فاتهم «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 45» على تأييد رسله وإهلاك أعدائهم، وهذا تعليم من الله لأنبيائه والمؤمنين أن يحمدوه عند كفايته شر معانديهم ومناوئيهم وعند قضاء حوائجهم، وهذا الحمد واجب لأنه بمقابلة نعمته وهكذا يجب على كل من أولاء الله نعمة من مال أو ولد أو صحة أو غيرها، أما في غير مقابلة نعمه فهو مسنون في كل حال لأن نعم الله على العباد لا تحصى وقيل في المعنى: نعم الإله على العباد كثيرة ... وأجلهنّ نجابة الأولاد قال بعض المفسرين إن الله تعالى حمد نفسه بنفسه على ما فعل بهم أي لم يقصد به التعليم والأول أولى، قال تعالى «قُلْ» يا أكرم الرس لهؤلاء الكفرة «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ» فصرتم عميا صما بكما عميا «مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» أي بما أخذه منكم من تلك القوى فسيقولون لك حتما لا أحد يقدر على الإتيان لهم بشيء من ذلك إلا الله وانهم بفقدها يكونون كالجماد لأن الإنسان بغير هذه الحواس يختل نظامه ويفسد أمره وتتعطل مصالحه الدينية والدنيوية ولا يقدر على إيجادها إلا الذي

خلقها، فيا سيد الرسل «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها لهم ليستدلوا بها معالم التوحيد وآثار النبوة وعلائم الآخرة «ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ 46» يصدّون ويعرضون ويميلون عنها، قال أبو سفيان عليه السلام في هذا المعنى: عجبت لحكم الله فينا وقد بدا ... له صدفنا عن كل حق منزّل أي أنه يتعجب كيف رحمهم الله وأخر عذابهم إلى أن وفقوا إلى التوبة والإيمان مع شدة إعراضهم عنه فيكون صدف هنا بمعنى أعرض وبمعنى مال وأصل الصدف الجانب والناحية ومنه الصدفة وتطلق على البناء المرتفع وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بصدف مائل (أي بناء عال مائل) فأسرع ثم بكّتهم ثالثا بقوله عز قوله «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً» عيانا أو خفية ليلا أو نهارا «هَلْ يُهْلَكُ» فيه أحد هلاك خسارة وحرمان «إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ 47» أنفسهم وغيرهم بسبب كفرهم وطغيانهم وبغيهم كلا لا يهلك غيرهم. مطلب من هلك بسائق غيره لا يعذب وتبرؤ حضرة الرسول من قول قومه وقوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ) إلخ: أما إذا كان الهلاك عاما وهلك فيه غير الظالم فإن هلاكه هذا بسائق غيره فلا يعد خسارة عليه وحرمانا بل إن الله تعالى يكافئه في الآخرة خيرا على عمله وخيرا على هلاكه كما أنه يجازي المضل على ضلاله وإضلاله غيره راجع الآية 25 من سورة الأنفال في ج 3 والآية 88 من سورة النحل الآتية، «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ» المؤمنين بالثواب «وَمُنْذِرِينَ» الكافرين بالعقاب «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ» عمله بعد إيمانه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» حين يخاف الناس «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 48» إذا حزنوا بل الأمن لهم والبشرى في الدنيا والآخرة «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» في الدنيا وأصروا على تكذيبهم حتى هلكوا فهؤلاء «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ» بالآخرة حتما سواء سلموا من عذاب الدنيا أو عذبوا فيها جزاء «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» 49 يخرجون عن الطاعة «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» أجري عليكم منها ما تريدون «وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» لأخبركم بما تقترحون أيكون أم لا «وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي

[سورة الأنعام (6) : الآيات 51 إلى 60]

مَلَكٌ» أقوى على ما لا يقواه البشر لأفتك بكم أي لا أدعي الإلهية ولا الملكية ولا الغنى ولهذا فلا يفهم من معنى هذه الآية أن الملك أفضل من الرسول راجع الآية 30 من سورة هود المارة وإنما أنا بشر مفتقر إلى الله في كل أموري «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» فأعمل به وأخبركم وأدعوكم للعمل به لا غير «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» الضال والمهتدي «أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ 50» في عدم التسوية بينهما تدل هذه الآية الكريمة على أن حضرة الرسول ما كان مجتهدا في شيء من الأحكام بل كان يتبع وحي الله فقط فيعمل به وهو الصحيح لأنه لا ينطق عن هوى، وسبب نزول هذه الآية الرد على الكفرة الذين يقترحون على الرسول إنزال الآيات السماوية ليصدقوه فأمره الله تعالى أن يقول لهم ما ذكره في هذه الآية حسما للباب، قال تعالى «وَأَنْذِرْ بِهِ» بما أوحي إليك من لدنا «الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ» المقرين بالبعث وخص المؤمنين مع أن إنذاره عليه السلام عام لجميع الخلق لأن الحجة على هؤلاء أولى من غيرهم، والمراد بالحشر المحل الذي يريده الله تعالى لجمع الخلق وهو الموقف لا إليه ذاته جلت عن المكان فلا حجة في هذه الآية إلى المجسمة القائلين إن إلى (في إِلى رَبِّهِمْ) تفيد الغاية إلى المكان فيكون تعالى شأنه مختصا بمكان تنزه عن ذلك. هذا ويدخل في حكم هذه الآية المجوزون للحشر سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب، وبعض المشركين المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين المعترفين بالبعث بعد الموت أو في شفاعة الأصنام كالآخرين المجوزين للحشر الجازمين فيه من أهل الكتاب وبعض المشركين أي المترددين بهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكون حقا، وأما المنكرون للحشر رأسا والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون عمن أمر بإنذارهم هكذا، قال شيخ الإسلام أما ما قيل إن المراد بهم المؤمنون المفرطون أو الكافرون معا بداعي أن الكل يخاف الحشر لأن الرسول مبعوث للكل فهو وجيه إلا أن سياق الكلام لا يساعده وسباقه ينافيه ومما يرد القول الأخير قوله تعالى «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ» أي الله «وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» يشفع لهم

أو يواليهم لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن يأذن الله له بها قال تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية 255 من البقرة في ج 3، والكافرون ليس لهم ولي ولا شفيع لقوله تعالى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الآية 18 من سورة غافر الآتية وعلى هذا فلا يدخلون في مضمون هذه الآية، أما المؤمنون المذنبون فتشفع لهم أنبياؤهم والملائكة والأولياء أيضا فيدخلون في مضمونها دخولا أوليا والله أعلم. هذا وإنما أمر الله تعالى رسوله أن يتقدم لمثل هؤلاء بالإنذار رحمة بهم «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 51» الكفر ودواعيه فيدخلون في زمرتهم، ولما أمر الله غير المتقين ليتقوا أمر بتقريب المتقين إليه وأن لا يقصيهم عن مجلسه فقال عز قوله «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» إرضاء للكفرة الذين يأنفون مجالستهم فإياك إياك أن تفعل ذلك، وتشعر هذه الآية بالثناء على هؤلاء المذكورين فيها لمواصلتهم ذكر الله ومواظبتهم على عبادته صباح مساء ولذلك وصفهم بالإخلاص المستفاد من قوله جل قوله «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ذاته المقدسة بدعائهم لا غير وهؤلاء يا حبيبي «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» لأن حسابهم على الله وحده «وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» لأن حسابك أيضا على الله وذلك أن المشركين طعنوا في دين هؤلاء وإخلاصهم على حد قوله تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) الآية 27 من سورة هود المارة فأخبره الله تعالى بأنك لا تكلف أمرهم كما هم لم يتكلفوا أمرك لأن وظيفة الرسل النظر إلى ظواهر الأمور وتفويض البواطن إلى الله أي ليس لك يا محمد أن تطردهم بداعي أن إيمانهم غير خالص لأنك لا تعلم ما في قلوبهم، ولهذا حذّره بقوله «فَتَطْرُدَهُمْ» وتبعدهم عنك وهذا جواب ما عليك أي إن طردتهم وأجبت رغبة الكفرة «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ 52» نفسك بإبعادهم عن مجلسك بل عليك أن تقربهم وتدنيهم منك لمجرد تقواهم وطاعتهم لا أن تبعدهم فتظلمهم اتباعا لقول أعدائهم، قال تعالى «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» أي اتباع الرسل قبلك ففتنة الغني بالفقير والشريف بالوضيع والصحيح بالمريض هي الأنفة منهم وبالعكس هي الحسد لأن الفقير يرى سعة الغني وخصب عيشه والمريض يرى تمتع

الصحيح بالعافية والراحة، والوضيع يرى مرح الشريف وكبير جاهه وان الأشراف والأغنياء والمعافين يرون تقدم أولئك عليهم عند الأنبياء بسبب إسلامهم وإيمانهم وهم يأنفون مجالستهم فيمتنعون من الإيمان فيبقون مفتتنين ببعضهم وانهم «لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بالإيمان والقرب من الرسل «مِنْ بَيْنِنا» ونحن أفضل منهم وأقدم وأحسن لأنهم لا مكانة لهم ولا مال ولا حسب وهذا اعتراض على الله ولذلك رد عليهم بقوله عزّ قوله «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ 53» نعمه من خلقه بلى هو أعلم بذلك، واعلم أن سبب المنة عليهم شكرهم وسبب حرمان الآخرين كفرهم وما منعهم أن يكونوا مثلهم إلا عدم إيمانهم بالله وعدم شكرهم أفضاله عليهم إذ صرفوا جوارحهم إلى ما لم تخلق لها، ثم إن الله أمر رسوله بإكرام المؤمنين مهما كانوا فقراء أو ضعفاء أو مرضاء بقوله جل قوله «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا» أمثال أولئك المذكورين في الآية السابقة المتطهرين بالإيمان بنا لأنهم مؤمنون حقا «فَقُلْ» لهم يا سيد الرسل على رغم أنف أولئك المتطاولين بنعمتنا عليهم «سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» لكم أي بشرهم بقبولهم عند الله وعدهم برحمته وعدا مؤكدا لأن كتب بمعنى وجب وهو لا وجوب عليه وإنما قال كتب لزيادة التأكيد برحمتهم تفضلا منه وقل لهم يقول الله تبارك وتعالى «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «سُوءاً» ذنبا «بِجَهالَةٍ» به عن غير قصد ولا يعلم ما ينشأ عنه من المضرة وما ينتج عن فعله «ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ» نفسه وتباعد عن اقتراف مثله «فَأَنَّهُ غَفُورٌ» ستار له لا يفضحه به في الدنيا ولا يعاقبه في الآخرة «رَحِيمٌ 54» بعباده التائبين لأن الذنب مهما كان إذا لم يكن تعمدا أو مضرا بالغير فهو للرحمة قريب وللعفو عنه أقرب، وسبب نزول هذه الآيات من وأنذر ألى هنا ما روي عن سعد ابن أبي وقاص قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلّى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عليه ولا تطرد إلخ الآيات أخرجه مسلم. وجاء عن عكرمة وابن مسعود

والكلبي ما بمعناه، وهذا أولى من قول من قال إن هذه الآيات نزلت في سلمان وجماعة من فقراء المسلمين لأن سلمان رضي الله عنه أسلم بالمدينة وهذه السورة مكية وليست هذه الآيات من المستثنيات منها وأولى من قول من قال إنها نزلت في المؤلفة قلوبهم المنوه بهم في قلوله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) الآية 49 من سورة الكهف الآتية وهي مدنية وكان إسلام هؤلاء بعد فتح مكة وهذه الآيات التي نحن بصددها نزلت قبل الهجرة في مكة وبينهما بعد عظيم وفرق كثير قال عكرمة فكان صلّى الله عليه وسلم إذا رأى الذين نهى عن طردهم بدأهم بالسلام امتثالا لأمر الله له بذلك وقيل إن الآية الأخيرة أي وإذا جاءك إلخ نزلت في عمر رضي الله عنه لأنه قيل إنه قال لحضرة الرسول حينما طلب منه المشركون طرد أولئك الأبرار لو أجبتهم لما قالوا لعل الله يأتي بهم (وهذا الذي وقع في نفس رسول الله المذكور بالحديث المروي عن سعد بن أبي وقاص) ولم يعلم المضرة الناتجة عن كلامه هذا وعدم رضاء الله بها ثم إنه صار يبكي وقال معتذرا ما أردت إلا خيرا ولكن المقرر أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب فالقول بإطلاق هذه الآية على كل مؤمن أولى وأنسب بالمقام ويدخل فيها السيد عمر وغيره دخولا أوليا «وَكَذلِكَ» مثل ما قصصنا لك هذا وبيناه «نُفَصِّلُ الْآياتِ» بذكر أوصاف المطيعين والعاصين «وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ 55» الذين صاروا إلى النار يوم القيامة ليظهر لك الحق الذي أنت عليه وأصحابك والبطل الذي عليه أعداؤك، وقرئ الفعل بالياء لأن السبيل تذكر وتؤنث قال تعالى (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) الآية 145 من الأعراف المارة في ج 1 وقال تعالى (يَبْغُونَها عِوَجاً) الآية 44 منها فالتذكير على لغة تميم والتأنيث على لغة الحجاز وهو بالرفع كأنه قال ليظهر الحق وليستبين سبيل إلخ وحذف المعطوف عليه من المحسنات البديعة وقرىء بنصب سبيل على المفعولية على أن يعود الفاعل لحضرة الرسول ويكون المعنى سايرهم حتى تستوضح طريقهم وإذ ذاك تعاملهم على ما يليق بهم في الدنيا ومرجعهم إلينا في الآخرة فنعاملهم على ما عاشوا عليه «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الأوثان كافة، لأن أدلة العقل

وأدلة السمع تأبى ذلك، وهذه الآية رد على المشركين الذين يكلفون حضرة الرسول اتباع دينهم دين آبائهم، وقطع لأطماعهم الفارغة لأنها عبارة عن هوى أنفسهم وضلال صرف محض ولذلك نهى عنه رسوله صلّى الله عليه وسلم بقوله «قُلْ لا أَتَّبِعُ» في هذا ولا في طرد المؤمنين «أَهْواءَكُمْ» النفسية البحتة «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً» إن أنا فعلت أو ملت لشيء من ذلك «وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ 56» بهداية ربي وفيها إشارة الى أنهم هم الضالون عن الهدى «قُلْ إِنِّي» فيما أنا عليه «عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» وبصيرة ظاهرة ناصعة لأني في طاعته وعبادته «وَكَذَّبْتُمْ بِهِ» على غير بيّنة تبعا لهدى أنفسكم فأشركتم به غيره ما لا يستحق العبادة وإذا دمتم على هذه ولم تقلعوا عنه فأنذركم عذاب الله فقالوا له ائتنا بما تعدنا به من العذاب إن كنت صادقا لنصدقك فأوحى الله إليه أن يقول لهم «ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» من العذاب ولا أقدر على إنزاله «إِنِ الْحُكْمُ» في إنزاله حالا أو تأخيره لأجل معلوم عنده لا يكون «إِلَّا لِلَّهِ» وحده وهو «يَقُصُّ الْحَقَّ» يبرمه وقرىء يقض والمعنى واحد لأن القضاء قول مبرم وهذه من القراءات الجائزة إذ لا تبديل فيها بالمعنى واللفظ عبارة عن تصحيف في النقط لأن الصاد أخو الضاد وقد ذكرنا غير مرة أن القراءة الغير جائزة وهي التي فيها تبديل كلمة أو حرف مباين أو زيادة أو نقص شيء من ذلك «وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ 57» بين الحق والباطل إذ لا يقع في حكمه جور ولا حيف، يا أكرم الرسل إذا ألح عليك قومك بطلب إنزال العذاب «قُلْ» لهم «لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» لأوقعته عليكم حالا وما أمهلتكم به وقد رأيت منكم ما رأيت يدل على هذا قوله «لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» لأني بشر وقد نفد صبري عليكم لولا أن الله يأمرني بالصبر ولأوقعته عليكم غضبا لله الذي قابلتم نعمه بالجحود لا تشفيا لنفسي ولكنه بيده وهو صبور لا يستفزه الغضب وهو حليم لا يعجل بالعقوبة «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ 58» أمثالكم هل تعجيل العذاب أصلح لهم أو تأخيره وهو أعلم بالوقت والمحل الذي ينزله عليكم بهما ونوع العذاب الذي تستحقونه وما أنتم عليه من الحال «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» بفتح الميم جمع مفتح اي المخزن وعليه يكون المعنى

خزائن الغيب أما إذا كان جمع مفتح بكسر الميم فإنه تعالى جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المغلوقة بالأقفال فالذي يعلم تلك المفاتيح وكيفية استعمالها يمكنه أن يتوصل إلى الخزائن بها المدخرة فيها ولما كان جل جلاله عالما بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بذلك وعليه يكون المعنى المراد أن العلم بالغيب عنده وحده لا يشاركه فيه أحد، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مفاتيح الغيب خمسة وتلا قوله تعالى عنده علم الساعة إلخ الآية الأخيرة من سورة لقمان الآتية، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر مثله، والآية عامة تشمل بإطلاقها جميع ما غاب عن العباد من آجال وأحوال وعذاب وثواب وغير ذلك «لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» وحده إذ انفرد جل جلاله بعلمه «وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» من نبات وحيوان وجواهر ومعادن ومفاوز وقفار وقرى وأمصار وجزر وأنهار مما علمه البشر وما لا يعلمه «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ» من جميع الأشجار والنبات «إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ» تسقط من كافة أصناف الحبوب مما يخصّ الإنسان والحيوان والطير والحوت «فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ» إلا يعلمها أيضا وسكت عما في ضياء الأرض لأن الذي يعلم ما في ظلماتها فهو لما في ضيائها أعلم وهو جل جلاله لا فرق عنده بين الظلمة والنور ويعلم تلك الورق قبل نباتها وبعده ومن هي رزقه وما يصير منها وما هو مقداره «وَلا رَطْبٍ» من ماء وحي «وَلا يابِسٍ» من أرض وميت أي أنه يعلم كل الأشياء لأنها إما أن تكون رطبة أو يابسة وهي إن كانت داخلة في قوله تعالى وعنده مفاتح الغيب إلا أن ذلك على طريق الإجمال وهذا على طريق التفصيل والتفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس ولذلك عد من أبواب البديع في الكلام «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ 59» ظاهر وكل شيء فيه ثابت مدون مما كان ومما سيكون قبل خلق السموات والأرض وإلى آخر الكون وما بعده في الآخرة «وَ» اعلموا أيها الناس أن ذلك الإله العظيم الموصوف بما ذكر من صفات الكمال والقدرة «هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» يميتكم فيه لأن النوم وفاة لما بينها وبين الموت من المشاكلة في زوال الإحساس

[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 إلى 70]

وغفلة الحواس الظاهرة والباطنة وفقد الشعور والتمييز «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ» كسبتم وفعلتم بجوارحكم «بِالنَّهارِ» مما يستحق الثواب ويستوجب العقاب «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» يوقظكم بالنهار بعد استيفاء أجل نومكم المعبر عنه بالتوفي ولا يفهم من هذا أن الله تعالى لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا في النهار لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما أن انتفاء الدليل لا يستلزم انتفاء المدلول وأن عدم وجود الخلق من الأزل لا يستوجب عدم وجود الخالق لتولي أمرهم في الآخرة كما كان يتولى أمرهم في الدنيا وقيل الردّ إلى من ربّاك خير من البقاء مع من آذاك «لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى» لاستيفاء أعماركم والفعل متعلق بيبعثكم «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 60» في هذه الدنيا لا يخفى عليه شيء من أمركم حتى انه يعلم ما ترونه في نومكم وما توقعون فيه من حركات وسكنات راجع الآية 12 من سورة الزمر الآتية، قال تعالى «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» المتسلط عليهم بالغلبة المتعالي عليهم بالقدرة راجع معنى الفوقية في الآية 18 المارة «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» من ملائكة يسجلون أعمالكم راجع الآية 18 من سورة ق في ج 1 «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بانقضاء أجله المبرم «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ» الرسل الموكلون بالوفاة «لا يُفَرِّطُونَ 61» في أمرنا ولا يتوانون فيه البتة. مطلب الجمع بين آيات الوفاة وسرعة الحساب وقول الفلاسفة فيه ومعنى يذيق بعضكم بأس بعض: واعلم أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى فإذا حضر أجل العبد أمر الله الملك بقبض روحه والملك الموكل بقبض الأرواح له أعوان وكل أمرهم إليه فيأمرهم بنزع روحه حتى إذا وصلت للحلقوم قبضها هو بنفسه، وهذا التأويل يجمع بين قوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) الآية 42 من الزمر المنوه بها أعلاه وقوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) الآية 12 من سورة السجدة الآتية وبين هذه الآية تيقظ «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» بعد استيفاء آجالهم في البرزخ وإنما قال تعالى الحق لأنهم أي الكفرة كانوا يزعمون أن مولاهم الصنم الذي اتخذوه فنبههم الله بأن زعمهم

ذلك باطل من أصله وقد أظهر لهم بطلانه وبين لهم أنه هو سيدهم ومالكهم لا غير فتنبه أيها العاقل «أَلا لَهُ الْحُكْمُ» وحده يومئذ في حسابهم على ما كان منهم «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ 62» لا يحتاج إلى رؤية وفكر ولا يشغله حساب بعض عن آخرين يحاسب، الخلائق كلها بنفسه محاسبة رجل واحد في أسرع وقت وأقصر زمان والمقصود منه على زعم الفلاسفة استعلام ما بقي من الدخل والخرج ولما كان لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح بحسب حسن العمل وقبحه إذ لا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضا للبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فينقطع فيه تعلق النفس من البدن فعبّر عن هذه الحالة بسرعة الحساب وزعمهم هذا هو أن كثرة الأفعال وتكررها يوجب حدوث الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد من تلك الأعمال أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة وحينئذ يقال إن الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة من هذه الجوارح فكأن ذلك الصدور جاريا مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس وعلى هذا فيقصد من الحساب ما ذكر آنفا وزعم من نقل هذا عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكم الفلسفية، قال الآلوسي رحمه الله متمثلا في هذا البيت: راحت مشرقة ورحت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب أي أن هذا الذي تقوله الفلاسفة لا ينطبق على ما نحن فيه ولا يقرب منه إلا كقرب المشرق من المغرب وأنا أتمثل بقول الآخر: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان فالثريا شامية إذا ما استهلت ... وسهيل إذا ما استهل يمان

ولا يرد هنا قولهم إن الله تعالى لا يتولى حسابهم بنفسه لقوله جل قوله (لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) الآية 77 من آل عمران في ج 3، لأن الكلام غير المحاسبة أي لا يكلمهم كما يكلم المؤمنين ولا ينظر إليهم نظرهم لأن الكلام والنظر يختلفان باختلاف المكلم والمكلم وبحالة الرضا والغضب، تدبر. قال تعالى «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ» ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمه الرياح «وَالْبَحْرِ» ظلماته المارة في الآية 38 وهي ثلاثة والرابعة ظلمته لأن البحر كلما عمق اشتد سواده فتراه في الساحل أبيض فإذا سرت فيه ازداد عمقه فصار أخضر فأزرق فأسود، أي إذا ضللتم الطرق فيها وتحيرتم أأصنامكم تخلصكم من الخوف الذي يلحقكم من التيه والغرق وترشدكم إلى طريق النجاة والأمن أم الله الذي «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً» جهرا وعلانية «وَخُفْيَةً» سرا في أنفسكم وتقولون حينما يشتد بكم الفزع «لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ» الشدة المؤدية للهلاك يا إلهنا الحق ومولانا الصدق «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 63» لك إحسانك علينا وإنعامك ونؤمن بك وبكتابك ورسلك «قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء الجاحدين إن أجابوك وإن لم «اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها» من تلك الظلمات المؤدية لهلاككم «وَ» وينجيكم أيضا هو وحده «مِنْ كُلِّ كَرْبٍ» لا أحد غيره «ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ 64» به غيره بعد إنجائكم وتكفرون نعمه التي أسداها لكم وتنسون لطفه بكم، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة افعلوا ما شئتم وتحصنوا بما تصورتم فلا وزر لكم منه لأنه «هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ» فيمطركم به كما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل راجع قصتهما في الآية 82 من سورة هود المارة والآية من آخر سورة الفيل في ج 1 «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» كما خسف بقارون ورفيقه المار ذكره في الآية 82 من سورة القصص في ج 1، وهذا مثل للإهلاك في البحر، أما الإهلاك في البر فهو المبين بقوله عز قوله «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» يخلطكم خلط اضطراب فيجعلكم فرقا مختلفين يتعصب بعضكم لبعض ضد الآخرين منكم فتقتتلون وتتباغضون، قال السلمي:

وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي «وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» أي يقتل بعضكم بعضا، والبأس يطلق على الموت والسيف والشدة والمكروه كما أذاق ذلك بني إسرائيل إذ لم يقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم ففعلوا لأجل قبول توبتهم تخلصا من العذاب الأخروي الدائم لأنهم رحمهم الله عرفوا أن هذه الدنيا فانية وعذابها مهما كان عظيما فهو فان أيضا فاختاروا الدار الباقية طلبا لرضاء ربهم ففادوا بأنفسهم. راجع قصتهم في الآية 54 من سورة البقرة في ج 3، جاء في الخبر عن سيد البشر أنه قال: سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف. وروى البخاري عن جابر قال: لما نزلت (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) الآية المارة قال أعوذ بوجهك (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال أعوذ بوجهك (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال هذا أهون أو هذا أيسر. وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلّى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني أمية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها. وأخرج عن خباب بن الأرت قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة فأطالها فقالوا يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال أجل إنها صلاة رغبة ورهبة إني سألت الله تعالى ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها. والأخبار في هذا كثيرة ولم نأت بها استدلالا على سبب النزول لأن منها ما لا يصح لعدم وقوعه إلا بعد نزول الآية بسنين وإنما أتينا بها استدلالا لإيقاع البأس بين هذه الأمة من بعضها وهو واقع لا محالة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا فإن من قال إنها نزلت في أمة خاصة لا يصح إلا إذا قيل باعتبار آخرها ولهذا قال أبو العاليه في هذه الآية: هن أربع وكلهنّ عذاب وقعت اثنتان

مطلب النهي عن مجالسة الغواة وذم اللغو وتهديد فاعليه ومدح من يعرض عنه:

بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة يريد حادثة عثمان رضي الله عنه وما وقع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية إذ ألبسوا شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان لا بد واقعتان وهما الخسف والرجم وبهذا قال أبي بن كعب ومجاهد وغيرهما فيا أكرم الرسل «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها بالوعد والوعيد والرجاء والخوف والرضاء والغضب «لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 65» معانيها ويتدبرون مغازيها فينزجروا عما هم فيه «وَكَذَّبَ بِهِ» بهذا القرآن «قَوْمُكَ» يا محمد «وَهُوَ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه ولا أصدق منه «قُلْ» لهم إذ جرأوا على ذلك قوا أنفسكم من عذاب الله لأني «لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ 66» حتى أقيكم منه ولا بمنتقم حتى أجازيكم عليه ولا بحفيظ حتى أحفظكم من عذابه إنما أنا منذر مبلغ مرشد فقط ولكن عليكم أن تعلموا أن «لِكُلِّ نَبَإٍ» من أخبار القرآن «مُسْتَقَرٌّ» ينتهي إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا في الوقت والمكان الذي قدر وقوعه فيه لا يتقدم ولا يتأخر ولا يتخلف، ولا تزالون أيها الكفرة تتلبسون في حالتي التكذيب والجحود حتى يأتيكم أمر الله «وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 67» إذ ذاك مغبة عملكم وقساوة جزائه، وهذه الآية محكمة بدليل وقوع التهديد والوعيد في آخرها، وما قيل إنها منسوخة بآية السيف قيل لا يصح لأن صاحب هذا القيل فسر وكيل بعبارة (لم أومر بحربكم) وهذا المعنى أبعد من عنقاء مغرب لأن وكيلا بمعنى حفيظ ورقيب ومدافع وزعيم وحميل ومحام ليس إلا ومتى كان كذلك فإنه إنما يطالبهم بالظاهر من الإقرار والعمل لا بما تحتويه ضمائرهم بدلالة قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) تدبر هذا. مطلب النهي عن مجالسة الغواة وذم اللغو وتهديد فاعليه ومدح من يعرض عنه: واعلم أن الله تعالى يقول «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا» المنزلة عليك يا سيد الرسل وهذا خطاب له ولأمته لأن الآية صالحة للعموم أكثر منها للخصوص، وهذا الخوض هو ما يقع منهم من السخرية والاستهزاء والطعن والذم والتكذيب والإنكار بوجود الإله والنبوة والمعاد ومعناه لغة الشروع في الماء والعبور فيه ويستعار للأخذ بالحديث والشروع فيه بطريق التنقيد والتفنيد، يقال

تخاوضوا وتفاوضوا في الحديث وأكثر استعماله في ذلك قال تعالى (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) الآية 45 من سورة المدثر المارة في ج 1، وقال تعالى (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) الآية 65 من سورة التوبة في ج 3، وقال تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الآية 7 منها وأكثر استعمالها في الذم، أي إذا رأيت أيها الإنسان الخوض من أناس ما في آيات ربك «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» واحذر مجالستهم وتباعد عنهم وإياك مقاربتهم «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» مما يحل سماعه ويندب الاشتراك فيه فجالسهم «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ» على الفرض والتقدير الاعراض عنهم ومجالستهم بسائق الغفلة التي هي من شأن البشر أو انشغال فكرك بالله. هذا على أن الخطاب لسيد المخاطبين إذ لم يقع منه قط شيء من ذلك وأنّى للشيطان أن يشغل فكره وليس له عليه سبيل ولهذا عبر بان الشرطية المؤكدة بما لأنهما تفيد الشك وإذا كان الخطاب لغيره فلا مانع من وقوعه، والنسيان مرفوع إثمه عن الناس إذا ترك حين تذكر بأن فارقهم حالا أو أنه جالسهم قبل الخوض فقام زمنه حالا وإلا فهو مؤاخذ به بلا شك ويخشى على إيمانه إذا داوم الجلوس معهم بعد الخوض وحكم كل مجلس يتعدى فيه على حدود الله كذلك «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 68» أنفسهم بالتجاوز على آيات الله وهذا نهي قاطع ألا فلينته الغافلون عنه، نزلت هذه الآية في جماعة من المؤمنين كانوا يجالسون المشركين بأنديتهم فيقعون بالاستهزاء بالقرآن والسخرية بمحمد صلّى الله عليه وسلم والجحود لله فنهى الله رسوله والمؤمنين كافة عن مجالستهم في تلك الحالة وإنما كان الخطاب لحضرة الرسول الذي لم يجالسهم في تلك الحالات وأراد المؤمنين الذين وقع منهم ذلك ليكون المنع أبلغ والنّهي أشد، هذا وقد مدح الله الذين يعرضون عن اللغو فقال جل قوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) الآية 3 من المؤمنين الآتية، وقال عز قوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) الآية 55 من القصص، وقال تعالى قوله (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية 72 من الفرقان المارتين في ج 1، هذا مطلق اللغو فكيف بما يقع في أمور الدين وفي الله وكتبه ورسله إذ يجب المنع منه باليد فإن لم يستطع فباللسان وعليه حالا ترك ذلك المجلس، فعلى العاقل

أن يتجنب اللغو ومجالسة أهله لئلا يعرض نفسه لما يكره في الدنيا والآخرة، واعلم أن النسيان الذي لا يكون مبعثه انشغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية مما لم يكن في الأفعال البلاغية والعبادات جائز بالنسبة لحضرة الرسول الأعظم أما النسيان الذي في الأقوال البلاغية والعبارات فهو مستحيل عليه وكذلك السهو والخطأ في شيء من ذلك فهو ممتنع في حقه قطعا، أما السهو والخطأ والنسيان في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ في الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة ولا ما يتعلق فيها وكل ما لا يضاف إلى وحي فهو جائز في حقه صلّى الله عليه وسلم إذ لا مفسدة فيه ولا يجوز عليهم أي الأنبياء أجمع خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا ولا خطأ لا في صحة ولا في مرض ولا في رضى ولا في غضب وهنا يؤول قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) الآية من سورة والليل المارة في ج 1 الذي استدل به بعض الشيعة على عدم جواز نسبة النسيان له مطلقا في كل ما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي لما فيه من المفسدة أما فيما عدا ذلك مما لم يؤد إلى إخلال بالدين فهو جائز وهذا هو القول الجامع بين قول أهل السنة والجماعة وبين إخوانهم الشيعة إذا فلا منافاة ولا اختلاف وهكذا الأنبياء كافة عليهم الصلاة والسلام. هذا وإن سيرة حضرة الرسول وحالته وكلامه وأفعاله مجموعة يفتى بها على ممر الزمان ويتناولها المؤمن والمنافق والمخالف والموافق والمرتاب والمصدق فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة واحدة ولو كان لنقل عنه كما نقل سهوه في الصلاة في قصة ذي اليدين وغيرها ونومه عنها وانشغاله في حادثة الخندق وكما نقل عنه استدراك رأيه في تلقيح النخل وقوله بعد ذلك أنتم أعلم بأمور دنياكم وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك من الاعتقادات في أمور الدنيا فلم يمتنع نسبتها إليه وإلى غيره من إخوانه الأنبياء عليهم السلام، ولهذا البحث صلة في الآية 53 من سورة الحج في ج 3، وفي الآية 121 من سورة طه المارة في ج 1 فراجعها، قال تعالى «وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ» قبائح أحوال الخائضين وأعمالهم «مِنْ حِسابِهِمْ» آثامهم التي يحاسبون عليها وجزاؤهم التي يعذبون بسببها «مِنْ شَيْءٍ» أبدا وجيء بمن لتأكيد الاستغراق إذا كانوا متقين ذلك «وَلكِنْ ذِكْرى»

أي عليهم أن يتذكروا ويتعظوا وينبهوا غيرهم ويمنعوهم بما أمكن من العظة ويظهروا لهم الكراهة ليتيقظوا «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» 69 ذلك الخوض ويتركونه وينفضوا عنه حياء أو كراهية لمساءتهم، نزلت هذه الآية لما قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطيع أن نجلس بالمسجد الحرام ولا نطوف بالبيت وإنا نخاف الإثم إذا لم ننهاهم فبين الله تعالى أن لا بأس لمن يتقي أعمال الخائضين والاكتفاء بتذكيرهم على ما يدل على المنع، هذا إذا كانوا في المسجد ولم يقدروا على منعهم أما في غير المسجد فعليهم ترك المكان الذي هم فيه إذا لم يقدروا على منعهم من الخوض، وهذه الآية محكمة لأنها خير من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ راجع الآية 41 من سورة يونس المارة، وغاية معناها أن كل إنسان مختص بحساب نفسه، وما قيل إنها منسوخة بآية النساء 14 في ج 3 لا وجه له لأن تلك مؤيدة هذه ومؤكدة لها باللفظ والمعنى وهي مدنية وهذه مكية تدبر، راجع تمحيص القول في هذا عند تفسيرها، ومن هنا يعلم كراهة جلوس المرء في المجالس التي يقع اللهو واللعب واللغو والرفث وغيره إذا لم يستطع النهي عنه، روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. أقول ولا ضرورة تقضي بأن يتصف الرجل بضعف الإيمان لأنه لا يقدر إلا على عدم رضاء قلبه في ذلك بل عليه أن يترك هذا المجلس على الأقل فإن بقائه مع عدم قدرته على النهي فعلا أو قولا رضاء به وبما يقع فيه والرضاء بالذنب ذنب كما أن الرضاء بالكفر كفر، لهذا فإن الأحسن للعاقل التقي أن يتجنب هكذا مجالس سوء ويحتفظ بقوة دينه إذ يجب النهي على القادر باللسان وإن لم يسمع منه لأن العمل ثمرة الإيمان وأعلى الإيمان النهي باليد حتى إذا قتل كان شهيدا، قال تعالى حاكيا حال لقمان (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) الآية 18 من سورته الآية إذ أمره بالصبر على ما يصيبه من جراء ذلك وإن النهي بالكلام قد ينال منه في هذا الزمن ما يفضي إلى التحمل

والصبر أو الإهانة والضرب فلذلك الأحسن بمقام الرجل الاعراض بالكلية ليدخل في قوله تعالى (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية 73 من سورة الفرقان في ج 1 وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 53 من سورة يوسف والآية 113 من سورة هود المارتين والآية 36 من سورة الإسراء في ج 1 وله صلة في الآية 3 من سورة المؤمنين الآتية وفي الآية 254 من سورة البقرة في ج 3 على أنه يكفي في هذا الباب الآيتان المفسرتان لمن كان له قلب حي وفي هذه الآية الثالثة الذي يقول الله جل جلاله فيها «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً» أعرض عنهم لا تخالطهم أبدا لأنهم جهلوا معبودهم الحق ولم يعرفوا قدرته «وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخرفها وخدعتهم بشهواتها وأطمعتهم في الباطل إذ غلب حبها على قلوبهم فأفقدتهم الوعي ومالوا عن السداد وانهكوا في الفساد والإفساد «وَذَكِّرْ بِهِ» يا سيد الرسل خاصتك وقومك واتلوه عليهم فإن فيه حياتهم وصلاحهم لاحتوائه على علوم الأولين والآخرين وأدم قراءته عليهم مخافة «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ» ترتهن وتستسلم قال زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع وقلبي مبسل علقا أي لئلا تحبس نفس «بِما كَسَبَتْ» من السوء فتهلك به وتحرم من الثواب في يوم «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» لأن كلا مشغول بنفسه فلا قريب ولا صديق ينفع ولا شفيع إلا بإذن الله لمن يأذن به ويرتضيه راجع الآية 28 من سورة الأنبياء الآتية، واعلم أن النفس الخبيثة لا مخلص لها من العذاب «وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ» تفتدي بكل فداء لننجو به من العذاب «لا يُؤْخَذْ مِنْها» ذلك إذ لا يقبل الفداء لو فرض أن هناك فداء ولكن لا فداء ولا يملك أحد شيئا لأن الملك كله لله، وسمي الفداء عدلا لأن الفادي يعدل المفدى بمثله «أُولئِكَ» المتخذون دينهم لهوا ولعبا المغرورون في الحياة الدنيا هم «الَّذِينَ أُبْسِلُوا» أسلموا أنفسهم للهلاك وحبسوها بالعذاب «بِما كَسَبُوا» من القبائح في دنياهم ولم يتورعوا حتى عن مجالسة الأشقياء «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 70» بسبب كفرهم الذي ماتوا عليه ولا وجه

[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 إلى 80]

لقول من قال إن هذة الآية منسوخة بآية السيف لأنها خارجة مخرج التهديد فهي على حد قوله تعالى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الآية 13 من سورة المدثر في ج 1، وان ما من شأنها ذلك لا يدخلها النسخ لأنها من قبيل الإخبار والإخبار لا يدخلها النسخ ولهذا فهي محكمة، قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المشركين الذين يدعونك لعبادة آلهتهم «أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا» ونترك النافع الضار «وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا» فنرجع إلى الشرك السافل لأن العقب مؤخر الرجل يقال رجع على عقبه إذا انثنى راجعا، أي أنرجع إلى الضلال «بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ» للإسلام أيكون هذا منا ونحن عقلاء فنصير «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ» خبطته «الشَّياطِينُ» المبثوثة «فِي الْأَرْضِ» وذهبت به في هوئها، والهوى النزول من الأعلى إلى الأسفل على غير انتظام فصار «حَيْرانَ» تائها لا يدري ما يعمل وهذا الممثل به «لَهُ أَصْحابٌ» رفقاء «يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى» لينقذوه مما هو فيه فيقولون له ائتنا» لتنجو وهو لا يأتيهم لاستيلاء الحيرة عليه، هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو لعبادة الأصنام ولمن يدعو لعبادة الملك العلام يقول فيه مثل هذين كمثل رجل في رفقة ضل عن الطريق المستقيم فطفق أصحابه ينادونه هلم إلينا لا تضل فتهلك، وشرع الشيطان يدعوه إليه ليوغله في الحيرة فاحتار إلى أين يذهب فإن أجاب الشيطان هلك وإن أجاب أصحابه نجى وفيها دلالة على وجود الغيلان المتعارفة على ألسنة العامة قديما وحديثا المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان راجع الآية 29 من سورة الأحقاف الآتية وما ترشدك إليها لتثق بوجود الجن وأنهم كالإنس، قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابنه عبد الرحمن إذ كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان بعد أن صار كامل الإيمان وأن أباه يدعوه للإسلام ليكون في المسلمين إمام وإن توجه الخطاب إلى سيد المخاطبين كان تعظيما لشأن ابي بكر فعلى فرض صحته لا يمنع أن تكون الآية عامة مطلقة لعموم لفظها لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا أن هذا القيل لا يوثق به إذ لم ينزل في عبد الرحمن قرآن كما سنراه في الآية 17 من سورة الأحقاف الآتية ومما يؤيد عمومها

مطلب في الصور وأن آزر هو أبو ابراهيم لا غير وما وقع له مع أبيه وقومه وملكهم:

ضرب المثل فيها إذ لا يتصور الرّد في الشرك منه رضي الله عنه كما لا يتصور لحضرة المخاطب في هذه الآية ان يدعو أحدا أو شيئا من دون الله وعليه يكون المعنى أيليق بنا معشر المؤمنين ذلك على طريق الاستفهام الإنكاري أي كلا لا يليق أبدا فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء التائهين الحائرين «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» الموصل إلى المطلوب الذي ما وراءه ضلال البته فاتبعوه أيها الناس تهتدوا فما بعده إلا الضلال فهلموا إليه لأنا الزمنا «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ» وننقاد «لِرَبِّ الْعالَمِينَ 71» لا لغيره ونخلص له العبادة وحده ونرفض ما سواه، قال تعالى «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليكم أيها المؤمنون «وَاتَّقُوهُ» أن يراكم ذلك الرب العظيم حيث نهاكم فهو الذي بدأ خلقكم «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 72» يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وهذا الإله الجليل الذي أنشأكم من لا شيء «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» خلقا متلبسا «بِالْحَقِّ» لا باطلا ولا عبثا «وَيَوْمَ يَقُولُ» أي اذكر يا محمد لقومك عظمته وقدرته وأخبرهم بأنه إذا أراد إيجاد شيء أو إعدامه يقول له «كُنْ فَيَكُونُ» حالا بين الكاف والنون «قَوْلُهُ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه ولا تخلّف له «وَلَهُ الْمُلْكُ» بما فيه فلا ترى في ذلك اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق من يدعيه وكل من كان له ملك في الدنيا من الجبابرة والملوك يتنصّل عنه إذ يكون الكل لله «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ويسمى بوفا وتسميه العامة (طواطه) مطلب في الصور وأن آزر هو أبو ابراهيم لا غير وما وقع له مع أبيه وقومه وملكهم: روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء اعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال ما الصور؟ قال قرن ينفخ فيه أخرجه أبو داود والترمذي وهو بلغة أهل اليمن ومن هنا اتخذه الملوك وجعلوا النداء به علامة على الجمع والطلب وغيره، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم وقد النقم صاحب القرن القرن وحنا جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله فقال كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول قال قولوا حسبنا

الله ونعم الوكيل على الله توكلنا، وهذا أحسن من تفسيره بأنه جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها لعدم ما يؤيده ولأن جمع الصورة صور بفتح الواو ولم يقرأ بهذه القراءة إلا قتادة راجع الآية 68 من سورة الزمر الآتية تجد ما يتعلق بهذا مفصلا، واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الكبير الفعال لذلك كله وكل شيء هو «عالِمُ الْغَيْبِ» الأسرار الخفية «وَالشَّهادَةِ» الأمور العلنية لا يخفى عليه شيء من أعمال وأقوال خلقه «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْخَبِيرُ 13» بما يصلحهم وما يفعلونه ويكتمونه لا يخفى عليه شيء أبدا «وَ» اذكر لقومك يا سيد الرسل «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ» قيل هذا لقبه واسمه تارخ مثل يعقوب وإسرائيل، وإنما سماه الله بلقبه دون اسمه لأنه مشهور به أكثر من الاسم وهذا أي كون آزر أباه لا عمه أصح ما قيل في هذا من أقوال كثيرة بدليل ما أخرج البخاري في افراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر فترة وغبرة، فلم يبق للقول بأنه عمه قيمة ما بعد صراحة القرآن والحديث وقد ثبت أن اسمه الشائع هو آزر كما جاء نصا لا تارخ كما يقال، ثم بين ما قاله لأبيه يقوله يا أبت «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» من دون الله الواحد «إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ» السائرين على سيرتك «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 74» ظاهر لا يخفى على أحد ممن له مسكة من عقل أو ذرة من إدراك فقال له إذا نحن في ضلال قال لأنكم تعبدون حجرا وأخشابا لا تضر ولا تنفع، وإنما ذكر الله تعالى حبيبه في هذه القصة توبيخا لقومه الذين يعبدون الأوثان وتعريضا للاحتجاج عليهم بها لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام المعظم لدى كل أمة «وَكَذلِكَ» مثل ما أريناه قبح الشرك وعرفناه فيه «نُرِي إِبْراهِيمَ» جاء بالظاهر بدل المضمر إذ صرح باسمه تعظيما له ولهذا لم يقل «مَلَكُوتَ» مبالغة ملك كالرحموت مبالغة الرحمة والجبروت والرهبوت والرغبوت مبالغة الجبر والرهبة والرغبة زيد في بعضها الواو والتاء وفي بعضها الواو فقط وفي بعضها التاء للمبالغة كما زيد في طالوت وجالوت وهاروت وماروت وأصلها الطول والجول وهار ومار أي تطلعه على ما في «السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من عجائب ولطائف وبدائع وذلك لما أراه الله تعالى أن أباه وقومه

على غير الحق انتقدهم وخالفهم فجزاه الله تعالى بأن فرج له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى إلى العرش والكرسي وفرج له الأرضين فنظر فيهن حتى أسفلهن ورأى ما فيهن من عجائب وبدائع أيضا ليطمئن بعلم ما فيهن «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75» بخالقهن إيقانا كاملا زيادة على إيقانه على حد قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية 135 من النساء في ج 3، واعلم أن الإيقان عبارة عن علم يحصل بالتأمل بعد زوال الشبهة لأن الإنسان أول أمره لا ينفك عن شبهة وشك فإذا كثرت الدلائل عليه وتوافقت البراهين وتطابقت الحجج صار سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب فيعلمه حسا كما علمه خبرا ويلمه فعلا كما تكلم به قولا ويراه عيانا كما سمعه بيانا، قال البغوي وروي عن سلمان ورفعه إلى علي عليه السلام قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر رجلا آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال تبارك وتعالى يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته وفي رواية وإن تولى فإن جهنم من ورائه وظاهر القرآن أن هذه الرؤية بصرية لا قلبية إذ لا يوجد ما يصرفها عن الظاهر الحقيقي ولا يجنح إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة تأمل قوله تعالى «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» أظلم وغطّى كل شيء بسواده لأن الجنّ في الأصل الستر عن الحاسة ولمّا أمعن عليه السلام النظر في السماء «رَأى كَوْكَباً» هو الزهراء لأنها من القدر الأول من حيث قوة نورها كالسماك الأعزل والدبرين راجع الآية 36 من سورة الحجر المارة تعلم هذا «قالَ هذا رَبِّي» يخاطب أهله وقومه ويستفهم منهم على طريق الإنكار والاستهزاء لأنهم كانوا يعبدون الكواكب وقد صنعوا لكل كوكب صنما بما يناسبه ووضعوها في بيت العبادة ليسجدوا لها ويطلبوا حاجتهم منها وكأنهم قالوا له إنه أحد الأرباب «فَلَمَّا أَفَلَ» غاب وتوارى «قالَ» لهم «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ 76» لأن حق الرب أن يكون باقيا أبدا حاضرا لإغاثة مربوبيه ثابتا لا يتغير لأن من يتبدل أو يتغير من حال

إلى حال أو يغيب كهذا لا يستحق العبادة فكيف تتخذونه ربا وهو يطرأ عليه ما يطرأ على المخلوق فلو كان ربا لصان نفسه من ذلك قالوا لنا رب أكبر منه «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً» طالعا خاطبهم أيضا «قالَ هذا رَبِّي» الذي تزعمون أنه أكبر من ذلك قالوا له نعم «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ» لهم هذا وذاك سواء وكل منهما لا يصلح للربوبية وإني «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي» إلى الطريق القويم المؤدي إلى معرفة حقيقته وهذا على حد قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) الآية 43 من سورة يس المارة في ج 1 أي لئن لم يهدكم ربكم وهو أبلغ في قبول الدعوة وهذا القول منه على سبيل إرخاء العنان مجاراة لأبيه وقومه المولعين بعبادة الكواكب لأن المستدل على فساد قول يحكيه أولا ثم يكر عليه بالابطال ثم نبه قومه بما خص به نفسه وعناهم بقوله جوابا لقسمه «لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77» إذا اتخذت ربا سواه لأن هذين الكوكبين لا تصلح للألوهية لأنهما مسيرتين مسخرتين فإذا اتخذتهما إلها فأنا ضال إذا يريد بهذا أباه وقومه، قالوا له إن لنا ربا أكبر وأكبر من هذين «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ» من الزهراء والقمر حقيقة «فَلَمَّا أَفَلَتْ» كالأولين وتوارت عن الأنظار ومحي نورها ولم يبق له أثر بعد غيابها «قالَ يا قَوْمِ» هذا أيضا ليس بإله لأنه اعتراه ما اعترى الأولين لذلك أقول لكم «إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 78» في الإله الواحد الذي لا يتغير ولا يطرأ عليه ما يطرأ على خلقه مما هو قابل للتحول والانتقال فيتأثر بعوامل طبيعية وغير طبيعية وقد نبههم على خطأهم هذا فيما يعتقدون ألوهيته تدريجا وأفهمهم بأنها غير صالحة للعبادة وأرشدهم إلى النظر والاستدلال واحتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع أن كلا منهما انتقال وتبدل من حال لآخر لأنه أبلغ وأظهر لكونه انتقال مع خفاء واحتجاب، والبزوغ انتقال مع وضوح وظهور، وقد أراد عليه السلام إبطال قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لوصرح لهم بالدعوة إلى الله رأسا لم يقبلوا ولم يلتفتوا إليه فمال إلى طريق استدراجهم لاستماع هذه الحجج لأنه ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان

مطلب القساوة المنطقية مطلوبة، وقصة إبراهيم، وجواز حذف حرف الاستفهام:

بالله وحده وموقن بأن هذه الكواكب مخلوقة لله لا تعبد ولا يليق بها أن تعبد وقصده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطال عبادتها ولما لم يقبلوا أعرض عنهم وقال معلنا براءته مما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان والكواكب مبينا الأسباب الداعية إلى عدم أهليتها للعبادة ومصرحا بعقيدته بقوله «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» شقهما بعضهما عن بعض وابتدعهما الذي دل عقلاء خلقه بتغيير الكواكب في السماء والأنهار في الأرض على أنه منشئهما وقادر على طمس الكواكب في السماء وتغوير الأنهار في الأرض «حَنِيفاً» مائلا عن كل ما تعبدونه وعن كل دين لا يكون مرماه عبادة الله الواحد الأحد «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 79» به غيره البتة، وما قيل إن مخاطبة إبراهيم بلفظ الضلال وغيره كانت بقصد إيذاء أبيه لا صحة له لأن مثله لا يجوز أن يقع منه مثل ذلك كيف وقد وصفه الله بالحلم والحليم لا يستفزه الغضب ولا يليق أن يصدر منه بل لا يجوز أن ينسب صدور الجفاء منه على أبيه بل لا يتصور إيقاعه على الغير منه، لهذا فإن هذا القيل مردود على أن ما صدر من إبراهيم عليه السلام على أبيه لا يعد من الإيذاء ولو فرض أنه نوع منه فلا يكون محرما لأنه لله وفي طريق الله ويقصد إرشاده إلى الله وما قصد به إلا نفعه وخيره ورشده لا إضلاله واحترامه لا إهانته، ولا يرد عليه أن موسى عليه السلام كلم فرعون باللين والرقة كما مر في الآية 44 فما بعدها من سورة طه المارة في ج 1 مراعاة لحق التربية وإبراهيم خاطب أباه بالخشونة والغلظة ولم يراع حق الأبوة لما ذكرنا ولم يذكر صاحب هذا القيل مخاطبته لأبيه في الآية 42 من سورة مريم فما بعدها المارة في ج 1 التي هي على غاية من اللين والأدب. مطلب القساوة المنطقية مطلوبة، وقصة إبراهيم، وجواز حذف حرف الاستفهام: هذا على أن الإنسان قد يقسو أحيانا على شخص لمنفعته وأي منفعة أكبر من الهداية إلى الله، هذا والأمور بمقاصدها والأعمال بالنيات قال أبو تمام: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من رحم

وقال المعري في هذا المعنى: اضرب وليدك وادلله على رشد ... ولا تقل هو طفل غير محتلم فربّ شق برأس جرّ منفعة ... وقس على شق رأس السهم والقلم وقال ابن خفاجه الأندلسي: نبه وليدك من صباه بزجره ... فلربما أغضى هناك ذكاؤه وانهره حتى تستهل دموعه ... في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه فالسيف لا يذكو لكفك ناره ... حتى يسيل بصفحتيه دماؤه هذا وكون الرفق أكثر تأثيرا على الإطلاق غير مسلم لأن المقامات متفاوته يدلك على هذا إرشاده تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم في دعاء قومه فمرة يقول له (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وتارة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقال لقمان عليه السلام ضرب الوالد ولده كالسماد للزرع، وقد أجاز الشارع ضرب الولد للتعليم ولكفه عن المساويء، حتى ان اليتيم الذي أرضى الله به يجوز ضربه لهذه الغابة، لأن المنهي عنه الضرب عبثا أو عدوانا، قال تعالى «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ» خاصموء في توحيد الله لما أظهر عيوب آلهتهم وصرح لهم بعقيدته وصدع بما أمره الله به «قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ» الحق الذي يجب أن يعبد «وَقَدْ هَدانِ» إلى سبيله المستقيم وتخوفوني بآلهتكم العاجزة المحتاجة لكم «وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» بإلهي القادر القوي المستغني عن كل شيء، وإن أوثانكم مهما بلغ أمرها لا وزن لها ولا قيمة عندي، لأنها أحجار وأخشاب من صنع أيديكم لا تقدر أن تدفع ضرا عن نفسها ولا تضر من يعتدي عليها ولا تنفع من يلتجىء إليها، وإني معتمد على ربّي لا أخاف من كل شيء تنصورونه أو تظنون أنه يوقع في مكروها أبدا «إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله رَبِّي شَيْئاً» من إضراري وإذلالي فهو وحده القادر على ذلك، وهو الذي يخاف ويخشى منه، وهذا الاستثناء منقطع لا علاقة له بما قبله، وإلا فيه بمعنى لكن «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» أي وسع علمه كل شيء لأن علما تمييز محول عن الفاعل، كقولك تفقأ زيد شحما أي تفقأ شحم زيد، فلا يخرج شيء عن علم الله، ولا يصاب أحد بشيء إلا بعلمه، فهو المحيط بكل شيء «أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ 80»

[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 إلى 90]

يا قوم فتميزون بين القادر والعاجز وتعلمون أن الضار والنافع هو خالق السموات والأرض وما فيهما «وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ» مع علمي أن الأمن والخوف من الله لا من أوثانكم «وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ» من لا يصلح للإلهية وإن الإشراك أعظم ذنب ارتكب على وجه الأرض، وإذا تدبرتم وتفكرتم علمتم أن هذا مما «لَمْ يُنَزِّلْ» الله تعالى «بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً» حجة ولا برهانا لأن الإشراك محض اختلاق وبهت خالص وكذب مفترى، وانكم تجرون الأمور معكوسة فتجعلون الأمن موضع الخوف والخوف موضع الأمن «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ» أنا أم أنتم نبئوني «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 81» علما حقيقيا يعرف به الحق من الباطل، ولم يقل فأيّنا احترازا من تزكية النفس ومن المكابرة في الرّد عليه عتوا وعنادا، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 24 من سورة سبأ الآتية، على أني أقول لكم إن الأحق بالأمن من العذاب «الَّذِينَ آمَنُوا» إيمانا خالصا «وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» بشرك، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين وقالوا أيّنا لا يظلم نفسه، فقال صلّى الله عليه وسلم ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية 13 من سورة لقمان الآتية، تدل هذه الآية على أن من مات لا يشرك بالله شيئا كانت عاقبته الأمن من النار أي من الخلود فيها، لأن العصاة لا بد وأن يطهروا من درن عصيانهم فيها، لأن من أسلم ولم يعمل خيرا ما ثم مات فجدير أن يدخل الجنة، لأن الإيمان يجب ما قبله «أُولئِكَ» المؤمنون الموصوفون «لَهُمُ الْأَمْنُ» من مخاوف الدنيا والآخرة «وَهُمْ مُهْتَدُونَ 82» بهداية الله إلى سبيل الرشد والسداد وهذا فضل من الله تعالى وقضاء بين إبراهيم وقومه، إذ بين فيه الذين يستحقون الأمن من الذين يستوجبون الخوف «وَتِلْكَ حُجَّتُنا» الإشارة إلى ما حاج به إبراهيم قومه بما صار له من الغلبة عليهم بحكم الله القائل «آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ» بإلهام ووحي منا وهي حجة واضحة دامغة أفحمتهم وأخرستهم لأنهم تكلموا معه عن جهل، وهو

خاطبهم عن علم «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» من عبادنا بالعلم والنبوة والحكم والحكمة «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ» برفعة من يشاء «عَلِيمٌ 83» بمن يؤهله لهذه الرفعة، فهو جل شأنه لا يفضل أحدا على غيره ولا يعزّ ولا يذل ولا يغني ولا يفقر ولا يصح ولا يمرض ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع إلا لحكمة، وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون أن نمرود بن كنعان أول من وضع تاج الملك على رأسه إذ لم يعرف قبله، وأول من دعا الناس إلى عبادته، ولم يعرف الناس قبله غير عبادة الله والأوثان، وكان له كهان ومنجمون أخبروه بأنه يولد ولد في بلده يكون هلاكه على يده وزوال ملكه، وكان هو رأى كوكبا طلع وقاد الشمس والقمر، فانتبه فزعا مرعوبا مما رأى، وقصها على السحرة والكهنة والمنجمين، فأولوها بما ذكروا له فأمر بعزل الرجال عن النساء وذبح كل من يولد ونصب حراسا على النساء والحبالى، وكانت أم إبراهيم صغيرة لا يظن فيها الحبل، ولما أتمت مدتها خافت على مولودها من الذبح فأخفت نفسها عن الحرس حتى إذا وضعته جعلته في نهر يابس خارج البلدة وخبأته بين الحلفاء وأخبرت زوجها بذلك، فذهب وحفر له سريا ووضعه فيه وسدّ بابه في حجرة خوفا عليه من السباع، وصارت أمه تتعاهده وتتردد عليه خلسة فترضعه وتنظفه وتتركه بمكانه وتعود لبيتها، وكانت تراه يمص إصبعيه فيخرج منها حليبا وعسلا وماء، وتراه يشب في اليوم ما لا يشبه غيره في الشهر، وهكذا جميع الأنبياء يكون نموهم واحدا وكلامهم مع أقوامهم واحدا وطريقهم مع ربهم واحدا، لأن إلههم واحد يرسلهم على نهج واحد ويلهمهم الحجج المتوانقة، كما أن رد أقوامهم عليهم متشابه، قالوا ولما كبر أخرجته أمه من الرب وجاءت به إلى المدينة وكان من يراه لا يظنه من المواليد الذين ولدوا بعد الأمر بذبح الأولاد لكبر جثته وحسن مخاطبته وفصاحة لسانه، وهذا من أسباب حفظ الله له ومن يحفظه لا خوف عليه من أحد البتة، وقد أمنت أمه وأبوه عليه لأن أحدا لا يشك أنه ولد بعد الأمر بذبح الأولاد، وقالوا فقال لأمه ذات يوم يا أماه من ربي؟ قالت أنا، قال وأنت من ربك؟ قالت أبوك، قال ومن رب أبي؟ قالت له أسكت وأخبرت زوجها، وقالت لا شك

إن هذا المولود هو الذي أخبر عنه الكهنة بأنه يغير الدين ويسلب الملك من الملك، وهو المقصود في الرؤيا التي رآها الملك وعبرها له المنجمون والسحرة، فجاء إليه أبوه وقال له يا بني إن ربي الذي سألت عنه أمك هو النمروذ، قال ومن رب النمروذ؟ فاطمه وقال له أسكت، وصارا دائما يحذرانه من أن يتكلم بذلك لئلا يصاب بسوء من قبل الملك، وحذرا من أن يفسد دينهم وبسبب هلاك الملك وضياع الملك كما أخبر الكهنة، ثم صنع له أبوه أصناما من حجر وأعطاه إياها ليبيعها في السوق، فأخذها وصار ينادي من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه، وصار يسخر ويستهزىء بها، فلما رآه أبواه كذلك أخذا منه الأصنام وحذراه من الطعن بها لئلا تمسه بسوء أي جنون، ووضعاه في بيت فيه صنم عظيم ليستأنس به ويتمرن على عبادته، ورغباه بذلك، ولما رأى إصرارهم عليه بملازمة الصنم ترك أمه وأباه وصار يتفكر في مخلوقات الله ويتدبر في تكوين السموات والأرض والطير والحوت والحيوان والجماد ويهزأ بما عليه أبواه وقومه من توغلهم في عبادة الأصنام والكواكب، ولم يزل يتحمل أبويه ويرفض عبادة الصنم الذي أمراه به ويعتبر بما في الكون من آيات وعظات حتى شرفه الله بالنبوة، فأراد أن يبين لهم أن هذه الكواكب والأصنام المنكبين على عبادتها ليست بشيء ولا تصلح للعبادة، لأن الكواكب من صنع الله الواحد والأصنام من صنع أيديهم وأنها لا تستحق العبادة، وكذلك الشمس والقمر والكوكب ليست بآلهة، فاجتمع بقومه ذات ليلة وخاطبهم بما قصه الله علينا من الآيات المارة، وكانت كلها في ليلة واحدة لأن القمر كان متأخرا عن أول الليل فاحتج عليهم بالزهراء إذ كانت مشرفة على المغيب، وبعد غيابها احتجّ عليهم بالقمر، ولما طلعت الشمس غطت نوره فاحتج عليهم بذلك على طريق التقريع والتوبيخ، فأراهم النقص الداخل على الزهراء بغيابها وعلى القمر بتغطية نوره بالشمس حتى صار كأن لم يكن، ولما قالوا له هذا الإله الأكبر يعنون الشمس قال مصيرها كذلك، وعلموا أنهم إذا أنكروا عليها الأفول وقت القول فإنها تغيب حتما بالمساء، فكتوا وبهتوا من قوة حجته، وقد أثبت خطأهم في اعتقادهم إلهيتها، وبين لهم عدم صلاحيتها للعبادة، وأن الذي يجب أن يعبد هو الذي لا يفنى ولا يغيب، وأن الكواكب والأوثان

عليها علائم النقص بادية والإله لا يكون إلا كاملا من كل وجه، وأنه عليه السلام لم يقل لهم (أهذا ربي) بحرف الاستفهام لأن العرب تكتفي بنغمة الصوت عن حرف الاستفهام، وأن الأنبياء كلهم يحسنون اللغة العربية، ولم ينزل وحي إلا بها، كما أشرنا إليه في المقدمة، وأنهم يسقطون حرف الاستفهام لهذه النكتة، ومثله في القرآن كثير منه (فَهُمُ الْخالِدُونَ) الآية 34 من سورة الأنبياء الآتية، ومنه (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) الآية 10 من سورة البلد المارة في ج 1، ومنه (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) الآية 87 من سورة هود المارة، ومنها (تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ) الآية 32 من سورة الشعراء المارة في ج 1، وغيرها كثير، وفي أقوال العرب كثير أيضا فمنه قوله: ثم قالوا تحبّها قلت بهرا ومنه: فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وستأتي تتمة هذه القصة في الآية 83 فما بعدها من سورة الصافات الآتية إن شاء الله، وإنما فعلنا ذلك أي لم نأت ببعض القصص كاملة حذرا من التكرار لأنا إذا اكملنا كل قصة عند ذكرها يحصل تطويل وملال، وإذا أتينا بها تدريجا كنا قد أوفينا بوعدنا من عدم التكرار إلا لحاجة ماسة وأبقينا القارئ يتشوق لإكمالها وسيأتي في الآية 288 من البقرة في ج 3 ما يتعلق ببقية قصص إبراهيم مع قومه، ومع ربه، ومع النمروذ قبل إلقائه في النار، وبعد تكسير الأصنام، فراجعها. قال تعالى بعد أن أظهره ونجاه وأهلك عدوه وأمره بالهجرة إلى الأرض المقدسة «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ» وهبنا لإسحق «يَعْقُوبَ» حفيدا لإبراهيم بحياته، وفي هذه الآية بشارة من الله بطول عمر إبراهيم بحيث يبقى حيا حتى يكبر ويزوج ابنه إسحق ويولد له ولدا ليراه «كُلًّا هَدَيْنا» إلى طريقنا المستقيم إذ جعل فيهم النبوة والكتاب «وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ» إبراهيم وولده وحفيده لأنه هو أبو البشر الثاني على القول بأن دعوته شملت كل من على وجه الأرض والغرق عمها كلها وهو القول المعتمد المناسب لظاهر القرآن والأولى من غيره راجع الآية 25 فما بعدها من سورة هود المارة وما ترشدك إليه «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» ذرية نوح

إذ عد يونس ولوطا وهما ليسا من ذرية إبراهيم، أمّا «داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ» فكلهم من ذريته «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 84» كما جزينا إبراهيم وآله «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى» من ذريته أيضا. ومن هنا استدل بجواز النسب للأم، ولما أنكر الحجاج كون أولاد فاطمة رضي الله عنها أولاد محمد صلّى الله عليه وسلم أفحم في هذه الآية، إذ ذكر عيسى في عداد الأنبياء المنسوبين إلى إبراهيم، لأن أمه منهم وألقمه الحجر وأنه سيلقمه في سقر إن لم تشمله الرحمة «وَإِلْياسَ» ابن سنا بن فتحاص بن العيزار بن هارون، وقد أخطأ من قال إنه إدريس جد نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام «كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ 85» لرسالتي وهداية الخلق «وَإِسْماعِيلَ» أخّره مع أنه أخو إسحق إذ ذكر إسحاق وأولاده وأحفاده على نسق واحد، ثم إسماعيل لأنه لم يأت منه ولد نبي غير محمد صلّى الله عليه وسلم فيكون أولى بالترتيب، وهؤلاء كلهم من ذرية إبراهيم «وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً» من ذرية نوح وإبراهيم من ذريته أيضا، وإنما سمي إبراهيم أبا الأنبياء لأن الأنبياء الذين جاءوا بعده كلهم من ذريته أما لوط فكان معاصرا له وهو من ذرية نوح «وَكلًّا» من هؤلاء الصالحين «فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ 86» جمع عالم وهو اسم لكل موجود سوى الله. واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآية ثمانية عشر نبيا لا بحسب الزمان والفضل، لأن العطف جاء بالواو وهو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، بل ذكر أولا أصول الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب، ثم أهل الملك والسلطان وهما داود وسليمان، ثم أهل الصبر أيوب وممن جمع بين الصبر والملك وهم يوسف وموسى وهرون، ثم أهل الزهد وهم زكريا وعيسى ويحيى وإلياس، ثم من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط، قال تعالى «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» من هنا للتبعيض إذ لم يكن كل آبائهم وأبنائهم أنبياء وصالحين، ولم يولد لكل منهم «وَإِخْوانِهِمْ» الذين على نهجهم القديم «وَاجْتَبَيْناهُمْ» للنبوة والرسالة «وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 87» هو الدين الحق الموصل لخير الدنيا والآخرة، وهذه الآية تدل على أن سعي الغير ينفع كما نوهنا به في الآية 39 من

سورة والنجم في ج 1 ومثلها الآية 20 من سورة الطور الآتية «ذلِكَ» الذي دان به هؤلاء الكرام هو «هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين قدر لهم السعادة الأبدية في الأزل «وَلَوْ أَشْرَكُوا» على فرض المحال والتقدير الباطل «لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 88» من الطاعات وبطل ثوابها، قال تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 65 من الزمر الآتية، مع أن الإشراك مستحيل بحقه مقضى باستحالته أزلا، يعني أن الأنبياء على ما هم عليه من الفضل والقرب لو فرض أنهم حادوا عن طريق الصواب لأبطل عملهم وخسروا الدنيا والآخرة واستحقوا العذاب، فكيف بغيرهم ممن هم بعيدون عن الله بعيدون عن الخير «أُولئِكَ» المحسنون المهديون هم «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها» بالكتاب والحكم والنبوة أو بأحدها «هؤُلاءِ» المتلو عليهم وحينا هذا من قومك يا أكرم الرسل «فَقَدْ وَكَّلْنا بِها» الثلاثة المذكورة «قَوْماً» عظاما شرفاء وهم الأنبياء وأتباعهم الصادقون الذين قدرنا لهم في أزلنا أنهم «لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ 89» أبدا يدل على هذا قوله تعالى «أُولئِكَ» الموكلون هم «الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» ومن يهد الله فلا مضل له البتة «فَبِهُداهُمُ» يا سيد الرسل «اقْتَدِهْ» أثبت الهاء هنا استحسانا لإيثار الوقف، وقرأ حمزة وعلي بلا هاء، أمر الله جل أمره في هذه الآية رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم أن يقتفي آثار الأنبياء بأصول الدين الثلاثة التوحيد والإيمان بالنبوة والبعث بعد الموت، فهؤلاء فيها الهدى والخير لكلل الأنبياء وأتباعهم، وليس القصد اتباع شرايعهم لأنها مختلفة في الفروع وشريعته صلّى الله عليه وسلم نسختها، وما قيل إن المراد بالموكلين هم الملائكة لا يصح، لأن لفظ قوم لا يطلق عليهم بل هو خاص ببني آدم، وفي هذه الآية دليل على أن الله تعالى ينصر نبيه محمدا ويقوّي دينه ويجعله غالبا على الأديان كلها، وقد جعله والله فتكون هذه الآية من الإخبار بالغيب، أما تأخر نفوذ هذا الدين في هذا العصر فبسبب تأخر أهله عن القيام به وأنهم إذا عادوا إليه وتمسكوا به كما كان فإن الله تعالى لا بد وأن يعيد لهم الشوكة والغلبة على سائر أهل الأديان، كيف وقد قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 47 من سورة الروم الآتية،

مطلب عموم رسالته صلى الله عليه وسلم والآية المدنية وبحث في النسخ:

وقال جل قولهَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية 113 من سورة الصافات الآتية وغيرها من الآيات والأحاديث المؤيدة لها قال صلّى الله عليه وسلم: لازلتم منصورين مادمتم متبعين سنتي، فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم. وسنأتي على هذا البحث عند تفسير الآيتين المذكورتين بصورة مفصلة إن شاء الله، فيا سيد الرسل «قُلْ» لقومك إني «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» على تبليغكم وحي ربي وإرشادكم بقوله ونصحي لكم بما هو خير لكم في دنياكم وآخرتكم «أَجْراً» جعلا أو مالا أو شيئا آخر إنما أجري على ربي «إِنْ هُوَ» ما هو الذي أبلغكم إياه «إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ 90» ومن حق التذكير بالله والهداية إليه أن تكون مجانا لئلا يتهم الداعي إليها بأن قصده عرض الدنيا وليتمحض عند السامع إخلاصه. مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم والآية المدنية وبحث في النسخ: وتدل هذه الآية على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، لأن لفظ العالمين يشملها كما في الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1، وتدل على فضله على سائر الأنبياء، لأنه اتصف بجميع خصالهم من احتمال الأذى ومجاهدة النفس والصبر على البلاء والمحن وقتال البغاة وإظهار المعجزات والاتصاف بالزهد والوفاء بالعهد والوعد والصدق والإخبات والنبوة والرسالة والملك، ولهذا أمره الله أن يقتدي بهم جميعا إذ لم يترك خلة من خلالهم ولا خصلة من خصالهم ولا شيئا من أخلاقهم إلا اتصف بها وتأدب بتأديب ربه وزاد عليهم بالشّرف برؤية ربه وباخمس المذكورة بالحديث الصحيح الذي أثبتناه في الآية 159 من سورة الأعراف ج 1، وقد أسهبنا فيها البحث عن هذا فراجعها، وهذه الآية المدنية الثالثة، قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» وما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه «إِذْ قالُوا» أي اليهود «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» وحي ولا كتاب إلى أحد من خلقه، قال ابن عباس: قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم فقالوا والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله تكذيبا لهم وألزمهم الحجة بقوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى» إليهم «وجعله نورا وهُدىً لِلنَّاسِ» من بني إسرائيل

فمن بعدهم حتى بعثتك، فما هذا الإنكار والمكابرة والعناد وقل لهم يا محمد «تَجْعَلُونَهُ» أي ذلك الكتاب العظيم «قَراطِيسَ» متقطعة وأوراقا متفرقة تثبتون فيها ما يوافقكم منها فتظهرونه وهو معنى قوله تعالى «تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» منه مما لا يوافقكم إظهاره مما فيه نعت محمد وما جاء به من الأحكام في القرآن المنزل عليه وما قصصناه فيه من القصص الموجودة في التوراة «وَعُلِّمْتُمْ» بسببه من أمور الدين والدنيا «ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» الأقدمون، وقد أنزلناه على نبيكم جملة واحدة حاويا على ذلك كله «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المتعنتين الذين فرقوا كتابهم بحسب أهوائهم إن القرآن الذي جئتكم به أنزله «اللَّهَ» الذي أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من بعده وقد كذبتم به أيضا وجحدتم نبوته «ثُمَّ ذَرْهُمْ» بعد أن تذكر لهم هذا «فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91» بالباطل ويستهزئون بالحق لأن الله طبع على قلوبهم فلا فائدة من إتعاب نفسك معهم، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا مبرر له لأنها عبارة عن تهديد ووعيد، وكل آية مقرونه بشيء من هذا لا يتصور نسخها، فرحم الله علماء الناسخ والمنسوخ كم تغالوا في النسخ حتى على ما هو في الحقيقة محكم، على أنه لا نسخ في كتاب الله هذا بالمعنى المراد من قبلهم وهو ناسخ لغيره من الكتب والصحف المتقدمة عليه، وباق حكمه ما بقي الملوان، وما يعبرون عنه بالنسخ عبارة عما فيه من آيات عامة ومطلقة قيدت وخصصت بآيات أخر، وما فيه من التدريج في الأحكام مما يوافق مصلحة الخلق في الحال والمستقبل، راجع ما بيناه في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ، وللبحث صلة في الآية 106 من سورة البقرة في ج 3، كما أننا ألمعنا إلى أن كل آية قيل إنها منسوخة بما يرد ذلك القيل عند تفسيرها والله ولي التوفيق، قال تعالى «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ» عليك يا محمد «مُبارَكٌ» ميمون لمن نمسك به وهو «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من التوراة والإنجيل والكتب والصحف الإلهية المشتملة على توحيده وتنزيهه والتبشير والإنذار «وَلِتُنْذِرَ به أُمَّ الْقُرى» أهل مكة من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بدليل قوله «وَمَنْ حَوْلَها» من أطرافها الأربع فتشمل جميع المدن والقرى التي على وجه الأرض

لأنها لا بد وأن تكون بجبهة من أطرافها بعدت أو قربت، لذلك فلا دليل فيها لمن زعم أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب الذين في مكة وجوارها، وإنما سميت أما لأنها قبلة أهل الأرض أجمع فعلا لأمة الإجابة وبالقوة لغيرهم لأن الكل أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وهذا تأييد للرد على اليهود بأنه إذا كان الله تعالى أنزل التوراة على موسى ولا سبيل لإنكارها، فلم لا يجوز إنزال القرآن على محمد وكلاهما مرسل من الله؟ وفي إنكارهم إنزال القرآن إنكار الإنجيل أيضا لأنهم ينفون نزول شيء بعد التوراة من قبل الله على أحد من رسله وقد كفروا بعيسى عليه السلام فضلا عن إنكار كتابه، قاتلهم الله وغضب عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» البعث بعد الموت والحساب والجزاء والثواب والعقاب «يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي القرآن لأن أصل الدين الخوف من العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن بالله «وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ 94» خص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان، فمن حافظ عليها فهو على غيرها أحفظ، وهذه الآية المدنية الرابعة قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» كهؤلاء اليهود المنكرين نزول القرآن والإنجيل على محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ومن هؤلاء الظالمين مالك بن الصيف وأضرابه من اليهود «أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ» من الله بشرع وحاشا الله القائل «وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ» كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي الذين ادعيا النبوة في زمنه صلّى الله عليه وسلم وعموم الآية يشمل كل من تجرأ على ادعاء النبوة بعده أيضا إلى يوم القيامة لأن الله تعالى ختم النّبيين به فكل ادعاء وقع أو يقع في هذا الشأن فهو زور وبهتان وإفك «وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» أي أنه قادر على مثل ذلك، وهؤلاء كالذين قالوا كذبا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية 31 من الأنفال في ج 3، ومثله الطاعن في نبوته صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن أبي سرح الذي أملى عليه صلّى الله عليه وسلم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إلى قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) الآية 14 من سورة المؤمنين الآتية، فعجب من ذلك وقال إنه وقع في قلبه لزيادة تفكره فيها (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأجراها على لسانه فقال له صلّى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت، فشك وقال إن كان محمد صادقا

فقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا فقد قلت كما قال، فارتد ولحق بمكة. وهذه الحادثة وقعت في المدينة بدليل قوله املى وقوله صلّى الله عليه وسلم هكذا نزلت، أي قبل لا ان نزولها بمكة، بل كان نزولها بالمدينة قبل إملائها عليه، وإلا لتلاها حضرة الرسول أولا، ثم أملاها عليه دفعة واحدة، ويؤكد هذا قوله ولحق بمكة، فيكون هذا سببا لنزول هذه الآية، وذلك أن مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة الملقب بالكذاب ادعى النبوة باليمامة وزعم أن الله أوحى إليه، وكان صاحب نيرجات وكهانة، والأسود العنسي عبهلة بن كعب ذو الخمار ادعى النبوة باليمن وتبعه جماعة من قومه، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل إليهما وأمر بقتلهما فقتل الأسود فيروز الديلمي قبل وفات النبي صلّى الله عليه وسلم بيومين، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه بقتله قبل ورود خبره، وقال لهم فاز فيروز، وأما مسيلمة فقتله وحسني قاتل حمزة بن عبد المطلب في خلافة أبي بكر رضي الله عنهم، وكان يقول قتلت خير الناس وأنا كافر يعني حمرة، وقتلت شرّ الناس وأنا مؤمن يعني مسيلمة، وكل هذا يؤيد أن هذه الآية مدنية كما ذكرنا أول السورة وهو الصحيح، لأن هذه الحوادث أي قول مالك ابن الصيفي وادعاء مسيلمة والأسود كلها وقعت في المدينة، ومن قال إن هذه الآية نزلت بمكة لم يحقق عن تاريخ هذه الحوادث ومحلها، ولم يقف على أن هذه الآية مستثناة من هذه السورة فقال إنها مكية، ولما لم ير بدا من نفي أسباب نزولها قال إنها من الإخبار بالغيب، وليس بشيء، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سوارين من ذهب، فكبرا علي وأهمّاني، فأوحى الله إلي ان انفخهما فنفختهما فطارا، (وفي رواية انفحهما بالحاء لا بالخاء من النفخ وهو الرمي والدفع والرمح تقول نفحت الدابة برجلها أي رمحت ورفست، والمعنى قريب من الأول) فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة، والمعنى لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم خطأ ولا أجهل فعلا ولا أقل عقلا ممن اختلق شيئا من الأشياء الثلاثة المذكورة في هذه الآية، وهي عامة في كل من يزعم هذا الزعم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال تعالى «وَلَوْ تَرى» يا سيد الرسل «إِذِ الظَّالِمُونَ»

أمثال هؤلاء وغيرهم «فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ» سكراته وشدائده حين نزع أرواحهم «وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ» إليهم يقولون لهم توبيخا وتقريعا هلموا «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» من أجسادكم قسرا، وهذا القول عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال، وإلا فلا حاجة لهذا القول ولو كان بأيديهم منه شيء ما فعلوه، لأن روح الكافر ثمينة عنده فلو قدر على تأخيرها أو عدم إخراجها من جسده لحظة واحدة بما يملك في الدنيا لفعل، ثم قال تعالى «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» المهانة والمذلة وقت الإماتة «بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» من أمثال الأقوال المتقدمة من الإنكار والتكذيب والجحود والإشراك «وَ» بما «كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 93» عن قبولها وتأنفون من سماعها بدلا من أن تصدقوها وتؤمنوا بها، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، انتهت الآية المدنية الرابعة. قال تعالى مخاطبا جميع خلقه في موقف الحشر يذكرهم أن حالتهم هذه أول يوم ورودهم الآخرة تشبه حالتهم أول يوم قدومهم إلى الدنيا بقوله عز قوله «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى» وحدانا لا مال معكم ولا ولد ولا لباس ولا نشب «كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» في الدنيا إذ جئتم إليها كذلك، لأن هذا الخطاب بعد البعث وهو خلق ثان «وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ» أعطيناكم في الدنيا من الأموال والأولاد والخدم والسلطة والجاه وملكناكم العقارات ومكناكم من استغلال ما في الدنيا «وَراءَ ظُهُورِكُمْ» أبقيتم كل ذلك في الدنيا الكائنة الآن وراءكم، لأن ما الدنيا لا يكون للآخرة «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ» من الملائكة والإنس والكواكب والأصنام «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» وأنتم في الدنيا «أَنَّهُمْ فِيكُمْ» في استبعادكم «شُرَكاءُ» معنا وكنا أخبرناكم على لسان رسلنا أنهم ليسوا بشيء وأنهم من خلقنا ومن صنع أيديكم الذي هو أيضا من خلقنا «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» بالنصب أي تقطع الوصل بينكم على إضمار الفاعل، وقرىء بضم النون على أنه فاعل بمعنى وصلكم، لأن البين من أسماء الأضداد فيكون بمعنى الهجر وبمعنى الوصل قال: فو الله لولا البين لم يكن هوى ... ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف

مطلب الدلائل على قدرة الله ومنافع الخلق فيها ومعنى المستقر والمستودع وأصل الخلقة:

فقد جاء بمعنى الوصل وبمعنى الهجر فيه «وَضَلَّ عَنْكُمْ» غاب وضاع وبطل «ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 94» فيهم في الدنيا من الشفاعة والنفع وزعم هنا نعى في الباطل وقد تستعمل في الحق، قال فيه: تقول هلكنا إن هلكت وإنما ... على الله أرزاق العباد كما زعم وقد مر في الآيتين 80/ 95 من سورة مريم في ج 2 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 57 من سورة الكهف الآتية فراجعها، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة عزلا (خلقا) قال تعالى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) الآية 104 من سورة الأنبياء الآتية. ورويا عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: تحشر الناس حفاة عراة عزلا، قالت عائشة فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك. وفي رواية الطبري عنها قالت واسوءتاه إن النساء والرجال يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال صلّى الله عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض. مطلب الدلائل على قدرة الله ومنافع الخلق فيها ومعنى المستقر والمستودع وأصل الخلقة: ثم شرع جل شأنه يعدد دلائل وجوده وكمال عظمته وقدرته وجليل حكمته بقوله عز قوله «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ» شاقه عن النبات لأن الحبة حينما تزرع يخرج من شقها الأعلى النبات الصاعد في الهواء الذي يصير فيه السنبل ومن شقها الأسفل العروق التي تغوص في الأرض ولولا ذلك لما ثبت نبات «وَالنَّوى» عن النخل وشبهه هكذا أيضا، وهو جل خلقه «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» كالإنسان من النطفة والفرخ من البيضة «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة عكس الجملة المعطوفة عليها، لأن مخرج معطوف على خالق وهو بيان له، لأن خلق الحب اليابس وإخراج الحنطة والشعير والذرة والعدس وغيرها منه، وفلق النوى اليابس وإخراج الرطب والخوخ والمشمش والاجاص وغيرها

منه من جنس إخراج الفرخ من البيضة والبيضة من الدجاجة، لأن النّامي من النبات في حكم النامي من الحيوان، فسبحان من أخرج من الحب والنوى نباتا وأشجارا صاعدات في الهواء وعروفا وجذورا ضارية هاوية في الأرض، وخلق من نطفة صغيرة حيوانا عظيما، مما يدل على كمال قدرته وعظيم حكمته، وتنبيها للغافل على أن القصد معرفته بصفاته وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها وصانع العجائب وبارئها لا عن مثال سابق، وأنه هو وحده المستحق للعبادة المنزه عن الشريك والمثيل تعالى الله عما يصفه الكفرة «ذلِكُمُ» أيها الناس الفعّال لذلك، الخلاق لكل ما هنالك «اللَّهَ» الذي لا إله غيره «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 95» وتصرفون الحق إلى الباطل والصدق إلى الكذب، فتعبدون الأوثان وتتركون الملك الديان، وفي هذه الآية دليل على البعث بعد الموت باعتبار ما يشاهدونه من خلقه ليعلمهم فيه أن الذي يخلق هذه الأشياء العظيمة من تلك الأشياء التافهة قادر على بعثهم بعد موتهم، وإنما جاء بهذا الدليل والأدلة الآتية تنبيها على أن المقصود والأصل من كل بحث عقلي أو نقلي هو معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله، وهذا الدليل الثاني المبين بقوله «فالِقُ الْإِصْباحِ» بكسر الهمزة جمع صبح بضم الصاد، أي مظهر نورها من سواد الليل وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح بفتح الصاد قال امرؤ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل بكسر الهمزة على الأول وقال الآخر: أفنى رباحا وبني رباح ... تناسخ الأمساء والأصباح على الثاني والأول أولى لأنه أكثر استعمالا «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» لخلقه وراحة لهم من كدّ المعيشة إلى النوم «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» جعلهما «حُسْباناً» معينا لا ينخرم على مر العصور «ذلِكَ» العلم بالحساب الحاصل من سيرها «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ» الغالب عليهما الذي سخرهما قهرا «الْعَلِيمِ 96» بما يؤول إليه أمرهما وما ينشأ عنه من منافع للعباد والدليل الثالث قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها» إلى الطرق التي تقصدونها «فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» فإذا ضللتم الجهة المطلوبة وتحيرتم ونظرتم إليها عرفتم القبلة من الشمال

والشرق من الغرب فتستدلون على ما أنتم ذاهبون إليه «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ» الدالة على وحدانيتنا ومنافع خلقنا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 97» أن ذلك مما يستدل به على كمال القدرة ورأفة الرب بخلقه. والدليل الرابع قوله جل قوله «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» نفس آدم عليه السلام إذ خلق منه حواء زوجته ومنها تناسل البشر كله، فتنبه أيها العاقل واحذر من قول الجاهل الذي زعم أن أصل البشر القرد، وما يزعم هذا الزعم إلا ذوو النفوس الخبيثة الشاكين في القدرة الإلهية، واعلم أن الخلق كله من بعد آدم «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» أي أن كل نفس لها قرار في الأرض وفي الرحم ومستودع في الأرض وفي الصلب لأن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمنا طويلا ويبقى الجنين في بطن أمه مدة طويلة «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ 98» خصهم بالفقه لأن الدلالة هنا أدق من الدلالة في الآية التي قبلها المختومة بلفظ (يعلمون) لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريف البشر بين أحوال مختلفة أدق من الاهتداء بالنجوم المتوقف معرفتها على علم الفلك، وما جرينا عليه هنا هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حبرتيما سأله عن المستقر والمستودع فأجابه بما ذكرناه، وهو مؤيد بقوله تعالى (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) الآية 5 من سورة الحج في ج 3، وقال جماعة من المفسرين: إن الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض والاستيداع في الأرحام أو في القبر وجعلوا الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فاشبهت الوديعة فكأن الرجل أودعها ما كان عنده وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني ولأن الصلب مقر طبيعي للنطفة ووجه الأرض مقر طبيعي للإنسان والرحم مستودع طبيعي للنطفة والقبر مستودع طبيعي للإنسان وليسا بمقر طبيعي لها والأول أولى وعليه الجمهور، قال الألوسي: وأنا أقول لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم المشار إليه في الآية 872 من سورة الأعراف المارة في ج 1 وأشهدهم على أنفسهم بأخذ الميثاق منهم وكان ما كان.

مطلب نبذة فيما يتعلق بالرابطة لدى السادة الصوفية تابع لما مر في الآية 57 من الإسراء في ج 1:

ردّهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله ذلك وقد أطلق ابن عباس رضي الله عنهما اسم الوديعة على ما كان في الصلب صريحا فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس أتزوجت؟ قلت لا وما ذاك في نفسي اليوم قال إن كان في صلبك وديعة فستخرج، وروى تفسير المستودع في الدنيا والمستقر في القبر عن الحسن وكان يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وأنشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع وقال سلمان بن زيد العدوي في هذا فجع الأحبة بالأحبة قبلنا ... فالناس مفجوع به ومفجع مستودع أو مستقر قد خلا ... فالمستقر يزوره المستودع وقال أبو مسلم الأصفهاني: المستقر الذكر والمستودع الأنثى، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 90 من سورة مريم المارة في ج 1 والآية 4 من سورة هود المارة فراجعها تعلم أن كل إنسان مستقر من جهة، مستودع من أخرى لأنه استقر فيه شيء ممن قبله فصار مستودعا عنده لمن بعده وهكذا من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الأرض من عليها بإرثها ولهذا قالوا إن لكل نسمة حظا من نشأة آدم عليه السلام على طريق التسلسل حسا وقد يكون معنى مطلب نبذة فيما يتعلق بالرابطة لدى السادة الصوفية تابع لما مر في الآية 57 من الإسراء في ج 1: ومن هنا يعلم أن نظر المريد الصادق إلى شيخه الكامل نظر إلى وجه الصديق رضي الله عنه لأن شيخه كان نظر إلى شيخه فسطع على وجهه من نوره وهكذا شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا فيصير كل منهم آخذا ومعطيا فيكون لكل حظ منه وهو مقتبس من مشكاة النبوة المستفيض من الحصرة الإلهية فنال نصيبه منه أيضا، وعلى هذا اتخذ السادة الصوفية الرابطة فجعلوها من شروط أورادهم التي يلقنونها إلى المريد واقتبسوها من قوله تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) الآية 38 من سورة المائدة في ج 3 وسنبين فيها إن شاء ما يقتضي لهذا البحث، ومما يؤيد هذا هو قول المصلي

في التحيات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله بأنه يستلزم تشخيص حضرة الرسول عند ذلك لتصح الإشارة كما سنبينه في تفسير آية المائدة المذكورة إن شاء الله بصورة أوضح وقد مر في الآية 57 من سورة الإسراء ما يتعلق بهذا البحث فراجعه في ج 1. والدليل الخامس قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» جاء على الغيبة ثم التفت جل شأنه إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» عمم جل وعلا ثم فصل فقال (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ» أي النبات «خَضِراً» شيئا غضا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبّة «نُخْرِجُ مِنْهُ» من هذا الخضر «حَبًّا مُتَراكِباً» بعضه على بعض كسنبلة الحنطة والأرز وعرنوس الذرة وشبهها «وَمِنَ النَّخْلِ» وأبدل منها قوله «مِنْ طَلْعِها» لأن النخل يخرج منها الطلع ويخرج الثمر من الطلع «قِنْوانٌ» بكسر القاف غدوق جمع قنو كصنو وصنوان ويجوز فتح القاف وضمه، ولا يوجد في اللغة مثنى مفرد ويستوي فيه مثناه وجمعه إلا خمس أسماء: قنو وصنو ورئد بمعنى مثل وشقو وحش بمعنى الثعبان، ولا يفرق بين جمعه ومثناه إلا الإعراب، وقال الرازي في تفسيره إن المثنى منه بكسر النون، وبهذا يكون الفرق بين جمعه وتثنيته بالحركة «دانِيَةٌ» لمن يجتنيها ويقطفها لأنها تثقل بالثمر فتنحني وتتدلى إلى الأسفل، وتأتي قنوان بمعنى نائية بعيدة فتكون من الأضداد، واكتفى بذكر الدانية عن النائية لمعلوميتها على حد قولة تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد كما سيأتي في الآية 81 من سورة النحل، ولأن الدانية أيسر تناولا وأسهل للقطف من النائية العالية البعيدة التناول، وهذا الفرق إنما يكون في أشجار الدنيا وثمارها، أما الآخرة فالقريب والبعيد بالتناول سواء، لأنك متى نظرت إلى ثمرة وأردتها صارت بين يديك، والطلع هو الإغريضي الخارج من قلب النخلة الذي ينبثق عنه العثوق، والعثق الذي فيه التمر بمنزلة العنقود من العنب، والمتشعّب منه يسمى عرجون، ويسميه أهل (عانه) شرموخ، وهو الذي ينبت فيه التمر «وَجَنَّاتٍ» عطف على نبات «مِنْ أَعْنابٍ» متنوعة عرائش وكروم «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» أخرجناه أيضا «مُشْتَبِهاً» بعضه مع بعض «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» أنواع كثيرة منها ما يشابه بعضه ويوافقه باللون

والطعم والشكل والحجم والرائحة والورق والأغصان وغير ذلك، ومنه ما هو مباين في بعض الصفات موافق في الأخرى، ومنها ما هو مخالف بالكلية فسبحان من أخرج من الماء الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والأشجار والثمار قال تعالى (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) الآية 5 من سورة الرعد الآتية في ج 3، وقيل في وصف المطر: يمد إلى الآفاق بيض خيوطه ... فينسج منها للثرى حلة خضرا وقد أجاد في هذا الوصف، هذا، وان الله جل جلاله قدم الزرع لأنه غذاء وهو مقدم على الفواكه ثم النخل على الفواكه، لأن ثمره يجري مجرى الغذاء مع كونه فاكهة وفيه من المنافع ما ليس في غيره وعقبه بالعنب لأنه من أشرف الفواكه، ثم الزيتون لبركته وزيادة الحاجة إليه أكلا وأدما، ثم الرمان لأنه فاكهة ودواء، وقد ذكر الله تعالى في القرآن العظيم أمهات الفواكه كهذه والتين والموز وأشار إلى البقية بلفظ الفاكهة، كما أشار إلى بقية النبات بلفظ الأب فلم يخرج عن هاتين اللفظتين شيء مما ينبت بالأرض، فسبحان من أودع في كتابه كل شيء وأكده بقوله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 المارة فراجعها والآية 31 من سورة عبس في ج 1، واحمد الله أن جعلك من أهل هذا الكتاب «انْظُرُوا» أيها الناس «إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» إدراكه ونضجه واعتبروا بها أيها الناس كيف أنبته حبة وأخرج منها ذلك راجع الآية 141 الآتية في هذا البحث «إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القدير الحكيم وهي عظة «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 99» بأن الله الذي أخرج النبات الأخضر من الحب اليابس والأشجار من النوى والفواكه الرطبة منها قادر على إحياء الموتى بعد البلى، هذا وقد ذكر الله خمسة براهين مجملة وعلى التفصيل فهي أكثر وكل منها حجج ظاهرات قاطعات على دلائل العالم السفلي والعلوي على ثبوت الإلهية وكمال القدرة، وذكر أن هؤلاء الكفرة فضلا عن أنهم لم يلتفتوا إليها ولم يتعظوا بها قد كفروا بها «وَجَعَلُوا» مع هذا كله «لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» في ألوهيته وعبادته بالنصب على أنه بدل من شركاء وجمع الشركاء باعتبارهم أعوانا لإبليس، وبالرفع على الحذف،

مطلب معتقد الزنادقة والمجوس وتحقيق رؤية الله تعالى:

فكأنه قيل من هم الشركاء فقيل الجن وبالجر على الإضافة لشركاء، وإنما قالوا الجن من حيث لم يشاهدوهم، لأن الكفرة أصاخوا لتسويلاتهم وانصاعوا لوساوسهم، فكأنهم أطاعوهم طاعة المشاهد فعبدوا الأوثان انقيادا لهم، فصاروا كأنهم جعلوهم شركاء لله، تعالى الله عن ذلك، وعلى هذا فتكون هذه الآية نازلة في كفار العرب كما روي عن الحسن بن صالح واختاره الزجاج، وقال الكلبي نزلت في الزنادقة ونقل هذا القول ابن الجوزي عن ابن السائب ونقله الإمام الرازي عن ابن عباس، وادعى أنه أحسن الوجوه المنقولة في سبب نزولها. مطلب معتقد الزنادقة والمجوس وتحقيق رؤية الله تعالى: وذلك أنهم يقولون إن كل ما في الكون من خير فهو من يزدان يعني النور، وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس وهذا مذهب المجوس، لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من السماء سماه (زاندا) والمنسوب إليه زندى، ثم عرب إلى زنديق ويجمع على زنادقة، ومنهم من يقول إن إبليس قديم، ومنهم من يقول إنه محدث، وكلهم متفقون على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم (تنزه عن ذلك) فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس. هذا، وان اليزيدية الموجودين الآن في جبل سنجار على تخوم العراق يدينون بما يشابه هذا الدين ويعتقدون بالشيطان اعتقاد المجوسي بإبليس، وقال بعض المفسرين إن المراد بالجنّ هم الملائكة، لأن العرب عبدتهم وسمتهم بنات الله، كما مرّ في كثير من الآيات الدالة على ذلك وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم أي استتارهم واختفائهم عن الأعين، وعبر بالجن عن الملائكة للحط بشأنهم بالنسبة لمقام الإلهية، ونقل هذا القول عن قتادة والسدي، والقول الأول أولى لموافقته ظاهر القرآن وهو الحقيقة وخلافها مجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، ولا يوجد هنا صارف لمعناها كي يلجأ إليه في اعتبار المجاز، قال تعالى «وَخَلَقَهُمْ» أي أنهم يقولون هذا القول والحال أن الله خلقهم، فكيف يجعلونهم شركاء له، تعالى عن ذلك وتعاظم «وَخَرَقُوا» اختلقوا وافتعلوا وافتروا «لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ» فاليهود تقولت بأن عزيرا ابنه والنصارى بهتت بأن عيسى ابنه، وكفار العرب

[سورة الأنعام (6) : الآيات 101 إلى 110]

زعمت بأن الملائكة بناته وكله زور محض اختلقوه كما اختلقوا الأوثان من تلقاء أنفسهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بعظمة الله، وإفكا مختلقا، وكانت العرب عند ما تسمع من الرجل كذبة في نواديهم تقول اخترقها والله، أي استعظاما لقول الزّور وتوبيخا للكاذب، راجع الآية 12 المارة من هذه السورة وذكر البنات هنا مما يؤيد أن المراد بالجن الشياطين كما جرينا عليه لا الملائكة لأنه لو كان المراد بالجن الملائكة لما أتى بذكرها ثانيا لأن الملائكة لا توصف بذكورة ولا بأنوثة والله أعلم ثم نزه الله نفسه المقدسة بنفسه المنزهة عن ذلك كله فقال «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ 100» جلاله بما لا يليق بجلاله كيف وهو «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» قد أبدعهما ومن فيهما وكونهما على غير مثال سابق، وهذا هو معنى الإبداع ومن كان كذلك «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» وهو المنفرد المنزه عن الأزواج كيف «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ» زوجة لأن الولد لا يكون إلا منها عادة، ولا تكون الزوجة إلا من جنس الزوج حتى يتم التوالد بينهما وهو ليس كمثله شيء، ولأن الولادة من صفات الأجسام وهو مخترعها وليس بجسم، تعالى عن ذلك، ومن لا يكون جسما لا يكون له ولد، والولد لا يكون بلا زوجة عادة وهو منزه عن اتخاذها «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ومن هذا شأنه فهو غني عن كل شيء من الصاحبة والولد والمعين وغيره، «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101» لأنه خالق كل شيء، ومن يخلق فهو أعلم بما يخلق علم اليقين، فلا يعزب عن علمه شيء، لأنه محيط بكل شيء «ذلِكُمُ» الموصوف بما تقدم هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا، إذ هو المستحق للعبادة لا مخلوقه الذي بيده إعدامه وإعادته ونفعه وضره «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 102» رقيب فلا تقع حركة في ملكوته ولا سكون إلا بعلمه قال تعالى منزها ذاته الكريمة عما هو من شأن البشر «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» من خلقه لا إدراك إحاطة ولا مطلق إدراك، كما أن القلوب تعرفه بلا إحاطة «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» من جميع خلقه بحيث يراها ويحيط بها علما، والمراد بها النور الذي به تدرك المبصرات، فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه

يرى، وهذا هو السر من الإظهار بمقام الإضمار، وقيل المراد إن كل عين لا ترى نفسها وهو كذلك ولكن هذا ليس مرادا هنا «وَهُوَ اللَّطِيفُ» العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها، الرفيق بعباده، وهو عائد إلى الجملة الأولى، لأنه يناسب كونه غير مدرك «الْخَبِيرُ 103» العالم بظواهر الأمور وخفياتها وهو عائد إلى الجملة الثانية لأنه يناسب كونه مدركا بكسر الراء على اللف والنشر المرتب، وفي هذه الآية إشارة لرؤية الله في الآخرة لا نفيها كما استدلت به المعتزلة، لأنه جل شأنه قد تمدح على عباده بذلك على طريق الإعجاز فلو لم يكن جائز الرؤية لما كان هذا التمدح واقعا لأن المعدوم لا يتمدح به ولا يلزم من عدم الرؤية مدح، ولو لم يكن جائز الرؤية لما سألها موسى عليه السلام إذ مثله لا يسأل عما لا يجوز، ويدل على جوازها تعليق الله جلت عظمته الرؤية على استقرار الجبل واستقراره جائز والمعلق على الجائز جائز، وهذا إثبات جواز الرؤية من حيث العقل ويدل عليها من الكتاب قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 23 من سورة القيامة المارة في ج 1، وقوله تعالى في حق الكفار (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) الآية 16 من سورة المطففين الآتية إذ يفهم أن المؤمنين غير محجوبين عنه، قال الإمام مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعبر تبارك وتعالى عن الكفار بالحجاب، وقد أجمع المفسرون على أن كلمة وزيادة وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 26 من سورة يونس المارة هي رؤية الله تعالى، ومما يدل عليها من السنة كثير صحيح قدمناه في الآية 17 من سورة والنجم والآية 13 من سورة القيامة والآية 114 من سورة الأعراف المارات في ج 1، أما ما تمسك به أهل البدع والأهواء والمرجئة من أنه تعالى مستحيل الرؤيا احتجاجا بمطلع هذه الآية ولأن الإدراك فيها عبارة عن الرؤية لا عدم الإحاطة كما درجت عليه أهل السنة والجماعة إذ لا فرق عندهم بين أدركته ورأيته وهو خطأ صريح، لأن الإدراك الإحاطة بكنه الشيء وحقيقية الرؤية معاينة الشيء ومشاهدته لأنها قد تكون بغير إدراك، قال تعالى في قصة أصحاب موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قالَ (كَلَّا) الآية 62 من سورة الشعراء المارة في ج 1، وكان قوم فرعون رأوا قوم موسى إلا أنهم

لم يدركوهم فنفى موسى عنهم الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا، ومما لا شك فيه أن رؤية الله في الآخرة تكون من غير إدراك لاستحالة الإحاطة به لأنه منزه عن الحد والجهة والأبعاد الثلاثة والجهات الست، قال في بدء الأمالي: يراه المؤمنون بغير كيف ... وإدراك وضرب من مثال فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال أي يا قوم احذروا خسران المعتزلة من رؤية الله لأنهم يقولون بعدمها فجزاهم الله حرمانها جزاء وفاقا، أما إذا قالوا إنه لا يرى في الدنيا فهذا مما لا جدال فيه وما وقع لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم فهو خاص به وما عموم إلا وخص منه البعض، هذا وقد أوضحنا كيفية رؤيته تعالى وثبوتها بالصحائف المشار إليها أعلاه فراجعها ترشد لما تريده وزيادة، قال تعالى يا أيها الناس «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ» جمع بصيرة وهو نور القلب وأبصار جمع بصر وهو نور العين، وقد سمى الله تعالى آيات القرآن بصائر لأنها يهتدى بها إلى الرشد والسداد وهي بصائر القلوب الحية «مِنْ رَبِّكُمْ» لتبصروا بها حقائق الأشياء وتفقهوا مقاصدها فتعلموا المراد منها «فَمَنْ أَبْصَرَ» معانيها وآمن بها وصدق من جاء بها «فَلِنَفْسِهِ» أبصر وإياها نفع ولها عمل وتحذّر من كل سوء «وَمَنْ عَمِيَ» عنها وضل عن هداها وجهل أو تجاهل معناها ولم يستدل بها إلى الطريق المستقيم المؤدي إلى جنات النعيم «فَعَلَيْها» جنى وعمي وإياها ضر خسر وكان وبال عماه عليه، والله غني عنه «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 104» إنما علي البلاغ والإنذار والله هو الرقيب عليكم، وشاهد لأعمالكم وهو الذي يجازيكم عليها فلا يخفى عليه شيء منها، وعلى هذا فالآية محكمة، ومن قال إنها منسوخة قال في تفسيرها أنا لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل، وهو ليس بشيء، وظاهر الآية لا يحتمل هذا المعنى، وبعد أن أتم سبحانه وتعالى ما يتعلق في الإلهيّات شرح بما يدل على إثبات النبوة التي هي الأصل الثاني من الأصول الثلاثة، فابتدأ بحكاية شبه المنكرين لها فقال «وَكَذلِكَ» مثل هذا التصريف البديع «نُصَرِّفُ» نكرر ونبين «الْآياتِ» الدالات على توحيدنا ونبوة أنبيائنا «وَلِيَقُولُوا» لك يا سيد الرسل «دَرَسْتَ» قرأت الكتب القديمة

وتعلمتها من الغير بطريق المباحثة والمداومة حتى حفظتها، وجئتنا تزعم أنه من عند الله، وأنا أعلم أنك لم تدرس شيئا ولم تتعلمه، فدع قومك وخاصتك يقولوا لك ذلك ويصموك بالكذب وهم الكاذبون، وان ما تتلوه عليهم من وحينا وتعليمنا إياك واللام هنا لام الأمر وقيل لام كي بالنظر إلى المعطوف عليه بعد، وتهمتهم هذه لحضرة الرسول هو أنه كان عبدان من سبي الروم يسار وخيبر في مكة وكانا يأتيان محمدا لأنهما من أهل الكتاب ليسمعا منه وكانا يقرآن الكتب القديمة فظن كفار مكة أن محمدا يقرأ عليهما أو يسمع منهما وأنه يتلو ما يسمعه ويقرأه على قومه، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم وردا عليهم وأين هذين من كلام الله وهما لا يفقهانه وقد تحدى الله جميع البشر على الإتيان بمثله فلم تقدر ولن تقدر. هذا، وما قيل إن المراد أنك علمت ما فقرأه من اليهود لا أصل له، لأن الآية مكية ولا يحث مع اليهود في مكة، وما قيل إن المعنى لئلا يقولوا درست لا صحة له لأنه غير مناسب للفظ ولا وجيه في المعنى ولأن حمل الإثبات على النفي تحريف وتغيير لكلام الله ولا يجوز فتح هذا الباب لما فيه من وضع المنفي مقام المثبت وبالعكس، لذلك يجب اجراء كلام الله على ما هو عليه وعدم التطاول على ما يخل بمعناه أو يزيد في مبناه بصورة قطعية «وَلِنُبَيِّنَهُ» نوضحنّ هذا القرآن المعبر عنه بالبصائر ونكشفن ما يرمي إليه «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 105» أنه كلام الله منزل عليك من لدنا لم تتلقه من أحد ما، فيا أكرم الرسل «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» من هذا القرآن ولا تلتفت إلى تقولاتهم، وقل إنما هو من الله الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106» من قومك المتخذين آلهة من دوني واتركهم الآن إلى أن يأتيك قضائي بينك وبينهم، وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقيه من جفاهم وتعزية لما يصمونه به وإزالة لما حصل له من الحزن بنسبة الافتراء إليه على ربه تنزه عن ذلك وتبرأ القائل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» به غيره وهذا نص بأن الإشراك بمشيئته تعالى وكذلك التوحيد والعصيان والإيمان راجع الآية 98 من سورة يونس المارة، وذلك أن الله قد شاء إيمان من علم منه اختيار الإيمان فهداه إليه فآمن، وشاء كفر من علم منه اختيار

الشرك فساقه إليه فكفر وهذا كله بإرادة الله وتقديره ومشيئته «وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ» يا سيد الرسل «حَفِيظاً» تحفظهم من الكفر وتراقب أعمالهم وتقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وإنما أنت مبلغ لهم ما نوحيه إليك فترغبهم بطاعة الله وترهبهم معصيته وتبشر الطائع بثواب الله وتنذر العاصي بعقابه، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا وجه له وغاية احتجاجه بالنسخ تأويل وكيل على زعمه (لم أومر بحربكم) وهو تأويل عندي لأن معنى وكيل ما ذكرناه في الآية 67 المارة ليس إلا ولهذا قال تعالى «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 107» لتردهم عما قدرناه لهم كلا ولا مسيطر ولا مسلط ولا موكل من جهتهم لتدافع عنهم، قال تعالى «وَلا تَسُبُّوا» أيها المؤمنون آلهة «الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» آلهة أخرى وهذا النهي ليس لاحترام تلك الأصنام المهانة ولا لأنه لا يجوز سبها وإنما السبب فيه ما ذكره الله تعالى في جواب هذا النهي بقوله «فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً» عدوانا وهاتين الكلمتين معناهما التجاوز عن الحق إلى الباطل كأنهم بقولهم ذلك تعدوا وظلموا «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بعظمة الله وما يجب أن يذكر به وحقيقة النهي هذا هو النهي عن سب الله لا عن سب الأوثان لأن سبهم مباح ولكنه لما كان يترتب عليه سب الله وسب رسوله المتسبب عن سبّها، نهاهم الله عنه درءا لهذه المفاسد ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما أن اجتناب المناهي مفضل على فعل الأوامر، وسبب نزول هذه الآية أن المؤمنين كانوا يسبّون أوثان الكفار فيردون عليهم فنزلت بالمنع لتلك الغاية، وما قيل إنها نزلت لما نزلت آية (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الآية 99 من سورة الأنبياء الآتية قال المشركون إذ ذاك لتنتهين عن سب آلهتنا يا محمد أو لنهجونّ ربك، لا يصح، لأن هذه الآية لم تنزل بعد، وكذلك ما قاله السدي من أنه لما حضرت وفاة أبي طالب قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمرنه بنهي ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه فتوصم وصمة لا خلاص لنا منها، فانطلق منهم أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البحتري

إلى أبي طالب، فقالوا له أنت كبيرنا وسيدنا وإن ابن أخيك محمد قد آذانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا بسوء وإنا سندعه وإلهه فدعاه فجاء فقال له يا ابن أخي قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال صلّى الله عليه وسلم أرأيتكم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدّت لكم الخراج فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال قولوا لا إله إلا الله، فأبوا وتفرقوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي فقال يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها، قال هذا صلّى الله عليه وسلم على فرض المحال إرادة إلى يأسهم، فقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمن إلهك، لا يصح هذا، لأن هذه حادثة قديمة وقعت قبل نزول هذه الآية عند وفات أبي طالب كما أشرنا إليها في الآية 56 من سورة القصص في ج 1 ونوهنا بها في الآية 26 من هذه السورة وبين وفاته ونزول هذه السورة ما يقارب السنتين، قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان «زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» في هذه الدنيا على علاته فرأوه حسنا إن كان خيرا وطاعة أو شرا ومعصية «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 108» فيها ويجازيهم عليه فيثيب المؤمن الجنة ويزج الكافر بالنار إن شاء وقدمنا ما يتعلق في بحث التزيين والإضلال وان الله تعالى ليس عليه رعاية الأصلح للعبد وإنما عليه لا على طريق الوجوب تبين الطريقين له راجع الآية 12 من سورة الحجر المارة وفيها ما يرشدك إلى مراجعته من الآيات المتعلقة في هذا البحث تعلم أن المزين في الحقيقة هو الله «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ» هؤلاء الكفرة «جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» أشدها وأوكدها «لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها» قالت قريش يا محمد أما أخبرتنا أن صالحا أخرج لقومه ناقة من الجبل وأن موسى قلبت عصاه حية وضرب بها الحجر فتفجر الماء منها، وأن عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص؟ قال بلى، قالوا فأتنا به نصدقك ونؤمن، قال أي شيء تحبون قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا موتانا نسألهم عنك ونزل لنا الملائكة ليشهدوا نبوتك، قال صلّى الله عليه وسلم إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقون؟ قالوا نعم، والله نتبعنّك أجمعين، ثم إن

مطلب الاستفهام الإنكاري له معنيان وتمحيص لا في هذه الآية وما يناسبها:

المسلمين سألوا رسول الله ذلك رغبة بإيمانهم فقام صلّى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يجعل الصفا ذهبا فنزل جبريل وقال ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إذا لم يصدقوك ينزل بهم العذاب فيستأصلهم دفعة واحدة وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: بل حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله هذه الآية وأمره بأن يقول لهم ما قال تعالى «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المقترحين «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» هو يأتيكم بها وليست عندي ولا لي قدرة على الإتيان بها إذا لم يشأ الله وأنتم أيها المؤمنون أعرضوا عن هذا ولا تقولوا إنهم يؤمنون، والله تعالى يقول لكم «وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ» تلك الآيات المقترحة من عند الله «لا يُؤْمِنُونَ 109» بها وحينئذ ينزل بهم العذاب ويستأصلهم كما استأصل قوم صالح إذ جرت عادة الله أن كل أمة اقترحت على نبيها آية فأعطاها الله لهم ولم يؤمنوا عذبهم جميعا وأحاط بهم عقابه الذي لا مرد له خاطب صلّى الله عليه وسلم أصحابه الذين سألوه إنزال الآيات حبا بإيمان المشركين من قومهم بما أوحى الله به إليه ليرتدعوا عن ذلك لأنهم لا يعلمون أنهم يؤمنون بها إذا نزلت ولا يعلمون أنها إذا نزلت ولم يؤمنوا يحيق بهم الداب لذلك جاءت هذه الآية إخبارا بمعرض النهي وإنما لم ينزل الله عليهم ما اقترحوه لعلمه أن أيمانهم فاجرة كاذبة وأن إيمانهم كلهم في زوايا العدم، ولم يحن الوقت لإيمان من يؤمن منهم، كما أنه لم يحن أجل تعذيب من يعذبه منهم لأن أقداره تعالى مدونة في لوحه ثابتة في علمه الأزلي لا تقدم ولا تؤخر. وهذا التفسير على قراءة لا يؤمنون بالياء وهي الأوفق للمعنى والأحسن للسياق والأليق بالسياق، وأما على قراءة (لا تُؤْمِنُونَ) بالتاء الفوقية فيكون الخطاب للمشركين وقد مشى عليها بعض المفسرين والمعول على الأول لأن المؤمنين أحبوا نزول الآيات لما رأوا قومهم قد وثقوا الأيمان لحضرة الرسول بأنهم يؤمنون إذا نزلت طمعا بإيمانهم كما ذكرنا. مطلب الاستفهام الإنكاري له معنيان وتمحيص لا في هذه الآية وما يناسبها: وما في الآية استفهامية إنكارية والاستفهام الإنكاري له معنيان بمعنى لم وبمعنى لا فإن كان بمعنى لم يقال وما يشعركم انّها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك والحال بخلافه. وإن كانت بمعنى لا

يقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون، فلذا توقعتم إيمانهم وهذا هو المراد بالآية والله أعلم، ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه، وقال بعض المفسرين إنّ لا زائدة وهو غير سديد إذ لا زائد في القرآن وكل حرف فيه له معنى لا يؤديه غيره، ويزعم هذا القائل أن لا هنا مثل لا في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1، وقوله تعالى (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الآية 96 من سورة الأنبياء الآتيه، على أن لا فيهما غير زائدة كما مر في تفسير الآية الأولى وسيأتي في الثانية أيضا لأن المعنى مستقيم بوجودها كما ستقف عليه. كما أنهم قدروا (لا) في الآية المفسرة آنفا عدد 105 لتصير لئلا يقولوا درست وفي (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) الآية 185 من البقرة في ج 3، وشبهها من الآيات مع أن المعنى جار على المطلوب بدون هذا التقدير كما مر في تفسير الآية الأولى، وما سيأتي في الثانية إن شاء الله، بأن تقدير لا لا لزوم له راجع الآية 96 من سورة يوسف المارة، وقال بعض المفسرين إن (إنّ) من انها بمعنى لعل كقولهم أئت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك تشتري، وقول عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد أي لعلّ منيّتي، وقول امرئ القيس: عوجوا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خزام أي لعلّنا، وقول الأخر: أريني جوادا مات هولا لأنني ... أرى ما تربني أو بخيلا مخلدا وقول الآخر: هل أنتم عائجون بنا لأنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام وهذا وإن كان مثله كثيرا لجريانه في كلام العرب إلا أن الآية لا تنطبق عليه ولا حاجة إلى الركون لما هو خلاف الظاهر، وأما ما احتج به من أن أبي بن كعب قرأ لعلها إذا جاءت فلا عبرة به لأنها تفسير لا قراءة، ولو فرض محالا أنها قراءة فهي شاذة، ولم تثبت في المصاحف ولم يقرأ بها غيره، لذلك فإن ما جرينا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 إلى 120]

عليه هو الأولى بالمقام والأنسب لظاهر التنزيل والأليق بسياق التأويل والله تعالى أعلم «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ» عن قبول الحق فنحول بينه وبين أن تعيه قلوبهم لئلا يؤمنوا «وَأَبْصارَهُمْ» كي لا يروه فيما لو كان مرثيا ولا يروا المنزل عليه على حقيقته التي جعله الله عليها حتى لا يصدقوه فيما يتلو عليهم من تلك الآيات، وهذا تقرير لحكم الآية الأولى واثبات لعدم إيمانهم وذلك لما سبق في علم الله سوء استعدادهم الكامن في ما هيّاتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة عليهم وأوضح لهم الحجة ولله الحجة البالغة وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون، وإنما حال بينهم وبين الإيمان بالآيات ولم يتركهم يرونها كما أنزلت لا عند نزولها ولا بعده «كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» أي كما أنهم لم يؤمنوا بمحمد عند إراءتهم الآيات المتقدمة مثل انشقاق القمر والإخبار بالغيب والإسراء والمعراج وما وقع فيها من الآيات وغيرها، فلو أنزلنا عليهم الآن آية حسب طلبهم لكفروا بها أيضا كما كفروا بما قبلها وكذبوا رسولهم، ولهذا أنزل عليهم آية «وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 110» يترددون في الحيرة لا يهتدون إلى الحق لأن قلوبهم هواء منه ولا يرونه لغفلتهم عنه، واعلم يا أكمل الرسل أن من قومك من لم يؤمن وخاصة المقترحين «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى» كما طلبوا منك «وَحَشَرْنا» جمعنا وسقنا «عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا» بضمتين وقرىء بضم القاف وفتح الباء وبكسر القاف وفتح الباء، وبكسر الباء وضم القاف، وعلى الكل معناه المشاهدة مقابلة وعيانا، أي لو جعلنا لهم ذلك كله فواجهوا الملائكة والموتى وتكلموا معهم إلخ «ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» وهذه الجملة جواب لو التي هي حرف امتناع أي امتنع إنزال الملائكة إلخ لامتناع إيمانهم، واعلم أن جواب لو إذا كان منفيا لا تدخله اللام، راجع بحثها في مغني اللبيب إذ أحاطه بجميع ما يتعلق بها، وقد وهم بعض المفسرين فقدروها وعللوا هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس الأمر وعلله بعضهم بسبق القضاء عليهم بالكفر واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليق الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده،

على أنه لا خفاء بأن القضاء الأزلي الذي هو سبب لوقوع الحوادث ولا فساد فيه وفي هذا المقال بحث أعرضنا عنه إذ لا طائل تحته، وفسر بعضهم قبلا وعليه يكون المعنى لو جمعنا كل الأشياء فأحضرناها وجعلناها كفلاء بصحة ما تقول من أحقية الإيمان لم يؤمنوا وهو كما ترى وفي الحقيقة لا يستطيع أحد أن يؤمن «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» إيمانه «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 111» ذلك ويزعمون أن الإيمان بأيديهم وهو زعم باطل وقول عاطل وهذه الآية كالجواب للمؤمنين الذين طلبوا من حضرة الرسول إنزال الآيات المذكورة حبّا بإيمان المشركين الذين اقترحوها وسبب لنزولها قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء من قومك وغيرهم «جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا» ثم بين هذا العدو بأن أبدل من لفظه قوله «شَياطِينَ» وعتات «الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» والشيطان يطلق على كل عات تمرد من الإنس والجن قال مالك بن دينار شياطين الإنس أشد من شياطين الجن، لأن الأخير إذا تعوذت منه يهرب، والأول يثبت، ولذلك قدمه الله تعالى، روى الطبري عن أبي ذر ما يؤيد هذا القول، ورواه البغوي أيضا ولكن بغير سند، وهذا القول أولى من جعل الشياطين كلها من الجن أي أن إبليس يرسل أعوانه لإغواء الإنس والجن لمخالفة ظاهر الآية وقد جاء بالخبر: قرناء السوء شر من شياطين الجن بما يؤيد ما ذكرناه لأن قرين السوء يوقع صاحبه في المهالك بما يسول له من سلوك سبل الشر وقد يقره عليها أحيانا أما شيطان الجن فيقصر عمله على الوسوسة بتحسين كل قبيح ليس إلا لقوله تعالى «يُوحِي» يسر ويشير «بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس وبعض الإنس إلى الإنس وبعض الجن إلى الجن فيفتنون بعضهم أيضا ولا يقال يوسوس الإنس إلى الجن لأنه لا يقدر أن يجري منه مجرى الدم كما يفعل الجن ذلك بالإنس قال صلّى الله عليه وسلم إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم وأنّى للإنسان من ذلك، وهذه الوساوس التي تلقى بقصد الإغراء «زُخْرُفَ الْقَوْلِ» بالنصب على أنها مفعول يوحي وهو عبارة عن القول الباطل المموه الذي ظاهره غير باطنه كالإناء المطلي ليكون «غُرُوراً» خداعا حيث يأخذونهم بما يزينون لهم من الأعمال القبيحة على غرة منهم وغفلة «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ»

البتة إذ لا يقع شيء دون مشيئته كما مر في الآية السابقة وهي مؤيدة لما جاء في الآية 110 المارة بشأن الإرادة لأنه تعالى قادر على منعهم من الوسوسة وقادر على حفظ عباده من قبولها من بعضهم ومن الجن أيضا، وإنما يسلطهم امتحانا على من يشاء واختبارا لبعض عباده راجع الآية 36 من سورة الحجر المارة «فَذَرْهُمْ» اترك هؤلاء الكفرة يا أكرم الخلق ودعهم «وَما يَفْتَرُونَ 112» من القول فيك وفي ربك وكتابك فإني سأخزيهم وأنصرك عليهم «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ» تذعن وتنقاد إلى تمويه الشياطين ووساوسهم «أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» ممن سبق في علم الله شقاؤهم «وَلِيَرْضَوْهُ» لأنفسهم طوعا واختيارا ورغبة إذ تميل إليه قلوبهم حبا به «وَلِيَقْتَرِفُوا» من هذه الزخارف الآخذة بهم إلى قبيح العمل وسوء الفعل وخطأ القول «ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ 113» من أنواع الآثام مما يزين لهم شياطينهم من الكفر والشرك والعصيان والاستهزاء والسخرية بنا فإنا من ورائهم، وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى ولما قال المشركون يا محمد اجعل بيننا وبينك حكما من أعيان العرب نتقاضى إليه في أمرنا وأمرك أنزل الله جل إنزاله قل يا أكرم الرسل «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً» يقضي بيننا «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ» علي «مُفَصَّلًا» فيه كل شيء من الحلال والحرام والأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والحدود والأحكام والحوادث والأمثال، وموضحا فيه الحق من الباطل والصدق من الكذب، فهو وحده الحكم الحق بيني وبينكم وهو يحتوي على ما في الكتب القديمة والصحف وفيه ما لا يوجد فيها، وهذا القول وقع بالمدينة والحكم الذي أرادوه من أحبار اليهود وأساقفة النصارى الموجودين فيها لأن هذه الآية الخامسة المدنية من هذه السورة المستثناة منها «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» من اليهود والنصارى الذين أرادهم المشركون حكما «يَعْلَمُونَ» حق العلم ويوقنون حق الإيقان «أَنَّهُ» أي القرآن المنزل عليك والذي تحدثهم به «مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» لما هو ثابت في كتبهم بالدلائل القاطعة على صحته وصدق نبوتك «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 114» الشاكين في ذلك بل أيقن وتحقق أنهم عالمون به علم اليقين فلا يخطر ببالك عدم

علمهم به أصلا وإنما يجادلونك به عنادا «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» يا سيد الرسل بالحكم على صدق نبوتك وكون الموحى إليك من عنده وقرىء كلمات، وهي لسياق الآية الآتية، على أنه قد يراد بها الجمع أيضا عند الإضافة «صِدْقاً» في قوله «وَعَدْلًا» في قضائه «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ولا راد لحكمه ولا مغيّر لقضائه «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده «الْعَلِيمُ 115» بما يفعلونه فقد حكم الله جل حكمه لنبيه وهو أحكم الحاكمين بأن رسالته حق وكتابه حق وما يدعو له حق، قال تعالى «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» من الكفرة لأنهم الأكثر قلّلهم الله ولا يزال أهل البدع والأهواء والبغاة أكثر «يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» دينه السوي الذي شرعه لعباده وبعثك به وهو الطريق الذي يفوز من يتبعه «إِنْ يَتَّبِعُونَ» أي ما يتبع هؤلاء المجادلون في معتقداتهم «إِلَّا الظَّنَّ» بأن آبائهم كانوا عليه وتلقوه من آبائهم ويزعمون أنه الحق «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 116» يكذبون في ظنهم هذا، كما أن آباءهم كاذبون في ادعائهم أحقية دينهم، وسبب نزول هذه الآية أن الكفرة جادلوا المؤمنين في أكل الميتة بقولهم كيف تأكلون ما تقتلون أي تذبحون ولا تأكلون ما يقتله ربكم مع أنكم تأكلون ما يقتله طيوركم وكلابكم ونبالكم والنتيجة واحدة وهذا كقولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) على التسوية بينهما، وهو جهل محض منهم لعدم علمهم حكمة الله تعالى فيهما وما يترتب عليهما من المضار وسنأتي على بيانه إن شاء الله في مطلع سورة المائدة وأواخر سورة البقرة في ج 3 قال عكرمة إن المجوس سألت المشركين عن ذلك فنزلت، وقال ابن عباس إن اليهود سألت الرسول عنه فنزلت والأول أولى، قال تعالى يا سيد الرسل ذرهم على غيهم هذا «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ» وهم الكفرة على اختلاف نحلهم ومللهم «عَنْ سَبِيلِهِ» السوي العدل «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 117» وهم عباده المؤمنون وهو العالم بما يستوجبه الأول وما يستحقه الثاني «فَكُلُوا» أيها المؤمنون «مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» أثناء ذبحه ولا تأكلوا مما أمانه الله «إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ 118» مصدقين بها متحققين أحقيتها وهذا جواب لأولئك القائلين لماذا لا تأكلون مما يقتل الله وتأكلون مما تقتلون «وَما لَكُمْ»

مطلب الضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بغيرها وأن طاعة الله واجبة مطلقا:

أيها الناس أي شيء عرض لكم ومنعكم من «أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» في كتابه مما لم يحرم ووضحه لكم فمنه ما أنزله ومنه ما سينزله بعد، لأنه تعالى أنزل الكتاب جملة واحدة إلى بيت العزة كما تقدم في المقدمة في بحث إنزال القرآن وقد استوفى ذكره في سورة المائدة التي هي قبل هذه السورة في ترتيب القرآن كما هو في علم الله وبعدها بالنزول فتلك مدنية وهذه مكية لهذا فإن بعض المفسرين قال إن هذا التفصيل المشار إليه هنا يعود إلى سورة المائدة بالنظر إلى هذا لكنه قول غير سديد لما فيه من البعد وعليه فإن المراد بالتفصيل ما ذكره في هذه السورة وما سيذكره بعد في المائدة وغيرها، وقال بعضهم إن الضمير يعود إلى قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية الآتية بعد بضع وعشرين آية وقد اختاره الإمام الرازي بداعي أن هذا التصور من المتأخر لا يمنع أن يكون المراد به الآن وهو وجيه لو كان عود الضمير إلى المتأخر جائز مطلقا وحيث لا فلا كما أشرنا إليه في الآية 29 المارة بأنه يمكن عوده لما يليه أما عوده لكلام بعد جمل كثيرة فلم يقل به أحد ويحتمل أن الرازي رحمه الله نظر إلى أن التأخير في التلاوة لا يوجب التأخير في النزول، وعليه فلا يضر تأخر هذه الآية التي نحن بصددها لأنها من صورة واحدة تدبر. مطلب الضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بغيرها وأن طاعة الله واجبة مطلقا: واعلم أن الله تعالى بين لكم، ما حرم عليكم ومنعكم من تعاطيه «إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ» بأن مستكم الحاجة «إِلَيْهِ» وأقسرتم على أكل شيء من المحرمات أو شربه من قبل الغير أو أنهككم الجوع والعطش لتناوله بحيث لا يوجد غيره، وفي عدم التناول يتحقق الهلاك فعلا أو في غالب الظن، فإذ ذاك يجوز تناول المحرم أكلا وشربا بقدر الحاجة الدافعة لمظنة الهلاك، إذ يكون هذا في هذه الحالة مباحا لأنه صار من جملة ما أحله الله عند الحاجة، والقاعدة الفقهية أن الضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بقدرها ولذلك قلنا بجواز تناول ما يوقع مظنة الهلاك لأن من غص

بالأكل ولا ماء عنده جاز له أن يسوغها بالخمر، ومن أنهكه الجوع ولا شيء عنده جاز له أكل الميتة والدم والخنزير بقدر ما يدفع به الغصة وضرر الهلاك وفاقا للقاعدتين المذكورتين، وليعلم أن ما يحصل للوجود من الضرر بشرب أو أكل شيء من ذلك أهون من ضرر الإتلاف والقاعدة الشرعية الثالثة هي اختيار أهون الأمرين ضررا، هذا «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ» فيحرّمون ويحللون كما تشتهي أنفسهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منهم بحكم الله وعدم معرفتهم بحقائق ما حرم عليهم غير ملتفتين إلى أسبابه لأن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا ودرأ للمضار عنا فمخالفته اعتداء عليه تعالى أولا وثانيا على النفس التي أوجب الله علينا محافظتها من المضار، وجاء في الخبر: من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ 119» المتجاوزين قدر الحاجة في تناول المحرمات زيادة عن الضرورة، هذا وليعلم أن طاعة الله واجبة مطلقا سواء كان المنهي عنه بسبب ظاهر أو لا لأن أحكام الله لا تعلل كما نوهنا به في الآية 96 من سورة يونس المارة، قال تعالى «وَذَرُوا» أيها الناس «ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ» اتركوه وتباعدوا عنه وأعرضوا عن كل ما نهيتم عنه إذا كنتم تريدون الطهارة الحسية والمعنوية، واجتنبوا ما يطلق عليه لفظ الإثم سرا وعلانية قليلا أو كثيرا لأن التلبس بالذنوب سرا يفضي إلى الجهر، ومقارفة القليل منها تؤدي إلى الكثير، ومن مال حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم هدد جل ثناؤه أمثال هؤلاء بقوله «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ» أي إثم كان ومجيئه معرفا لا يمنع من عمومه لشموله جميع المنهيات الكبائر والصغائر «سَيُجْزَوْنَ» يوم القيامة إن لم تعجل لهم العقوبة في الدنيا ولم يتوبوا أو يقاصصوا، لأن الله تعالى قد يغفر بعض الإثم بمقابل ما يصيب مكتسبه من البلاء «بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ 120» بقدر اقترافهم منه لأن لكل إثم جزاء عند الله يجازيه عليه بحسبه وسبب ارتكابه إياه، وقدمنا ما يتعلق بالإثم في الآية 32 من سورة الأعراف في ج 1. هذا وما قاله بعض المفسرين بأن ظاهر الآية يخصص ظاهر الإثم في نكاح المحارم من زوجة الأب والابن وغيرها وباطنه في الزنى أو أن الظاهر بالزنى بأولى الرايات المعلنات البغاء، إذ كان في الجاهلية

[سورة الأنعام (6) : الآيات 121 إلى 130]

الزانيات المعلنات يضعن رايات على محلهنّ علامة على ذلك، والباطن هو الزنى بالأخدان وهو أن يتخذ الرجل صديقة له من الأجانب فيأتيها سرا إذا كان لها زوج وعلنا إن لم يكن لها زوج أو ولي أما الخدن التي لا زوج لها ولا ولي فهي من قسم الزانيات المعلنات أو أن الظاهر طواف الرجال بالبيت نهارا عراة والباطن طواف النساء به ليلا عراة وغير ذلك أقوال لا مستند لها ولا مناسبة لها في هذه الآية التي لا يوجد ما يقيدها بشيء من ذلك، في عامة لهذه الأشياء وغيرها من جميع الآثام كبيرة كانت أو صغيرة، قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» هذا نهي عام أيضا لا يستثنى منه إلا النسيان والخطأ والإكراه والشك في التسمية، وذبيحة الكتابي مستثناة أيضا روي أنه صلّى الله عليه وسلم سئل عن متروك التسمية نسيانا فقال كلوا فان تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم وقال صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ان هنا أقواما حديثا عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فما ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا قال أذكروا أنتم وكلوا، فعلى هذا ليس لنا أن نقول انهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وهم أهل كتاب بل نعتقد أنهم يذكرون كيف وقد قال تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) الآية 5 من سورة المائدة في ج 3. مطلب النهي عن كل ما لم يذكر اسم الله عليه والحكم الشرعي في التسمية وما هو مفعولها. أما ترك التسمية عمدا على الذبيحة فيحرم أكلها بنص هذه الآية لأن عدم ذكرها ظاهرا عمدا ينفي تخطرها في قلبه وإن ما جاء في الخبر ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر محمول على النسيان لا على العمد لأن فيها تهاونا وعدم مبالاة وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك «وَإِنَّهُ» أي كل متروك التسمية عمدا «لَفِسْقٌ» خروج عن طاعة الله «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ» يسرون ويشيرون «إِلى أَوْلِيائِهِمْ» من المشركين بذلك «لِيُجادِلُوكُمْ» فيه جهلا وعنادا «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ» أيها المؤمنون في تناول شيء مما حرم عليكم دون

مسوغ أو أكلتم مما ذكر اسم الصنم عليه وحده أو مع الله «إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ 121» مثلهم، لأن الله لا يقبل الشركة معه وان من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به ومن آمن به وأشرك معه غيره فقد أشرك وكفر أيضا هذا ومن أول هذه الآية بغير ما ذكرناه فقد خالف ظاهرها وكلف نفسه ما لا يعنيها وعرضها للخطأ ولا سيما وان هنا مزالق الأقدام لأنك إذا أرخيت للعنان لنفسك تبعها هواها فتسترسل في كتاب الله فاياك أن تتجاوز حده فاحفظ نفسك حفظك الله «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً» من كان قلبه ميتا بالكفر لأن الكافر في حكم الميت «فَأَحْيَيْناهُ» بالإيمان والمعرفة «وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً» في قلبه يستضيء به طريقه بدل الكفر والضلال الكامنين فيه فصار «يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» أي بينهم آمنا منهم بما هو عليه من الإيمان الكامل «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ» ظلمة الكفر وظلمة الجهل وظلمة القلب «لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» أي ليس هذا وذاك سواء وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، لأن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحيي وأعطي نورا يهتدي به في مصالحه فهو في مخبأة من المهالك والكافر بمنزلة المنغمس في الظلمات يبقى متحيرا لا يعرف كيف يتخلص منها، قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وفي أبي جهل بن هشام لأنه قبحه الله أمر عقبة ابن أبي معيط بأن يرمي النبي صلّى الله عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل فغضب وأقبل على أبي جهل وصار يضربه بالقوس فطفق أبو جهل يتضرع إليه ويقول له يا أبا يعلى أما تراه سفه عقولنا وأحلامنا وآلهتنا، فقال ومن أسفه منكم عقولا تعبدون الحجارة من دون الله، وأسلم في ذلك اليوم رضي الله عنه وأرضاه، وهناك أقوال أخر بأنها نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلم أو في عمر أو في عثمان وأبي جهل أو في عامة المؤمنين والكافرين والأول أولى لنبوت واقعة إسلام حمزة فيه وهي أيضا عامة في كل مؤمن مهتد وفي كل كافر ضال، لأن خصوص نزولها لا يقيد عمومها «كَذلِكَ» كما زين للمؤمن إيمانه «زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 122» من الكفر والمعاصي و «كَذلِكَ» مثل ما جعلنا في مكة كبراء للمكر والكيد «جَعَلْنا» أيضا «فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها» أي مجرمين أكابر

من اضافة الصفة إلى الموصوف وقيل إن مجرميها بدل من أكابر وقيل مفعول أول وأكابر مفعول ثاني لأنه معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل، والأول أولى، وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم أقدر على المكر والكيد وترويج الباطل بين الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل الرياسة وقد جرت سنة الله أن ينقاد الناس لرؤسائهم في الجاه والمال وكثرة الأنصار وأن يكون اتباع الرسل أول أمرهم ضعفاؤهم «لِيَمْكُرُوا فِيها» ليتجبروا على الناس بالمكر والخديعة والحيل والغرور والفجور وأنواع المكايد «وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ» لأن المكر يحيق بصاحبه راجع الآية 63 من سورة فاطر في ج 1، «وَما يَشْعُرُونَ 123» أن مكرهم يعود عليهم ويضرهم قال بعض الأفاضل ويدخل في المكر الغيبة والنميمة والكذب وترويج الباطل بين الناس والأيمان الكاذبة وغيرها «فَإِذا جاءَتْهُمُ» بلغت هؤلاء المشركين، من آيات الله المنزلة على رسوله «آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ» بها وحدها ولا نؤمن «حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» من النبوة ويأتينا جبريل بالوحي من عند الله، قال تعالى ردا على هؤلاء الفسقة «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» ومن هو صالح لنبوته وخلافته على خلقه فيشرفه بها وهذا مما يؤيد أنهم طلبوا النبوة لا كما قاله الغير من أنهم طلبوا نزول الملائكة فقط لتشهد برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم. وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حين قال زاحمنا بني عبد المطلب في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا منّا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. ولا مانع بأن يكون نزولها فيهما معا، وهذا من المكر الذي تضمنته هذه الآية الشريفة السابقة. قال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعثة مطاعين لأن الطعن يتوجه عليهم فيقال إنهم كانوا رؤساء فاتبعهم قومهم، فكان الله تعالى أعلم بمن يستحقها فجعلها في محمد بن عبد الله وهو يتيم ويوجد من أهله من هو أقدم منه في الرياسة لقومه ولم يجعلها في المجرمين الأكابر كأبي جهل والوليد «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من هؤلاء المتطاولين «صَغارٌ» ذل وهوان «عِنْدَ اللَّهِ» في الآخرة غير الذي حل بهم في الدنيا «وَعَذابٌ شَدِيدٌ»

مطلب ما يوجب ضيق الصدر والمثل المضروب لذلك من معجزات القرآن:

فيها أيضا غير عذاب القتل والأسر والجلاء في الدنيا وذلك «بِما كانُوا يَمْكُرُونَ 124» بسبب مكرهم وصدهم وطلبهم ما لا يستحقونه وتمنيهم على الله الأماني مع إصرارهم على الكفر واستخفافهم بالإيمان بالله وبمن يأمرهم به «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ» للإيمان «يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فيوسعه وينوره ويصيره مستعدا لقبوله فيؤمن. مطلب ما يوجب ضيق الصدر والمثل المضروب لذلك من معجزات القرآن: أسند الطبري عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله حين نزلت هذه الآية عن شرح الصدر قال نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح. قيل فهل لذلك أمارة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت. «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» حتى لا يدخله الإيمان لأنه يشمئز من ذكر الله ويرتاح لذكر الأوثان، والحرج هو المكان الضيق والغابة الأشجار الملتفة التي لا يصل إليها شيء من الحيوانات الراعية السائمة والوحشية- شبه الله قلب الكافر الذي لا يصل إليه الخير بالحرجة الشجرة الملتفة بجامع الضيق في كل، وجعله بحيث لا يعي علما ولا استدلالا على توحيد الله تعالى والإيمان به وفي هذه الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى وإرادته من إيمان المؤمن وكفر الكافر وهو كذلك وقد ألمعنا لهذا في الآية 39- 107 من هذه السورة وفيها ما يرشدك لمراجعة غيرهما فترى ذلك الضال «كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» وهذا تمثيل لشدة ضيق الصدر على طريق المبالغة إذ شبهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه لأن صعود السماء بدون جناحين أو خاصة أكرم بهما وبعض البشر خارج عن دائرة الاستطاعة ولهذا مثل فيه، وفي الآية تنبيه على أن الإيمان يمتنع ممن هذا شأنه كما يمتنع عليه صعود السماء، وقيل كأنه يكلف صعودها إذا دعي للإيمان إذ يرى أن الأرض ضاقت به، وفيها إيذان بأمر آخر وهو أن أو كسجين الهواء ينقص فى طبقات الجو وكلما ارتفع تناقص وأن الإنسان إذا صعد لتلك الطبقة ولو بالطائرة أو غيرها من الآلات المحدثة لا بطريق الكرامة أو المعجزة يشعر فيها بعوارض الاختناق من صعوبة التنفس حتى يقارب إلى أن يترشح الدم من مسام وجوده فتضعف قواه لضعف الضربة الدموية في قلبه، وقد يؤدي ذلك إلى الموت،

وهذا من معجزات القرآن العظيم، إذ لا يوجد زمن الرسول من يعرف هذا أو يخبر عنه حتى يضرب الله تعالى به المثل الذي لم يطلع عليه إلا الماهرون في علم الفلك وطبقات الجو ومن اجتاز طبقة عليا من الطيارين في هذا الزمن قرن العشرين ميلادي والرابع عشر هجري فاعتبروا يا أولي الأبصار وأجيلوا النظر في قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) «كَذلِكَ» مثل ذلك الجعل «يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ» والعذاب الفظيع في الآخرة واللعنة المعقدة في الدنيا «عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 125» به مثل ما جعل صدورهم ضيقة عن قبول الإيمان وأصل الرجس الشيء القذر ويراد منه الخذلان وكل ما لا خير فيه وفي هذه الآية رد صريح على المعتزلة القائلين بعدم الإرادة والمشيئة كما ذكرنا في الآية 124 المارة، قال تعالى «وَهذا صِراطُ رَبِّكَ» يا محمد «مُسْتَقِيماً» عدلا فيمن اقتضت حكمته وسنته أن يشرح صدر من شاء من عباده إرادة هدايته من شاء أن يضيق صدره إرادة خذلانه، وهو منصوب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة لأن ذا يتضمن معناها كقولك هذا زيد قائما أي أشير إليه حال قيامه، واعلم أنه إذا كان العامل في الحال معنى الفعل لم يجز تقديم الحال عليه فلا يجوز أن تقول قائما هذا زيد ويجوز ضاحكا جاء زيد «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ 126» بمعانيها فيتعظون بها، وإنما ختم هذه الآية بالتذكر لأنه تقرر في عقل كل أحد أن طرفي الممكن لا يترجح على الآخر إلا بمرجح فكأنه تعالى يقول لأهل الاعتزال تذكروا ما تقرر في عقولكم أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح حتى تزول الشبهة عن قلوبكم بالكلية في مسألة القضاء والقدر وهؤلاء المتذكرون «لَهُمْ دارُ السَّلامِ» الأمان من كل خوف وكدر وهي الجنة أضافها الله تعالى إليه تعظيما لها بقوله «عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» في الدنيا والآخرة «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 126» من الخير «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» لموقف الحساب في الآخرة «جَمِيعاً» الأنس والجن برهم وفاجرهم فيقول لهم «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ» في الإضلال حتى صيرتموهم أتباعا لكم «وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ» أولياء الجن «مِنَ الْإِنْسِ» الذين أطاعوهم وقبلوا وساوسهم «رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ

بَعْضُنا بِبَعْضٍ» كما استمتع الجن بدلالتنا على الشهوات المنهي عنها وأوصلونا إليها استمتعنا بطاعتهم وإغوائهم بحيث صار بينهم القبيح والخبيث متقابلا «وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» في الدنيا وحضرنا يوم الجزاء الذي وعدتنا به وهذا اعتراف بما كان منهم في الدنيا من طاعة الشيطان واتباع الهوى والتكذيب بالبعث والقضاء زمن الاستمتاع وإبداء زمن الحسرة والندم على مافات، فأجابهم الله بقوله «قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ» مأواكم ومنزلكم ومقركم «خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» من مقدار مبعثهم من قبورهم ومدة حشرهم وزمن حسابهم ووقوفهم إلى وقت دخولهم النار لأن الاستثناء من يوم القيامة المعنى بقوله تعالى ويوم نحشرهم أي منذ يبعثون ولا وجه لقول من قال إلا أوقات نقلهم من النار إلى الزمهرير وبالعكس، أو كلما يستغيثون من عذاب فينقلون لغيره، لأن هذا كله عذاب واختلاف تنوعه يكون فيما بعد يوم القيامة لا فيه، وقال ابن عباس المستثنيون قوم سبق في علم الله أنهم مؤمنون وتقدم بحثهم مستوفيا في الآيتين 107- 108 من من سورة هود المارة، والقول الحق أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله تعالى في خلقه أن لا ينزلهم جنة أو نارا لأنه الفعال لما يريد «إِنَّ رَبَّكَ» يا سيد الرسل «حَكِيمٌ» فيما يفعل بأوليائه وأعدائه «عَلِيمٌ 128» بما يصيرون إليه قبل أن يلقوه «وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا العذاب بالجن والإنس الذين انتفعوا وتمتعوا ببعضهم في الدنيا في عصياننا وتكذيب رسلنا وإنكار ما جاءوهم به من عندنا «نُوَلِّي» في الآخرة «بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً» في النار ليذوقوا العذاب فيها سوية مثل ما ذاقوا المعاصي في الدنيا «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 129» من الآثام وكما جعلنا المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الدنيا، فبعضهم كذلك أولياء بعض في الآخرة، كذلك الكفرة بعضهم أولياء بعض في الدنيا وفي الآخرة يتبع بعضهم بعضا ونقول لهم على جهة التوبيخ والتقريع امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» الذين ضللتم وأضللتم في الدنياَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم ليعود الضمير إلى الأخير وهم الإنس لأن الجن لم يرسل لهم رسولا منهم ما عدا الذين سمعوا القرآن من حضرة الرسول وأنذروا به قومهم فهم رسل محمد صلّى الله عليه وسلم إليهم مثل الحواريين الذين أرسلهم عيسى

عليه السلام لبث دعوته باسمه راجع الآية 36 من سورة الأحقاف الآتية والآية 13 من سورة يس في ج 1. هذا وإن رجوع الضمير إلى أحد المذكورين جائز في كل ما اتفق في أصله ولما اتفق ذكر الجن والإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف لأحدهما كقوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الآية 22 من سورة الرحمن في ج 3 وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب لأن ذكرهما قد جمع في قوله تعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) الآية 19 منها، والظاهر أنه تعالى أرسل إليهم رسلا منهم لأنهم مكلفون بالعبودية كالبشر الذين أرسل إليهم رسلا منهم، وعليه فإن ما جرينا عليه تأويل على خلاف الظاهر تبعنا فيه أقوال المفسرين الأعلام، والسائق إليه عدم العلم بإرسال رسل إلى الجن منهم من قبل الله تعالى وما جاء في هذه الآية صرف إلى غير الظاهر بما ذكر من التأويل المار ذكره مع أن الآية تدل دلالة صريحة لا غبار عليها أن الله أرسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس وإذا عرفت أن الجن سكنوا هذه الأرض التي أنت عليها قبل الإنس أي قبل آدم عليه السلام وذريته من بعده آلاف السنين اعترفت بجواز إرسال الرسل إليهم، وأنهم أهلكوا بعد أن عاثوا في الأرض فسادا بعذاب من عند الله كما أهلكت الأقوام العاصية من البشر، يدل على هذا الآية 30 من سورة البقرة في ج 3 فراجعها، ولما لم يبق منهم إلا إبليس ألحقه الله تعالى بالملائكة لما كان عليه من العبادة والطاعة في الظاهر وشهرته بهما عند الملائكة، قال تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 50 من سورة الكهف الآتية وضمير الجمع في قوله تعالىَ قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» بما حللت وحرمت وأوجبت وأبحت ووعدت وأوعدت يؤيد إرسال الرسل إليهم كغيرهم والضمير فيَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» أي البعث بعد الموت يؤيد إرسال الرسل إليهم منهم أيضاالُوا» أي كفار الفريقينَ هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا» بأن الرسل بلغونا آياتك وأنذرونا عقابك وحذرونا هول هذا اليوم، وقد كذبناهم لأنا استبعدنا ما أخبرونا به ولم نصدق الإعادة بعد الموتَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بما فيها من الشهوات المموهة المزخرفةَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ 130» إذ لم يروا بدا من

[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 إلى 140]

الاعتراف ولا مناص من الهرب واعترافهم هذا لا ينافي جحدهم الشرك في قولهم (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الآية 23 المارة، وقد مر أن يوم القيامة طويل وأحواله مختلفة ولكل مقام مقال فإنهم إذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الكرامة أنكروا الشرك وإذا رأوا الحساب جادلوا وإذا رأوا شركاءهم طرحوا اللوم عليهم وإذا أدخلوا النار تجادلوا مع أوليائهم ورؤسائهم وهكذا إلا أن كل ذلك لا ينفعهم ولا يخلّصهم من العذاب المتحتم عليهم وقدمنا في الآية 27 المارة والآية 83 من سورة النمل في ج 1، ما يتعلق بهذا البحث فراجعه «ذلِكَ» إشارة لما تقدم في قوله تعالى ويوم نحشرهم إلى هنا «أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ» أقدموا عليه قبل ان نرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم ويرشدهم لما يأنون ويذرون «وَأَهْلُها غافِلُونَ 131» لم ينبهوا من قبل رسل الله أن ذلك يكون ظلما عليهم والله تعالى لا يحب الظلم ولا يفعله كيف وقد نهى عنه عباده أما إذا جاءهم رسول من عند الله وأنذرهم عذابه إن لم يؤمنوا ويقلعوا عن المعاصي ولم يفعلوا فأوقع عليهم العذاب فيكون عدلا منه لأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعدم الامتثال لأوامر الرسل وتماديهم في الشرك والظلم، والعدل الذي أمر الله به عباده هو الحق الخالص روح كل نظام وحياة كل كمال وهو الأصل الراسخ وقوام كل خير في السماء والأرض يهتدي إليه كل ذي عقل سليم ويؤيده العلم الصحيح ويؤدي إلى النظر القويم فيرتاح إليه القلب ويطمئن له الضمير وتركن إليه الجوارح «وَلِكُلٍّ» من الفريقين «دَرَجاتٌ» للمؤمنين في الجنة ودركات للكافرين في النار «مِمَّا عَمِلُوا» لكل بمقتضى عمله وسببه جزاء له وثوابا للطائعين وعقابا للعاصين «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 132» سرا وعلنا خيرا أو شرا لأن كلا من الفريقين مدون عملهما من قبل الحفظة ومسجل في اللوح المحفوظ وثابت في علمه الأزلي «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ» عنهما وعن عملهما وهو «ذُو الرَّحْمَةِ» الواسعة «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس صالحكم وطائعكم «وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ» من خلقه أطوع وأحسن وأمثل منكم وينشئهم «كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ 133» أهلكوا قبلكم بذنوبهم. واعلموا أيها الناس «إِنَّ ما

مطلب الأشياء التي ذم الله بها العرب وعدم جواز الوقف على الذكور وتخصيصهم دون الإناث بشيء:

تُوعَدُونَ» به من العذاب إذا أصررتم على كفركم «لَآتٍ» إليكم وواقع بكم لا محالة كما أن ما توعدون به من البعث والحساب على الأعمال والعقاب عليها كائن البتة «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 134» الله ولا فائتين عذابه ولا مفلتين منه، لأنه يدرككم حيثما كنتم ويدخلكم النار، كما أن ما وعده للمؤمنين من الثواب آت إليهم، قال تعالى لرسوله «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم التي أنتم عليها وقرىء مكاناتكم جمع مكانة بمعنى المكان وقيل على تمكنكم أي حسبما تستطيعون من الأعمال والأقوال «إِنِّي عامِلٌ» على حالتي وتمكني «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» غدا في الآخرة «مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» المحمودة أنا أم أنتم فاتقوا الله قبل أن يحل بكم عذابه وأقلعوا عن الظلم «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 135» بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم إذ لا يسعد من كفر بالله، وما قيل إن هذه الآية منسوخة لأن المراد منها ترك القتال لا وجه له بل هي محكمة وغاية ما فيها التهديد والوعيد وهي من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ، تأمل ما قدمناه في الآيات 69- 70 و 91- 104 من هذه السورة وهذا طريق لطيف في الإنذار جاء على حد قوله تعالى (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الآية 81 من هذه السورة أيضا. مطلب الأشياء التي ذم الله بها العرب وعدم جواز الوقف على الذكور وتخصيصهم دون الإناث بشيء: قال تعالى «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ» خلق وبرأ «مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً» حظا وسهما ولأصنامهم مثله كما يدل عليه قوله جل قوله «فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا» بزعمهم أيضا من حيث أن الله لم يأمرهم بذلك ولم يشرع لهم هذه القسمة ولهذا «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ» أصناما أو غيرها «فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ» لأنه ليس له خالصا وهو جل شأنه لا يقبل الشركة ولأنهم لم يعطوه للمساكين ولم ينفقوه على الأرحام والفقراء والضيوف «وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ» لأنهم ينفقونه على سدنة الأوثان ويسمونه لله تسمية فقط، وهكذا كان حكمهم السيء ولهذا عابه الله عليهم بقوله «ساءَ

ما يَحْكُمُونَ 136» في هذا التقسيم المجحف إذ يؤثرون آلهتهم على الله والله أحق أن يراعى جانبه ويحفظ حقه، فبئس القضاء قضاؤهم. روي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث وأنعام لله تعالى ومثلها لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكيا ناميا رجعوا فجعلوه للأوثان، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان زاكيا ناميا تركوه لها وقالوا إن الله غني عنه، قاتلهم الله يعرفونه غنيا وقادرا وضارا ونافعا ويعبدون غيره ويرجحونه عليه «وَكَذلِكَ» مثل ما زين لهم تجزئة أحوالهم «زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ» شياطينهم لأنهم أطاعوا وسوستهم يوأد البنات وسموا شركاء لهذا المعنى لأن الشريك قد يسمع كلام شريكه راجع الآية 31 من سورة الإسراء والآية 29 من سورة التكوير المارتين في ج 1، وسماعهم هذا لأوامرهم ما هو لخيرهم بل لشرهم لقوله تعالى «لِيُرْدُوهُمْ» يدمروهم ويهلكوهم «وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» يشوشوه عليهم ويخلطوا به ما ليس منه من إفكهم وما تسوله له أنفسهم، بأن يدخلوا عليهم الشك فيه لأن العرب في الأصل كانوا على دين إسماعيل عليه السلام فلبست عليهم شياطينهم أمر ذلك الدين تدريجا ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه فيما اندرس من أمر دينهم وبقوا كذلك يصغون لوساوسهم حتى أخرجوهم عنه وحسنوا لهم ما يلقونه إليهم من الأفعال والأقوال ووضعوا لهم هذه الأوضاع الفاسدة وزينوها لهم فتبعوها «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» إذ لا يقع شيء في كونه إلا بإرادته ومشيئته راجع الآيات 125، 107، 112 المارات من هذه السورة، وجاءت هذه الجملة تأكيدا لمثلها في الآية 112 بأن كل ما فعله المشركون وغيرهم بمشيئة الله تعالى خلافا للمعتزلة «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل «وَما يَفْتَرُونَ 137» على ربك وعليك من الإفك والبهت فإن ضرر افترائهم عليهم لا يضرك منه شيء وهذه الجملة على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من سورة فصلت الآتية وفيها من التهديد ما لا يخفى، وفيها دلالة على كذبهم من نسبة هذا التحريم والتحليل والتقسيم والقتل إليه تعالى عن ذلك، ومن جملة أوضاعهم الفاسدة عدا ما تقدم ما ذكره الله بقوله «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ» حرام لأن الحجر معناه المنع وهم يريدون أنها لا ينتفع بها،

لأنها مخصصة لأوثانهم فقط لقوله «لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ» من سدنة الأوثان وخدمهم الرجال منهم دون النساء «بِزَعْمِهِمْ» الفاسد بأن النساء لا يستحقون ذلك ويطلق الزعم على القول بالظن المشوب بالكذب «وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها» عن الركوب وهي البحائر والسوائب والحوامي الآتي ذكرها في الآية 101 من سورة المائدة في ج 3 «وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا» عند الذبح اكتفاء بذكر أوثانهم ويفترون هذا وغيره «افْتِراءً عَلَيْهِ» تعالى إذ نسبوا ذلك اليه كذبا محضا تعالت حضرته المقدسة عنه «سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ 138» من تلك النسبة بهتا وعدوانا وفي هذه الآية أيضا تهديد ووعيد لا يخفى على من له لب واع وفكر سديد «وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا» أي أن نسائهم لا يجوز لهن أكلها كأنها وقف على الذكور «وَإِنْ يَكُنْ» المولود منها «مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ» نساؤهم ورجالهم يأكلون منها على السواء فاتركهم يا سيد الرسل «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» أي جزاء وصفهم الكذب على الله في هذا وغيره، قال تعالى (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) الآية 63 من سورة النحل الآتية ونسق هذه الجملة من بديع الكلام وبليغه لأنهم يقولون وصف كلامه الكذب إذا كذب وعينه تصف السحر أي أنه ساحر وقده يصف الرشاقة بمعنى انه رشيق القامة مبالغة كأن من رآه أو سمعه وصف له ذلك بما يشرحه له قال ابو العلاء المعري: سرى برق العرة بعد وهن ... فبات برامة يصف الملالا وهذا كله من مقتضى الحكمة «إِنَّهُ» الله تعالى «حَكِيمٌ» بما يفعل بعباده «عَلِيمٌ 139» بما يفعلون له ولغيره وهذا تعليل للوعد بالجزاء فإن للعليم الحكيم بما صدر عنهم لا يترك جزاءهم الذي هو من مقتضى الحكم واستدل بهذه الآية على أنه لا يجوز الوقف على الذكور دون الإناث وأنه إذا فعل ذلك يفسخ ولو بعد الموت لأن هذا من فعل الجاهلية وقد نهى صلّى الله عليه وسلم عن التأسي بأفعالهم أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت يعمد أحدكم إلى المال فيجعله الذكور من ولده ان هو الا كما قال الله تعالى (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) وخالصة مصدر كالعاقبة

وضع موضع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهو شائع في كلام العرب يقولون فلان خالص أي ذو خلوص قال الشاعر: كنت أمنيتي وكنت خالصتي ... وليس كل أمر بمؤتمن قال تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً» لخفة عقولهم وقلة إدراكهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا بان الله تعالى لم يرزقهم وهو الرزاق لهم ولأولادهم والحافظ لهم جميعا وذلك من سبب الوأد وهو مخافة الفقر والسبي للبنات وهاتان الجريمتان قد تقع وقد لا تقع، فاستعجالهم على قتل أولادهم مع عدم معرفتهم العاقبة بمجرد ظنهم ووهمهم خسران لهم بازالة نعمة الولد التي هي أعظم النعم فاذا تسبب بإزالتها استوجب الذم ونقص عدده في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة وسبب نزول هذه الآية أن مضر وربيعة كانت تفعل ذلك فنعى الله عليهم قلة إخلاصهم له وعدم توكلهم عليه وكثرة جهلهم فيه وظاهر هذه الآية أنهم كانوا يقتلون الأولاد ذكرا وأنثى وعليه يكون السبب في قتلهم هو مخافة الفقر فقط أما مخافة السبي فلا يكون إلا بالإناث وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 59 من سورة النحل الآتية إن شاء الله تعالى القائل في فضح أعمالهم وتشنيع صنيعهم أيضا. «وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ» من بعض الحروث والأنعام وغيرها زاعمين ان الله الذي حرم وحلل ذلك «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ» واختلاقا من أنفسهم «قَدْ ضَلُّوا» في هذه المناسبة واقتراف تلك الأمور عن طريق الرشد والسداد «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 140» إلى الحق والصواب وقد ختم الله هذه الآية بلفظ الاهتداء يشير بها إلى أن الإنسان قد يضل عن الحق ولكنه يعود للاهتداء، وهؤلاء قد توغلوا في الضلال والاهتداء لم يحصل لهم قط وانهم أهل الذم لفعلهم الأمور السبعة المارة التي هي نقمة لهم لو كانوا يعقلون، فقد حرموا نعمة الولد بالقتل، ونعمة العقل بالسفاهة، ونعمة العلم بالجهل، ونعمة التحليل بالتحريم، ونعمة الصدق بالافتراء، ونعمة الرشد بالضلال، ونعمة الرجوع إلى الهدى بالإصرار على الكفر والضلال، ومن يضلل الله فماله من هاد، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام أي إلى هذه الآية، وهذه الآية

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 150]

المدنية السادسة قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ» مرفوعات عن الأرض «وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» منبسطة على وجه الأرض، وذلك أن أشجار العنب منه ما هو منبسط على الأرض ويسمى كرما عرفا على أن هنالك أخبارا بعدم جواز اطلاق لفظ الكرم على شجر العنب ومنه ما هو مرتفع على الأعواد كهيئة السقف ويسمى عريشا، هذا على تخصيص هذه الجنّات في الآية على العنب فقط أما إذا أطلق لفظ الجنات فإن المعروش منها كل ما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ والقثاء وشبهها من الأزهار غير المثمرة، وغير المعروش كل ما قام على ساق ونسق كالنخل والموز والتفاح وأشباهه، والزروع كالحنطة والذرة والرز وغيرها من النبات الغير مثمر أيضا، ولكن قوله تعالى بعد ذلك «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ» يؤيد الأول وقد جعل الله كلا من ذلك «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» في الطعم كاختلاف شجره وثمره في اللون والشكل والحجم والرائحة «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً» في طعمه ولونه وشكله ورائحته أيضا «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» في شيء من ذلك، فيا أيها الناس «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» وهذا أمر إباحة بتناول ثمر تلك الأشجار نضجت أو لا إذ لم يقل إذا نضج فيجوز أكله عند بدو إدراكه إذا لم يضر بالصحة فإذا علم ضرره حرم أكله لأن منها ما ينفع نضيجه ويضر نيئه ومنها ما لا، لأن القصد من خلقها والإنعام بها على عباده هو الأكل لما تشتهيه النفس منها راجع الآية 99 المارة «وَآتُوا حَقَّهُ» زكاته التي أوجها الله عليكم وبينها حضرة الرسول «يَوْمَ حَصادِهِ» وبعد تصفيته وجفافه وقد آذنت هذه الآية بجواز الأكل من تلك قبل إعطاء الزكاة لا لبيع وغيره. مطلب ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وغيرها والحكم الشرعي في قدرها: وإن الزكاة لا تجب إلا بعد الحصاد حذرا من وقوع آفة سماوية أو أرضية على الحبوب والأثمار فيتضرر بها، ولا زكاة وهو في السنبل والجربان والعثوق لعدم معرفة القدر الواجب، وهذا مما يؤيد بأن المراد بالمعروشات الأعناب إذ تجب فيها الزكاة، وكذلك ما عطفت عليها، وبأن هذه الآية مدنية، لأن الزكاة لم تفرض في مكة بل في المدينة وظاهر الأمر للوجوب إذ لا يوجد ما يصرفه عنه وهي محكمة سارية في كل نوع من أنواع ما تجب فيه الزكاة. الحكم الشرعي:

وجوب الزكاة في جميع حواصل الزروع مما يكال أو يوزن ومن الفواكه التي تدخر فقط، فإذا كانت تسقى بالسيح أو المطر أو الندى من كل ما يسمى بعلا فقيه العشر، وإذا كانت تسقى بساقية أو نضح من كل ما كان بواسطة الإنسان أو الحيوان والآلات مثل المضخة والدولاب والغراف وغيرها فنصف العشر من كل ما بلغ النصاب وهو خمسة أوسق عبارة عن ثلاثمائة صاع، لأن الوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد فتكون ألفا ومئتي مد، والمد رطل وثلث بالوزن العراقي والرطل مائة وثلاثون درهما، وقيل مئة وثمان وعشرون درهما وثلث الدرهم، فيكون القدر الذي تجب فيه الزكاة على الضبط خمسمائة حقه وعشر حقق، كل حقة أربعمائة درهم، وهذا ما يسمونه الآن قنطاران في بلاد سورية الشمالية، لأن رطلهم حقتان ونصف وسبعة عشر درهما، والقنطار مئة رطل، هذا وما قيل إن هذه الآية مكية وإنها منسوخة بآية الزكاة 267 من سورة البقرة في ج 3، وإن الأمر فيها للندب وإن المراد بالحق هنا صدقة التطوع فقيل أضعف من قيل لا عبرة به لأن الآية مدنية وإن صرف اللفظ على حقيقته للواجب أولى من صرفه على المجاز للندب والله أعلم «وَلا تُسْرِفُوا» أيها الناس فتتجاوزوا الحد، فتبخلوا فلا تؤدوا حق الله كاملا طلبا لترضية عيالكم وتتركوا عيال الله وتبخسوهم حقهم الذي فرضه الله لهم وهم لم يأخذوه منكم إلا بأمر الله، فيكون في الحقيقة الآخذ للزكاة هو الله الذي من عليكم وأهلكم للصدقة وكذلك لا تكثروا بأن تعطوا زيادة على الواجب أو على قدرتكم طلبا للشهرة والصيت لأن فيه ضياع المال والحرمان من الأجر والندامة فيما بعد، ولهذا عد إسرافا، قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية 29 من سورة الإسراء، وقال تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الآية 67 من الفرقان في ج 1 فراجعها واعلم «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 141» وكل شيء لا يحبه الله لا خير فيه، وسبب نزول هذه الآية أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة في يوم واحد وفرقها كلها ولم يترك لأهله شيئا، وهذا مما يؤيد أن الآية مدنية لأن الرجل من أهل المدينة والنخل فيها، قال تعالى «وَمِنَ الْأَنْعامِ» أنشأ لكم أيها

الناس «حَمُولَةً» لأثقالكم وأنفسكم إلى أمكنة بعيدة لم تبلغوها إلا بمشقة كالإبل والبغال والحمير والخيل راجع الآية 7 من سورة النحل الآتية «وَفَرْشاً» كالصوف والوبر والشعر لأن منه ما ينسج ويلبد ويدحي فيكون فراشا، وقيل مما لا يصلح للحمل كالغنم والمعز وصغار الإبل والبغال والخيل، وإنما سمي فرشا لدنوه من الأرض التي جعلها الله فراشا والأول أولى بالمقام وأنسب بالسياق أيضا «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» منها ومن نتاجها ولا تحرموا منها ما أحله الله لكم «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» طرقه ودسائسه مما يسوّل ويوسوس لكم فتبخلوا أو تسرفوا أو تحرّموا وتخصّصوا وتفضلوا مما ذكر في الآيات السابقة من 130 إلى 140 واحذروا أيها الناس نزعات شياطين الإنس والجن «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 142» إذ أظهر عداوته لأبيكم آدم واقتفى ذريته من بعده بالعداء. واعلم أن لفظ عدو يأتي بمعنى أعداء قال ابن الانباري: إذا أنا لم أنفع صديقي لوده ... فإن عدوي لم يضرّهم بغضي أي أعدائي بدليل ضمير الجمع وله نظائر في القرآن منها قوله تعالى (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) فقد جعل المكرمين نعت لضيف وهو مفرد الآية 24 من سورة الذاريات الآتية، وفي قوله تعالى (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الآية 10 من سورة ق في ج 1، وقوله تعالى (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) الآية 36 من سورة النور في ج 3، ومنها قوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) الآية 93 من آل عمران ج 3 إذ أكد المفرد بما يؤكد فيه الجمع وإذا علمتم أنه عدو لكم فاتهموه فيما يلقى إليكم ولا تقروه في قلوبكم لسابق عداوته وتمسكوا بأوامر الله وشرعه الذي أنشأ لكم من الأنعام «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ» زوجين «اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ» ذكر وأنثى ويقال لكل منها زوج إذا كان معه من جلسه وإذا كان وحده سمي فردا. فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الفسقة «آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» عليكم «أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ» على طريق الاستفهام الإنكاري «أَمِ» حرم «أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» من تلك الأنعام لأنها لا تشتمل إلا على ذكر وأنثى مثلها

مطلب المحرم والمحلل هو الله وأن أمر الرسول هو أمر الله والتحريم لنفع العباد والحكم الشرعي بذلك:

مطلب المحرم والمحلل هو الله وأن أمر الرسول هو أمر الله والتحريم لنفع العباد والحكم الشرعي بذلك: ولم يحرم الله شيئا منها «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ» صحيح عن العلم الذي أتاكم من الله وجاءكم رسله بتحريم ذلك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 143» بما حرمتم وحللتم تبعا لأمر الله ورسوله وحاشا الله ورسوله أن يأمرا بذلك ولكنكم كاذبون بنسبة ذلك إليهما «وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا» التحريم كلا لم يوصكم ولا حجة لكم على ذلك ولا برهان ولا دليل ثم وبخهم الله على ذلك بقوله «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منه وجرأة على ربه «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 144» إلى طريق الحق ولا يوفقهم إلى الرشد، إذ لا أشد ظلما وأبعد عن السداد ممن يكذب على الله فينسب إليه التحريم والتحليل من حيث لم يحلل ولم يحرم، قال صلّى الله عليه وسلم من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فكيف من يكذب على الله «قُلْ» يا أكرم الخلق لهؤلاء المفترين «لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ» آكل يأكله «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً» حتف أنفها أو ما هو في حكم الميتة كالموقوذة والمتردية والنطيحة وغيرها الوارد ذكرها في الآية 5 من سورة المائدة في ج 3 من كل ما لم تبق فيه حياة معتبرة ويزكى زكاة شرعية وهذا عام خص منه السمك والجراد كما خص مما بعده الكبد أو الطحال لأنه متجمد خلقة وهو «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» حال الحياة أو عند الذبح أما الذي يبقى في العروق وبين اللحم فهو عفو، وقال صلّى الله عليه وسلم: أحل لكم دمان الكبد والطحال وميتتان السمك والجراد «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ» قذر نجس ضار أكله يورث الجذام والدودة الوحيدة وقلة الغيرة وأمر آخر لم نطلع عليه بعد وكذلك الميتة والدم تورث أضرارا في الوجود لأن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا، على أنه لو فرض أن لا ضرر فيما حرم الله فيجب علينا اجتنابه امتثالا لأمره ولا حق للعبد أن يقول لم حرّم الخالق، ولا أن نطلب العلة بالتحريم، لأن أفعال الله

لا تعلل وأمره مطاع جزما لأنا إذا كنا نتمثل أمر الطبيب فنمتنع عن أكل ما يحذرنا عنه ونتمثل أمر السلطان فننتهي عما ينهانا عنه فلأن نتمثل أمر الله من باب أولى «أَوْ فِسْقاً» ذبيحة ما «أُهِلَّ» رفع الصوت عند ذبحها بذكر ما «لِغَيْرِ اللَّهِ» بأن ذكر عليها اسم صنم أو غيره وهذا النّص في أن التحريم والتحليل لا يكونان إلا بوحي الله تعالى وأن المحرمات محصورة فيما حرمه الله نصّا في القرآن في هذه الآيات وآيات المائدة وغيرها في ج 3، ولا شك أن التحريم الوارد في القرآن عبارة عن خبر والأخبار لا يدخلها النسخ كما ذكرنا في الآية 135 المارة لا سيما وأن هذه الآية المكية تعضدها بالتأييد الآيات المدنيات في سورة المائدة وآية البقرة المصدرة بأداة الحصر وعددها 134 وهذه أيضا تفيد الحصر وكلها مطابقة بعضها لبعض في الحكم، مما يدل على أن لا شيء محرم غير ما ذكر فيها، وقد جاء تحريم بعض الأشياء بالسنّة مثل الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك يجب علينا أيضا الاجتناب عنها وامتثال أمر الرسول لأنه من أمر الله قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الآية 7 من سورة الحشر في ج 3. راجع الآية 37 من هذه السورة تجد ما يكفيك في هذا البحث «فَمَنِ اضْطُرَّ» اجهد لتناول شيء من هذه المحرمات وكان «غَيْرَ باغٍ» على مسلم مضطر مثله تارك لمواساته مستحل لأكل الميتة بغير ضرورة «وَلا عادٍ» قاطع طريق أو متعمد أو متجاوز قدر حاجته كما أشرنا إليه في الآية 119 المارة فهو عفو لما فيه من الضرورة الماسة وقد رخص الله تعالى ورسوله للمضطر تناول المحرّم بقدر الحاجة ولهذا ختم الله تعالى هذه الآية بقوله «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ» لمن أخذ من هذه المحرمات قدر حاجته شريطة أنه غير باغ ولا عاد «رَحِيمٌ 145» به بمقتضى منّه ولطفه على عباده فلا يؤاخذهم على ما تفضل به عليهم من الرخص وترك العزائم عند الاقتضاء. الحكم الشرعي: اعلم أن الحرام ما ورد النص بتحريمه سواء كان من الله أو من رسوله، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية 30 من سورة البقرة في ج 3 فهذه الآية مطلقة تفيد حل كل شيء على وجه الأرض وما في المياه من حيوان وعامة الطير، وقيدت بما نص

الله ورسوله على تحريمه، كما نوهنا به آنفا وسنتم بحثه في الآية 7 من سورة الخسر والآية 30 من البقرة في ج 3 إن شاء الله فراجعها، روى مسلم عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل. وعلى هذا فإن كل ما جاء النهي بنص الشارع فهو حرام ولهذا يحرم تناول ما أمر الشارع بقتلها مما ورد في الحديث الصحيح خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي: الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور. وروي عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وعن جابر أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهرة، وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة النحلة والهدهد والصرد وهو طائر فخم الرأس يصطاد العصافير والوزغ جمع وزغة بالتحريك هو سام أبرص وابن الماء الآتي هو طير يسمى القرلي يعوم فوق الماء فإذا رأى شيئا خرّ عليه فكل ما ورد نص صحيح بقتله أو النهي عن أكله أو تحريمه فهو حرام لا يحل تناوله، وما لم يرد فهو بالخيار إن شاء أكله وإن شاء تركه، وقالوا ما استطابة العرب فهو طيب، وما استكرهته فهو مكروه، وهذا ليس مطردا لاختلاف العادات والنفوس، فلينظر العاقل صاحب النفس السليمة ما تطلبه نفسه من غير ما ورد النص بتحريمه، وما تعافه منها، لأن الله تعالى قال أحل لكم الطيبات فما استطابه الأكثر فهو طيب، لأن العبرة للغالب، لأن ما تستحسنه العرب أو تستخبثه لم يدخل تحت الضبط، وقد قدم لحضرة الرسول الضب فلم يأكله وقد أكله أصحابه بحضوره ولم ينههم عنه، وغاية ما قاله فيه يعافه طبعي، فيكون أكله حلالا لأنه لو كان حراما لما أقرهم على أكله، وانما قلنا العبرة للغالب لأن من العرب من لا يستقذر شيئا ويفهم من الآية جواز الانتفاع بجلد الميتة وعظمها وشعرها لأن النهي عن أكلها فقط أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أخذتم مسكها أي جلدها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال عليه الصلاة والسلام، إنما قال الله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً

عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية المارة وانكم لا تطعمونه ان تدبغوه فتنتفعوا به. قال تعالى «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا» اليهود وسموا يهودا لقولهم فيما أخبر الله عنهم إنا هدنا إليك الآية 156 من الأعراف المارة في ج 2 وما قيل انهم لقبوا بذلك على اسم ملك صار منهم لا قيمة له لأنه إنما صار بعد أن صاروا أهلا للملك وبعد وفاة موسى عليه السلام «حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» مثل البعير والنعامة وكل ما لم يكون مشقوق الأصابع من البهائم والطير كالاوز والبط وكل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وكل ذي ناب من السباع والأرنب وابن الماء وأراد بالظفر هنا الحافر مجازا على طريق الاستعارة «وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) التي في جوفهما وعلى الكليتين وبما أن لفظ الشحوم جاء عاما فقد استثنى منه ما هو حلال وهو ما جاء بقوله عزّ قوله «إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما» يدخل فيه الإلية لأنه مما يتعلق بالظهر، إلا أن اليهود لا يأكلونها «أَوِ الْحَوايا» الأمعاء والمصارين والمباعر مما تحتوي عليه في البطن «أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» من الشحوم وهذا صريح في حل الإلية لأنها مختلطة بعظم وهو العصعص، وكذلك الشحم الذي في الرأس والعين وسائر العظام فهو حلال، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عام الفتح ان الله تعالى حرم بيع الخمر ولحم الخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدعن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال لا هو حرام، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه (أي أذابوه) يقال أجملت الشحم وجملته إذا أذبته وجملته أكثر وأفصح «ذلِكَ» التحريم عقوبة لهم «جَزَيْناهُمْ» به وأوجبنا عليهم التحريم «بِبَغْيِهِمْ» على أنفسهم وغيرهم وأعظم بغيهم قتل الأنبياء وأقله أكل الربا «وَإِنَّا لَصادِقُونَ 146» فيما أخبرناك به يا سيد الرسل من أفعالهم هذه «فَإِنْ كَذَّبُوكَ» في شيء من هذا أو غيره «فَقُلْ رَبُّكُمْ» أيها الناس قادر على أن يأخذهم حالا بعذاب لا يستطيعون رده ولا يتمكنون من النّجاة منه على تكذيبهم، هذا ولكنه أي ربك يا أكرم الرسل «ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ» لا يعجل عقوبة الكافر والعاصي

مطلب في المشيئة والإرادة واختيار العبد ودحض حجج المعتزلة وغيرهم:

لعظيم حلمه أما إذا أصرّ ولم يرتدع، فلا شك أنه ينزل به عذابه الذي لا مرد له «وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ» إذا حان أجله «عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 147» لأنه لا يوقعه بهم إلا إذا تحقق عليهم ولم يكن لهم عذر بدفعه، ألا فلا يغتر أحد بالإمهال فإنه استدراج لا إهمال، وان ما يدره الله على المجرمين من السعة والعافية والجاه والسلطان هو نقمة لا نعمة بالنسبة لعاقبتها الوخيمة مما يترتب عليها من العذاب الأليم فلا يغفلنكم أيها الناس طول الأمل عن التوبة والرجوع إلى الله. مطلب في المشيئة والإرادة واختيار العبد ودحض حجج المعتزلة وغيرهم: واعلموا أنه يوم يأتي عذابه «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» حينما لم يجدوا عذرا يعتذرون به ولا بدا من الخلاص إذ لزمتهم الحجة ولم يبلغوا الحجة «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا» أشرك «آباؤُنا» من قبل إشراكنا ولم نقلدهم بالشرك «وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» مما ذكر على أنفسنا وغيرنا ولكن الله تعالى شاء ذلك كله ففعلناه تبعا لإرادة الله «كَذلِكَ» مثل هذا الكذب المحض «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم من الأمم السابقة واحتجوا عليهم بهكذا مفتريات وانكبوا عليها «حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» فكبوا على وجوههم في النار. وفي قوله تعالى، ذاقوا، إيماء إلى أن لهم عذابا مؤخرا عند الله غير الذي ذاقوه لأن الذوق أول قربان الشيء أو أن الإذاقة في الدنيا والأشد منها بالآخرة «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ» يصح الاحتجاج به على زعمكم ذلك «فَتُخْرِجُوهُ لَنا» على أن إشراككم كان بمشيئة الله وأنكم فعلتموه تبعا لإرادته فإذا كان كذلك فلا شيء عليكم بل تستحقون الثواب لأنكم اتبعتم ما أراده الله عن علم ولكنكم فعلتم ذلك عنادا وعتوا وتبعا لشهوات أنفسكم وتسويلات شياطينكم وجهلا بمقام الإلهية المقدسة واستهزاء برسله العظام وسخرية بكلامه الجليل ولم تتبعوا في ذلك حقيقة ناصعة «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» الذي لا يغني عن الحق شيئا «وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ 148» تكذبون على الله وتختلقون أشياء من أنفسكم باطلة لا أصل لها في الشرائع السماوية. وليعلم أن الله تعالى حكى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ثم ذكر عقبه قوله (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

وهذا التكذيب ليس هو في قولهم (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) لأنه قول حق وصدق إذ لا يقع شيء إلا بإرادته ومشيئته بل هو في قولهم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) ورضي ما نحن عليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف الآية 28 في ج 1، فردّ الله عليهم بقوله (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ثم جهلهم وأنّبهم إذ ختم الآية بقوله (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) والدليل على التكذيب هو في قولهم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) ورضيه منا لا في قولهم (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) ولهذا صار قوله تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ) بتشديد الفعل ولو كان إخبارا عنهم بالكذب في قوله (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) لقال كذب بالتخفيف بأن ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب ولو أنهم قالوا هذه المقالة تعظيما لله وإجلالا لحضرته ومعرفة بحقه وبما يقولون لما عاب الله عليهم قولهم ذلك، ولكنهم قالوها تكذيبا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون، وعليه فلا دلالة إذا في هذه الآية الكريمة لمذهب القدرية والمعتزلة، ولا يتجه تأويلهم إياها على رأيهم بخلاف ما هي عليه من قولهم إنّ الكفار لما قالوا (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا) كذبهم الله ورد عليهم بقوله (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما مر تفصيله، وأيضا فإن الله تعالى حكى عن هؤلاء القوم مذهب الجبرية القائلين لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك ولمنعنا من الشرك، وإذ لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد له وإذ أراده منا امتنع تركه لنا إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد، والجواب عن زعمهم هذا ما قدمناه في الآية 98 من سورة يونس، والآية 118 من سورة هود المارتين لأن أمر الله تعالى بمعزل عن مشيئته وإرادته لأنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريده، فعلى العبد أن يتبع أمره الذي أمر به على لسان رسله وليس له أن يتعلق بمشيئته التي لا يعلمها، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله، فهو جل شأنه يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به، قال تعالى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) الآية 7 من سورة الزمر الآتية، ومع هذا فإنه يبعث الرسل إلى عباده يأمرهم بالإيمان مع إرادته الكفر منهم، وإنك أيها الإنسان قد تأمر عبدك أحيانا بشيء لا تريده

بل تريد منه فعل غيره راجع نفسك وتفكر في هذا وتدبره تجده واقعا لا مرية فيه فعلى هذا أن كل خير يقع هو بمشيئه الله ورضاه وكل شر بإرادته وقضاه، قال في بدء الأمالي: مريد الخير والشر القبيح ... ولكن ليس يرضى بالنكال ولا يخفى أن ورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع، لهذا فإن ما قيل إنهم كانوا يقولون الحق في هذه المقالة (أي لو شاء الله ما أشركنا) إلا أنهم كانوا يعدّونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لهم في ترك الايمان قول لا حقيقة له هذا وإن الله تعالى حكى عن الكفار انهم يتمسكون بمشيئة الله في شركهم وكفرهم، وأخبر أن هذا التمسك فاسد باطل غير ثابت فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام والله أعلم. قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» عليكم أيها الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولا حجة لكم عليه بإرادته ومشيئته «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ 149» ولكنه لم يشأ ذلك ولم يرده لأنه خلق أناسا إلى الجنة وآخرين إلى النار (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) الآية 5 من سورة القمر ج 1 فبطلت حجة المعتزلة وغيرهم لأن هذا دليل على عدم إشائته إيمان الكافر وثبت الحق وزهق الباطل لأنه جل شأنه هدى من صرف اختياره إلى طرق الهدى وأضل من صرف اختياره إلى سبل الضلال (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الآية 24 من سورة الأنبياء الآتية، وإن استعداد الفريقين يقتضي ما صرف كل منهما اتباعا لما قدر له في قضاء الله الأزلي ولا يقال حينئذ لا فائدة من إرسال الرسل كما زعم القائلون الذين حكى الله عنهم بقوله، (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) الآية 164 من سورة الأعراف في ج 1، لأن فائدة إرسال الرسل تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين إذ قال جل قوله جوابا للسائلين آخر تلك الآية (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) هذا وإذا تدبرت صدر الآية المفسرة وجدته دافعا لصدور الجبرية، وإذا تأملت عجزها وجدته معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة

[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 إلى 160]

والعصيان، والثاني مثبت لنفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وان جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة والجماعة على المعتزلة ومن نهج نهجهم، واقتفى أثرهم، ولهذا البحث صلة في الآية 35 من سورة النحل الآتية فراجعه وقل الحمد لله رب العالمين القائل «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المعاندين «هَلُمَّ» هذه كلمة دعوة إلى الشيء يستوي فيها المذكر والمؤنث والجمع والمفرد وفيها لغة أخرى وهي هلم للواحد وهلما للاثنين وهلموا للجمع وهلمي للأنثى والأول أفصح أي هاتوا «شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا» الذي ذكرتموه في هذه السورة وغيرها مما لم يحرمه الله «فَإِنْ شَهِدُوا» على زعمهم بالتحريم فشهادتهم زور وقولهم بهت وكلامهم إفك «فَلا تَشْهَدْ» أنت يا حبيبي «مَعَهُمْ» لأنهم كاذبون «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» وعليك أن تتمسك بما أوحي إليك في ذلك وتنبعه وترفض افتراءهم، لأنهم كفرة لا يهمم الكذب، إذ ليس بعد الكفر ذنب فليس ببعيد ان اتبعوا أهواءهم في الشهادة الكاذبة «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لا يكترثون بذلك كيف «وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 150» به غيره فيسوون أصنامهم الباطلة التي صنعوها واتخذوها بجلال الإله العظيم الجليل ومن كان كذلك استوى عنده الحق والباطل تبعا لهوى نفسه لهذا عليك باتباع الوحي وإدامة نشر الدعوة ولا يضرك فجورهم وليس لك أن تقاتلهم عليه الآن فاهجرهم هجرا جميلا حتى يأتي الوقت المقدر لاقارهم على الإيمان. وهذه الآيات المدنيات الثلاث الأخيرة المتضمنة الوصايا العشر الموجودة في الكتب القديمة المكلف بها جميع الأمم من لدن آدم إلى يوم القيامة قال تعالى يا محمد «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» حقا يقينا لا مرية فيه ولا زعما ولا ظنا ولا تقليدا، وليس مما تزعمونه وتنسبونه إلى الله جهلا وتطاولا وتجاوبون به مكابرة وعنادا وتصرون عليه تجبرا أو عتوا، فاعلموا أن أول وأعظم ما حرم عليكم هو «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» من خلقه ولا من صنعكم ولا تطيعوا مخلوقا في معصية وقد حرم عليكم عقوق الوالدين بعد الإشراك به وأوجب عليكم برهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» أحسنوا إليهما إحسانا

كثيرا إذ لا نعمة أعظم بعد نعمة الله على عبده بالإيمان الذي أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الهدى إلا نعمة حق الوالدين لما لهما من حق التربية والحفظ حال الصغر ولأنهما السبب الظاهري في وجود الولد، لذلك قرن الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده قال تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1 وقرن الشكر لحقهما بحقه فقال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 15 من سورة لقمان الآتية وقد اسهبنا ما يتعلق بحقهما في هاتين الآيتين فراجعهما تعلم أن عقوقهما محرم كبير موجب لعقاب كبير والمحرم الثالث «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ» خوف الفقر وخشية الفاقة والإملاق هو الاقتار، لأنا «نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» لا نكلفكم رزقهم وانكم لو علمتم انكم لا تقدرون أن ترزقوا أنفسكم فكيف تقدرون على رزقهم لأنا ضمنا لكم رزقكم قبل خلقكم أنتم وإياهم والخلق أجمع راجع الآية 23 من الذاريات الآتية ولا تقتلوهم أيضا لمظنة السبي فإنا نحفظهم لا أنتم، ثم ذكر المحرم الرابع فقال «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ» تقدم ذكرها وبيانها في الآية 32 من سورة الأعراف فراجعها، ولا يخفى أن النهي عن القربان يؤذن بشدة جرم الوقوع وهو أشد من التحريم، لأنه إذا كان قربانها محرما منهي عنه، فكيف بالوقوع فيها والعياذ بالله؟ ولفظ الآية شامل لكل ما يستقبح ويستفحش مادة ومعنى سرا وجهرا قليلا أو كثيرا مألوفا أو غير مألوف، ثم أكد هذا التعميم بقوله «ما ظَهَرَ مِنْها» بينك وبين الخلق «وَما بَطَنَ» فيما بينك وبين الخالق لأنه إذا امتنع بالعلانية وفعل بالسر كان مثل الجاهلية الذين لا يرون بأسا بالسر فيكون امتناعه ليس خوفا من الله وحياء منه بل خجلا من العبد فيضاعف له العذاب لمخالفته أمر الله ويكون امتناعه رياء، والمحرم الخامس «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» بأن ارتد عن الإسلام بعد أن دخل فيه أو قتل نفسا تعمدا أو زنى وهو محصن فيكون قتله بحق إذا ارتكبت احدى هذه الثلاث، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك

لدينه المفارق للجماعة. «ذلِكُمْ» ما ذكر من التكاليف الخمسة المارة الذكر «وَصَّاكُمْ بِهِ» بالكتب المنزلة قبلا على لسان الرسل السالفة ربكم الجبار المنتقم وأكده الآن لكمال أهمية هذه الوصية فحافظوا عليها أيها الناس «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 151» فوائدها وتعون منافعها فتستعملون عقولكم بكف نفوسكم وحبس شهواتكم عن مباشرة شيء منها وأجيبوا دعوة ربكم بالمحافظة عليها لتفوزوا برضائه وتدخلوا جنته، والمحرم السادس هو أكل مال اليتيم لقوله تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» له إذ لا يجوز في حال من الأحوال قربان ماله إلا في حالة واحدة وهي ما يكون له فيها الحظ والنفع كحفظه وتنميته وإصلاحه والمداومة على ذلك «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» راشدا، لأن مطلق البلوغ لا يكفي بل يشترط الرشد معه فادفعوه إليه كاملا مع ربحه يعمل هو برأيه فيه، أما إذا بلغ سفيها فيبقى المال بيد الولي أو الوصي راجع الآيتين 5 و 6 من سورة النساء في ج 3 والآية 34 من سورة الإسراء في ج 1 تقف على التفاصيل المتعلقة بهذا، وإذا كان قربانه منهي عنه فكيف بأكله أجارنا الله منه، والمحرم السابع نقص الكيل والميزان لقوله تعالى «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» بالحق العدل، والأمر بالإيفاء يتضمن النهي عن التطفيف والتنقيص ومعنى القسط يؤذن بعدم الزيادة كما يحرم القص، واعلم أن الوفاء فيها من كرم الإنسان ومروءته التي يحمد عليها عند الله والناس، ومن جملة الوصايا العشر المذكورة في التوراة والملمح إليها في الإنجيل بلفظ لا تسرق لأن نقص الكيل وتطفيف الوزن سرقة فيكونان داخلين فيها وإذا كان هذا النقص منهى عنه فالسرقة من باب أولى كيف وقد جعل الله حدها قطع اليد راجع الآية 38 من سورة المائدة ج 3، وقال تعال في عدم الحرج «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» طاقتها لأن الوسع هو الطاقة وهو عندنا بذل الإنسان جهده في عدم قربان شيء من المحرمات ولهذا لم يأمر الله بالزيادة لما فيها من الحرج على البائع ونهى عن النقص لما فيه من الظلم على المشتري والضيق لحاجته، فأمر الله تعالى ببلوغ الوسع في ذلك، وما وراء الوسع عفو مع لزوم الضمان لأن للجائع الذي لا يجد شيئا وقد أشرف على الهلاك، أكل مال غيره

دون اذنه، بقصد الضمان سواء كان بطريق السرقة والغصب، ثم ذكر المحرم الثامن فقال «وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا» في قولكم وشهادتكم وحكمكم لأن القول يشمل ذلك كله وضدها حرام وهي الكذب وشهادة الزور والجور في القضاء وكذلك الغيبة والنميمة والسب والشتم والقذف أيضا «وَلَوْ كانَ» المقول فيه والمشهود عليه والمقضي له «ذا قُرْبى» ويدخل في القول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زجر ولا شدة ولا ميل للغير ولا غضب لنفسه ويكون حنقه من أجل المنكر لله تعالى ليكون أرجى للإجابة وأكثر تأثيرا للقبول وأدعى للامتثال، والمحرم التاسع الغدر ونقض العهد، قال تعالى «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا» لأن الأمر بالمحافظة على العهد يقتضي تحريم نقضه وهو يشمل عهد العبد مع ربه وعهده مع عباده وعهد العباد فيما بينهم والنّذر الواجب لأنه من جملة العهود أيضا والوعود، وقدمنا ما يتعلق بهذا الشان في تفسير الآية 24 من الإسراء في ج 1، ولا يخفى أن الوفاء بالوعود والعهود من أخلاق المؤمن والخلف والنكث من خلق المنافق قال صلّى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان «ذلِكُمْ» التكاليف الأربعة المتممة مع الخمسة الأول تسعة «وَصَّاكُمْ» بها الرب الجليل المنعم «بِهِ» على من قبلكم والتي وصى بها آبائكم الأقدمين والأمم السالفة بواسطة أنبيائهم «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» في هاتين الآيتين المتضمنة تسعة من الأمور المهمة لتأمروا بالمأمور منها وتنهوا عن المنهي عنها، ثم بين الوصية العاشرة الجامعة لأنواع كثيرة من المحلات المانعة عن تعاطي كثير من المحرمات والتي هي نبراس يهتدى بها في الظلمات المبينة بقوله عز قوله «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً» لا عوج فيه ولا زيغ له ولا حيف فيه ولا محيد عنه لمن أراد الوصول إليّ والتنعم بجنّتي والخلاص من عذابي، وكلمة مستقيما منصوبة على الحال بمعنى الإشارة كما أشرنا إليه في الآية 126 المارة، لا تحيدوا عنه أبدا ليهديكم إلى الرشد ويقودكم إلى الصواب ويوصلكم إلى الدين الذي ارتضاه لكم بعد أن رضيه لنفسه المقدسة فاقتفوا أثره واعملوا به فهو الطريق السوي الذي يأخذ من اتبعه إلى السداد ويدله على سبل الخير والرشاد، واعلم أن جميع ما تقدم في الآيتين المارتين والخمس عشرة آية

من سورة الإسراء من 23 إلى 38 وما قبلها وما بعدها والآيات العشر من سورة الفرقان من 165 إلى 175 المارة في ج 1 من الأوامر والنواهي، والأحكام الشرعية داخلة في هذه الآية العظيمة ومؤذنة بان كل ما بينه الرسول الأعظم هو من دين الله القويم الواجب اتباعه. ثم أكد الأمر بسلوكه والنهي عن الانحراف عنه بقوله «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» الطريقات الصغار المتشعبات عن الطريق العام والجادة المسلوكة، المختلفة يمينا وشمالا، المكنّى فيها عن اتباع الأهواء الفاسدة والبدع المضلة وشهوات النفوس الخبيثة وزخارف الدنيا الدّنية التي تؤدي بصاحبها إلى الهلاك لأنها توصل المعقود، وغايتها الضياع ونهايتها التلف كما كنّ عن الطريق المستقيم باتباع الدين الحق والمنهج الصدق الواضح المؤدي بصاحبه إلى النجاة بايصاله لمقصوده ونهايته الفوز بالمطلوب وإنما نهى الله تعالى عن اتباع السبل (نيات الطريق) لأن في اتباعها البعد عن الله ورسوله المنوه عنه بقوله «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ» أيها المتبعون لها «عَنْ سَبِيلِهِ» السوي وتميل بكم إلى الدمار «ذلِكُمْ» المذكور في الوصايا التي وصى الله بها أسلافكم بواسطة أنبيائهم من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وأوجب عليكم العمل بها «وَصَّاكُمْ بِهِ» الآن فعضوا عليها بالنواجذ وتمسكوا بوصية ربكم «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 153» طرق الهلاك ومواقع الضّلال وتصلون إلى بغيتكم في الدنيا والآخرة روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال خط لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله فقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه وقرأ هذه الآية، هذا وإنه تعالى ضرب مثلا في هذه الآية لدينه القويم الناصع بطريق عام معبد مار بالبيداء يوصل من يسلكه إلى البلد الذي يريده فاذا سلكه أوصله الى قصده بأمن وسلام وللأديان المعوجة الباطلة بطرق صغار متشعبة عن يمين وشمال الطريق السوي الضاربة في الصحاري لا يعلم مداها، ولا يعرف منتهاها، فإذا ترك الرجل ذلك الطريق المستقيم وسلك هذه الطرق تاه وتحير ووقع في حيص بيص فلا يزال يتخبط فيها حتى يهلك جوعا وعطشا وليعلم أن هذه الآيات مذكورة في الكتب السماوية كلها المنزلة على الرسل كما أشرنا إلى هذا قبل والوصايا العشر المذكورة في التوراة والإنجيل داخلة فيها

بدليل قوله تعالى عند ختام كل آية من الآيات الثلاث (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) أي وصى بها من قبلنا وأنزلها على رسولنا ليعمل بها هو وأمته إلى يوم القيامة ولا تزال طائفة من هذه الأمة عاملة بها حتى لا يبقى على الأرض من يقول الله قال تعالى «ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة الجليلة «تَماماً» للنعمة عليه وكرامة له «عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ» أي على من كان محسنا صالحا لاثقا للقيام به كائنا من كان، لأن الذي هنا للجنس، ولهذا قرأ ابن مسعود على الذين أحسنوا وقرأ الحسن على المحسنين وهما قراءتان تفسيريتان لأنهما مخالفتان لما في المصاحف، وقد ذكرنا أن كل قراءة لا تطابق ما في المصاحف لا عبرة بها ولا يجوز قراءتها لعدم ثبوتها بالتواتر المطلوب في صحة القراءة وإن هكذا قرئت لا تعد قراءة وإنما هي تفسير لبعض الألفاظ القرآنية وسبك بعضها ببعض ليس إلا قال الفراء إن الذي هنا في هذه الآية مثلها في قوله: وإنّ الذي جادت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد وإنما قلنا تفسير لأن الذي تأتي بمعنى الذين على اعتبار الجنسية في القراءة الأولى مثل من تأتي للفرد والجمع، والثانية مأخوذة من قوله (الَّذِي أَحْسَنَ) في الآية، فقال على المحسنين وهو تفسير لا قراءة كما لا يخفى «وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» يحتاج إليه قومه في دينهم ودنياهم «وَهُدىً» من الضلال «وَرَحْمَةً» عظيمة له ولقومه شاملة من تبعه في دينه ومات عليه إلى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم «لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 154» بالبعث والحساب على الأعمال والجزاء عليها لأن من أيقن بهذا خاف فانتهى عن المنكر وعمل بالمعروف، قال تعالى «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ» إليك يا سيد الرسل «مُبارَكٌ» كثير النفع والخير «فَاتَّبِعُوهُ» أيها الناس واعملوا بما فيه يا أمة محمد من الأوامر والنواهي وحافظوا على أحكامه «وَاتَّقُوا» مخالفته وخافوا منزله «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 155» في الدنيا بالعافية وسعة الرزق وفي الآخرة بالنعيم الدائم، واعلموا أن ما أنزلناه إليكم إلا كراهية «أَنْ تَقُولُوا» لنبيكم إذا أمركم أو نهاكم «إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا» وهم اليهود والنصارى «وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ» جمع باعتبار

أن ما فوق الواحد جمع على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 36 من سورة النمل المارة، ولبحثها صلة في الآية 78 من الأنبياء الآتية وما ترشد لغيرها وأن أل في الكتاب للجنس فيشمل الزبور وغيره من الصحف المتقدمة ولذلك جاء الضمير بلفظ الجمع أي عن قراءتهم «لَغافِلِينَ 156» عن ما فيها من الأحكام لأنها لم تبلغنا وليست بلغتنا، وان هنا مخففة من الثقيلة واللام في لغافلين هي الفارقة بينها وبين ان النافية وهكذا كلما جاءت المخففة أعقبها اللام وإذا لم يعقبها فهو دليل على أنها نافية لا مخففة، قال تعالى «أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ» كما أنزل على من قبلنا «لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» أي من الأمم قبلهم الذين أنزل عليهم الكتب والجمع هنا باعتبار الفرقة والطائفة أو كما تقدم آنفا، وفي هذه الآية والتي قبلها إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم لأن الله تعالى أنزل عليهم القرآن الكريم بلغتهم فلم يبق لهم ما يعتذرون به من أن الكتب القديمة أنزلت على من قبلهم وبلغتهم فهي خاصة بهم لأنها ليست بلغتهم كي يتعلموها، ونظير هذه الآية الآية 42 من سورة فاطر المارة في ج 1 فراجعها، قال تعالى «فَقَدْ جاءَكُمْ» يا أهل مكة «بَيِّنَةٌ» واضحة وحجة قاطعة وبرهان ساطع «مِنْ رَبِّكُمْ» الذي منّ عليكم بهذا القرآن الذي هو نور «وَهُدىً» لكم من الضلال «وَرَحْمَةٌ» بكم لتسلكوا سبل الرشد والسداد وترجعوا عن غيكم «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ» بعد أن جاءته على يد رسوله «وَصَدَفَ» أعرض ومال «عَنْها» ولم يلتفت إليها أي أن هذا لا أحد أشد منه ظلما البتة ومن هذا شأنه يكون داخلا في قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) الآية 124 من سورة طه في ج 1، وقال تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الآية 27 من سورة الزخرف الآتية، ولهذا أعقب الله هذه الآية بالتهديد والوعيد فقال «سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ 157» أي بسبب ميلهم وانصرافهم وإعراضهم عما أمروا به من الحق «هَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء المكذبون، وهذا استفهام بمعنى النفي كأن الله تعالى يقول لا يؤمن بك هؤلاء

مطلب آيات الصفات وعلامات الساعة وإيمان اليأس واعتبار كل الأمم من ملة الإسلام والتفرقة في الدين:

يا سيد الرسل «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ» لقبض أرواحهم بالدنيا أو بالعذاب الأسوأ بالآخرة، بدليل قوله تعالى «أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ» لفصل القضاء بين الناس والحكم بالجنة والنار قال تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) الآية 22 من سورة الفجر في ج 1. مطلب آيات الصفات وعلامات الساعة وإيمان اليأس واعتبار كل الأمم من ملة الإسلام والتفرقة في الدين: وهذه الآية من آيات الصفات من قسم المتشابه الذي ذهب السلف الصالح إلى إبقائه على ظاهره وتأوله الخلف بما يلائم المقام، راجع الآية المذكورة آنفا والآية 18 من هذه السورة وما يرشدانك إليه وسنأتي على توضيحها عند الآية 210 من البقرة والآية 7 من آل عمران في ج 3 إن شاء الله «أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» من علامات الساعة كالخسف والزلزال وظهور عيسى بن مريم والدجال والتار ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ودابة الأرض راجع الآية 82 من سورة النمل في ج 1، «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» من علاماتها كالدابة أو الموت «لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها» إذ ذاك لأنه اضطراري للتخلص من العذاب مثل إيمان فرعون المار ذكره في الآية 90 من سورة يونس المارة، وأن إيمان اليأس والبأس عند مشاهدة العذاب لا يقبل لقوله تعالى «لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» حضور الموت أو القتل والغرق أو وصول الروح الحلقوم «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» إخلاصا لله تعالى قبل اليأس فتنتفع بالإيمان وإلا فلا، وكما لا يقبل إيمان الكافر في مثل هذه الأوقات لا تقبل توبة الفاسق ولا إخلاص المنافق ولا توبته أيضا، راجع الآية 159 من الشعراء في ج 1 والآيتين 83 و 84 من سورة غافر الآتية، ثم هددهم ثانيا بقوله «قُلِ» يا محمد لهؤلاء المعاندين «انْتَظِرُوا» مغبة تسويفكم وإصراركم احدى هذه الآيات القاطعة لآمالكم لتعضوا أصابعكم ندما وأسفا وتتفطر قلوبكم من التحسر على ما فاتكم من زمن قبول التوبة والإيمان «إِنَّا مُنْتَظِرُونَ 158» نزول أحدها بكم وناظرون ما يحل بكم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع

الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها. ولكن لا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك، راجع الآيات المارة والآية 18 من سورة النساء في ج 3، وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه. وأخرج الترمذي من رواية صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وقال حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويّصة أحدكم وأمر العامة. وأخرج مسلم من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض. وروى مسلم عن أبي حذيفة بن أسد الغفاري قال: طلع رسول الله صلّى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذاكرون؟ قلنا الساعة فقال إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وثلاث خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا. وقال في سوق العروس لابن الجوزي إن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها ارجعي من مطلعك. والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط الاستواء ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قيل والكل أمر ممكن والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير. روى البخاري في تاريخه وأبو الشيخ وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله عنه قال: إذا أراد الله تعالى أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل شرقها غربا ومغربها مشرقها. وزعم

أهل الهيئة ومن نهج طريقهم أن ذلك محال ويقولون إن الشمس وغيرها من الكواكب والفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه مع قولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك التواريث على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بالفلك الأطلس إذ يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا، والبحث في هذا طويل لا محل له هنا ومن أيقن بقدرته تعالى هان عليه تصديق هذا ومن لا فلا إذ لو ملأت له الأرض أدلة لا يصدق لأنه من الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وقانا الله من ذلك وجعلنا من الموقنين بكل ما جاء عن الله ورسوله إيقانا لا شك ولا شبهة ولا مرية فيه، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» اختلفوا فيه بينهم «وَكانُوا شِيَعاً» فرقا وأحزابا لأن الأصل هو دين إبراهيم عليه السلام الحنيف السهل فغيرت فيه اليهود وتلتهم النصارى وكل تشيع لما يرى منه وتبعه ذووه، وزادت في الاختلاف العرب والمجوس إذ أحلوا المحرمات وحرموا الحلال وعبدوا الأصنام والكواكب والملائكة وغيرها وأعقبه اختلاف الأمم حتى الآن فصاروا أحزابا منهم باسم الدين ومنهم باسم العروبة ومنهم باسم القومية ومنهم ومنهم وهم كما أخبر الله عنهم (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الآية 32 من سورة الزمر الآتية، ولهذا قال تعالى لحبيبه إن هؤلاء الأقوام المتفرقين في الدين «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» فأعرض عنهم وتبرأ منهم ومن أفعالهم وأقوالهم ماداموا مصرين على ما هم عليه من الاختلاف واتركهم فلست بمسؤول عنهم، أسند الطبري عن أبي هريرة مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وليسوا منك، هم أهل البدع والأهواء والشبهات والضلالة. واقتباسا من هذه الآية (القول السائد) إن فعلت كذا فلست منك ولست مني، روي عن الغرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين

تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. - أخرجه أبو داود والترمذي- وعن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة. زاد في رواية: وانه يخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، أخرجه أبو داود. وأراد بالتجاري هنا على قول بعضهم الوقوع في الأهواء الفاسدة تشبيها بجري الفرس والكلب، ولا أراه سديدا بل أراد والله أعلم داء الكلب، أي تتداخل بهم الأهواء كتداخل داء الكلب في الوجود بدليل ما بعده. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملّة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة كلها في النار إلّا ملّة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي- أخرجه الترمذي-. وفي هذين الحديثين دلالة كافية على أن جميع أهل الملل المتفرقة في المذاهب والطرق من ملة الإسلام إذ جعلهم الرسول صلّى الله عليه وسلم من أمته بنص قوله (أمتى) في الحديث الأخير فنسأل الله تعالى أن يجمع كلمتهم على طريق الحق ويوحد صفوفهم على الصدق ويشد أزرهم بعضهم ببعض، وينزع الخلاف من بينهم ويوحد كلمة هؤلاء الأحزاب المتضاربة المتحزبة بعضها لبعض الآن بما يزيد عن التعصّب الكائن في الجاهلية بسبب القرابة ويسدد خطاهم إلى الهدى والصواب ويلهمهم الرشد ويزيل عنهم الحجاب ونظير هذه الآية 13 من سورة الشورى الآتية فراجعها وهذه الآية عامة محكمة وحكمها باق إلى آخر الدوران فمن قال منسوخة احتج بانها خاصة باليهود والنصارى والكفار من حيث لا دليل يخصصها بأحد من هؤلاء من كتاب أو سنة لهذا فلا عبرة بهذا القول لأن معناها عام والعام يبقى على عمومه ما لم يخصص ولا مخصص له.

مطلب حكاية بنكتة وعظيم فضل الله:

مطلب حكاية بنكتة وعظيم فضل الله: كان السيد محمود الألوسي رحمه الله صاحب تفسير روح البيان اجتمع بأحد متعصبي الشيعة وكان اسمه حمد وقد روى الحديثين المذكورين آنفا وجعل بدل واحدة في الحديث الأول وصلته في الحديث الثاني (فرقة) وقال إن فيها إشارة إلى نجاة الشيعة وانهم هم المرادون بالفرقة الناجية من الثلاث والسبعين، قال والحجة على هذا أن عدد حروف فرقة بالجمل وعدد حروف شيعة سواء فكأنه عليه الصلاة والسلام قال الا شيعة والمشهور في هذا العنوان هم الشيعة الإمامية لا غير، فأجابه على الفور دون أن يتعرض لتبديل كلمة واحدة وفرقة وملة: يلزم من هذا أن تكون كلبا وحاشاك لأن عدد حروف كلب بحروف الجمل مثل عدد حروف حمد، فألقم الحجر ولم ينبس ببنت شفة قال تعالى «إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ» وحده في تفرقهم وتعصبهم لبعضهم ليس لك يا سيد الرسل فأنا وليهم إن شئت عذبتهم في الدنيا والاخرة وإن شئت هديتهم في الدنيا وعفوت عنهم في الآخرة، وإن شئت عذبتهم في الدنيا والاخرة وإن شئت هديتهم في الدنيا ونعمتهم في الاخرة فاتركهم فان أمرهم اليّ في الدنيا ومرجعهم إلي في الآخرة «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ 159» لا يعزب عن علمه شيء من أعمالهم وأنه سيجازيهم عليها الشر بمثله والخير بأحسن منه قال تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» في هذه الدنيا «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» في الآخرة وقد يضاعفه إلى سبعمئة وإلى ما لا يحصى «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ» فيها «فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» فيها وهذا من عظيم فضل الله على عباده إذ يفيض على الطائعين من جوده العميم ويقاصص العاصين بمقدار عصيانهم «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 160» في ذلك إذ لا يزاد في عقابهم كما لا ينقص من ثواب الطائعين، وهذا عدل منه جلّ عدله في حق العاصي وفضل منه في حق الطائع، على أن له تعالى أن يعذب الطائع ويرحم العاصي لأن الكل ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، فإذا أراد إبلاغ ثواب الطائع إلى ما لا يحصى وعقاب المسيء إلى ما لا يطاق فعل ولا راد لقضائه ولا يسأل عما يفعل، وهذه الآية عامة في كل حسنة وسيئة والتقدير ليس للتحديد لأن الله يضاعف لمن يشاء، فالثواب فضل منه والعقاب عدل منه. روى البخاري

ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله تعالى. وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها وأغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة. وهذا من أحاديث الصفات وهي كآيات الصفات التي أشرنا إليها في الآية 158 المارة من هذه السورة وفي مواضع كثيرة قبلها وفي الآية 30 من سورة ق في ج 1 وبيتنا أن السلف الصالح يتركونها على حالها والخلف الناجح يؤولونها فيقولون في مثل هذا الحديث: من تقرب إلي بالطاعات تقربت برحمتي ومن أتاني أتته رحمتي أو خيري وبركتي بحسب ما يناسب المقام، وإذا أردت أن تقف على هذا راجع الآيات التي أشرنا إليك عنها آنفا وما تدلك عليها. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها إلى سبعمائة. هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفر له ما لم يعملها، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت الملائكة رب ذلك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جرائي. زاد الترمذي: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 20 من سورة يوسف المارة وفيها أيضا ما يرشدك للمواقع المتعلق فيها هذا البحث فراجعها، فنعم الرب ربكم أيها الناس هذا لطفه بكم ورأفته عليكم، فأين المتعرض لألطافه المتطلب

[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 إلى 165]

لرحماته، فياويل الظالمين من مشهد يوم عظيم، ويا خسارة المفرطين من انعام رب العالمين، فيا أكرم الرسل «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» موصل إلى النجاة، ثم بين هذا الطريق بقوله «دِيناً قِيَماً» عدلا لا عوج فيه بالتخفيف وجاء في الآية الثانية من سورة الكهف الآتية قيما بالتشديد وجاء معرفا ومشددا في الآية 30 من سورة الروم الآتية والآية 37 من سورة التوبة في ج 3 «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» السوية السهلة التي ملتم عنها واختلفتم فيها أيها المشركون والمجوس وأهل الكتابين، وقد اتبعتها أنا لكونه أي سيدنا إبراهيم كان «حَنِيفاً» مائلا عن الضلال إلى الاستقامة وعن الباطل إلى الحق وكانت العرب تسمي كل من حج واختتن حنيفا إعلاما بأنه على دين إبراهيم عليه السلام الذي كان مسلما مؤمنا «وَما كانَ» من يوم وعيه «مِنَ الْمُشْرِكِينَ 161» قط وهو الذي سمى المؤمنين به مسلمين، راجع الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3، نزلت هذه الآية في كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم مع أنهم يعبدون الأوثان وعبادتها شرك محض، فرد الله عليهم بأن إبراهيم ما كان مشركا ولم يعبد الصنم قط، وأنتم مشركون تعبدون الأوثان، فادعاؤكم أنكم على دينه بهت واختلاق، وإنما ذكرنا المجوس وأهل الكتابين مع أن الآية مكية ولا يوجد في مكة مجوس ولا يهود ونصارى وقع لهم مجادلة مع حضرة الرسول في ذلك، بل لأنهم داخلون في معنى الآية بسبب ما هم عليه من التفرقة في دينهم وتعصب بعضهم لبعض فيشملهم إطلاق لفظها، إذ لا مقيد لها، تدبر. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل موبخا مقرعا من عاندك في توحيد الله أو جادلك في إثبات الشرك بوحدانية الله المقدسة وهو مع سفه عقله وقلة إدراكه يتوقع موافقتك لاتباع دينه الباطل «إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي» حجي وذبحي وكل عبادتي «وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 162» وحده «لا شَرِيكَ لَهُ» في ذاته ولا في شيء من صفاته جلت حضرته عما يقول الكفرة وتنزهت مما تصفه، فإذا أردتم الخير لأنفسكم أيها الناس في الدارين فأخلصوا له الدين الذي أرسلت به إليكم «وَبِذلِكَ» الإخلاص والتوحيد والتنزيه «أُمِرْتُ» من قبل ربي عزّ وجل «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ 163» في هذه الأمة

لأن إسلام النبي متقدم على إسلام أمته وقومه، وإن هذه الآية دليل على أن جميع العبادات يجب أن تؤدي على وجه التمام والكمال، لأن ما كان لله لا ينبغي إلا أن يكون كاملا تاما مع إخلاص ليكون مقبولا عند الله، ولذلك أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يصرح بذلك ويقول إن حياته لله فهو يملكها، وما كان لله فينبغي أن يقضيها في عبادته وموته لله على الإيمان الكامل به، ليكون حياته حياة طيّبة ومماته ميتة طيبة ولا يقبل الله إلا الطيب «قُلْ» يا أكرم الرسل لمن يريد أن توافقه على طريقه المعوج ويريدك على عبادة الصنم الذي اتخذه ربا وهو جماد لا يعقل «أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ» مربي ومالك ومدبر «كُلِّ شَيْءٍ» وسيده لا يشاركه في ربوبيته أحد وهو الواحد في ذاته المنفرد في ألوهيته المختص بصفاته، وأنت يا حببي بعد أن أبلغتهم ما أمرت به لا يهمك شأنهم وعدم قبولهم، فدغهم يكون وبالهم عليهم «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» من الأوزار «إِلَّا عَلَيْها» إثمه وعقابه كما أن ما تكسبه من الخير يكون لها أجره وثوابه، قال ابن عباس: كان الوليد بن المغيرة يقول لكفار مكة اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم، كما أشار الله إليه في قوله (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) الآية 12 من سورة العنكبوت الآتية فأكذبه الله تعالى بما أنزله في هذه الآية بقوله «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وهذه الآية مكررة في الآية 38 من سورة والنجم والآية 38 من سورة فاطر والآية 88 من سورة الإسراء المارات في ج 1 والآية 7 من سورة الزمر الآتية، أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره عما يرتكبه في هذه الدنيا بل يكون هو نفسه رهين بما كسب ضمين لما اقترف، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) الآية 20 من سورة المدثر المارة في ج 1، وسيتبين لكم يوم القيامة المحق من المبطل والمضل من المهتدي عند ما يصدر أمره المطاع وهو قوله جل قوله (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 60 من سورة يس المارة، ولهذا يقول الله تعالى «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُكُمْ» في الموقف على رؤوس الأشهاد «بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164» من الأديان وغيرها وما كنتم تتفرقون من أجله ويتعصب بعضكم لبعض في غير الحق ويجازي كلا يحسبه

ويدخل المؤمن الجنة والكافر النار، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» لمن قبلكم من الأمم في «الْأَرْضِ» لأنكم آخر الأمم ورسولكم خاتم الرسل «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ» في المال والجاه والعقل والخلق والقوة والفضل والولد والرزق والشرف «دَرَجاتٍ» كثيرة وجعل بينكم تفاوتا عظيما كما بين العالم والجاهل والحسن والقبيح والشريف والوضيع والغني والفقير والمريض والصحيح، وهو قادر على أن يجعلكم متساوين في ذلك كله، ولكن فعل ما فعل بمقتضى الحكمة «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم ويمتحنكم «فِي ما آتاكُمْ» من ذلك وليظهر للناس هل يصرفونه في طرق الخير شكرا لنعمته أو تضيعونه في الشر كفرا لربوبيته ليطلعوا على مناقبكم ومثالبكم حتى يصفوكم بالمزايا أو الرذائل، وإلا فالله تعالى عالم بكم وبما وقع منكم ولكن ليعلم الناس من منكم يحمد على الطاعة ويذم على المعصية، ومن يصرف نعم الله لما خلقت له ومن يضعها بغير موضعها فيكون الثواب والعقاب من الله على حسب أعمالكم ونياتكم في كل ما خولكم به، لأن الله لا يعجزه أن يجعلكم سواسية في الرزق وغيره ولا ينقص من جوده مثقال ذرة وإنما لم يفعل لما تقدم من الأسباب وليعرف الناس الصابر منكم من الجازع والشاكر من الكافر «إِنَّ رَبَّكَ» يا محمد «سَرِيعُ الْعِقابِ» لأعدائه في الدنيا والآخرة إذا أراد، وان ما ترونه من الإمهال فهو لحكمة قدرها في الأزل وان مقدوراته تعالى لا تغير عن أوقاتها ولا تبدل بغيرها «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ» لذنوب أوليائه وأهل طاعته الشاكرين نعمه «رَحِيمٌ 165» بعباده أجمع، قال ابن عباس لما نزلت هذه السورة جملة (عدا الآيات المدنيات) ليلا بمكة وحولها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين لهم زجيل بالتسبيح والتحميد، قال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا، قال البغوي: وروي عنه مرفوعا من قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره. وتسمى هذه السورة المشيعة وهكذا كل سورة وآية نزل معها ملائكة غير جبريل والحفظة الأربعة الذين ينزلون معه عند نزول كل آية وسورة شاهدين وحافظين كسورة يس وآية الكرسي وآية (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) الآية 45 من سورة الزخرف الآتية، وما لم ينزل

تفسير سورة الصافات عدد 6 - 56 - 37

معها إلا جبريل والحفظة تسمى المفردة، وقد ختمت سورتا المزمل والأحزاب بما ختمت به هذه السورة فقط، هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الصافات عدد 6- 56- 37 نزلت بمكة بعد الأنعام، وهي مئة واثنتان وثمانون آية، وثمنمئة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وستة وعشرون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالصَّافَّاتِ» الملائكة المصطفين لعظمة ربهم والخيل المصطفة بالمجاهدين لطاعته، والحيتان الصافة بالمياه بأمره، والطيور المصطفة بالهواء بقدرته «صَفًّا» 1 باستقامة واحدة أكثر انتظاما من أهل الدنيا الذين تعلموا هذا الاحترام وغيره من الكتب السماوية، أخرج أبو داود عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ألا تصطفوا كما تصطف الملائكة عند ربهم؟ قلنا وكيف تصطف الملائكة عند ربهم؟ قال يتممون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف «فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» بالآيات الآمرة بالحق الزاجرة عن الباطل ومعنى الزجر الدفع قال: زجر أبي عروة السباع إذا ... اشفق أن يختلطن بالغنم ويأتي بمعنى السوق الحثيث والحث «فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» 3 لآيات الله تعالى من القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية على الغير، هذا إذا أريد بالتاليات الملائكة الذين وكل إليهم أمر الوحي إلى الأنبياء، وإذا أريد الإطلاق فتعم كل قارئ لذكر الله تعالى والإطلاق أحسن من التقييد، وقد أقسم الله تعالى بهذا الصنف من الملائكة لما لها من المزية على غيرها بما عهد لها به من ذلك وجواب القسم «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» 4 لا رب لكم غيره وهو «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ» 5 والمغارب أيضا وهي ثلاثمائة وخمسة وخمسون

مطلب انقضاض الشهب واستراق السمع وما يحصل من الانقضاض ومعنى التعجب:

مشرقا ومغربا، لأن الشمس كل يوم تطلع بحسب ما نراه من أفق وتغيب في أفق أي في طرفه وجهته، وجاء في الآية الأخرى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) 17 من سورة الرحمن باعتبار مشرقي الصيف ومغربي الشتاء، لأنها بحسب ما نراه تبدأ بالطلوع من جهة الأفق وتبقى تتدرج حتى تنتهي لمستقر لها في جهته الأخرى ثم ترجع تدريجيا أيضا حتى تنتهي لمقرها الأول وفي الغروب هكذا دواليك، فبهذا الاعتبار يكون مشرقين ومغربين، وباعتبار الآية المفسرة يكون مشارق ومغارب، وفي قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية 18 من سورة الشعراء المارة في ج 1 باعتبار أن المشرق كله جهة واحدة والمغرب كذلك فلا تنافي بين هذه الآيات ووجه الجمع بينها ما ذكرناه، وفي هذه الآية ردّ لما يقوله الكفار بوجود آلهة متعددة. مطلب انقضاض الشهب واستراق السمع وما يحصل من الانقضاض ومعنى التعجب: قال تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا» القربى منكم أيها الناس «بِزِينَةٍ» عظيمة بديعة يعجز عن بعضها كل من وما في الكون وهي «الْكَواكِبِ» 6 المنيرة فيها بأنواعها وأشكالها المتناسبة والمختلفة في اللون والحجم والضياء والسير والتسمية، فهذه الجوزاء وبنات نعش والميزان والثريا، وتلك القلادة والنثرة والبلدة والزهراء، وأولئك الجدي وسهيل والعقرب وغيرها مرصعة على زرقة السماء الواسع العظيم. قال: فكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق فلا أبدع ولا أحسن من مرآها جل الإله الذي براها، وللكواكب فوائد جمة غير الزينة والضياء لمعرفة الجهات والمواسم والتأثيرات التي أودعها الله فيها مما عرفه الإنسان ومما لم يعرفه «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» 7 عات إذ يرمى منها بشهب محرقة لأجل أن «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى» من الملائكة الذين يتلقون كلام ربهم المقدس فينقلون ما يسمعونه إلى الكهنة والسحرة فيتكلمون بها إلى الناس ويوهمونهم بأنهم يعلمون الغيب «وَيُقْذَفُونَ» أولئك المتسمعون بشهبها «مِنْ كُلِّ جانِبٍ 8» من آفاق السماء فيطردونهم طردا ويدحرونهم «دُحُوراً» فيبعدونهم عن مجالس الملائكة، وهذا عذابهم في الدنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ واصِبٌ 9» دائم شديد لا ينقطع، قال أبو الأسود الدؤلي:

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 إلى 20]

لا أشتري الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا «إِلَّا مَنْ» أي الشيطان الذي «خَطِفَ الْخَطْفَةَ» منهم بأن أخذ الكلام بسرعة زائدة «فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» بشدة قوته، فإما يحرقه فيهلكه أو يخبله، ومع هذا كله فإنهم يعودون لاستراق السمع الكرة تلو الكرة طمعا في السلامة من إصابة الشهب ورجاء لنيل المقصود، ولولا الأمل ما خاطر أحد في تجارة برا ولا بحرا ولا في زراعة بعلا ولا سقيا ولبطل عمل ابن آدم فضلا عن الشياطين. وهنا معجزة من معجزات القرآن إذ لا يعلم أحد أن النجوم الصغار في سماء محيطنا قبل توسع علم الهيئة غير الله تعالى القائل «فَاسْتَفْتِهِمْ» يا سيد الخلق «أَهُمْ» قومك المعاندون لنا «أَشَدُّ خَلْقاً» أقوى وأعظم «أَمْ مَنْ خَلَقْنا» من الملائكة والسموات والأرض والكواكب والبحار والجبال بل هم أضعف وأحقر «إِنَّا خَلَقْناهُمْ» أي أصلهم آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ لازِبٍ 11» لزج يلصق باليد ويجوز أن تطلق هذه الآية على بني آدم باعتبار أنهم خلقوا من التراب لأن مادتهم المكون منها جسمهم حاصلة من التراب ومن كان أصله من تراب فهو في غاية الضعف بالنسبة للمخلوقات الأخر ومن كان كذلك لا يليق به أن يتكبر ويتعظم وينكر قدرتنا على إعادته من رميم خلقه الأول وهو تراب أيضا قال النابغة: فلا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب هذا وليعلم أن الشهاب عبارة عن شعلة نارية تنقضّ من الكوكب لا نفس الكوكب لأن أصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم لأن صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض، وهذه لا تنقض ولو انقضت لسمع لها دوي هائل، ولم يسبق أن سمع لها صوت، ولو فرض محالا عدم الصوت لاختلت زينة السماء بنقص ما ينقض منها ولم يكن شيء من ذلك والمشاهدة أكبر برهان، ولا هو ايضا نور الكواكب، لأن النور لا أذى به ولا احتراق، فالأرض مملوءة بنور الشمس ولم ينشأ منها إلا النفع، ولو كان المنقض منها نورا لا نتقص ضوءه وسبب انتقاص الزينة أيضا، ولم يشاهد في شيء منها ذلك أصلا، ولم ينقل إلينا منه شيء منذ نشأة الكون حتى الآن فثبت من هذا أن المنقض

شعلة نارية يخلقها الله تبارك وتعالى من قذف شعاع الكواكب عند وصوله إلى محل مخصوص من الجو بما أودعه الله فيه من الخاصية التي لا نعلمها (وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 102 من هذه السورة) فيشتعل وتأثيرا لأشعة الحرق فيما هو قابل له من الأشعة لا ينكر، ألا ترى أن شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق ما هو مقابل له ممّا هو قابل للاحتراق، ولو توسط بين المنظرة وبين قابل الاحتراق إناء بلور مملوء ماء. وعليه فإن الله تعالى يصرف تلك الأشعة المستحيلة نارا والتي تشاهد كحبل أو رمح من نار سريع الحركة إلى الشيطان الذي يسترق السمع فيحرقه، وقد يحدث ذلك ولو لم يوجد ثمة مسترق أيضا، والله على كل شيء قدير. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 17 من سورة الحجر المارة وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى مما يتعلق في هذا البحث فراجعها، قال تعالى «بَلْ عَجِبْتَ» بفتح التاء خطاب لسيد المخاطبين أي عجبت من تكذيبهم لك وإنكارهم رسالتك وجحودهم ما أنزلناه عليك وعظمة منزله على القراءة المشهورة في المصاحف المناسبة لسياق ما قبلها وسياق ما بعدها وقرأ بعضهم بضم التاء على إسناد التعجب إلى الله والتعجب من الله يحمل على تعظيم الشيء المتعجب منه، فإن كان قبيحا ترتب عليه العقاب الشديد، وإن كان حسنا ترتب عليه الرضاء الكثير، وقد يكون منه تعالى على وجه الاستحسان أيضا، فقد جاء في الحديث: عجب ربكم من شاب ليست له صبوة. وفي حديث آخر: عجب ربكم من ألّكم بتشديد اللام وضم الكاف (ومعناه القنوط الشديد ورفع الصوت بالبكاء) وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم. وقال الجنيد: إن الله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن وافق رسوله، أما العجب من الناس فيحمل على إنكار الشيء ويكون معناه روعة تعتري الإنسان عند رؤية ما يستعظمه، أي أن الله ورسوله يعجبان من عدم اكتراثهم بذلك «وَ» الحال أنهم «يَسْخَرُونَ 12» به وبمنزله ومن أنزل عليه لغاية جهلهم بحقيقة الأمر وكنه ما اشتمل عليه «وَإِذا ذُكِّرُوا» هؤلاء الساخرون «لا يَذْكُرُونَ 13» الله ولا يتعظون بما نصب لهم من الآيات والأدلة على وحدانية الله، ولا ينتفعون بتذكيرك لهم، لأن دأبهم عدم الاتعاظ والانتفاع

[سورة الصافات (37) : الآيات 21 إلى 30]

«وَإِذا رَأَوْا آيَةً» باهرة جليلة أظهرها الله على يد رسوله مثل الإخبار بالغيب وإنزال القرآن وانشقاق القمر والإسراء والمعراج وما وقع فيها من الآيات لا يؤمنون بها ولا يكترثون بمنزلها ولا يلتفتون إلى من أنزلت عليه، ولكنهم «يَسْتَسْخِرُونَ 14» يستدعي بعضهم بعضا لأجل السخرية والاستهزاء بها «وَقالُوا» فضلا عن ذلك «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 15» ظاهر يموه به ويخيل علينا محمد ويرينا ما لم يكن كائنا، ويزعم أنه قرآن وما هو بقرآن، وقالوا أيضا على طريق السّخرية «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 16» مرة ثانية كما يخبرنا محمد فنعود أحياء كما كنا قبل الموت كلا لا يكون ذلك البتة «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ 17» أيضا يبعثون، يقولون هذا على طريق الاستفهام الإنكاري لاستبعادهم الحياة بعد الموت «قُلْ» يا أكمل الرسل «نَعَمْ» تبعثون «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ 18» صاغرون وإذا أراد الله ذلك «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ» صيحة «واحِدَةٌ» من السيّد إسرافيل عليه السلام بأمر ربه «فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ 19» إلى بعضهم أحياء «وَقالُوا» بعضهم لبعض بعد أن رأوا أنفسهم أحياء في الموقف المهيب (وجاء الماضي موضع المستقبل لتحققه) وشاهدوا أعمالهم السيئة وعظيم الجزاء الذي سيحل بهم «يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ 20» الذي يدين الله به عباده الذي وعدنا به رسله في الدنيا وهو الحياة بعد الموت والعذاب بعد الحساب «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» بين الناس الذي يظهر فيه المحسن من المسيء «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 21» في الدنيا ولا تصدقون الرسل حين أخبروكم به، وبعد أن اعترفوا وتحقق لهم الهلاك يقول الله جل شأنه لصف من الملائكة «احْشُرُوا» اجمعوا هؤلاء «الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم «وَأَزْواجَهُمْ» سوقوهم معهم من قرناء السوء الذين كانوا على دينهم وأشباههم وأمثالهم فيصنّفون طوائف الزناة والسعاة وشربة الخمر وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفرة أصنافا ومن المغامرين وتاركي الصلاة والصوم والحج وغيرهم من عصاة المسلمين أصنافا لأن هذه الآية عامة في كل ظالم من كفرة الأمم كلها وعصاتها «وَما كانُوا يَعْبُدُونَ 22» في الدنيا من كل شيء «مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيدخل في هذه الآية الأموال والأولاد والنساء الذين

توغلوا فيهم حتى ألهتهم عن عبادة الله، فكأنهم عبدوها أيضا من دونه، والواو في قوله (وَما) واو المعية أي احشروهم مع معبوديهم «فَاهْدُوهُمْ» دلوهم تقول هديته هدى إذا كان لأمر الدين وهداية إذا كان إلى الطريق كما هنا «إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ 23» طريق جهنم لأنه اسم من أسمائها ليحاسبوا هناك قريبا منها بدليل قوله «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ 24» عن أعمالهم وإنما كان حساب هذه الطائفة قريبا من جهنم لزيادة عذابهم، إذ لو كان القصد من قوله اهدوهم أدخلوهم جهنم رأسا كما ذكره بعض المفسرين لما أمر بتوقيفهم لأجل السؤال، لأن التوقيف يكون أولا ثم الاستنطاق ثم المحكمة ثم القضاء ثم الحبس وكل بحسب جرمه فتقدر مدة حبس العاصي وتخليد الكافر فيها، ويبرأ البريء، ومن هنا أخذ أهل الدنيا هذه الأحوال، لأن الله تعالى ضرب لهم الأمثال مما كان من جنسها في الآخرة في الكتب القديمة وفي هذا القرآن، وهي معلومة عنده قبل وقوعها، ولهذا سماهم الله تعالى في الآية الآتية مجرمين لأن المجرم من يستحق العقاب لأنه أولا يكون مدعى عليه ثم ظنينا إذا ظهرت عليه أمارة الجرم، ثم متهما إذا تراكمت عليه الأدلة، ثم مجرما إذا تحقق عليه الفعلة، ثم يحكم فيسمى محكوما والتوقيف يكون قبل الاستنطاق إذا كان هناك تحقيقات أولية، وهي صحف الملائكة الحفظة مثلها بلا تشبيه ضبوط الدرك والشرطة، فإنه يوقف بموجبها ثم يجري استنطاقه أحيانا أخرج الترمذي عن أبي بردة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه، وفي رواية وعن شبابه فيم أبلاه. وله عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من داع دعي إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما له لا يفارقه، وإن دعى رجل رجلا، ثم قرأ: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ثم تقول لهم خزنة الجحيم بعد إدخالهم فيها توبيخا وتقريعا «ما لَكُمْ» أي شيء جرى لكم اليوم أيها الكفرة العتاة لم «لا تَناصَرُونَ 25» لبعضكم كما كنتم في الدنيا تتناصرون على الباطل ولا تفعلون بين إخوانكم وقومكم بالحق بل تنتصرون لقريبكم مهما كان مبطلا قبل أن تقفوا على الحقيقة، ثم يقول

[سورة الصافات (37) : الآيات 31 إلى 40]

تعالى قوله ذهب عنهم تناصرهم وحان تخاذلهم، فلا يتعاونون الآن كما كانوا قبلا «بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ 26» لأمري خاضعون لحكمي أذلاء منقادون لتنفيذ ما أقضي به عليهم «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ 27» فيما بينهم بعد أن انقطع أملهم في معبوديهم ورؤسائهم وتبين لهم عجزهم عن المناصرة وصاروا يتلاومون بينهم «قالُوا» الأتباع لرؤسائهم «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ» في الدنيا «تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ 28» من طريق الحلف فتقسمون لنا أن دينكم هو الحق، وتمنعوننا عن اتباع الرسل، وتزيفون لنا ما جاءوا به من عند ربهم حتى أقنعتمونا، فأين الآن يمينكم وأين ما وعدتمونا به؟ وهذا أولى من تأويل اليمين بالقوة والقهر أو بالخير والبركة، أي كنتم تمنعوننا عن الخير وتصدوننا عن الهدى وتضللوننا عن الحق قهرا وقسرا لما لكم علينا من القوة والغلبة، ووصفت اليمين بالقوة لما يقع فيها من البطش، ووصفت بالخير لأنها مشتقة من اليمن أي البركة. لأنه أنسب بالمقام وما يخطر الذهن أنه بمعنى الجهة لا طائل تحته، وإن كانت جهة اليمين مرجحة على جهة اليسار ومشرفة عليها جاهلية وإسلاما إلا أن الإخلال الذي جاءهم من قبل رؤسائهم سواء كانوا يتكلمون معهم به من جهة يمينهم أو شمالهم فهو على حد سواء وليس مما يوجب أن يعاتب عليه في مثل هذا المقام «قالُوا» الرؤساء مجاوبين أتباعهم: ليس الأمر كما تقولون «بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 29» من الأصل وقد أصررتم على الكفر بالرسل باختياركم وطوعكم «وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» قوة قاهرة كما زعمتم وهذا مما يؤيد التفسير الأول بأن اليمين بمعنى القوة والقهر «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ 30» فطرة متجاوزين الحد لأنا دعوناكم فتبعتمونا رضا لا كرها «فَحَقَّ» وجب «عَلَيْنا» نحن وأنتم «قَوْلُ رَبِّنا» وعيده بالعذاب الذي هددنا به رسله في الدنيا ولذلك «إِنَّا لَذائِقُونَ 31» وباله الآن لا محالة ثم اعترضوا لهم بقولهم «فَأَغْوَيْناكُمْ» بالدنيا ودعوناكم لمعصية الرسل وطاعتنا في الضلال حقا، والسبب: «إِنَّا كُنَّا غاوِينَ 32» ضالين وأردناكم لتكونوا مثلنا. قال تعالى «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ» في الآخرة يكونون «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ 33» كما اشتركوا بالغواية في الدنيا «إِنَّا كَذلِكَ»

[سورة الصافات (37) : الآيات 41 إلى 50]

مثل هذا الفعل الفظيع «نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 34» وإنما فعلنا بهم ذلك بسبب «إِنَّهُمْ كانُوا» في الدنيا «إِذا قِيلَ لَهُمْ» قولوا «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ 35» عنها ويمتنعون من قولها ويأنفون من سماعها عتوا وعنادا «وَيَقُولُونَ» أيضا على طريق الإنكار «أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ 36» يعنون أكرم الخلق على الله وأفضلهم وأعقلهم قاتلهم الله قد جمعوا في هذه الجملة إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة ووصم صاحبها قال تعالى ردا عليهم «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ» من عندنا ليس كما تزعمون أنه ساحر ومجنون فهو أكمل بشر وقد آمن بالله «وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ 37» قبله بما جاءكم به لأنهم كانوا مثله يدعون لنفى الشرك وإثبات التوحيد وقد وصفهم أمثالكم من الأمم السابقة بما وصفتم به رسولنا محمد الصادق الأمين «إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ 38» بتجرؤكم عليه أيها الكفرة «وَما تُجْزَوْنَ» في الآخرة «إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 39» في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل ولا يستثنى من العذاب الأخروي «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 40» بكسر اللام وفتحها كما مر في الآية 84 من سورة ص في ج 1 وقبلها مجادلة أهل النار بعضهم مع بعض في الآية 59 بما يشبه هذا فراجعهما «أُولئِكَ» المخلصون المقبولون عند الله «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ 41» لدينا بكرة وعشيا راجع الآية 62 من سورة مريم من ج 1 ثم أبدل فى هذا الرزق قوله «فَواكِهُ» للتلذذ ليس إلا، لأنهم بغنى عن الأكل والشرب، وأن حجتهم محفوظة، لأن الله تكفل بتخليدها في الجنة سالمة منعمة والفاكهة تشمل جميع الثمار رطبها ويابسها ومن الطعام ما يؤكل للتلذذ لا للتقوت «وَهُمْ مُكْرَمُونَ 42» عند بارئهم معظّمون «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 43» «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ 44» بوجوههم إلى بعضهم وهو من آداب المجالسة كما مر في الآية 16 من الواقعة في ج 1 «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ» مملوءة من الخمر الذي لم تمسه الأيدي ولم تطأه الأرجل، وقد ذكرنا في الآية 18 من سورة الواقعة المذكورة أن لا يقال كأس إلا وهي مملوءة بالشراب وإلا فهي زجاجة أو كوب أو إبريق وهذا الخمر ليس كخمر الدنيا وإنما هو «مِنْ مَعِينٍ» 45 نهر جار أو ماء ظاهر فوق

الأرض يعانيه الخلق دون تكلف إلى إمعان النظر فيه ولهذا وصفها بقوله «بَيْضاءَ لَذَّةٍ» عظيمة في شربها «لِلشَّارِبِينَ» 46 منها تكمل فيها لذة الحواس الخمس، وقاتل الله أبا نواس إذ يقول: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر لأنه قصد اشتراك كافة حواسه بالمعصية، ولأن الشارب جهرا يخشى الخجل من الناس فلا يتم به السرور، لأنه لا يكمل إلا بالحرية المطلقة، ولأن الشارب حينما يتناول الكأس يلمسه ويشمه وينظره ويذوقه، فلم تبق إلا حاسة السمع، فإذا قال له خمر عند تقديمه له كملت لذة حواسه كلها اللهم أحرم أولياءك منها في الدنيا ومتعهم بها في الآخرة وألحقنا بهم يا ربنا. وهذه الخمرة «لا فِيها غَوْلٌ» كخمر الدنيا وهو ما يعبر عنه الأطباء بالكحول (اسبيرتو) لأنها إذا خلت منه لا تسكر كما يقولون، ويزعمون أنهم عربوها عن الأوربيين الذين يعبرون عنها بكلمة (الكول) ولا يعلمون أنها عربية في الأصل بحتة، وأن الأجانب أخذوها منّا وأبدلوا الغين بالكاف إذ لا توجد في لغتهم، مطلب ما قاله داود باشا والفرق بين خمر الدنيا والآخرة ونساء أهل الجنة وكلامهم: ورحم الله داود باشا والي العراق في القرن الثاني عشر هجري حينما سمع أولادا يغنون في الطريق ويقولون: يا بو زبين حمر وامدكك بإبره ... كل الشرائع زلق، من يمّنا العبرة صاح بأعلى صوته الله الله صدقتم يا أولادي بورك فيكم حقا، والله كل الشرائع زلق، لأنها نسخت، وأن من يأخذ بها بعد نسخها لا بد أن تزلق رجله فتؤديه إلى النار لذلك لا عبور إلى الجنة إلا باتباع شريعتنا أيها الأخوان فمن عندنا العبرة لأن شريعتنا توصل إلى الجنة وصار يصفّق طربا لذلك، مع أن الأولاد لا يعرفون هذا المعنى، وانما يعرفونه لما يتصورونه، وهكذا فإن من يسمع الصوت الحسن أو ضرب الدف أو الناي أو غيرها يؤولها على ما في قلبه ويصرفها لمحبوبه وهو رحمه الله من الأولياء فصرف ما سمعه إلى ما هو في قلبه، وله أخبار أخرى سنذكرها

فى الآية 34 من سورة المائدة في ج 3 إن شاء الله هذا ولا يخفى أن كل الخصال الحسنة أخذها عنا الأجانب ويا حسرتا نحن على العكس قلدناهم في المثالب وهم أخذوا عنا المناقب لأنهم يوم كنا ما كانوا شيا وإلا لما دارت رحانا عليهم واستولينا على بلادهم ولما رجعنا الآن القهقرى دارت لهم الكرة علينا وما ذلك إلا لتركنا أمر ديننا وما سنه لنا منقذنا الأعظم وسلفنا الصالح ولا علاج لاسترداد عزنا إلا بالرجوع إلى ديننا الذي فيه شرفنا وفيه قوتنا وبتركه ذلنا وخذلاننا ولا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا اللهم أرشدنا إلى طريق الصواب وألهمنا السداد واهدنا إلى الخير واجمع كلمتنا على الحق ووحد صفوفنا بجاهك على نفسك وحرمة أنبيائك وكتبك، وأعد لنا مجدنا ومهابتنا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. واعلم أن الله تعالى وصف هذه الخمرة بعروها من الغول الذي هو غول العقل إذ يذهب به ولذلك نهى الله عن خمر الدنيا لأنها مملوءة منه فقد تذهب اللب وتوجع البطن وتحرق الحلق وتذيب الأمعاء وتخرش الرئة وتفتت الكبد وتحدث صداعا في الرأس ويعقبها القيء والعربدة والإفساد والسب والشتم وتورث السخرية والاستهزاء والتعيير وأشياء كثيرة لأنها أم الخبائث، وخمرة الآخرة براء من هذا كله ولم يحصل منها إلا السرور والإنشراح ولهذا وصفها الله بقوله عز قوله (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ 47» أي لا تغلبهم على عقولهم فيسكرون منها ويفقدون الوعي، لأن نزف بمعنى فقد وذهب ونزع ونزح، أي أن خمر الدنيا تأخذ بعقول شاربيها، أما هذه فلا، قال الأبيرد اليربوعي: لعمري لئن أنزفتهم أو حموتم ... لبئس الندامى كنتم آل ابجرا وعلى هذا فلا اشتراك بين خمر الدنيا والآخرة إلا بالاسم لأن حقيقة هذه غير حقيقة تلك ويكفي خمر الدنيا سوءا نتن ريحها ودوسها بالأقدام وعصرها بالأيدي الدنسة، وقيل فيها: بنت كرم تيموها أهلها ... ثم هانوها بدوس بالقدم ثم عادوا احكموها فيهموا ... ويلهم من جور مظلوم حكم بيد ان خمر الآخرة من معين صاف لم تدنسها الأيدي وتعفسها الأرجل

واعلم أن العرب تعرف الغول الذي برأ الله تعالى خمرة الآخرة منه، قديما قال امرؤ القيس: رب كأس شربت لا غول فيها ... وسقيت النديم منها مزاجا وتقدم ما يتعلق في هذا في الآية 19 من سورة الواقعة في ج 1 وله صلة في الآية 25 من سورة المطففين الآتية إن شاء الله القائل «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن فقط لأن نساء الجنة لا ينظرن لغير أزواجهن لفرط محبتهن لهم وعدم ميلهن لغيرهم «عِينٌ 48» حسان واسعات الأعين «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ 49» مستور عن النظر مصون عن اللمس كانت العرب تشبه مخدرات النساء ببيض النعام لانه يحفظه بريشه عن الغبار والريح حتى يبقى محافظا على لونه ولذلك يصفون المخدرات من النساء به فيقولون بيضة خدر في المرأة التي لم يرها أحد غير محارمها، قال امرؤ القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت في مطويها غير معجل وكذلك يشبهون النساء بالبيض إذا تناسبت أعضاؤهن لأن البيضة وخاصة بيضة النعام أحسن الأشياء تناسبا وأشدها تقابلا، قال بعض الأدباء: تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر وإن أحب ألوان النساء عند العرب البيض المشرب خداها بحمرة، الضارب صدغاها وجيدها بصفرة قليلة كبيض النعام فإنه ممزوج بصفار قليل، واعلم أن النعامة تقسم بيضها ثلاثة أقسام ثلثا تقعد عليه لتفرخه وثلثا تدفنه لتقوت به أفراخها عند خروجها من البيض وثلثا تأكله أثناء قعودها على البيض، فسبحان من ألهم كلا ما يصلحه وأحسن كل شيء خلقه وهداه لما به نفعه قال بعض المفسرين أن البيض المكنون هو الجوهر المصون في صدفه وليس هو مرادا هنا، والله أعلم، لنبوّ ظاهر اللفظ عنه، وقدمنا شيئا من هذا أيضا في الآية 23 من سورة الواقعة في ج 1 وله صلة في الآية 56 فما بعدها من سورة الرحمن في ج 3 قال تعالى «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ 50» أثناء الشرب كعادة أهل الدنيا قال الشاعر: وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام

[سورة الصافات (37) : الآيات 51 إلى 60]

ولكن بلا تشبيه لأنك لا تسمع بمجلس شرب منها إلا وتسمع فيه أنواعا من الشقاق والنزاع والضرب والشتم والسخرية وقد يقع فيه قتل وهم يرون ويعلمون ولا ينتهون ولا يعتبرون «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ 51» في الدنيا ينكر البعث وكان «يَقُولُ» لي «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ 52» لما يقوله هذا الذي يزعم أنه رسول الله بأنا «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً» فبلينا «أَإِنَّا لَمَدِينُونَ 53» محاسبون مؤاخذون بما نفعل في هذه الدنيا كلا لا نصدق، وقد جاء في الحديث العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ثم التفت هذا المتكلم وخاطب أصحابه «قالَ» رجل من أهل الإيمان لجماعة معه في الجنة «هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ 54» معي في النار لأريكم ذلك الرجل الذي كان ينكر الحشر والحساب؟ قالوا بلى «فَاطَّلَعَ» القائل وتابعه رفاقه «فَرَآهُ» لأنه يعرفه دونهم فإذا هو «فِي سَواءِ الْجَحِيمِ 55» وسطها وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة بالنسبة للجوانب المحيطة به ثم طفق يخاطبه «قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ» قاربت وأوشكت يا قريني في الدنيا «لَتُرْدِينِ 56» تهلكني في الآخرة وتوقعني بما وقعت فيه الآن «وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي» الذي ثبتني على الإسلام والإيمان «لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ 57» معك في هذه النار التي أنت فيها. ولم ينبه الله تعالى عن هذا القرين ماذا كان يعمل في الدنيا، فإذا حمل على قرينه من الشياطين يكون قوله ذلك من قبيل الوسوسة والإغواء، وان كان رفيقا له أو شريكا من الإنس وأخا كافرا أو عاصيا كما نص الله في سورة الكهف الآية 32 الآتية وهي (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) فيكون قوله على ظاهره وهو أولى والله أعلم كما سيأتي هناك إن شاء الله. ثم يقول أهل الجنة لسدنتها من الملائكة عند رؤيتهم ذلك النعيم المقيم حرصا على بقائهم فيها وخوفا من حرمانهم منه «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ 58» بعد هذا وهل إنا لا نموت «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى» التي أحيانا الله بعدها ونعمتنا في هذه النعمة الجليلة «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 59» بعدها يقولون هذا على طريق التحدث بالنعمة لأنهم يعلمون أنهم لا يموتون ولا يعذّبون

[سورة الصافات (37) : الآيات 61 إلى 70]

وأنهم فيها خالدون بإخبار الله تعالى إباهم بواسطة ملائكته أو أنه كان سرورا منهم بدوام النعم لا على طريق الاستفهام، وعلى هذا فإن الملائكة تقول لهم بل أنتم مخلدون فيما أنتم فيه فيقولون جميعا «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 60» الذي لا فوز فوقه ولا سعادة بعده ولا أفضل ولا أجل منه ثم يقولون لبعضهم «لِمِثْلِ هذا» الذي نحن فيه من الخير «فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ 61» لا للشهوات الدنيوية الدنيئة الفانية قال: إذا شئت أن تحيا حياة هنيئة ... فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا لأن زوال النعم عذاب لا يقابله عذاب ولا يعدل الفرح الذي يحصل منه عند وجود النعم شيئا أبدا وهنا انتهى كلام أهل الجنة، قال تعالى «ذلِكَ» المشار إليه من قوله تعالى لهم رزق معلوم إلى هنا «خَيْرٌ نُزُلًا» أيها الناس «أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ 62» التي هي نزل أهل النار وهي شجرة مرة خبيثة الطعم يكره أهل النار على أكلها فيزّقمونها على مضض زيادة في تعذيبهم «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً» كبيرة ومحنة عظيمة وبلية خطيرة «لِلظَّالِمِينَ 63» المتوغلين في الظلم الحريصين على فعله، ثم وصفها الله تعالى فقال «إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ 64» في قعرها وأسفل شيء فيها وترفع أغصانها إلى دركات النار وثمرها المعبر عنه بقولها «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ 65» في البشاعة والقباحة، واعلم أنه مما لا شك فيه أن أحدا لم ير الشياطين على صورتهم التي خلقهم الله عليها لأنه خارج عن طوق البشر وكذلك الملائكة إلا أنه استقر في النفوس حسن الملائكة وقبح الشياطين فصاروا يشبهون كل حسن بالملائكة وكل قبح بالشياطين فيقولون للرجل الطيب كأنه ملك وللخبيث كأنه شيطان، قال امرؤ القيس: أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال فقد شبه سنان الرمح بأنياب الغول من حيث لم يره وقد شبه الله ثمر تلك الشجرة برءوس الشياطين لأنها في تقدير البشر قبيحة جدا، وهي كذلك في الوهم والخيال ووجه الشبه وجامعه وجود النفرة في كل والكراهية لهما «فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها» رغما عنهم لأنه من جملة العذاب المقدر لهم «فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ 66»

[سورة الصافات (37) : الآيات 71 إلى 80]

قسرا رهبة من الملائكة الموكلين بعذابهم إذ يلجئونهم إلى أكله بالضرب المبرح الذي لا يقاس بضرب أهل الدنيا وناهيك أن هذا من البشر وذاك من الملائكة الغلاظ الشداد «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ 67» ماء شديد الغليان يقطع الأمعاء ومعنى الشوب الخلط والمزج تقول شاب اللبن إذا مزجه بالماء والضمير في عليها يعود للشجره أم تلك الثمرة لأنهم يتناولونها منها «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ» بعد الأكل من الشجرة والشرب من الحميم لأنهما بمكان آخر عن مقرهم المنوه به بقوله «لَإِلَى الْجَحِيمِ 68» ولذلك جاء العطف بالتّراخي ومن هنا أخذ أهل الدنيا تخصيص محل للأكل من دورهم على حدة وخصّصوا لدوابهم مرعى خارجا عن دورهم، قال تعالى في وصفهم أيضا «إِنَّهُمْ أَلْفَوْا» وجدوا «آباءَهُمْ ضالِّينَ 69» فثبطوهم على ضلالهم «فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ 70» يسرعون ويهرولون بشدة منكبين على عمل آبائهم ولم يصغوا لنصّاحهم ولم يتعظوا بمن سلف من الأمم المعذبين بل قلدوا آباءهم طائعين مختارين، لذلك عذبوا معهم «وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ» أي كفار مكة ومن حولها «أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ 71» من الأمم الخالية إذ لم يهتد منهم إلا القليل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ 72» ينذرونهم بأسنا ويخوفونهم عذابنا ويحذرونهم يومنا هذا فلم يمتثلوا ولم يرتدعوا فأهلكناهم بإصرارهم على الكفر «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ 73» الدمار والتتبير الذي عمهم «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 74» له والذين استخلصهم لذاته راجع الآية 40 المارة فإن هؤلاء على المعنيين بمعزل عنهم لأنهم في الخيرات رافلون يتمتعون في النعيم «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ» لتدمير قومه بعد أن أيس من إيمانهم بإعلامنا إياه بذلك وبإنجاء أهله مما ينزل بهم من العذاب فأجبناه وعزتي وجلالي يا حبيبي يا محمد إنا نحن إله الكل «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ 75» لأوليائنا عند حلول الضيق بهم واللام هذه واقعة في جواب القسم المحذوف المقدر كما ذكرناه والمخصوص بالمدح محذوف أيضا وقد قدّرناه كما بيناه في هذه الآية «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ» كلهم إلا زوجته الكافرة وابنه كنعان المتمنع عن دخول السفينة مع أبيه لإصراره على كفره، ولذلك استثنيناهما من الانجاء بقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها

[سورة الصافات (37) : الآيات 81 إلى 90]

ما أَصابَهُمْ) الآية 81 وبقوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية 67 من سورة يونس وهود المارتين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 76» وهو الفرق العام الذي أهلكنا به قومه ولا أعظم منه «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ 77» إلى آخر الدوران فكل الناس الموجودين على وجه الأرض منهم ولهذا سمي أبا البشر الثاني، وقال من قال ان الطوفان عم الأرض كلها ولم يبق من البشر على سطح البسيطة إلا ذرية نوح عليه السلام، وان المراد والله أعلم بالباقين على هذا، هم أهل السفينة، إذ لم يثبت بصورة قطعية أن الطوفان عم على الأرض كلها لا سيما وأنه عليه السلام لم يرسل أولا إلى أهل الأرض كافة ولم يثبت خبر وصول دعوته وهو في جزيرة العرب جزيرة ابن عمر إلى الصين وغيرها من أقطار الأرض ونص الآية لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه في السفينة وأولاده الثلاثة سام أبو العرب وفارس والروم ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وحام أبو القبط والسودان والحبشة أما كنعان الذي غرق مع قومه فلم يثبت له نسل وقد وردت أحاديث في أولاده المذكورين أخرجها الترمذي وابن مسعود واحمد والطبراني وابن المنذر وأبو يعلى وابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب وابن مردويه عن أبي هريرة والخطيب في تالي التلخيص والزارعة أيضا، وقدمنا ما يتعلق بها في الآية 73 من سورة يونس والاية 44 من سورة هود المارتين «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 78» ثناء دائما وهو قولنا «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ 79» فهو يتردد على ألسنة الأنبياء والأمم في زمنه إلى قيام الساعة «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 80» ونكرمهم بمثل هذه الكرامة «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 81» المستحقين للثناء الدائم المستمر ولذلك أجريناه عليه «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ 82» كفار قومه وإنه وزوجته المذكورين إذ حل عليهم العذاب راجع تفصيل القصة في الآية 44 فما بعدها من سورة هود المارة «إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ 82» لأنه نهج نهجه وسار سيره وتبع دينه وشيعة الرجل أتباعه المقتفون أثره، قالوا وكان بينهما الفان وستمئة وأربعون سنة، ولم يكن بينهما نبي إلا هودا وصالحا، وأرى أن هذا وما قدمناه من نسل

أولاد نوح لا يجوز القطع به ولا إنكاره، بل نكل فيه العلم إلى العليم الواحد إذ لا طائل تحته ولا يتعلق فيه حكم ولا حد فمثله كمثل بقية الأخبار والقصص والأمثال، إذ لا آية تنص على ذلك ولا حديثا صحيحا يستند إليه، لهذا فالأحسن في مثله أن لا يصدق بصورة قطعية ولا يكذب تكذيبا محضا، هذا ومن قال إن ضمير شيعته يعود إلى سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم لا مستند له وليس بسديد لأن القاعدة وجوب عود الضمير إلى أقرب مذكور ولا أقرب من نوح ولأن لفظ شيعة لا يقال للمتأخر على المتقدم قال الكميت الأصيفد بن يزيد: ومالي إلا آل أحمد شيعة ... ومالي إلا مذهب الحق مذهب ومعلوم أن آل محمد ومذهب الحق متقدمان عليه لا متأخران، ولم يأت ذكر محمد صلّى الله عليه وسلم في هذه الآيات فلا محل للقول بذلك، قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام مذكرا رسوله محمد به فكأنه قال واذكر لقومك «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ 84» من الشك في الوحدانية والريب في البعث والمرية في النبوة «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ 85» استفهام توبيخ وتقريع لأنه رآهم يعبدون الأصنام والكواكب، وقد أراده على ذلك، فأبى وقال «أَإِفْكاً آلِهَةً» أي تختلقون أشياء وتسمونها آلهة والإفك أسوء الكذب وآلهة بدل من الإفك «دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ 86» قدم المفعول للاعتناء به، لأن المقصود الاعتراف به أو إنكاره «فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ 87» أن يفعل بكم إذا لقيتموه غدا وأنتم تعبدون غيره، أخبروني أيها القوم، وقد شاع قوله هذا لهم حتى بلغ ملكهم فأرسل إليه أن غدا عيدنا فاحضر معنا لزيارة الآلهة، لأن هذه التشريفات التي تعارفها الناس في الأعياد والأيام الرسمية قديمة اقتبسها الأواخر عن الأوائل، ولهذا السبب لما طلب فرعون من موسى تعيين يوم للمباراة مع السحرة عين لهم يوم العيد، راجع الآية 59 من سورة طه في ج 1، فلما جاءته دعوة الملك استشعر هطول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم، وأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ 88» تأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في

مطلب في العدوى وقسم من قصة ابراهيم وتأثير الكواكب وغيرها وكذب المنجمين:

في خلق السموات والأرض وتفكرهم في ذلك، إذ هو اللائق به عليه السلام، لكنه أوهم قومه أنه يتفكر في أحوالها من حيث الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليترتب عليها ما يتوصل به إلى غرضه الذي سيكون وسيلة إلى إنقاذهم مما هم فيه فقال «إِنِّي سَقِيمٌ 89» مريض، وأراد بذلك مرض القلب من كفرهم وعنادهم وتمسكهم بعبادة الأوثان، أي اني لا أستطيع حضور التشريفات. مطلب في العدوى وقسم من قصة ابراهيم وتأثير الكواكب وغيرها وكذب المنجمين: وكانوا يعتقدون العدوى كالمتوهمين وضعاف اليقين من أهل هذا الزمن، لأن العدوى وإن كانت حقيقة إلا أنها بقدر الله وقد حذر الشارع من الاختلاط بالمخدومين لقذارتهم للعدوى، لأن الذي لا توجد فيه قابلية العدوى لا يعدى ولو أكل وشرب ونام مع المريض، وهذا ثابت لا ينكر وحذر أيضا الشارع من الدخول على البلد الذي فيه الطاعون لئلا يلزم من قدر عليه أن يصاب بذلك الوباء، فيقال له لم دخلت القرية الموبوءة حتى أصبت، وحذر أيضا من الخروج منها لئلا يلام هو إذا أصيب غيره بسببه ليس إلا، ويكفيك قول الرسول الأعظم للأعرابي حينما قال له بعد أن سمع منه حديث لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا غول وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد. إنا نرى الجمل الأجرب يختلط بالإبل فيجربها (من أعدى الأول) تدبر هذا هداك الله وأزال وساوس قلبك وما تتخيله من الوهم المقضى إلى الأمراض والعلل لضعف قلوبهم «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ 90» تباعدوا عنه خشية العدوى فتركوه وذهبوا، فأخبروا الملك بمعذرته وبهذه الوسيلة تخلص من اجابة الدعوى لزيارة الأوثان وقدمنا ما يتعلق في مبادئ هذه القصة في الآية 83 من سورة الأنعام المارة تبعا لذكر الله إياها هناك كما أتينا على قسم منها هنا للسبب نفسه وسيأتي تمامها في الآية 51 فما بعدها من سورة الأنبياء الآتية إن شاء الله القائل «فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ» بعد أن ولوا عنه وكانوا ذهبوا إلى آلهتهم ووضعوا الأطعمة أمامها لتعود إليها بركتها وليأكلوا بعد رجوعهم من المراسيم المعتادة في الأعياد «فَقالَ» ابراهيم للأوثان «أَلا تَأْكُلُونَ 91» من هذا

الطعام الموضوع أمامكم لتحل عليه بركتكم كما يزعمون فلم يردوا عليه فقال «ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ 92» نزلهم بخطابه منزل العاقل تهكما واستهزاء وتقليد القومة، ولما لم ير أحدا عندها لأنهم لم يعودوا من المراسم بعد «فَراغَ» ذهب ومال وأصل الروغان ميل الشخص في جانب وهو يريد غيره ليخدع من خلفه وأقبل متعليا «عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ 93» حتى كسرها كلها وترك الفاس عند كبيرها وخرج «فَأَقْبَلُوا» قومه من المعايدة ومحال مراسم العيد إلى زيارة الأوثان «إِلَيْهِ» المعبد الذي كان عند الآلهة المذكورة «يَزِفُّونَ 94» الملك والرؤساء ويمشون خلفهم على تؤدة أخذا من زفاف العروس في موكب عظيم، وقيل جاؤوا مسرعين حيث أخبروا بما وقع على الآلهة والأول أولى وان كان اللفظ يحتمل المعنى الآخر لأن زف تأتي بمعنى أسرع أيضا، إلا أن المعنى يأباه لما يأتي في سورة الأنبياء إنهم لم يعلموا من كسرها وانهم سألوا فأخبروا بأنه فتى يقال له ابراهيم، قالوا ولمّا دخلوا على المعبد ورأوا ما هالهم أمره ولما أحضروا ابراهيم وسألوه وقالوا نحن نعبدها ونعظمها وأنت تكسرها ولماذا فعلت هذا «قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ 95» بأيديكم من الحجارة والأخشاب «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ 96» منها ومن غيرها وفي هذه الآية دليل قاطع على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وبعد الأخذ والرد معه اتفقوا أن يكون جزاؤه الأحراق بالنار كما سيأتي بيانه في الآية المذكورة آنفا من سورة الأنبياء الآتية بصورة مفصلة «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ 97» النار للشديدة الالتهاب للتي بعضها فوق بعض ففعلوا وأبى الله لأن من كان حافظه لا يسلط عليه أحد ولا يقدر على مضرته أحد قال تعالى «فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ 98» الأذلين الخائبين المقهورين بجعل كلمتهم السفلى وإبطال كيدهم وبقاء كلمة الله تبارك وتعالى كما كانت هي العليا بنصرته عليهم وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم وبهذا يعلم أن النار لا تأثير لها إلا بخلق التأثير فيها من الله تعالى إذ لو كان لها تأثيرا بنفسها وطبعها لحرقته ولكن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى وقال إبراهيم لقومه بعد خروجه من النار وإياسه من إيمانهم «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ 99» إلى ما فيه خلاص فأرشده الله

[سورة الصافات (37) : الآيات 101 إلى 110]

إلى أرض الشام ثم إلى الأراضي المقدسة ولما استقر به الحال سئل ربه الولد ليكون خليفة له في أرضه فقال «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ 100» فأجاب الله دعاءه بقوله «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ 101» كامل الخلقة والخلق لولاية عهده ولارشاد الخلق لخالقهم كي يعبدوه واعلم أن هذه الآية انطوت على أربع بشارات حمل زوجته وأن الحمل ذكر وأن يبلغ الحلم وأنه يكون حليما ومن عظيم حلمه ما قص الله عنه بقوله «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» وصار يقدر على المشي والشغل «قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى» وهذه المشورة من إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل ليعلم ما عنده فيما نزل به من البلاء ليختبر صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته لا يرجع لأمره ورأيه، لأنه جازم في تنفيذ ما أمر به في رؤيا لان رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق، فإذا رأوا شيئا فعلوه، وإنما كان الأمر بالمنام لأنه في نهاية المشقة وغاية الشدة على الذابح والمذبوح فكان كالتوطئة «قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ 102» على تنفيذ أمر الله وإنما علق قوله بالمشيئة على سبيل التبرك لا غير، إذ لا حول عن المصيبة إلا بعصمة الله ولا قوة على الصبر عليها إلا بتوفيق الله. واعلم أن هذه الآية الوحيدة التي استدل بها بعض الأصحاب والتابعين على أن الذبيح هو إسحاق، إلا أن الآيات غيرها تدل على أنه إسماعيل عليهما السلام وهو الصحيح كما سيأتي في القصة. هذا وأن بعض الناس أنكر أن يكون للكواكب تأثيرا في هذا الكون غير الضياء في المواقع التي تطلع عليها، وهذا فيه تفريط إذ بعضهم زعم أن لها تأثيرا في السعد والنحس وسعة العيش وضيقه وطول العمر وقصره، وهذا فيه إفراط، وبعضهم قال إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض. ومزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذلك مزاج أهله، إذ تكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سودا وخضرا كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذلك مزاج أهله حيث تكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيضا وشعورهم شقرا كالترك والصقالبة، ولها أيضا تأثير في نمو النبات واشتداده ونضج ثمره وتلوينه

وطعمه بإشراق الشمس والقمر وبعض الكواكب، وهذا مما يدرك حسا ولا يكاد ينكر، ولا بأس في نسبة هذا إلى الكواكب ولكن على معنى أن الله تعالى أودع فيها هذه القوة المؤثرة لا بطبعها ولا بتأثيرها بإرادة نفسها كالإحراق بالنار والارواء للماء، فإن الله تعالى لو لم يجعل فيهما تلك القوى لما حصل في النار إحراق ولا من الماء إرواء كما علمت في حال إبراهيم عليه السلام، إذ لم تؤثر فيه النار كما أنها لم تؤثر في السندل الذي يفرخ فيها، وكذلك السكين لا تقطع إلا بتأثير الله تعالى ولذلك لم تذبح إسماعيل بعد معالجة أبيه له في ذبحه، وهذا قول وسط معتدل وخير الأمور أوسطها وعلى هذا السلف الصالح، وقال به الشيخ إبراهيم الكوراني في جمع الأسباب والمسببات، وعليه بعض الماتريدية، هذا وأن المنجمين يكذبون وإن صدقوا في بعض الأحيان على ما جاء في الحديث الشريف وقد دلت عليه التجارب على كذبهم أكثر من صدقهم، فمن كذبهم ما أجمع عليه حذافهم سنة سبع وثلاثين بأن عليا كرم الله وجهه حينما توجه لصفين يقتل ويقهر جيشه وبالعكس فقد انتصر ولم يتخلص منه أهل الشام إلا بالحيلة التي دبرها لهم عمرو بن العاص حينما حملهم على حمل المصاحف على رءوس الرماح وقولهم بلسان واحد إنا الرجوع إلى حكم الله وهي كلمة حق أراد بها بطلا حتى أقسر علي على قبول التحكيم وكان ما كان، وكذلك أجمعوا على قهره عليه السلام لما خرج لقتال الخوارج حيث كان القمر بالعقرب، لأنهم يزعمون أنها منزلة نحس لا يقع فيها إلا الشر، فقال نخرج ثقة بالله وتوكلا عليه، فانتصر انتصارا باهرا وكذبهم الله. وأجمعوا أيضا سنة ست وسنين على غلبة عبد الله بن زياد على المختار بن أبي عبد خليفة إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار في أرض نصيبين ومعه سبعة آلاف فقهره وقتله وقتل من عسكره ثلاثه وسبعين ألفا ولم يقتل من أصحاب المختار سوى مائة نسمة، وأجمعوا أيضا يوم أسّست بغداد سنة مائة وست وأربعين على أن طالعها يقضي أن لا يموت فيها خليفة فقتل فيها الأمين والواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم، وهناك أمور أخر في كذبهم لا تحصى حتى أنهم سنة 1920 ميلادية أشاعوا بأنه سيطلع نجم مذنب عظيم قد يلطم ذنبه كرة الأرض فيخرب قسما

عظيما منها، ولم يقع شيء من ذلك ولما قتل الأمين في شارع باب الأنبار قال بعض الشعراء في تكذيبهم: كذب المنجم في مقالته التي ... كان ادعاها في بنا بغدان قتل الأمين بها لعمري يقتضي ... تكذيبهم في سائر الحسبان ومن هذا القبيل الإبرة الدالة على حدوث الأمطار والهواء والعواصف وغيرها، فإنها قد تختلف أيضا باختلاف الجوّ، فلا يقع ما تشير إليه، لأن تبدل حالة الجو التي هي بيد مالك الملك ومقلّب الأحول تحول دون ذلك إذ لا يستطيع مخترع الأبرة وغيره والعالم أجمع أن يبقى الجو على حالته حينما أشارت إليه الأبرة حتى يقع ما أشارت به، بل إذا أبقاها الله تعالى يقع وإلا فلا، وهذا محسوس مشاهد. واعلم أن ما احتج به أهل الهيئة من أن الله تبارك وتعالى قد فخم من قدر النجوم يحلفه بها تارة ومدحه لها أخرى في القرآن العظيم لا يفهم منه أن الله تعالى إنما عدد ذكرها في مواضع كثيرة في القرآن لأن لها تأثيرا، كلّا، بل لعظمها وكونها دالة على إلهيته، والله تعالى ذكر الأنبياء في القرآن أكثر من غيرهم، فهل يقال إنما ذكرهم لما لهم من التأثير بذواتهم المقدسة، كلا وانما لعظم مقامهم عنده وتعظيما لشأنهم عند أقوامهم، لأنهم الواسطة لهداية البشر حتى أنهم مع جلالة قدرهم لا يملكون الشفاعة لأنفسهم وأولادهم وأزواجهم إلا بإذن الله القائل «فَلَمَّا أَسْلَما» خضع الأب وابنه لأمر الله وانقادا لتنفيذه وعزما على اجرائه عزما جازما باشره الأب «وَتَلَّهُ» أي جرّه «لِلْجَبِينِ 103» بأن صرع الأب ابنه على الأرض وألصق جبينه بها ووضع السكين على حلقه وأمرها إمرارا قاسيا يقصد ذبحه دون تعذيبه بامرارها كثيرا، ولكنها لم تذبح رغما لشدة حزّها على محل الذبح منه بقوة وجلادة إطاعة لأمر الله، وكان قبل حدها حرار حتى رآها أنها تقطع حلقوم الجمل بامرارها عليه مرة واحدة، وهذا دليل قاطع على أن المؤثر الحقيقي في كل شيء هو الله تعالى لأن السكين الحادة لا يعقل أنها لا تقطع اللحم كما أن النار لا يعقل أنها لا تحرقه، ولكن الله تعالى إذا لم يضع فيها قوة الذبح لا تذبح وكذلك لا تحرق ولما رأى الخليل عليه السلام عدم تمكنه

[سورة الصافات (37) : الآيات 111 إلى 120]

من إمضاء عزيمته في تنفيذ أمر ربه، وقد بذل وسعه بفعل ما يفعل الذابح بالمذبوح فكأنه ذبحه بلا ريب وأن المانع الذي جعله الله لا يكون مدار القول بعدم إنفاذ ما جزم به، وصبر الولد على الألم الذي قاساه في إمرار السكين لا يقاس به صبر وتسليمهما لإمضاء هذا الأمر لا يقابله تسليم ولهذا فان الله العالم بانقيادهما لأمره انقيادا جازما حال دون ذلك، وأظهره ليطلع عليه الناس، لأنه عالم بما يقع منهما، ولذلك وهب لهما من فيض جوده كبشا وجعله فداء لصفيه إسماعيل وجزاء لخليله إبراهيم عليهما السلام فخاطبه بقوله «وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ 104» كف عن ذبح ابنك لقيامك بما أمرت به وأنك حقا «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» وعملت بالجزم فقبلنا فعلك وان ابنك سلّم وانقاد لأمرنا فقبلنا منه خضوعه دون جزع أو ضجر وقد أظهرنا للناس إنابتكما هذه ليعلموا أن أحدا لا يقدر على ما ابتليتما به «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا العفو الذي عفونا به عن ذبحك ولدك ومثل هذا الفداء الذي فديناه به جزاء الصبر والامتثال منكما «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 105» أمثالك وأمثال ابنك، قال تعالى «إِنَّ هذا» الامتحان الذي اختبرنا به إبراهيم وابنه وقاما به بنية خالصة وصدق محض «لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ 106» الظاهر الذي تبين به حقيقة الإخلاص «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ 107» في الجثة والقدر بنسبة المفدى «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 108» من بعده ثناء مستمرا إلى يوم القيامة وهو «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ 109» من الله وملائكته ورسله وعباده كافة «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن الدائم «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 110» في الدنيا والآخرة «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 111» الكاملي الإيمان «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ 112» لعبادتنا وخلافتنا في الأرض لإرشاد خلقنا زيادة في جزائه الحسن. مطلب من هو الذبيح وأنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس وأن الفرع السيء والأصل السيء لا يعد عيبا ومعنى خضراء الدمن وبقية القصة: وهذه الآية مما تدل على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام دلالة كافية، لأنه بعد أن قص الله تعالى علينا الابتلاء بالذبح وتنفيذ أمره فيه وفدائه له ذكر

إسحق كما ستقف عليه بعد قليل «وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ» ابنه الثاني من السيدة سارة بنت عمه والأول إسماعيل من الجارية هاجر «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما» ذرية إبراهيم وإسحق قالوا أخرج من صلبهما الف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام «مُحْسِنٌ» لنفسه ولغيره أنبياء وأولياء «وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ 113» بين ظلمه بتعديه حدود الله أي أن من ذريتهما كفرة ظلمة عصاة أيضا، ومن هنا يعلم أنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس، فقد يكون الأب نبيا والولد كافرا كنوح عليه السلام وابنه كنعان، وإبراهيم عليه السلام وأبيه آزر. وفيها تنبيه على أن الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر وأن العقب السيء لم يعد عيبا ولا نقيصة على أصله وإنما ينحصر في النّاقص والعيب بالمعيب، كما أن الأصل لا يعد عيبا على الفرع من حيث الكفر وغيره ولا ينطبق هذا على قوله صلّى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فان العرق دساس فإن هذا خاص بمن ضرب على أصلها بفاحشة خشية أن يقتص منها عنده لقوله صلى الله عليه وسلم من زنى زني به ولو بحيطان داره أي لا ينجو من القصاص البتة ألا فليتق الله من أراد أن يحافظ على عرضه وأن الشرف يكون فيمن كان آباؤه إسلاما أكثر فهو أشرف ممن آباؤه إسلاما أقل. وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون هي أنه لما بشر ابراهيم بالولد قال هو ذبيح الله فلما شب قيل له أوف بنذرك، فأخذ سكينا وتعجيلا واستصحب ابنه وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وقال له لنذبح قربانا حتى بلغ به المذبح من منى قال له يا أبت أين القربان؟ قال يا بني أمرت بذبحك وكان ليلة رأى ليلة الثامن من ذي الحجة، فلما أصبح تروى أي تفكر هل رؤياه هذه من الله أو من الشيطان فسميت ليلة التروية ثم رآها ثانيا ليلة التاسع منه فعرف أنها من الله حقا فسميت ليلة عرفة ثم صمم على نحره ليلة العاشر فسميت ليلة النحر. فاستسلم الغلام لأمر الله وقال يا أبت أفعل ما تؤمر وأشدد رباطي لئلا أضطرب واكفف ثيابي لئلا تتلطخ بالدم فتراه أمي فتحزن فينقص أجرها واستحد الشفرة وأسرع بمر السكين على حلقي ليهون علي الموت وأقرئ أمي مني السلام وأوصها

مطلب الحيوانات والجمادات التي تحشر وتبقى ورمي الجمار والحكم الشرعي في الأضحية:

بالصبر والاستسلام، فقال إبراهيم نعم العون أنت يا بني على تنفيذ أمر الله، ففعل به ما ذكره وقبله وبكى كل منهما، ثم أضجعه ووضع السكين على حلقه وأمرّها بشدة وسرعة فلم تذبح، فحدها ثانيا وثالثا وأراد الذبح بعزم وحزم فلم تذبح، قالوا وقد ضرب الله تعالى بصفحة من نحاس على حلقه لئلا يحس بإمرار السكين ولا يبعد هذا على الله، إلا أن الحق الحق أعلم أنه تبارك وتعالى لم يرد ذبحه فلم تؤثر السكين فيه لأنه لم يودعها قوة الذبح إذ ذاك وهذا أبلغ في القدرة من خلق النحاس، قالوا ولما رآه إسماعيل أنه لم يذبحه ظن أن ذلك من شفقته عليه فقال يا أبت كبني على وجهي لئلا تدركك الرحمة علي برؤية وجهي فتمنعك الرأفة والرقة عن تنفيذ أمر الله، والحال لا يوجد شيء من ذلك، لأن طاعة الله عنده أحب إليه من ابنه ونفسه والناس أجمعين، ولكن الله تعالى لم يرد ذبحه وهذا مما يؤيد ما ذكرناه غير مرة بأن الأمر غير الإرادة راجع الآية 148 من سورة الأنعام المارة، ففعل أيضا ما أشار به عليه ابنه ووضع السكين على رقبته وجرها كالعادة فلم تذبح، ولما شدد بالجر بها انقلبت على قفاها، فعلم الله كما هو عالم من قبل صدق عزيمته وانقياد ابنه لأمره ففداه بكبش من الجنة وهو الذي قربه هابيل ابن آدم عليه السلام. مطلب الحيوانات والجمادات التي تحشر وتبقى ورمي الجمار والحكم الشرعي في الأضحية: وهذا الكبش وحمار عزير وكلب أهل الكهف وعصا موسى وناقة صالح تحشر وتبقى في الجنة كما جاءت بها الأخبار، أما غيرها من الحيوانات والجمادات عدا التي عبدت من دون الله فستكون ترابا والله أعلم. قال ابن عباس لو تمت ذبيحة إسماعيل عليه السلام لصار على الناس ذبح أولادهم سنة ولكن الله لطف بعباده ففداه ولهذا صارت الأضاحي سنة أو واجبة على اختلاف فيها بين المذاهب. قالوا وتعرض الشيطان لإبراهيم في المشعر محل الذبح في منى فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فتعرض له الشيطان أيضا فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، فصار الرمي منذ ذلك الزمن

عادة للحاج إلى ظهور البعثة النبوية، فجعل من سنن الحج، وهو واجب في مذهب الشافعي، وفي تركه نسك وعدد الحصى التي يرمي بها سبعون حصاة سبع يوم العيد وثلاث وستون أيام التشريق الثلاث كل يوم واحد وعشرون لكل موقع من مواقع الرمي سبع، وفي رواية أخرى أن ابراهيم عليه السلام بعد بناء البيت أخذ جبريل عليه السلام يريه مناسكه ويعلمه ما ينبغي لعبادة الله وحده وإذا بإبليس عليه اللعنة تمثل له في مواطن الجمرات فقال له جبريل كبر وارمه سبع حصيات ففعل. فعلى المسلم أن يستشعر هذا بقلبه ويبعد عنه بلسانه عند الرمي فهي حركة صغيرة تعبر عن عاطفة كبيرة يستعين بها أثناء عبادته في درء نزعات الشيطان واخلاص العبادة للرحمن، وقال الغزالي في الاحياء فليقصد برمي الحجار الانقياد للأمر وإظهار الرق للعبودية وانتهاض الامتثال والتشبه بإبراهيم عليه السلام، وما قيل إن محل الرجم قبر أبي رغال قيل كاذب لأنه ليس في هذه الأمكنة وقبره معروف في محل واحد والرجم في ثلاث محال فلو كان لكان الرجم في مكان واحد وقدمنا ما فيه في سورة الفيل ج 1 فراجعه، قالوا ولما ذبح الكبش قال جبريل الله أكبر فقال إسماعيل لا إله إلا الله والله أكبر فقال ابراهيم الله أكبر ولله الحمد فصارت سنة عند الذبح وفي الحج وبعد الصلوات في العيد من زمن ابراهيم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، الحكم الشرعي: وجوب الأضحية على كل من ملك النصاب عند أبي حنيفة، ومن نذر أن يذبح ابنه لربه ذبح شاة استدلالا بهذه القصة وقال بقية الأئمة بسنيتها، هذا وقال أهل الكتابين وبعض علماء الإسلام أن الذبيح هو اسحق وبه قال عمر وابن مسعود والعباس من الأصحاب، ومن التابعين سعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي وقول لابن عباس إذ كانت هذه الرؤيا بالشام، وإنه ذهب به إلى النحر في منى وفداه الله كما مر في القصة، وقال عبد الله بن سلام وأبو بكر وابن عمر وابن عباس من الأصحاب، ومن التابعين الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وفي رواية عن عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس والمقوس أنه إسماعيل، وحجة القول الأول أن الله تعالى قال وبشرناه

بغلام حليم فلما بلغ معه السعي أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بغير اسحق، وقال تعالى في سورة هود وبشرناه بإسحاق وقال تعالى في هذه السورة وبشرناه بإسحاق نبيا بعد قصة الذبح بما يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من المشقة في قصة الذبح وأن أول الآية وآخرها يدل على أنه اسحق وقد مر في سورة يوسف أن يعقوب لما كتب الكتاب لعزيز مصر كتب من يعقوب بن اسحق ذبيح الله بما يدل على أنه هو الذبيح، وحجة القول الثاني أن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق في السور الأخر غير هذه بعد الفراغ من قصة الذبح، فقال تعالى (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) بما يدل على أن الذبيح غيره ولقوله في سورة هود (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فكيف يأمره بذبح اسحق وقد وعده بأنه سيأتي منه حفيد له اسمه يعقوب، وقال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) الآية 74 من سورة الأنبياء الآتية، وكرر معناها في سور أخرى فلو كان المذبوح اسحق لما بشره ربه بأن يكون له حفيد منه وهذا القول وحده كاف الدلالة على أن الذبيح إسماعيل إذ لو كان الذبيح اسحق لحصل الشك لسيدنا إبراهيم بصحة الرؤيا لأن الله وعده بأنه سيتزوج ويأتي له ولد اسمه يعقوب فكيف يأمر بذبحه؟ هذا وأن وصف إسماعيل بالصبر دون اسحق يدل على أنه هو الذبيح لما فيه من المناسبة الصريحة ولأنه وصف بصدق الوعد بقول تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) الآية 153 من سورة مريم المارة في ج 1 حيث وعد أباه بالصبر والموافقة على ذبحه والامتثال لأمر ربه حين قص عليه رؤياه وقد وفى بذلك، وهذا كله يدل دلالة كافية على أن الذبيح هو إسماعيل ويؤيد هذا أن قرني الكبش كانتا معلقتين على الكعبة في أيدي ولد إسماعيل، وبقيت كذلك، إلى أن احترقت زمن ابن الزبير، قال الشعيبي رأيت قرني الكبش موطنين في الكعبة، وقال ابن عباس والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش لمعلق بقرنين في ميزاب الكعبة وقد وحش أي يبس. وقال الأصمعي سألت أبا عمر بن العلاء عن الذبيح أإسحاق أم إسماعيل، فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان اسحق بمكة إنما كان إسماعيل، وان اليهود تعلم ذلك، ولكن يحسدونكم معشر العرب

[سورة الصافات (37) : الآيات 121 إلى 130]

على أن يكون أباكم ويدعون أنه اسحق لأنه أبوهم. والقول الفعل ما جاء عن خاتم الرسل أنه قال أنا ابن الذبيحين يعني جده إسماعيل وأباه عبد الله، لأن عبد المطلب كان نذر لأن بلغ عدد بنيه عشرة ليذبحن أحدهم وهو آخرهم، وقد حقق الله له ذلك وبادر بذبحه ثم تحاكم إلى الأزلام فوضع عشرة من الإبل وابنه فوقع على ابنه ثم وضع عشرين وضرب الأزلام فوقعت على ابنه وهكذا حتى بلغت ماية من الإبل فوقعت عليها ففداه بها وذبحها كلها، ولذلك صارت دية الرجل مائة من الإبل من ذلك اليوم وأقرها الإسلام، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد: إن الذّبيح هدين إسماعيل ... نص الكتاب بذاك والتنزيل شرف به خصّ الإله نبيّنا ... وأتى به التفسير والتأويل إن كنت في أمته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصه التفضيل قال تعالى «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ 114» بالنبوة والرسالة والنّصر «وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما» المؤمنين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ 115» وهو الاستعبار من فرعون وقومه القبط ولا كرب أعظم من الرق والأسر «وَنَصَرْناهُمْ» جمع الضمير باعتبار أن النصر لهما ولقومهما المؤمنين بهما على القبط وملوكهم أجمع وإلا ففيه دلالة على أن الجمع يكون على ما فوق الواحد كما سيأتي في الآية 78 من سورة الأنبياء الآتية «فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ 116» عليهم بنصرتنا لهم «وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ 117» البليغ في بيانه المستنير في هدايته وهو التوراة، والإتيان لموسى خاصة ولما كان هرون يعمل معه فكأنه أوتيه لأنه مرسل مثله وقد كذب اليهود بإنكار رسالته وشوهوا التوراة بتحريفها وشطب ذلك منها وغيره مما يتعلق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 118» الموصل من تمسك به إلى الجنة في الآخرة فكل من سلكه بإحسان ومات على ذلك إلى بعثة عيسى ابن مريم فهو ناج وكل من تمسك بالإنجيل إلى بعثه محمد فهو ناج إذا مات قبل البعثة أو صدق بها وآمن بمحمد وإلا فهو هالك «وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ 119» ثناء حسنا دائما ما تعاقب الجديدان وهو «سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ 120» في الدنيا والآخرة «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الذي جزيناهما به

مطلب قصة إلياس عليه السلام وقسم من قصة لوط عليه السلام:

«نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 121» على عملهم من عبادنا أجمع «إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 122» بنا المخلصين لنا مطلب قصة إلياس عليه السلام وقسم من قصة لوط عليه السلام: قال تعالى فيما قصة على نبيه أيضا بعد تلك القصص «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 123» إلى أهل بعلبك وهو إلياس بن يس وقيل ابن بشير وهو ضعيف جدا بل هو ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون عليه السلام بن عمران وما قيل إنه إدريس ضعيف أيضا ومخالف للظاهر ولا مستند له إلا الظن وهو لا يغني شيئا في الاستدلال على الحق إذ بين إدريس وإلياس قرون كثيرة لأنه من آدم وإلياس من نوح وإدريس لم يبعث بعد إلى أهل بعلبك فهو قول مخالف للنص تدبر، وراجع الآية 85 من سورة الأنبياء الآتية بشأن نسبه «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» وكانوا من بني إسرائيل ولذلك أضيفوا إليه «أَلا تَتَّقُونَ 124» الله وهو في الجملة وما بعدها مقول قوله عليه السلام «أَتَدْعُونَ» باستغاثتكم وتطلبون في حوائجكم وترجون في مهماتكم «بَعْلًا» هو اسم صنم لهم يعبدونه وقد أول بعضهم تدعون بيعبدون وهو هنا خلافه الظاهر كما ترى في هذه الآية وإلا فانه يأتي دعى بمعنى عبد، ويصح المعنى في مواضع كثيرة راجع الآية 48 من سورة مريم في ج 1 وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ 125 فلا تسألونه وهو خالقكم والصنم من خلقكم الذي هو من خلق الله أيضا لأن العبد مخلوق لله وصنعه مخلوق لله أي انكم بفعلكم هذا تتركون «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ» وهذه كلها بالنصب صفة لأحسن الخالقين المتقدم «آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ 126» هو أحق أن تلجأوا إليه في أموركم وهو أحرى بأن يجيبكم لأن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فكيف ترجون منه ما تأملون فلم يصغوا «فَكَذَّبُوهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يعبئوا بنصحه ولم يعتنوا به قال تعالى مهددا لهم على استخفافهم «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ 127» يوم القيامة فنحاسبهم ونجازيهم على كفرهم بالنّار التي لا يسلم من عذابها «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 128» له الذين استخلصهم لعبادته «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 129» ثناء مستمرا ما بقي الملوان وهو

[سورة الصافات (37) : الآيات 131 إلى 140]

«سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ 130» أي الياس وقومه كما تقول، المحمديين واليسوعيين والموسويين، وهذا مما يؤيد أن أباه يسن كما ذكرنا لا بشر «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 131» في الدنيا إحسانا في الآخرة جزاء إحسانهم ومثل ذلك الجزاء الحسن نجزي نبينا الياس «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 132» بنا المصدقين لرسلنا. وخلاصة قصته على ما قاله الأخباريون هو أنه لما مات حزقيل عليه السلام كثر الفساد في بني إسرائيل وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى لهم الياس نبيا وكان الأنبياء بعد موسى يبعثون بتجديد أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل فأصاب سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم الياس وكان ملكهم اسمه آجب، قد ضل وأضل وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان لهم صنم يسمى بعلا مصوغا من الذهب بطول عشرين ذراعا وله أربعة أوجه وقد فتنوا به وجعلوا له أربعمائة سادن وسموهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل ويتكلم بما يضللهم فيحفظونه السدنة ويأمرون الناس به وصار الياس عليه السلام ينهاهم عن عبادته ويأمرهم بعبادة الله فلم يذعن لدعوته إلا الملك فإنه آمن به واسترشد برشده وكان له زوجة جبارة يستخلفها عند غيابه فاغتصبت جنينه من رجل كان يتعيش بها فلما عارضها قتلته فأمر الله الياس أن يخبر الملك وزوجته بان الله غضب عليهما باغتصابهما الجنّة وقتل صاحبها لأن الملك لما لم يردعها عدّ راضيا بفعلها وأن يخبرهما بأنهما إذا لم يردا الجنة لورثته يهلكهما فيها ولا يتمتعان بها إلا قليلا فأخبرهما الياس فاشتد غضب الملك عليه وقال له يا الياس ما أراك تدعو إلا إلى الباطل، وهمّ بقتله فهرب الياس وارتد الملك عن الإيمان ورجع إلى عبادة الأوثان وبقي الياس مستخفيا بين الجبال سنين وهم يتحرونه ولم يقفوا على أثره، فضاق صدره عليه السلام، وسأل الله أن يميته، فقال تعالى له ما هذا وقت إعراء الأرض منك، لأن صلاحها بك، فقال يا رب أعطني ثأري من بني إسرائيل، قال ما تريد، قال اجعل خزائن المطر بيدي ثلاث سنين، فإنه لا يذلهم إلا هذا، فأعطاه الله ذلك ومنع عنهم المطر فهلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الياس، وهو لم يزل مستخفيا وقد عرف قومه أن البلاء جاءهم بسببه، فمر ذات يوم بعجوز منهم فضافها فأخرجت له قليلا

من الدقيق والزيت، فأكل ودعا لها بالبركة فلم تحس إلا وقد ملئت جربانها دقيقا وخوابيها زيتا، فاطلع الناس عليها وعلى ما عندها من الخير، فقالوا لها من أين لك هذا، قالت ضافني رجل فقدمت إليه ما عندي من دقيق وزيت فأكل ودعا لي بالبركة، ومنذ فارقني رأيت أجربتي ملئت دقيقا وخوابيّ زيتا ووصفته لهم فعرفوه، وطفقوا يطلبونه يمينا وشمالا شرقا وغربا فلم يجدوه، ثم انه أوى إلى بيت عجوز أخرى لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب وكان مريضا فدعا له فعوفي بالحال وآمن به، ثم إنه لما رأى ما حل بقومه من الضيق والضنك رقّ لهم ورأف بهم فأظهر نفسه إليهم مفاديا بها طلبا لإيمانهم به ورجوعهم إلى عبادة الله وتركهم الأوثان بعد أن آنس منهم الركون إليه والالتجاء إلى ربه، وقال لهم قد هلكتم وهلك كل شيء بخطيئتكم فأخرجوا أصنامكم واستسقوا بها، فإن مطرتم فذلك كما تقولون وإلا فيتحقق لديكم أنكم على باطل فتنزعون عن عبادتها، ثم إني أدعو الله ربي فإذا أفرج عنكم آمنتم به وتركتم الأوثان، قالوا لقد أنصفت فخرجوا وأخرجوا أصنامهم، ودعوا فلم يستجب لهم، ولم يزالوا حتى أظهروا عجزهم وعجز آلهتهم، وكلفوه بأن يدعو هو إلهه، فشرع عليه السلام يدعو واليسع يؤمن على دعائه وقد انتهت المدة التي منع الله بها السماء أن تجرد عليهم حسب طلبه السابق، فأغاثهم الله تعالى غيثا جلل أراضيهم كلها، فحييت واخضرت ودبت الحياة بمواشيهم وترعرعوا وتنفسوا من ألم القحط وتروحوا من الجدب لكثرة ما أفاض الله عليهم من الخير الذي أدرّ الضرع وأكثر الزرع، فنكثوا بعهودهم ونقضوا وعدهم وأصروا على كفرهم، لأن النعم التي غمرتهم أنستهم ما كانوا عليه من الشدة وصاروا يسخرون بنبيهم كلما يدعوهم إلى الإيمان ويطالبهم بالوفاء بالعهد، وقد أيس من إيمانهم فدعا الله أن يريحه منهم، فأجاب الله دعاءه وقال له أخرج إلى موضع كذا لمكان عيّنه له وما جاءك فاركبه ولا تخف، فخرج هو واليسع وإذا بفرس من نار دنت منه فوثب عليها فانطلقت به في الهواء فناداه اليسع بماذا تأمرني فألقى إليه رداءه فاستدل به على استخلافه فلبسه ورجع يدعو الناس إلى طاعة ربه واقتفى آثار دعوة الياس عليهما السلام، قالوا وان الله تعالى قطع عن الياس الحاجة إلى الطعام والشراب

فصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا وكأنه لهذه الحكاية قال بعض المفسرين إنه إدريس عليه السلام لما أشار إليه في الآية 57 من سورة مريم بقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) في ج 1، مع أن إدريس كان رفعه على غير هذه الصورة راجع قصته في الآية المذكورة، على أن القصص كلها ما لم تستند إلى آية أو حديث لا عبرة بها. هذا، وقد سلط الله على الملك المرتد وقومه عدوا لهم فأرهقهم وقتل الملك وزوجته ارببل في الجنة التي غصبتها كما أخبرهم نبيهم الياس، وقد نبأ الله اليسع وبعثه إليهم فآمنوا به، قال تعالى «وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 133» من قبل إلى طائفة من عبادنا فتغلبوا عليه وأرادوا البطش بأضيافه فاذكر يا محمد لقومك «إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 134» من الإهلاك الذي حل بقومه «إِلَّا عَجُوزاً» هي زوجته واعلة لأنها على دين قومه وليست من عشيرته لأنه غريب عنهم كما تقدم راجع الآية 78 من سورة هود المارة وتطلع على تفصيل قصته في الآية 79 من سورة الأعراف في ج 1 «فِي الْغابِرِينَ 135» الباقين في العذاب «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ 136» تدميرا فظيعا فلم نبق منهم أحدا «وَإِنَّكُمْ» يا أهل مكة «لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ» عند ما تسافرون إلى الشام «مُصْبِحِينَ 137» نهارا «وَبِاللَّيْلِ» أيضا إذ ترون منازلهم وآثار أطلالهم بذهابكم وإيابكم صباح مساء «أَفَلا تَعْقِلُونَ 138» كيف كانوا وما حل بهم من العذاب حتى دمروا وأهلكوا بسبب كفرهم وتعندهم مع نبيهم فاتعظوا لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العذاب لأنكم متقمّصون بالأعمال السيئة التي أهلكوا من أجلها من الكفر والتكذيب والاستهزاء، ولو أنهم آمنوا بنبيهم وصدقوا بما جاءهم به لما أهلكوا، قال تعالى «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 139» إلى أهل نينوى من قبل الله تعالى فدعاهم للإيمان فلم يقبلوا، واذكر لقومك قصته يا محمد «إِذْ أَبَقَ» هرب من قومه حين رفع الله عنهم العذاب غضبا عليهم أو حين استبطأ نزوله بهم وقد نفذ الوقت الذي وعدهم به خوفا من أن يصموه بالكذب فقر منهم «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ 140» المملوء، قالوا لما وصل إلى البحر كان معه زوجته وولداه فجاء المركب فقدم امرأته ليركب بعدها فحال بينهما الموج وذهب المركب وتركه وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، ثم جاء ذئب وأخذ

[سورة الصافات (37) : الآيات 141 إلى 150]

ابنه الآخر وبقي فريدا، فجاء مركب آخر فركبه، فقال الملاح إن فيكم عاصيا عبدا آبقا من سيده إذ لا موجب لوقوف المركب غير هذا، فانظروا من هو، فاقترعوا لمعرفة ذلك الآبق فيما بينهم، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا له بعد الاعتراف بأنه آبق من سيده وعنى بذلك ربه لا بد من رميك في البحر، لأن العادة المطردة عندنا كذلك، ولئن يغرق واحد خير من أن يغرق الكل، فاستسلم فأخذوه وزجوه بالماء، وذلك قوله تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ 141» المغلوبين في القرعة «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ 142» فعل فعلا يلام عليه بالنسبة لمقامه وذلك على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين لأنه لم يفعل على رأيه ما يعاقب عليه «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ 143» لنا المكثرين لذكرنا الراجعين لأمرنا «لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ» لبقي في جوف الحوت «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 144» من قبورهم الأموات هو وقومه وغيرهم، وكان تسبيحه عليه السلام كما ذكر ربه في الآية 87 من سورة الأنبياء الآتية (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا هو الذي نجاه، وكان عليه السلام يديم ذكر ربه قبل ذلك لا يفتر عنه أبدا ولهذا عده الله من المسبحين، وجاء في الحديث اذكروا الله في الرخاء يذكركم بالشدة «فَنَبَذْناهُ» أجبنا دعاءه وأخرجناه من بطن الحوت وقذفناه «بِالْعَراءِ» الأرض الخالية من النبات والشجر «وَهُوَ سَقِيمٌ 145» عليل البدن من حرارة بطن الحوت، جاء في الخبر أن الملائكة لما سمعت تسبيح يونس عليه السلام قالوا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وقالوا غريبة لأنهم لم يسمعوا بشرا يذكر الله فيها قبل، وإنما يسمعون الحيتان والديدان وغيرها وهو يختلف عن ذكر البشر، فقال تعالى ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا ربنا ذلك العبد الصالح الذي كان يصعد عمله الصالح إليك كل يوم وليلة؟ قال هو ذاك، قال فيشفعون له، فأمر الله الحوت فقذفته بأرض نصيبين من قاعدة ربيعة وهي مجاورة لديار بكر ويليها من جهة الشرق الشمالي ديار مضر ويسمونها الآن جزيرة ابن عمر، وهذا مما يدل على أن المراد بالبحر هو دجلة التي تصب في البحر بعد اختلاطه بالفرات بالقرنة قبل البصرة، فعلى هذا

يكون ركوبه في نهر دجلة الواقع عليها بلد نينوى التي بعث لأهلها وقد التقمه الحوت الذي أمره الله بأن يأتي من البحر إلى محل ركوبه وسبح به حتى أدخله البحر وطاف به ما شاء الله من البحار حتى ألهمه ذلك التسبيح العظيم فعاد به إلى قرب المحل الذي التقمه من أرض نصيبين قالوا وذلك بعد ثلاثة أيام، قال تعالى «وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ 146» القرع الطويل غير الكوسا وغير المحزق الذي يسبح عليه وهو معروف، والحكمة من اختيار الله تعالى لهذه الشجرة دون غيرها لأنها سريعة النبات والنمو ولأنها لا يقف الذباب عليها فضلا عن الإظلال، وكان خروجه عليه السلام مثل الفرخ الذي لا ريش له إذ هري لحمه من سخونة بطن الحوت وكل شيء يؤذيه إذا لمسه، لذلك لطف الله به فأنبت عليه هذه الشجرة، قالوا وكانت هناك وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها صباح مساء وبقي حتى اشتد لحمه وجمد عظمه وثبت شعره، فنام ذات ليلة تحت ظلالها، فلما استيقظ وجدها يابسة فحزن لما فاته من ظلها ودفع الذباب عنه فجاءه جبريل عليه السلام وقال له أتحزن على شجرة يا يونس ولا تحزن على مئة ألف من أمتك قد تابوا وأسلموا، وذلك قوله تعالى «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ 147» في نظر الرائي أي إذا رآهم أحد يقول هؤلاء مئة ألف وأكثر لأن الإرسال كان قبل أن يصيبه ما أصابه فذهب إليهم «فَآمَنُوا» به وكان إيمانهم بالله تعالى عند معاينتهم العذاب بعد أن تركهم راجع القصة في الآية 97 من سورة يونس المارة، قال تعالى «فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ 148» انقضاء آجالهم فيها حسبما هو مقدر في علمنا، هذا وإنما لم يختم الله تعالى قصتي لوط ويونس عليهما السلام بالسلام كما ختم القصص قبلهما لأنه ختم هذه السورة بالسلام على جميع المرسلين وهما من جملتهم وقد سبق بحث لهذه القصة في الآية 49 من سورة نون في ج 1 فراجعها، ثم التفت جل جلاله إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَاسْتَفْتِهِمْ» عطف على قوله أول السورة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وذلك بعد أن بين الله معايبهم بإنكار البعث طفق يبين مثالبهم مما نسبوه إليه تعالى فقال سلهم يا محمد «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ» اللاتي يستنكفون عنهن ويقتلونهن خشية العار أو نفقتهن «وَلَهُمُ الْبَنُونَ 149»

[سورة الصافات (37) : الآيات 151 إلى 160]

الذين يرغبون فيهم ويتفاخرون ويتباهون وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) الآية 11 من سورة والنجم المارة في ج 1، وقوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الآية 57 من سورة النحل الآتية ، أي كيف يليق بقومك يا حبيبي أن ينسبوا لي ما يكرهون ولأنفسهم ما يحبون وأنا المنزه عن ذلك كله «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ 150» على ذلك حتى يسمونهم بنات «كلا» يا أكرم الرسل ليسوا بأولاد الله بل عباده وهم من أشرف الخلق وأقدسهم عن النقائص ولم يشاهدوا خلقهم ولم يعلموا به ولم يكن لي بنات ولم يولد لي شيء «أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ 151» «وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 152» في زعمهم ونسبتهم ولم نخلقهم إناثا ولم يشاهدوا خلقهم فهم مبرأون عما وسموهم به لأنهم لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة لأنهم لا شهوة لهم «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ 153» اختارهن عليهم وأنتم تعدون الأنوثة من أخس صفات الحيوان أيليق بكم هذا «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 154» على الله هذا الحكم الجائر الذي لا ترضونه لأنفسكم وهو جهل صادر منكم بذات الربوبية الأقدس «أَفَلا تَذَكَّرُونَ 155» بمقامه الجليل وترتدعون عما تتقولون، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع أي لا يكون شيء من ذلك جائز البتة «أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ 156» على زعمكم هذا كلا لا دليل ولا حجة ولا برهان ولا أمارة بذلك فإن كان عندكم به شيء «فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ» الذي فيه هذا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 157» بقولكم، قال تعالى «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» إذ قالوا إن الله تعالى تزوج من الجن وهم حي على حدة منهم إبليس عليه اللعنة. مطلب في الجن ونصرة الله تعالى أنبياءه وما يستخرج من الآية: أخرج ابن الياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على سبيل التبكيت فممن أمهاتهم؟ فقالوا بنات سروات الجن أي أشرافهم. ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن عطية وقال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس، وقيل إن المراد بالجن الملائكة وسموا جنا لاستتارهم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 161 إلى 170]

والحق أن الجن فصيلة على حدة لقوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية 27 من سورة الحجر المارة، وقد نسب الله تعالى إليهم إبليس بقوله (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 50 من سورة الكهف الآتية، وقدمنا ما يتعلق بالجن في الآية الأولى من سورة الجن في ج 1 فراجعه تعلم أن خلقهم كان قبل آدم وألمعنا لهذا البحث في الآية 28 من سورة الحجر المارة بأنهم ليسوا من الملائكة وأنهم سكنوا الأرض قبل آدم وأفسدوا فأهلكهم الله وشتتهم راجع الآية 30 من سورة البقرة في ج 3، قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ» بتعليم الله إياهم «إِنَّهُمْ» قائلي هذا القول «لَمُحْضَرُونَ 158» في الآخرة بالموقف العظيم ومزجوجون في نار الجحيم، فلو كانوا مناسبين الله أو أصهاره أو شركاءه تعالى الله عن ذلك كله لما عذبهم، وقد أخبر واخباره حق بأنه محاسبهم على إفكهم هذا ومعاقبهم عليه ومجازيهم على بهتهم في النار، ثم إنه نزه نفسه المنزهة بقوله «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 159» حضرة الربوبية ويفترون عليه من نسبة الولد والزوجة لذاته المبرأة عن ذلك، ثم أخبر جل إخباره بأن كلا من الجن والإنس القائلين بحق الله ما لا يليق محضرون ومحاسبون على ما تفوهوا به ونائلهم جزاء عملهم القبيح «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 160» عملهم إليه منهما فهم ناجون وإن إخلاصهم يوصلهم الجنة ويتنعمون بها واعلموا أيها المشركون «فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ 161» من دون الله «ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» على الذات المقدسة بما تصمونها به «بِفاتِنِينَ 162» مضلين ومفسدين أحدا من خلقه، وأعاد بعض المفسرين ضمير عليه إلى ما فيكون المعنى ما أنتم بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة «إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ 163» حذفت الياء من (صال) وجعلت الكسرة دالة عليها لالتقاء الساكنين على كونه مفردا لأن معناها هنا يدل على المفرد، أما كلمة (صالُوا) الواردة في الآية 59 من سورة ص المارة في ج 1 فقد حذف منها النون للاضافة وللالتقاء الساكنين فيها أيضا لأنه بلفظ الجمع ولهذا لم يكتب هنا بالواو لأنه بلفظ المفرد وقرىء بضم اللام قراءة شاذة على أنه معنى من جمع أي لا يفعل هذا الفعل المنهي عنه إلا من سبقت له الشقاوة من علم الله وقدر له دخول النار. هذا، وقد جاء في هذه الآيات

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 إلى 180]

من الإخبار بسخط الله العظيم على هؤلاء الكفرة المتجارئين على الله والإنكار الفظيع لأقاويلهم الكاذبة والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وسخافة أفهامهم مع الاستهزاء بعقولهم والسخرية بأشخاصهم ما لا يخفى على المتأمل. ثم حكى الله عن ملائكته فقال «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ 164» عند الله وهذا اعتراف منهم بالعبودية له جل شأنه وقد تمثل بهذا القول سيدنا جبريل عليه السلام ليلة الإسراء عند مفارقته لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما صعد للقاء ربه كما مر في الآية الأولى من الإسراء في ج 1 وقال له في مثل هذا المكان يترك الخليل خليله أو الحبيب حبيبه، فأجابه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي في القرب والمعرفة والمشاهدة لا يمكن أن يتعداه خضوعا لعظمة الإله وخشوعا لهيبته وتواضعا لجلاله. هذا، ومن قال إن المراد بالجنّة هنا الملائكة جعل هذه الجملة من قولهم على الاتصال بكلامهم السابق إلى من قوله سبحان الله عما يصفون إلى قوله تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ 165» حول العرش في عبادة ربنا كصفوف الإنس في الصلاة أمامه وقوله «وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ 166» له العابدون ولسنا المعبودين ولا منسوبين لحضرته بالمعنى الذي ذكره قومك يا محمد «وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ 167» «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ 168» وذلك أنهم يقولون قبل نزول القرآن على رسولهم محمد لو أن عندنا كتابا من كتب الأقدمين مثل اليهود والنصارى «لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ 169» له العبادة واتبعنا ما فيه وانقدنا لأوامره ونواهيه ولما أتاهم هذا الكتاب الجامع لكل الكتب والذي فيه أحسن الذكر على لسان أكمل البشر «فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 170» غب كفرهم وعاقبة أمرهم، وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) الآية 156 من سورة الأنعام المارة، ويقرب منها بالمعنى (وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) الآية 133 من سورة طه في ج 1، قال تعالى «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171» التي وعدناهم بها عند ما نرسلهم لهداية الأمم وهي قوله جل قوله (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية 21 من سورة المجادلة

في ج 3 وحروفها بحساب الجمل عن السنة الشمسية 1958 «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ 172» على من خالفهم وناوأهم لأنهم جندناَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ 173» على غيرهم من جميع الأخبار، واعلم أن حروف هذه الآية المباركة بحساب الجمل 1360 وحروف الأولى 644 فيكون مجموع حروف هاتين الآيتين 172/ 173 بحسب السنة الشمسية أيضا 2004 وحروف الآية 173 وحدها على حساب السنة القمرية 1360 والآية 103 من سورة يونس المارة 1468 أيضا فنسأل الله تعالى تحقيق وعده بنصرة الإسلام وإكمال عزهم ورفع رايتهم على سائر الأمم من الآن حتى يتم كماله فيها وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وقد سمى الله هاتين الجملتين كلمة لا نتظامهما في معنى واحد فكانتا في حكم الكلمة على حد قوله تعالى (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) الآية 100 من سورة المؤمنين الآتية وهي إشارة إلى قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) وهي كلمات لا كلمة وعليه تعبيره صلّى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله محمد رسول الله بكلمة أيضا. هذا، ولا يقال إن من الأنبياء من لم ينصر وقد يغلب ويقتل أيضا لأن النصر إذا لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة محقق لكافة الرسل والعبرة في الدنيا للغالب في النصرة الفعلية أما في المحاججة فلا شك أن النصرة لجميع الأنبياء كما هو معلوم من قصصهم التي قصها الله علينا، قال تعالى يا أكرم الرسل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ 174» إلى مدة يسيرة فقد قرب نزول العذاب بهم إذ طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وهذا من قبيل التهديد والوعيد فمن قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فقد هفا لأنها من الأخبار وكل ما كان فيه تهديد ووعيد لا يتطرقه النسخ «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا حل بهم ما يوعدون به من العذاب «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 175» وقوعه فيهم وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد تدبر. ولما هددهم حضرة الرسول بذلك قالوا: ومتى يكون ما توعدنا به يا محمد؟ فقال تعالى مجاوبا لهم عن نبيه «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ 176» كفرة قومك وهذا استفهام على طريق التوبيخ بسبب استعجالهم ما فيه بؤسهم وشقاؤهم «فَإِذا نَزَلَ» العذاب «بِساحَتِهِمْ» فناء دورهم والساحة المكان المتسع أيضا العرصة الكبيرة أمام الدور «فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ 177» بئس الصباح صباحهم وساء

[سورة الصافات (37) : الآيات 181 إلى 182]

المساء مساؤهم، روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم غزا خيبر فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاثا، وقد فتح الله عليه ففتحها، قال تعالى «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ» يا حبيبي «حَتَّى حِينٍ 178» انقضاء الأجل المقدر لنصرتك عليهم «وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ 179» كررت هذه الجملة تسلية لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم على تسليته الأولى وتأكيدا لوقوع الوعد إلى تأكيده الأول وقيل لا تكرار لأن الآية الأولى في عذاب الدنيا وهذه في الآخرة والأول أولى، ثم نزه ذاته الكريمة ثانيا وهي أهل للتنزيه في كل لحظة فقال «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ» الغلبة والعظمة والقدرة والجبروت «عَمَّا يَصِفُونَ 180» هؤلاء الكفرة ربهم وخالقهم ومالك أمرهم ومربيهم مما لا يليق بجنابه العظيم هذا «وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ 181» جميعهم من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 182» على إهلاك الأعداء ونصرة الأولياء، وفي هذه الآية تعليم لعباده بأن يختموا كلامهم بحمد ربهم في الدنيا لأنه خاتمة كلام أهل الجنة وقد ختمت سورة الزمر الآتية بمثل هذه الآية، وجاء في سورة يونس المارة الآية 10 (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) . هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة لقمان عدد 7- 57- 31 نزلت بمكة بعد الصافات عدا الآيات 27، 28، 29 فإنهن نزلن بالمدينة وهي أربع وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومئة وعشرة أحرف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» 1 تقدم ما فيه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إن لله في كل كتاب سرا وسر القرآن في أوائل السور، ونقل عن علي كرم الله وجهه أنه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق كأنه بعدها من أسماء الله والله أعلم بما فيه. وفيه من مفاتح أسماء الله الحسنى الله

مطلب تحريم الغناء وبيع الغانيات ورواسي الأرض:

العادل المنتقم راجع أول سورة يونس المارة وما ترشدك إليه «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» 2 المثبت فيه كل ما كان وسيكون بأنه كائن بمقتضى الحكمة البالغة التي لا تنخرم وقد أنزلنا عليك يا سيد الرسل هذه الآيات لتكون «هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» 3 الذين يعملون الحسنات لأنفسهم ولغيرهم الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» 4 بأنها حق واقع لا محالة بلا شك ولا ريب «أُولئِكَ» المتصفون في هذه الصفات كائنون «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» بطرق الصواب السداد «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 5 الفائزون بكل مطلوب الناجحون بمقاصدهم الناجون من كل سوء الظافرون بآمالهم وما يبتغونه من الدنيا والآخرة، قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» بأن يستبدل الزّمر والغناء والمعازف وشبهها بكلام الله تعالى ويختارها عليه وذلك أن البيع معاوضة شيء بشيء فهو استبدال معنى عبّر عنه بالشراء «لِيُضِلَّ» الناس بغير علم ولا هدى «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» العدل السوي أي انه ما شرى ذلك إلا ليصد الناس عن دين الله الذي هو الطريق المستقيم والأمر القويم «وَيَتَّخِذَها» تلك الطريقة الحقة «هُزُواً» يسخر بها ويحمل الناس على الاستهزاء بها «أُولئِكَ» الذين هذه حالتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» 6 عند الله يذلهم به ويخزيهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ» الذي هذا شأنه «آياتُنا» المنزلة على رسولنا ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزجر الذين يضلون أنفسهم وغيرهم بها «وَلَّى» أدبر بظهره معرضا عنها و «مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لأنه لم يلتفت إليها بقلبه ولا بقالبه «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» ثقلا يمنعه عن السمع ولا وقر بها «فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل على طريق التهكم إذ وضع بشره بدل أنذره وخوفه «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 7 في الدنيا والآخرة. مطلب تحريم الغناء وبيع الغانيات ورواسي الأرض: نزلت هذه الآية بالنضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر في الحيرة فيأتي بأخبار العجم، قيل إنه جاء بأخبار كليلة ودمنة معربة (وهي معروفة) إلى الحجاز وصار

يحدث بها قريشا ويقول لهم إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة، ويشتري لهم القينات والمغنيين ويجمعهم إليه صباح مساء ليسمعهم تلك الأساطير والغناء من القيّنات والزمر والمعازف من المغنين لئلا يجتمعوا إلى محمد ويسمعوا كلام الله، ومن هذا يعلم كثافة جهله لأن محمدا صلّى الله عليه وسلم يأتيهم بشيء قديم لا يعلمه العرب ولا العجم ولا آباؤهم من المغيبات والأحكام والقصص والأخبار والأمثال والحدود مما لم يكن في قرنهم الذين هم فيه ولا الذي قبله، أما أخبار الأكاسرة وما في كليلة ودمنة فهي أمور واقعة في قرنهم وزمنهم وأخبارها متناقلة فيما بينهم غير خافية على آبائهم الموجودين معهم ومثل هذا لا يعد غيبا ولا معجزا ولا يصح أن يتحدى به لأن كثيرا منهم من يحسن نظم مثله بخلاف آيات الله التي هي من الغيب ولا يقدر أحد أن يأتي بمثلها لأنها مما يعجز عنه البشر، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل تعليم المغنيات (الغناء) ولا بيعهن (ليغنين) وأثمانهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله تعالى له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت- أخرجه الترمذي- ولفظه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا خير في تجارتهن وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية إلخ. وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استمع إلى قينة صبّ في آذانه الآنك (الرصاص المذاب) يوم القيامة. ولا شك أن الغناء مفسدة للقلب منفذة للمال مسخطة للرب وكلما أشغل عن ذكر الله تعالى فهو لهو ولغو والله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) الآية 3 من سورة المؤمنين الآتية، وقال تعالى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية 32 من الفرقان المارة في ج 1، وفي مدح الله تعالى الذين يعرضون عن اللغو ذم للذين يتوغلون به، هذا وأن الأحاديث كالأساطير والأضاحيك من كل ما لا يعتد به ولا خير فيه من الكلام ويستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئا فشيئا محشوّ بالكذب فسماعها من اللغو

المنهي عنه شرعا والنضر المذكور قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد واقعة بدر، وقد عرف من مغزى هذه الآية ومعنى الأحاديث المارة ذم الغناء صراحة وقد تضافرت الآثار وكلم العلماء والأخيار على ذمه سواء كان برفع الصوت أو خفضه في كل مكان وزمان، أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه الشيطان فقال تغنّه، وإن كان لا يحسن قال تمنّه، وذلك ليشغله عن ذكر الله تعالى. وأخرجا أيضا عن الشعبي قال عن القاسم بن محمد إنه إذا سئل عن الغناء قال للسائل أنهاك عنه وأكرهه لك، فقال السائل أحرام هو؟ قال انظر يا ابن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء، يريد أنه يجعله في الباطل إذ ليس بحق ليكون مع الحق، وما بعد الحق إلا الضلال، ويكفي في ذمه أنه من الشيطان كما مر في الحديث السابق من أن الشيطان يوسوس له فيه، حتى انه إذا عرف أنه لا يحسنه وسوس له بالتمني لما يخطره بباله، فالغناء من أهواء النفس، والتمني رأسمال المفلس. وأخرجا عنه أيضا قال: لعن الله تعالى المغني والمغني له. وجاء في السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغناء ينبت النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وقال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وانه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزناء وإنما سمي ناقصا مع أنه أعدل ملوك بني أمية عدا عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأنه يعد من جملة الخلفاء الراشدين لنقصه أعطية الجند ويسمى عمر الأشج لشجة فيه، ولذا يقال أعدل ملوك الأمويين الأشج والناقص. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرم القيناء وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأت الآية المارة. الحكم الشرعي: قال القاضي أبو الطيب والقاضي عياض والقرطبي والماوردي نقلا عن الإمام أبي حنيفة إنه حرام، وقال في التتارخانية إن التغنّي حرام في جميع الأديان، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب، وعده صاحبا الهداية والذخيرة

من الكبائر، ويستثنى منه التغني بالأعياد والأعراس ومن يغني لنفسه لدفع الوحشة وما كان فيه وعظ وحكمة، ويدخل فيه ما يفعله بعض أهل الطرائق بحضور الولدان المرد والنساء وهو أشد حرمة، لأن الذي يراه من مثلهم يظن جوازه من قبل المشايخ الذين أسسوا هذه الطرق وحاشاهم من ذلك وإنما يجوزون ما كان لله وفي الله وإلى الله من القصائد والأشعار المملوءة نصحا وزجرا عن المناهي والملاهي وترغيبا للتوغل بذكر الله ومحبة أحبابه وفعل الخير من مجالسهم المباركة، أما غير هذا فهو دخيل عليهم من ذوي الأهواء الفاسدة ولهذا قال مالك رضي الله عنه إنما يفعله (أي الغناء المؤدي للهو واللغو وغيره) عندنا الفساق، ومن أخذ جارية وظهرت مغنية فله ردّها بالعيب وأجمعت الحنابلة على تحريم الغناء. والقول الوسط: إذا لم يكن في الغناء مفسدة كشرب الخمر والنظر إلى الأجنبية والمرد وقول الزور ومما يرغب إلى الشهوات الدنيئة فهو مباح، وعلى كل حال تركه أولى لأنه يشغل عن ذكر الله في الدنيا ويكون في الآخرة مع الباطل في وزن الأعمال. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم في الدنيا «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» 8 في الآخرة جزاء أعمالهم الحسنة «خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» وهو لا يخلف وعده «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» 9 الذين يهين أعداءه بغلبته القاهرة ويعزّ أولياءه بحكمته البالغة وهو «الذي خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ» في هذه الجملة قولان صحيحان فمن قال إنه لا عمد لها البتة وقف على قوله (عَمَدٍ) ، ومن قال إن لها عمدا غير مرئية وقف على قوله «تَرَوْنَها» أي إن لها عمد عظيمة ولكنكم لا ترونها أو هي بلا عمد كما ترونها وكل بليغ في القدرة والآية محتملة للوجهين والله قادر على الأمرين لا يعجزه شيء، وجيء بهذه الآية كالاستشهاد على عظيم قدرته وكمال عزته وبليغ حكمته التي هي ملاك العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال مادة الشرك وتبكيت أهله «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» جبالا شامخات ثوابت «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لئلا تتحرك وتضطرب بكم أيها الناس فجعلها ساكنة فيما ترون من نعم الله عليكم ومن تمام النفع بها لأنها لو خلت من هذه الثوابت لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة

[سورة لقمان (31) : الآيات 11 إلى 20]

لأكثرها وبالرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها وهذا مبني على كونها كروية كما ذهب إليه الغزالي وأكثر الفلاسفة، وإلا فلو كانت بسيطة لما أثرت فيها الرياح والمياه على فرض عدم وجود الرواسي. هذا ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة الله بإلقاء الرواسي فيها لسلامتها من الميد بل إن لذلك حكما أخرى لا نعرفها وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس وغيره وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 19 من سورة الحجر المارة. واعلم أن هذه الآية الكريمة تشير إلى ما عبر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة أيضا لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض فانظر رعاك الله هل كان في زمن نزول القرآن على حضرة الرسول الأعظم من يعرف أو يعلم أن الأرض كانت مائرة ثم برد ظهرها فتكونت قشرتها، كلا ثم كلا، ولكنه من غيب الله تعالى أجراه بواسطة أمينه جبريل عليه السلام على لسان محمد رسوله صلّى الله عليه وسلم راجع الآية 27 من سورة الحجر المارة أيضا. واعلم أن الأفرنج لم يتوسعوا في معلوماتهم هذه إلا بعد نزول القرآن لأنهم يعرفونه من عند الله وأن ما فيه حق وصدق لذلك تدبروا فيما لا تسعه عقول الآخرين وتفكروا فيما تبحّ فيه أقوالهم وتعجز عنه أفعالهم وأعمالهم هذه التي صار الآن يضرب بها وبمعلوماتهم وموضوعاتهم الأمثال فيما هو من أمور الدنيا ولوازمها ونحن تقهقرنا عن ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ» من جميع انواع الدواب والدابة تطلق على ما دبّ على وجه الأرض وفي بطون المياه من إنسان وحيوان وطير وحوت ووحش وحشرات وغيرها «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» على تلك الأرض «فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ» وصنف «كَرِيمٍ 10» حسن كثير النفع «هذا» الذي تشاهدونه أيها الناس وما قص عليكم من المخلوقات كلها «خَلْقُ اللَّهِ» الذي يدعوكم لعبادته رسولكم محمد بن عبد الله أسوة بمن تقدمه من الرسل الكرام «فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» من شركائكم الذين هم في غاية السفالة وأنتم تعبدونها وتتخذونها آلهة فإنها لم تخلق أو ترزق شيئا «بَلِ الظَّالِمُونَ»

مطلب من هو لقمان وحكمه ووصاياه وبر الوالدين:

عاجزون عن جواب الحق لا يعترفون لنا بذلك لأنهم عن معرفتنا «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 11» ظاهر يمنعهم من الاعتراف بنا لا يستطيعون إخفاءه. مطلب من هو لقمان وحكمه ووصاياه وبر الوالدين: ثم شرع يقص على رسوله من علم غيبه ليقصه على قومه فقال تعالى قوله «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» هو ابن باعوراء بن ناحود بن تارخ آزر والد إبراهيم عليه السلام، وقيل إن لقمان هذا الذي يقص الله تعالى علينا أخباره عبد حبشي، وقيل إنه أسود زنجي، وقيل السود أربعة: لقمان وبلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب والنجاشي ملك الحبشة الكائن زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسيأتي ذكره في الآية 69 من المائدة في ج 3 واتفق الحكماء على أن لقمان كان حكيما لا نبيا قال في بدء الأمالي: وذو القرنين لم يعرف نبيا ... كذا لقمان فاحذر عن جدال وقالوا إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود عليه السلام وتلمذ لألف نبي وتلمذ له ألف نبي وكان مفتيا وقاضيا في بني إسرائيل قبل ظهور داود وهذا من خصائصه ومقتضيات شرع من قبله أما في زماننا هذا وشريعة من قبلنا من هذه الأمة الإسلامية عدم جواز الجمع بين الإفتاء والقضاء في رجل واحد لأن الإفتاء غير القضاء قالوا ونودي في المنام هل نجعلك خليفة بين الناس فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم اختر البلاء وإن عزم فسمعا وطاعة فإن فعل بي ربي أعانني وعصمني، فقالت له الملائكة وهو لا يراهم ولم يا لقمان؟ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن عدل فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، وذل الدنيا المؤدي إلى الجنة خير من شرفها الموصل إلى النار ومن اختارها على الآخرة فتنته ولم يصب نعيم الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه وبلاغته وكثير معناه فنام وانتبه وإذا هو يتكلم بالحكمة وهي الإصابة بالرأي والحنكة في الأمر وشيء يجعله الله تعالى في القلب فينوّره فيدرك فيه كما يدرك الناس بأبصارهم بل إدراك البصيرة آكد وأحق وأصدق لأن ما يدرك بالبصر يحتمل الخطأ وما يدرك بالبصيرة لا يحتمله، وقالوا إنه تكلم باثنى عشر بابا من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم،

وقالوا إن سيده قال له اعطني أطيب مضغتين من الشاة فأعطاه القلب واللسان، ثم قال له أعطني أخبثهما فأعطاهما إياه أيضا، فسأله عن ذلك، فقال لا شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا. ومن حكمه ليس مال كصحة، ولا نعيم كطيب النفس، وشر الناس الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقوله لابنه إن الدنيا بحر عميق غرق فيه كثيرون فاجعل سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو ولا أراك ناجيا. أي لأن النجاة بيد الله يهبها لمن يشاء من عباده ممن يوفقه للعمل الصالح. ولهذا قرن العمل الصالح مع الإيمان في أكثر آي القرآن حتى كأن الإيمان بلا عمل لا ينفع كالعمل بلا إيمان. وقدمنا أن الإيمان وحده كاف للنجاة إذا شاء الله له الخلق والأمر. ومن حكمه قوله: من كان له من نفسه واعظ كان الله له حافظا، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله عزا، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز في المعصية، وضرب الوالد لولده كالسماد للزرع. وقال يوما لابنه لا تطلب الإمارة حتى تطلبك فإن طلبتك أعنت عليها وإذا طلبتها وكلت إليها، يا بني زاحم العلماء بركبتيك وانصت لهم بأذنيك، فإن القلب يحيا بنور العلم كما تحيا الأرض بماء السماء، يا بني لا تضحك من غير سبب ولا تمش من غير أرب، ولا تسأل عما لا يعنيك، يا بني لا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت. وله حكم أخرى كثيرة أفاضها الله عليه من نور معرفته ولهذا أعطاه الحكمة ومن يعطها فقد أعطي خيرا كثيرا. وكررت كلمة الحكمة بالقرآن سبع عشرة مرة في معان بالغة تكرمة لمن أوتيها فيا فوز من كانت الحكمة رائده في كل أحواله، ويا سعادة من عامل الناس بها بأقواله وأفعاله. قال تعالى لعبده لقمان «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» صنيعه بك ولطفه عليك، وإن هنا مفسرة بمعنى أي لأن في إتيان الحكمة معنى القبول ولهذا فسرت بالشكر فإذا علم الإنسان أمرين أحدهما أهم من الآخر فإذا اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة، وقد أمره ربه بشكر نعمه وبين فائدتها بقوله «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» إذ يعود نفعه إليها بازدياد النعم ورضاء المنعم «وَمَنْ كَفَرَ»

نعم الله عليه فلم يؤد شكرها أو استعملها في معصيته فيرجع وبال كفره عليه «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عنه غير محتاج لشكره «حَمِيدٌ 12» حقيق بأن يحمد نفسه بنفسه وإن لم يحمده أحد قمين بأن يحمده خلقه على السراء والضراء والشدة والرخاء، وجدير بأن يشكر ولو لم ينعم عليه «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ» بتقوى الله والإحسان لخلقه أي اذكر يا محمد لقومك ما قاله لقمان لابنه من النصح «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره بل اعبده خالصا باعتباره الإله الواحد الذي لا رب غيره «إِنَّ الشِّرْكَ» بالله تعالى يا بني واتخاذ آلهة من دونه للعبادة أو إشراك غيره معه في أعمالك الصالحة «لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13» لا أعظم منه أبدا لكونه وضع الشيء في غير محله، وهذا إشارة إلى التكميل لأن أعلى مراتب الإنسان الكمال في نفسه والتكميل لغيره، فقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) إيماء إلى الكمال وإرشاده لابنه بما ذكر رمز إلى التكميل وكان رضي الله عنه أول ما بدأ بالإرشاد ابنه وبالأهم وهو الشرك إذ غلّظه بالوصف تحذيرا من قربانه، وهذا أيضا من الحكمة لأن الأقرب أولى بالمعروف والأعظم وزرا أوجب بأن ينهى عنه أولا. ومن حكمته أنه كان صحب داود عليه السلام وكان يشغله بسرد الدروع فيشتغل ولا يسأل عنه لماذا هو، فلما نظمها داود ونسجها ولبسها قال لقمان نعم لبوس الحرب هذا، وقال الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال داود بحق سميت حكيما يا لقمان. ثم قال له ذات يوم كيف أصبحت يا لقمان؟ قال أصبحت بيد غيري، فصعق داود لقوله هذا، وفي سكوت لقمان وعدم سؤاله داود عن صنع السرد أي الزرد وهو الحلق الذي تنسج منه الدروع إعلام إلى أن اتباع أمر النبي لازم فيما يعقل وما لا يعقل إظهارا للانقياد والخضوع له والتعبد لله الذي أرسله. قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ» أن يبرهما ويحسن إليهما مؤمنين كانا أو كافرين «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً» بتعب ومشقة وضعف أوهن جسمها ثقله «عَلى وَهْنٍ» لأنه يتتابع عليها ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف الولادة وضعف الرضاع فيحل بها شدة بعد شدة ومشقة بعد مشقة من تعاهده ومراقبته ليل نهار وتنظيفه صباح مساء وانشغال قلبها عنده في كل لحظة «وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع

الذي يكون «فِي عامَيْنِ» تعانيه به وهن أيضا، والعامان لمدة الرضاع هي غايتها، قال تعالى (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) الآية 233 من سورة البقرة، وسنبين تفصيله هناك إن شاء الله القائل للإنسان «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» فكما أني خلقتك فهما سبب في نشأتك ولهما حق التربية عليك كما لي حق الخلق ولهذا فإن من لم يشكرهما لم يشكر الله، وبما أن حقهما ينقطع في الدنيا وحقه باق قال «إِلَيَّ الْمَصِيرُ 14» في الآخرة لا لغيري فإذا أحسنت لي بالعبادة ولهما بالإحسان وشكرت نعمتنا أثبناك وإلا عاقبناك، واعلم أيها الإنسان أنك مكلف بالإحسان لوالديك «وَإِنْ جاهَداكَ» حملاك وأقسراك «عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي» شيئا «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أصناف الأوثان وكلفاك أن تعبدها معي أو من دوني «فَلا تُطِعْهُما» في هذا إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومع هذا فعليك أن تديم الإحسان إليهما إذ يفهم من ظاهر الآية وجوب طاعتهما في كل شيء عدا الإشراك بالله مكافأة لعظيم حقهما، ومما يؤيد هذا قوله جل قوله «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» ولا يمكن مصاحبتهما في الدنيا بالمعروف والحسنى إلا بطاعتهما فيما يأتيان ويذران ومعاملتهما بجميل الخلق والحلم احتمال الأذى والصفح عن غلطتهما وادامة البر والصلة لهما ولمن يوادهما ولو كانا كافرين، ومن البر إرشادهما بالمعروف إلى دين الحق والدعاء لهما بالتوفيق إذا لم يفعلا، وعلى كل تجب طاعتهما إلا في الإشراك فالأمر بطاعتهما عام خص منه الشرك فقط وما هو معصية كما مر، وقدمنا ما يتعلق بهذا بصورة مفصلة في الآية 24 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه ففيه كفاية، وقد ذكر الله تعالى مشقة أمه دون أبيه لأن مشقة الأب عبارة عن الكسب والنصب في سبيله والتألم والسهر لما يؤذيه مما قد تشاركه فيه الأم وتنفرد هي بذلك الوهن العظيم وإنّ ما ينفرد به الأب لا يعد شيئا بالنسبة لما تنفرد فيه الأم مدة حمله ورضاعه فضلا عن ولادته التي لا يضاهيها وهن. ثم أمر الله هذا الإنسان الذي خلقه وصوره وأحسن خلقه وهداه النجدين بقوله «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» الأنبياء فمن دونهم الأمثل فالأمثل وتخلق بأخلاقهم في الدنيا في ذلك كله وغيره، فيها إشارة إلى اتباع الشيخ

مطلب قوة إيمان سعد بن أبي وقاص وآداب المشي والمكالمة ومعاملة الناس:

الكامل من السادة الصوفية، تأمل وراجع الآية 38 من سورة المائدة في ج 3 والآية 120 من التوبة في ج 3 والآية 51 من الإسراء في ج 1، «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» جميعا في الآخرة أنت وأبواك وولدك والخلق كلهم «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 15» في الدنيا إذ لا يخفى عليّ شيء من عملكم السري والجهري الخالص والمشوب، وسأجازي كلا بحسبه. وقد جاءت هاتان الآيتان معترضتين بين وصية لقمان لابنه على سبيل الاستطراد لما فيهما من المناسبة لما قبلهما ولما فيهما من النهي عن الشرك الذي هو أعظم المنهيات. قال بعض المفسرين إن المراد بهاتين الآيتين أبو بكر رضي الله عنه لأنه حينما أسلم جاء إليه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، فأنبوه على إسلامه وصار يأمرهم بالإيمان ويحذرهم من البقاء على الشرك ولم يزل بهم حتى أسلموا بإرشاده، نقلا عن ابن عباس رضوان الله عليهم أجمعين. مطلب قوة إيمان سعد بن أبي وقاص وآداب المشي والمكالمة ومعاملة الناس: وقال بعضهم إنها نزلت في سعد ابن أبي وقاص لأنه لما أسلم قالت له أمه: لتدعن هذا الدين أو أترك الأكل والشرب والاستظلال حتى أموت فتعير فيّ وبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل وهو يراجعها ويتلطف بها ويقطع أملها من الرجوع عن الدين الحق، ولم تفعل وأصرت على ما عزمت عليه، فقال لها: والله لو كان لك مائة نفس وخرجت واحدة تلو الأخرى ما تركت ديني، فلما رأت ذلك منه عادت فأكلت وشربت واستظلت بعد أن أيست من رجوعه عن دينه رحمه الله ورضي عنه وحشرني معه لم تأخذه رحمه الله الأنفة الجاهلية التي كانت قريب عهد به لصلابته في دينه الذي اعتنقه حديثا كأنه كان قديما متلبسا به وشدة عزمه وحزمه ورغبته في الدين الحق ومن يهده الله فلا مضل له أبدا، على أن هذه الآية عامة تحتمل هذين السببين وغيرهما. قال تعالى حكاية عن عبده لقمان «يا بُنَيَّ إِنَّها» أي الخطيئة التي تعملها «إِنْ تَكُ» في الصغر والقلة «مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» أو أقل وإنما ذكر الله هذه الحبّة لأنها أكثر ما تكون في أقوال العرب يضربون بها الأمثال عند المبالغة في قلة الشيء، وهذه الآية جواب عن قول ابن لقمان لأبيه يا أبت إذا أخطأت ولم يرني أحد هل أحاسب عليها أم لا؟ فأجابه بما ذكر الله

وزاده تأكيدا بقوله «فَتَكُنْ» هذه الحبة «فِي صَخْرَةٍ» أي في بطنها ووسطها «أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ» بأن يستخرجها ويحاسب صاحبها عليها ويعاقبه من أجلها وهو يعلم ذلك ويعلم ما هو أدق منه، هذا إذا عملها، أما إذا كانت نية وحزما وعزما فقط فإنه يحاسبه عليها ولا يعاقبه، وإن كان امتناعه عن فعلها مخافة الله فإنه يثاب عليها كما سيأتي تفصيله في الآية 284 من سورة البقرة في ج 3 «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» أيها الإنسان بعباده يعطف عليهم «خَبِيرٌ 16» بمكان وزمان الخطيئة التي تصدر من عبده وكذلك جميع ما يقع في كونه قليلا كان أو كثيرا ليلا أو نهارا «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ» لربك «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ» غيرك «عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» من الأذى وتحمل سوء أخلاق غيرك ولا تقابل أحدا بما يكره «إِنَّ ذلِكَ» الذي أمرتك به كله هو «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 17» المقطوعة المتحتمة على البشر تشير هذه الآية إلى أن هذه الأمور الأربعة مأمور بها كل الأمم وهو كذلك إذ لا تخلو أمة من التعبد بها قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية 6 من سورة الزمر، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 14 من سورة الشورى الآتيتين، لأن المرسل الشارع واحد والمرسلين على طريقة واحدة والمرسل إليهم مختلفون فهم الذين يغيرون ويبدلون في الشرائع، قال تعالى «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ» وجهك من اطلاق الجزء وإرادة الكل «لِلنَّاسِ» فتعرض به أنفة منهم وتكبرا عليهم بل قابلهم به كله بطلاقة وبشاشة ولين جانب وعطف ولطف وموعظة حسنة «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» خيلاء تعاظما على الناس وبطرا أو تعجبا وفرحا وأنانيّة بنفسك الخبيثة «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» 18 على الناس بما يراه لنفسه من المناقب عليهم هذا وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بقوله تعالى (وَلا تُصَعِّرْ) إلخ أي لا تذلل نفسك من غير حاجة فتلوي عنقك لا يناسب ما بعدها وأن تأويله بميله عن الناس أولى بالمقام لأنه من فعل المتكبرين المنهي عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكنا إذا الجبار صعر خدّه ... أقمنا له من ميله فتقوما

وسياق ما قبله النهي عن أفعال المتجبرين وكذلك سياق ما بعده وهو قوله «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» توسط وليكن بين الهرولة والتبختر وأن يكون تؤدة بالسكينة والوقار لأن الهرولة تذهب بهاء المؤمن والتبختر من الكبر وكلاهما مذموم راجع الآية 37 من الإسراء في ج 1، وقوله تعالى «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» ما استطعت وكلم الناس بقدر ما يسمعون ففيه الوقار لك والكرامة لمن تكلمه وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به قال شاعرهم: جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرداء جهير النعم فجاء الإسلام بذمه لأن خفض الصوت أوقر للمتكلم واحفظ للأدب وأدمث للخلق وأبسط لنفس السامع وأدعى لفهمه ويكفي فيه ذما قوله تعالى «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ» أقبحها وأوحشها وأمجّها للطبع «لَصَوْتُ الْحَمِيرِ 19» وذلك لأنه أشبه بأصوات أهل جهنم من حيث أوله زفير وآخره شهيق ولزيادة علوه يكاد أن يصرع سامعه القريب. فترشد هذه الآية الكريمة إلى أن رفع الصوت غاية في الكراهة ومخالف للآداب وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون جهيره، راجع الآية الأخيرة من سورة الإسراء في ج 1 تعلم أن كل هذا يؤيد ما جرينا عليه من أن المراد بالتصعير الإعراض عن الناس بالوجه تجبرا، قال تعالى «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغيرها والبحار والأنهار والمعادن والدواب وغيرها فكل ما فيها مسخر لمنافعكم أيها الناس «وَأَسْبَغَ» أتم وأكمل وأفاض «عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» لتدركوها بحواسكم الظاهرة والباطنة المتقدمة في الآية 5 من سورة يوسف المارة، ومن النعم الظاهرة حسن الصورة واعتدال القامة وكمال الأعضاء والنطق بجميع الحروف والرزق والمال والجاه والأولاد والخدم والأمن والأدب والعافية التي هي أساس لكل نعم وكل نعمة دونها ليست بنعمة، ومن النعم الباطنة العقل والفهم والفكر والمعرفة والخلق الحسن والتروي في الأمر وعدا ذلك نعم كثيرة ظاهرة وباطنة أنعم الله بها على عباده لا يحصيها العبد ولا العد

[سورة لقمان (31) : الآيات 21 إلى 30]

قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) الآية 18 من سورة النحل ومثلها الآية 24 من سورة إبراهيم الآتيتين فراجعهما، ثم طفق جل شأنه يذكر بعض أحوال المتنطعين فقال «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وأبي بن خلف وأضرابهم الذين كانوا يجادلون حضرة الرسول في صفات الله تعالى وهم جهال في الله لا علم لهم يستدلون به على جلال صفاته «وَلا هُدىً» يهتدون به إلى الصواب ليعرفوا عظيم قدرته وجليل هباته «وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ 20» يسترشدون به إلى أوامره ونواهيه ليعرفوا الحق من الباطل ومن كان كذلك ليس له أن يجادل في شيء من آيات الله فضلا عن ذاته المقدسة، أما أهل العلم والهدى والكتاب فإنهم لا يجادلون في ذلك لكمال يقينهم وصدق إيمانهم وقوة دينهم وشدة عقيدتهم فيه، وهؤلاء الفسقة «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» واتركوا هذا الجدال المجرد عن أدلة عقلية صحيحة أو نقلية صريحة لأنها غير مستندة إلى كتاب أو اقتداء برسول «قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ» في هذا الجدال والمراء «ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من التقاليد المتناقلة، قال تعالى «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ» أي آباءهم الذين كانوا يقتفون آثارهم «إِلى عَذابِ السَّعِيرِ 21» أي أيتبعونهم ولو كانوا كذلك؟! وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الآية 170 من البقرة في ج 3 بعد قوله حكاية عنهم (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) والواو هنا حالية والاستفهام للتعجب «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ» نفسه من اطلاق الجزء وإرادة الكل وإنما صح لأن الإقبال بالوجه إقبال بالكل «إِلَى اللَّهِ» بأن يفوض أمره إليه ويخلص بقلبه وقالبه لجلاله «وَهُوَ مُحْسِنٌ» في أعماله وأقواله «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ» توثق على أتم حال «بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» القوية من الشدة في الحبل المتين المأمون الانقطاع أي اعتصم بعهد الله الذي لا ينقض ووعد الله الذي لا يخلف بخلاف عهد ووعد الكفرة الذين لا يهمهم النكث فيه والخلف له لعدم تقيدهم بدين صحيح يرجعون إليه، مثل الله تعالى حال المتوكل عليه المخلص له بحال المتدلي من علو أو المترقي إلى فوق المحتاط لنفسه من الوقوع بأن يتمسك بأمتن

مطلب الآيات المدنيات وسبب نزولها والحكمة من تأخيرها:

عروة من عرى الحبل «وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» 22 لا لأحد سواه وله فيها الأمر يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد «وَمَنْ كَفَرَ» بعد إبداء هذه الدلائل الناصعة والإرشاد الصريح «فَلا يَحْزُنْكَ» يا سيد الرسل «كُفْرُهُ» لأن وباله عائد عليه وهو وأضرابه «إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» في الآخرة، جمع الضمير باعتبار معنى من حيث تصلح للجمع والافراد «فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في الدنيا ويحاسبهم عليه ويجازيهم بمقتضاه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 23» دخائلها فما بالك بغيرها إذ هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، تأمل فيما حكاه الله عن لقمان في مخاطبته لابنه تعلم بعض معلومات الله في خفايا الأمور، قال تعالى وهؤلاء «نُمَتِّعُهُمْ» في هذه الدنيا «قَلِيلًا» مدة آجالهم المقدرة لهم فيها في علمنا وهي مهما كانت، قليلة «ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ» نلجئهم في الآخرة فنردهم ونسوقهم سوقا عنيفا «إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ 24» قاس شديد فظيع لا يقادر قدره ولا تطيقه الأجسام، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» فقلت يا سيد الرسل لعبدة الأوثان «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» فإنهم حتما «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وحده خلقها وبرأ ما فيها فيا أكرم الرسل «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» على إلزامهم الحجة بالإقرار على دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها الجاحد المكابر «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 25» أنهم ملزمون بهذا الإقرار حتى إذا نبهتهم لم ينتبهوا له. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 فما بعدها من سورة العنكبوت الآتية إن شاء الله «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبمن فيهما كيف شاء «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عن جميع عباده وكل مكوناته «الْحَمِيدُ 26» في ذاته وصفاته وأفعاله. مطلب الآيات المدنيات وسبب نزولها والحكمة من تأخيرها: وهذه الآيات المدنيات الثلاث وسبب نزولها أن اليهود قالوا يا محمد بلغنا أنك تقول: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الآية 85 من الإسراء في ج 1 أتعنينا بهذا أم قومك فقط؟ قال كلا عنيت، قالوا ألست تقول وتتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء يريدون الآية 145 من الأعراف في ج 1 والآيات 43 فما بعدها من المائدة في ج 3 قال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل وقد آتاكم الله بما إن

عملتم به انتفعتم (يعني القرآن) قالوا تزعم هذا وأنت تقول (مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) الآية 269 من البقرة في ج 3، لأن هذه الحادثة وقعت بالمدينة بعد نزول سورة البقرة وهي أول ما نزل فيها فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير فأنزل الله تعالى «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» مدادا حبرا يكتب فيها كلها «ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» إذ لا نهاية لها «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء منيع لا يغلبه غالب «حَكِيمٌ 27» لا يخرج أمر عن حكمته وهذه ماهية علم الله وقد آمنت بها لأنه كما أنه لا يعرف كنه ذاته أحد فلا يعرف ملاك علمه أحد ولا يحيط علم الخلق كلهم بمعلوماته وهذه الآية أبلغ من آية الكهف 108 الآتية المتقدمة عليها في النزول لأنها مكية وهذه مدنية فراجعها فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قال تعالى «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ» أيها الناس بالنسبة لقدرة الخلاق «إِلَّا كَنَفْسٍ» أي خلق وبعث نفس «واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لأقوالكم «بَصِيرٌ 28» بأعمالكم فاحتفظوا أن يراكم حيث نهاكم «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» يدخله ويدبحه فيه «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» أيضا بصورة مستمرة «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ» منهما «يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده دائبا إلى يوم القيامة راجع الآية 13 من سورة فاطر في ج 1 والآية 5 من سورة الزمر الآتية «وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 29» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم كلها ولقائل أن يقول ما هو السبب في تأخير هذه الآيات عن سورها ولم تنزل معها المكية في مكة والمدنية في المدينة؟ فنقول إن تأخيرها لأمر اقتضته الحكمة الإلهية، لأن الله رتب الأسباب على مسبباتها، وقد سبق في علمه الأزلي أن يكون السؤال عنها والواقعة المنبئة عنها في المكان والزمان الذي قدره لها أزلا فأخر تنزيلها لوقتها، لأن لكل شيء أجلا ولكل أجل كتاب وقد ذكرنا غير مرة أن أفعال الله لا تعلل وأن ما جاء عنه وعن رسله مما لم نعقله لقصر فينا يجب أن نعتقده ونعمل فيه ولا نسأل عن السبب إذ علينا الامتثال والإيمان والتسليم وإلا إذا ترددنا وشككنا أو توقفنا فلسنا بمؤمنين ولا مسلمين، تدبر هذا

[سورة لقمان (31) : الآيات 31 إلى 34]

وسلم تسلم. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك ويكفيك أنه لا يسأل عما يفعل، راجع بحث نزول القرآن في المقدمة تعلم أن «ذلِكَ» الإله القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما المدبر أمرهما والمسخر ما فيهما من أجرام مولج الليل في النهار وبالعكس ومجري الكواكب في أفلاكها بانتظام والجاعل ما فيها منه ما هو مستقر وما هو سائر في محوره وما هو جار في غيره وما هو طالع وما هو آفل الذي جعل في هذا العكس والطرد والاختلاف والاتفاق والسير والقرار الجاعل فيها منافع مخصوصة منها ما اطلع عليه البشر ومنها ما لم يطلع عليه تعلم أيها القارئ المتدبر «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» وأن ما يوقعه في ملكه هو الحق وأنه الإله الذي لا إله غيره المستحق للعبادة المستجيب للدعاء «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ» في صفاته «الْكَبِيرُ 30» السلطان في ذاته العظيم الشأن المتعال في أسمائه الحسنى ونظير هذه الآية الآيتين 7/ 63 من سورة الحج في ج 3 «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ» عليكم أيها الناس «لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ» العجيبة الدالة على كمال قدرته «إِنَّ فِي ذلِكَ» السير على الهواء المجرد مع عظمها وثقل حمولتها «لَآياتٍ» بديعات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على أوامره وتحمل ابتلائه «شَكُورٍ 31» لنعمائه في سرانه وضرائه، وهذان الوصفان من أكمل سمات المؤمن لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وإنما ذكر الله تعالى هذين الوصفين بعد ذكر الفلك لأن الراكب فيها لا يخلو عنهما كما لا يخلو من الاستدلال على قدرة الله وعظيم نعمته على خلقه. قال تعالى «وَإِذا غَشِيَهُمْ» الكفرة المذكورين أثناء ركوبهم البحر «مَوْجٌ كَالظُّلَلِ» بارتفاعه إذ يصير فوقهم كالظلة يظل من تحته كالسحاب والجبل الشاهق ورأوا الموت بأعينهم بأن تحقق عندهم الغرق «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وينسون أوثانهم التي يشركونها في عبادته حالة الرخاء والأمن وذلك لعلمهم أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا هو «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا الغرق الذي كان محيقا بهم «فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» متوسط في حاله لانزجاره في الجملة عدل فيما عاهد الله عليه، ومنهم من لم يوف بعهده ولم يعتبر بما أراه الله من الخوف والأمن وهو المعنى بقوله تعالى

«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ» غدار نكاث للعهد نقّاض للوعد «كَفُورٍ 32» جحود لتلك النعمة كما هو جحود لغيرها من قبل ولم يذكر في هذه الآية السابق بالخيرات لأن الأصناف ثلاثه، راجع الآية 32 من سورة فاطر في ج 1. وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنهما، وما قيل إنها نزلت في عكرمة ابن أبي جهل حين هرب عام الفتح إلى البحر وقد أمّن رسول الله الناس إلا أربعة، إذ قال صلّى الله عليه وسلم اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة. وهم عكرمة هذا وعبد الله ابن حنظل ومقيس بن حبابة وعبد الله بن أبي صرح، وأنه لما ركب البحر جاءهم ريح عاصف فقال أهل السفينة أخلصوا لله ربكم فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر الإخلاص لله الواحد فما ينجيني في البر غيره، اللهم إن عافيتني مما أنا فيه لآتين محمدا وأضع يدي بيده ولأجدنّ عفوا كريما، فسكن الريح فرجع إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه لا يصح، لأن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة وعكرمة أسلم سنة الفتح فبين نزول هذه الآية وحادثة إسلام عكرمة سنتان وإن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنيا وعكرمة بعد إيمانه ذلك لا يسمى (مقتصدا) بل كامل الإيمان لأنه جاء طائعا راضيا مختارا إلى حضرة النبي وآمن به إيمانا خالصا وعمل بإيمانه ومات عليه، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ» فلا يفيده شيئا ولا يغنيه من عذاب الله فتيلا «وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» حذف شيء من الأول لدلالة الثاني عليه على حد قوله: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف وذلك لأن كل إنسان يقول فيه نفسي نفسي فلا شفقة ولا خلة ولا شفاعة إذ ذاك إلا لمن ارتضى فإذا كان هؤلاء ينقطع بينهم المودة ولا أشفق من الوالد على ولده ولا أعظم حجة منه له ولا حق أكبر من حق الوالد على ولده ولا أوجب حرمة عليه منه ولا طاعة له إلا لله ومع هذا لا يلتفت أحدهم للآخر فغيرهم من باب أولى وذلك لشدة الهول واهتمام كل امرئ بنفسه قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية 18 من سورة عبس المارة ج 1، وهذا مما وعد

مطلب الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا الله تعالى:

الله به عباده «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» كائن لا محالة في ذلك اليوم الذي يكون فيه المشاححة بين الناس كما أن وعده في غيره حق أيضا «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ» أيها الناس هذه «الْحَياةُ الدُّنْيا» لأنها فانية فلا تنخدعوا بزخارفها وتمويهها «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ 33» الشيطان الذي أوقعه في البلاء غروره وكل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة فهو غرور لأنها كلها من طرق الشيطان التي يزينها للناس فهو أخبث الغاوين فلا يرجيكم بالتوبة ويمنيكم بالمغفرة، وإنه يدس لكم السم في الدسم لأن الإنسان لا يدري متى يباغته أجله وإذ ذاك يندم ولات حين مندم وتكون ممن سقط في يده راجع الآية 5 من سورة فاطر في ج 1 في هذا البحث، فعلى العاقل أن يسرع في التوبة ويجتهد في العبادة كي يلاقي ربه على حالة مرضية، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه فلربما جاءه الموت وهو يتلبس بحالة سيئة والعياذ بالله فيندم من حيث لا ينفعه الندم والله تعالى وإن أمهل عبده فإنه لا يهمله وقد يستدرجه من حيث لا يعلم. مطلب الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها في أي سنة وشهر ويوم وساعة ولحظة من ليل أو نهار «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» في الوقت والزمان والمكان الذي يريده ويقدره له بقدر معلوم عنده «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» هل ذكر هو أم أنثى تام الخلق أم ناقصه أو زائد فيه، احمر أو أسود أو ما بينهما من الألوان حين قذف النطفة من الرجل في رحم المرأة كما يعلم أجله ورزقه وشقيا أو سعيدا وما يعتريه من تكوينه إلى موته وإلى بعثه وحشره وإلى دخوله الجنة أو النار وما بعد ذلك، فالأشعة الحديثة عجزت عن معرفة الولد بعد كمال خلقه في بطن أمه أهو ذكر أم أنثى والله تعالى أخبر أنه يعلم ذلك كله وهو نطفة في الرحم لم يكوّن بعد كما يعلم ما وراء ذلك من الحالات التي تعتوره إلى ما شاء الله والبوصلة المحدثة لمعرفة نزول المطر المشار إليها في الآية 102 من سورة الصافات المارة لا تدل إلا على ترطيب الجو المستفاد منه مظنة نزول المطر خلال أربع وعشرين ساعة على الأكثر ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يعرف منها وقت نزوله على الضبط البتة،

لأن الله تعالى قد يحدث في الجو ما يسلب منه تلك الرطوبة التي دلت عليها الإبرة من تأثير الرياح أو غيرها فلا ينزل المطر لذلك فلا تتعارض هذه الإبرة وغيب الله تعالى، لإنه مما اختص به فالبشر مهما بلغ من العلوم والمعارف عاجز أن يعلم شيئا من الغيب المبين في هذه الآية. وبمناسبة هذا كان أخبرني ذات يوم السيد جميل بك السلاحوار من أهالي حلب بأن أذهب إلى الدار لأنه ستصير اليوم عواصف قوية، فقلت له من أين عرفت هذا؟ قال من الإبرة الموجودة لدي فقلت له لا يكون شيء إن شاء الله، فقال لا بد من كونه، ثم تفرقنا ولم يقع شيء طيلة اليوم والليلة، فصادفته في اليوم الثاني وقلت له أين ما أخبرتني به من العواصف البارحة، فقال يا أخي إنه أمر محقق ولكن حدث في الجو تبدل حال دون وجودها والله على كل شيء قدير، فقلت له من الآن فصاعد لا تجزم بشيء من هذا فإن الله تعالى يغير الأحوال، فقال آمنت بالله وصدقت. وإن ما يعدّه أهل هذا العصر من العلوم المحدثة بزعمهم قد تكون قديمة لأنهم لم يطلعوا على كل ما اطلع عليه الأوائل من العلوم فمن ينظر إلى فنّ الهندسة وصنع الأبنية القديمة والأصباغ والنقوش والتصوير والتصبير يعلم أن الأواخر لم يبلغوا بعد ما بلغه الأوائل لأنهم حتى الآن عن معرفته عاجزون وهناك تحنيط الأموات لم يقفوا على أجزاء تركيبه ومرض السرطان لم يقفوا على توقيفه مما يدل على أن جل الأشياء قديمة والناس يتأسون بآثارهم ويقتفون مآثرهم فما عثروا عليه برعوا. به وما لم يعثروا عليه فسيعثرون عليه بعد لأن الدنيا لم تكمل بعد راجع الآية 24 من سورة يونس المارة «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» من خير أو شر «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» في سهل أو جبل في قرية أو بادية في بحر أو نهر ولا تدري بأي أرض تدفن ولا كيفية موتها هل بحرق أو تردي أو غرق أو افتراس أو غير ذلك، وهذان الأمران وأمر الساعة لم يتطرق إليها بحث ما بوسائل معرفتها من أهل العلوم العصرية البتة ولما يتطرق والله أعلم. لأن نهاية عقول العالمين فيها عضال وغاية سعي الساعين فيها ضلال ولهذا فإن كل ما بذله ويبذله البشر لمعرفة هذه الأمور الخمسة على الحقيقة غايته العجز لأن ما اختص الله به لنفسه لم يطلع عليه عباده،

تفسير سورة سبأ عدد 8 - 58 - 34

لذلك فإن نتيجة البحث فيها عقيمة، وعاقبتها وبال إذ قد تؤدي إلى اختلال العقل أو الانتحار لأن لكل علم أصولا تحده ولا حد لعلوم الله، وإذا تدبرت في قوله تعالى (عِنْدَهُ) وكلمتي (وَما تَدْرِي) (وَما تَدْرِي) علمت أنهما تشيران إلى أن هذه الثلاثة لا يحوم حول حماها البشر وإن الاثنين الآخرين وهما نزول الغيث وما في الأرحام قد يتطرق إليهما لأن العلم فيهما لا ينافي علم الله ولكن لا يقف على ما فيهما على الحقيقة فلا يبلغون مداهما مهما توغلوا فيهما كما هو في علم الله، وإذا تأملت قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ» الإله العظيم المبدع هو وحده لا غير «عَلِيمٌ» في هذه الأشياء الخمسة وغيرها «خَبِيرٌ 34» بتفصيلاتها وأزمان حدوثها وقد علمت أنها من خصائصه لا دخل لخلقه فيها فسلم تسلم واعتقد ترشد. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء الحارث بن عمرو بن حارثة ابن حفصة من أهل البادية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فما تلد ولقد علمت بأي أرض ولدت فأخبرني بأي أرض أموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية. ويوجد في القرآن سورتان مختومتان بلفظ (خَبِيرٌ) هذه والعاديات فقط، هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة سبأ عدد 8- 58- 34 نزلت بمكة بعد لقمان إلا الآية 6 فإنها نزلت بالمدينة وهي أربع وخمسون آية، وثمنمئة وثلاثون كلمة، وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء ويختار «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» كما لذاته المقدسة في الدنيا إلا أن الحمد في الدنيا يكون سنة دائما ويكون واجبا بمقابلة النعمة وليس هو في الآخرة كذلك

لأنها ليست بدار تكليف وإنما يكون الحمد فيها سرورا بالنعم وتلذذا بما يناله أهلها من الشهوات قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 75 من سورة الزمر الآتية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 34 من سورة فاطر في ج 1، وفيه الآيتان من سورة النمل (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) 15 الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) 60 فهو الحقيق بالحمد الجدير بالشكر الخليق بالمدح دنيا وأخرى «وَهُوَ الْحَكِيمُ» بتدبيرهما وما فيهما كما أحكم أمرهما وأمر من فيهما «الْخَبِيرُ 1» بما كان وسيكون فيهما «يَعْلَمُ ما يَلِجُ» مقدار ما يدخل ويتغلغل ويكون «فِي الْأَرْضِ» من المطر والنبات والمعادن والكنوز والبذور والأموات وغيرها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النبات والعيون وأنواع المعادن والكنوز وغيرها لأن منها ما هو داخل ومنها ما هو خارج «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من أمطار وثلوج وصواعق وبركات وغيرها «وَما يَعْرُجُ فِيها» من أقوال وأعمال وملائكة وطيور ومن اختصه من خواص خلقه كإدريس والياس واليسع وعيسى ومحمد عليهم السلام وأرواح الأنبياء والشهداء والصالحين راجع الآية 57 من سورة مريم وأول سورة الإسراء في ج 1 والآية 132 من الصافات المارة والآية 56 من المائدة الآتية في ج 3 «وَهُوَ الرَّحِيمُ» بإنزال ما يحتاجه خلقه وادخاره لمنافعهم «الْغَفُورُ 2» لما يقع منهم من السوء والمعاصي لسعة حلمه وعظيم عفوه وكبير عطفه «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذا كله «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» فأقسم جل قسمه وأكده باللام والنون ثم خصه بما يدل على زيادة التأكيد بقوله لحبيبه «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الساعة المقدر إتيانها في علمه وقد وصف حضرته المقدسة بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ» الذي من جملته الساعة وذلك لأنهم أنكروا البعث واستبعدوا وعد الله فيه واستبطأوا تنفيذ تهديده ولذلك جاء الجواب بهذا القسم العظيم وأكد علمه للغيب كله بقوله جل قوله «لا يَعْزُبُ» يغيب ولا يبعد «عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ» المثقال «وَلا أَكْبَرُ» منه «إِلَّا» وهو مدون «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» لكل شيء الذرة فما فوقها من نام وجامد وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ عنده

مطلب أصول الدين التي لا يتطرق إليها النسخ والآية المدنية وما وقع من هشام وزين العابدين:

الجامع المانع وهو وما فيه في علم الله تعالى، كلا شيء راجع الآية 61 من سورة يونس المارة ثم بين سبب إتيان الساعة بقوله عز قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في الدنيا جزاء حسنا في الآخرة «أُولئِكَ» المؤمنون ذوو الأعمال الصالحة «لَهُمْ» فيها عند ربهم «مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 4» في جنات النعيم «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا» قصد إبطالها وتكذيبها ويحسبون كونهم «معجزين» لنا، كلا، لا يظن هؤلاء المفسدون أنهم يفوتوننا ولا ينالهم عقابنا لأنهم في قبضتنا ولا ملجأ لهم غيرنا وقرىء مُعاجِزِينَ ويعزب بكسر الزاي والضم أفصح «أُولئِكَ» الساعون بذلك لا ينجون منا وإن مرجعهم إلينا «ولَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد كل عذاب وأسوأه ويطلق على الموت ولذلك وصفه بقوله «أَلِيمٌ 5» لا تقواه قواهم وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة. مطلب أصول الدين التي لا يتطرق إليها النسخ والآية المدنية وما وقع من هشام وزين العابدين: قال تعالى «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من مؤمني أهل الكتاب وأصحاب حضرة الرسول ويدخل في هذه الآية علماء هذه الأمة وخواصها الموجودون حين نزولها ومن بعدهم إلى يوم القيامة أي يعتقدون بأن «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» الذي لا مرية فيه كما يروا كتبهم حقا لأنها منزلة من لدنا «وَ» يرون أيضا أنه «يَهْدِي» يدل ويرشد «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ» الغالب لكل شيء «الْحَمِيدِ 6» لعمل عباده المحمود منهم كما أن كتبهم أيضا تدل على طريق الله وتحت الناس على سلوكه لأن الكل منه ولأن مبلّغيها أنبياؤه ورسله، فجميع الكتب السماوية لا تختلف قيد شعرة في أصول الدين الحق التي هي التوحيد والنبوة والمعاد، لأن من أنكر أحدها فليس من أهل الكتاب، وأما الفروع ففيها اختلاف لأنها معرضة للتبديل والتغيير بحسب المصلحة والزمن والمكان لأن النسخ الوارد لا يتطرق إلا للفروع ويحول حول تلك الأصول البتة، وكونه في العبادات من صفاتها، وفي المأكولات من أصنافها وأجناسها، وفي ضروب الملبوسات وأنواعها

والحلي والزينة وتعلقاتها، وأنواع المعاملات وتفرعاتها فقط، وإنما أدخلنا أصحاب الرسول وخواص هذه الأمة في هذه الآية مع أنها في أهل الكتاب نزلت لأن لفظ أوتوا العلم يشملهم وهم متصفون بما احتوت عليه، وفّق الله هذه الأمة للتمسك بها وإرشاد الزائغين عنها وأدام النفع بعلمائها وصلحائها إلى يوم القيامة وهم ملح الأرض لا خلا الكون منهم. انتهت الآية المدنية وهي كغيرها معترضة بالنسبة لما قبلها وبعدها وهذا من كمال بلاغة كتاب الله وفصاحته «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعضهم لبعض في تقرير إنكار البعث فيما بينهم عطف على الآية الثالثة فما بعدها «هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ» يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم عبروا عنه بلفظ النكرة تجاهلا وهو عندهم العلم المفرد قال الأبوصيري: خفضت كل مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم كيف لا وهو أعرف المعارف وأشهر من الشمس في رابعة النهار وهكذا آله المقتفون أثره ومن هذا ما وقع لهشام بن عبد الملك حين أراد أن يستلم الحجر الأسود ولم يتمكن لازدحام الناس عليه ممن يعرف كونه الملك ومن لا يعرفه ولما جاء حينذاك زين العابدين وأراد استلامه انشق له الناس صفّين احتراما له حتى مشى بينهم على هينة واستلم فقال هشام تجاهلا من هذا فأجابه الفرزدق فورا: هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم إلى آخر قصيدته الرنانة التي سارت بها الركبان ولم يبال بسلطانه تجاه آل البيت الذين أوجب الله محبتهم علينا، قالوا وكانت امرأته معه فقالت له والله هذا هو الملك والشرف لا ملكك وسلطانك، وهكذا كانت الشعراء تصدع بالحق ولا تخشى الملوك فماذا تراهم لقاء غيرهم وأين شعراؤنا الآن منهم فقد تبدل كل شيء ولا حول ولا قوة إلا بالله الذي «يُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة ويقول لكم ذلك الرجل إنكم «إِذا مُزِّقْتُمْ» قطعتم وفرقت أوصالكم وفتتت «كُلَّ مُمَزَّقٍ» بحيث صرتم ترابا ورفاتا وهباء «إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ 7» فتنشئون كما كنتم، وهذا بزعمهم أعجوبة غريبة لا يمكن أن تكون ولا تعرف من قبل. ثم تساءلوا بينهم

مطلب مميزات داود وسليمان ومعجزات القرآن وكيفية موت سليمان عليهم السلام:

ما ترون «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما يقوله هذا الرجل «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» وصار بحيث لا يعي ما يقول ولا يدرك مغزى كلامه مما يلقى على لسانه من الوهم والخيال فيظنه حقيقة، فرد الله عليهم بقوله «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» أمثالكم الذين يستعظمون على الخالق الأول إعادة ما خلقه بعد أن أماته، هم المختلة عقولهم الكذبة في هذه الدنيا الذين سيكونون غدا بالآخرة التي يجحدونها «فِي الْعَذابِ» الشديد «وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ 8» عن الحق الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون رسل الله الذين جاؤهم به «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» المحيطة بهم وهما في قبضتي «إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفناها بقارون وصاحبيه «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً» قطعا «مِنَ السَّماءِ» كما اسقطنا على أصحاب الأيكة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخسف والإسقاط وما في السماء والأرض من آيات وعبر «لَآيَةً» عظيمة وعظة مؤثرة «لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ 9» خاشع خاضع لإلهيّتنا كافية بأن يستدل بها على قدرتنا الكاملة وعظمتنا الجليلة. مطلب مميزات داود وسليمان ومعجزات القرآن وكيفية موت سليمان عليهم السلام: قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» الملك والكتاب مع النبوة والرسالة ولم تجمع لنبي قبله، وزدناه على ذلك حسن الصوت حين يتلو الزبور الذي أنزلناه عليه، ولقد خصصناه بفضل آخر على إخوانه المرسلين بأن «قلنا يا جِبالُ أَوِّبِي» سبّحي الله واذكريه «مَعَهُ وَالطَّيْرَ» سخرناها له أيضا وأمرناها بأن تسبح معه فكان عليه السلام إذا سبح ربه سبحت معه الجبال والطيور والخلائق بدوي يبهر العقول والأسماع فيالها من نعمة عظيمة «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ 10» خاصة له أيضا ليعمل منه لبوسا للحرب ولم يلنه لأحد قبله، ومع هذه النعم العظام كان عليه السلام يتنكر ويمشي في قومه ويسألهم عن نفسه ليعرف عيوبه ولا عيب فيه وإنما يفعل ذلك تعليما لأمته، فقيض الله له ملكا في صورة بشر فقال له عند ما سأله نعم العبد لولا خصلة واحدة قال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال هو وعياله، فتنبه وسأل ربه أن يغنيه عنه، فعلمه صنعة الدروع التي تقي لا بسيها تأثير

[سورة سبإ (34) : الآيات 11 إلى 20]

ضرب السيف والرمح بمشيئة الله تعالى، وإلا فلا واقي من قدر الله، وهو أول من نسجها واتخذها آلة للحرب، وكانت قبل صفائح فصار يعمل منها وببيعها ويأكل هو وأهله من ثمنها ويتصدق بالفضلة وأوحى إليه تعالى «أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» ألهمه ربه كيفية عملها، وقيل إنّ (أَنِ) هنا مفسرة لألنا له الحديد ليعمل دروعا واسعة، من السبوغ بمعنى التمام والكمال فغلب على الدروع وقيل في المعنى: لا سابغات ولا جاءوا بأسلتة ... تقي المنون لدى استيفاء آجال وتجمع على سوابغ كما في قوله: عليها أسود ضاربات لبوسهم ... سوابغ بيض لا تمزقها النّبل والسرد خرز ما خشن وغلظ قال الشماخ: فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم ... كما تابعت سرد العنان الخوارز واستعير لنظم الحديد والنظم اتباع الشيء بالشيء من جنسه فيقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع ثم علمه الله تعالى كيفية نسجها فقال «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أمره ربه بالتقدير عند نسج الدروع لئلا تكون المسامير رقاقا رفيعة فتفلت ولا غلاظا كبارا فتكسر الزرد ثم خاطبه وآله بقوله «وَاعْمَلُوا» آل داود «صالِحاً» فيما يتعلق بأمور دينكم ودنياكم لا في عمل الدروع خاصة لعموم الخطاب، ولم يخلق الإنسان إلا لأن يعمل صالحا وأوله عبادة الله ثم صيانه النفس من مشاق الدنيا والآخرة ثم الأدنى فالأدنى حتى الحيوان، يؤيد هذا قوله «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 11» لا يخفى علي شيء فلو كان خاصا بالدروع لما احتاج إلى هذه المراقبة المؤكدة، هذا وقد ظهر أن الحكمة من إلانة الحديد هو تعلمه هذه الصنعة التي هي من لوازم الجهاد الذي هو أحد أركان الدين. قال تعالى «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرها له كما سخر لأبيه داود ما ذكر «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» عند ما تسير به وبحاشيته على البساط، قالوا كانت تسير من دمشق إلى إصطخر صباحا فيتغدى فيها ويستريح ثم تسير من إصطخر إلى كابل مساء فيبيت فيها وهذه مسافة شهرين على

الأقدام والإبل وهو يقطعها في ساعتين أو ثلاث ساعات من أول النهار وآخره على أكثر تعديل إذا كان يسير سيرا وسطا بريح ليّنة، وعليه فإنه عليه السلام يقطع مسافة شهر بساعة واحدة أو ساعة ونصف على بساطه بقصد النزهة فإذا حزبه أمر فيمكنه أن يقطع تلك المسافة وأكثر بطرفة عين بالريح العاصف كما جيء له بعرش بلقيس من اليمن إلى الأرض المقدسة بلحظة واحدة وهذا مما يعجز عنه البشر لأن الطائرات الحديثة مهما عظمت لا تقطع هذه المسافة بطرفة عين، وكذلك القطارات مهما عظمت لا تقدر أن تفله وتنقله بمثل هذه المسافة بالنظر لوصفه المار ذكره في الآيتين 23- 42 من سورة النمل المارة في ج 1، ولهذا البحث صلة في الآية 81 من سورة الأنبياء الآتية، فانظر رعاك الله قبل اختراع الطائرات هل كان أحد يصدق إمكان اجتياز مسافة شهرين بغدو ورواح ومسافة كل منهما تقدر بساعة أو ساعة ونصف إذ تقدر مسافة كل منهما من ثلاثة أميال إلى خمسة على أكثر تعديل لأن الغدو، والرواح يطلق كل منهما على ساعة واحدة أو ساعة ونصف راجع كتب اللغة تجد أن الغدو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والرواح آخر ساعة من النهار بما يقابل الغدو، على أنا لا نعلم ماذا يحدث بعد لأن الله علم الإنسان ما لم يعلم وسيخلق لنا ما لم نعلمه لأن عمل البشر من خلقه ولولا أن يقدرهم عليه لما استطاعوا عمله تدبر معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات المشيرة إلى هذه الحوادث والوقائع الكائنة والتي ستكون راجع الآية 38 من سورة الأنعام المارة. قال تعالى «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» هو النحاس قال تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) الآية 92 من سورة الكهف الآتية، أي انه تعالى أذاب له النحاس كما ألان الحديد لأبيه «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» كل شيء يأمرهم به فيذعنون له قسرا لأن الله تعالى هددهم بقوله «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا» الذي أمرناهم به وهو لزوم طاعته فيما يأمر به سليمان وينهى وأن ينقادوا له وأن الذي يمتنع أو يحاول «نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ 12» قالوا وكل الله بهم ملكا فمن أمره سليمان منهم فامتنع ضربه بسوطه فيحترق والله قادر على أكثر من ذلك فصاروا «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ

كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» فالمحاريب اسم للقصر العظيم يحارب صاحبه غيره بحمايته وهو اسم مبالغة لمن يكثر الحرب ويطلق على المكان الذي يقف فيه الإمام قال ابن حيوس: جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في محرابه والقدور معلومة والجفان الأواني التي يوضع فيها الطعام وانظر إلى قول الأعشى في ذلك: نفى الذمّ عن آل المحلق جفتة ... كجابية السيح العراقي تفهق وقول الأفوه الأودي: وقدور كالربى راسية ... وجفان كالجوابي مترعة أي ملأى بالطعام ووصف القدور بأنها راسيات لعظمها لأنها لا تنقل من محلها بل تبقى على الأثافي لكثرة الطبخ فيها وثقلها وشبه الجفان أي القصاع بالجوابي التي تسقى بها الأنعام لكبرها أيضا ولأن الطعام فيها دائما للضيفان كما أن الحياض يبقى فيها الماء وإنما ذكر الجفان قبل القدور مع أن القدور مقدمة عليها إذ يطبخ فيها أولا ثم يصب في الجفان بمناسبة ذكر المحاريب التي تطلق على ما ذكر وعلى الدور والمساجد التي فيها المحاريب من إطلاق الجزء وإرادة الكل وعلى الخلوات المتخذة للعبادة، وأما التماثيل فهي عبارة عن صور من رخام ونحاس وزجاج وذهب وفضة، قالوا انهم جعلوا منها ما هو على صور الملائكة وصالحي البشر وما هو على صور الطيور والحيوانات وغيرها إذ كان مباحا في شريعته وهذا مما يخالف شريعتنا ومنسوخ بها، فيا هل ترى ماذا يقول الذين ينكرون الجن في هذه الآيات القاطعات التي لا تقبل التأويل إذ صرحت بأنهم يعملون للبشر ما ذكره الله تعالى في هذه الآية ويسخّرون لأمرهم، وقد مر أول سورة الجن وفي الآيتين 17 و 38 من سورة النمل في ج 1 ما يؤيد هذا وله صلة في الآية 29 من الأحقاف الآتية والآيات المبينة في هذه السورة، لهذا فلا قول لهم إلا الجدال بآيات الله التي لا يجادل بها إلا الذين كفروا راجع الآية 4 من سورة غافر الآتية. قالوا ومن جملة ما صوروا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه وطواويس وعقبان ونسورا على درجه إلى عرشه، وقالوا إذا صعد إليه بسط الأسدان ذراعيهما وإذا جلس عليه ظلله النسران وقامت تلك

الطيور الأخر على الدرج فيها به من أراد الدنو منه مهما كان غير الهيبة التي تحصل له من الجنود المصطفين شمال يمين والشياطين القائمين حول قصره ليل نهار وغير الهيبة التي كساها الله تعالى إياه فضلا عن وقار النبوة ودهشة الرسالة وبهاء الجمال وعظمة الملك والسلطان، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، قالوا ومن جملة ما شيدوا له من الأبنية العظام مدينة القدس وجعل لها اثنى عشر بابا على عدد الأسباط، وكان بناؤها بالرخام والصفائح والبلور ثم بنوا له ما ذكرناه في الآية 15 من سورة النمل في ج 1 والبيت المقدس الواقع تحت الجامع القائم الآن وكان أبوه داود عليه السلام شرع فيه ولم يكمله كما أن الجامع الأموي بدمشق شرع فيه الوليد بن عبد الملك وبعد وفاته أكمله أخره سليمان لهذا قالوا إن سليمان بن عبد الملك بدأ ملكه بخير وهي إكمال البيت المقدس وختمها بخير وهو استخلافه عمر بن عبد العزيز وهذه صدفة لأن داود عليه السلام توفي قبل إكمال القدس أي جامعه وأكمله ابنه سليمان على النحو الموجود الآن تحت الجامع القائم ومواقفه غريبة وكان قديما مبنيا مرصوفا بالجواهر والذهب والفضة ولكن لما هدمه بختنصر أخذ جميع ما فيه راجع الآية 6 من سورة الإسراء ج 1، قال تعالى «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» لنعمنا هذه عليكم «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ 13» لنعمتي قالوا كان عليه السلام قسم ساعات الليل والنهار عليه وعلى أهل بيته للعبادة فلا تمضي ساعة إلا ويقع فيها عمل صالح لله تعالى منه أو من أفراد عائلته، قال تعالى «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ» بانتهاء أجله المقدر أمتناه وترك ما خولناه إياه وراء ظهره من الملك والسلطان الذي لم يكن لأحد قبله ولا بعده، ألا فلا يغتر أحد بهذه الدنيا فمهما أوتي منها لم يؤت مثل داود وسليمان، ومهما عاش فيها لم يعش مثل نوح والخضر عليهم السلام، فليستعمل العاقل عقله ويتق ربه فما بعد التقوى زاد نافع إلى المعاد. قالوا كان عليه السلام يتجرد للعبادة السنة والسنتين والشهر والشهرين في بيت المقدس ويدخل معه شرابه وطعامه وكان كل يوم ينبت في محرابه شجرة فيسألها عن اسمها ومنافعها فيقلعها ويأمر بغرسها إن كانت للأكل أو الدّواء أو لغيره حتى نبتت الخرنوبة، فسألها فقالت نبت لخراب مسجدك، قال عليه السلام ما كان الله ليخربه

وأنا فيه فنزعها وغرسها في حائطه، وقال اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم يزعمون أنهم يعلمون شيئا منه ويفخرون به على الإنس، وقام يصلي في محرابه على عادته، فمات عليه السلام وهو متكىء على عصاه، فبقي قائما عليها وهو ميت بإرادة الله تعالى وتثبيته وهو الفعال لما يشاء القادر على كل شيء. وكان لمحرابه كوى تنظر الجن إليه منه فيرونه قائما فيدأبون على أعمالهم الشاقة التي أمرهم بها ووكل عليهم ملائكة يراقبونهم غير الذين وكلهم من قومه ويحسبونه حيا ولا ينكرون عدم خروجه لأنهم يعلمون أنه ينقطع للعبادة المدد المبينة أعلاه ولذلك بقوا بعد موته زمنا يعملون ما يأمرهم به الموكلون عليهم من الإنس ولا يقدرون أن يخالفوهم خوفا من الملك الموكل عليهم المار ذكره في الآية 11 وبقي وبقوا هكذا حتى أكلت عصاه الأرضة فسقط على الأرض فعلموا بموته لأن سقوطه لم يكن على هيئة العبادة التي كان يتعبد بها، وهذا معنى قوله تعالى «ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» عصاه تقرأ بالهمز وعليه قوله: ضربت بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا وبدون همز وعليه قوله: إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل قال تعالى «فَلَمَّا خَرَّ» سقط على الأرض «تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ» ظهر لهم الأمر بأنهم لا يعلمون شيئا مما كانوا يزعمونه من أمر الغيب وتبين لقوم سليمان جهلهم به أيضا ولهذا رد الله عليهم بقوله «أَنْ لَوْ كانُوا» أي الجن «يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ» لعلموا بموته وتركوا العمل الشاق ولما استقروا على الذل والمشقة و «ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ 15» لنفوسهم من الموكلين عليهم من الإنس والملائكة، وظهر لدى العام والخاص كذبهم في ادعائهم علم الغيب، والمراد بالجن هنا الكفرة منهم لأن المؤمن لا يكون مهانا في ملك نبيه راجع الآية 14 من سورة النمل والآية 24 من سورة ص في ج 1 فيما يتعلق بعظمة ملك داود وسليمان عليهما السلام، قال تعالى «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ» بن يشجب بن يعرب بن قحطان «فِي مَسْكَنِهِمْ» مأرب من أرض اليمن «آيَةٌ» دالة على وحدانية الله تعالى كافية لمن اعتبر وهي

«جَنَّتانِ» على شفير الوادي، يشعر بهذا قوله عز قوله «عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ» من الوادي وكان لكل منهم في جهة اليمين بستان وفي جهة اليسار بستان ولهذا يمنّ الله عليهم بقوله «كُلُوا» يا آل سبأ «مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» هذه النعمة العظيمة واعملوا بطاعته فإن مأرب «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ» كثيرة النبات لطيب أرضها ليست برطبة ولا يابسة ولا سبخة ولا محجرة ولا يوجد فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا شىء من الهوام الضارة حتى أن الرجل إذا دخلها وكان في ثيابه قمل أو برغوث يموت من طيب هوائها والخاصيّة التي أودعها الله فيها «وَرَبٌّ غَفُورٌ 16» ربكم يا آل سبأ يعفو عما يقع منكم إن شكرتم وآمنتم «فَأَعْرَضُوا» عن دعوة أنبيائهم ولم يقبلوا نصحهم ولم يراعوا حق هذه النعم المسبلة عليهم بل كذبوهم، قال وهب كانوا ثلاثة عشر وذكره ابن عباس ولم أقف على أسمائهم، وقد ذكّروهم نعم الله وحذّروهم عقابه وأنذروهم عذابه فلم ينجع بهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم يحبس عنا المطر وسائر نعمه قال تعالى فحق عليهم القول «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ» قال ابن عباس كان لهم سد بنته السيدة بلقيس على وادي المياه وجعلت له أبوابا وبنت دونه بركة فجعلت لها اثنى عشر مخرجا يفتحونها عند الحاجة لسقي جنبيتهم وكانت وجهت إليها مياه السيول فإذا جاء المطر احتبس من وراء السد فيمتلأ ذلك الوادي العظيم بما يزيد على حاجتهم سنريا، وكانت قسّمته بينهم بنسبة حاجة كل منهم وبقوا ينتفعون به في حياتها وبعد موتها مدة كثيرة على حسب وضعها، فلما طغوا وجابهوا أنبياءهم بما ذكر آنفا وقالوا لهم إن كان ما تقولونه حقا فافعلوا وإنا لسنا بحاجة إلى إرشادكم ولا نخاف من تهديدكم ووعيدكم، وكان قولهم هذا موافقا لأجل الانتقام منهم في قدر الله الذي قدره عليهم وكفروا هذه النعم بغيا وعتوا سلط الله تعالى الخلد على السد فثقبه فطغى الماء على جنتيهم فأغرقهما وأخرب أراضيهم وأغرقها وفاض الماء على دورهم فأخربها فمزّقوا كل ممزّق وندّ منهم من ند وصار يضرب بهم المثل عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبا وتفرقوا أيادي سبا «وَبَدَّلْناهُمْ» بسبب كفرهم بجنتيهم ذاتي الفواكه الطيبة والخيرات الكثيرة «جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ

خَمْطٍ» حريف حامض ومرّ وكل شجرة ذات شوك سمي ثمرها خمط «وَأَثْلٍ» شجر الطرفاء وشجر آخر يشبهه أعظم منه «وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 17» وثمره يسمى النبق ويغسل بورقه بدلا من الصابون كورق الخطمي والأسنان وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يغسل الذي وقصته ناقته بماء وسدر زيادة في التنظيف «ذلِكَ» الفعل الذي فعلناه بهم والتبديل الذي بدلناه جزاء «جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ 18» بلى ولا نجازي الشكور بل ننعم عليه، وهذا استفهام تقريري لا يجاب إلا ببلى وحقا إنه تعالى لا يجازي بأسوأ المجازات إلا الأكثر كفرا لأن كفور والكلمات التي على وزنه كشكور وغفور وغرور وعقور من أسماء المبالغة، قال تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والقرى أي قرى الشام وبيت المقدس «قُرىً ظاهِرَةً» متواصلة لا تنقطع الواحدة تلو الأخرى، قالوا كان بين سبأ والشام أربعة آلاف قرية عامرة لا تقطع الواحدة حتى ترى الأخرى «وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ» بحيث جعلنا بين كل قرية وقرية مرحلة صغيرة تقدر باعتبار مشي الأقدام والإبل بأربعة فراسخ أي بريد واحد، وقد اختلف في تقديره فمنهم من قال ساعة ونصف، ومنهم من قال ساعة واحدة، وعلى كل فالفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف باع والباع أربعة أذرع بذراع العامة وهذه على أكثر تعديل تكون ستة ساعات بسير الأقدام والإبل وأربعة بسير البغال والخيل وتقطع بساعتين أيضا، وقلنا لهم «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ 19» من الجوع والعطش والعدوان فبطروا وجحدوا هذه النعم وسئموا الراحة التي عزّ طلبها على غيرهم ولم يصبروا على السعة والعافية التي يتوق إليها كل مخلوق «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» فهو أجدر أن نشتهيها ونتزود للسفر إليها من الزاد والراحلة، فعجل الله لهم الإجابة «وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بهذا الدعاء وطلب المشقة بطرا ففعلنا بهم ما فعلنا «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتحدثون بشأنهم وعبرة يعتبرون بهم وعظة لغيرهم «وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» بأن فرقناهم وبدّدناهم في البوادي والقفار وشتتنا شملهم فذهب الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة والأوس والخزرج إلى يثرب

مطلب تصديق ظن إبليس وبحث نفسي في قوله تعالى ماذا قال ربكم:

وآل خزيمة للعراق ولحقت فرقة منهم إلى الشام فنزلوا على ماء يدعى غسّان فسموا الغساسنة، وهم فرقة من الأزد ومنهم بنو جفنه رهط الملوك «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في قصتهم «لَآياتٍ» عظيمات وعبر جسيمات ودلائل باهرات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» عن لذات المعاصي وعشاق الطاعات «شَكُورٍ 20» نعم الله عليه قلّت أو كثرت وسجية المؤمن الصادق الصبر على البلاء والشكر على النعماء فإذا ابتلي صبر ورضي وإذا أعطي شكر وتصدق. مطلب تصديق ظن إبليس وبحث نفسي في قوله تعالى ماذا قال ربكم: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» على أهل سبأ ومن حذا حذوهم وحقق ما كان يتوفاه منهم وظفر بما يأمله من طاعتهم له وعصيانهم لله تعالى يا ويلهم «فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بالله إيمانا كاملا مخلصين العمل لحضرته، وفريقا انهمكوا في لذاتهم وركنوا إلى شهواتهم وانقادوا لوساوس الشيطان فعصوا الله وفسقوا واختاروا العمى على الهدى لأن الخبيث عليه اللعنة لما طلب إنظاره من الله تعالى ما كان متيقنا إتمام ما وعد به من إضلال العباد بل قال لأغوينهم ولأظنهم على سبيل الظن فلما اتبعه وأطاعه فريق منهم فقد صدق ظنه في هؤلاء خاصة وفي أمثالهم عامة بطوعهم ورضاهم واختيارهم بدليل قوله تعالى حكاية عنه وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية 22 من سورة ابراهيم الآتية أي أنه لم يقهرهم ويلجئهم لطاعته قسرا لأنه لم يشهر عليهم سلاحا سيفا ولا سوطا وإنما وعدهم ومنّاهم وموّه عليهم الحق وزخرف لهم الباطل ورغبهم بالشهوات وحسن لهم القبيح وأغراهم بالتسويف وغرهم بطول الأمل فانكبوا عليه وصفقوا لديه واقتفوا أثره ومالوا بكليتهم إليه ولو شاء الله لمنعه من ذلك وحال بينه وبينهم ومنعهم من الانقياد إليه «وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ» ليجبرهم على طاعته «إِلَّا» إنه لم يفعل ذلك ويحجزهم عنه «لِنَعْلَمَ» وهو عالم من قبل ويظهر ما هو في علمه لخلقه «مِنْ» منهم «يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ» على رضى منه فيصدق بوجودها بطوعه واختياره «مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ» برضاه ورغبته فينكر وجودها ووقوعها ومما يؤيد أن المراد بالعلم في هذه الآية علم الوقوع

والظهور بين الناس وأنه تعالى شأنه عالم بذلك أزلا قوله جل قوله «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 21» فمن كان رقيبا على كل شيء لا يغرب عن علمه شيء وما قدره على خلقه من بعض معلوماته قال تعالى قد يعلم ما أنتم عليه الآية الأخيرة من سورة النور في ج 3 (وقد) هنا تفيد التقليل أي أن الذي أنتم عليه أيها الناس جزء من بعض معلوماته قال تعالى «قُلِ» يا محمد لكفار قومك الذين حبس عنهم الغيث «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليكشفوا عنكم ما نزل بكم من القحط والجدب ليظهر لهم عجزهم وتيقنوا أنهم «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» لأنهما وما فيهما وبينهما ملك لله وحده ولا يقع فيهما شيء إلا بأمره «وَما لَهُمْ» لتلك الأوثان التي يزعمونها شريكة لله «مِنْ شِرْكٍ» في أمر من أموره لا فيهما ولا في غيرهما البتة «وَما لَهُ» وما لله «مِنْهُمْ» من آلهتهم «مِنْ ظَهِيرٍ 22» يعاونه على تدبير ما يقع بينهما من خير أو شر «وَ» اعلموا أيها الناس أن الله تعالى يقول «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ» لأحد ما من الأوثان والملائكة وكافة الخلق «إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» فيها فقط وهذا تكذيب لقول الكفرة بأن الأوثان تشفع لهم عند الله مع أنه في ذلك اليوم يتجلى الجبار على خلقه فيأخذهم الخوف والوجل برّهم وفاجرهم «حَتَّى إِذا فُزِّعَ» كشف الفزع «عَنْ قُلُوبِهِمْ» وذهب الحزن عنهم من هيبة كلام العرب جل جلاله في ذلك اليوم المهول أي عن المشفوع لهم والشافعين لأن المستشفعين يتثبّتون بأذيال الرجاء من الشافعين النائمين على قدم الالتجاء إلى باب ذي القدرة والعظمة مستأذنين من حضرته الشفاعة لعصاة المؤمنين، أما الكافرون فهم بمعزل عن هذا ويبقون منتظرين خائفين لا يدرون بماذا يجابون في ذلك الوقت العصيب وقد غشيهم الفزع ومما يدل على هذا قوله تعالى (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) وقوله جل قوله (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) الآيتين من آخر سورة عمّ الآتية فالكل إذا ينتظرون كلمة من رب العزة ليتباشروا في إطلاق الناس بالشفاعة حتى أزيل وحتى هنا للغاية ولا غاية بلا مغيا وتكييف المغيا هنا كأن قيل كيف

يمكن استحصال الإذن في ذلك الموقف، العظيم للشافعين، وكيف يكون حال المستشفعين؟ فقيل يقفون منتظرين وجلين خلف سرادق العظمة والهيبة والجلالة لا يدرون ماذا يوقّع لهم الملك الأعظم على رقعة سؤالهم منه، حتى إذا ذهب الخوف عن قلوبهم فتكون هذه الجملة هي الغاية. وما ذكرناه من حصول الإذن هي المغيا. والفزع عبارة عن انقباض النفس ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف مثل الجزع إلا أنه لا يقال فزعت من الله بل خفت وهو من الاضداد تقول فزعت بمعنى خفت وفزعت بمعنى أزيل عني الفزع وفعله يتعدى بعن كما في هذه الآية وبمن إذا كان بمعنى الخوف. «قالُوا» المشفوع لهم للشافعين «ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا» الشفعاء قال الله «الْحَقَّ» أي أذن بالشفاعة وكل قوله حق ويؤذن بهذا قوله جل قوله «وَهُوَ الْعَلِيُّ» على عباده لا يرد سؤالهم «الْكَبِيرُ 23» عن أن يخيب أملهم وهذا من نتيجة كلام الشافعين اعترافا بعلو عظمته عن أن يرد أيديهم صفرا وجليل كبريائه عن أن ييأسهم من فيض رحمته، وما جرينا عليه من هذا التفسير لهذه الآية العظيمة هو المناسب لسياق التنزيل وسباق اللفظ الجليل مما تقدمها. أما من فسرها على نزول الوحي واستشهد بما رواه البخاري ومسلم فقد قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه صلصلة على صفوان، وبما أخرج أبو داود عن ابن مسعود إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم يقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق فيقولون الحق. فهذه الأحاديث وشبهها لم تثبت أن الرسول قالها في معرض هذه الآية والقائلون بهذا لم يبنوا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ولم يبحثوا عن الغاية بشيء، ولم يتعرفوا للمغيا ليركن إلى بعض ما قالوه، ولذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأوفق وإن ما مشى عليه أكثر المفسرين هو بالنظر إلى ظاهر اللفظ ومطابقته لهذه الأحاديث فنزلوا تفسير الآية عليه كما ساقوا مثل هذه الأحاديث في مسألة استراق السمع، راجع بحثه في الآية 18 من سورة الحجر المارة وعلى هذا مشى السيد محمود الألوسي في تفسيره روح المعاني إذ نظر إلى مطابقة المقام الموافق

لظاهر الكلام وظهر له ما قاله غيره في هذا المقام بأنه نظر إلى ظاهر اللفظ فعدل عن أقوالهم، والحق يقال إنه بمراحل كثيرة في الحسن والمطابقة للواقع وموافقة التنزيل ومناسبة الآي. عما قاله غيره، ولهذا اخترنا قوله أيضا بما زدنا عليه من التصرف ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع تفسير هذه الآية في ص 139 فما بعدها من ج 7 من تفسيره المذكور وقد مشى عليه صاحب روح البيان السيد إسماعيل حقي والإمام النسفي وجار الله الزمخشري من قبله والله أعلم وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل. قال تعالى «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن لم يجيبوك يا محمد بأن الذي يرزقنا هو الله فبادرهم أنت و «قُلِ اللَّهُ» الذي يرزق أهل السموات والأرض من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها وقل لهم أيضا إذا لم يقلعوا عن محاججتك على طريق الإرشاد في المناظرة «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً» لفظ هدى يعود للضمير الأول على حضرة الرسول «أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 24 ولفظ الضلال يعود إلى الضمير الآخر العائد للكفرة على سبيل اللف والنشر المرتب، وهذا الكلام على جهة الإلزام والإنصات في المحاجة كما تقول لمجادلك أحدنا كاذب لا على طريق الشك، لأن حضرة الرسول يعلم حقا بأنه ومن اتبعه على هدى من الله وأن من خالفه وجحد ما جاء به في ضلال وهو من قبيل التعريض ليكون أوصل للغرض وأوفى بالمقصود من غير تصريح بتعنيف الخصم وهذا شأن المنصف المهذب وعليه قول حسان: أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّ كما لخيركما الفداء وإن ما جرينا عليه من قول من قال إن أو هنا بمعنى الواو أي إني لعلى هدى وإنكم على ضلال لأن اختلاف حرف الجر قد أدى بالمطلوب لأن المهتدي مستعل فأدخل عليه على المفيدة للاستعلاء والمضل منغمس في الظلمة فأدخل عليه في المؤدية لذلك، وإنما قلنا إن هذا شأن المنصف في المجادلة لأنه لو قال لهم رأسا أنتم ضلال مبطلون لأنماظهم وصيرهم إلى العناد وجرأهم للمقابلة فيردون عليه بأغلظ رد لما هم عليه من السفاهة، ولفات الغرض المقصود من استجلابهم لما يريده منهم من سلوك سبيله، والعقل يحكم بأن تكون المناظرة على الوجه الأحسن للانقياد وطريقة اللف والنشر

المرتب من بديع الكلام وفصيحه وكثيرا ما تستعمله العرب في أقوالها وتستعذبه قال امرؤ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي ومنه قوله: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل فيظهر لك من هذا أن اعتبار «أو» بمعنى الواو في هذا الموضع، فيه بعد ومخالفة للظاهر، ولا يجوز بالمفسر والمؤول أن يركن إلى وضع حرف مكان آخر أو كلمة مكان غيرها إذا لم يكن جريها على ما هي عليه. هذا ثم أتى بما هو أدخل في الانصاف وأبلغ في القبول فقال جلّ قوله «قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا» أي لا تؤاخذون به على فرض صدوره منا، وهذا مجاراة لمثل كلامهم إذ لا إجرام في الحقيقة «وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ 25» بل كل يسأل عما عمل وفي إسناد الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه ومحظور والعمل للمخاطبين وهو مأمور به مشكور غاية في حسن المخاطبة ونهاية في الإنصاف في طيب المكالمة ودلالة بالغة على كمال الأخلاق وعلو الآداب، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الحسن من حيث ذكر الأجرام المنسوبة إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقيق وذكر العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك، وزعم بعضهم أن هذا من باب المشاركة وأن هذه الآية منسوخة بآية السيف وليس بشيء لأنها من باب التعريض الغير مضر وهي خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما أشرنا إليه غير مرة، ثم ختم المكالمة بالتبري عن عمل شيء من نفسه وتفويض الأمر فيما يتعلق بينه وبينهم إلى ربه فقال ما قال له ربه «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا» نحن محمدا وأصحابه وبينكم أيها المشركون «رَبُّنا» نحن وأنتم يوم القيامة فيحاسبنا على أعمالنا «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا» يقضي ويفصل ويحكم حكما «بِالْحَقِّ» لا ميل ولا حيف ولا جور فيه «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ 26» بما يفتح لأنه يحكم بين خلقه بما هو الواقع الموافق لنفس الأمر أما حكام الدنيا فغاية العدل في أحكامهم الاعتماد على البينات وهي لا تخلو من زور وكذب وكتم للحقيقة خاصة في زمننا هذا، وفي تسمية القضاء بالفتح إشارة

مطلب عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ومجادلة الكفرة فيما بينهم:

إلى وجه فصل الخصومات فتحا تشبيها لما حكم فيه بأمر مغلق كما يشبه بأمر متعقد في قولهم حلال المشكلات، قال تعالى «قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ» بربي الواحد الأحد «شُرَكاءَ» من أوثانكم هل تقدر أن تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر؟ قل لهم يا حبيبي «كَلَّا» لا تفعل شيئا من ذلك لأنها مفتقرة إلى من يصلحها ويحفظها من التعدي، وإذا كانت كذلك فكيف تصلح أن تكون آلهة، وكيف يليق بكم أن تعبدوها «بَلْ» القادر على فعل ذلك كله والمستحق للعبادة «هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ 27» فيما يفعله ويدبره «وَما أَرْسَلْناكَ» يا سيد الرسول لهؤلاء الكفرة خاصة «إِلَّا كَافَّةً» أي رسالة عامة «لِلنَّاسِ» أجمعين على اختلاف مللهم ونحلهم وألوانهم ولغتهم فكن لمن أطاعك منهم «بَشِيراً وَنَذِيراً» لمن عصاك «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 28» عموم رسالتك لمن على وجه الأرض عربهم وعجمهم فيحملهم جهلهم بذلك على مخالفتك فعرفهم هذا وعظهم ودارهم وتلطف بهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم. وهذا من قبيل تقديم المعذرة لأن من هو في علمه كافر لا ينفعه النصح ومن هو في أزله مؤمن لا تستهويه الضلال. مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم ومجادلة الكفرة فيما بينهم: وهذه الآية تدل صراحة على عموم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم لعامة الخلق راجع الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 فيما يتعلق في هذا البحث. روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل (وأهل الكتاب لا تصح صلاتهم إلا في كنائسهم) ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة (أي العامة وإلا فكل نبي يشفع بأمته وأهل الخير يشفعون بمن يأذن الله لهم من خلقه خاصة) ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أي بداية ونهاية بخلاف رسالة سيدنا نوح راجع الآية 74 من سورة يونس المارة تجد أولها خاصة وآخرها عامة، وكان من الأنبياء من يرسل إلى أهل بلده خاصة ومنهم من يرسل إلى أهله فقط

[سورة سبإ (34) : الآيات 31 إلى 40]

وخص محمدا صلّى الله عليه وسلم بعموم الرسالة إلى الناس كافة. قال تعالى «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 29» فيما تقولون وتهددونا به، وهذه الآية في ترتيب القرآن لم توجد في أوله حتى سورة يونس ومنها إلى الأنبياء وفيما بعد مكررة كثيرا. قال تعالى ردا عليهم يا أكرم الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبطئين سخطنا عليهم المطالبين بنزول ما توعد به من العذاب «لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ 30» فميعاده في الدنيا الموت إذا لم يباغتكم غيره قبله وفي الآخرة البعث، وهاتان الساعتان المقدرتان لموتكم وبعثكم لا يمكن بوجه من الوجوه تقديمهما لحظة ولا تأخيرهما عما هو مقدر في علمنا الأزلي وإنكم بعد البعث سترون ساعة الحساب وساعة الحكم وساعة الدخول في النار لا محالة وسيشدد حزنكم عند ما تشاهدون المصدقين الطائعين يدخلون الجنة ومغبّة ما حكاه الله عنكم في قوله «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» قولا غير ما ذكر من الاستبطاء واشنع منه وهو قولهم جرأة على ربهم «لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك يا محمد «وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف أيضا، قال تعالى تفظيعا لشأنهم في الآخرة وما تؤول إليه حالتهم الخاسرة «وَلَوْ تَرى» يا حبيبي «إِذِ الظَّالِمُونَ» أنفسهم بهذه الجرأة على الله في ذلك الموقف العظيم وأمثالهم وقد تخلى عنهم أربابهم المزيفون العاجزون «مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» الحقيقي وقد تجلى عليهم باسمه المنتقم لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، ولو تراهم يا أكمل الرسل حين يتلاومون على سوء صنيعهم في الدنيا إذ «يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ» فيوقع كل منهم الملامة على الآخر «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» في الدنيا وهم الأتباع الوارد ذكرهم في الآية 164 من سورة البقرة في ج 3 للذين استكبروا وهم الرؤساء الآتي ذكرهم في الآية 11 من سورة إبراهيم الآتية «لَوْلا أَنْتُمْ» منعتمونا في الدنيا عن الأيمان بالرسل «لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31» بهم ولنجونا من هذا البلاء ولم يمسسنا سوء في هذا الموقف «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ» كلا لا صحة لهذا لأنا لم نصدكم

ولم نمنعكم عن الإيمان بالرسل «بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ 32» باختياركم ورغبتكم وقد رضيتم بالإشراك وآثرتم الكفر على الإيمان بطوعكم «وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» اعلم أن كلمة مكر هذه مضافة لمضاف محذوف وهو الضمير الذي يعود إلى الرؤساء وبحذفه أضيف لما بعده إضافة المصدر لمفعوله وعليه يكون المعنى صدنا مكركم بنا أيها الرؤساء واحتيالكم علينا وتزيين آلهتكم المزعومة لنا وتظاهركم مظهر الصادق حتى ظننا بكم أنكم على خير «إِذْ تَأْمُرُونَنا» ليل نهار صباح مساء «أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ» الواحد ونكذب الرسول الذي يأمرنا بعبادته ورفض ما سواه وأنتم تأمروننا بتكذيبهم أيضا «وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً» أمثالا على ما كان عليه آباؤنا وآباؤكم الأقدمون، فلما سمعوا هذا منهم وقد صارحوهم به على رءوس الأشهاد سقط في أيديهم جميعا «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ» بينهما إذ ظهر، خطأوهما، وقيل إن فعل أمر من الأضداد فيأتي بمعنى أضمر كما مر وبمعنى أظهر ولهذا قال بعضهم إنهم أظهروا الندامة لبعضهم وعدلوا بهذا الفعل عن حقيقته إلى المجاز بحسب الظاهر وبعضهم أجراه على ظاهره كما جرينا عليه دون حاجة للعدول وهو أولى إذ لا وجود لصارف يصرفه عن حقيقته وإنما أسروا الندامة أسفا على ما فات لعدم الفائدة من إظهارها وقد بهتوا «لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» أحاق بهم لقوله تعالى «وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا» التابعين والمتبوعين وزجرا في جهنم جزاء كفرهم فانظروا «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ 33» في الدنيا من كفر وعصيان وسخرية، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» من الرؤساء والقادة إلى الرسل «إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 34» هذه الآية كتسلية لحضرة الرسول مما مني به من قومه من التكذيب بما جاءهم به والاستهزاء بحضرته العالية وإن ما قاله فيه أهل مكة قاله الأمم السالفة لأنبيائهم وزيادة، راجع الآية 118 من سورة البقرة في ج 3 إذ لم ينفرد هو وحده بذلك كما أن قومه لم يبتدعوا تلك الأقوال والأفعال الشائنة بل إنهم قلدوا من قبلهم ليهون عليهم ما يلاقيه منهم «وَقالُوا» أيضا أولئك المترفون الذين غرّهم المال والجاه والولد متبجحين على المؤمنين وغيرهم

«نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً» من أتباع الرسل المساكين ولو لم يكن ما نحن عليه من الدين مرضيا لما منحنا الله هذه النعم المترادفة ولهذا نقول لكم «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35» في الآخرة أيضا إذا كانت هناك آخرة كما تزعمون لأنا لسنا مذلولين في الدنيا، قال تعالى ردا عليهم «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المغبونين بما لديهم من حطام الدنيا «إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء وليس سعة الرزق دليل على الرضى كما زعمتم كما أنه ليس في ضيقه امارة على الغضب «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 36» ذلك ومنهم من تجبّر واعترض على الله تعالى في البسط على أناس والضيق على آخرين كابن الراوندي إذ قال: كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصيّر العالم النحرير زنديقا أي كافرا نافيا للصانع العدل الحكيم قائلا لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله وهو في هذا القول البذيء يعني نفسه والقائل بقوله لا كل عالم فالعالم العاقل هو من يقول: ومن الدليل على القضاء وحكمه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق والأكثر الذي عليه الناس الآن فيما قبل وبعد والله أعلم عدم الاجتماع بين العلم والمال غالبا قال الشافعي رحمه الله: فمن أعطى الحجى حرم الغنى ... ضدان يفترقان أي تفرق وذلك لحكم أرادها الله تعالى ولتتفرق الفضائل بين خلقه فمن فاته العز بالمال خلفه العز بالعلم وبالعكس: رضينا قسمة الجبار فينا ... لنا علم وللأعداء مال فإن المال يفنى عن قريب ... وإن العلم يبقى لا يزال اللهم اجعلنا مع هؤلاء مع الكفاية ولا تجعلنا من أولئك ولا من الذي يقول: أعطيتني ورقا لم تعطني ورقا ... قل لي بلا ورق هل تنفع الحكم قال ردا عليهم أيضا «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» أيها الناس «بِالَّتِي

تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى» أي تقريبا مرضيا واسم الموصول واقع على الأموال والأولاد جميعا لأن جمع التكسير يستوي فيه عقلاؤه وغير عقلائه في حكم التأنيث ولأن المجموع منها بمعنى جماعة فلذلك صح الإفراد فيه والتأنيث «إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ» هم المقربون عند الله الحائزون على رضانا لا المتولون الجاهدون أنفسهم بجمع الحطام فمثل هؤلاء المؤمنين الذين دعموا إيمانهم بالأعمال الصالحة «لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» فيضاعف لهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة وإلى ما شاء الله «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ» الطبقات العالية من الجنان يسكنون منعّمون «آمِنُونَ 37» من كل هائل وشاغل في مقعد صدق عند مليك مقتدر «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي» إبطال «آياتِنا» ويفسدون في الأرض معاندين لنا يحسبون أنفسهم «مُعاجِزِينَ» لا نقدر عليهم فائتين من عذابنا سابقين قدرتنا «أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ 38» من قبل ملائكتنا لا يجديهم ما عولوا عليه ولا ينفعهم ما أمّلوه «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» في وجوه البر والخير وصلة الرحم «فَهُوَ يُخْلِفُهُ» من فضله الواسع «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ 39» لأن رزق السلطان جنده والسيد مملوكه والرجل عياله من رزق الله تعالى أجراه على يدهم، وقد يكون في رزقهم منّ ولا منّ في رزق الله. وهذه الآية بخلاف الآية الأولى لأنها كانت ردا على الكفرة وهي عامة وخالية من الضمير بعد كلمة (يَقْدِرُ) ومن كلمة (لِمَنْ يَشاءُ) وهذه خاصة ومقيدة بلفظ من عباده وبالضمير ولشخص واحد باعتبارين والضمير فيها وإن كان بموقع المبهم إلا أن الآية الأولى خالية منه وذكره بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة التخصيص فلا تكرار لأنها مساقة للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق والأولى مساقة للرد على الكفرة. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم أنفق أنفق عليك. وعنه: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا. وعنه: ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه. قال تعالى

[سورة سبإ (34) : الآيات 41 إلى 50]

«ويوم نحشرهم جميعا» المستضعفين والمستكبرين وأوثانهم «ثمّ نقول للملائكة» لأنهم من جملة المعبودين على غير علم منهم ولا رضى «أَهؤُلاءِ» الكفرة «إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ 40» في الدنيا استفهام تقريع وتبكيت «قالُوا سُبْحانَكَ» لم يوالونا ولم نوالهم وإنا وإياهم من جملة عبادك «أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ» فنتبرأ إليك يا ربنا مما يفترونه علينا ويلصقون بنا ما ليس لنا به علم ولا حق والحق يا سيدنا إنهم لم يعبدوننا «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ» الشياطين الذين زينوا لهم عبادتنا فعبدونا طاعة لهم وخيّلوا لهم صورنا فصورونا على ما شاءوا من حيث لم يروننا وصاروا يعبدون تلك الصور بزعمهم أنها صورنا، ولهذا صار «أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ» بأولئك الشياطين «مُؤْمِنُونَ 41» مصدقون أنها صور الملائكة. مطلب ليس المراد بالجن هنا الملائكة ران إسماعيل لم يترك كتابا، ومخاطبة حضرة الرسول الناس كيف كانت: هذا وما قيل إن المراد بالجن هنا الملائكة قول غير سديد لمخالفته ظاهر القرآن وعدم مناسبته للواقع ولأن الله تعالى عبّر عن الملائكة في مواقع كثيرة بلفظ الملائكة وعن الجن بلفظ الجن فالعدول عن المعنى الموضوع للفظ عدول عن الحقيقة المرادة منه، هذا وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية 158 من الصافات المارة فراجعه، ومنه ومن هنا تعلم أن ليس المراد بالجن هنا والجنة هناك الملائكة، بل الشياطين كما ذكرناه «فَالْيَوْمَ» أيها العابدون والمعبودون «لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ويدخل في هذه الآية الملائكة دخولا أوليا لأن السياق ينوه عنهم ليعلم عابدوهم على رءوس الأشهاد ظهور عجزهم وقصورهم وخيبة رجائهم بشفاعتهم بالكلية فغيرهم من المعبودين من باب أولى. «وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» عطف على قوله تعالى (ثم نقول للملائكة) إلخ، ويراد بالظالمين هنا الكفرة منهم بدليل قوله تعالى «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 42» لأن الظالمين المؤمنين لا يكذبون بالبعث ولا عذاب الآخرة ويؤيده قوله تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا» الذي يتلوها يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم

«إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ» من الآلهة «وَقالُوا ما هذا» الذي يزعم أنه كلام الله «إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» مختلق من قبله «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» القرآن المجيد المنزل بالحق «لَمَّا جاءَهُمْ» على لسان الرسول الحق «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 43» لأنه يفرق بين المرء وزوجه والوالدة وولدها والأخ وأخيه، وهذا على زعمهم لما يرون أن المؤمن يترك زوجته وأمه الكافرتين والأب يهجر ابنه وأخاه الكافرين والابن أباه والأخ يعرض عن أخته وأخيه بسائق إيمانهم وقوة يقينهم مع مراعاة حقوقهم والانفاق عليهم وطاعتهم فيما عدا الشرك، راجع الآية 15 من سورة لقمان المارة لا بما يزعمونه، قال تعالى «وَما آتَيْناهُمْ» هؤلاء الكفرة «مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها» قبل كتابك هذا يا سيد الرسل «وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ 44» ينذرهم بأس الله ويخوفهم عذابه ويحذرهم مما هم عليه لأن إسماعيل عليه السلام لم يتجرد للنذارة ويقاتل عليها قومه ولم يترك لهم كتابا يتدارسونه بينهم بعده كأهل الكتابين ويتبعون ما فيه ولم يرسل إليهم رسول بعده يأمرهم وينهاهم ويبلغهم أحكام دينهم إلا محمد عليه الصلاة والسلام «وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الرسل أيضا مثلهم كثمود كذبت صالحا وعاد كذبت هودا وأصحاب الأيكة شعيبا «وَما بَلَغُوا» قومك هؤلاء «مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ» أي المكذبين الأقدمين لرسلهم السابقين من القوة وطول العمر والنعم والأموال والأولاد «فَكَذَّبُوا رُسُلِي» وجحدوا آياتي على كثرة انعامي عليهم مادة ومعنى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ 45» للمكذبين السالفين وكيف كان عقابي لهم على تكذيبهم كان شيئا عظيما فلو رأيتموه يا أهل مكة لرأيتم أمرا فظيعا وقد قصصناه عليكم أفلا تتعظون بهم وتخافون سوء عاقبتكم وأن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهم «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي لا أرشدكم بخصلة واحدة هي ملاك الأمر وقوامه وهي «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى» اثنين اثنين «وَفُرادى» واحدا واحدا «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» فيما بينكم وبين أنفسكم فتتناظروا وتتحاوروا ثم يعرض كل منكم نتيجة فكره على صاحبه حتى إذا ظهر لكم يقينا من النور الذي يحصل من

مصادمة أفكاركم أنه «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» كما تزعمون بادىء الرأي وتعلمون حقا أنه من أكملكم وأعقلكم وأرحمكم و «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ 46» تعجز عنه قواكم ليس إلا وعرفتم أنه لا يريد إلا نجاتكم منه آمنتم به وصدقتموه إن كان لكم عقول تنتفعون بها، لأنكم ما جرّبتم عليه كذبا طيلة هذه المدة، ومن كان لا يكذب على الناس فهو أجدر أن لا يكذب على الله، لا سيما وقد علمتم أنه من أحسن قريش أصلا، وأزكاهم قولا وأعلاهم حسبا، وأصدقهم لهجة، وأوزنهم حلما، وأحدهم ذهنا وأرضاهم رأيا، وأذكاهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأجمعهم لما يحمد عليه ويمدح به، وأبعدهم عما يلام عليه، وهو أرجحهم عقلا، وأوضحهم خطابا، وأقواهم حجة، وأوفاهم برهانا، وأكملهم كتابا، وأنصحهم بيانا، وأعدلهم دليلا، يظهر لكم من هذه الخصال التي لا تنكرون شيئا منها إذ أجمعت كلمتكم على تسميته بالأمين. إنكم مخطئون بما تصمونه به من الجنون والسحر والكهانة واعلموا أن إلحاحه عليكم بالإيمان ما هو إلا حبا بكم وحرصا عليكم من أن ينالكم غضب الله وخشية من إيقاع عذابه بكم ليس إلا، فيا حبيبي يا محمد «قُلْ» لهم «ما سَأَلْتُكُمْ» على هذا النصح والإرشاد «مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» هذا جواب شرط محذوف تقديره أي شيء سألتكم من جعل عليه فهو لكم، والمراد منه في السؤال رأسا، كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا فما هنا شرطية واقعة مفعولا لسألتكم «إِنْ أَجْرِيَ» على التبليغ في الإنذار ما هو «إِلَّا عَلَى اللَّهِ» وحده لا عليكم «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 47» ومن جملة الأشياء التي هو شهيد عليها عدم طلبي جعلا منكم على نصحكم وإنما أرجو عليه ثوابا من الله الذي أرسلني إليكم «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ» فيرسل الوحي من السماء إلى رسوله على لسان أمينه جبريل عليه السلام، ومعنى القذف الرمي بشدة والدفع بالقوّة، ويراد منه هنا الإلقاء والتنزيل، وهو موافق للمعنى المراد لأنه من العلي الأعلى إلى عبده «وهو عَلَّامُ الْغُيُوبِ 48» خفيات الأمور وبواطنها «قُلْ جاءَ الْحَقُّ» الذي لا أحق منه وهو القرآن الذي جاء بالتوحيد والإسلام «وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ» بعد

[سورة سبإ (34) : الآيات 51 إلى 54]

ظهور الحق ووضوحه بشيء يقبل بل يذهب ويضمحل ولم يبق له إبداء أمر ما ابتداء «وَما يُعِيدُ 49» فلم يبق له إعادة أي فعل ثانيا وهذا المعنى مأخوذ من الهلاك وهو الموت فإن الحيّ إذا مات لم يبق له إبداء شيء ولا إعادته كما تقول لا يأكل ولا يشرب وتريد أنه ميت، قال عبيد بن الأبرص: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد وقال بعضهم إن المراد بالباطل هنا إبليس أي انه لا يبدي لجماعته خيرا ولا يعيده لهم وانه لا يخلق أحدا ابتداء ولا يعيده إذا مات لأن الباطل هو الصنم الذي لا ينفع ابتداء ولا يضرّ انتهاء وما جرينا عليه أليق بالمقام وأنسب بالمقال والله أعلم. ولما قال الكفرة إلى محمد صلى الله عليه وسلم قد ضللت بتركك دين آبائك أنزل الله ردا عليهم بما فيه تقرير الرسالة أيضا بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين الطائشين «إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» ويكون وباله عليها لأن النفس الكاسبة للشر الأمارة بالسوء تنال جزاءها، وهذا من باب التقابل لمثل كلامهم وإلا فالضلال عليه محال ولذلك جاء بأن التي هي للشك ونسب الضلال للنفس لأنها مجبولة على السوء «وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» من الحق الذي شرفني به والتوفيق الذي منحني إياه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالي مجيب لدعائي «قَرِيبٌ 50» مني ومن خلقه أجمع لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فيجازي الضال منا ويثيب المهتدي إذا شاء، ثم التفت إلى حبيبه وخاطبه بقوله عزّ قوله «وَلَوْ تَرى» يا حبيبي «إِذْ فَزِعُوا» هؤلاء الضّلال عند بعثهم من قبورهم وقد غشيهم الخوف والوجل وأخذتهم الدهشة وصاروا بحالة لا يعلمون ما يفعلون ولا يعون ما يتكلمون ولا يعرفون ما يشاهدون ولا يدرون أين يذهبون، وإذ ذاك «فَلا فَوْتَ» لأحد منهم من الله ولا نجاة من عذابه ولا مهرب من عقابه ولا خلاص من حسابه «وَأُخِذُوا» من قبل ملائكة العذاب «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ 51» من الأرض من تحت أقدامهم أو من الموقف الذين هم عليه وسيقوا إلى جهنم وزجّوا فيها جماعات ووحدانا لرأيت أمرا مزعجا أهابك مرآه وشيئا فظيعا وددت أن لا تراه «وَقالُوا» وهم في العذاب وقد عرفوا أن عقابهم هذا بسبب عدم الإيمان بك

وبكتابك وبربك «آمَنَّا» الآن «بِهِ» بذلك كله وطلبوا العودة إلى الدنيا ليقروا بإيمانهم لديك، ولكن فاتهم هذا إذ تركوه وراءهم «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ» لهذا الإيمان في الآخرة وقد فات وقته في الدنيا ولا يمكن العودة إليها ليتمكنوا من تناول ما يريدونه «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ 52» عنها إذ لا بعدا أبعد مما بين الدنيا والآخرة وكان تناول الإيمان في الدنيا قريبا منهم فأهملوه، والتناوش هو التناول عن قرب بسهولة قال الراجز: فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا وقال بعضهم إن التناوش أرادوا به الرجوع إلى الدنيا واستدل بقول الأنباري: تمنى أن تؤوب إلي مي ... وليس إلى تناوشها سبيل أي رجوعها، وعليه فلا مانع من تأويل التناوش هنا بالتئاول أيضا ويصح المعنيان أي كيف يتمكنون من تناوش الإيمان «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» في الدنيا لمّا كان ذلك ممكنا وقد جحدوه بطوعهم ورضاهم في الدنيا «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ» أي يقولون رجما بالغيب بأن محمدا كاذب وأن الله لم ينزل كتابا عليه وأن لله شركاء وأن الأوثان التي يعبدونها تنشفع لهم وأن لا بعث ولا حساب ولا عقاب وأن الملائكة بنات الله وأن محمدا ساحر كاهن وأنه لا جنة ولا نار وقولهم هذا «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» 53 عن الصدق وهو ناشىء من جهلهم بالله ومن مجرد ظنهم الفاسد ووهمهم الخائر، والمراد بهذه الآية تعظيم ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب لمحمد صلّى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الصدق والأمانة ولأن كفرهم بشيء لا يعلمونه كالبعث بعد الموت وما بعده من أمور الآخرة وقد غرتهم الدنيا بشهواتها «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» الآن من الرجوع إليها ليؤمنوا ويصدقوا بما جاءهم به نبيهم ويوحدوا الله ويتوبوا مما كانوا عليه ويعملوا صالحا ليتمتعوا بالجنة ذات النعيم الدائم كغيرهم من المؤمنين، وقد أنهكهم الندم على ما فاتهم في الدنيا من الإيمان الذي سبب حرمانهم من النعيم وأوصلهم إلى عذاب الجحيم، والله تعالى يعلم أنه لو أجاب طلبهم لما فعلوا، قال تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 28 من الأنعام المارة، لهذا لم يجب طلبهم وفعل بهم فعلا فظيعا «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ»

تفسير سورة الزمر عدد 9 - 59 - 39

نظرائهم من الكفار إذ لم يقبل طلب أحد منهم ولا إيمانه ولا توبته ولا تأخير العذاب عنه «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا حال يأسهم منها ولم يؤخر الله عذابا نزل على أحد ولم يقبل توبته حال اليأس أو البأس إلا قوم يونس في الدنيا راجع الآية 98 من سورته المارة تقف على الأسباب الداعية لذلك. أما في الآخرة فلا يجاب طلب أحد ما من ذلك كله أبدا لأنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة الفرصة بالدنيا وقد أخبروا فيها من قبل أنبيائهم أن لا مجال في الآخرة بقبول شيء من ذلك البتة حيث «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ» من وجود هذا اليوم ولم يصدقوا الرسل به بل كانوا في ريب «مُرِيبٍ 54» لشدة إنكارهم وجحودهم وعدم التفاتهم إلى نصح الرسل واتهامهم لهم بالكذب فكان جزاؤهم اليوم على أفعالهم في الدنيا لا دافع له ولا مؤخر وقد جف القلم به فتقطع أفئدتهم من سماع هذا الكلام ويكثر صياحهم في النار وحسرتهم على تفريطهم. هذا، ولا يوجد سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه، هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. تفسير سورة الزمر عدد 9- 59- 39 نزلت بمكة بعد سورة سبأ عدا الآيات 52 و 53 و 54 فإنهن نزلن بالمدينة، وهي خمس وسبعون آية والف ومئة واثنتان وسبعون كلمة، وأربعة آلاف وتسعمئة وثمانية أحرف وتسمى سورة تنزيل، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، ومثلها في عدد الآي الأنفال فقط. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: هذا «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر مقدر وبالنصب على أنه مفعول لفعل مقدر أي اقرأ هذا التنزيل الذي ينزل عليك يا محمد من قبل ربك من القرآن المدون في اللوح المحفوظ الثابت في أزلنا والذي قدر قديما إنزاله عليك «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 1» الذي يجري أمره وينفذ نهيه بمقتضى الحكمة بلا مدافع ولا ممانع، واعلم يا سيد الرسل «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هذا «الْكِتابَ بِالْحَقِّ»

الصريح الواضح وبمقتضاه «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ 2» من شوائب الشرك والرياء، وهذا مما يراد به غيره صلى الله عليه وسلم من أمته لأنه لا شك بإخلاصه وبعده من الإشراك ولا مانع بأن يخاطب الأمير ما يراد به من الجند لأن الملك لا يولي أميرا إلا وهو يعتقد حزمه وأمانته وقد يحذره الهرب والخيانة أمام جنده ليكون أبلغ إمضاء فيهم «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» من كل شائبة الكامل الذي لا أكمل منه «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» سخفا بعقولهم يقولون «ما نَعْبُدُهُمْ» لذاتهم «إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» يتمكنون به من الشفاعة لهم مع أنهم شابوا عبادة الله بعبادتهم، فاتركهم يا حبيبي الآن ولا تتعرض لهم بأكثر من النصح والترغيب «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين معبوديهم عند ما يأمرك بقتالهم وقسرهم على الإيمان كما يفصل بينك وبينهم يوم القيامة وحذف الثاني بدلالة الأول عليه قال النابغة: فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر إلا ليالي قلائل أي بين الخير وبيني وقال بعض المفسرين بينهم وبين المخلصين بالعبادة لله ويقرّب المعنى الأول قوله جل قوله «فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» لأنهم يوم القيامة يجحدون عبادتهم ويتبرأون منهم ويصير بينهم الرد والبدل في تكذيب بعضهم راجع الآية 41 من سورة سبأ والآية 44 من سورة الصافات والآية 130 من سورة الأنعام المارات والاختلاف على القول الثاني يكون في أمر التوحيد وأمر الشرك وادعاء كل صحة ما اتصف به ونتيجة حاله في إدخال المؤمنين الجنة والمشركين النار والكل جائز. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ» بقوله إن الأصنام تشفع له أو تقربه من الله لأنه كذب محض ولذلك وصفه بقوله «كَفَّارٌ 3» كثير الكفر وإنما دحضه بلفظ المبالغة لأنه كفر من وجوه: جحود وحدانية الله واثبات الشريك له واتخاذه ربا دونه، ومن كان هذا شأنه فالهداية لا تناله لأنه غير قابل لها والله تعالى لا يفيض القوابل إلا بحسب القابليات كما يشير إليه قوله عز قوله (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) الآية 50 من سورة طه في ج 1 وقوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الآية 84 من سورة الإسراء ج 1 أيضا وقولهَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الآية 33 من سورة النحل

الآتية لسيىء استعداده على قبول الضلال وعدم استعداده لقبول الهدى ختم عليه بذلك لأنه خلقه كذلك. قال تعالى (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) الآية 7 من الشورى الآتية وهذا من الأزل، لأنه حينما خلق الخلق قال هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل ميسر لما خلق له تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فهو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) الآية 7 من سورة السجدة الآتية، وهو الذي لا يسأل عما يفعل. قال تعالى «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» كما يزعمون، تعالى عن ذلك «لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا منازع له ولا معارض ولكنه لم يرد فامتنع أن يقال اتخذ ولدا «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتقدس عما لا يليق به «هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ» في ملكه المبرأ عن انضمام الأعداد والمتعالي عن التجزي والولاد «الْقَهَّارُ 4» لكل شيء المحتاج إليه كل شيء، وهذه مسوقه لتحقيق الحق الذي هو تنزيهه جل شأنه عن ذلك وإبطال القول بأن الملائكة بناته، ويدخل فيه ما نسبه أهل الكتابين من بنوّة عيسى وعزير عليهما السلام مضاهاة للعرب الذين نسبوا بنوة الملائكة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا وتقدس تقديسا عظيما ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، ومن هذا الباب نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه مطلقا، وحاصل معنى الآية والله أعلم: لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ. لكن لا يجوز على الباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض المكنات على بعض، وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الإلهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ، ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله (لَاصْطَفى) تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه تنزه عن ذلك، فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم واثبات الملزوم دون صعوبة. واعلم أن اتخاذ الولد يقتضي التبعيض وانفصال شيء من شيء ويقتضي المماثلة أيضا بين الولد والوالد، هذا وإن الوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعيض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواطى الحكم، وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية

سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه الجبائي وأضرابه من قدماء المعتزلة وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية، أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه. هذا ويفهم من لفظ القهار الذي ختمت به هذه الآية الزجر والتهديد لأولئك المتخذين إلها غير الله الناسبين إليه الولد، وفائدة هذا الزجر والتخويف ليرتدعوا عن القول بذلك وإنما اقتصر على التهديد فقط مع أنهم يستحقون أكثر منه لأن علاج الرجل المصر على بطله أن تأتي له بما يزيل الإصرار عن قلبه حتى يسمع الدليل ويعيه فيفضي إلى المقصود، ولهذا فإن الطبيب يتقدم إلى المريض أولا يسقى بشيء منضج ليفتت ما في أمعائه ثم بالحقنة لإخراج تلك الفتات التي كانت متحجرة فيها ثم بالمسهل لإفراغ تلك الأمعاء وتطهير المعدة مما كان فيها إذ لو أعطاه المسهل رأسا لما نفعه بل قد يضره لأن المواد الفاسدة اليابسة لا يؤثر عليها وإذا لم تخرج هذه لا يتيسر لمسهل التطهير بل قد لا يتيسر له الخروج أيضا فتمتلىء الأمعاء فتتلاشى ويحصل الموت بالأجل المقدر على هذا، فإجراه التهديد أولا يجري مجرى المنضج والتفتيت واسماع الدليل بعده يجري مجرى الحقنة وقبول ذلك يجري مجرى المسهل تدبر. قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» خلقا مشتملا على الحكم والمصالح بالعدل والصواب «يُكَوِّرُ» يلف ويغيّب ويغشي «اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ» إذا طرأ عليه، إذ يضمحل فيه ولا يبقى له أثر «وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ» إذا حدث عليه فيفعل فيه ما فعل فيه التكوير هو اللف واللّي يقال كار العمامة وكوّرها على رأسه إذا لفها ولواها شبه سبحانه تغيب أحدهما بالآخر بشيء ظاهر غشيه ما غيبه عن الرؤية بحيث يلبسه مكانه لاشتماله عليه، ومن قال إن المعنى يحمل أحدهما على الآخر فتحصل الزيادة والنقصان فيهما فقول لا يتجه هنا بل يكون في تفسير قوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية 13 من سورة فاطر المارة في ج 1، ونظيرها في الآية 27 من آل عمران والآية 6 من سورة الحديد في ج 3، ولا يخفى أن الإيلاج غير التكوير

لفظا ومعنى «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عنده وسيبقى هذا الجريان مستمرا حتى إذا أراد خراب هذا الكون فرطه، وكما أن هذا الجريان لأجل معين فهو لمكان معين وبطريق معروف أيضا لا يزيغ عنه قيد شعرة وبانتظام تام على مر الأعوام فسبحانه من مدبر مبدع علام، فانتبهوا أيها الناس لهذا الإله «أَلا هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب كامل القدرة لا مثيل له «الْغَفَّارُ 5» كثير المغفرة واسع الرحمة عظيم الفضل كثير الإحسان لمن تفكر واعتبر بمصنوعاته، كما أنه قاصم الرقاب ومهلك ألباب من لم يتعظ ويتدبر بآياته ومبتدعاته فهو الإله الواحد العظيم الذي «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» حواء رضي الله عنها لأنه خلقها من ضلعه فهو من تراب وهي من عظم ولحم ودم وسائر الخلق من النطف والتكوين سبحانه نوع خلقه أربعة أنواع متقابلة، خلق آدم بلا أب ولا أم وحواء من أب بلا أم وعيسى من أم بلا أب وبقية البشر من أب وأم «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» لما كانت الأنعام لا تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، والماء ينزل من السماء، قال تعالى (وَأَنْزَلَ) أي أحدثها وأنشأها بأسباب نازلة من السماء كالأمطار والثلوج وأشعة الكواكب الناشئ عنها العشب الذي تقتات به الحيوانات، وهذا على حد قوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية 26 من الأعراف في ج 1، لأن اللباس نفسه لم ينزل من السماء وإنما أنزل الماء فأنبت القطن وغيره من كل ما ينسج والنبات الذي غذى متنه الحيوان الذي يحصل منه الصوف والشعر والوبر وغيره وأنعش دود القز وشبهه الذي يحصل منه الحرير وغيره فاتخذت الألبسة منها، وقال بعضهم معنى (أَنْزَلَ) قضى وحكم وقسم، وأراد بأن قضاء الله تعالى وقسمه يوصف بالنزول من السماء لأنهما مدونان باللوح المحفوظ وكل ما يقع في الكون فهو نازل مما هو مكتوب فيه، وهو كما ترى «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» تقدم بيانها في الآية 143 من سورة الأنعام المارة «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» أنتم وأنعامكم وغلب في الخطاب من يعقل على من لا يعقل لشرفه عليه. واعلم أن مخلوقات الله تعالى ما يكونه تكوينا فيكون بنفسه من غير البطن وهذا داخل في لفظ الخلق ويكون

خلقه تدريجا حتى يكمل فيدخل في قوله تعالى خلقا من بعد خلق أما الإنسان وقسم من الحيوان فيكون «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» في الرحم المشتمل عليه البطن من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم وعظم «فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهي الجلدة الرقيقة التي تشتمل على الجنين «ذلِكُمُ» أيها الناس الذي يفعل هذه الأشياء وغيرها مما لا يطيق على جزء بعضه أعظم البشر ولو كان بعضه لبعض ظهيرا هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» كله وحده «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» الذي لا يستحق العبادة غيره فهو المعبود الحق «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 6» أي كيف تعدلون عن الحق إلى الباطل بعد أن اتضح لكم. ولهذا البحث صلة في الآية 12 من سورة المؤمنين الآتية والآية 4 من سورة الحج في ج 3، واعلموا أيها الناس أنكم «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» وأنتم محتاجون إليه «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» لأنه يؤدي بهم إلى النار، ولذلك ينهاهم عنه ويرضى لهم الإيمان المؤدي إلى الجنان ولذلك يأمرهم به، والرضى بالشيء مدحه والثناء عليه والله تعالى قد ذم الكفر وقبحه وحبذ الإيمان ومدحه، والفرق بين الإرادة والرضى ظاهر وإن إرادته منهم لا يعني أنه أمرهم به أو رضيه عنهم، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارّة وما ترشدك إليه تقنع «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (يقرأ باختلاس ضم الهاء حتى يرضه لا بالإشباع) لأن في الرضا نجاتكم من العذاب وفوزكم بالجنة، ويفهم من هذه الآية أن الله تبارك وتعالى أراد بالشكر هنا الإيمان لمجيئه بمقابلة الكفر، غير أنه إذا فسر الكفر فيها بكفران النعمة والشكر بشكرها أولى لأن الآية عامة وابقاء اللفظ على عمومه أولى من تخصيصه بدون صارف يصرفه عن عمومه ولكن لم أر من قال به ولذلك قدمنا ما عليه الجمهور والاتباع خير من الابتداع «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» تقدم تفسيرها في الآية 18 من سورة فاطر والآية 38 من سورة والنجم في ج 1 والآية 164 من سورة الأنعام المارة «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» في الدنيا ويجازيكم عليه دون حاجة إلى سؤال أو اعتراف أو شهود «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 7» ومن كان عالما بخفيّات الأمور

مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه:

وسرائرها فهو بعلانيتها وظواهرها أعلم «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من كل ما يتضرر به الإنسان أو يتألم منه مادة ومعنى «دَعا رَبَّهُ مُنِيباً» راجعا خاضعا خاشعا مستغيثا «إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ» أعطاه وأعاره وراعاه ومعنى خوّله جعله ذا خول أي عبيد وإماء وخدم وأصله تعهد الشيء والرجوع إليه مرة بعد أخرى والمحافظة عليه وأطلق على العطاء «نِعْمَةً مِنْهُ» تفضلا منه لا لغرض ولا لعوض «نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» وهو الضر وترك الدعاء أيضا بكشفه، ولم يكتف بهذا الصدود عن ذلك المنعم بل مال إلى الافتراء عليه «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا صيرها آلهة معه ولم يقتصر على ضلاله بل عمد «لِيُضِلَّ» غيره «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق القويم، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهذا الكافر وهو على ما قيل عتبة بن ربيعة أو حذيفة المخزومي «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا» في هذه الدنيا الفانية لأنها بالنسبة للآخرة قليل ومهما عاش بها ابن آدم أو ملك منها فهو قليل وقد تهون بعين المؤمن إذ يرجو عند ربه خيرا منها وتعظم بعين الكافر لكونه صفر اليدين في الآخرة إذ يقال له فيها «إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ 8» أجارنا الله منها، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه ومن قال بأنها نزلت في أحد المذكورين فقوله لا يخصصها لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ كما أن قوله تعالى «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» عامة أيضا في كل من كان ديدنه ذلك. وما جاء أنها نزلت في أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم وكلهم أهل لأن ينزل فيهم قرآن وأن يوصف بما في هذه الآية لا يخصصها أيضا «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» استفهام إنكاري أي لا يستوون عند الله وعند عقلاء الأمة لأن العالم من ينتفع بلبّه لقوله تعالى «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ 9» بآيات الله والجهال لا قلوب لهم حيّة تعي ذلك فلا يتذكرون ولا يذكرون. مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه: يستدل من هذه الآية أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى لأنه أضيف في هذه الآية الحذر في مقام الخوف للنفس الإنسانية، وأضيفت الرحمة

في مقام الرجاء إلى الحضرة الربانية، ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت (أي محتضر) فقال له: كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلّى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه تعالى ما يرجو وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي- فيجب على المؤمن أن يكون دائما بين الخوف من عقاب الله بالنظر لتقصيره تجاهه والرجاء لرحمته بالنظر لواسع فضله، وفي حالة الصحة يرجح الخوف على الرجاء، وفي حالة الشدة يغلب الرجاء على الخوف، ولا ينبغي أن يبالغ في الرجاء فإنه إذا جاوز حده يكون أمنا والله تعالى يقول (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الآية 99 من سورة الأعراف المارة في ج 3، ولا يبالغ في الخوف فإنه إذا جاوز حده يكون يأسا وقال الله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) الآية 87 من سورة يوسف المارة، وافتتح الله تعالى هذه الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات وهو البداية في سلوك طريق الله السوي والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية لبلوغ المقصد العلي فإذا حصلا للإنسان دل ذلك على كماله وفضله، قال تعالى «قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ» بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل بعد الإيمان والتقوى «فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» عظيمة في الآخرة لا مثيل لها ولا توصف لأنها من قبل من ليس كمثله شيء «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» لا تضيق بكم فإذا رأيتم جورا في قسم منها فاتركوه وانزلوا غيره، وهذه أول آية عرّض الله بها إلى رسوله بالهجرة من مكة لأنها ترمز إلى أنه إذا لم يتمكن الإنسان من فعل الإحسان الذي أمره ربه به في وطنه فليهجرها ويهاجر إلى غيرها من بلاد الله تعالى مما يمكنه إجراء ما أمر به من العبادة كما فعل الأنبياء والصالحون من قبل إذ تركوا أوطانهم التي أهينوا فيها لأجل الله وتوطنوا غيرها، فلا عذر لكم بأن لا تحسنوا في أعمالكم وأقوالكم بسبب بقائكم بأرض يمنعكم أهلها من ذلك، واصبروا على مبارحة دياركم ومفارقة تعلقاتكم من أهل ومال وجاه ونشب وعشيرة «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ» عند الله الذين صبروا من أجله «بِغَيْرِ حِسابٍ 10» بشيء كثير

[سورة الزمر (39) : الآيات 11 إلى 20]

لا يعرف حسابه ولا يهتدي إليه حاسب، وذلك لأنهم صبروا على الجلاء طاعة لله تعالى وطلبا لازدياد فعل الخير ولئلا يفرطوا بأوقاتهم دون أن يقدّموا لله تعالى بها حسنات، قال علي كرم الله وجهه: كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابر فإنه يحثى له حثيا. وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل. وهذه الآية عامة مطلقة محكمة ولا تزال كذلك إلى آخر الزمان، وما جاء من الآثار بأنها نزلت في سيدنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة لأرض الحبشة لا يقيدها ولا يخصصها لما تقدم آنفا في الآية 8 و 10، وعلى هذا فإنه يجب على كل من لم يتمكن من القيام بأمر دينه كما ينبغي في بلدة ما أن ينتقل إلى غيرها لإقامة شعائر دين الله كما هو مفروض عليه ولا عذر له بالتفريط لأن الله تعالى لم يضيق عليه ولم يقسر خلقه على الإقامة في بلد واحد بل وسع عليهم بالنقلة وجعلهم بالخيار، فأي قرية أراد الإقامة فيها لأمر دينه ودنياه أيضا فله ذلك وجاء في الخبر عن سيد البشر أن من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة. فعلى العاقل البصير المتفكر أن لا يصغي لوساوس الشيطان من تخويفه بضيق العيش قال تعالى (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) الآية 100 من سورة النساء في ج 3، ولهذا البحث صلة واسعة في تفسيرها وفي الآية 55 من سورة العنكبوت الآتية إن شاء الله القائل «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ 11» وحده لا لغيره ولا تكرار في هذه الآية لأن الأولى خطاب من الله إلى رسوله، وهذه أمر من الله إليه بأن يفهم قومه غاية عبادته وأن يقول لهم أمرت بالإخلاص لعبادته فأخلصوا أنتم العبادة إليه «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ 12» من هذه الأمة كما كان جدي إبراهيم عليه السلام راجع الآية 163 من سورة الأنعام المارة والآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3، فاتبعوني وأسلموا لله تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة، «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» في هذه الدنيا بعدم تبليغكم ما أمرني به «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 13» وهو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا،

وقدمنا في الآية 15 من سورة الأنعام نظير هذه الآية وانها نزلت حين قال كفار قريش لحضرة الرسول ما حملك على ما أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها ليجتمع عليك فخذك وعشيرتك ومن والاهم فأنزل الله هذه الآية وفيها مزدجر عظيم لمن ألقى السمع لمعناها وكان له قلب يعي مغزاها لأنه صلّى الله عليه وسلم مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته وعلو مقامه ومنصبه خائف حذر من هول ذلك اليوم ووجل مما يكون فيه فكيف بنا يا ويلنا إن لم يرحمنا الله، ثم أكد عليه ربه بقوله «قُلِ» لقومك الذين يريدونك على دينهم الباطل لا أتبع أهواءكم وإنما أعبد «الله مُخْلِصاً لَهُ دِينِي 14» لا أرغب في عبادة شيء غيره وإن ما يعبده آبائي وقومي باطل وإنكم على ضلال باتباعهم، أخبر الله سبحانه في هذه الآية أنه صلّى الله عليه وسلم يخص الله وحده بعبادته ويخلص لجلاله دينه، وفي الآية الأولى أي الثانية بالنسبة للآية التي بصدر هذه السورة أنه مأمور بالعبادة والإخلاص لله تعالى فلا تكرار أيضا لأن الكلام أولا واقع في نفس الفعل وإتيانه، وثانيا فيما يفعل الفعل لأجله، ولهذا رتب عليه قوله جل قوله «فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» ففيه الخسار العظيم والوبال الشديد عليكم، وهذه الجملة فيها تهديد ووعيد وليست من باب الأمر بل من باب التبليغ والزجر يدل عليه قوله عز قوله «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» فهولاء الكاملون في الخسران الجامعون لوجوهه وأسبابه باختيارهم الكفر ورضاهم به وقد وصف الله تعالى خسرانهم بغاية الفظاعة بقوله سبحانه تنبيها لاجتنابه «أَلا ذلِكَ» الخسران المزدوج «هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ 15» لأن أهله استبدلوا الجنة بالنار والدرجات بالدركات في الآخرة كما استبدلوا الطاعة بالعصيان والتصديق بالجحود في الدنيا ثم بين نوعا من هذا الخسران فقال «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ» أطباق وأعطية «مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» فراش ومهاد، وهذا من باب اطلاق اسم الضدين على الآخر لأن الظلل لا تكون من تحت بحال من الأحوال لمعلوميتها كما تقول (خرق الثوب المسمار) برفع الثوب ونصب المسمار لمعلوميته أيضا إذ لا يكون الثوب خارقا للمسمار بحال ما البتة.

مطلب المراد بالتخويف للمؤمنين والأخذ بما هو أحسن وأنواع البشارات للمؤمن:

مطلب المراد بالتخويف للمؤمنين والأخذ بما هو أحسن وأنواع البشارات للمؤمن: «ذلِكَ» العذاب الشديد «يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ» المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتخويف، فإذا سمعوا ما نعى الله من حال الكفار في الآخرة الذين رجحوا الباطل على الحق وأهلكوا أنفسهم وأهليهم الذين اتبعوهم على ما هم عليه اشتدّ وجلهم وأكثروا من إخلاصهم لربهم وبالغوا في توحيده وداوموا على طاعته وأكثروا من تمجيده، ولهذا فإنه تعالى قد شرفهم بإضافتهم لذاته المقدسة فناداهم حرصا عليهم «يا عِبادِ فَاتَّقُونِ 16» واجعلوا خشيتي نصب أعينكم ولا تتعرضوا إلى سخطي فقد حذرهم نفسه بعد أن خوفهم ناره التي وعدها لعصاته، وقال بعض المفسرين إن التخويف خاص بالكافرين طلبا للإيمان به، ولكن ما جرينا عليه أولى لئلا يختلف المراد من الجملة الثانية عن الأولى إذ لا شك أن المراد بالثانية المصدرية (يا عِبادِ) المؤمنين خاصة كالآية الأولى ونظيرها الآية 41 من سورة الأعراف في ج 1، وقال بعض المفسرين: المراد بالآية المؤمنون والكافرون، وهو وجيه لولا إضافة التشريف والاختصاص لجنابه المنيع، وهناك قول بأن الإضافة لا تختصّ بالمؤمنين فقط وإن كان فيها ما فيها من التشريف الذي يختص به المؤمنون غالبا لأن الكل عباده وقد استدل صاحب هذا القول بقوله تعالى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الآية 5 من سورة الإسراء في ج 1، وهم ليسوا بمؤمنين وقد بينا المراد بها فراجعها، قال تعالى «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها» تباعدوا عن عبادتها لأن أن وما بعدها في تأويل المصدر والطاغوت مبالغة الطغيان راجع الآية 74 من الأنعام المارة، فتجافوا عنها «وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ» رجعوا بكليتهم إليه وتركوا تقليد آبائهم بعبادتها عن رغبة وإخلاص فهؤلاء «لَهُمُ الْبُشْرى» من قبل رسلهم بالجنة عن إيمانهم ومن قبل المؤمنين بالثناء عليهم بالأعمال الصالحة في الدنيا وتبشرهم الملائكة بثوابها عند موتهم فتقرّ أعينهم وفي قبورهم أيضا تبشرهم بالأمن من عذابها وفي الموقف عند بعثهم تتلقاهم بالبشارة بالخلاص من هوله وفزعه وبعد الحساب تبشرهم بالفوز والنجاة وعند الصراط تبشرهم بالسلامة وعند دخول الجنة تبشرهم بالدرجات العالية، اللهم اجعلنا منهم. ثم خاطب حبيبه بقوله يا سيد

الرسل «فَبَشِّرْ عِبادِ 17» ثم خصّهم بقوله «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» مطلق عام في كل قول ولا وجه لتخصيصه بالقرآن العظيم كما ذكره بعض المفسرين بلا دليل يستند إليه «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» مدحهم الله جلّ مدحه لتمييزهم بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم ما هو واجب فعله وما هو مندوب اختاروا الواجب، وإذا اعترضهم مكروه ومباح اختاروا المباح، وكذلك يختارون ما هو أكثر ثوابا، فيتركون الانتقام لأنفسهم ممن ظلمهم مع القدرة عليه ويركنون للعفو عمن تعدى عليهم مطلقا، ويختارون العفو على القصاص، ويميلون إلى التصدق بالفضل عن الصدقة المفروضة، وهكذا يميلون إلى الأحسن عند الله ولو فيه هضم حقهم. وليعلم أن ما أمر الله به ورسله كله حسن وقد يكون فيه أحسن بحسب التفاضل بالعمل به من حيث كثرة الثواب وإذلال النفس كما في العفو عن القصاص والتصدق بالفضل وتكرار الحج والإكثار من صلاة النّفل وذكر الله والأخذ بالعزيمة وترك الرخص وما أشبه ذلك راجع الآية 145 من سورة الأعراف في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا، وما هو موافق لشرعنا من الشرائع القديمة، وما هو مخالف له، وله صلة في الآية 42 من سورة الشورى الآتية وفي الآية 55 من هذه السورة أيضا. هذا، وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما من أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد حينما جاءوا على أبي بكر رضي الله عنهم جميعا وأخبرهم بإيمانه وآمنوا كلهم لا يخصصها فيهم بل هي عامة في كل محتسب تائب نائب إلى ربه. واعلم أن هؤلاء السبعة والسادة عمر وعلي وعامر بن الجراح هم العشرة المبشرون بالجنة الفائزون بخير الدنيا والآخرة، وقد سألت الله أن يحشرني مع سعد بن أبي وقاص عند تفسير الآية 14 من سورة لقمان المارة والآن أوكد رجائي من ربي بذلك «أُولئِكَ» الموصوفون هم «الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ» إلى طريقه المستقيم فوحدوه وعبدوه ومجدوه كما ينبغي لذاته المقدسة «وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ 18» القلوب الواعية المنتفعون بعقولهم، قال تعالى «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ» بنص قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية 120 من سورة هود المارة وقوله في الحديث القدسي:

[سورة الزمر (39) : الآيات 21 إلى 30]

(هؤلاء إلى النار ولا أبالي) ممن اختاروا الكفر على الإيمان والضلال على الهدى فاستحقوه، أيقدر أحد أن ينجيهم منه كلا «أَفَأَنْتَ» يا حبيبي تقدر «تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ 19» كلا لا تستطيع ذلك البتة لدخولهم في حكمه الأزلي ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، قال ابن عباس يريد به أبا لهب ولكن الآية عامة كما ترى يدخل فيها كل من حقت عليه كلمة العذاب من جميع الكفار لأنها مسوقة في أضداد الموصوفين بالآية المتقدمة التي حكمها عام أيضا، قال تعالى «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ» هذا استدراك بين ما ليشبه النقيضين والضدّين وهم المؤمنون والكافرون وأحوالهما، والمراد بالمتقين هنا الموصوفون بتلك الخصال العالية والأخلاق السامية «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ» جمع غرفة وهي العلّية «مَبْنِيَّةٌ» بعضها فوق بعض «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام الزينة وكمال النظارة لا لحاجة الشرب لأن أهل الجنة لا يكلفون السقيا منها فإذا أرادوا الشرب ناولهم الخدم ما يشتهون من أنواع الأشربة، وهذا الذي ذكر من الإكرام للمتقين هو «وَعْدَ اللَّهِ» لهم بذلك على لسان رسلهم وعدا مؤكدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ 20» الذي وعده عباده وحاشاه من ذلك وهو الآمر عباده بإنجازه. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من الغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم، فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» بحسب ما نرى راجع الآية 44 من سورة هود المارة «فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ» أنهارا وعيونا وجداول وبركانا تخرج من عروق الجبال والأرض كعروق الجسد في الحيوان التي تجري فيها الدماء «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ» بالماء النازل على وجه الأرض أو بالمستقر بالبرك والعيون والجاري في الجداول والأنهار إذا سقى به الأرض بالدلاء والنواعير والآلات الحديدية والسيح وغيره «زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» أخضر وأسود وأزرق وأبيض وأحمر وأصفر وما بين ذلك من الألوان، لأنك إذا مزجت بعضها ببعض يظهر منها ألوان أخر

لأن أصل الألوان أربعة: أبيض وأسود وأحمر وأخضر، فإذا مزجت الأبيض مع الأحمر صار أخضر وهكذا «ثُمَّ يَهِيجُ» يثور والمراد بالهيجان هنا والله أعلم أن يجف وييبس وهذا من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا تم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته وانه بعد تلك الألوان البهية المختلف أزهارها «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» إذ تحيل لونه الكواكب والأرياح بما يضع الله فيها من التأثير وهو الملك القدير الذي أنبته من لا شيء «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً» هشيما مفتتا بعد ما كان يهتزّ بالأرض الرابية به المزدهرة بنوّاره «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإنزال والإدخال والإخراج والإنبات والألوان والجفاف والتفتيت «لَذِكْرى» عظيمة وعبرة كبيرة وعظة جسيمة «لِأُولِي الْأَلْبابِ 21» المنتفعين بعقولهم المستدلين بها على كمال قدرة الإله العظيم وفي إعادة هذا الزرع بعد يبسه وفتاته دليل على البعث بعد الموت، قال تعالى «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فاهتدى به «فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» وبصيرة ويقين من أمره وهذا ليس كمن طبع الله على قلبه فقسى وضل والعياذ بالله فتاه في ظلمات الجهل «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» والقسوة جمود وصلابة في القلب ومما يزيدها كثافة الغفلة عن ذكر الله تعالى ومما يصقلها وينورها دوام ذكر الله، وإذا كانت النفس خبيثة الجوهر لا يزيدها سماع ذكر الله إلا كدورة لتراكم الرّين عليها وتلبد الصدأ، وإذا كانت طيبة الجوهر فذكر الله يصقلها ويرققها ويلينها لطهارتها ونظافتها وذلك كالشمس فإن حرارتها تعقد الماء ملحا وتلين الشمع الجامد وقد تذيبه بالنظر لجوهر كل وقابليته، هكذا ذكر الله وتلاوة كتابه إذا سمعها الكافر إزداد قلبه قساوة وجحودا وإذا سمعها المؤمن ازداد قلبه لينا ورقة وفناء في الله بحسب جوهر كل وقابليته، يؤيد هذا قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ... وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآية 114 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3 فراجعها «أُولئِكَ» قساة القلوب «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 22» لا خفاء عليه، إذ حقت عليهم كلمة العذاب، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الفريقين فيها، وما جاء أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأبيّ بن خلف الزنديق أوفي حضرة الرسول الكامل وأبي جهل العاطل

أو في علي وحمزة وأبي لهب وولده لا يقيدها عن إطلاقها ولا يخصصها عن عمومها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيها من شرح الله قلبه للإسلام من المشار إليهم وغيرهم وقساة القلوب المذكورون وأضرابهم دخولا أوليا وتشمل كل من على شاكلة الفريقين المرضي عنهم وعليهم والمغضوب عليهم من ساعة نزولها إلى قيام الساعة، وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية 125 من سورة الأنعام المارة ففيها ما يشفي الغليل ويكفي النبيل، قال تعالى «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» هو القرآن لأنه فاق ما تقدمه من الكتب والصحف كلها فضلا عن الأحاديث النبوية من جهة اللفظ، لأنه أفصح وأجزل وأبلغ في كل كلام، ومن جهة المعنى لأنه منزه عن التناقض والاختلاف، ومن جهة المضمون لاشتماله على كل ما أنزل الله عن الأنبياء السالفين، ومن جهة الإعجاز لأن الله تعالى تحدى بسورة منه الإنس والجن ومن جهة الأخبار بالغيب لأنه أخبر عما وقع قبل نزوله وأشار لما يقع بعد، ولفظ الحديث في الآية كناية عن أنه كلام محدّث به لا بمعنى أنه مقابل للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام اللفظي لا لكلام الله الأزلي الخالي عن الصوت والحرف، لأن كلام الله قديم كذاقه والكلام في هذا يجر إلى الكلام بخلق القرآن وعدمه وقد عقدت له مطلبا خاصا في المقدمة فراجعه. وقد يطلق لفظ الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت. ثم وصف قوله أحسن الحديث لكونه «كِتاباً مُتَشابِهاً» في وعظه وحكمته وإعجازه وآياته ليصدق بعضه بعضا وكونه «مَثانِيَ» يثنى بالتلاوة ويكرر فيه الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والأمثال والأحكام «تَقْشَعِرُّ» ترجف وتضطرب وتتحرك «مِنْهُ» من سماعه والنظر إليه «جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» عند سماع آيات العذاب والوعيد والتهديد، والاقشعرار هو تقبض الجلد تقبضا شديدا عند عروض خوف شديد ودهوم أمر هائل بغتة فيقال اقشعر جلده وقف شعره وقلوبهم أيضا تقشعر بدليل قوله «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» عند سماع آيات الرحمة.

مطلب في الصعق الذي يحصل لبعض الناس عند تلاوة القرآن وسماع الذكر:

مطلب في الصعق الذي يحصل لبعض الناس عند تلاوة القرآن وسماع الذكر: روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اقشعر جلد المؤمن وفي رواية العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها. وروي عن عبد الله ابن عروة بن الزبير قال لجدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قال فقلت لها إن أناسا اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أنها استنكرت ما سمعته. وروي أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا؟ قالوا إنه قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر الله فسقط، قال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط، يريد انتقادهم. وقال ما كان هذا صنيع أصحاب محمد قال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن من أوله إلى آخره (أي بحضوره على تلك الصفة) فإن رمى بنفسه فهو صادق. وقال عبد الله بن الزبير: جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت لا تقعد معهم. ثم قالت رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر. وقال قتادة في هذه الآية: إن الله نعت أولياءه بالقشعريرة والبكاء واطمئنان القلب إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا من أهل البدع، وإنما هو من الشيطان. وقال ابن جبير الصعقة من الشيطان. واعلم أن هذه الأخبار وأمثالها تنعى على السادة الصوفية صعقهم وتواجدهم وضرب رءوسهم بالأرض وأيديهم بعضها ببعض عند سماع القرآن وبأثناء الذكر والقصائد الإلهية والمحمدية وما هو منها في ذكر بعض الأكابر من العارفين، وعذرهم في ذلك حسبما تقوله مشايخهم لضعف القلب عن تحمل الوارد من معاني الآيات والأذكار وأوصاف الكاملين وما وقع منهم أو عليهم، فإن من يقع منه ذلك ليس في الكمال والمناقب كأصحاب رسول الله والتابعين في الصدر الأول لضعف قوة تحملهم، وهو دليل نقصهم عن مراتب الكمال، لأن

السالك لطريقهم إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك، ويقولون ليس في هذه الآية وشبهها أكثر من اثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي اعترائهم حالة أخرى، بل في الآيات إشعار بأن المذكور فيها حال الراسخين الكاملين لقوله تعالى (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية. وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك ومن حمل الأمر على غير الكاملين أجاز وقوعه من غيرهم ومتى ما كان الأمر ضروريا فلا اعتراض على من يتصف به وإنا نرى وقوع هذا كله من بعض المريدين لا منهم كلهم ولم نر هكذا أحوالا من مشايخهم بما يدل على أن الوصول لدرجة الكمال تحول دون ذلك أما ما يقع من بعض المتصوفة رياء وسمعة باختياره وقصده فذلك هو الذي تعوذت منه أسماء رضي الله عنها وقال فيهم قتادة وابن جبير وغيره ما قالوه آنفا، وقدمنا في الآية 43 من سورة المزمل ج 1 ما يتعلق بها فراجعه، وله صلة في الآية 31 من سورة الرعد في ج 3 وفي مراجعة هذا وذاك تعلم أن الصعق له أصل صحيح في الشرع فسلم له وإياك أن تعترض على هؤلاء السادة فإن لحومهم مسمومة والله تعالى ينتصر لهم لأنهم أولياؤه، وقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وإن الله جلت عظمته لم يطلب محاربة أحد من عباده عدا صنفين هؤلاء وأكلة الربى إذ يقول جل قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ) الآية 280 من سورة البقرة في ج 3. هذا وقد يكون من هؤلاء السادة من لا ناصر له إلا الله وقد حذر حضرة الرسول من ظلم من لا ناصر له، وروي عنه أنه قال: اشتد غضب الله على من ظلم من لا يجد ناصرا غير الله، وروى الطبراني في الكبير والضياء في المختار وابن أبي عاصم والخرائطي في مساوئ الأخلاق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين «ذلِكَ» الحديث الحسن هو «هُدَى اللَّهِ» وقرآنه المنزل على رسوله من اللوح المحفوظ وكلامه الأزلي «يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ» هدايته إلى دينه القويم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» من قساة القلوب «فَما لَهُ مِنْ هادٍ 23» يهديه البتة، قال تعالى «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ

الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بالأعمال الصالحة التي قدمها في دنياه كمن هو آمن منه كلا ليس سواء لأن غير المتقي ظالم وفي ذلك اليوم يهلك الظالمون بدليل قوله عز قوله «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ» من قبل خزنة جهنم «ذُوقُوا» هذا العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 24» في الدنيا من الآثام، قال تعالى يا أكمل الرسل لا تحزن على ما ترى من قومك فقد «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» رسلهم كما كذبوك هؤلاء «فَأَتاهُمُ الْعَذابُ» من عندنا بعد إصرارهم على الكفر بغتة «مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 25 على حين غفلة وساعة غرة من حيث لا يخطر ببالهم وقوعه وفي حالة لا يتوخون بها حدوثه «فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ» الذل والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» وأشد وأعظم «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 26» ذلك علما يقينا لآمنوا واعتبروا من قبلهم ولما عبدوا ما لا يعقل ولا يبصر ولأخلصوا عبادتهم للإله الواحد ولما مسهم السوء. قال تعالى «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» يحتاج إليه الناظر في أمور الدنيا والدين «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27» ولم يتذكروا لأنهم لم يشغلوا حواسهم فيما خلقت لها فطمس الله عليها وحرمهم فوائدها وجعل هذا القرآن «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف وأنزله على خير رجل منهم ومن جنسهم «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 28» الكفر والتكذيب وقدم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية لأن الإنسان إذا تذكر وعرف الشيء ووقف على فحواه اتقاه واحترز منه واجتنبه، قال تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) متنازعون بخدمته يتجاذبونه بينهم لسوء أخلاقهم وقلة آدابهم (والشّكس السيء الخلق) «وَرَجُلًا» عبدا مملوكا أيضا «سَلَماً لِرَجُلٍ» خاصا له وحده «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» أي لا يستويان في الصفة والحالة، لأن الاستفهام هنا إنكاري لا يجاب إلا بالنفي «الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 29» أن الله تعالى وحده هو المستحق للعبادة وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة متعددة فلا يعلم أيهم يرضى منه وأيهم يسخط والمؤمن الذي يعبد الله وحده فهو على بينة من أمره. وليعلم أن إيراد المثل في

[سورة الزمر (39) : الآيات 31 إلى 40]

القرآن هو للتذكر والاتعاظ به والمراد بضربه لتطبيق حالة عجيبة بأخرى شبهها وجعلها مثلها، وعليه يكون المعنى أن الله تعالى يقول لرسوله اضرب لهم هذا المثل واسألهم أي هذين أحسن وأحمد «إِنَّكَ» يا سيد الرسل «مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30» نزلت هذه الآية في كفرة قومه صلّى الله عليه وسلم الذين كانوا يتربصون موته ليتخلصوا منه قاتلهم الله، كيف وهو إنما أرسل رحمة لهم وكان يجهد لنفسه ليخلصهم من عذاب الله؟ يقول الله تعالى له لا يتمنوا لك يا حبيبي الموت فكلهم ميت ولا شماتة في الموت لأنهم مثلك يموتون كما تموت ولا سواء لأنك تلاقي ربك في جنته وهم يلاقون العذاب بناره والميت بالتشديد والتخفيف من حل به الموت وأنشد أبو عمرو: تسألني تفسير ميت وميّت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل فمن كان ذا روح فذلك ميّت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل راجع الآية 9 من سورة فاطر في ج 1 لتستوفي هذا البحث، قال تعالى «ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس بركم وفاجركم «يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ 31» مطلب الخصومة يوم القيامة وضمير صدق به ومراتب التقوى: لما نزلت هذه الآية قال الزبير يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان منا في الدنيا؟ قال نعم، فقال إن الأمر إذا لشديد. رواه عبد الله بن الزبير وأخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم حنين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا. وعن إبراهيم قال لما نزلت هذه الآية قالوا كيف نختصم ونحن اخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا. وقال ابن عمر: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين وقلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت بأنها فينا نزلت. وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت عنده مظلمة لأخيه عن عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم

قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنبت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار. واعلم أن من الناس من يموت فيخلص الناس من شره، ومنهم من يموت فتبكيه الناس أجمع، فاحرص أيها العبد أن تكون الثاني. قال أبو الحسن الأسدي: مات رجل كان يعول اثني عشر ألف إنسان فلما حمل في النعش على أعناق الرجال حصل له صرير فقال رجل في الجنازة: وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أعناق قوم تقصّف وليس فنيق المك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلّف قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ» فأضاف له شريكا فجعل له بنين وبنات «وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ» الأمر الذي هو الصدق نفسه وهو ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم الصادق المصدوق «إِذْ جاءَهُ» على لسان نبينا وأميننا من لدنا فانتبهوا يا قوم «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ 32» أمثال هؤلاء بلى فيها منازل كثيرة لهم أجارنا الله منهم ومنها «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ» الوحي الحق من عندنا «وَصَدَّقَ بِهِ» آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم ومن تبعه مؤمنا وهذا المراد من ضمير به كما هو المراد في قوله تعالى (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الآية 54 من سورة البقرة في ج 3 أي هو وقومه، وهذا التفسير أولى وأنسب بالمقام لأن الأوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وهو غير جائز في العربية ويستدعي أيضا إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر له وهذا بعيد أيضا في النصيح، وقال بعض المفسرين إن ضمير به يعود إلى أبي بكر رضي الله عنه، وعليه يكون المعنى والذي جاء بالصدق يعني محمدا وصدق به يعني أبا بكر كما قال أبو العالية والكلبي وجماعة ويروونه عن علي عليه السلام وقال السدي وجماعة أيضا: إن ضمير به يعود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم وضمير جاء إلى جبريل عليه السلام. وقال مجاهد وجماعة: إن ضمير به يعود إلى علي كرم الله وجهه وضمير

جاء إلى محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال آخرون: إن ضمير جاء يعود إلى محمد وضمير به إلى المؤمنين. فهذه خمسة أقوال كل منها في المعنى صحيح لكن ما جرينا عليه هو الموافق لسياق الآية والله أعلم. «أُولئِكَ» محمد وأتباعه الذين اقتفوا أثره وماتوا على متابعته «هُمُ الْمُتَّقُونَ 33» العريقون في التقوى، وجاءت هذه الجملة بالجمع مع أن ما قبلها مفرد باعتبار دخول الأتباع تبعا، ولا يخفى أن مراتب التقوى متفاوتة ولحضرة الرسول أعلاها وأوفاها ومن بعده أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الأرقاء يلال ثم الأمثل فالأمثل رضي الله عنهم أجمعين، أو أنّ الموصول واقع صفة لموصوف محذوف تقديره الفريق أو الفوج الذي جاء بالصدق وصدق به فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى، أو أن اللام في والذي للجنس فيشمل الرسل والمؤمنين اجمع، يؤيد هذا قراءة ابن مسعود (والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به) ولكنها قراءة شاذة، إذ لم يتابعه أحد من القراء عليها لما فيها من زيادة الواو، وما قيل إنه قد يستعاض عنها بإشباع الضمة يجوز لو كان الأصل مضموما أما والأصل جاء مفتوحا فلا، وما قيل إن النون محذوفة من الذي والأصل الذين واستشهدوا بقوله: إن الذي جاءت يفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم مالك قال أبو حبان ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من المثنى كان الضمير مثنى أيضا كما قال: ابني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا فلو فرض جواز حذف النون أيضا لا يصح كما علمت، وعليه فالأصح هو الذي جرينا عليه على ما هو في المصاحف وقراءة أبي صالح وعكرمة ابن سليمان، وصدق مخففّا أي جاء وصدق به الناس بأنه أداه إليهم كما جاءه، فالضمير والموصول فيها عائدان لحضرة الرسول كما ذكرنا أيضا، وهناك قراءة أخرى (وَصَدَّقَ) على البناء للمفعول مشدّد أي صدقه الناس به وهي أيضا تؤيد ما قلناه، وقد ذكرنا غير مرة أن لا عبرة للقراءة المخالفة لما في المصاحف المدونة من لدن عثمان رضي الله عنه حتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله، فكل قراءة لا يوافق رسمها رسم ما في المصاحف

لا عبرة بها البتة أما ما كان موافقا بالحروف ومختلفا بالحركات مثل قراءة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية 46 من سورة هود المارة و (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) الآية 11 من سورة الحج ج 3 على الفعلية فهما أو المصدرية في الأولى والفعلية في الثانية والحالية والصفة أيضا فلا بأس فيها «لَهُمْ» لهؤلاء الذين مر ذكرهم من الخير والكرامة «ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن العظيم هو «جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 34» في أفعالهم وأقوالهم «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» في الدنيا «وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ 35» في الآخرة ويتجاوز عن سيئاتهم. وليعلم أن إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفصيل كما تقول الأشبح أعدل بني أمية ويوسف أحسن أخوته. هذا ولما كثر تهديد المشركين لحضرة الرسول وتجاهروا له بالعداء وخاف أصحابه أن يبطشوا به، إذ لم يبق من أقاربه من يقف بأعينهم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رحمها الله أنزل الله جل شأنه ما يثبت به قلوب أصحابه وينفي عنهم ذلك الرجل قوله عز قوله «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» محمدا عن الناس أجمع أعداءه وغيرهم وقادر على حفظه من أذاهم بلى وهو القادر على كل شيء، وقرىء عباده أي جميع الأنبياء كافة وذلك أن أقوامهم قصدوهم بالسوء أيضا فكفاهم الله شرهم وكافأهم بالحسنى، والقراءة هذه جائزة لما علمت أن المد والإشباع جائز، وهذا الاستفهام يجاب ببلى، لأن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على كلمة النفي أفادت الإثبات فيكون حكم الاستفهام فيها تقريريا كما هنا ولا يجاب إلا ببلى وإذا دخلت على الإثبات أفادت النفي، فيكون الاستفهام إنكاري ولا يجاب إلا بلا كما في قوله تعالى (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) الآية 10 من سورة إبراهيم الآتية، ومما يدل على أن الضمير في عبده يعود لحضرة الرسول خاصة دون عباده الآخرين على القراءة الأخرى قوله جل قوله «وَيُخَوِّفُونَكَ» يا سيد الرسل «بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» أي الأوثان وذلك لقول الكفرة يا محمد إن لم تكف عن شتم آلهتنا أصابك الخبل والجنون بسببها ولقد ضلوا بقولهم هذا مع ضلالهم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 26» يهديه ولا ينفعه الهدى لأنه مكبوب عند الله ضال من الأزل «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ» أبدا

لأنه ثابت في علم الله أنه مهتد ولا مبدل لما في علمه «أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ» غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع «ذِي انْتِقامٍ 37» من أعدائه ينتصف منهم لأوليائه، وهذا الاستفهام مثل الاستفهام السابق أي بلى هو كذلك، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» يا سيد الرسل أي هؤلاء الذين يخوفونك بأوثانهم وقلت لهم «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لظهور الأدلة على ذلك ووضوح البراهين لما تقرر عقلا وجوب انتهاء جميع الممكنات إلى واجب الوجود فإذا أجابوك ولا شك أنهم مجيبون بأن الذي خلقهن هو الله وإلا فأجبهم أنت بأنه هو الذي خلقهن وما فيهن فإنهم لا يعارضونك في ذلك «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من هذه الأوثان «إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ» فيسكتون خشية الكذب لأنه معيب في كل زمان عند كل ملة حتى ان قوم يونس عليه السلام كانوا يقتلون الكذاب، راجع الآية 97 من سورته المارة، ثم قل لهم أيضا «أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ» فيسكتون أيضا لعلمهم أنها لا تكشف ضراء ولا تمسك رحمة ولا تفعل شيئا أبدا «قُلْ» بعد اعترافهم هذا لعجز آلهتهم عن فعل شيء من ذلك بدليل سكوتهم الذي هو بمثابة الإقرار «حَسْبِيَ اللَّهُ» هو كافيني منهم ومن أوثانكم وبالنصر والظفر عليكم كما وعدني به، عليه وحده توكلت و «عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ 38» لا على غيره فقد خاب وخسر من توكل على غيره، ثم أشار إلى تهديدهم فقال «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم التي تتمكنون عليها من عدواني وتكذبي والمكانة بمعنى المكان واستعيرت عن العين للمعنى كما استعير هنا وحيث للزمان مع أنها للمكان «إِنِّي عامِلٌ» على مكانتي أيضا حذف من الثاني بدلالة الأول كما يحذف أحيانا من الأول بدلالة الثاني راجع الآية 33 من سورة لقمان المارة وان عمله صلّى الله عليه وسلم هو دأبه على نصحهم وإرشادهم ليس إلا «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 39» غدا إذا لم تؤمنوا وتصدقوا «مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ» في الدنيا «وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ 40» في الآخرة لا يتحول عنه أبدا أنا أم أنتم وقد ختم هذه الآية بالوعيد الشديد كما بدأها بالتهديد بما خبىء لهم من العذاب الأليم وهي قريبة في المعنى من الآيتين 54/ 55 من سورة سبأ المارة وفيها ما فيها فراجعها.

[سورة الزمر (39) : الآيات 41 إلى 50]

مطلب الروح والنفس ومعنى التوفي والفرق بينه وبين النوم وان لكل واحد نفسين: قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ» الذي لا أحق منه «فَمَنِ اهْتَدى» به فانما يهتدى «لنفسه» إذ يعود فائدة هداه لها «وَمَنْ ضَلَّ» شرد عن طريق هداه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 41» لتجبرهم على الهدى وتحفظهم من الضلال، وإنما الفاعل لذلك هو «الله الذي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» الأرواح راجع الآية 85 من سورة الإسراء في ج 1 تجد معنى النفس والروح وماهيتها وما يتعلق فيهما وهل هما شيء واحد أم لا بصورة مفصلة تكفيك عن كل مراجعة «حِينَ مَوْتِها» عند انقضاء آجالها «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ» يتوفاها «فِي مَنامِها» لأن النوم موت خفيف، إذ يقطع الله تعالى تعلقها بالأبدان أي تعلق التصرف فيها عنها ظاهرا وقطع تعلقها بالأبدان بالموت عبارة عن قطع المتعلق بها ظاهرا وباطنا وإنما سمى كل منهما توفّيا لأنه بمعنى القبض فيهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الآية 60 من سورة الأنعام المارة، إذ لا تميزون ولا تتصرفون فانتم والموتى سواسية من هذه الحيثية، راجع تفسير هذه الآية أيضا لتعرف الفرق بين الموت والنوم المبين في قوله عز قوله «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ» فلا يردها إلى أجسادها حتى يوم البعث «وَيُرْسِلُ الْأُخْرى» الناثمة التي لم يحن أجلها بعد فيبقها بالحياة متمتعة «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده حتى انقضائه «إِنَّ فِي ذلِكَ» القبض والإرسال من قبل الملك الفعال «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال قدرة الإله الواحد على البعث «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 42» بمعناها ويعقلون مغزاها. واعلم أن لكل إنسان نفسين نفس بها الحياة تفارقه عند الموت فتزول الحياة بزوالها، ونفس بها التمييز تفارقه عند النوم ويبقى معها التنفس في الجسد فقط دون تصرف أو تمييز. فيعلم من هذا أن هناك نفسا وروحا فتخرج النفس عند النوم وتبقى الروح ويخرجان معا عند الموت، ومن قال إن الروح هي التي تخرج عند النوم والنفس هي الباقية في الجسد مع شعاع الروح وبها يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت إلى جسدها بأسرع من لحظة، استدل بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:

إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. وقد أوضحنا هذا البحث بصورة مسهبة في تفسير الآية 85 من الإسراء في ج 1 فراجعها أي ما يتعلق بالرؤيا فعليك بمراجعة الآية 5 من سورة يوسف المارة ففيها ما ترشدك إلى ما تريد ويكفيك عن غيره، قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ» بلا إذن منه ولا سلطان لهم به عليه «شُفَعاءَ» يشفعون لهم عندنا بزعمهم، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الجهلة أتتخذونها شفعاء بادى الرأي «أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً» من أمرها ولا من غيرها «وَلا يَعْقِلُونَ 43» ماهيتها كما لا يعلمون عبادتكم لهم ولا يفقهونها أتتخذونها عبثا وجهلا «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء الضلال إن هذه الأوثان لا يصلحون للشفاعة لعدم علمهم بها وإن الشفاعة الحقيقية المرجو نفعها هي «لِلَّهِ» وحده لا يملكها أحد دونه ولا يقوم بها أحد إلا بإذنه وإلا لمن يرضاه الله فتكون «الشَّفاعَةُ» كلها «جَمِيعاً» له وحده كذلك «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده لا يشاركه فيهما أحد ولا يرزق من فيهما غيره وإن ما يملكه الناس من أجزاء الأرض فهو استعارة لأجل مسمى عنده «ثُمَّ إِلَيْهِ» أيها الناس كلكم وما تملكون «تُرْجَعُونَ 44» في الآخرة ثم بين تعالى بيانه سفه لكفرة بقوله جل قوله «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ» نفرت واستكبرت وانقبضت وأنفت «قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» كأبي جهل والوليد بن المغيرة وصفوان وأبيّ وأضرابهم لأن الآية عامة واكفهرّت غمّا وغيظا فظهر على أديم وجوههم غبرة وقترة وعلى عيونهم ظلمة من عظيم انقباض أرواحهم. وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) الآية 46 من الإسراء في ج 1 فراجعها «وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» كاللات والعزى وغيرهما من الأوثان «إِذا هُمْ» أي أولئك المشمئزين «يَسْتَبْشِرُونَ 45» فرحا لافتتانهم بها فتنبسط وجوههم وتتهلل ويعلوها البشر لكثير ما ملئت قلوبهم من السرور والابتهاج بذكرها فيا حبيبي «قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وصف

نفسه جلت وعلت بكمال القدرة ثم نعتها بكمال العلم فقال «عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» السر والعلانية «أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ» المؤمنين والكافرين «فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 46» من أمر دينك وتوحيدك. يفيد هذا الأمر الإلهي العظيم جنوح حضرة الرسول إلى الدعاء والالتجاء إليه تعالى مما قاساه من نصب قومه في دعوتهم له وما ناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد وبيان حالهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة، وفيه تسلية له ومعلومية جهده وجده وبذل وسعه وسعيه عند ربه وتعليم لعباده كلهم بالالتجاء إليه فيما يهمهم وما لا يهمهم، ودعاؤه بأسمائه الحسنى، لأن أسماءه تعالى توقيفية، فلا يجوز تسميته بغيرها راجع الآية 8 من سورة طه في ج 1 تجد ما سمى الله به نفسه ورسوله منها. سئل الربيع بن خيثم عن قتل الحسين رضي الله عنه فتأوه وتلا هذه الآية، وعليه فإذا ذكر لك أيها القارئ شيء مما جرى بين الأصحاب رضوان الله عليهم، فاقرأ هذه الآية فإنها من الآداب التي ينبغي أن تحفظ. روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام الليل؟ قالت: كان إذا قام الليل افتتح صلاته قال: اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من منقول وغيره «وَمِثْلَهُ مَعَهُ» وطلب منهم به فداء أنفسهم من عذاب الله «لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا من ضرب المحال حيث لا يقبل الفداء، ويستحيل أن يكون لهم شيء من الأرض باستحالة وجود مثله لأن أحدا يوم القيامة لا يملك مثقال ذرة وإنما هذا من قبيل زيادة التحسر والتأسف والندم والأسى لما يشاهدونه من الأهوال المحيطة بهم المشار إليها بقوله الفصل «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ» العالم بخفايا الأمور أشياء «ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ 47» بها ولا يظنونها ولا تخطر ببالهم أنه نازل بهم ولا يتوقعونه لأنه فوق التخمين والحسبان وحديث النفس. ونظير هذه الآية التي أوعد بها الكافرون ما وعد الله به المؤمنين هي قوله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ

[سورة الزمر (39) : الآيات 51 إلى 60]

لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية 17 من سورة السجدة الآتية، ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم في صفة ثواب أهل الجنة: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذا وبعد أن أظهر الله لهم أنواع العقاب عن سيئات لم يكونوا يتصورونها أنها مستحقة للعذاب أظهر لهم عقابا أشد عن سيئات يعلمونها فقال جل قوله «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» من الشرك به وتكذيب رسله وجحد ما جاؤهم به وبان لهم خيبة ظنهم بشفاعة الأوثان فذهلوا من فظاعته «وَحاقَ» أحاط «بِهِمْ» من كل جوانبهم سوء «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 48» في الدنيا فيفعلونه ولا يلقون له بالا إلا السخرية والاستهزاء. قال تعالى «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من مرض وفقر وشدة «دَعانا» وحدنا لإزالته «ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا» بعد إجابة دعائه وإزاحة بلائه «قالَ» هذا جواب إذا ولذلك فلا يحسن الوقف على كلمة (مِنَّا) بل على «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» من الله بأني أهل له كما قال قارون قبله راجع الآية 78 من سورة القصص في ج 1 وقد ذكر الضمير هنا في أوتيته مع أنه عائد للنعمة بالنظر للمعنى، أي شيئا أو قسما من الإنعام «بَلْ هِيَ» النعمة التي أوتيها مع كفره وعصيانه «فِتْنَةٌ» نقمة لا نعمة في الحقيقة بل هي استدراج وامتحان ليختبرك أيها الإنسان أتشكرها فتكون نعم حقيقية أو تكفرها فتكون نقمة بحتة، وما قرىء بل فتنة وفاقا لضمير أوتيته ليست بشيء، لما فيها من نقص كلمة هي، ولا يجوز نقص شيء من كتاب الله «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 45» أنها فتنة وبلاء ومحنة. وجاء العطف بالفاء لأن قوله (فَإِذا مَسَّ) إلخ مسبب عن قوله (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ) إلخ، وقد وقع أول هذه السورة مثله إلا أن العطف كان بالواو فيكون غير مسبب عما قبله كما هنا وهذه الآية عامة. وما جاء أن المراد بالإنسان هو حذيفة بن المغيرة فعلى فرض صحة نزولها فيه لا يقيدها لأن سبب النزول لا يكون سببا للقيد في الآيات العامة، قال تعالى إن هؤلاء الكفرة لم ينفردوا في هذه المقالة وإنما «قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مثل قارون وأضرابه «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 50» من متاع الدنيا ولم يأخذوا معهم منه شيئا للآخرة البتة «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ

ما كَسَبُوا» أي عقابه ووباله وخسف بهم وبأموالهم راجع الآية 78 من سورة هود المارة من قصة قوم لوط «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ» قومك يا محمد الذين قالوا مقالتهم تلك «سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» أيضا إذا أصروا عليها ولم يتوبوا حتى ماتوا، فيحين الأجل المقدر لإنزال العذاب بهم مثلهم «وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ 51» لنا ولا يستطيعون الإفلات منا، فلا يفوتهم عذابنا، لأن قدرتنا غير عاجزة عنهم، ولا مهرب هناك. وهذه الآيات المدنيات الثلاث، قال تعالى «أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بلى إنهم يعلمونه ولكن لا يعرفون حكمته «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والتقتير لآيات دالات على حكمتنا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 52» بنا ويعون مرادنا وذلك أن الله تعالى يعطي من يشاء لا لكرامته وتقواه وعلمه، ويحرم من يشاء لا لإهانته وعصيانه وجهله، وقيل في المعنى. كم من أديب فهيم عقله ... مستكمل العلم مقل عديم ومن جهول مكثر ماله ... ذلك تقدير العزيز العليم فمن علم أن هذا التقسيم جاء من الله على وفق الحكمة ومقتضى المصلحة علم فساد قول ابن الراوندي المار ذكره في الآية 36 من سورة سبأ المارة وبطلان قول من قال إن السعد والنحس بسبب النجم الطالع عند ولادة الإنسان السعيد أو المشئوم، لأن الساعة التي ولد فيها السلطان والمثري ولد فيها أناس كثيرون فلم لم يساعدهم الحظ بمقتضى طالعهم كما صار لذينك، وقيل في المعنى: فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل قال تعالى «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» بتغاليهم في المعاصي وإفراطهم في اللذات وتفريطهم بأمور الآخرة وإعراضهم عن ربهم «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» التي وعدها التائبين من عباده الراجعين إليه وغيرهم، فهي واسعة لأكثر ما تتصورونه ولا تضيق عما أنتم عليه وغيركم «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» بالعفو عنها عدا الشرك لورود النص باستثنائه، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ

مطلب آيات الرجاء وعظيم فضل الله وما جاء عن بني إسرائيل وحرق الموتى:

أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآيتين 48/ 116 من سورة النساء في ج 3 «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 53» بعباده يغفر ما كان منهم ويكشف ما يهمهم ويستر ما يشينهم صغرت هذه الذنوب أو كبرت فهي في جنب عفو الله لا شيء. مطلب آيات الرجاء وعظيم فضل الله وما جاء عن بني إسرائيل وحرق الموتى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أناسا من المشركين أكثروا من القتل والزنى والشرب وهنك الحرمات كلها فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا لما عملناه كفّارة فنزلت الآيات 68 فما بعدها من سورة الفرقان المارة في ج 1، وهي (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا، ونزلت هذه الآية المفسرة أيضا- أخرجه النسائي- وعنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه يدعوه إلى الإسلام رغبة بنشر دين الله وشفقة على عباده مع أنه قاتل عمه وأعز الناس عليه يومئذ لشدة حرصه على إقامة هذا الدين جزاه الله عنا خيرا ووفق أمته لاتباعه، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله؟ فأنزل الله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) الآية من سورة الفرقان أيضا، فقال وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك؟ فأنزل الله آيتي النساء المذكورتين آنفا، فقال وحشي أراني بعد ذلك في شبهة، فلا أدري أيغفر لي أم لا؟ فأنزل الله هذه الآية المفسرة، فقال وحشي نعم فجاء وأسلم وحسن إسلامه. وهذه الحادثة أولى بأن تكون سببا للنزول لأنها مدنية والحادثة مدنية فتكون أليق بسبب النزول من تلك، وإن ما بعدها يجوز أن يكون سببا للنزول لأن الآية الواحدة قد تكون لحوادث كثيرة متوافقة، وهو ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت في عياش ابن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا (الصرف التوبة والنافلة والعدل الفدية والفريضة) قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به في الدنيا، فأنزل الله هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب

بيده وبعث بها إلى عياش ورفقائه فأسلموا جميعا وهاجروا، فقال ابن عمر كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) الآية 34 من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج 3، فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا، فقلنا الكبائر والفواحش، قال لكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا هلك، فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئا من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له. وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. - أخرجه الترمذي- والعنان بفتح العين ما بدا لك من السماء، واعنانها نواصيها، والقراب بضم القاف الملء أي بملء الأرض، والله أكرم وأكبر من ذلك، وقدمنا ما يخص هذا في الآية 160 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 31 من سورة الشورى الآتية فراجعها ففيها ما يثلج الصدر من عظيم فضل الله وكذلك الآية 20 من سورة يوسف المارة أيضا والآية 70 من سورة الفرقان والآية 5 من سورة والضحى والآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ» إسلاما كاملا وانقادوا لأوامره انقيادا تاما وتباعدوا عن نواهيه تباعدا بعيدا وأخلصوا له التوبة إخلاصا صحيحا حال كونكم خاضعين خاشعين «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ 54» إذا حل بكم ومن ذا الذي ينصركم من الله أيها الناس كلا لا أحد، انتهت الآيات المدنيات. واعلم أن الآية الثانية منها عدا 53 صرحت برجاء الرحمة من عشرة وجوه: 1 إن المذنب عبد والعبد محتاج لرحمة سيده وإفاضة إنعامه عليه، 2 إنه أضافه إليه ومن يضفه لذاته الكريمة يؤمنه من عذابه، 3 إن الإسراف الذي نسبه إليه ضرر وهو أكرم من أن يجمع ضررين على عبد، 4 إنه لم ينهه عن القنوط إلا ليؤمله بالرجاء، 5 أضاف الرحمة لأعظم أسمائه الحسنى

فتكون أعظم أنواعها لذلك العبد، 6 إنه أضاف الغفران لذلك الاسم العظيم لتأكيد المبالغة في إيفاء الوعد بها، 7 إنه أكد ذلك الغفران ليكون عاما مطلقا يشمل هذا العبد وغيره، 8 إنه وصف ذاته بالرحيم مرة أخرى إشارة إلى تحصيل موجبات تلك الرحمة، 9 إن هذين الوصفين يفيدان الحصر، والحصر يفيد الكمال ولا تكون الرحمة كاملة إلا إذا عمت، 10 إنه وصف نفسه فيها بالغفور وهو لفظ يدل على المبالغة بالمغفرة ولا تكون إلا إذا عمت أيضا. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهبا فسأله فقال هل لي من توبة؟ قال لا، فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فضرب صدره تخوفا فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقرّبي وإلى هذه أن تباعدي، وقال قيسوا ما بينهما فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له. - لفظ البخاري- ولمسلم: فدلّ على راهب فأتاه فقال له إن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا هل له من توبة فقال لا فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل صالح فقال إنه قتل مئة نفس فهل من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي (يعني القرية التي جاء منها والقرية التي ذهب إليها) وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة. ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان رجل أسرف على نفسه، وفي رواية لم يعمل خيرا قط، وفي رواية لم يعمل حسنة قط، فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرّوني في الريح فو الله لأن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا قط، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا

هو قائم، فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب، أو قال مخافتك يا رب، فغفر له بذلك. ولعل المجوس وبعض الهنود ومن نحا نحوهم الذين يحرقون موتاهم أخذوا ذلك من هذه القصة، لأن هذا الرجل الذي ذكره حضرة الرسول لم يكن من أهل زمانه بل ممن تقدم من الأمم، وقد بقوا على عادتهم تلك ولم تبلغهم الدعوة، أو بلغتهم فلم يتبعوها وبقوا على ما هم عليه حتى الآن، وقد استحسنها من لا خلاق لهم من الدين بحجة أنها أقطع لجراثيم الموتى من أن تنتقل ذراتهم إلى الأحياء، ولم يعلم أن في هذه إهانة للمؤمن، وقال صلّى الله عليه وسلم: كرامة الميت دفنه، وفي القبور مانع من انتشار الذرّات لأنها تحت الأرض بقامة وبسطة يد، وكيف يركن قلب المؤمن إلى حرق ميته وهو أعز الناس عليه، وفي دفنه ذكرى له على مر الأيام بالخير إن كان من أهل الخير فيعملون بعمله، وإن كان من أهل الشر فيجتنبون عمله، فيكون خيرا نشا عن شر. وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كان في بني إسرائيل رجلان متحابان أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنبه فيقول له اقتصر، فوجده يوما على ذنب، فقال اقتصر فقال خلّني وربي أبعثت علي رقيبا، فقال والله لا يغفر لك الله، أو قال لا يدخلك الجنة، فقبض الله روحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال الرب تبارك وتعالى للمجتهد أكنت على ما في يدي قادر؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة تكلم والله بكلمة أوبقت دنياه وآخرته- أخرجه أبو داود. وقال زيد بن أسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال انطلقوا به إلى النّار، فيقول يا رب فأين صلاتي وصيامي، فيقول الله اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي. وعنه أيضا أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه ويقنط الناس من رحمة الله ثم مات فقال أي رب مالي عندك؟ قال النار، قال يا رب فأين عبادتي واجتهادي؟ فقيل له إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي. وقال مقاتل: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصي الله عز وجل. وعليه فلا ينبغي للواعظ والخطيب

مطلب اتباع الأحسن وما هو الحسن والأحسن معنى ومقاليد السموات والأرض:

أن يقتصر على الوعيد ويترك الوعد لأنه ربما قنط الناس فيدخل فيما ذكر، قال صلّى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا. أي يسروا على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة، لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة ويرغب في العبادة، وبشروا بفضل الله وعظيم ثوابه، وسعة رحمته، وشمول عفوه، وجزيل عطائه ومغفرته، ولا تعسروا في كل الأوقات ولا تنفروا عباد الله بما تشددون عليهم من الزجر والوعيد فيقنطوا أو ييأسوا، فتتسببوا في إضلالهم «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» . أمر الله عباده باتباع الأحسن بعد أن أمرهم بالتقوى ووعدهم بالمغفرة إعلاما بأنه تعالى يريد منهم ما هو أكثر ثوابا وأعظم أجرا، وقد ذكرنا ما يتعلق بالأحسن في الآية 18 المارة من هذه السورة وبينا فيها ما يراجع بذلك ففيه كفاية. مطلب اتباع الأحسن وما هو الحسن والأحسن معنى ومقاليد السموات والأرض: ولا يخفى أن الأحسن يكون في الأوامر والإرشادات إلى خير الدارين والأحكام والحدود وإصلاح ذات البين لا في القصص والأخبار والعبر والأمثال بما وقع من الأقدمين، هذا من جهة، ومن أخرى فإن أحسن ما أنزل الله من الكتب السماوية وأجمعها وأفضلها هو هذا القرآن المجيد لقوله تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية 24 المارة، وعليه فيكون المنزل ثلاثة أصناف: ذكر جل شأنه في القرآن الأحسن يؤثر على غيره ويؤخذ به، والأدون منه لئلا يرغب فيه، والقبيح ليجتنب، ولهذا يجب على الخلق كافة اتباع ما في القرآن من الأحكام الحسن منها والأحسن، لأنه ناسخ لما تقدمه مما يخالفه منها، وعليه فإن الخطاب في هذه الآية عام لكل الأمة، لأنه أنزل للأمة أجمع، وقد أمر صلّى الله عليه وسلم بدعوة من على وجه الأرض كلهم، فمن أجاب فهو من أمة الإجابة، ومن أبي فهو من أمة الدعوة، فهلموا عباد الله لإجابة دعوة ربكم «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ 55» بأن يفاجئكم على حين غرة وأنتم غافلون فتعتذرون ولا يقبل منكم، قال صلّى الله عليه وسلم: إياكم وما يعتذر منه، وهو «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ» حين ترى أهوال القيامة

وفظايع العذاب «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ» أي حق الله وأمره وطاعته، وهذا مما يطلق عليه الجنب، قال القائل: أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تقطع أي الجانب المؤدي لرضائه كالتقصير في الطاعات ومخالفة الأوامر والتفريط في حقوق الغير وفي كل ما يتعلق به حق الله تعالى وحق عباده وحيواناته لأن لكل حقا، قال صلى الله عليه وسلم اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، أي من الإماء والحيوان بأن تحمل فوق طاقتها أو تضرب بدون تقصير، وجاء في الخبر: يعاقب ضارب الحيوان بوجهه لا بوجهه إلا بوجهه حيث يضرب على النفار لا على العثار، لانه يكون غالبا من إهمال الراكب. قال تعالى حكاية عن هذه النفس المفرطة «وَإِنْ كُنْتُ» في الدنيا «لَمِنَ السَّاخِرِينَ 56» بمن يحذرني هول هذا اليوم وينصحني عن التفريط في ضياع عمري سدى، وهذه الجملة ترددها كل نفس فرطت في دنياها ندما وحزنا وغما على ما فاتها من عمل صالح وقول مرشد وقبول إرشاد «أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي» للتقوى وقبول نصح الناصحين «لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 57» الشرك ودواعيه في الدنيا ولم يحل بي العذاب الآن في الآخرة «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ» عند طرحها فيه بشدة وعنف وتذوق ألمه «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً» عودة إلى الدنيا «فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 58» فيها إلى نفسي وإلى الناس أجمع باتباع أوامر ربي وطاعة رسله وهكذا يتمنى هذه الأماني وغيرها، ولكن في غير وقتها والتمني رأسمال المفلس، لهذا فإن الله تعالى يرد تمنياته ولا يقبل أعذاره ويخاطبه أن الأمر ليس كذلك «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» في الدنيا وأرسلت إليك رسلي فطلبوا منك الانقياد لأوامري وسلوك سبل هدايتي وبلغوك كتي فأبت نفسك الخبيثة إلا عصياني وأعرضت «فَكَذَّبْتَ بِها» وبمن جاءك بها «وَاسْتَكْبَرْتَ» وأنفت عنها وتعاليت عليها واستهزأت بها عدا التكذيب والجحود «وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ 59» بها وبمن جاءك بها والآن جئت تتمنى الاماني الفارغة بقبول اعتذارك وجوابها أن يقال لك اخسأ ولا تتكلم، راجع الآية 108 من سورة المؤمنين الآتية ففيها بحث نفيس «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» يا سيد الرسل «تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى

[سورة الزمر (39) : الآيات 61 إلى 70]

اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ» سوادا بشعا شنيعا لا يقاس بما تراه من تراه من سواد الدنيا فهو نوع مكروه قبيح منتن والعياذ بالله، والجملة من المبتدأ والخبر حال اكتفى فيها بالضمير عن الواو وعلى أن ترى فيها بصرية لا اعتقادية أما إذا كانت عرفانية قلبية فالجملة في محل نصب مفعول ثاني لها «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ 60» عن آياتي والإيمان برسلي وكتبي، بلى وجاهه فيها منازل شتى الواحد منها أشر من الآخر يأوي إليها أمثال هؤلاء «وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ» بظفرهم وفلاحهم وبلوغهم المقصد الهنيء الأسنى، لأنهم قطعوا مفازات الجهل بميثاق الطاعات، والمفازة الطريق بالجبل وهي من الأضداد لأنه الطريق الوعر فإذا قطعه فاز بمقعده وبلغ الراحة «لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» هو كل ما تستاء منه النفس وأعظمه عذاب النار وهو المراد هنا والله أعلم لمناسبة المقام إذ لكل مقام مقال «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 61» على ما فاتهم في الدنيا لأنهم رأوا خيرا منها ولا يصيبهم أذى يؤدي إلى حزنهم ولا ينال قلوبهم غم يسبب حزنهم بل يكونون فرحين مسرورين بما آتاهم «اللَّهُ» ربهم من فضله العميم الواسع كيف لا وهو «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» مما هو كائن أو سيكون في الدنيا والآخرة من خير وشر وإيمان وكفر في خلقه لا بطريق الجبر بل بمباشرة المتصف بها والمتعرض لأسبابها، وفي هذه الآية ردّ صريح على المعتزلة ومن نحا نحوهم المنزهين الله عن خلق الشرور وإرادة الكفر، راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 40 من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 62» فهو القائم بحفظ الأشياء كلها والمتصرف بها كيف يشاء بمقتضى الحكمة وفق ما هو سابق في علمه، فأمر كل شيء موكل إليه دون منازع أو معارض أو مشارك، وتدل هذه الجملة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها لو وقعت بخلقهم لكانت موكولة إليهم فلا حجة للمعتزلة أيضا فيها وهم القائلون بخلق أفعال العبد نفسه. واعلم أن صدر هذه الأمة لم يختلف في أفعال وأعمال العباد بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام فبين الله تعالى في هذه الآية أنها كلها من خلقه والشيء الوارد من الآية عام يدخل فيه كل ما يتقولون عنه «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتح خزائنها بيده جل جلاله وهما وما بينهما

وفوقهما وتحتهما ملك لعظمته يتصرف فيهما وبما فيهما كيفما يشاء ويختار. وكلمة مقاليد قيل إنها فارسية معربة من إقليد قال الراجز: لم يوذها الديك بصوت تغريد ... ولم يعالج غلقها باقليد والصحيح أنها عربية لتكلم العرب بها قبل نزول القرآن، وقدمنا ما يتعلق بجميع هذه الكلمات الموجودة في القرآن العظيم في الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعها، والمراد في المقاليد هنا والله أعلم ما ذكرناه من أنه لا يملك أمرهما ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، كما أنه لا يقدر على حفظهما وما فيهما غيره. هذا، وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وغيرهم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شي قدير. وجاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس مثله بزيادة كثيرة. وهناك خبر آخر عن ابن عمر بمعناه أيضا وأخبار أخر لم نعتمد صحتها، وعليه يكون المعنى أن لله تعالى هذه الكلمات يوحّد بها سبحانه ويمجّد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه ذلك الخير، ووجه إطلاق المقاليد على هذه الكلمات أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن، وقد ذكر صلّى الله عليه وسلم شيئا من الخير لمن يقولها في حديث ابن عباس وهي عشر خصال لمن قالها في اليوم مئة مرة 1 أن يحرس من إبليس وجنوده، 2 أن يعطى قنطارا من الأجر 3 أن يتزوج من الحور العين، 4 أن تغفر ذنوبه، 5 أن يكون مع سيدنا إبراهيم عليه السلام، 6 أن يحضر موته اثنا عشر ملكا يبشرونه بالجنة، 7 ويزفونه من قبره إلى الموقف كما تزف العروس، 8 أن يحفظ من هول الموقف، 9 أن يعطى كتابه بيمينه 10 أن بمر على الصراط ويدخل الجنة. والحديث بتمامه بالدر المنثور والله تعالى على كل شيء قدير فيعطي لمن يشاء هذا الفضل على هذه الكلمات وأقل منها وبلا شيء أيضا إذا شاء وقد ألمعنا إلى مثل هذا في الآية 59 من سورة الأنعام المارة وله صلة في الآية 198 من سورة

مطلب في عصمة الأنبياء والردة وخلاف الأئمة وإحباط العمل وتعريفات منطقية:

الشورى الآتية «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 63» وهذه متصلة بما قبلها أي أنه تعالى ينجي المتقين ويهلك الكافرين ويجعل صفقتهم خاسرة (وجملة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) معترضة مشار فيها إلى أنه الذي لا يخفى عليه شيء لأنه الخالق لكل شيء الفاتح كل شيء «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ 64» بعد أن ظهر لكم الدليل القاطع والبرهان الساطع مما تقدم بأنه لا يستحق أحد العبادة غيره، وجاءت هذه الآية بمعرض الجواب للكفرة القائلين لحضرة الرسول أن يوافقهم على دين آبائهم وعبادة أوثانهم تبكيتا لهم كيف يدعونك يا سيد الرسل إلى هذا «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» الأنبياء إخوانك بأن يبلغوا كل فرد من أممهم فيقولون له «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» شيئا مع ربك بالعبادة «لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» بسبب الشرك وكما أن الإيمان يجب ما قبله فالشرك يمحق ما قبله من الأعمال الصالحة، واللامان في لئن وليحبطن موطئتان للقسم كأنه جل قوله يقول اعلم أيها الرجل وعزتي وجلالي لئن أشركت ليحبطن عملك «وَلَتَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الْخاسِرِينَ 65» لخيري الدنيا والآخرة. مطلب في عصمة الأنبياء والردة وخلاف الأئمة وإحباط العمل وتعريفات منطقية: وإنما صح هذا الخطاب على ظاهره لحضرة الرسول ولمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام مع علمه بمعصوميتهم واستحالة الشرك عليهم، لأن المراد به غيره من أممهم على طريق ضرب المثل (إياك أعني واسمعي يا جاره) وعلى فرض المقصود به الأنبياء لأن الخطاب موجه إليهم خاصة فيكون لتبهيج حضراتهم وإقناط الكفرة والإيذان بشناعة الشرك وقبح الكفر وكونهما بحيث ينهى عنهما من لا يكاد يقربهما، وإذا كان ينهى عنهما من لا يتصور مباشرتها منهم فكيف بمن عداهم وهما على غاية من الذم ونهاية من الشؤم، وعلى القول بأن المراد أمم الأنبياء فتفيد هذه الآية التنبيه الشديد والوعيد الأكيد لمن يشرك بالله وتهدده بأن مصيره والعياذ بالله إلى الخسران الذي ما بعده خسران، وما استدل به صاحب المواقف على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء ولا وجه له، وقد أوضحنا ما يتعلق بعصمة الأنبياء في الآية 44 من سورة يوسف المارة وفي الآية 124

من سورة طه في ج 1 وأشرنا فيها إلى المواضع التي تكلمنا فيها على هذا من آيات القرآن العظيم، فراجعها ففيها كفاية. هذا وما ذكرناه من أنه على سبيل الفرض والتقدير بالنظر لظاهر الآية لأن احتمال الوقوع فرضا كاف في القضية الشرطية كما هنا. وليعلم أن القضايا قسمان: حملية وهي ما ينحلّ طرفاها إلى مفردين كزيد كاتب أو ليس بكاتب، وشرطية وهي ما لا ينحل طرفاها إلى مفردين مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. ولكل منهما أقسام يرجع في معرفتها إلى علم المنطق. وليعلم أيضا أن القضية والخبر والمطلوب والنتيجة والمسألة في الأصل شيء واحد ولكنها تختلف من حيث التسمية فقط، فإنها من حيث اشتمالها على الحكم تسمى قضية، ومن حيث اشتمالها على الصدق والكذب تسمى خبرا، ومن حيث كونها جزءا من الدليل تسمى مقدمة، ومن حيث كونها نتيجة تسمى علما، ومن حيث كونها يسأل عنا في العلم تسمى مسألة. قال صاحب التلويح: الذات واحدة واختلاف العبادات باختلاف الاعتبار، وقيل في المعنى: عباراتهم شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذلك الجمال يشير عود على بدء: إلا أنه ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع في المعصية على جميع الأنبياء شرعية كما ستقف عليه من مطالعة المواقع التي أرشدناك لمراجعتها أيها القارئ المنصف الكريم، وقد استدل السادة الحنفية من عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الشرك إلى الموت بأن الردة تحبط العمل الذي قبلها مطلقا وبوجوب قضاء الحج فقط لأن ثواب حجه قبل الردة أحبط بها أيضا، أما عدم قضاء الصلاة والصيام والزكاة مثلا فلم يوجبوه باعتباره دخل في الإسلام حديثا والدخول بالإسلام يكفر ما قبله من الآثام، فلو فرض أنه لم يصلّ ولم يزكّ قط كسائر الكفرة فإنه لا يكلف بشيء من ذلك، لأن الإيمان يجب ما قبله. وقال السادة الشافعية إن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتدّ على الكفر إلى الموت، وقالوا إن ترك التقييد هنا اعتماد على التصريح به في قوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية 218 من سورة البقرة في ج 3، وقالوا إن هذه الآية من حمل المطلق على المقيد. وقال بعض الحنفية في

الرد عليهم: إن في الآية المستدل بها توزيعا وكيفيته أن قوله تعالى (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ناظر إلى الارتداد في الدين، وقوله (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلخ ناظر إلى الموت على الكفر، وعليه فلا قيد فيها للآية التي نحن بصددها ليصح الاحتجاج بها متى حمل المطلق على المقيد، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاة سيد الأنام أو قبلها إلا أنه لم يره هل يسلب عنه اسم الصحبة أم لا؟ فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا، وهو ما عليه الحنفية، ومن ذهب إلى التقييد قال نعم، وهو ما عليه الشافعية. وليعلم أن هكذا خلافات وأمثالها بين الأئمة لا علاقة لها بأصول الدين المجمع عليها إذ لم يقع اختلاف ما قط في ذلك. أما ما يتعلق في الفروع فإن ما يقع من الاختلاف فيها عبارة عن اختلاف الرأي والاجتهاد، وهذا مما لا يخلو منه البشر في كل زمان ولا يضر بل يحصل من تصادم الأفكار وتحاكك الآراء فيه فوائد جلى ومنافع عظمى، لأنك إذا لم تقدح الزناد على الحصى لم تحصل النار «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ 66» الدائبين على شكر النعم المتوالية عليك من ربك فيزيدك بها فضلا، قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عظموه حق تعظيمه وما عرفوه حق معرفته حين دعوك قومك يا محمد إلى عبادة آلهتهم وأشركوا بالإله الواحد ما لا يستحق العبادة وجعلوا له بنين وبنات وهو منزه عن ذلك كله وكيف يكون هذا «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بما فيها من جبال وأبحار وغيرها «وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» بما فيها من كواكب وخلائق وغيرها «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ 67» به من الأوثان، راجع الآية 91 من سورة الأنعام المارة تنبئك عما يتعلق في هذه الآية العظيمة المصورة لعظمة جلال الله والموقفة على كنه هيبته. والقبضة المرة الواحدة من القبض وهي المقدار المقبوض بالكف، مع العلم بأن هذه الآية مكية، وتلك التي بالأنعام مدنية. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وفي رواية يقول

مطلب ما هو النفخ في الصور ولماذا وفي الصعق ومن هم الشهداء:

أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى أني أقول أساقط هو برسول الله، لفظ مسلم. وللبخاري: إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك. ورويا عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: جاء جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول أنا الملك. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) . وروى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض. قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه بيمين وليس لها عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، ويصح أن يقال عقيدة: له جل شأنه يد لا كالأيدي ووجه لا كالأوجه وهكذا إجراؤها على حالها دون تأويل أو تفسير، وتنتهي بها إلى حيث انتهى بها كتاب الله والأخبار المأثوره الصحيحة في كل آية من آيات الصفات التي ألمعنا إليها قبلا في مواقع كثيرة كالآية 158 من الأنعام المارة وغيرها ففيها ما تبتغي، ولهذا البحث صلة في الآية 105 من سورة الأنبياء الآتية. مطلب ما هو النفخ في الصور ولماذا وفي الصعق ومن هم الشهداء: قال تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» القرن الذي قدمنا بحثه في الآية 73 من سورة الأنعام بصورة مفصلة فراجعها، والنافخ هو سيدنا إسرافيل عليه السلام «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» أي مات خوفا وجزعا من هول الصيحة الأولى «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» راجع الآية 87 من سورة النمل المارة في ج 1، تعلم المستثنيين من الموت عند النفخة الأولى. قال السيد محمد الهاشمي في شرحه شطرنج العارفين للشيخ محي الدين العربي قدس الله سره: إن المستثنين سبع 1 الجنة 2 والنار 3 والعرش 4 والكرسي 5 واللوح 6 والقلم 7 والأرواح، والله أعلم بذلك. وإذ كان بين النفختين مدة لا يعلم حقيقتها إلا الله جاء العطف في الآخرة

على الأول بما يدل على التراخي، وهو قوله تعالى «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ 68» ماذا يأمر الله فيهم بعد قيامهم من قبورهم، وقيل إن ما بين النفختين أربعون سنة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون، قالوا أربعون يوما؟ قال أبيت، قالوا أربعون شهرا؟ قال أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت (وهذا ورع منه رضي الله عنه لأنه لم يسمع من الرسول ما يتذكره على الضبط هل هي ساعات أم أيام أو شهور أو سنون، ولم يتذكر إلا لفظ الأربعين، ولهذا لم يتجاسر على تمييزها، هذا أبو هريرة الذي يطعن في أحاديثه من لا خلاق له من التقوى، فإذا كان لا يستطيع أن يبين ماهية الأربعين في الحديث وهو عبارة عن اخبار لا علاقه لها في الأحكام والحدود، فكيف يتصور أن يقول شيئا لم يسمعه من حضرة الرسول فيما يتعلق فيها وكيف يظن به أن يتكلم بشيء لم يتحققه، ألا فلينتبه المتقولون وليتقوا الله في أصحاب رسوله ولا يظنوا بهم إلا الخير والصدق، وليحذروا أن ينسبوا إليهم غير ذلك، وقد سمعوا من نبيهم قوله: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من شيء إلا يبلى إلا عظم واحد هو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة، وقدمنا ما يتعلق بعجب الذنب في الآية 99 من سورة الإسراء ج 1 فراجعه. قال تعالى «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» حين تجلى لفصل القضاء بين خلقه «وَوُضِعَ الْكِتابُ» الذي فيه صحائف أعمال الخلق ليحاسب كلا بمقتضي عمله وجيء باللوح المحفوظ لمقابلته بكتب الأعمال التي دونها الحفظة ليظهر للمنكرين أن كل شيء وقع من خلقه ثابت عنده في علمه ومدون في كتابه قبل وقوعه «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ» ليسألهم عن تبليغ رسالتهم وعما أجابهم به قومهم ويستشهدهم عليهم وهو أعلم بذلك كله، وإنما ليطلع عباده على ذلك وليعلموا أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا غير «وَالشُّهَداءِ» يؤتى بهم أيضا ليشهدوا عليهم وهو أعلم بما اقترفوه هذا إذا كان المراد بالشهداء الشهود، أما إذا أريد بهم شهداء الحرب الذين قتلوا في سبيل الله تعالى فيكون إحضارهم لإكرامهم وسرورهم بالفوز والنعيم الدائم،

وإذا أريد بهم الحفظة أو الموكلون بأعمال الخلق الكاتبون لحسناتهم وسيئاتهم فيكون إحضارهم ليتلى عليهم ما دوّنوه ليسألوا عنه بحضور المكتوب عنهم ليتبين لهم هل ظلموهم بشيء من ذلك أم لا، وإذا أريد بهم الرجال العدول الأبرار من كل أمة فيكون حضورهم لسؤالهم هل أن الرسل بلغوا أممهم رسالة ربهم أم لا، لأن من الناس من يجحد مجيء الرسل، وإذا أريد بهم أمة محمد يكون المراد من حضورهم أن يشهدوا على الأمم السالفة بأن رسلهم بلغوهم أوامر الله ونواهيه عند ما يقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال لهم من أين علمتم أنهم بلغوهم وأنتم بعدهم ولم تجتمعوا معهم؟ فيقولون من كتاب أنزله الله علينا ذكر فيه أن الرسل بلغوا أممهم وهو حق وصدق، ومن أقوال رسولنا محمد الذي أخبرت يا ربنا أنه لم ينطق عن هوى، وان قوله وحي منك يوحى إليه، وقد علمنا أنه حق وأن رسالته صدق، ومما يدل على أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة على الأمم التي قبلها قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الآية 143 من البقرة في ج 3، ومثلها الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 أيضا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» لكل ما يستحقه بموجب عمله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 69» شيئا فلا يزاد على سيئات المسيء، ولا ينقص من حسنات المحسن وينال كل جزاء ما عمله إذا عاملهم بعدله، أما إذا عاملهم بفضله الواسع الذي يدخل فيه من يشاء جنته عمل أو لم يعمل فهو أهل لذلك فقد يعفو عن المسيء ويضاعف للمحسن أضعافا كثيرة وهو جل عطفه لا يسأل عما يفعل «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها من خير أو شر «وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ 70» قبل محاسبتهم وقبل الإطلاع على كتبهم والاستشهاد عليهم إذ ليس هو بحاجة إلى كتاب أو شاهد، ولكن ليعترفوا أنفسهم بما وقع منهم، وليعلموا أن الله ما ترك لهم مثقال ذرة مما عملوه، وأنه قضى عليهم ولهم بما يستوجبونه، لأن الحاكم إذا أفهم المحكوم عليه جرمه وأسبابه وأدلته التي أدانته به ووجه ثبوته عليه بالبراهين التي لا تقبل التأويل والحجج القاطعة لرد دفاعه يوقع الحق على نفسه ويلومها ويبرأ الحاكم من الحيف والجور والخصومة، ولا يوقر بقلبه غلا عليه،

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 إلى 75]

وإذا لم يفعل ذلك فيقول له لماذا حكمت عليّ وبماذا أثبت التهمة الملصقة بي؟ ولو كان في الحقيقة فاعلا فيوقع اللوم على الحاكم ويسند إليه الجور والحيف والخصومة من حيث لا لوم عليه في الحقيقة إلا تقصيره بعدم بيان الأسباب المذكورة. قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ» محل تنفيذ العقوبة المترتبة عليهم بعد تفهيمهم الحكم من الحاكم العدل وبيان أسبابه وتبيانه واعترافهم بجرمهم «زُمَراً» أفواجا بعضهم إثر بعض بواسطة شرطة العذاب الذين خصصهم الله تعالى لهذه الغاية في يوم النّهاية أذلاء مهانين مكبلين بالسلاسل والأغلال بدلالة لفظ السوق «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» لأنها كانت مغلقة لئلا يتأذى منها من ليس من أهلها لا خشية الفرار إذ لا فرار هناك كدور السجن في الدنيا فإنها تكون دائما مغلقة حتى إذا جيء بسجين جديد فتحت فأدخل وأغلقت أيضا، إهانة لهم وإعلاما بأن إدخالهم قسرا إذلال لهم «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» الموكلون بها المفوضون بتعذيب أهلها بأنواع العذاب المقدر لهم بعلم الله وبالمكان المعين لهم من قبله حين يقضى عليهم لأن جهنم دركات الواحدة أشر من الأخرى عند إرادة إدخالهم الدركة المخصّصة لهم ليذوقوا وبال أمرهم من عذابها، ويقال لهم توبيخا وتقريعا «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم في الدنيا «يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ» المنزلة عليهم من لدنه «وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى» إذ لم يبق مجال للإنكار والاحتجاج كما لا مجلل للفرار ولا محل لتعقيب الحكم من استئناف وتمييز وإعادة محاكمة كأحكام الدنيا إذ لا معقب لحكم الله، ولهذا يقول الله تعالى حكاية عنهم «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» الصادرة من الإله العظيم شديد العقاب المبينة في الآية 119 من سورة هود المارة «عَلَى الْكافِرِينَ 71» يعنون أنفسهم لأنهم كفروا بالله ورسله وما جاءهم من الوحي «قِيلَ» فتقول لهم الملائكة المذكورون بعنف وشدة بعد ما سمعوا قولهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» لا مخرج لكم منها البتة، وإنما قالوا أبواب لأن كلا منهم له عذاب دون الآخر، فيدخل كل الباب الذي فيه محل عذابه، ثم يقال لهم بعد أن يستقر كل في مكانه هذا مثواكم «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 72» عن طاعة الله

ورسله المستأنفين عن قبول النصح والإرشاد المعرضين عن الهدى والصواب والسداد. قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ» التي حكم لهم بدخولها والتنعم بنعيمها «زُمَراً» جماعات وزرافات على مراكبهم ومراتبهم، وجاء هنا لفظ السوق للمقابلة أو أنه للمراكب لا للراكبين لإرادة السرعة إلى دار الكرامة بالهيبة والوقار والاحترام، فشتان بين السوقين «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» قبل وصولهم زيادة في تبجيلهم وليحصل لهم كمال السرور بدخولها رأسا من غير انتظار لأن الخزنة فتحوا أبوابها ووقفوا عليها صفوفا منتظرين قدومهم ليتشرفوا بهم كما هي الحالة في الدنيا عند قدوم أمير أو وزير أو عند ما يدخل السلطان مقامه في الأيام الرسمية ليتقبل التبريكات من رعيته والسلام عليه إذ يقف الجنود والموظفون صفوفا عن يمين وشمال الباب الذي يجلس فيه إكراما له وإعلاما بأنها مهيأة لهم، فيدخلون بالاحترام والتكريم وتؤدى لهم التحية عنده دخولهم وخروجهم، وهكذا في الآخرة تقف الملائكة صفوفا لاستقبال أهل الجنة، وشتان بين هؤلاء الصفوف وتلك الصفوف، راجع الآية 50 من سورة ص في ج 1. ومن هنا فليعلم أهل الدنيا الفرق بين تلك الحالتين، وعند ما يقبل أهل الجنة تحييهم الملائكة عن يمين الأبواب وشمالها احتراما لهم بدلالة قوله تعالى «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» مقاما ونفسا «فَادْخُلُوها خالِدِينَ 73» فيها أبدا فيدخل كل منهم الباب المهيء له فيها منزله بحسب عمله، اللهم اجعلنا منهم بكرمك «وَقالُوا» بعد أن رأوا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الدنيا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» الذي وعدنا به أنبياؤه في الدنيا «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» ملكنا أرض الجنة بدلا من أرض الدنيا والمراد بالأرض التي استقروا عليها بعد دخولهم الجنة تشبيها بأرض الدنيا من حيث الاسم وإلا لا مشابهة ولا مقايسة، وجعلنا «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» من قصورها ومضاربها ومنتزهاتها التي منحنا الله إياها مما تشتهيه أنفسنا وتلذ أعيننا «فَنِعْمَ» الأجر «أَجْرُ الْعامِلِينَ 74» خيرا الفاعلين حسنا في الدنيا، الجنة ونعيمها: نعمت جزاء المؤمنين الجنة ... دار الأماني والمنى والمنة

تفسير سورة المؤمن عدد 10 - 60 - 40

«وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ» عليهم محيطين بهم ومحدقين صفوفا «مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» إلى حيث يشاء الله تعالى إذ ذكر لنا ابتداء الغاية وسكت عن المغيا فلا يعلمها غيره لأن عرش الرحمن يكون في عرصات في الأرض، قال تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية 18 من سورة الحاقة الآتية، وذلك بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات، راجع الآية 48 من سورة إبراهيم الآتية، لأن أرضنا هذه لا تحويه وهي بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة، وقال تعالى: (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا) الآية 22 من سورة والفجر المارة في ج 1، وقال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) الآية 38 من سورة النبأ الآتية وهؤلاء الملائكة ديدنهم «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» تلذذا لا تعبدا إذ لا تكليف هناك وهذا التسبيح والتحميد من الملائكة بمقابلة أبواق الجند وترتيلاتهم في الدنيا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» من قبل الحق ووضع كل من الفريقين بمنزلته المخصصة له بقضاء قاضي القضاة الأبدي «وَقِيلَ» والقائل والله أعلم المؤمنون «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 75» شكرا على ما أولاهم من هذه الكرامة الأبدية، فالحمد الأول كان على انجاز وعده وإيراثهم الأرض، وهذا الحمد الثاني على القضاء بالحق فلا تكرار، والأول فاصل بين الطرفين بالوعد والوعيد والرضى والسخط، والثاني للتفريق بينهما بحسب الأبدان فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم إن الملائكة تحمد الله تعالى أيضا على ذلك القضاء لخلاصهم من تهم ما نسبوه إليهم من العبادة. ويوجد أربع سور مختومة بمثل هذه اللفظة هذه والصافات والقلم وكورت. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة المؤمن عدد 10- 60- 40 (وتسمى سورة غافر) نزلت بمكة بعد سورة الزمر عدا آيتي 56/ 57 فإنهما نزلنا في المدينة، وهي خمس وثمانون آية، والف ومئة وتسعون كلمة، وأربعة آلاف وتسعمئة وستون حرفا، ويوجد في القرآن سبع سور مبدوءة بما بدئت به، وهي هذه والسجدة والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.

[سورة غافر (40) : الآيات 1 إلى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «حم 1» اسم للسورة ومبدأ أسماء الله المحسن والحكيم والحاكم والحنان والمنان والحي والمميت والمجيد والمبدئ المعيد، قال ابن عباس: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم، والمر، وحم، ونون اسم الله الرحمن حروف مقطعة، وحم بمعنى حمّ أي قضي الأمر بما كان وما سيكون من مبدأ الكون إلى منتهاه، وهذه السور السبع تسمى آل حميم. قال الكميت بن يزيد في الهاشميات: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومغرب وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير ويتعجب منه إذ هو على روضات دمثات، فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب، فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم وتجمع بالمدّ كالطواسين والطواسيم وتقرأ بالتفخيم ومد الحاء وفتحه وإسكان الميم، وقرأها حمزة وغيره بالإمالة، وقرأها قراء المدينة بين الفتح والكسر، وقرأها بعضهم بكسر الميم ويجمعها على حاميمات، ومن شواهد هذا الجمع ما قاله ابن عساكر في تاريخه: هذا رسول الله في الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات أما معناها فأحسن الأقوال فيها قول من قال الله أعلم بمراده بذلك كما هو الحال فيما تقدم من الأقوال في الر والم والمص وطسم وطس وق ونون وص، وشبهها لأنها رموز بين الله تعالى ورسوله لا يعرفها على الحقيقة غيرهما، راجع ما ذكرناه أوائل السور المذكورة تجد ما تريده، إذ لم نترك قولا قيل فيها وزدنا فيها ما لم يقله أحد وهو أنها رموز بين الله ورسوله، ومنها اتخذ الملوك والأمراء الشفرة التي لا يعرفها غيرهما، لأن جميع ما في الدنيا أخذ من كتب الله السماوية، سواء ما يتعلق بالملوك والحكام والأحكام والآداب والأخلاق والتنعيم والتعذيب والحراسة والمراسيم وغيرها. «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الغالب المنيع، والكلام فيها كالكلام في مبدأ سورة الزمر المارة لفظا ومعنى وإعرابا، إلا أنه هنا يجوز

مطلب الجدال المطلوب والممنوع وبحث في العرش والملائكة ومحاورة أهل النار:

جعل تنزيل فما بعده خبرا لحميم، وهناك ختم الآية بلفظ الحكيم، وهنا بلفظ «الْعَلِيمِ 2» بكل ما كان وسيكون في الدنيا والآخرة وهو من تفتن النظم ولا شك أن البليغ علمه بالأشياء وكنهها يكون حكيما بتصرفاتها ووصفها ووضعها في محالها «غافِرِ الذَّنْبِ» مهما كان لمن يشاء عدا الشرك «وَقابِلِ التَّوْبِ» من أي كان مهما كان فاعلا، وساتر لما كان قبل التوبة من الذنوب «شَدِيدِ الْعِقابِ» لمن يبقى مصرا على كفره وعناده لاستكباره عن الرجوع إلى ربه «ذِي الطَّوْلِ» السعة والغنى والأنعام الدائم «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3» والمرجع في الآخرة. قد اشتملت هذه الآية العظيمة على ست صفات من صفات الله تعالى ملزمة للإقرار بربوبيته واستحقاقه للعبادة إذ جمعت بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وهي وحدها كافية للإيمان به تعالى وبما جاء عنه من كتاب ورسول لمن كان له قلب واع وآذان صاغية. مطلب الجدال المطلوب والممنوع وبحث في العرش والملائكة ومحاورة أهل النار: قال تعالى «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» بالله ورسله وكتبه، أما المؤمنون فلا يجادلون بل يمتثلون أوامر ربهم فيه وينقادون لها ويسلمون لما جاء به الرسل ويحققونه فعلا. واعلم أن هذه الآية والآية 176 من سورة البقرة في ج 3 وهي (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) من أشد آيات القرآن على المجادلين فيه. أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: إن جدالا في القرآن كفر، وقال المراء في القرآن كفر. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوما يتمارون، فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عزّ وجل بعضه ببعض، وإنما أنزل الكتاب ليصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعضه فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج صلّى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب. وقد نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال

ما كان منه بالباطل من الطعن في آيات الله المبرأة من الطعن، وما كان القصد منه ادحاض الحق وإطفاء نور الله عز وجل، يؤيد هذا ما سيأتي من تشبيه حال كفار مكة بكفرة الأحزاب قبلهم. أما الجدال في آيات الله لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقاومة آراء أهل العلم في استنباط معانيها وبلاغة مبانيها وردّ شبه أهل الزيغ عنها وإحراقهم بإفحامهم وإظهار جهلهم فيها فهو أعظم من الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو لازم على كل قادر كامل عارف في كلام الله. هذا، وما نقلناه من الأخبار أعلاه يومىء إلى هذا إذ يشعر أن نوعا من الجدال في القرآن كفر فدحضه من أعظم القربات لله تعالى وهذا يسمى جدالا عن آيات الله لا في آيات الله، فلذلك كان محمودا لأن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذّب عن الشيء، ويتعدى بغي إذا كان بخلافه وهو المذموم «فَلا يَغْرُرْكَ» يا سيد الرسل «تَقَلُّبُهُمْ» تصرف الكفرة المجادلين «فِي الْبِلادِ 4» ذاهبين آئبين سالمين غانمين في تجاراتهم وزراعاتهم وزياراتهم، فإن عاقبة أمرهم الهلاك والخسار، ومرجعهم إلى العذاب والدمار. واعلم أنه كما كذبك قومك «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ» الرسل أمثالك «قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ» الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب وقاتلوهم فنصر الله رسله عليهم، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قوم محمد وأقاربه سيتحزبون عليه أيضا، وقد كان منهم ذلك كما سيأتي في الآية 9 من سورة الأحزاب في ج 3، «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ» فيقتلوه، وفي هذه الجملة إيماء أيضا إلى أن قوم محمد سيهون بقتله وكان منهم أيضا كما سيأتي في الآية 31 من سورة الأنفال، وسيأتي تفصيله في بحث الهجرة في سورة العنكبوت إن شاء الله. هذا سببها الظاهري، أما سببها الباطني فهو علو شأن الإسلام وشموخ حكمته وارتفاع رايته وتعظيم أهله «وَجادَلُوا» رسلهم «بِالْباطِلِ» كما جادلوك به «لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» الذي جاءوهم به ويمحقوه بقصد إبطاله، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ويطفىء كلمة الكفر على رغم أنفهم. قال تعالى «فَأَخَذْتُهُمْ» ودمرتهم عقابا لفعلهم ذلك «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ 5» إياهم أي كان عقابا مهولا يتعجب منه المتعجبون «وَكَذلِكَ» مثل ما وجب العذاب على أولئك أقوام الرسل قبلك

«حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» بالعذاب «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من قومك، لأن السبب الداعي إليه واحد وهو «أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ 6» في الآخرة فضلا عن عذاب الدنيا الذي عجلناه لهم، يقرأ أنهم بالكسر على أن الجملة بدل من قوله كلمة ربك وبفتح الهمزة على حذف لام التعليل وهكذا. قال تعالى «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» من الملائكة «وَمَنْ حَوْلَهُ» منهم الحافّين به وهم سادات الملائكة وأعيانهم. وكلمة الذين كلام مستأنف مبتدأ خبره «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ» بأنه الواحد الفرد الصمد الذي لا شريك له ولا وزير ولا صاحبة ولا ولد، وهذا إظهار لشرف الإيمان وترغيب المؤمنين به، لأنهم مؤمنون حقا وإيمانهم به معلوم، وهذا على حد وصف الأنبياء بالصلاح والصدق والوفاء وهم كذلك إظهارا لوصف هذه الخصال، وترغيبا للمؤمنين بالاقتداء بهم فيها. وكيفية تسبيحهم والله أعلم هو: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم من هيبة جلاله، وهم أشد خوفا من جميع أهل السموات، لأن العبد كلما ازداد قربا من ربه ازداد معرفة به، وكلما ازداد معرفة ازداد خشية منه، ولذلك من عرف ربه هابه كما أن الذي يتقرب من الملك يعرف من سطوته مالا يعرفه غيره البعيد عنه، فيشتد خوفه بقدر قربه منه ومعرفته له «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» ويقولون في استغفارهم «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً» أي وسع علمك ورحمتك كل شيء فكل منها تمييز محول عن الفاعل «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا» من عبادك من كفرهم وعصيانهم «وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» القويم في الدنيا وآمنوا برسلك وكتبك فاعف عنهم يا مولانا «وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ 7» في الآخرة «رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ» على لسان رسلك يا ربنا، هم «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب المنيع سلطانه البديع شأنه «الْحَكِيمُ 8» فيما يفعل الذي لا يقع في ملكه إلا ما هو مقتضى حكمته الباهرة. ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 21 من سورة الطور الآتية والآية 22 من سورة الرعد في ج 3 فراجعهما،

ومنها يفهم أن مطلق الإيمان كاف لإلحاقهم بهم وإدخالهم الجنة، لأن الإنسان متى ما وسم بالإيمان صار صالحا لدخول الجنة ولو لم يعمل شيئا، وذلك من فضل الله بعباده «وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ» وأجرهم من عقابها بكرمك وجودك وإحسانك «وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ» الموجبة للعذاب وتمنعه من قربانها بفضلك وتوفيقك وهدايتك «يَوْمَئِذٍ» يوم إذ كان في الدنيا «فَقَدْ رَحِمْتَهُ» رحمتين رحمة في الدنيا من أن يوصم بها، ورحمة في الآخرة بالنجاة من عقابها ووبالها. واعلم أن لفظ السيئة عام في كل شيء يعمله الإنسان بنفسه أو بغيره مالا وبدنا مادة ومعنى من كل ما يطلق عليه لفظ قبيح وجميع الحركات الرذيلة والإشارات البذيئة «وَذلِكَ» اتقاء السيئات في الدنيا والرحمة بالآخرة هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 9» في جوار الله تعالى في جنته فلا فوز أعظم منه ولا تصل العقول إلى كنه عظمته. انتهى كلام الملائكة عليهم السلام وهو كلام جميل بديع جامع مانع محصور في جهتين التمجيد للرب وطلب المغفرة لأهل الإيمان. قال مطرف: أنصح عباد الله تعالى للمؤمنين الملائكة، وأنمش الخلق لهم الشياطين. وقد وردت أخبار كثيرة في وصف الملائكة والعرش ضربنا عنها صفحا لعدم الوثوق بصحتها، ولأنهما في الحقيقة فوق ما يقولون ولا يعرف حقيقتهما وصفتهما على ما هما عليه إلا الله تعالى، وما نقل من الأخبار لا قيمة له، لأنهما مما لم يشاهد وما لم يشاهد لا يوصف. هذا، وقد أخرج جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى عزّ وجل من حملة العرش إن ما بين شحمتي أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عام. وروى جعفر عن محمد عن أبيه عن جدّه قال: ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين الف عام. فما بالك ببقية الأوصاف التي ذكرها الأخباريون؟ لأن العقل لا يسعها، فعلى العاقل أن يكتفي بما وصف الله في كتابه من كونهم غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأن العرش من عظم خلق الله، وأن الملائكة أقوياء أشداء متناهون في العظمة، وقدمنا ما عثرنا عليه من الأقوال الصحيحة في الآية 20 من سورة التكوير والآية 54 من سورة الأعراف والآية 4 من سورة طه والآية الأولى من سورة الإسراء في

[سورة غافر (40) : الآيات 11 إلى 20]

ج 1 والآية 6 من سورة هود المارة فراجعها. هذا، وقد جاء دعاء الملائكة شاملا وكأنها القائل: إن تغفر اللهم فاغفر جمّا ... فأي عبد لك لا ألمّا أشار إلى دعائهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ» يوم القيامة من قبل خزنة جهنم حين يضجون من المكث فيها فتقول لهم الملائكة «لَمَقْتُ اللَّهِ» لكم «أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» والمقت البغض الشديد والبغض نفار النفس من الشيء ترغب فيه، وهو ضد الحب وأشده لمن يراه متعاطيا القبيح من الأعمال، فالكفار يمقتون أنفسهم من طول المكث في جهنم، لأنها أمرتهم بالسوء الذي من أجله وقعوا فيها فيغضبون عليها ويغيظونها ويعضون أناملهم من الغيظ حتى يأكلونها وينكرون على أنفسهم بما قادتهم إليها شهواتهم على رءوس الأشهاد، فعند ذلك تناديهم الملائكة كما قص الله عز وجل فتقول لهم «إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ 10» بالله وتكذبون رسله تبعا لأهوائكم واقتداء بآبائكم، فهذا جزاؤكم، فيجاوبونهم بقولهم «قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» الموتة الأولى حينما أشهدهم على أنفسهم في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإيمان به وبرسله، راجع الآية 152 من سورة الأعراف في ج 1، ثم خلقهم بعد هذه الموتة التي كانوا بعدها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات مستقرين ومستودعين، ثم أماتهم بعد انقضاء آجالهم في الدنيا، والموتة الثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال «وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» الأولى في الدنيا بالولادة والظهور إلى عالم الظهور من دنيك المستودع والمستقر راجع الآية 99 من سورة الأنعام المارة، قال الغزالي: الولادة الأولى الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، ثم تكون الولادة الثانية من الرحم إلى هذه الدنيا، والحياة الثانية الإحياء للبعث في الآخرة، ونظير هذه الآية الآية 29 من سورة البقرة فراجعها. هذا، وقد عدد في هذه الآية أحوال المحنة والبلاء أربعة: موت في عالم الذر وموت في الدنيا وحياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وكلها عرضة إلى المحن والبلايا، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على عذاب القبر وفسروا الحياة الثانية فيه والموتة الثانية

مطلب احتجاج الحرورية ومعنى الروح وإعلان التفرد بالملك وإجابة الكل لله به:

التي تعقب هذه الحياة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 46 من هذه السورة، وقالوا أيضا لربهم «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا» الآن وتبنا عما كنّا عليه في الدنيا «فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ 11» للرجوع إلى الدنيا لنعمل صالحا يا إلهنا لأنا عرفنا كل شيء كنا نكرهه وننكره أنه حق كالبعث وإنزال الكتب وإرسال الرسل والجنة والنار وغيرها والحساب والعقاب على كل ذرة من الأفعال وكل حرف من الأقوال وكل حركة من الأطوار وكل فتيل ونفير وقطمير، وتحقق لدينا أن الشرك باطل والأوثان لا تنفع وأن الملائكة وعزير وعيسى عباد الله تعالى ليس لهم من الأمر شيء ولا شفيع ولا شفاعة إلا بإذن الله لمن يريده، وأن الله منزه عن الصاحبة والولد لا وزير له ولا شريك. فقيل لهم لا طريق إلى الرجوع إلى الدنيا ولا سبيل إلى الخروج من النار «ذلِكُمْ» الذي أوقعكم في العذاب وحرمكم من ثواب الآخرة منّى لكم الرجوع إلى الدنيا هو «بِأَنَّهُ» كنتم «إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ» به واشمأزت نفوسكم من ذكره «وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا» تصدقوا وتستبشروا، وقد بلغتكم رسلكم مصيره وحذرتكم هول هذا اليوم الذي تخلدون فيه بما أنتم عليه من العذاب، وليس بوسع أحد إجابة طلبكم، ثم تقول لهم الملائكة أيضا قولوا كما نقول نحن لا مناص مما حكم الله به «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ» في هذا اليوم العصيب «الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ 12» الذي لا أعلى ولا أكبر منه، ولا رادّ لحكمه ولا معقب لقضائه. مطلب احتجاج الحرورية ومعنى الروح وإعلان التفرد بالملك وإجابة الكل لله به: قيل كان الحرورية أخذوا قولهم لا حكم إلا لله من هذه الآية، قال قتادة: لما خرج أهل حروراء قال علي كرم الله وجهه من هؤلاء؟ قيل المحكمون أي القائلون لا حكم إلا لله، فقال رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل. واستدلالهم هذا فاسد واه، ويكفي الرد عليهم قوله تعالى (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) الآية 35 من سورة النساء ج 3 وقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الاية 95 من المائدة ج 3، فإذا كان جل جلاله أمر بالتحكيم لحل خلاف بين الزوجين وتقدير قيمة الحيوان المصاد أو مثله فلئن يأمر بالإصلاح بين المسلمين على

طريق التحكيم من باب أولى وخاصة ما يتعلق بأمر الإمامة. قال تعالى «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ» الدالة على قدرته في كل شيء من مكوناته: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد قالا أو حالا «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» ماء هو نفسه رزق، وفي الآية 5 من سورة الجاثية الآتية (مِنْ رِزْقٍ) لأنه أفضل الأرزاق وأحوجها للبشر، ويتسبب عن نزوله جميع الأرزاق لجميع الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وفصائلها شرابا وقوتا وفاكهة غطاء ووطاء ولباسا «وَما يَتَذَكَّرُ» في هذا الرزق الذي فيه حياة كل نام وبقاء كل جامد «إِلَّا مَنْ يُنِيبُ 13» إلى خالقه في جميع أموره، فالخاشع الخاضع هو الذي يتذكر في تلك الآيات الباهرات المبرهنة على وجود الخالق وصدق ما جاء به رسله، ولذلك «فَادْعُوا اللَّهَ» أيها الناس حالة كونكم «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» من كل شك وريبة وشبهة ومرية «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ 14» إنابتكم وإخلاصكم فلا تلتفتوا إليهم، وألجئوا إلى ربكم ذلك الإله العظيم «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ» المعارج المعظمة في غيوبه وفي صفات جماله وجلاله وكماله وهي مصاعد الملائكة إلى عرشه العظيم حين يعرضون إليه عليها وهو كناية في علو عزّته وشامخ ملكوته ورفعة شأنه وارتفاع سلطانه وسامي برهانه، ورفيع وما بعده اخبار لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) إلخ أو كل منها خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رفيع، وكلمة رفيع لم تكرر في القرآن «ذُو الْعَرْشِ» المجيد الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو الذي «يُلْقِي الرُّوحَ» التي هي «مِنْ أَمْرِهِ» ولم يعلم أحد ماهيتها، أو الوحي المعبر عنه بالروح لما فيه من حياة الأرواح «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لطاعته واجتباهم لرسالته، وقال بعضهم إن الروح هنا جبريل عليه السلام (فتكون جملة من أمره) سببية، أي يلقى الروح من أجل تبليغ أمره، ولا يخفى أن الروح يطلق على معان كثيرة الروح المعلوم والقرآن وجبريل والوحي، وكلها ينعم الله بها على عبادة المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة، والكل جائز هنا، والأولى أن يكون بمعنى الوحي لمناسبته لما بعده، والله أعلم. وقد أسهبنا البحث في الآية 86 من سورة

الإسراء فراجعها في ج 1 «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ 15» هو يوم القيامة إذ يتلاقى فيه الأولون والآخرون وأهل الأرض والسماء والأنبياء وأممهم والعابدون والمعبودون والظالمون والمظلومون والمتحابّون في الله، فتراهم «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ» ظاهرون للعيان لا يخفى أحد عن أحد، لأن الله يعطي الخلق قوة الإبصار بحيث يرى بعضهم بعضا جميعا، لا تحول رؤية أحد عن أحد، ثم يتجلى عليهم بحيث «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ» من أشخاصهم، ولا من أحوالهم وأفعالهم، كيف وهو المطلع عليهم في حين كونهم في الرحم إلى وقت وقوفهم بين يديه في الآخرة إلى ما بعد ذلك، لا يعزب عن علمه ذرة مما عملوه في الدنيا وما يصيبهم مثلها في الآخرة وإنما خصّ يوم بروزهم وهو عالم قبل ذلك وبعده، ولو اختفوا في أطباق الأرض أو في أقطار السماء، لأنهم كانوا في الدنيا يتوهمون أنه لا يراهم إذا استتروا بالحجب وأنه قد تخفى عليه بعض أحوالهم، أما اليوم فقد زال توهمهم وانمحق ظنهم، لأنهم مكشوفون على وجه البسيطة التي لا عوج فيها ولا ارتفاع، ثم يقول الله تعالى لجميع خلقه «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فتخضع الخلائق إجلالا لهيبته وإعظاما لجلاله وخاصة ملوك الدنيا فإنهم ينحنون لعظمته ويطأطئون رءوسهم لجلاله حياء وخجلا لا يتكلم أحد منهم، فيجيب الربّ نفسه بنفسه «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» 16 الذي قهر عباده بالموت وبعثهم قسرا للحساب والجزاء الذي لا رب غيره. وقيل إن أهل الموقف كلهم بلسان واحد يقولون لله الواحد القهار، فالمؤمنون على طريق التلذذ والتذكر والكافرون على جهة الذل والصغار. وما قيل إن هذا النداء يكون بعد النفخة الأولى وفناء العالم ينافيه ظاهر الآية، لأن التلاقي لا يكون إلا بعد النفخة الثانية، والبروز يكون في المحشر، والنداء يكون لحاضر يسمع لا لميت، فبطل هذا القيل من ثلاث وجوه، ويؤكد بطلانه الدليل الرابع وهو قوله عز قوله «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» على أحد منكم، ولا يكون هذا إلا يوم الحساب إذ يحاسب فيه كل على ما عمل إن خيرا يكافى خيرا منه وإن شرا يجازى شرا بمثله، الحقير والخطير والقوي والضعيف والغني والفقير سواء، فليأمن الكل من الظلم لأن الحاكم هو ملك الملوك وقاضي

القضاة الذي لا يبالي بأحد ولا يراعي أحدا «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ 17» يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد، لا يشغله حساب أحد عن غيره ولا يلهينه جزاء واحد عن الآخر، كما لا يشغله شأن عن شأن. انتهى خطاب الله لخلقه الذي سيخاطبهم به في الآخرة، وقد أعلمهم به الآن ليكونوا على بصيرة من أمرهم فيتفوه ويحذروه ويخافوه. ثم التفت إلى حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم فقال «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» القيامة سميت آزفة لقرب وقتها، لأنها لا شك آتية وكل آت قريب، ولا يبعد على الله شيء قال الشاعر: أزف الرحيل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد أي لا تستبعدوها أيها الناس، فإنها مباغتتكم وسترون من شدة هولها «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ» تصعد قلوبهم إلى حناجرهم من شدة الفزع وكثرة الوجل فتكون في تراقيهم لا تعود لأماكنها فيستريحوا ولا تخرج من أفواههم فيموتوا حال كونهم «كاظِمِينَ» مكروبين ممسكين أنفسهم على قلوبهم ممتلئين خوفا وجزعا، لأن في ذلك اليوم «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ» صديق شفوق أو قريب ودود أو حبيب رءوف يميلون إليه، ولا يقدر أحد أن يحميهم ولو بكلام «وَلا شَفِيعٍ» لهم في ذلك اليوم «يُطاعُ» قوله أو يسمع كلامه لأن شفعاء الكفرة أوثان مهانة لا شفاعة لها وأنها قد تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم لها، وقد يأتي يطاع بمعنى يجاب قال الشاعر: رب من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنى لي موتا لم يطع وعليه يكون المعنى ما لهم شفيع يجاب طلبه، أي أن لهم أصدقاء وشفعاء ولكن لا يجاب طلبهم، وفي تلك الساعة شفعاء المؤمنين أيضا لا يقدرون أن يشفعوا إلا لمن يأذن لهم بشفاعته، فلا يتكلمون بالشفاعة لأحد إلا بإذنه ولمن يرتضيه سواء كانوا أنبياء أو أولياء أو شهداء أو أصدقاء وأقرباء صلحاء، فالكل إذ ذاك سكوت لا يقبل قول ولا يسمع كلام، إلا أن المؤمنين لهم أمل بالشفاعة من هؤلاء الكرام على الله تعالى وهو لا يخيب أملهم، أما الكافرون فلا أمل لهم البتة، لأن الله يهين أوثانهم التي كانوا يأملون شفاعتها، فتتقطع أفئدتهم أسفا وأسى وحزنا.

[سورة غافر (40) : الآيات 21 إلى 30]

واعلموا أيها الناس أن ذلك الإله الجليل الذي ستعرضون عليه في ذلك اليوم «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ» استراق النظر من أحدنا إلى ما لا يحل، فكل نظرة لما نهى الله عنه تسمى خائنة يحاسب عليها العبد، ألا فليتق الله الإنسان وليصرف نظره عن المحارم إلى ما أحل الله والتفكر في ملكوته والتملي من كتابه، ولا يستحسن إلا الحسن الجائز له أن يستحسنه، قال بعض العارفين: وعيني إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها لأن البكاء من خشية الله يطهر المساويء «وَما تُخْفِي الصُّدُورُ 19» يعلمه أيضا وما هو أخفى لاستواء السر والعلانية عنده، فكل ما تضمره القلوب من خيانة أو غل أو غش أو حسد أو غيره يعلمه الله، فافعلوا ما شئتم أيها الناس فهو لكم بالمرصاد «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ» بينكم وبينه وبينكم وبين عباده وأعدائه، لا رجاء ولا رشاء ولا مودة ولا مكانة ولا مال ولا جاه ولا منصب ولا عشيرة «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أوثانا ويعبدونها بدله أو يشركونها معه بالعبادة «لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» لدعاتهم ولا لعبادهم في ذلك اليوم وقد كانوا في الدنيا يقضون بينهم بحق وباطل بحسب ما تهواه أنفسهم، أما اليوم فالحكم كله لله ولا يكون إلا بالحق وهذا من قبيل التهكم فيهم، لأن من لا يوصف بالقدرة لا يقال له يقضي أو لا يقضي، وهذا أبلغ من جعل يقضي هنا من باب المشاكلة لأن القصد السخرية بهم لا الاستدلال على صلاحيتهم للإلهية والقضاء. واعلم أنا قد نأتي بالضمائر في مثل هذا كضمائر العقلاء موافقة لزعم عابديها، لأن القرآن العظيم أتى بمثل ذلك لهذا الفرض «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوال خلقه «الْبَصِيرُ 20» بأفعالهم فيكافيء كلا بما يستحقه بمقتضى عمله، وفي الآية تعريض بأن أصنامهم لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم ولا تقدر على شيء، قال تعالى «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ» وكيف أهلكناهم وبقيت ديارهم خاوية «كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ» من قومك يا سيد الرسل «قُوَّةً» على تحمل المشاق والقتال وغيره «وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» أيضا أكثر منهم لأنهم مكثوا فيها وعمروا أكثر منهم كما يعلم من المعالم المتروكة عنهم وأطلال ديارهم،

مطلب قصة موسى مع فرعون واستشارة فرعون قومه بقتله ومدافعة مؤمن آل فرعون عنه:

ومع هذا كله فلم تغن عنهم قوتهم وتعميرهم من الله شيئا «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ» التي عملوها، فاعتبروا بهم وأقلعوا عما يوجب أخذكم، فالعاقل من اعتبر بغيره «وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ 21» يقيهم عذابه أو يحول دون نزوله بهم «ذلِكَ» الأخذ الفظيع من قبل الإله العظيم «بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ليؤمنوا «فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ» بكفرهم وعدم طاعتهم أنبيائهم وعدم اكتراثهم بهم وبما أظهروه لهم من الأدلة الواضحة على وحدانيته «إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ 22» دائمه لا مخلص لأحد منه ولا مهرب لمن قدّر له منه، وكل عقاب دون عقابه هين، لأنه منته ولا نهاية لعقاب الله. قال تعالى فيما يقصه على نبيه «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» 23» «إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ 24» كرر الله تعالى هذه القصة لنبيّه بأوسع مما ذكرها قبل في سورة القصص في ج 1 وما بعدها وغيرها تسلية له لئلا يحزن على عدم إيمان قومه ولا يضجر مما وصموه به فإن قوم موسى جابهوه بأكثر مما وصمت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم ولتكون له أسوة به فلا يجزع، وليقف على ما فعلوه به عدا ذلك «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا» لم يكتفوا بتكذيبه وإنكار معجزاته ورميه بالكذب والسحر بل «قالُوا» لقومهم «اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ» حتى لا يتابعه أحد، ويتركوا دينه كما فعلوا بقومه ذلك قبل ولادته ورسالته، فأبطل الله كيدهم وقال «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ 25» لأن الطريقة التي اتبعوها أولا كانت بقصد موسى، وقد حفظه الله منهم حتى ربّاه في داره، فعودهم إليها الآن بقصد التخلي عنه وعدم إيمان أحد به، ورجوع قومه إلى دينهم لا يغني عنهم من تنفيذ قضاء الله بإبقائهم مؤمنين واستخلاصهم من قبضة فرعون وقومه، كما لم تغن أعمالهم الأولى من قتل موسى، إذ حفظه الله ونجاه من كيدهم. مطلب قصة موسى مع فرعون واستشارة فرعون قومه بقتله ومدافعة مؤمن آل فرعون عنه: ثم ذكر الله تعالى ما كان يضمره فرعون لموسى عليه السلام وهو «قالَ فِرْعَوْنُ»

لوزرائه وخاصته وحاشيته «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» ليمنعه مني وذلك أنه كان مصممّا على قتله وكلما أراد تنفيذ ما صمم عليه يكفونه عنه خوف سوء السمعة لئلا يقول الناس إنه عجز عن معارضته بالحجة فقتله. وهذا قول حق قد أنطقهم الله به ليحفظ الله موسى من القتل تنفيذا لوعده بذلك المار في الآية 45 من سورة طه والآية 25 من سورة القصص المارتين في ج 1، وقد نصحوا ملكهم بهذا، وهكذا الوزراء الذين يحرصون على سمعة ملكهم يشيرون عليه بكل ما يحفظ سمعته من الشوائب. على أن فرعون لا يقدر على قتله لو وافقوه عليه، لأن الله تعالى حافظه ومنجز وعده له بإهلاك فرعون واستخلاص قوم بني إسرائيل منه، والخبيث فرعون يعرف يقينا بدهائه وذكائه أن موسى نبي مرسل من الله وأنه لا يستطيع إيقاع أي شيء به، وأنه سيهدم ملكه، ولو هم بقتله لعاجله الله بالهلاك، قبل أن يمسه الله بسوء. ولذلك لم يجرؤ عليه، وإلا فهو السفّاك للدماء بأقل شيء، وإنما كان يهدد تهديدا رغبة بامتداد أجله ويموه على قومه بما يقول وليظهر أنه قادر على قتله وقال لهم بما يستعجلهم لموافقته «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ» السوي الذي أنتم عليه ويغير سلطانكم ويستذلكم فيتفوق عليكم «أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ 26» الهيجان بسبب ما يدعو إليه فيكثر القتل وتتعطل معايش الناس ومصالح الدولة، ولهذا أريد أن توافقوني على قتله، قاتله الله على هذا التمويه، إذ ما هو عليه ليس بدين يرتضى حتى يخاف على تبديله، وهل على وجه الأرض أفسد منه في زمانه حتى يخاف الفساد، ولكن حب الرئاسة حبذّ له بيع الباقية بالفانية، وحمله على ذلك. ولما سمع موسى قوله ورأى ما هو عازم عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله عز قوله «وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ 27» مخاطبا قومه عليه السلام بالتجائه إلى ربه مما توعده به فرعون، كما أن فرعون خاطب قومه بما أراده فيه محتجا بما ذكره من الترهات، وإنما قال (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) لأن فرعون وقومه لا يعتقدون وحدانية الله، فجاهرهم بذلك. ونظير هذه الآية الآية 121 من سورة الأعراف المارة في ج 1، ولما كان مؤمن آل فرعون المار

ذكره في الآية 7 من سورة القصص المارة في ج 1، يسمع قول فرعون وآله وقول موسى عليه السلام، أخذته الأريحية، فانتبهت مروءته «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» بموسى وربه من يوم ألقي في البحر، راجع قصته في الآية المذكورة آنفا من القصص «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا» أيها الناس بسبب «أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ» استفهام إنكار بتعجب لأن مثل هذا ينبغي أن يتّبع لا أن يقتل، وكيف تقتلونه «وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ» اليد والعصا وإزالة العقدة وإفحام السحرة «مِنْ رَبِّكُمْ» برهانا واضحا على صدق دعوته وفي قوله رحمه الله (مِنْ رَبِّكُمْ) بعث لهم على أن يقتدوا به بالكفّ عن تعرضه فيما يدعيه «وَإِنْ يَكُ كاذِباً» كما تزعمون «فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ» لا يلحقكم من وباله شيء «وَإِنْ يَكُ صادِقاً» وكذبتوه بما جاءكم عنادا لا بد «يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» به من العذاب إن لم يحل بكم كله. وهذه على طريقة التقسيم في بديع الكلام، أي الأمر لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكان أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة، وعليه يكون المراد بالبعض هنا عذاب الدنيا، لأنه مهما عظم فهو جزء قليل من عذاب الآخرة، وقد تأتي بعض بمعنى الكل، قال عمرو القطامي: قد يدرك المتمني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل ولعلها التأني بدليل مقابلتها بالمستعجل. وقال: إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا وقال الآخر: تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها أي لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، والأولى حملها على ظاهرها، لأن هذه الشواهد ليست بقوية لإمكان حمل بعض منها على ظاهرها، هذا، وقد أراد بخطابه فرعون ووزراءه وحاشيته الذين استشارهم بقتل موسى، وقد سلك رضي الله عنه في كلامه هذا غاية في المداراة ونهاية في الإنصاف بتوفيق الله له وهدايته للإيمان «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ 28» وهذه الجملة أيضا فيها مجاملة ومجاهلة، لأن ظاهرها الذي يريد أن يفهمه لهم هو إن

[سورة غافر (40) : الآيات 31 إلى 40]

كان موسى متجاوزا الحد في دعواه، فإن الله يخذله فتخلصون منه دون أن تقتلوه، وباطنه وهو الذي يريده أن فرعون باغ متجاوز الحد كثير الكذب وأن الله لا بد أن يخذله ونتخلص منه، فلا توافقوه على قتل موسى. ثم قال رضي الله عنه مذكرا لهم ما هم عليه من النعم ومهددا لهم بزوالها إن لم يطيعوه «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ» على غيركم «فِي الْأَرْضِ» وقاهرين أهلها وغالبين على من فيها «فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ» عذابه بسبب إقدامنا على قتله «إِنْ جاءَنا» ولا راد له حينئذ، أي لا تتعرضوا له فتكونوا عرضة إلى عذاب الله الذي لا يمنعنا منه أحد إذا نزل بنا. انتهى كلام المؤمن آمننا الله وإياه من عذابه ثم «قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ» ما أشير عليكم يا قوم «إِلَّا ما أَرى» لنفسي من النصح «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ 29» طريق الصلاح برأيي الصائب الذي لا أدخر منه شيئا ولا أسر غير ما أظهر وإني لا أستصوب إلا قتله لما فيه من المصلحة العامة لكم ولملككم، وان ما ترونه من خلافي فهو خطا وستعلمون ذلك، قاتله الله لو عرف سبيل الرشاد لآمن به ولكنه عديم الرشاد لأن الله بعثه رحمة له ولقومه فأبى قبولها ولما لم يتعرض لقول المؤمن لأنه لا يعرفه مؤمنا بموسى وهو يسمع كلامه، انبعثت فيه الغيرة وخاف أن تتفق الكلمة على قتله لما ذكر لهم فرعون من مصلحة بقاء الملك فقوى عزمه وأخذ بالعزيمة وبادر يرد عليه بما يخوفه فيه سوء العاقبة فقال فيما يحكيه عنه ربه «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن أجمعتم على قتله هلاكا عاما يستأصلكم «مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ 30» الأمم الذين تحزبوا واجتمعوا على رسلهم «مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ» إذ عمهم الله بالغرق «وَعادٍ» إذ أهلكهم الله بالريح العقيم «وَثَمُودَ» دمرهم الله بالصيحة «وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» أهلكوا كذلك بعذاب من عند الله فكان لكل يوم دمار قوم، والمراد باليوم الأيام، وإنما لم يجمع لأن جمع الأحزاب المتضمن طوائف مختلفة زمانا ومكانا وعنصرا اغنى عن جمع اليوم «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ 31» فيعذبهم بغير ذنب، ولكنهم أرادوا الظلم فظلموا فدمرهم الله، ونحن يا قومنا نخشى إن أردنا قتل هذا الرجل أن يصيبنا مثل ما أصابهم. ولما رآهم أصغوا لكلامه

تلبس بالجزم طلبا للكف عما أشار به فرعون، وأملا بإيمان قومه، فبادرهم بأمر الآخرة بعد أن لم ينجح معهم التهديد بأمور الدنيا، فقال «وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ 32» يوم القيامة سمي بذلك، لأن الناس تتنادى فيه كما حكاه الله تعالى في الآية 47 من سورة الأعراف ج 1، وينادى فيه سعد فلان وشقي فلان، وينادى بخلود أهل النار وخلود أهل الجنة، ويقول المؤمن (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ويقول الكافر (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) كما سيأتي في سورة الحاقة الآتية ذلك اليوم الذي يتبرأ فيه الناس من آبائهم وأمهاتهم «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» عن موقف الحساب متجهين إلى موقع العذاب «ما لَكُمْ» في ذلك اليوم المهول الذي يبرأ فيه الوالدان من أولادهم «مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يقيكم من عذابه، لهذا فإني أقول لكم يا قوم إن أصررتم على قتله ضللتم «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 33» يهديه البتة، وهذا تخويف لهم بالعذاب الأخروي الدائم بعد أن حذرهم العذاب الدنيوي الفاني، وبعد أن أيس من إيمانهم وقبولهم نصحه بالكف عنه، ورأى الوزراء والحاشية غير مبالين بذلك، لأن ملكهم يريد قتله لمصلحتهم ولم يروا أنهم يخالفونه بعد أن بث لهم نصحه من أنه لا يريد لنفسه إلا ما يريده لهم من الخير لأنهم رأوا أنفسهم مخطئين قبلا حين استشارهم بقتله أول أمره، وقالوا (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أما الآن وقد استفحل أمره وتبعه بعض قومه فلم يقدروا أن يصرحوا له بعدم قتله خوفا من أن يجابهم باللوم والتعنيف على ما سبق منهم وأنهم السبب في إبقائه لاتباعه رأيهم، وخافوا أن يفاجئهم فيبين لهم سوء رأيهم وخطأ تدبيرهم، ولربما أن يستفحل أمره أكثر من ذي قبل فيعجزون عن مقابلته ويصيرون سببا لضياع الملك، إلا أنهم لم يقدروا على مجابهة المؤمن بما داهمهم به من التهديد بسوء العاقبة لأنه لا يقابل بباطل فجنحوا عنه وأطرقوا والتزموا السكوت، فقوي جنان المؤمن وطفق يونجهم على ما وقع من آبائهم الأولين من تكذيب الرسل، فقال «وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ» بن يعقوب ابن إبراهيم «مِنْ قَبْلُ» مجيء موسى بن عمران هذا المتصل نسبه به «بِالْبَيِّناتِ» الواضحات كتعبير الرؤيا والإخبار بالغيب، وحفظ أهل مصر من الهلاك بالقحط بما

ألهمه الله من التدبير، وقد مكث عليه السلام أربعا وعشرين سنة يدعوهم إلى الله تعالى وتوحيده وأن يتركوا أوثانهم بما قد حكى الله عنه في الآية 37 من سورته المارة، لأنهم كانوا عبدة أوثان وقوم فرعون كذلك، لأنهم على أثرهم وزادوا عليهم عبادة فرعون لقوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) كما سيأتي في الآية 25 من النازعات الآتية أي على هذه الأصنام التي هي أربابا، لأنه كان يأمرهم بنحت الأصنام وتصويرها وعبادتها، وأنه يرى نفسه فوقها، لذلك ادعى تلك الدعوى الفاغمة التي لم يدعها أحد قبله إلا أخوه نمروذ الذي أنكر وجود الإله العظيم وأظهر لهم أن لا إله إلا هذه الأصنام، وأنه ربها وربهم، وزاده هذا الخبيث بما وصف به نفسه من العلو قال تعالى فيما يحكيه عن تذكير ذلك المؤمن الصادق الحازم موبخا لهم صنيعهم الأول بقوله «فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ» من الدعوة لتوحيد الله وترك الأوثان، لأنكم لا تزالون تعبدونها وظننتم أن يوسف ملك لا نبي ولم تنتفعوا بهديه «حَتَّى إِذا هَلَكَ» يوسف عليه السلام «قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» فأقمتم على كفركم ولم تصدقوه، وهكذا جاءكم موسى نبيا مثله فكذبتموه أيضا وأصررتم على ضلالكم «كَذلِكَ» مثل ضلالكم الأول الواقع من أسلافكم والضلال الثاني الحادث منكم «يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ» في العصيان «مُرْتابٌ 34» شاك في أمر النبوة. واعلموا يا قومي ان المتجاوزين الحد في الطغيان الشاكين في الدين القويم هم «الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» بغية تكذيبها ورغبة في إبطالها «بِغَيْرِ سُلْطانٍ» لديهم وحجة يحتجون بها وبرهان يدافعون به ودليل «أَتاهُمْ» من الله العظيم فهؤلاء «كَبُرَ» جدالهم هذا وعظم «مَقْتاً» بغضا شديدا «عِنْدَ اللَّهِ» رب الأرباب على الحقيقة «وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا به» يكبر ويعظم أيضا، لأن المؤمن من يتخلق بأخلاق الله «كَذلِكَ» مثل ما طبع الله على قلوب المكذبين قبلا، فجعلها لا تعي الحق ولا تهتدي لسلوكه «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ» بالكسر وينوّن «مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ 35» منكم وممن يعمل عملكم ويقتفي أثركم، وإنما خص القلب لأنه عمود البدن فإذا قوي قوي سائره وإذا ضعف ضعف باقيه، وإذا فسد فسد الجسد كله وإذا صلح بنور

مطلب بناء الصرح وسببه والقول السائد ما اتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه:

الحكمة وفقت الأعضاء لكل حسن من قول أو فعل. ولهذا خص القلب بهاتين الخصلتين ووصفه بهما، لأنه منبع الكبر والجبروت، كما أنه معدن الخصال الحسنة، فهو الكل بالكل فلم يرد فرعون ولا قومه على هذه الآيات البينات التي جمع فيها هذا المؤمن الغيور فأوعى، لأنها حجج داحضة قاطعة وبراهين لامعة ساطعة قامعة ودلائل باهرة وامارات واضحة بالغة لا جواب لها إلا القبول ممن أراد الله له القبول والسكوت ممن أراد الله له الهلاك، وإن فرعون خاصة يعلم أن ما جاء به هذا المؤمن الذي لم تأخذه في الحق لومة لائم، ولم يخش فيه إلا الله حقا لا مرية فيه، فلما غشيهم السكوت التفت فرعون إلى رأس وزرائه وخاطبه بقوله كما قصّ الله عنه: مطلب بناء الصرح وسببه والقول السائد ما اتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه: «وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً» قصرا عاليا مرتفعا في السماء ظاهرا المرائي على بعد، وقد مرّ بيانه في الآية 38 من سورة القصص في ج 1 فراجعه تعلم ماهيته وما فعل الله به «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ 36» ثم بين هذه الأسباب العظيمة فأبدل منها «أَسْبابَ السَّماواتِ» يريد أطرافها وأبوابها وكل ما أداك إلى الشيء فهو سبب كالرشاء الحبل الموصل إلى الماء في غور البئر «فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» نصب الفعل لجواب الترجي وهو جائز عند الكوفيين كالتمني ولم يجزه البصريون، وخرجوا نصب الفعل هنا على أنه جواب للأمر وهو (ابن) وعليه قوله: يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فتستريحا أي سيري فتستريح، قال تعالى حاكيا قول هذا الخبيث «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» فيما يدعيه من أن له ربا سواي، بل هو الكاذب قبحه الله وأرداه، قالوا إنه أراد بهذا البناء الرفيع رصد أحوال الكواكب التي هي أسباب تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على رسالة موسى، لأنه كان حزاء يعرف في النجوم، وهذا يدل على أنه كان معترفا بوجود الله تعالى، ومما يؤيد اعترافه بالله محاورة المؤمن له ولقومه المارة والآتية وعدم ردّه عليه هو وقومه، وكان اقتصارهم على أمر قتل موسى وعدمه مع الصفح عما يتعلق بالآلهة دليل على اعترافهم بالإله العظيم، إذ ما من أحد إلا ويعترف بوجوده، قال تعالى (وَلَئِنْ

سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية 26 من سورة لقمان المارة وهي مكررة كثير في القرآن بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، وهو نسبه كل شيء لله «كَذلِكَ» مثل هذا التزيين والصد البذيين «زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ» فانهمك فيه انهماكا لا يرتدع عنه «وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» السوي الموصل إلى الله وصد قومه عنها فضل وأضلهم ومنعه الله من تنفيذ ما كاده لموسى «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ 37» دمار وفساد وهلاك، ولما رأى المؤمن وجوم فرعون وقومه تجاه ما أسمعهم من التحذير والتهديد وضرب المثل فيمن قبلهم قويت شكيته فكر عليهم بالنصح والإرشاد والترغيب فيما عند الله تعالى لمن آمن به وصدق رسله، وصرح لهم بإيمانه بالله وحده والدار الآخرة بما ذكر الله عنه وهو «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ» فيما عرضته عليكم من الهدى ودللتكم عليه من طرق الرشاد المؤدية للخير والسداد «أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ 28» الحقيقي الموصل إلى الله لأن الطريق الذي يريدكم فرعون عليه هو طريق الفساد لا الرشاد وهو من أسماء الأضداد وهو يعلم ذلك إلا أن توغله في حب الرياسة وتمحضه في الأنانية والعناد وانهماكه في الشهوات أدى لتصلبه في الأمر وللتمويه عليكم في القول وليغريكم فيما يسرده عليكم لاستدامة استعبادكم وامارته عليكم فأطيعوني، وأنا الناصح الصادق البار بكم، أن تؤمنوا بموسى الذي جاء بما جاء به يوسف قبل الذي خلص أهالي مصر وغيرها من الهلاك المادي والمعنوي، وإن موسى سيخلصكم أيضا من محن الدنيا وعذاب الآخرة إذا آمنتم به، والرشاد نقيض الغي وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون هو طريق الغي، لأن غايته التنعيم بالدنيا الفانية وأنه يريدهم للآخرة الباقية ونعيمها الدائم، وشرع يذم الدنيا ويصغرها بأعينهم فقال «يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ» يسير يتمتع بها أياما قليلة ثم تنقطع «وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ 39» الأبدي الذي لا يزول فاعملوا لها لتنالوا نعيمها فهو باق لا يزول أبدا واعملوا يا قوم خيرا إن «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً» في هذه الدنيا «فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» سوءا في الآخرة غير جزاء الدنيا «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» في الآخرة جزاء

[سورة غافر (40) : الآيات 41 إلى 50]

عملهم الحسن «يُرْزَقُونَ» من النعم الجسيمة والخيرات العظيمة «فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ 40» رزقا واسعا بلا تبعة ولا تقتير ولا إسراف ولا تقدير بمقابلة العمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة، وفيها إشارة إلى عظيم فضل الله وشرف ثوابه ومزيد عطائه «وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ 41» في هذه الآية طلب منهم أن يوازنوا بين ما يدعونه إليه من اتخاذ الأوثان الموصلة إلى النار أندادا لله- تعالى عن ذلك- وبين دعوته لهم إلى دين الله الموصل إلى الجنة ليتفكروا في هاتين الدعوتين ويميزوا بينهما ويعرفوا ثمرة كل منهما، ولهذا قال لهم «تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» أنه إله وإني لا أعلم إلها غير الإله الواحد الحق «وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 42» لمن أناب إليه، ذكر لهم صنفين عظيمين من صفات الله تعالى الذي يدعوهم لعبادته بأنه منيع غالب قوي الجانب لا يقابل ولا يغالب، فمن التجأ إليه أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد أن يتسلط عليه، وأنه كثير المغفرة لمن يرجع إليه فلا يهولن من يأوي إليه كثرة ذنوبه وعظيم خطأه فإنه يسترها له مهما كانت، وهو واسع المغفرة، وهذا مما قذفه الله في قلب هذا المؤمن الكامل من نور الإيمان والمعرفة، فجعله ينطق بالحكمة توا، إذ أبدل جهله علما وكفره إيمانا وجبنه شجاعة، ومن هنا قيل: ما اتخذ الله من ولي جاهلا ولو اتخذه لعلمه «لا جَرَمَ» حقا «أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» من البقاء على دينكم وعبادة الصنم الذي «لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ» مقبولة «فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ» لأنه لا ينطق حتى يدعو الناس لعبادته ومن لا يقدر على النطق لا يجيبه أحد، وإن من حق المعبود أن يدعو العباد لعبادته، فإذا لم تكن له دعوة مجابة في الدنيا فمن باب أولى أن لا تكون له في الآخرة، ولهذا عطفها عليها، لأنها فضلا عن أنها لا تجيب عابديها فيها فإنها تتبرأ منهم وتنكر عبادتهم حينما يؤهلها الله للنطق لهذه الغاية «وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ» جميعا نحن وأنتم «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ» المتجاوزون حدود الله في استرقاق عباده السفاكين لدماء الأبرياء الغاصبين أموالهم بغير حق، فكأنه رحمه الله أراد أن يختم كلامه بما افتتحه وهو (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) فقال وإن المسرفين في القتل وغيره

من سائر المحرمات «هُمْ أَصْحابُ النَّارِ 43» لا غيرهم لأن كل متجاوز حدود الله بالقتل والكفر والشرك والفواحش ومات مصرا عليها فهو من أهل النار، كما جاءت به الآيات والآثار. ولا يقال هنا إن الله لا يحدد عليه، فله أن يعفو عن أمثال هؤلاء ويدخلهم الجنة، وله أن يدخل من أهل الجنة النار لأنه جل ذكره لا يسأل عما يفعل، ثم ضربهم بآخر سهم من كنانته فقال «فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ» الآن يا قوم غدا إذا لم تؤمنوا بربي وتسمعوا رشدي عند معاينتكم العذاب في الآخرة، وتندمون ولات حين مندم ولا ذكرى أقول لكم قولي هذا «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» وحده، فإذا أردتم أن توقعوا بي شرا بعد نصحي إليكم فهو لا بد منقذي منكم، ولهذا فلست بسائل عن وعيدكم وتهديدكم، فافعلوا ما شئتم، وذلك لما أطال عليهم وجاهرهم بإيمانه هددوه بالقتل أيضا إن لم يقلع عما يقوله لهم فأجابهم بأنه قد أدى ما هو واجب عليه وأنه لا يبالي بهم لأنه معتمد على الله، ولهذا ختم مجادلته بقوله «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ 44» يعلم المحق من المبطل وما يؤول إليه أمري وأمركم فهموا به ليأخذوه فهرب من بين أيديهم وأعماهم الله عنه فطلبوه فلم يجدوه وذلك قوله تعالى «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» فحال دون وصولهم إليه وحفظه من مكرهم وأذاهم «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ 45» وذلك بعد أن هرب موسى بني إسرائيل ولحق بهم فرعون وجيشه حتى وصلوا إلى البحر وتراءوا وكان ما كان كما بيناه في الآية 53 من سورة الشعراء في ج 1 فراجعه، فكان عذابهم الدنيوي بالغرق، ولعذاب الآخرة أشد كما سيتلى عليك بعد هذا، ومن قال إن هذا المؤمن هو موسى قول لا قيمة له فهو أوهى من بيت العنكبوت، وكأن هذا القائل استكثر على هذا المؤمن أن يقع منه مثل هذا ولم يدر أن نظرة من بحر جوده تقلب المريض صحيحا، والأبكم فصيحا، والمجرم بريئا، والكافر وليا، والفاجر بارا، والرجس طاهرا، قال تعالى معرضا بعذاب آل فرعون الأخروي بعد أن ذكر عذابهم الدنيوي في الآية 130 من سورة الأعراف المارة في ج 1 بقوله عز قوله «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا» وهذا العرض يكون لهم في البرزخ بعد الموت، هو غير

مطلب عذاب القبر ومحاججة أهل النار وبقاء النفس والدجال:

عذاب الآخرة بدليل قوله تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» يقال لخزنة جهنم «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ 46» أعظمه وأكبر أنواعه وأفظع ألوانه وأقبح أشكاله، ومنه إراءتهم أمكنتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ثم زجهم في النار حتى وصلوا إلى قعرها. مطلب عذاب القبر ومحاججة أهل النار وبقاء النفس والدجال: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشية إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك لله إليه يوم القيامة. وفي هذا دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب القبر في البرزخ لا غبار عليه، لأن المراد من العرض في الآية والمقعد في الحديث هو برزخ القبر لا غير، ولأن البعث يكون منه، ولا يراد منه وجوده في الدنيا، لأنه لم يكن حاصلا فيها، ولا يقال إنه خاص بآل فرعون لأنه إذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم، إذ لا قائل في الغرق، تدبر. وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبيد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، فذلك عرضها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور يخلقها الله تعالى من صور أعمالهم كما يخلق لتمثيل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترتع في الجنة لتنعم في البرزخ قبل نعمة الآخرة. ويؤيد هذا، الحديث الوارد، القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار. وأحاديث أخرى في هذا المعنى، وهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة نوح الآتية إن شاء الله، والله على كل شيء قدير. ومما يشهد لهذا ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى القائل عز قوله «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» في

[سورة غافر (40) : الآيات 51 إلى 60]

الدنيا «فَهَلْ أَنْتُمْ» الآن «مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً» حصة وجزءا «مِنَ النَّارِ 47» بأن تدفعوا عنا ألمها ولو ساعة لقاء ما كنا نخدمكم في الدنيا وننقاد لأمركم بمخالفة الرسل «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لأتباعهم المستضعفين «إِنَّا كُلٌّ فِيها» فلا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا فكيف يمكننا أن نتحمل عنكم قسما من عذابها فاسكتوا «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ 48» ولا راد لحكمه ولا دافع لقضاءه «وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ» لما اشتد عليهم البلاء فيها هلم «ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ 49» لنستريح فيها من ألمها المبرح «قالُوا» لهم «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ» وينذرونكم أيها الكفرة لقاء يومكم هذا ويحذرونكم وباله؟ «قالُوا بَلى» جاءونا ونصحونا وخوفوها هول هذا اليوم وعذابه ولكنا كذبناهم «قالُوا» لهم «فَادْعُوا» أنتم لأنفسكم لا ندعو لكم نحن لأنكم لا عذر لكم بعد أن بلغكم الرسل ذلك، ولم تصغوا لإرشادهم. قال تعالى قاطعا لأطماعهم «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ 50» لا يسمع ولا يجاب لأنه عبث باطل دعوا أو لم يدعوا، ثم ذكر ما يغيظهم ليزدادوا غما فقال «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بإعلاء كلمتهم على مجادليهم وتوفيقهم إلى الحجج الظاهرة والبراهين القاهرة والدلائل الباهرة مع النصر الفعلي على أعدائهم في الدين كما نوهنا به في الآية 103 من سورة يونس والآيتين 172/ 173 من سورة الصافات المارات وله صلة في الآية 47 من سورة الروم الآتية «وَ» إنا نحن الإله القادر كما ننصرهم في الدنيا سننصرهم «يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ 51» من الحفظة والأصفياء والكتب وغيرها فيشهدون على الأمم بما فعلوا في الدنيا وتكذيبهم للرسل وفيه تشهد الأمم الصالحة للرسل على أنهم بلغوا أممهم فكذبوهم ويكون لهم هذا النصر أيضا «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ» لأنهم اعذروا في الدنيا بالإنذار من قبل الرسل والدنيا هي محل قبول العذر، أما الآخرة فلا اعتذار فيها ولا إنذار بل يكون لهم فيها التوبيخ والتقريع واللوم «وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ» أيضا وهي الطرد من رحمة الله والبعد عنه «وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 52» جهنم وبئست الدار هي. ولفظة يوم الأخيرة بدل من

مطلب الآيتان المدنيتان وعصمة الأنبياء وكلمات لغوية والدجال ومن على شاكلته:

الأولى لأنه حال قيام الأشهاد لا تنفع المعاذير، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى» بجميع وسائله «وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ 53» ليهتدوا به ويعملوا بمقتضاه بحياته وبعد وفاته لأنا جعلناه «هُدىً» للناس، لأن التوراة المعبر عنها بالكتاب هنا أجمع كتاب أنزل من بدء الخليقة حتى نزول القرآن العظيم، لأنه الجامع لكل ما في الكتب المتقدمة عليه «وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ 54» يتذكرون بها، لأن ذوي القلوب الواعية هم أهل التذكر والتفكر فيها، وعلى هذا فإن قومه لم يعملوا بها ومن عمل منهم بها كان مرغما، وقد هجروها من بعده ولم يتقيدوا بوصاياها وأهملوا أحكامها وغيروا وبدلوا قسما منها. ثم التفت إلى حبيبه محمد وخاطبه عزّ خطابه بقوله «فَاصْبِرْ» يا سيد الرسل على أذى قومك وتحمل جفاهم ولا يهمنك عدم سماعهم لقولك وما تتلوه عليهم من كتابك، فقد صبر قبلك الرسل إخوانك على أقوامهم حتى أتاهم الوقت المقدر لعذابهم، وأنت اصبر إلى أن يحين عذابهم الذي وعدناك به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بإظهار دينك وإعلاء كلمتك ونصرتك عليهم وإهلاكهم «حَقٌّ» منجز لا يخلف عن موعده المقدر له «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» الذي تراه ذنبا بالنسبة لمقامك، وإن لم يكن ذنبا بالنسبة لأمتك كترك ما عمله أولى وأفضل، وهذا من قبيل التعبد لزيادة الدرجات له صلّى الله عليه وسلم ولتستنّ أمته بذلك، وقدمنا بأن الذي يعد ذنبا على الأنبياء هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأوضحنا ذلك في الآية 65 من سورة الزمر المارة وغيرها، وهذا الاستغفار أحد قسمي الطاعة وهي التوبة عما لا ينبغي فعله، والقسم الثاني الاشتغال بما ينبغي فعله، وهو قوله تعالى قوله «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ 55» بعد التوبة لأن التوبة من قبيل التخلية، والتسبيح بعدها من قبيل التحلية، والتحلية تكون عادة بعد التخلية. مطلب الآيتان المدنيتان وعصمة الأنبياء وكلمات لغوية والدجال ومن على شاكلته: وهاتان الآيتان المدنيتان من هذه السورة، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ» وهم كفار اليهود الجهلة فهم «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ» مما يجادلون به ما هو «إِلَّا كِبْرٌ» في نفوسهم حملهم عليها وانهم مهما تعاظموا

«ما هُمْ بِبالِغِيهِ» أي ذلك الكبر الذي يتوخونه بقصد الترؤس على غيرهم والتعالي عليك يا أكرم الرسل، فأنت أكبر مما يراد بك من كبر وتعاظم «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» من كيدهم ومجادلتهم الباطلة والتجئ إلى ربك من مكر من يريد بك المكر وما جدالهم إلا حسدا على ما أولاك الله من النعم الكثيرة الدائمة في الآخرة «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لما يقولون فيك «الْبَصِيرُ 56» لما يريدونه من البغي عليك وهو حافظك من كل ما يتوقعونه به. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحضرة الرسول إن صاحبنا المسيح بن داود يأتي آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك إلينا وأنه يكون منهم ويفعل ما يفعل وهو آية من آيات الله، وجادلوه مجادلة بغير حق، لأن المسيح هو عيسى عليه السلام بن مريم الذي كذبوه وأهلوه وأرادوا قتله، ففداه الله بالمنافق يهوذا كما سيأتي في الآية 157 من سورة النساء في ج 3، ولكنهم يريدون الدجال ممسوح العين اليمنى لأنهم من أتباعه وسيخرج آخر الزمان لإغراء الناس فيقتله السيد عيسى بن مريم، إذ يكون نزوله إلى الأرض زمن خروج الدجال كما يأتي تفصيل هذا في الآية 61 من سورة الزخرف الآتية، قال أبو العالية هذا الأمر من الله لرسوله بالاستعاذة من الدجال. واعلم أن الكبير بالكسر معظم الشيء وبالضم أكبر ولد الرجل، ومثله العظم بالضم أكثر الشيء ومعظمه وبالسكون نفس الشيء، والجهد بالفتح الطاقة وبالضم المشقة، ومثله الكره بالضم إذا أكرهت غيرك، وبالفتح إذا أكرهك غيرك، والعرض بالضم الناحية وبالفتح ضد الطول، وربض الشيء بالسكون وسطه، وبالفتح نواحيه، والميل بالسكون ما كان فعلا كقولك مال عن الحق وبالفتح ما كان خلقة تقول في عنقه ميل، والحمل بالفتح والسكون حمل كل أنثى وكل شجرة، وبكسر الحاء ما كان على الظهر، والقرن بالسكون المثل من جهة السن، وبالكسر مثله في الشدة، والعدل بالسكون مثل الشيء وبالكسر زنته، والحرق بالسكون من النار في الثوب والبدن، وبالفتح نفس النار، ولهذا البحث صلة أول سورة الكهف الآتية. قال تعالى «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» قال أبو العالية المراد بالناس هنا الدجال، وليس بشيء، لأنه بنى قوله هذا على أن

المجادلين اليهود جادلوا حضرة الرسول في أمره فنزلت الآية الأولى فيهم، وهذه نزلت بعدها معها، وهذا فيه بعد إذ لا يلزم من كون الآية الأولى فيهم لزوم كون الثانية فيهم أيضا إذ ليس كل آية مدنية في حق اليهود، إذ لا مانع أن تكون في مشركي العرب وغيرهم المجادلين في البعث واستعظام إعادة الأجسام بعد فتاتها على حد قوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الآية 86 من سورة يس في ج 1 أي أن خلق هذين الهيكلين العظيمين أعظم من خلق الناس وإعادتهم بعد إماتتهم فتكون مسوقة لمنكري البعث، لأنهم لا يستدلون بالأكبر على الأدنى، ولأن إعادة البشر بالنسبة إلى بداية خلقه كلا شيء، كما أن إعادتهم بالنسبة لخلق السموات والأرض كلا شيء «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 57» لكونهم في غاية الجهل ونهاية من البلادة فيما يتعلق بأمور الدين ومكونات الكون ومبتدعاته، أما الأقل منهم أولو الألباب الذين يستدلون بالأدنى على الأكبر ويعتقدون قدرة الله فوق كل قدرة وقادرة على كل شيء لأنهم ينتفعون بجوارحهم فيتفكرون ويتدبرون، ولو أن الأكثر استعملوا عقولهم لما أنكروا على الله قدرته، ولكن قد استولت الغفلة عليهم فحالت دون تأملهم بذلك. روى مسلم عن هشام بن عروة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال، أي أكبر فتنة منه وأعظم شوكة في انقياد الناس إليه. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال إنه أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية. ولأبي داود والترمذي عنه رضي الله عنه قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور، وإن الله تعالى ليس بأعور، وذلك أن الخبيث يدعي الإلهية مع نقصه والله تعالى منزه عن النقص ومبرأ منه، والعور عيب والأنبياء معصومون منه أيضا، لأنهم كاملو الخلقة. راجع الآية 84 من سورة يوسف المارة وما ترشدك إليه من السور الأخرى. وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما من نبيّ

إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، الا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر. وفي رواية لمسلم: بين عينيه كافر ثم تهجى ك ف ر يقرأه كل مسلم. وروى البخاري ومسلم عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء، والذي يراه الناس أنه ماء فنار محرقة، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار، فإنه ماء عذب بارد. ورويا عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل أحد رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته، وأنه قال لي ما يضرك؟ قلت إنهم يقولون إن معه جبلا من خبز ونهر ماء، قال هو أهون على الله من ذلك. أي هذا أهون على الله من أن يجعل ما خلقه الله على يده مضلّا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم، وإنما جعله الله له ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويثبت الحجة على الكافرين، وليس معناه أن ليس معه شيء من ذلك، لما ثبت في الحديث المتقدم أن معه ماء ونارا، وإذا كان معه ماء ونار فلم لا يجوز أن يكون معه جبل خبز ونهر ماء، وإنما أعطي هذا لأنه يظهر والناس في زمن قحط وجدب كما سيأتي بعد. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه إلى الشام، وهناك يهلك. وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة. وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن مجمع ابن حارثة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يقتل ابن مريم الدجال في باب لد. وأخرج البغوي بسنده عن أسماء بنت زيد الأنصارية قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال، فقال إن بين يديه ثلاث سنين، سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها والأرض نباتها كله، فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت. ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول أرأيت إن أحييت لك ابنك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول بلى، فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضرعا وأعظمه أسنمة، ويأتي الرجل قد مات أخوه

ومات أبوه فيقول أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه (يستفاد من هذا أن ما يظهره الله على هذا الخبيث هو من نوع السحر، وهو كذلك والله أعلم، لأنه ينص على أن الشيطان يتمثل بذلك) قالت ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدثهم، قال وأخذ بلحمتي الباب، فقال فيهم أسماء، فقالت يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال، قال إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن، قالت أسماء فقلت يا رسول الله إنا لنعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمن يومئذ؟ قال يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس. وهذا من شدة شفقتها على المؤمنين، وإلا فهي رضي الله عنها آمنة من ذلك. وفي رواية عنها قالت: قال النبي صلّى الله عليه وسلم يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار. وجاء في صحيح مسلم: قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوما يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر الأيام كأيامكم هذه، قلنا يا رسول الله فذاك الذي كسنة أتكفينا له صلاة يوم؟ قال لا، أقدروا له قدره، قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استبدرته الريح. وفي رواية أبي داود عنه: فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جوازكم من فتنته، وفيه ثم ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيدركه عند باب لد فيقتله. وفي هذا الحديث إشارة إلى بركة آيات الله ونفعها لكل شيء حتى للأمن من فتنة الدجال وهو كذلك، راجع الآية 82 من سورة الإسراء في ج 1. هذا وإن اليهود لم يريدوا من تعظيم الدجال ومن نسبته إليهم حين أن جادلوا حضرة الرسول إلا نفي رسالة عيسى بن مريم عليه السلام وجحود كونه المسيح المبشر به في التوراة والذي أخبر عنه الأنبياء قبل، الذي رفعه الله تعالى إلى سمائه، وسينزله آخر الزمان، لأنهم يقولون الذي سيخرج آخر الزمان هو الدجال لعنه الله وأخزاهم وأذلهم، فقد كذبوا أولا بأن المسيح بن مريم ليس هو من نسل داود المبشر به مع أنه هو، لأن أمه من نسل داود، وقد

نسبه الله تعالى إلى إبراهيم جد داود في القرآن العظيم، راجع الآية 85 من سورة الأنعام والله أصدق القائلين، وكذبوا ثانيا بقولهم لحضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لست بصاحبنا، يعنون لست نبي آخر الزمان، والله تعالى يقول خاتم النبيين، راجع الآية 96 من سورة الأحزاب في ج 3، وكذبوا ثالثا بأن الدجال هو المسيح وهو نبي آخر الزمان، ولم يبعث الله نبيا من لدن آدم إلى محمد صلوات الله عليهم، إلا وقد حذّر أمته من الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، وكل ذلك من الجدال بالباطل مكابرة وعنادا ليس إلا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور وإنه يجيء بتمثال الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار، والتي يقول إنها النار هي الجنة، وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه. فأولى لهؤلاء اليهود أن يكون النبي المسيح الذي ينتظرونه أعور كذاب وأنه يدعي الإلهية وأولى. أما كونه آية من آيات الله فلا ينكر، لأنه من أمارات الساعة، وأماراتها آيات وعبر للناس وإن منها ما يزيد المؤمن إيمانا، وما يزيد الكافر كفرا، قال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ... وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآيتين 134/ 135 من سورة التوبة في ج 3، فهذه الآيات والأحاديث والأخبار الثابتة المتواترة الصحيحة حجة قاطعة وبرهان قوي ساطع على أن الدجال الملعون ليس بالمسيح المأمون ولا بالنبي الذي هو خاتم الرسل الذي لا نبي بعده، وإنما هو كذاب خداع مموّه أعور أشقر يظهر لأتباعه الذين أكثرهم من اليهود الحق باطلا والباطل حقا والصدق كذبا والكذب صدقا، ومثبتة وجوده ومجيئه وكونه آية من آيات الله، وإن ما يقدره الله على يده من إراءة الماء والنار والخبز وإحياء الموتى صورة والخصب وتمثال الجنة والنار وانباع كنوز الأرض وإنزال المطر بإشارته إلى السماء وإنبات الأرض الكلا وغيرها مما تشبه الكرامات والمعجزات ابتلاء لخلقه واختبارا لتمييز الخبيث من الطيب، وإن اليهود ينتظرونه يوما فيوما، لأنهم يزعمون أن خروجه عز لهم وسلطان وإعادة لملك إسرائيل المبرأ منهم ومن أعمالهم وأقوالهم. هذا، ثم إن الله تعالى بعد ذلك

يعجزه عن كل شيء حتى عن حفظ نفسه ثم يتفرق أتباعه عنه ويقتله عيسى بن مريم عليه السلام. قال الجبائي المعتزلي ومن وافقه من الجهمية وغيرهم بصحة وجوده، ولكن ما يأتي به من الأشياء الخارقة عبارة عن خيالات لا حقائق لها، وقالوا لو كانت حقا لضاهت معجزات الأنبياء. أي أنها من قبيل السحر كما ذكرنا آنفا استنباطا من معنى الحديث، إلا أن التمسك بهذا الاستنباط وحصره فيه قد يكون خطأ منهم، لأن الدجال الخبيث لم يدع النبوة ليكون ما يأتي به تصديقا لها، وإنما هو قاتله الله يدعي الإلهية وهو مكذب لها في نفس دعواه بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة عور عينه وإزالة الشاهد الذي بين عينيه وعجزه عن دفع القتل عن نفسه، فلا يغتر به إلا العوام من الناس لشدة الفاقة التي تحصل بسبب القحط وبذلك يستصحب معه الخبز الكثير، أما المؤمنون فلا يحول صحاهم خداعه ولا تصل إلى قلوبهم خزعبلاته لعلمهم بحاله، والله أعلم. قال تعالى «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» كناية عن الجاهل والعالم ولذلك حث الأنبياء على تعليمهم العلم لأممهم ليكونوا على بصيرة من هذه الفتن وأشباهها «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ» أي لا يستوون أيضا، فتذكروا أيها الناس وتفكروا وكونوا على بصيرة من أمركم فإنكم «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ 58» في الأمثال التي يضربها الله لكم لأن تذكركم في مكوناته قليل جدا وإنكم في غفلة عنها لأنكم لو توغلتم في الفكر في معاني أمثال الله ومغازيهه لو قفتم على علوم كثيرة وفوائد وفيرة ولعرفتم الفرق بين الأعمى والبصير والمحسن والمسيء ولتيقنتم «إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها» ولا شك ولا مرية في مجيئها عند كل مؤمن عارف «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 59» بها، لأن الكفرة والجهلة دائما أكثر من المؤمنين والعالمين في كل زمان وأوان لا في كل مكان، إذ قد يوجد مكان على العكس وهو نادر، وهذا العموم يخص منه بداية ذرية آدم إلى زمن قتل قابيل هابيل وبداية الزمن الذي رسى فيه نوح عليه السلام ومن معه بالسفينة على الجودي لأن الأكثر بل الكل مؤمنين على القول بأن الطوفان عم وجه الأرض كلها وإنه لم يبق إلا نوح ومن معه ولهذا سمي بأبي البشر الثاني.

مطلب في الدعاء والعبادة وإنعام الله على عباده ومراتب الإنسان في الخلق وذم الجدال:

مطلب في الدعاء والعبادة وإنعام الله على عباده ومراتب الإنسان في الخلق وذم الجدال: قال تعالى «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» دعاءكم قال بعض المفسرين ادعوني هنا بمعنى اعبدوني بدليل قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» ولا يدعوني «سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ 60» صاغرين أذلاء مهانين لأنهم لم يدعوه ولم يعبدوه ولم يعترفوا بربوبيته، ولا يخفى أن الدعاء مخ العبادة بل هو العبادة نفسها وزبدتها كقولك الحج عرفة والدين النصيحة أي معظمه فإبقاء اللفظ على ضاهره أولى. ومما يدل على هذا ما رواه النعمان بن بشير صاحب معرة حلب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على المنبر الدعاء هو العبادة، ثم قرأ هذه الآية، أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك: الدعاء مخ العبادة. هذا، ولا يقال إن الإنسان يدعو فلا يستجاب له، لأن للدعاء شروطا وآدابا أمها الإخلاص، وأبرها اليقين، وملاكها أكل الحلال، وقوامها رد المظالم، فالتخلف يكون من جهة الداعي لا من جهة الإله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء القائل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، وقد يكون الداعي يدعو وقلبه مشغول بغير الدعاء وقد يدعو بما لا مصلحة له به ولا فائدة لغيره أو بما فيه قطيعة رحم أو تعد على الغير، وقد يدعو فيما فيه المصلحة والصلة، ولكنه غير متيقن بالدعاء ولا موقن بالإجابة، أما إذا اتصف بالشروط المطلوبة فيكون جديرا بالإجابة حالا أو مآلا بحسب المصلحة المقدرة، والله أكرم من أن يرد سائله من بحر جوده الذي لا ينضب وواسع عطائه الذي لا ينفد، وقدمنا في الآية 111 من سورة الإسراء ما يتعلق في هذا البحث بصورة واسعة، فراجعها وما ترشدك إليه، وله صلة في الآية 185 من سورة البقرة في ج 3 فراجعها أيضا. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ» تأخذوا راحتكم من التعب بالنوم والاضطجاع وأنكم من الوحشة باجتماعكم بنسائكم وأولادكم «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» لتتمكنوا فيه من قضاء حوائجكم وأشغالكم من من غير حاجة إلى ضياء آخر ولتقوموا فيه بوسائل معاشكم وتتعرفوا فيه لفضل ربكم فتصيبوا منه حظكم «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» عظيم لا يوازيه

فضل في هذا وفي غيره «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» 61 فضله ولا يراعون حقه فيمنع استمرار نعمه عليهم لعدم شكرهم إياها، وإذا لم يسلبها منهم يسلبها من أولادهم، وهذا مما لا يمتري فيه أحد، لأنه واقع مشاهد «ذلِكُمُ» الإله العظيم كاشف الكربات ومجيب الدعوات الفعال لما ذكر هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 62» بنسبة هذا لغيره وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وتختلقون له أندادا وهو لا مثل له وتفترون له شركاء وهو المنفرد في السموات والأرض وتكذبون بقولكم إن الله أمرنا بهذا وهو لم يأمركم به «كَذلِكَ» مثل هذا الإفك الواقع من قومك يا محمد «يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا» من قبلهم «بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 63» ويكذبون الرسل الذين جاءوهم بها أيضا، قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً» تستقرون عليها في حلّكم وترحالكم «وَالسَّماءَ بِناءً» كالسقف المرفوع الذي تستظلون به من الشمس والمطر والرياح وغيرها ولكن شتان بين بنائكم وبنائه وظلالكم وظلاله. وفي هذه الآية إشارة إلى كروبة الأرض، راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة وما تدلك عليه من المواقع «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» بأن ميزكم عن الحيوانات باعتدال القامة والأكل باليد والنطق واللباس والحسن والعلم «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» غير رزق الحيوانات مما لذّ وطاب «ذلِكُمُ» الرب الجليل المدبر لذلك كله والمنعم بما هنالك هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 64» مؤمنهم وكافرهم إنسهم وجنهم وملكهم وحيواناتهم وطيورهم ووحوشهم وحيتانهم وحشراتهم وديدانهم وعوالم الله لا تحصى، وقد رتب الخلق جل جلاله على ثلاث مراتب: الطفولة وهي مرتبة النشوء والنماء، وبلوغ الأشد وهي مرتبة كمال التزايد إلى قبيل تطرق الضعف، والشيخوخة وهي مرتبة التراجع حتى بلوغ أرذل العمر، فالذي قسم هذا التقسيم «هُوَ الْحَيُّ» الباقي وما سواه هالك، وفيما تقدم أشار أولا لفضله المتعلق بالمكان بعد أن أشار فيما قبل إلى فضله المتعلق بالزمان، وهنا أشار إلى العلم التام والقدرة الكاملة والحياة الدائمة، ثم ختم بالدلالة على محض وحدانيته بقوله «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ» أيها الناس كلكم برّكم وفاجركم لا تشركوا

مطلب في مراتب الخلق على ثلاث وحالة المجادلين وأمر النبي بالصبر وشيئا من أفضاله على خلقه:

معه غيره حالة كونكم «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وقولوا بنهاية دعاءكم «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 65» والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، ولما كلف بعض كفرة قريش مكة حضرة الرسول لعبادة أوثانهم، وكان هذا التكليف قد تكرر منهم عند كل مباحثة في أمر الدين أنزل الله تعالى قطعا لأطماعهم عن ذلك «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الملحين عليك بما لا يكون منك «إِنِّي نُهِيتُ» نهيا باتا ومنعت منعا جازما من قبل ربي الحق الواحد «أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من جميع الأوثان «لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي» ببطلانها وعدم نفعها «وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ» إسلاما محضا حقيقيا «لِرَبِّ الْعالَمِينَ 66» وحده لا شريك له وأن أدعوكم لعبادته من حين تشريفي بالنبوة إلى وقت انقضاء أجلي لا أفتر ولا أحول عن هذا أبدا، وقد جاءت هذه الآيات الثلاث مختومة بلفظ رب العالمين جل جلاله، ولم يسبق مجيئها على هذا النمط ولا تعد مكررة، لأن مبدأ كل آية منها ومغزاه يغاير الأخرى، فالأولى للشكر على أفضاله، والثانية على توحيده، والثالثة على الاستسلام إليه، فتدبر أيها القارئ إذا أردت أن تظفر وتفوز بمعرفة كلام الله. واعلم أن المستحق للعبادة «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أي خلق أباكم آدم عليه السلام الذي هو أصلكم «مِنْ تُرابٍ» وخلق زوجته حواء منه من لحم وعظم ودم «ثُمَّ» خلقكم أنتم ذريته كلكم «مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» جعل جل شأنه مراتب الإنسان بعد خروجه من رحم أمه ثلاثة. مطلب في مراتب الخلق على ثلاث وحالة المجادلين وأمر النبي بالصبر وشيئا من أفضاله على خلقه: وكذلك جعل المراتب في الرحم ثلاثة بعد تكوينه: الأولى علقة مكونة من النطفة المخلوقة من الماءين، والثانية مضغة مكونة من لحم ودم، والثالثة جنين مكون من لحم وعظام وأمعاء، فهو ما دام في بطن أمه يسمى جنينا وعند الولادة وليدا وما بعدها طفلا، وما دام في الرضاع صبيا ومن الفطام إلى تسع سنين غلاما ومن سبع إلى اثنتي عشرة سنة مميزا ومن اثنتي عشرة إلى خمس عشرة مراهقا، ومنها إلى

ثماني عشرة بالغا، ومنها إلى إحدى وعشرين رشيدا، ومنها إلى ثلاث وثلاثين كهلا وحتى الأربعين، ومنها إلى الستين شيخا، وإلى الثمانين أيضا، إلا أن الستين هي سن الكمال أي منتهاه، إذ يبدأ من الأربعين وما دون الأربعين يسمى شابا وفتى وبعد الثمانين هرما، ويطلق لفظ الرجل على الكامل في الرجولية والفتى على الكريم اللطيف الشجاع، ويطلق لفظ الولد والذرية على من لم يبلغ الحلم. وبعد كمال أربعة أشهر في رحم أمه تنفخ فيه الروح فتنتقل بعد كمال مدته من برزخ المشيمة إلى برزخ الحضانة إلى برزخ الاستغناء كما تنتقل بعد استيفاء الأجل في الدنيا من برزخ الدنيا إلى برزخ القبر ومنه إلى برزخ الآخرة، فالانتقالات أيضا ثلاث ثم في الآخرة من برزخ القبر إلى برزخ الموقف فإلى برزخ الحساب فإلى الجنة أو النار، فسبحانه من إله عظيم قدر ما أراد وأراد ما قدر وهو القائل «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» ذلك التنقل فيسقط قبل تمام خلقه أو بعده أو يموت في الرحم أو عند الولادة أو قبل الشبوبية أو قبل الكهولة أو قبل الشيخوخة كما هو مقدر عنده تعالى المشار إليه بقوله «وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى» لبقائكم في الرحم من لحظات وأيام وشهور فلا تخرجون منه قبل استيفائها، وكذلك بقاؤكم في الدنيا محدود لا يتقدم ولا يتأخر «وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 67» هذه الأحوال العجيبة التي تعتوركم منذ نشأتكم إلى دخولكم الجنة أو النار، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 5 من سورة الحج ج 3، فتتفكروا في قدرته البالغة وإبداعه الباهر، واعلموا أنه «هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» من أحياه من نطفة وسواه بشرا سويا عند انقضاء أجله «فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 68» بلا كلفة ولا عناء، راجع الآية 95 من سورة الأنعام المارة «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» من كفرة قومك وينكرون البعث وغيره مما تخبرهم عن ربك «أَنَّى يُصْرَفُونَ 69» الصدق إلى الكذب ويعدلون الحق إلى الباطل في هذه الآية تعجيب لحضرة الرسول من أحوال قومه المختلفة وآرائهم المضطربة الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ» كله أو بعضه لأن فيه ال للجنس فيشمل الكتب السماوية كلها، وكذلك إذا اعتبرت للاستغراق «وَ»

[سورة غافر (40) : الآيات 71 إلى 80]

كذبوا «بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا» من التعاليم الدينية المقتبسة من الشرائع الإلهية والوحي المقدس والصحف المنزلة عليهم «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 70» سوء عاقبتهم، وفي هذه الجملة تهديد شديد ووعيد كبير وصفه بقوله «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ» في أيديهم وأرجلهم بها «يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ 71» الماء الشديد الغليان «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ 72» يوقدون فيها، والسجور لإيقاد النار في التنور لغة أهالي دير الزور ولم يكرر هذا الفعل في القرآن، وجاء بلفظ الماضي في الآية 6 من سورة الإنفطار، وبلفظ المفعول في الآية 6 من سورة الطور الآتيتين، وجاء لفظ إذ، بصدر هذه الآية مع أنها للماضي موضع، إذا للمستقبل لكونها واقعة في إخبار الله المتيقنة الوقوع المقطوع بها، وإلا فلا يجوز إيقاع مثلها في غير كلام الله لكونه غير محقق، تأمل. وقد تكرر في هذه السورة ذكر الجدال في آيات الله في ثلاث مواضع، ولكن كلا منها لأناس مخصوصين وأصناف مختلفين. ولذلك فلا يعد تكرارا، ومن قال باتحاد الأقوام المجادلين قال بالتكرار وهو غير وجيه، لأن التكرار قد يكون للتأكيد لما في الجدال في آيات الله ما يوجب غضبه جل جلاله، لذلك شدد فيه ليتباعد الناس عنه ويوقنوا بما أنزله إليهم إيقانا جازما دون تردد، ويسلموا لأوامر رسلهم، فيكون التكرار لحاجة في الأمر وهو مطلوب، قال تعالى «ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ» وهم في النار «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ 73» أروني إياهم هاتوهم ليشفعوا لكم كما كنتم تزعمون في الدنيا «قالُوا ضَلُّوا عَنَّا» عابوا في وقت نحن أحوج ما يكون إليهم من غيره في زعمنا وفقدناهم في حالة كنا نظن وجودهم فيها، لأنا لأجلها عبدناهم ثم قالوا بعد أن لم يجدوهم «بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ» في الدنيا «شَيْئاً» أبدا «كَذلِكَ» مثل هذا الإضلال «يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ 74» ويحيرهم في أمرهم حتى يفزعوا إلى الكذب والإنكار «ذلِكُمْ» العذاب الذي حل بكم «بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ» بالدنيا «بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا وأشرا وظلما لأنفسكم «وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ 75» تحتالون وتتكبرون على الناس وتتوسعون في الأرض بغير الحق أيضا وقد حذف من الثاني بدلالة الأول كما مر

آنفا، وهذا الفعل لم يكرر في القرآن وجاء منه (مَرَحاً) في الآية 17 من سورة الإسراء في ج 1، ثم يقال لهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ 76» عن توحيد الله وطاعة رسله وتعس مقرهم ومنزلهم، قال تعالى مخاطبا حبيبه بقوله عزّ قوله «فَاصْبِرْ» على أذى قومك يا أكرم الرسل وتحمل أذاهم وجفاهم حتى يأتي الوقت المقدر لنصرتك عليهم «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» منجز لا محالة إلا أنه لا يؤخر ولا يقدم عن أجله المقدر في علمه «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» بحياتك من القتل والأسر والجلاء «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبله فنريكه في الآخرة لأنهم لا يفلتون منا «فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ 77» وننتصف لك منهم وقد أراه الله عذابهم الدنيوي في بدر وما بعدها وسيريه عذابهم الأخروي أيضا البتة «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ» خبره وقومه في هذا القرآن «وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ» ولقد آتيناهم آيات معجزات وكذبهم أقوامهم أيضا، فلا توجد في نفسك غضاضة فلك أسوة بهم وفي هذه الآية تسلية له صلّى الله عليه وسلم من ربه جلّ وعلا كي لا يضيق صدره مما يرى من قومه، ونظير هذه الآية الآية 38 من سورة الفرقان في ج 1 والآية 167 من سورة النساء في ج 3 فراجعهما. قال تعالى «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ» من تلقاء نفسه أو بحسب اقتراح قومه عليه إذ لا يتمكن من الإتيان بها «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» فإذا أذن له أظهرها على يده وإلا لا «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ» بعذاب قوم «قُضِيَ بِالْحَقِّ» بين الرسل وأممهم «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ 78» الذين يكلفون أنبياءهم بالمعجزات ويجادلونهم بالباطل عنادا ومكابرة، ثم بين نبذة من أفضاله على خلقه فقال تعالى «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها» أي اللاتي للركوب كالإبل والخيل والبراذين وشبهها «تَأْكُلُونَ 79» ففيها نعمتان نعمة الركوب ونعمة الأكل، ومنها للأكل فقط كالغنم والمعزى وغيرهما، ومنها للأكل والعمل كالبقر والجاموس وغيرهما، إذ تستعمل للحراثة وقد تستعمل الإبل لها وللسقي «وَلَكُمْ فِيها» كلها «مَنافِعُ» أخرى غير الأكل والركوب والعمل من حليب ولبن وزبدة وسمن وجبن واقط وصوف ووبر وشعر للباس

[سورة غافر (40) : الآيات 81 إلى 85]

والبيوت وغيرها «وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ» من زيارة البلاد والآثار الموجبة للعبر وللنزه وحمل الأثقال والاتجار لكسب الأموال بأثمانها أو بالمقايضة وتنميتها والكرم بها وغير ذلك كثير «وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ 80» برا وبحرا َ يُرِيكُمْ» الله تعالى ياتِهِ» في تنقلاتكم عليها من البلاد البعيدة القائمة والمدمرة لتعتبروا بها وتشكروا الذي عافاكم مما ابتلى أهلها من العذاب الباقي أثره في ديارهم لتتذكروا فترجعوا إلى ربكم خشية أن يصيبكم ما أصابهم ولنعتبروا بهاَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ 81» أيها الناس وهي ظاهرة لا يمتري فيها أحد، إلا من لم يكن عنده لمعة من فكر أو ذرة من عقل، وجاءت كلمة أي هنا مذكرة في محل التأنيث لأن الشائع المستفيض هو تذكير أي في المذكر والمؤنث وقد جاء تأنيثها في المؤنث في قوله: بأي كتاب أو بأية سنة ... ترى حبهم عارا علي وتحسب قال تعالى «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ» من قومك يا محمد «وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» التي كانوا فيها أولئك المتمردون ومصانعهم وقصورهم فيها تدل على ذلك، لأنها منها ما هو باق حتى الآن فضلا عن وجودها زمن نزول القرآن وأن البشر الآن يعترف بعجزه عن الإتيان بمثل ما شيدوه من البناء والصروح وعظم هندستها وقوة إتقانها ومع ذلك كله «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 82» فيها من وقايتهم من عذاب الله، وقد مرّ نظير هذه الآية في الآية 21 من هذه السورة ولا تعد مكررة لما في هذه من الألفاظ ما ليس في تلك. ولذلك ذمهم الله تعالى بقوله (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية 30 من سورة النجم في ج 1، وقوله بما يقارب هذه الآية لفظا ومعنى «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» بأمور الدنيا وتدبيرها واستغنوا عما جاءهم به الأنبياء ولم يعلموا أن ذلك وحده جهل في الحقيقة إذا لم يضموا إليه العلم بأمور الآخرة، ولذلك ذمهم الله في الآية 9 من سورة الروم الآتية بقوله (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) وفي الآية 66 من سورة

النمل المارة في ج 1 بقوله (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ولهذا فقد لحقتهم الخيبة وغشيهم الغم والحزن على ما فرحوا به في الدنيا «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 83» على الأنبياء وما جاءوهم به وذلك فرحهم بالسخرية على ما يبلغونهم من الأوامر والنواهي والآداب الإلهية حتى أنزل الله فيهم (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) الآية 12 من الصافات المارة، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» عذابنا وقد أحاط بهم من كل جانب «قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ 84 في الدنيا مع أنهم كانوا يشمئزون من ذكر الله وحده ويفرحون بذكر آلهتهم كما نعى الله عليهم حالتهم بقوله (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الآية 45 من سورة الزمر المارة ومثلها الآية 46 من سورة الإسراء في ج 1، قال تعالى «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» لأنه لا إيمان في حالتي البأس واليأس، ولا توبة مقبولة أيضا في هاتين الحالتين وهذه «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ» ولا مجال لتبديل ما سنّه الله، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة والمواضع التي تدلك عليها «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ 85» لأنهم لم يعرفوا ذلك الخسار إلا عند إملاكهم ولا يلجأون إلى التوبة إلا في غير إبانها وإلا فهم خاسرون دائما حال نزول العذاب وقبله وبعده، ومجموع جملة وخسر إلخ بحساب الجمل 1360 مثل الجملة المارة في الآية 173 من سورة الصافات، فنسأل الله أن يدمر الكفرة وبعلي كلمة الإسلام من الآن فصاعدا، وأن يديم خسار الكفرة وخاصة اليهود، ويجمع شمل المؤمنين ويديم ربحهم، ويرفع رتبتهم على من سواهم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة، هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.

[الجزء الرابع]

[الجزء الرابع] بسم الله الرّحمن الرّحيم تفسير سورة فصلت عدد 11- 61- 41 نزلت بمكة بعد سورة غافر المؤمن، وهي أربع وخمسون آية، وتسعمئة وست وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «حم» 1 «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» 2 تقدم مثله وفيه ما فيه. واعلم يا أكرم الرسل أن المنزل عليك من لدنا هو «كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» تفصيلا شافيا وبينت تبيينا كافيا وافيا وأعني به «قُرْآناً عَرَبِيًّا» أنزلناه «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» 3 هذه اللغة حق العلم فيجيلون النظر في مبانيه ويتفقهون في معانيه ويعرفون المراد منه، وفي هذه الآية إيذان بتعليم اللغة العربية للوقوف على معاني القرآن العظيم، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها، لأن القرآن لا يقرأ إلا بها: مطلب عدم جواز ترجمة القرآن وبحث في الزكاة وفي معجزات القرآن: وان الترجمة باللفظ والمعنى غير ممكنة، إذ الحروف العربية لا توجد كلها في اللغات الأجنبية، فيضطر المترجم الى تبديل حرف بغيره أو تحريره، ويجر هذا التغيير الى تبديل كلمة تعطي غير المعنى المراد من أجلها، ومن المعلوم أن تغير شيء من كتاب الله كفر، إذ قد يختل المعنى المقصود منه وهو مبرأ من الخلل، أما تفسيره باللغات الأجنبية مع المحافظة على متنه فجائز، ومن هنا طرأ التحريف على الكتب السماوية المترجمة، راجع هذا البحث في المقدمة تقف على ما تريده. وقد جعلنا هذا الكتاب المنزل عليك يا خاتم الرسل (بشيرا) للطائعين المنقادين لأحكامه بالجنة ونعيمها «وَنَذِيراً» للعاصين الجاحدين له بالنار وجحيمها «فَأَعْرَضَ»

أكثرهم عن الأخذ به والامتثال لأوامره «أَكْثَرُهُمْ» عنه لسابق سقائهم «فَهُمْ» أي قومك يا سيد الرسل «لا يَسْمَعُونَ» 4 اليه تكبرا وأنفة مع أنه بلغتهم، وقد أنزل على رجل منهم، وعلى هذا المثل السائر (زجرته فلم يسمع) «وَقالُوا» لرسولنا الذي يدعوهم إليه «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ» أغطية كثيفة «مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» ولذلك لا نفقهه «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ» ثقل وصمم ولهذا لا نسمعه «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» ستر كثيف غليظ مانع من الرؤية حاجز، من التواصل والتوفيق لما بين ديننا ودينك من البون الشاسع، وأرادوا بذكر هذه الموانع المختلقة إقناطه عليه السلام من إجابتهم إليه، وذلك أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينين على تحصيل المعارف قالوا له أن هذه الثلاثة محجورة عن أن يصل إليها شيء من قولك، فكيف تريد أن نعي ما تقوله لنا أو نفهمه «فَاعْمَلْ» على ما يقتضيه دينك واتركنا «إِنَّنا عامِلُونَ» 5 على ديننا أيضا. قيل إن السبب في نزول هذه الآية أن قريشا أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب فقال له أبو جهل ذلك القول وأخذ ثوبا فمده بين يدي الرسول وبينهم حتى لا يرى أحدهم الآخر، وقالوا له إنك بشر مجنون ليس إلا قال تعالى «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» كما تقولون ولست ملكا ولا بي مما تقولونه من الجنون والسحر، وإنما «يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» سميع بصير لا أصنام جامدة لا تفقه ولا تعلم ولا تسمع ولا تبصر «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» يا قومي وارفضوا ما أنتم عليه «وَاسْتَغْفِرُوهُ» من الشرك «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» 6 به غيره «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لبخلهم وحبهم للمال وعدم شفقتهم على الفقراء المعدمين والأرامل المحتاجين، ولم يعلموا ما أعد الله للمشركين ولا يفقهون كنهه، قال ابن عباس المراد بالزكاة هنا تزكية النفس من الشرك بحجة ان الزكاة لم تفرض، إلا أن المعنى لا يستقيم لوجود فعل يؤتون، فمعه لا يجوز أن يقال يزكون أنفسهم، بل يعطون الزكاة والإعطاء يكون من الشخص لغيره مما هو عنده، وليس لديهم زكاة في هذا المعنى ليعطوها لأنفسهم، لهذا يكون الأولى أن يراد بالزكاة هنا ما كان متعارفا إعطاؤها عندهم

قبل نزول القرآن، كصلاة الركعتين قبل فرض الصلاة، إذ لم تخل أمة من الصلاة والزكاة والصيام، إذ تعبدهم بها كما تعبد هذه الأمة بها على اختلاف بالقدر والهيئة، فعلى ظاهر هذه الآية يكون عدم إعطاء الزكاة كفرا، ولهذا حكم أبو بكر رضي الله عنه بكفر مانعي الزكاة، وحجة من قال إنها تزكية النفس ان الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وهما حاصلان فلا يلزم الكفر وقال الفراء كانت قريش تطعم الحاج فمنعته عمن آمن بحمد أي، ونزلت «وَهُمْ» قومك يا محمد مع عدم إتيانهم بها تراهم «بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» 7 جاحدون وجودها مع انها حق ثابت يعترف بها أهل الكتب السماوية كلهم، ومما يدل على هذا أن المراد بالزكاة إعطاء المال، قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي من جملتها انفاق المال للمعوزين «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» 8 به عليهم لأنه بمقابل أعمالهم الصالحة وعطاء هذا الأجر فضل من الله تعالى، لأنه هو الذي أعطى المال للمتصدق وهو الذي وفقه للتصدق وجعل ثواب الزكاة غير مقطوع ولا منقوص لما فيها من الرأفة على عباد الله وعياله، هذا ولو كان المراد بالزكاة هنا تزكية النفس لكانت هذه الآية معترضة لعدم مناسبة ذكرها بل جيء بها استطرادا تعريضا بالمشركين المستغرقين بالدنيا التاركين للآخرة، وقد جعل جل شأنه منع الزكاة مقرونا بالكفر، لأنها معيار الإيمان المستكين بالقلب، ولهذا خصها من بين أوصاف الكفرة، وقيل إن المال شقيق الروح، وهو عند من لا إيمان له أغلى منها قال بعض الأدباء البخلاء: وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ ... به فأجبت المال خير من الروح أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي ... وتضييعه يقضي لتسآل مقبوح قال في الكشف: الأولى إبقاء اللفظ على ظاهره لأن صرفه عن حقيقته الشائعة من غير موجب لا يجوز، كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدل يؤتون يأتون كما في قوله تعالى «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» الآية 56 من سورة التوبة لجاز ذلك بالنظر للفرق بين الإيتاء والإتيان، ولم يقرأ أحد من القراء بها، لهذا لا يجوز الركون لذلك القول، ولا يخفى أن اطلاق الاسم

مطلب خلق السموات والأرض وما فيها ولماذا كان في ستة ايام وفي خلق آدم:

على طائفة مخرجة من المال على وجه القربة من أناس عندهم فضل على حاجتهم كان شايعا قبل فرض الزكاة، وكان يسمى عندهم زكاة أيضا، وكانوا متفاخرين بإعطائها، بدليل قول أمية بن الصلت في مدح طائفة من قومه: الفاعلون للزكوات، وإن ما جاء في تفسير الإمام الرازي من ان ويلا خصت بالأصناف الثلاثة المشركين، ومانعي الزكاة والكافرين حسن جدا لولا ان الآية عدتهم صنفا واحدا، إذ وصفت المشركين بمانعي الزكاة وسمتهم الكافرين تدبر هذا، وان خطتنا في هذا التفسير المبارك اتباع الظاهر ما استطعنا، لأن الجنوح الى التأويل مع إمكان عدمه قد يكون خوضا والخوض قد يؤدي الى الوقوع فيما لا ينبغي، وقد ذم الله تعالى الخائضين راجع الآية 67 من سورة الأنعام المارة والآية 140 من سورة المائدة والآية 31 من سورة التوبة في ج 3، لهذا أرى الكف عن التوغل في مثل هذا مطلوبا لأن الله تعالى لو شاء لقول ما يقدمون على تأويله، ولكنه لم يشأ، فعلى العاقل أن يترك مشبثته لمشيئة الله ويعلم أن كثرة ذكر الزكاة في القرآن العظيم لزيادة الحث على اعطائها وشدة التحذير من منعها، لأن بذل المال في سبيل الله أقوى دليل على الاستقامة وصدق النية وقوة الإيمان ونصح الطوية، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا قرت بها عصبيتهم ولانت شكيمتهم، وما ارتد بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة، ففي هذه الآية بعث لاستنهاض همم المؤمنين على أدائها عن طيب نفس وتخويف عظيم على منعها، قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت بالزمى والمرضى والهرمي المتحقق عجزهم عن العمل الصالح بأن يكتب لهم مثله، بدليل ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول، إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله مرض أو سفر كتب الله له كصالح ما كان يعمل، وهو صحيح مستقيم. فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة القائلين ذلك القول المشار اليه في الآية الخامسة ما يلي: مطلب خلق السموات والأرض وما فيها ولماذا كان في ستة ايام وفي خلق آدم: «أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» استفهام انكار عن هذا المنكر وعن المنكر الآخر المبين في قوله «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً»

[سورة فصلت (41) : الآيات 11 إلى 20]

أكفاء وأشباها من الملائكة والجن وغيرهما من سائر الأوثان المنحوتة من أحجار وأخشاب والمصوغة من الفضة والذهب والحديد وغيرهما من المعادن بصنع أيديكم لا تقدر على خلق شيء لأنها عاجزة عن حفظ نفسها ومع هذا فإنكم تعبدونها وتعرضون عن الإله الخلاق «ذلِكَ» المستحق للعبادة وحده «رَبُّ الْعالَمِينَ» 9 أجمع الناطق منهم والأعجم والمتحرك والجامد «وَجَعَلَ فِيها» في الأرض التي خلقها في يومين الأحد والأثنين «رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها» راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة «وَبارَكَ فِيها» بالأشجار والثمار والزروع والأنهار والحيوان والحيتان من جميع ما يحتاجه البشر وغيره «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أرزاقها لكل ما فيها وكميّتها وكيفيتها «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» اليومين الأولين والخميس والجمعة لأنه خلق السماء بعد الأرض في يومي الثلاثاء والأربعاء قبل خلق الروامي وتقدير الأقوات لا انه غيرهما وهذا كما تقول سرت من القنيطرة الى دمشق في يومين والى النبك في أربعة أيام أي في تنمة أربعة أيام، ولا بد من هذا التقدير لأنه بغيره يكون تمام الخلق بثمانية أيام وهو مناف لما جاء في قوله تعالى في آيات عديدة في ستة أيام كما أوضحناه في الآية 54 من سورة الفرقان والآية 59 من الأعراف في ج 1 «سَواءً لِلسَّائِلِينَ» 10 الذين يسألونك يا أكرم الخلق عن مقدار الزمن الذي خلق ربك فيه الأرض وما فيها بلا زيادة ولا نقص «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» شيء ظلماني كالدخان، وقد مرّ أن عرش الرحمن كان على الماء وكان قبله عماء، راجع الآية 6 من سورة هود المارة، وأحدث الله في هذا الماء سخونة، فارتفع زبد ودخان، فأما الزبد فبقي على وجه الماء فأيبسه الله وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا، فخلق منه السموات، قال الراجز في صفة الأرض: فبطنها محشوة بالغار ... وقشرها قد شق بالبحار ومما يدل على هذا قوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الآية 7 من سورة الطور الآتية، وقوله صلّى الله عليه وسلم: (البحر طباق جهنم) وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية 27 من سورة الحجر المارة فراجعها، وفي هذه الآية معجزة من معجزات القرآن أيضا، إذ لم يكن عالم أو فيلسوف في ذلك العهد أخبر حضرة الرسول أن هذا الكون

كان بادىء بدء مملوء بالسديم أي الأثير والهيولى، مع أن هذه القضية لم تعرف إلا بعد نزول القرآن بمئات من السنين. والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع بالهواء مع الجرارة، والبخار أجزاء مائية ترتفع في الهواء مع الأشعة الراجعة من سطوح المياه، فعبر بالدخان عن مادة السماء أي الهيولى والصورة الجسمية أو عن الأجزاء المتصغرة المركبة منها أي الأجزاء التي لا تتجزأ. ولما كان أول حدوثها مظلمة سميت بالدخان تشبيها لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متراصة ولا متواصلة عديمة النور، أشبه شيء بالدخان. أما الإستواء فقد تقدم توضيحه في الآية 54 من سورة الأعراف والآية 5 من سورة طه المارتين في ج 1، وهو متى ما عدّي بعلى يكون بمعنى الاستيلاء والاستعلاء كقوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) الآية المذكورة من طله، ومنى ما عدي بإلى كما هنا يكون بمعنى الانتهاء، فاحفظ هذا وتذكره عند كل جملة من هذا القبيل، وراجع بيانه فيما أرشدناك إليه من المواضع. قال تعالى «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً» وهذا تمثيل لتحتيم قدرة الله تعالى فيها واستحالة امتناعهما المشعر به «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» 11 فوجدتا كما أرادهما الله تعالى، وجاء الجمع بلفظ العقلاء لأنه تعالى لما خاطبهما بأوصاف العقلاء أجراهما في الجمع مجرى من يعقل، ونظيره (ساجِدِينَ) في الآية 4 من سورة يوسف وهو جمع للكواكب وقد خاطب الله تعالى من لا يعقل بصيغة من يعقل في كثير من آي القرآن، لدلك السبب، ولهذا جرينا أيضا على هذا المجرى تبعا لكلام الله تعالى ولتلك الأسباب نفسها. وليعلم أن الله تعالى خلق أولا الأرض، ثم السماء، ثم دحا الأرض، بدليل قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) الآية 30 من سورة النازعات الآتية لا انها خلقت بعد السماء بل خلقت قبلها ودحيت بعدها، ولهذا قلنا آنفا في الآية العاشرة إن خلق الأرض في يومي الأحد والاثنين وما فيها في يومي الخميس والجمعة، إذ كان خلق السماء في الثلاثاء والأربعاء تدبر، ولا تغفل. وعلى هذا «فَقَضاهُنَّ» ذلك الإله العظيم كلهن وما فيهن وسواهن «سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» مما أراد أن يكون فيها مما لا يعلمه على الحقيقة غيره، ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة من

سورة النازعات الآتية إذ يفهم من هذه الآية أن خلق الأرض ودحوها قبل خلق السماء، وآية النازعات توضح أن الدحو بعد خلق السماء وهو ما أجمع عليه المفسرون وقال الأخباريون وأصحاب السير والمؤرخون: أول ما خلق الله التربة، أي الأرض بلا دحو ولا بسط ولا مد ولا تمهيد في يومي الأحد والإثنين، ثم سوى السموات السبع وما فيهن في الثلاثاء والأربعاء، ثم مد الأرض ودحاها وشق بحارها وأنهارها وثقلها بالجبال وجعل فيها فجاجا وأودية في الخميس والجمعة، ثم خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة أي سوى خلقه من التراب وتركه ولم ينفخ فيه الروح بدليل أول سورة الإنسان وما جاء في الأخبار أن إبليس كان يمر به ويتأمله ويفكر في خلقه، ويقول إنه أجوف لا يتمالك، وهكذا إلى أن أراد الله تعالى نفخ الروح فيه فنفخها وصار بشرا سويا، أو أنه خلقه في غير تلك الجمعة التي أتم فيها خلق السموات والأرض، بدليل خلق الجان الذين سكنوا الأرض قرونا كثيرة، ثم فسدوا وبغوا فأهلكهم الله ولم يبق منهم طائعا في الظاهر إلا إبليس بدلالة الآية 30 من البقرة في ج 3 فراجعها، وبعد أن خلق الله الحيوانات بأصرها والوحوش والأشجار وكل ما في الأرض خلق آدم أي نفخ فيه الروح، لأن كل ما في الأرض خلقه لأجله ولذريته. هذا واعلم أن الله تعالى قادر على خلق الكون بما فيه وإبادته في لحظة واحدة، لأنه عبارة عن الأمر بلفظ كن فيكون بين الكاف والنون، قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الآية 81 من سورة يس وهي مكررة كثيرا في القرآن في المعنى، وقال تعالى (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الآية 20 من سورة القمر المارة في ج 1، وإنما القصد من خلقها في ستة أيام هو أنه جعل لكل شيء حدا محدودا لا يتعداه، فلا يدخل شيء من مخلوقاته في الوجود إلا بالوقت الذي قدره لدخوله، وانه ليعلّم خلقه التثبت في الأمر والتأني بفعله، قال صلّى الله عليه وسلم التأني من الله والعجلة من الشيطان، وانه إذا جعل الشيء دفعة واحدة ظن وقوعه اتفاقيا، وإذا حدث تدريجيا شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، والقول الفصل في هذا وأمثاله هو أن يقال إن أفعال الله لا تعلل، ومن علم أنه لا يسأل

مطلب قول رسول قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم وما رد عليه به حضرة الرسول والأيام النحسات:

هما يفعل، وأيقن بالقدرة، وأن الحكيم لا يفعل شيئا إلا عن حكمة، وعلم أن الله أحكم الحاكمين حكما وحكمة، سكت وسلم فحفظ وغنم وسلم، وإلا فهو على خطر عظيم حفظنا الله ووقانا. وهو القائل «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» كواكب مختلفة في الحجم والشكل واللون والضياء والسير «وَحِفْظاً» من الشيطان الذي يسترق السمع، راجع الآية 11 من سورة الصافات المارة «ذلِكَ» الصنع البديع والتقدير العظيم «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» 12 البالغ علمه كل خفي وجلي العالم بشئون خلقه كلها وفيما أودعه في مكوناته من الحكم والمنافع والمصالح لعباده «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عنك يا سيد الرسل بعد أن أبديت لهم ذلك ولم يعتبروا بما أبدعه ربك من الآيات الدالات على وحدانيته وعظيم سلطانه وبالغ قدرته «فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» 13 وقرئ صعقة والصعق الموت خوفا، وذلك أن عادا أهلكوا بالريح وثمود بالصيحة، وإنما أهلكهم الله لأنهم حين «إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» من كل جانب بمعنى أنهم بذلوا وسعهم وقصارى جهدهم بأنواع الإرشاد والنصح وأنذروهم «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» وحده واتركوا عبادة الأوثان «قالُوا» عنادا وعتوا إنا لا نطيع بشرا مثلنا «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعوننا لعبادته لأن البشر لا يصلح للنيابة عن الله في الدعوة إليه «فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» 14 لا نصدق بما جئتم به ونكذبكم لأنكم مثلنا لا فضل لكم علينا يؤهلكم لهذه الدعوة. مطلب قول رسول قريش لمحمد صلّى الله عليه وسلم وما رد عليه به حضرة الرسول والأيام النحسات: قال ملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمد فالتمسوا رجلا عاقلا عالما بالشعر والسحر والكهانة يكلمه ويأتينا ببيانه، فاتفقوا على عتبة بن ربيعة، فذهب إليه، وقال يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا، فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسا ما بقيت، وإن كان ما بك من الباءة زوجناك عشر نساء تختارهن من بنات قريش كلها، وإن كان ما بك من المال جمعنا لك ما تستغني به

أنت وعقبك من بعدك، والنبي صلّى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال اسمع يا عتبة: بسم الله الرحمن الرحيم حم حتى بلغ هذه الآية، فقام عتبة وأمسك على فيه، وناشده الرحم، ورجع إلى أهله، واحتبس عن قومه لما أدركه من مغزى ما تلاه عليه وقر لديه معناه، وما دخل في روعه من الخشية، فقال أبو جهل صبأ والله عتبة يا معشر قريش، وأعجبه طعام محمد لفاقته، هلم فانطلقوا إليه نؤنبه على ذلك، فلما وصلوا إليه قال له أبو جهل ما قال وزاد على التأنيب بأن قال له سنجمع لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، وقال يا معشر قريش إني من أكثركم مالا، ولكن أتيته فكلمته، وذكر لهم ما قال له، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، وقرأ عليهم ما سمعه منه، ولما قرأ (فَإِنْ أَعْرَضُوا) نهضت فأمسكت بقية وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب، وهذا الذي ألزمني بيتي ما هو كما يقول أبو جهل، وأنتم تعلمون أني لست بذلك الرجل. وهذا الخبر رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله ونقله محمد بن كعب القرظي بزيادة، وقال إن عتبة كان سيدا حليما، وكانت هذه القصة بعد إسلام حمزة رضي الله عنه وتكاثر المسلمين، وقال أطيعوني يا معشر قريش واعتزلوه، فو الله ليكوننّ له نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه، وإن يظهر فعزّه عزكم، وأنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله، لقد جئت بغير الوجه الذي ذهبت به، قال هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم، ولم يرد الله له، ولأبي جهل وجماعته الخير، فأصروا على عنادهم فهلكوا كفارا. «فَأَمَّا عادٌ» قوم هود عليه السلام «فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» وتعاظموا على أهلها واستولوا على ما ليس لهم منها ظلما «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» لينزعنا عنها، يهدّدون نبيهم بهذا القول حينما خوفهم عذاب الله معتمدين على ضخامة أجسادهم وقوة سواعدهم، قالوا كان أحدهم يقلع الشجرة من الأرض والصخرة من الجبل بيده، فرد الله عليهم بقوله عزّ قوله «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأنه قادر على إبادتهم بصيحة من أحد ملائكته، ولو شاء لانتزع قوتهم وجعلهم أضعف خلقه ولكنهم بغوا بما

أنعم الله عليهم «وَكانُوا بِآياتِنا» التي أريناهم إياها «يَجْحَدُونَ» 15 ويكذبون قدرتنا مع اعترافهم بها «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً» عاصفا شديدا باردا له صوت قاصف، وهذا أحد أسماء رياح العذاب، وعاصف وقاصف وعقيم، ورياح الرحمة لها أربعة أسماء أيضا: ناشرات ومبشرات ومرسلات وذاريات، ويأتي في القرآن العظيم ذكر الريح غير الموصوف للعذاب، والرياح للرحمة، كما أن المطر للعذاب، والغيث للرحمة، وكان ذلك الريح الصرصر «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» نكدات مشؤومات مغيرات للنعم مكدرات للعبش، قالوا كان أولها يوم الأربعاء من صفر، وآخرها الأربعاء من آخره، قالوا وما أنزل الله عذابا إلا يوم الأربعاء، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 20 من سورة القمر في ج 1 والآية 102 من سورة الصّافات والآية 22 من سورة الحجر المارتين، وذكرنا أنه لا قباحة للأيام، وأن الشؤم والقباحة بعمل أهلها، قال الأصمعي: إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس وقال الآخر: نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا إلى أن قال: ولو نطق الزمان لقد هجانا راجع الآيتين 62/ 51 من سورة الزمر المارة، ومنه تعلم أن النحس والسعد والصفاء والكدر بتقدير الله تعالى لا علاقة للأيام والنجوم والأمكنة وغيرها بذلك، واعلموا أيها الناس إنما أرسلنا عليهم هذا العذاب بالدنيا «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» بسبب استكبارهم فيها فيذلوا ويحتقروا «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى» أشد إهانة وأكثر مهانة «وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» 16 منه البتة وكل ما كان من الله لا رافع ولا مؤخر له. قال تعالى «وَأَمَّا ثَمُودُ» قوم صالح «فَهَدَيْناهُمْ» ودللناهم على طريق النجاة بواسطة نبيهم «فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى» اختاروا الكفر على الإيمان بطوعهم ورضاهم سوقا ورغبة ولم يلتفتوا لدعوة نبيهم عليه السلام ونبذوا نصحه وإرشاده وراء ظهورهم «فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ» داهية وقارعة الذل والمهانة «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 17 في الدنيا من إهانة نبيهم واحتقار

مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها:

معجزته وهي الناقة إذ عقروها فعقرهم الله «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» منهم مع نبيهم «وَكانُوا يَتَّقُونَ» 18 التعدي عليه وعلى معجزته فأنجيناهم معه جزاء خشيتهم عقاب الله الدنيوي وخوفهم عذابه الأخروي. مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها: واعلم أن معنى الهداية لدى أهل السنة والجماعة هو الدلالة فقط وصلت إلى المطلوب أو لم تصل، قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 53 من سورة الشورى الآنية، لأن الله تعالى أنزل الآيات وأرسل الرسل وأعطاهم العقل وأمرهم بالهداية ومكنهم منها وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا لحصول بغيتهم بحصول موجبها ومقتضيها، ولا وجه لقول بعضهم اشتراط التوصل إلى المطلوب أخذا من قوله هديته فاهتدى بمعنى حصول البغية كما تقول ردعته فارتدع لما تقدم، كما لا وجه لاستدلالهم في هذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على قولهم في قوله تعالى (فَهَدَيْناهُمْ) بكونه دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) يدل على أنهم أنفسهم آثروه، لأن الإيمان لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى، ولأن لفظ (فَاسْتَحَبُّوا) يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة، وأن لقدرة العبد مدخلا ما، وهو الجزء الاختياري للإنسان الذي يجعل له رغبة ورضا وشوقا ما، في فعل ما يقدم عليه، على أن المحبة مطلقا ليست اختيارية محضة بالاتفاق وإيثار العمى وهو الاستحباب المأخوذ من معنى استحبوا، وهو لا يكون إلا من الأفعال الاختيارية، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية انها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية باعتبار مقدماتها. اختيارية بحسب ما تؤول إليه لأنها لا تكون إلا عن رغبة وميل، ولذلك كلّفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسله صلوات الله عليهم وسلامه. قال تعالى (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) الآية 189 من الأعراف في ج 1 فقد جعل علّة ميلها كونها منه بما يدل على أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: الأرواح جنود بجندة ما تعارف منها أتلف. وقد تكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال

[سورة فصلت (41) : الآيات 21 إلى 30]

ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والانقياد والتعظيم، وهذه هي التي يكلف الإنسان بها، لأنها اختيارية، فتدبر وتفكر وافهم واعرف وفتح عينيك تهدى وترشد. قال تعالى «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ» المتوغلون في إنكاره وجحود آياته وتكذيب أنبيائه «إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» 19 يستوقف أولهم ليلحق آخرهم. فيحبسون حتى إذا تكاملوا سيقوا إلى أرض الموقف «حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ» فروجهم وأيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم لأنها هي التي للامس الحرام بدليل تخصيصها بعد، وإنما كنى الله تعالى عنها بالجلود تحاشيا عن ذكرها وتعليما لعباده الأدب بالمكالمات، وكثير أمثاله في القرآن وشهادتهم «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 20 بالدنيا فينطق كل بما وقع منه إذ تكت الألسنة عن النطق: فعلت الجوارح «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا» بما كتمناه نحن لئلا تعذبوا «قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ولا نقدر على المخالفة والكتمان «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» من لا شيء، فهو قادر على انطاقنا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 21 بعد الحساب إذ يضعكم موضع المجازات المترتبة عليكم، كما أرجعكم إليه بعد الموت «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» أيها العصاة عند ارتكابكم الفواحش بالحيطان والحجب خيفة من الله ليسترها عليكم الآن، وإنما كنتم تستترون خشية أن يطلع عليكم الناس وما كنتم تظنون «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ» بأفعالكم القبيحة «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» 22 في دنياكم من الخير والشر، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمع قريشيان وثقفي، أو ثقفيان وقريشي عند البيت كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهما للآخر أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وفي رواية قال: فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية. على أن الآية عامة ولا قول في الحديث من حيث الصحة، لأنه جاء برواية الشيخين وناهيك بهما ثقة، وإنما في كونه سببا للنزول وعلى صحة ذلك فإنه لا يخصص حكم الآية، ومثل هذا القول يقال في الحديث المذكور في

الآية 8 المارة آنفا، وقدمنا في الآية 65 من سورة يس في ج 1 ما يتعلق في شهادة الأعضاء من الأحاديث ما به كفاية فراجعها، فإذا كان الله تعالى وكل بالإنسان حفظة يحصون عليه أعماله وأنفاسه، وفضلا عن هذا فإنه يستنطق جوارحه عما يقع منها، فينبغي للمؤمن أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة ربه عز وجل، فإن عليه رقباء منه، قال أبو نواس: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب ويكفيك قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الآية 42 من سورة إبراهيم الآتية، ولا يستغرب نطق الأعضاء بما وقع منها بقدرة الله تعالى، بعد أن نرى الأسطوانة تتكلم بما وقع عليها، والشريط السينمائي ينطق بما تكلم عليه على اختلافه، وهما من صنع البشر، فما بالك بما هو من صنع الله خالق البشر، إذا لا يتطرق أحدكم بالظن في ذلك فيهلك، وقد قال تعالى «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ» أوقعكم في الردى، أي الهلاك، وفي هذه الإشارة الدالة على البعد إيذان بغاية بعد منزلة ظنهم في الشر والسوء «فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» 23 بسبب ظنكم ذلك، لأن الله تعالى أنعم عليكم في هذه الجوارح لتستعملوها فيما خلقت لها فتنالوا سعادة الدارين، فإذا حرفتموها لغير ما خلقت لها كانت سببا لشقائكم فيها، لأن استعمالكم إياها في طرق الخير يؤدي إلى إدراك ما تهتدون به إليه من اليقين ومعرفة رب العالمين الموصلة للسعادة الأبدية، وصرفها لغير ذلك يؤدي إلى كفران النعمة الموصل إلى الشقاء الأبدي، قال بعد أن حكم عليهم بشهادة أنفسهم وأعضائهم «فَإِنْ يَصْبِرُوا» على ما صاروا إليه من العذاب أو لا يصبروا «فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» لأن صبرهم ليس فيه مظنة الفرج حتى يأملوا الانتفاع به فصبرهم وفجرهم بحقهم سواء، والآية هذه على حد قوله تعالى (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) الآية 20 من سورة إبراهيم الآتية، وقوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) الآية 16 من سورة الطور الآتية «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا» يطلبوا العتبى والرضاء «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» 24

أيضا، إذ لا سبيل للرضاء حتى يكونوا من المسترضين ولا محل له «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ» هيأنا لهم أخدانا من نظرائهم الشياطين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من زخارف الدنيا المحيطة بهم «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» الصادر ممّا بالعذاب «فِي» جملته «أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» 25 دنياهم وآخرتهم كغيرهم من الأمم الظالمة «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ» الذي يتلوه عليكم محمد «وَالْغَوْا فِيهِ» قولوا عند قراءته قولا لا رقوع له كي يتشوش القارئ ويلتبس على السامع «لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» 26 في لغوكم على تلاوة محمد، فلا تتركون مجالا للسامع أن يفهمه كما هو، وذلك أن المشركين علموا عذوبة ألفاظ القرآن وكمال معانيه وجزالة جمله، وعرفوا أن من أحبط به علما وعقله مال إليه، فخافوا على أنفسهم وغيرهم من الانخراط في الدين المنزل عليه وقبول ما جاءهم به، فلذلك صار بعضهم يوحي إلى بعض بأن كل من يسمع محمدا يقرأ فليكثر من اللغو ورفع الصوت ليختلط عليه الأمر وعلى السامع أيضا، فلا يعقله تماما خشية تسرب قوله إلى الناس فيؤمنوا به، فأنزل الله هذه الآية ينعى عليهم بها سوء صنيعهم، راجع الآية 115 من الأعراف في ج 1، ثم هددهم بقوله «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أظهر مكان الإضمار إشعارا بعظم عقابهم المشار بكونه «عَذاباً شَدِيداً» على فعلهم هذا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» 27 تهديدا مؤكدا بالقسم، أي وعزتي وجلالي لأعاقبتهم على سيئاتهم هذه بأسوأ منها ولا نكافئنهم على أعمالهم الحسنة من صلة رحم وإقراء ضيف وإغاثة ملهوف وغيرها، لأنهم كانوا يفعلونها لنشر الصيت رياء وسمعة وتفاخرا، ولا نثيبنهم على الأحسن من أعمالهم مما هي خالية من تلك الشوائب، لأنا كافيناهم عليها في الدنيا من صحة وسعة رزق وجاه وغيرها، بل نجازيهم ونعاقبهم على أفعالهم السيئة بأعظم العقوبات وأسوئها، وعلى الأسوإ أكثر من السيء «ذلِكَ» التشديد عليهم بالجزاء «جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ» المحاربين له في الدنيا هو «النَّارُ» التي لا يقاس عذابها بعذاب «لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ» الإقامة الدائمة «جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا

مطلب ما للمؤمنين المستقيمين عند الله ومراتب الدعوة إلى الله ودفع الشر بالحسنة:

يَجْحَدُونَ» 28 ويكذبون رسلنا الذين جاءوهم بها ويسخرون بهم «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بعد قذفهم بالنار وعدم النظر إلى طلباتهم الواهية «رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا» في الدنيا عن الدين القويم وأوقعانا في هذا العذاب الأليم «مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا» في هذه النار انتقاما منهم «لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» 29 فيها فيتالا عذابا أكبر من عذابنا، لأنهما هما اللذان أوقعانا فيه، فلا يلتفت إلى قولهم لأن أولئك لهم مكان خاص في النار أيضا مع أمثالهم. مطلب ما للمؤمنين المستقيمين عند الله ومراتب الدعوة إلى الله ودفع الشر بالحسنة: قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» بأفعالهم وأقوالهم على إيمانهم «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ» بالرحمة من الله عند الموت وفي القبر وزمن البعث تؤنسهم وتقول لهم «أَلَّا تَخافُوا» من هذه الأهوال التي ترونها في المواقع الثلاثة «وَلا تَحْزَنُوا» على ما فاتكم من الدنيا فإن الله تعالى أبدلكم خيرا منها وآمنكم من كل هم وغم وعناء، والحزن غم يلحق الإنسان من توقع مكروه أو خوف فوات محبوب أو حصول ضار، «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 30 بها على لسان رسلكم في الدنيا والآن «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ» وأنصاركم ومتولوا أمركم كما كنا لكم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ» اليوم «فِي الْآخِرَةِ» كذلك لا نقارقكم أبدا حتى تدخلوا مقركم في الجنة «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ» من أكل وشرب ولبس وظلال وترف وصحبة ونساء وغيرها «وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» 31 تطلبون وتتمنون من كل ما يخطر ببالكم وهذا أعم من الأول «نُزُلًا» هذا الذي ذكر كله بمقام ما يقدم للضيف أول نزوله من شراب وقهوة، فما بالك بما يقدم له بعد، وناهيك برب المنزل «نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» 32 بالنازلين كثير المغفرة لما وقع منهم كيف وهو أكرم الأكرمين ممطر الألطاف والكرامة على عصاته، فكيف بأضيافه ومطيعيه «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ» أيا كان من عباده المخلصين وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وهذا عام في كل مؤمن يدعو الناس عامة طائعهم وعاصيهم برّهم وفاجرهم إلى عبادة الله ويدخل فيه الأنبياء بالدرجة

الأولى ثم الأمثل فالأمثل، ولا وجه لتخصيصها بالرسل عليهم السلام كما قاله بعض المفسرين، لأن إجراءها على عمومها أوفق للفظ وأنسب بالمعنى وأحسن بالمقصد «وَعَمِلَ صالِحاً» بإخلاص وحسن نية «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 33 المذعنين المنقادين لله تعالى قلبا وقالبا. واعلم أن للدعوة إلى الله مراتب: الأولى دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالآيات والمعجزات والحجج والبراهين المقرونة بالتحدي وبالسيف إذا لم ينجع ذلك. الثانية دعوة العلماء بالحجج والبراهين وطرق الإرشاد والنصح وضرب الأمثال فقط، ولا شك أن العلماء أقسام: علماء بالله، وعلماء بصفاته، وعلماء بأحكامه، وقد يجمع الكل بواحد إذا كان من العارفين: وليس على الله بمتنكر ... أن يجمع العالم في واحد وكل من هؤلاء مكلف بإرشاد الناس إلى طرق الهداية، أوتوا من قوة في النطق وفي الدلائل الشرعية. الثالثة دعوة المجاهدين، وهذه لا تكون إلا بالسيف لأنهم مأمورون من قبل ولي الأمر يقتال الكفار حتى يؤمنوا، وفقال الخارجين عن الطريقة الإسلامية حتى يذعنوا، فإذا آمن الأولون وأذعن الآخرون وجب عليهم الكف عن قتالهم، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. الرابعة دعوة المؤذنين إلى الصلاة، فينبغي لمن سمع الصوت أن يجيب الداعي، ولهذا فما روي عن عائشة أن هذه الآية نزلت في المؤمنين خاصة، مع أنها عامة لا يخصصها رواية عائشة رضي الله عنها على فرض صحة نزولها فيما قالت، لأنها مطلقة في كل من يدعو إلى الله ويحث الناس على سلوك طريقة السوي لا يقيدها قيد أبدا. هذا، وعلي من يتصدى للإرشاد أن يكون بمقتضى الآية 135 من سورة النحل الآتية «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ» في الآثار والأعمال والأحكام، بل بينهما برن شاسع، فيا أيها الإنسان الكامل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالإحسان إلى من أساء إليك والصبر على أذاه والتأني عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند القدرة، فهذه هي الحالة التي وصفها الله بالأحسن، وشتان بين من تحلى بالخصال الممدوحة، ومن تقمص بالخلال المذمومة، والآية عامة في كل فعل حسن وسيئ قليلا كان أو كثيرا، خطيرا كان أو حقيرا، فعلى العاقل أن يحسن لمن أساء إليه، ويصل من

مطلب في النزغ وسجود التلاوة وعهد الله في حفظ القرآن:

قطعه، ويعرض عمن آذاه، ويعطي من حرمه، ويمدح من يذمه، ويدعو لمن شتمه، ويعفو عمن تعدى عليه أو على ماله أو ولده أو أهله، اتباعا لكلام الله وأحاديث رسوله، ولا يتأنى في ذلك، ففي التأني تفوت الفرص، وهو محمود في غير هذا وأمثاله مثل تزويج البكر وإقراء الضيف ودفن الميت وغيره، كان سيدنا عيسى عليه السلام إذا مرّ بأناس يشتمونه يدعو لهم فقال له أصحابه في ذلك، فقال كل ينفق مما عنده. وعليه المثل المشهور: وكل إناء بالذي فيه ينضح. وكان من تعاليمه عليه السلام: من ضربك على خدّك الأيمن فأعطه الأيسر، ومن أخذ ثوبك فأعطه رداءك، وكان يأمر بمحبة الأعداء والعفو عن الاعتداء، وكان أزهد الناس في الدنيا عاش ثلاثا وثلاثين سنة في الأرض، ورفع إلى السماء ولم يختص بمحل يأوي إليه حتى آواه الله برفعه إليه «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» 34 مخلص صادق في محبتك ولوع في مودتك، لأن الله تعالى يقلب عداوته صداقة محضة بأن يجعله أدنى لك من قريبك، قال: إن العداوة تستحيل مودة ... بتدارك الهفوات بالحسنات «وَما يُلَقَّاها» أي تلك الخصال الحميدة «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» على أنفسهم وتحملوا المكاره وتجرعوا الشدائد وكظموا الغيظ وتركوا الانتقام، فصارت طبيعتهم الصبر وشأنهم العفو وديدنهم التحمل «وَما يُلَقَّاها» الأمور المذكورة آنفا ويقوم بها «إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» 35 أي موقق للخير ميسّر للهدى مسوق المرشد ذو نصيب كبير من كمال النفس، وحظ عظيم من طهارة القلب، وحصة جليلة من مكارم الأخلاق. مطلب في النزغ وسجود التلاوة وعهد الله في حفظ القرآن: قال تعالى «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ» أيها الإنسان الكامل «مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» فتحس بما ينخسه في قلبك ويوسوس فيه بصدرك من ترغيبك لفعل ما لا ينبغي فعله وصرفك عن القيام بتلك الخصال النفيسة وحثك للانتقام، فاحذر أن تطيعه، وإن حاك في نفسك شيء من اجراء المقابلة «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» منه والجأ إليه

ليحفظك من خدعه وغشه «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لمن يستغيث به فيجيبه وهو «الْعَلِيمُ» 36 بصدق ركونك إليه فيحفظك من شر نزغاته، ويحول دون التفاتك إليه، وقدمنا ما يتعلق بالنزغ في الآية 100 من سورة يوسف وفي الآية 12 من سورة يونس المارتين، وفيهما ما يرشدك لمراجعته من الآيات الباحثة عن هذا. اعلم أن مناسبة هذه الآية لما قبلها هو دفع ما يتوهم إن فعل ذلك بمقابل إساءة الغير قد يكون ذلا أو خوفا أو عازا من الناس، وإن حصول هذه الوساوس من الشيطان الذي لا يريد إلا الشر للإنسان، كيف وقد حذّرنا الله منه بقوله عزّ قوله (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية 60 من سورة النساء في ج 3، بأن تجنحوا بكليتكم إلى المساوى والمكاره وتعرضوا عن العفو ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فعلى العاقل أن ينتبه لذلك، لأن تلك الأعمال الحسنة ما هي إلا من علو النفس وزكاة القلب وكمال الإيمان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على توحيده وعظيم قدرته وبالغ حكمته «اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» المسخّرات بأمره لمنافع الخلق وما في الكون كله يخضعون لعظمته ويسجدون كل بحسبه انقيادا لجلاله، فإذا علمتم هذه تفعل هذا وهي دونكم في العقل والفضل، فيا أيها العقلاء «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» لأنها ليست بأهل لذلك ولأنها من جملة مخلوقاته الكائنين في قبضته «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» لمنافعكم فهو وحده المستحق للسجود «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» 37 تخصونه بعبادتكم وتطلبون ثوابها «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا» عن حصر السجود لله وعمدوا إلى غيره، فاترك يا أكمل الرسل هؤلاء الذين اختاروا المخلوقين على الخالق «فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة الكرام يسجدون له كما يسجد المؤمنون أمثالك و «يُسَبِّحُونَ» له «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ» 38 من عبادته ويملون منها ولا يتكاسلون عنها وهنا موضع السجود على الوجه الأكمل لا عند قوله (تَعْبُدُونَ) كما قاله بعض القراء، بل عند تمام هذه الآية الأخيرة لأن السجود يكون عند تمام المعنى المراد به فتكون السجدة آية واحدة فقط، كما في الإنشقاق والنجم والسجدة والفرقان

والحج ومريم والعلق والأعراف والرعد، وتكون آيتين كهذه، وسجدة ص، وتكون ثلاث آيات كالنمل والنحل والإسراء، وعلى هذا لا يكون السجود إلا عند ختام الآية الأولى بل عند تمام الثانية في فصّلت هذه وص، وعند تمام الثالثة في النمل والنحل والإسراء، وهذه السجدة من عزائم السجود، وقدمنا ما يتعلق فيها في الآية 45 من سورة ص في ج 1، وفيها ما يرشدك لما تتمناه. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً» متكامنة من شدة التبيس مغبّرة وعليها آثار الذل بسبب ذواء نبلتها «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» تمايل نباتها وتحرك بمرور الرياح عليه «وَرَبَتْ» فاشت وانتفخت ولانت، ونظير هذه الآية الآية من سورة الحج في ج 3 مع اختلاف في بعض الكلمات، فقل يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين إعادة الأجسام من قومك «إِنَّ الَّذِي أَحْياها» بعد يبسها المشابه للموت في الإنسان «لَمُحْيِ الْمَوْتى» من البشر وغيرهم مرة ثانية كما خلقهم أول مرة وهو أهون عليه «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 39 لا يعجزه شيء وليس عليه شيء بأهون من غيره. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا» وينحرفون عن تأويلها فيميلون عن الحق المبشرة به إلى الباطل الذي يريدونه على حد قوله تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) الآية 45 من المائدة في ج 3، وهي مكررة في القرآن لفظا ومعنى. واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» لأنا نراهم ونرى ما يعملون، وفي هذه الجملة تهديد كبير بعظيم مجازاتهم «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ» هذا تمثيل للكافر على الإطلاق «خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً» من العذاب «يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهذا تمثيل للمؤمن مطلقا أيضا، وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي جهل وحضرة الرسول، أو في أبي بكر أو عمار بن ياسر أو عمر أو عثمان أو حمزة على اختلاف الأقوال في ذلك، وفرض صحة هذا السبب لا يقيدها عن عمومها ولا يخصصها عن إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ثم ذكر تعالى ما هو غاية في التخويف والتهديد والوعيد لأولئك الملحدين بقوله عز قوله «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» أن تعملوه أيها الكفرة «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» 40 والبصير بالشيء يعلمه ويعلم ما يستحقه

[سورة فصلت (41) : الآيات 41 إلى 50]

فاعله من العقوبة، وهذه الآية غاية في التشديد وعظم التهديد للملحدين خاصة، ويدخل فيها من على شاكلتهم من الكفرة «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ» الجملة من ان واسمها وخبرها واقعة مبتدأ وجملة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) إلخ خبرها، وما بينهما اعتراض، والمراد بالذكر هنا هو القرآن «وَإِنَّهُ» ذلك الذكر ولَكِتابٌ عَزِيزٌ» عديم النظير محمي بحماية الله كريم عليه محفوظ؟؟؟ التبديل والتغيير والتحريف «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ» الذي يريده الملحدون ليوقعوا فيه تناقضا بزعمهم «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» قبله وأمامه «وَلا مِنْ خَلْفِهِ» ورائه ودبره، لا يتطرق إليه الباطل بوجه من الوجوه لأنه «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» 41 في أقواله وأفعاله محمود على ما أسداه من النعم المتتابعة إلى خلقه، ومن أجلّها هذا القرآن المصون، وتقدم في الآية 9 من سورة الحجر ما يتعلق في هذا البحث، المراجعة. ثم إنه جل شأنه عزى حبيبه محمد على ما يلاقيه من قومه بقوله جل قوله «ما يُقالُ لَكَ» يا حبيبي مما تراه من الأذى والجفا في القول والفعل «إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» فلك أسوة بهم فلا تضجر ولا تحزن «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ» لمن آمن بك منهم ومن غيرهم عما سبق من ذنبه مهما كان «وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» 42 لمن أصر على التكذيب «وَلَوْ جَعَلْناهُ» ذلك الكتاب المعبر عنه بالذكر «قُرْآناً أَعْجَمِيًّا» يتلى بغير لغة قومك «لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» بالعربية لفهمناه وآمنا به فكيف تريد أن نؤمن بما لا نفهمه «ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» كيف يكون ذلك أتهدى أمة عربية بلسان أعجمي لا تعيه كلا، لا يكون ذلك، أي لتذرعوا بالإنكار في هذه الحجة ولصح قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الآية 5 المارة، لأنهم لا يحيطون بمعناه أما وأنه أنزل بلغتهم فلم يبق لهم ما يعتذرون به، فلا يصح قولهم ذلك بأنه أعجمي لا نفهمه. وفي هذه الآية إشارة على أنه لو نزل بلسان العجم لكان قرآنا فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية، وتقدم أن بينا عدم جواز ترجمة القرآن باللغات الأجنبية في الآية 3 المارة، لأنها لا تحتوي على جميع الحروف العربية، فليس بوسع أعظم عالم باللغة المترجم إليها وباللغة العربية أن يعبر

مطلب القرآن هدى لأناس ضلال الآخرين بآن واحد، وعدم جواز نسبة الظلم إلى الله تعالى:

عن كل كلمة منه بلفظها ومعناها من غير أدنى تغيير فيها بل تعرض المحال، لأن إمكان وجود لغة أجنبية تحتوي على الحروف العربية كلها محال، وإن ما اطلعتما عليه من اللغات التركية والإفرنسية والعبرية والسريانية والكردية والهندية والإنجليزية والألمانية لا تحتوي عليها، وغيرها كذلك، وإمكان التعبير عن بعض كلماته لا يكفي، لأنه لا يجوز أن يترك منه حرف واحد. أما ما جاء عن أبي حنيفة فهي عبارة عن حفظ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار بمقدار ما تصح به الصلاة للعاجز عن تعليمها بالعربية خشية من ترك الصلاة التي لا تصح بغير القراءة، فذلك ممكن، إذ يوجد في القرآن ما هو ممكن الترجمة بذلك القدر من آيات الدعاء والرجاء، أما كله أو نصفه أو عشره أو معشاره فلا يمكن البتة، لأنه خارج عن طوق البشر، وقدمنا في الآية 195 من سورة الشعراء في ج 1، ما يتعلق بهذا البحث بصورة موضحة فراجعها. مطلب القرآن هدى لأناس ضلال الآخرين بآن واحد، وعدم جواز نسبة الظلم إلى الله تعالى: قال تعالى «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً» من الضلال وإرشاد للحق «وَشِفاءٌ» من مرض الشرك والشك الذي يحوك بالقلب وبعض الأمراض لصاحب اليقين القوي الاعتقاد، راجع الآية 80 من سورة الإسراء ج 1، «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» به «فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ» ثقل وصمم عن سماعه «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» لا يبصرونه لأنهم لا ينظرون إليه عن صدق وحقيقة ولا يسمعونه سماع قبول فيكون ظلمة وشبهة ومرضا عليهم فهو بآن واحد نور لأناس ظلمة لآخرين، لأنهم لا ينتفعون به فيكون عليهم بالضد من غيرهم «أُولئِكَ» الصم العمي عن القرآن «يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» 44 فلم يسمعوا ذلك النداء ولم يعوه، شبه الله تعالى عدم فهمهم بما دعوا إليه بمن ينادى من مسافة بعيدة فإنه إن سمع الصوت لا يفقه المعنى، وهو مثل يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من مكان بعيد، والنداء على الشخص من بعد فيه إهانة له وعدم اكتراث به، ولهذا فإن الكفرة يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأشنع أسمائهم من مكان بعيد هوانا بهم وإذلالا لهم، فتعظم السمعة عليهم وتتكاثف المصائب بفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى

«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» من قبل قومه، فمنهم من آمن ومنهم من كفر مثل قومك يا محمد «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» في الدنيا وأهلكوا جميعا كسائر الأمم السالفة، ولكن أرجأناهم بمقتضى سابق علمنا ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» 45 صفة مؤكدة للشك، كما أن قوم موسى كانوا في ريب من كتابهم «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» 46 فلا يعذب إلا المسيء بحسب إساءته فقط، وحاشاه من الظلم، وقدمنا في الآية 16 من سورة يونس المارة ما يتعلق بعدم جواز نسبة الظلم إلى الله فراجعها، ونظير هذه الآية الآية 15 من سورة الجاثية الآتية، إلا أنها ختمت بغير ما ختمت به هذه. قال تعالى «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ» عند السؤال عنها، أي إذا سئلت يا سيد الرسل عن زمن القيامة فقل علمها عند الله وحده «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها» أو عينها، ومن الأولى مؤكدة للتنكير مما يزيد عمومه وإطلاقه، أي مطلق ثمره من جميع أنواعها، وكذلك من قوله «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» وأمره وإرادته أي لا يكون شيء من ذلك كما لا يكون غيره بغير علم الله وأنه ما يقع من ذلك على لسان بعض العارفين من الإخبار بوقت الإثمار ووقت تكون الحمل وزمن الوضع وبيان الموضع، هو من إلهام الله تعالى إياهم. أما ما يقوله المنجمون والسحرة والكهنة فمن طريق الحسبان والظن والتوسم، راجع الآية 76 من سورة الحجر المارة تجد هذا البحث مستوفيا «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي» الذين سميتموهم بالدنيا أحضروهم إليّ الآن لأسألهم عن الذي حدا بهم لهذه الدعوى الباطلة «قالُوا آذَنَّاكَ» أخبرناك يا ربنا وأعلمناك بأنه «ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» 47 الآن بأن لك شركاء البتة، وذلك لأن الذين اتخذوهم شركاء ينكرون ذلك ويتبرءون منهم عند معاينة العذاب، وقبله في الوقف وهو الحساب. قال تعالى «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ» من الشركاء «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا «وَظَنُّوا» أيقنوا إيقانا لا ريب فيه أنهم «ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» 48 من العذاب ولا محيد عنه وحاص

[سورة فصلت (41) : الآيات 51 إلى 54]

بمعنى عدل ومال وماد وحاد وهرب، والأنسب بالمقام ما ذكرناه «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ» لا يمل ولا يضجر من تكرار طلبه بل يظل يسأله مالا وولدا وجاها ورياسة وعافية بصورة دائمة، ولو أعطى أحدكم نهرين لتمنى الثالث «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ» من شدة وفقر وفاقة أو مرض وذل أو فقد شيء ما «فَيَؤُسٌ» شديد اليأس من روح الله «قَنُوطٌ» 49 كثير التفاؤل بالشر وقطع الرجاء من رحمة الله وفضله، ولقد بولغ هذا الكلام من جهتين من جهة الصيغة، لأن فعولا من صيغ المبالغة، ومن جهة التكرار، وهذه صفة الكافر بالدنيا والآخرة أيضا. قيل نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة، وهي عامة يدخل في عمومها هذان الكافران وغيرهما دخولا أوليا. قال تعالى في وصف هذا الكافر أيضا «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا» من غنى وعافية ورياسة «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» من فقر ومرض وذل «لَيَقُولَنَّ» بلا حياء ولا أدب «هذا لِي» حقي استحقيته بعملي «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ» التي تخبرنا بها يا محمد «قائِمَةً» واقعة، يريد أنه ليس موقنا بالبعث، وأن أهل هذه الدنيا يحيون حياة ثانية، ثم أقسم الخبيث فقال «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي» على فرض صحة قولك «إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» المنزلة الحسنة بالآخرة أيضا كما هي بالدنيا على فرض وجودها، وهذا قياس مغلوط أشبه بقياس أخيه إبليس الذي أشرنا إليه في الآية 12 من الأعراف في ج 1، لأن نعم الدنيا لا يستدل بها على نعم الآخرة من حيث حيازتها، لأن الدنيا تملك بالمال والآخرة بالأعمال. قال تعالى مقسما ومؤكدا «فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثل هذا القائل أن الأمر ليس كما زعم وأنهم مستحقون الإهانة لا الكرامة «بِما عَمِلُوا» في الدنيا من السوء ثم أقسم ثانيا فقال «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» 50 شديد لا يطاق في نار جهنم على ما فرط منهم. قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى» تباعد بطرا عن شكر المنعم «بِجانِبِهِ» بنفسه تعاظمأ وتكبرا ووضع الجانب مكان النفس، لأن مكان الشيء وجهته لينزل منزلة نفسه، ومنه قول الكتاب في مكاتباتهم إلى جناب وجانب فلان يريدون نفسه وذاته، وعليه قوله تعالى:

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) الآية 46 من سورة الرحمن ج 3 أي ذاته، وقول الشاعر: ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذنب كالرجل اللعين وقال أبو عبيد نأى نهض بجانبه وهو عبارة عن التكبر وشموخ الأنف، هذا وقد يعبر عن ذات الشخص بالمقام والمجلس بقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم ويتركون التصريح لزيادة الاحترام، قال زهير: فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى ... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا سيكفيك من ذاك المسمى إشارة ... فدعه، مصونا بالجلال محجبا وليس من هذا قوله تعالى (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الآية 36 من سورة النساء ج 3، وقوله تعالى (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) الآية 56 من سورة الزمر المارة كما ستطلع عليه في تفسيرها إن شاء الله «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» 51 كثير مستمر كناية عن الإقبال على الدعاء بكليته والإلحاق به والابتهال صباح مساء، والعرض من وصف الأجسام وهو أقصر الامتدادين والطول أطولهما، ويفهم عرفا من العريض العظم والاتساع، يقال بالقلم العريض أي الكبير الذي يقرأ عن بعد، وإن صيغة المبالغة وتنوين التنكير فيه يشعران بذلك. ويستلزم وصف الدعاء بالعرض وصفه بالطول أيضا، هذا وقد تضمنت هذه الآيات نوعين من طغيان الإنسان الأول شدة حرصه على جمع الدنيا وشدّة جزعه على الفقد، والتعريض بتظليم ربه، تعالى عن ذلك، في قوله هنا لي مديحا فيه سوء اعتقاده بالمعاد المستجلب لتلك المساوى كلها، والثاني بين طيشه المتولد عنه إعجابه بنفسه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها، وقد ضمّن ذلك ذمّه بشغله بالنعمة عن المنعم بالحالتين أما في الأولى فظاهر، وأما في الثانية فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم، بل تأسفا على الفقد المشغل عن المنعم كل الإشغال، تدبر، قال تعالى أيها الناس «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» كما ذكرت لكم «ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ» لقولكم إنه ليس من عنده، أخبروني «مَنْ أَضَلُّ» منكم بتجارئكم على هذا القول، وقد وضع محل هذه الجملة «مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ» خلاف «بَعِيدٍ» 52 عن الحق وهو أبلغ إذ تفيد لا أضل منكم أبدا، لأنكم في

خلاف بعيد غاية البعد عن الحق السوي، قال تعالى «سَنُرِيهِمْ آياتِنا» عند حلول الوقت المقدر لخذلانهم «فِي الْآفاقِ» نواحي الأرض شرقا وغربا، ومن جميع جهاتها، وأفاق السماء نواحيها وجوانبها أيضا، والأفق القطر وما تراه من اتصال السماء بالأرض يسمى أفقا أيضا، وفسر بعض المفسرين هذه الآية بما أجراه الله تعالى على يد نبيه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفائه الكرام رضي الله عنهم ومن حذا حذوهم وتبع خططهم من فتوحات البلاد والقرى والاستيلاء على الأراضي الدالة على قوة الإسلام ومتانة شكيمة المسلمين للمؤمنين الذين اخترقوا البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وافتتحوها وكانوا واسطة هداية أهلها، وعلى وهن الباطل وتفرق جنده وتشتيت أهله وخذلان الكفرة وإذلالهم، وذلك استدلالا من معنى السين في (سنريهم) لدلالتها على الاستقبال أي أنّا سنري أصحابك وأمتك بعدك آياتنا الدالة على قدرتنا بمحق الباطل وإظهار الحق من بعدك، كما أريناكه في حياتك، وعليه يكون الخطاب في الآية عاما للكافرين والمؤمنين الموجودين زمن صاحب الرسالة فمن بعدهم، ولا مانع من ذلك «وَفِي أَنْفُسِهِمْ» نريهم آياتنا أيضا بإنزال البلاء على الكافرين من قحط أو خوف وقتل وأصر وجلاء كما أراهم في بدر وما بعدها من المواقع وزمن الفتح وبعده، وبمقابل هذا للمسلمين رخاء وظفر وعز وغنيمة، وفي هذه الآية على التفسير الأول إشارة إلى فتح مكة عنوة لما فيها من معنى لتهديد في لفظ سنريهم والوعيد وهو من الإخبار بالعيب وإن مكة شرفها الله لم تفتح عنوة على يد أحد قبله قط، وعلى التفسير الثاني إلى فتح بلاد العرب خاصة استشعارا من قوله (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) والبلاد الأخرى عامة وإلى أن ذلك كله كائن لا محالة لإخبار الله تعالى به، وهذا وإن كان فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلاد فهو آية بالنسبة إلى الأنفس، ونفس الإنسان فيها آيات كثيرة لم يحط بها البشر، ومن قرأ علم التشريح ووقف على ماهيته وشاهد تراكيب الإنسان عرف مغزى قول علي كرم الله وجهه: وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر ومن العجيب أن بعض العلماء بالطب مع وقوفهم على علم التشريح ينكرون الإله مع أن المنكر يجب أن يؤمن لما يرى من صنع المبدع في هذا الوجود،

تفسير سورة الشورى عدد 12 - 62 و 42

ولكن من يضلل الله فماله من هاد «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ» القرآن المخبر عن ذلك هو «الْحَقُّ» المنزل من عند الله العاوي عن كل شائبة «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ» يا سيد الرسل الذي أنزل عليك هذا القرآن وجعل فيه بيانا لكل شيء مما كان ويكون «أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» 53 لا يغيب عن علمه ما يقع في جميع مكوناته وإن كل ما يجري فيها يراه ويسمعه وتكون بأمره وإرادته، قال تعالى «أَلا إِنَّهُمْ» قومك يا حبيبي مع ظهور هذه الآيات المثبتة للتوحيد والتنزيه والأمر بالعدل والإحسان، لم يزالوا «فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ» في الآخرة لأنهم ينكرون البعث وسيعلمونه حين يشاهدونه «أَلا إِنَّهُ» ذلك الإله الواحد العظيم القادر على كل شيء «بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» 54 إحاطة ضافية لعلمه بواطن الأمور وظواهرها، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء البتة. ولعظم شأن معاني هذه الآية رءف فيها أداة التنبيه ليتنبّه القارئ إلى معانيها ويتذكر ويتفكر فيما انطوت عليه هذا. ومنا قيل إن هذه الآية تنبىء عن أن علوم الله تعالى غير متناعيه، قيل ولولا يلتفت إليه بل إنها تفضي أن علمه محيط بكل شيء من الأشياء، وتقيد أن كل واحد منها مثناه لا كون مجموعها متناهيا، ولا أن علوم الله متناهية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه السورة. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الشورى عدد 12- 62 و 42 نزلت بمكة بعد سورة فصلت عدا الآيات 23 إلى 27 فإنهن نزلن بالمدينة، وهي ثلاث وخمسون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «حم عسق» 1 فصل بينهما بعض القراء وجاءت عليه المصاحف خطأ هكذا (حم) 1 (عسق) 2 ولم يفصل بين (المص) و (كهيعص) و (المر) لأنه وقع بين سور أوائلها حم فقط فأجريت

مجرى نظائرها، ويجوز وصلها، وعلى الفصل يكون حم مبتدأ وعسق خبر، وعلى الوصل تكون كلها مبتدأ لخبر مقدر أو خبر لمبتدأ محذوف، وفيه من مبادئ أسماء الله الحسنى الحليم والمالك والعالم والسلام والقهار والقادر، ويكون اسما للسورة، ولا يعلم المراد منه على الحقيقة إلا الله تعالى، راجع تفسير ما قبله، هذا، وإن ما جاء في تفسير روح البيان لاسماعيل حقي وابن كثير في تفسيره من أن ملكا من آل النبي محمد صلّى الله عليه وسلم اسمه عبد الله أو عبد الإله يكون خراب الدولة على يده إلى آخر ما ذكراه، قيل لا ثقة به ولا عمدة عليه، ولا ينطبق على الواقع ولا يوجد ما يؤيده ولا يعرف مصدر نقله ولا من أين تلقيا ذلك، فهي خرافة لا يلتفت إليها، ولذلك لم ننقلها، وإن آل النبي الذين هم آله حقا لا يقع منهم إلا الإصلاح وهم أغير على هذه الأمة وملكها من كل أحد على الإطلاق، وإنك إذا قرأت تلك الأسطورة تمجها وتكذبها من عبارتها، سامحهم الله كم يودعون كتبهم من الغث ما لا فائدة فيه. راجع الآية 58 من الإسراء في ج 1، «كَذلِكَ» مثل ما أوحي إلى الرسل قبلك يا سيدهم «يُوحِي إِلَيْكَ» ربك الذي رباك هذا القرآن «وَ» أوحى كتبا سماوية أيضا «إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» كموسى وداود وعيسى وصحفا إلى غيرهم كشيث وإبراهيم، وأوحى وحيا بالتكلم وبواسطة الرسل والإلهام لهؤلاء وغيرهم من كافة الأنبياء والرسل ربهم ومرسلهم ومتولي أمورهم «اللَّهُ» الواحد في ملكه «الْعَزِيزُ» الغالب بقهره «الْحَكِيمُ» 3 المصيب في صنعه الذي «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الشأن «الْعَظِيمُ» 4 السلطان الذي لا يشغله شأن عن شأن «تَكادُ السَّماواتُ» على عظمهنّ وقوتهنّ «يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ» من عظمته وهيبته ويكدن يتشققن أيضا من قول الكافرين إن له شريكا وإن الملائكة بناته وقول أهل الكتابين إن عزيرا وعيسى ابناه وهو منزه عن الصاحبة والولد والشريك والنظير والوزير والمعين. هذا، والقياس أن يكون التفطر من تحت وقد بولغ فيه لكبير ما يسنده لصاحب الجلالة والعظمة فأسند إلى الفوق، فيا أيها الناس نزهوا ربّكم عن ذلك كله، وخذوا بقول أنبيائكم عنه كيف لا تفعلون ذلك «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ»

مطلب تسمية مكة أم القرى وقوله ليس كمثله شيء وإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ومقاليد السموات:

وينزهونه عما يقول الظالمون مما لا يليق بكبريائه من البهت والافتراء «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» من المؤمنين الذين يبرثون الحضرة الإلهية مما عزي إليها فانتبهوا أيها الناس لتقديس الملائكة وقدسوا ذلك الإله القوي البرهان، ولأجل أن تنتبهوا لذلك جاء جل جلاله بأداة التنبيه، فقال عز قوله «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ» لمن يرجع إليه تائبا منيبا «الرَّحِيمُ» 5 بعباده كلهم ومن رحمته يريد لهم الخير ومن عميم إحسانه شاء أن يبدل سيئات من يخلص إليه التوبة حسنات بعظيم فضله وكبير كرمه وجليل رأفته راجع الآية 70 من سورة الفرقان في ج 1، قال تعالى «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» لينصروهم ويشفعوا لهم جهلا وعنادا اتركهم الآن يا حبيبي ما عليك منهم «اللَّهُ» ربك ومالك أمرك وأمرهم «حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ» رقيب على أحوالهم محيط بهم وهو الذي يجازيهم على ذلك إذا بقوا مصرّين «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» 6 تدافع عنهم وتجهد نفسك لأجلهم لأن أمرهم غير مفوض إليك وإنما أنت منذر لهم فقط وإن قولهم هذا ليس بضائرنا، ولله در القائل في هذا المعنى: ما حطك الواشون عن رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب كأنهم اثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا «وَكَذلِكَ» مثل ما أوحينا إلى غيرك من الأنبياء ما أنزلناه عليهم من الكتب والصحف والتكلم بلسانهم ولسان أقوامهم لينذروهم بلغاتهم «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى» مكة أي أهلها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بلغتهم دون حاجة إلى ترجمة، لأن الأنبياء يترجمون الموحى المنزل إليهم بلغة قومهم ليفهموه وأنت لم يحجك ربك إلى الترجمة. مطلب تسمية مكة أم القرى وقوله ليس كمثله شيء وإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ومقاليد السموات: وإنما سميت مكة أمّا لأن الأرض دحيت من تحتها أو لأنها من أشرف البقاع «وَمَنْ حَوْلَها» من البلاد بما يعم منتهى أطرافها الأربع لغاية الشرق والغرب ونهاية الجنوب والشمال، لأن رسالته عامة لجميع أهل الأرض، فلا تقيد هذه الآية

رسالته بمن حوالي مكة من العرب وغيرهم، بل عامة كما ذكرنا، راجع الآية 158 من الأعراف في ج 1 والآية 28 من سورة سبأ المارة وغيرها من الآيات الصريحة القاطعة بعموم رسالته صلّى الله عليه وسلم، وكذلك الأحاديث الصحيحة شاهدة على عموم رسالته، ولهذا البحث صلة في الآية 4 من سورة السجدة الآتية فراجعها. «وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» يوم القيامة وسمي به لقوله تعالى (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) الآية 99 من الكهف الآتية، وقوله تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) الآية 103 من سورة هود المارة وغيرها ولأن فيه اجتماع الأولين والآخرين وأهل الأرض والسماء «لا رَيْبَ فِيهِ» فهو كائن لا شك وفيه يفترق الناس لا محال منهم «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ» للنعيم والسعادة «وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» 7 للعذاب والشقاوة وذلك بعد أن يحاسبوا في الموقف الذي جمعوا فيه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك ل «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» بتوفيقه للإيمان «وَالظَّالِمُونَ» الذين خذلهم كما سبق في علمه اختيارهم للكفر يدخلهم في عذابه «ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» 8 يمنعهم من العذاب المقدر عليهم «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» أم منقطعة مقدرة ببل وهي حرف انتقال من بيان ما قبلها إلى ما بعدها، والاستفهام لإنكار الوقوع، ونفيه على أبلغ وجه وآكده لإنكار الواقع واستقباحه، كما قيل إن المراد بيان اتخاذهم الأولياء ليس بشيء لأنها أصنام لا تقدر على نصرتهم بل على الحقيقة لأن المعنى اتخذوا أصناما من دون الله وهو باطل، لأن الولي من يقدر على نصرة مواليه وهي ممتنعة في الأوثان، وإذا أرادوا أولياء على الحقيقة «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» وحده «وَهُوَ «يُحْيِ الْمَوْتى» وإن الأوثان لا تقدر على إحياء شيء «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 9 والأصنام عاجزة عن كل شيء، وعليه يكون المعنى أن الجدير بأن يتخذوا وليا يقدر على الإحياء والإماتة وعلى كل شيء لا الأوثان العاجزة عن حفظ نفسها. قال تعالى «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ» أيها المؤمنون مع هؤلاء الكافرين من أمر الدين كالتوحيد وإنكار البعث واتخاذ الأوثان آلهة وشركاء مع الله الواحد وجعلهم أولياء لكم من دونه، فلا تكثروا الجدال فيه معهم لأنهم عاتون

[سورة الشورى (42) : الآيات 11 إلى 20]

معاندون «فَحُكْمُهُ» أي حكم ما اختلف فيه مفوض «إِلَى اللَّهِ» وحده وهو الذي يحاسبهم عليه ويجازيهم يوم يعاقب فيه المبطلون والظالمون ويثاب فيه المحقون والمهتدون «ذلِكُمُ» الحاكم العدل الذي يقضي بينكم بالحق في ذلك اليوم العصيب هو «اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» 10 أرجع في كل ما يهمني كيف لا وهو «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وشافيا عن بعضهما، راجع قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية 31 من سورة الحج في ج 3 «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» قال جل قوله من أنفسكم لأنه خلق حواء من آدم وهي أصل في الزوجات كما قال (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) يريد به آدم، لأنه أصل البشر والمعنى أنه استق حواء من آدم كما استق السماء من الأرض، راجع الآية 27 من سورة الحج وأول آية من النساء في ج 3 والآية 189 من الأعراف في ج 1 «وَمِنَ الْأَنْعامِ» خلق لكم «أَزْواجاً» أصنافا راجع الآية 143 من سورة الأنعام المارة «يَذْرَؤُكُمْ» يخلقكم ويكثركم، لأن ذرّ وذرأ بمعنى كثر وخلق «فِيهِ» أي التزويج المستفاد مما ذكر قبله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» أبدا فلا يشبه ذاته المقدسة شيء أصلا، ويطلق الشيء على جميع المكونات عرضا كان أو جوهرا، والله تعالى منزه عن ذلك، ولا كاسمه اسم، قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الآية 66 من سورة مريم في ج 1، والمحال كل المحال أن تكون الذات القديمة مثل المحدثة أو يكون لها صفة حادثة أيضا، وهذا لا يتوقف على تحقيق مثله في الخارج فعلا، بل يكفي تقرير المثل بالقوة فقط لأن ذاته لا يماثلها ذات في الوجود بوجه ما، وكنى بالمثل عن الذات، لأن المماثلة إذا كانت منتفية عمن يكون مثله وعلى صفته، فلأن تكون منتفية عمن يكون كذاته من باب أولى، وتقدم جواز إطلاق الشيء على الله تعالى في الآية 19 من سورة الأنعام المارة، وإقامة المثل مقام النفس شائع في كلام العرب، يقولون مثلك لا يبخل، وهو أبلغ من قولهم أنت لا تبخل، لأنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى، قال القائل: جلّ المهيمن أن تدرى حقيقته ... من لا له مثل لا تضرب له مثلا لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسدّه فقد نفوه عنه، قال أوس بن حجر:

ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل وقال الآخر: سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما ان كمثلهم في الناس من أحد أما قوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) فهو الوصف الأعلى الذي ليس لغيره جلّ شأنه، كما سيأتي في الآية 60 من سورة النحل والآية 27 من سورة الروم الآتيتين إن شاء الله، ويجوز عقيدة إطلاق الشيء على الله تعالى، قال في بدء الأمالي: نسمي الله شيئا لا كالاشيا ... وذاتا عن جهات الست خالي «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالنا خفيها وجليها لفظها ورمزها «الْبَصِيرُ» 11 بأعمالنا كلها «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» مفاتحها بيده، وهي وما فيهما ملكه يتصرف فيهما كيف يشاء. وتقدم البحث في هذا في الآية 63 من سورة الزمر بصورة مفصلة فراجعها، «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيق على من يشاء بحسب الحكمة «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 12 ومن مقتصى علمه إعطاء كل ما يستحقه «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» أي أن الذين الذي شرعه لك ربك يا محمد ليس بشيء جديد، وإنما هو الذي شرعه لمن قبلك من الأنبياء، وقد تطابقت الشرائع على صحته وأجمعت على دعوة أممهم إليه من حيث أصوله الراسخة، لأن الكل مرسلون من قبله على نمط واحد ووتيرة واحدة، فكلهم يدعون إلى توحيد الله وعبادته والاعتراف بأنبيائه، وبالبعث بعد الموت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا أكرم الرسل من القرآن فيه ما أوحينا به لمن قبلك «وَما» أي الذي «وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» من قبلك عبارة عن أمرنا لهم «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ» وأمروا أممكم بالاستقامة فيه وواظبوا عليه وشيدوا أركانه يحفظه من الزيغ وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 194 من سورة الشعراء المارة في ج 1، وإنما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء دون غيرهم لأنهم من أولي العزم، ولأنهم أكثر الناس أتباعا، ولأنهم أصحاب الشرائع المعظمة، وقد ذكرهم الله تعالى في الآية 7 من سورة الأحزاب مجتمعين أيضا، لأنهم خمسة لا سادس لهم على القول الصحيح،

وإن شأنهم في قدم النبوة أعلى من غيرهم وشهرتهم في الكون أكثر من غيرهم، ولأن جهادهم في استمالة قلوب الكفرة وأهل الزيغ بلغ الغاية القصوى، ولهذا فإن كلّا من الأمم متفقة على نبوتهم وحبهم عدا قسم من اليهود المنكرين نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وتقدم البحث في هذا أيضا في الآية 57 من سورة المؤمن المارة واعلم ممأنه لم يرسل نبي إلا وله شرع أمر بإقامته، وإن الدين عند الله هو دين الإسلام، دين إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وخاصة فيما لم يقع فيه اختلاف قط، وهي الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، وتوابع هذه الأصول ثلاثة أيضا: الإيمان بالكتب السماوية وبالقضاء والقدر والطاعة للرسل. «وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» لأن إقامته مع الاختلاف تؤدي إلى التفرقة وهي مذمومة في غير أمر الدّين فكيف به، هذا أمر الله عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه، وتقدم بحث هذا أيضا في الآية 159 من سورة الأنعام المارة فراجعها. وأعلم أن ليس المراد من إقامة الدين هنا الشرائع الأخرى، لقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 48 من سورة المائدة، لذلك فإن ما يعود المرسل الأول يكون بمقتضى شرائعهم، وما يعود لنبينا محمد وأمته يكون بحسب ما أنزل الله عليه وشرعه على لسانه لأن شريعته ناسخة لما قبلها وباقية إلى الأبد وصالحة لكل زمان، ولهذا ختم بها جميع الشرائع كما ختم بصاحبها باب النبوة، إذ بلغت الكمال اللائق، ولا يصلح الكون إلا بتطبيقها، فعلى أولي الأمر السهر عليها والعمل بها ليتم لهم الأمر ويستتب الأمن، قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الآية 3 من سورة المائدة في ج 3، وقال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 85 من آل عمران في ج 3، فيا أيها الناس أرضوا بما رضيه الله لكم، واعملوا به، لأن العمل بغيره لا يقبله الله وتكون عاقبته الخسران «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» من رفض عبادة الأوثان ولم يعظم عليهم رفض عبادة الرحمن، لهذا فإنهم ليسوا بأهل لأن يختارهم الله لإقامة دينه «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده الصالحين لذلك الدين القويم «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ

مطلب في الاستقامة والمراد بالميزان وآل البيت وعدم أخذ الأجرة على تعليم الدين:

يُنِيبُ» 13 لجنابه ويرجعه عن خطأه لصوابه. ونظير صدر هذه الآية في المعنى الآية 163 من النساء في ج 3، قال تعالى «وَما تَفَرَّقُوا» أي الأمم السابقة من أهل الكتابين خاصة فمن قبلهم عامة عن الدين القويم والشرع الصحيح «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بصحته من قبل الله على لسان رسلهم وكان ذلك التفريق «بَغْياً بَيْنَهُمْ» على أنبيائهم وحسدا لهم ببقاء الرياسة ليس إلا «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل بتأخير عذابهم «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا ينقدم ولا ينأخر لأنه من الأمور المقضية المبرمة في الأزل «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل العقوبة وإنزال العذاب بسبب اختلافهم في الدين وتفريقه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ» من أبنائهم وأحفادهم «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» أي الكتاب تقليدا لما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، ثم وصف ذلك الشك بأنه «مُرِيبٍ» 14 مبالغة فيه لأن الريب قلق النفس واضطرابها ويسمى الشك مريبا لأنه يزبل الطمأنينة «فَلِذلِكَ» لأجل تفرقهم وبغيهم على رسلهم وشكهم في كتبهم المنوهة بك وبنبوتك وصدق ما جئنهم به من ربك، ولأجل ما شرع لهم من الدين المستقيم الجدير بأن يتنافس فيه المتنافسون «فَادْعُ» إلى الائتلاف والتوحيد اللذين وصى بهما الأنبياء قبلك وإلى الاتفاق على الملة الحنيفية. مطلب في الاستقامة والمراد بالميزان وآل البيت وعدم أخذ الأجرة على تعليم الدين: «وَاسْتَقِمْ» عليها أنت وأمنك، وأدم الدعوة إليها «كَما أُمِرْتَ» من قبلنا «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» الباطلة المختلفة وآراءهم الفاسدة «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي بجميع الكتب المنزلة من عند الله، لأن النكرة إذا أطلقت عمت، فتشمل كل كتاب أنزله الله من لدن آدم إلى زمنه، وقدمنا ما يتعلق في بحث الاستقامة على الدين في الآيتين 112/ 119 من سورة هود المارة بصورة مفصلة فراجعهما. واعلم أن في هذه الآية تعريضا بالكافرين وبعض أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض من الكتب السالفة والآيات القرآنية، ولهذا قال تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» فيما أمرني فيه ربي من الأحكام المنزلة عليّ من لدنه فلا أخص بعضا دون بعض،

وأبلغ شريعته جميع خلقه الذين أراهم بنفسي، وبالواسطة لمن لم أرهم، وأعدل بينكم في الخصومات إذا تحاكمتم لدي، فلا أجور ولا أحيف على أحد، ولا أخاصم أحدا إلا بالحق ولأجل الحق، لأن الذي أدعوكم إليه هو «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» ورب الخلق أجمع فكما لا يختص به واحد دون آخر لا يرضى أن يتميز أحد على أحد بدون الحق، فهذه خطتي التي أمرت بها يا قوم، فإن لم تقبلوا فتكون «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا تسألون عما أعمل ولا نسأل مما تعملون. وهذه الجملة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من سورة الكافرون في ج 1، وعلي حد قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 24 من سورة سبأ المارة، وإذ ظهر الحق الصريح فأقول لكم «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» ولا خصومة ولا محاججة وجاءت هنا الحجة بمعنى الاحتجاج وهي الأصل «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا» فيجازي كلا على عمله «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» 15 في الخصومات والمحاججات، ولا وجه لقول من قال بنسخ هذه الآية بآية السيف من المفسرين إذ ليس فيها ما يدل على المتاركة وإقرار الكفار على ما هم عليه من الكفر وإنما هي من باب التعريض راجع الآية 25 من سورة سبأ المارة تجد مثل هذا. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» ويخاصمون في دينه «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» بعد استجابة الناس لدينه ودخولهم فيه فهولاء «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ.» باطلة زائلة مهجورة غير مقبولة «عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» 16 في الآخرة، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الناس أجمع، وما قيل إنها نزلت في كفار بدر بعد أن استجاب الله تعالى دعاء حضرة الرسول بظفره عليهم قول لا دليل لقائله عليه، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وواقعة بدر بعد الهجرة وهو لم يهاجر بعد وكذلك القول بحمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب لا يتجه لأن أهل الكتاب لم يباحثهم حضرة الرسول إلا في المدينة ولم يجب دعوته أحد منهم إلا فيها، لذلك فحمل الاستجابة على من أجابه لدين الحق وهو في مكة من أهل مكة، والمحاججون هم روساء الكفر أولى وأنسب في المقام. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» مفصلا فيه الدلائل

والأحكام ليجري عليه الناس «وَالْمِيزانَ» آلة العدل، لأن المراد به والله أعلم نفس العدل والإنصاف والتسوية بين الناس، أنزله أيضا وأمر خلقه فيه ليتحلوا به فيستقيم أمرهم ويعدلوا فيما بينهم. راجع رسالة القسطاس المستقيم للإمام الغزالي رحمه الله تجد أن المراد بالميزان ما ذكرته، لأنه يقول في قوله تعالى (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الآية 7 من سورة الرحمن في ج 3، إن هذا الميزان الذي قابله الله بالسماء لا يتصور أنه الذي يزن به الناس الخس والبصل مثلا، بل إنما هو العدل الذي به قوام الدنيا والآخرة إلخ، ما جاء فيها. «وَما يُدْرِيكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» 17 حدوثها ولعلّها مظلّة عليك ولا تراها، فعليك أن تأمر الناس باتباع الكتاب وإجراء العدل بينهم قبل أن يفاجئهم الأجل وقبل حلول يوم وزن العمل الذي يظهر فيه الرابح في هذه الدنيا من الخاصر. واعلم انما «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» استعجال إنكار واستهزاء فيقولون لك لما تخوفهم بها متى هي، ليتها تأتي الآن حتى يظهر لنا الذي نحن عليه حق أم أنت وأصحابك. وذلك لجهلهم بها وبعظمة الله «وَالَّذِينَ آمَنُوا» بها وصدقوا بوجودها «مُشْفِقُونَ» خائفون وجلون «مِنْها» لعلمهم بحقيقتها وحقيقة ما فيها من الأهوال «وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» الكائن لا محالة فانتبهوا أيها؟؟؟ «أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ» يجادلون «فِي السَّاعَةِ» ويخاصمون بوجودها جهلا ويشكون بحقيقتها «لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» 18 عن الصواب، لأن البعث بعد الموت أقرب الغائبات بالمحسوسات، لأنه يعلم من إحياء الأرض بعد موتها وغيره من الأدلة العقلية فضلا عن السمعية «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ» كثير الإحسان إليهم جليل النعم عليهم بالغ البرّ بهم «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» من كل نام بحسبه وبقدر ما يكفيه «وَهُوَ الْقَوِيُّ» باهر القوة على كل شيء «الْعَزِيزُ» 19 الغالب على كل شيء المنيع الذي لا يدافع ولا يرافع «مَنْ كانَ» منكم أيها الناس «يُرِيدُ» بأعماله وكسبه «حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ» من واحد إلى عشرة إلى سبعمئة إلى ما لا نهاية والله كثير الخير جليل العطاء واسع الفضل «وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا» مؤثرا لها على الآخرة فإنا أيضا «نُؤْتِهِ

[سورة الشورى (42) : الآيات 21 إلى 30]

مِنْها» ما قدرناه وقسمناه له فيها أزلا لا نعطيه غيره «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» 20 أبدا لأن همته كانت مقصورة على الدنيا، ومن كان كذلك فإنه يؤتى حظه المقدر له من كل ما فيها كاملا ويكافأ على أعماله الحسنة كالصدقة والصلة وقول المعروف وإماطة الأذى وغيرها من عافية ورزق وجاه وولد وغيره، فيأتي في الآخرة محروما من ثوابها، لأنه لم يقصد بها وجه الله، قال تعالى «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» من الأوثان «شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» من الشرك فيه وإنكار البعث والكتب والرسل والجنة والنار. والاستفهام هنا إنكاري أي ليس لهم شرع ولا شارع على حد قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) الآية 43 من سورة الأنبياء الآتية، قال تعالى مهددا لهؤلاء الفجرة «وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ» السابقة منا بتأخير العذاب «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بإنزاله وفرغ من عذابهم وجدالهم وإنكارهم «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر أمثال هؤلاء «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 21 في الآخرة غير عذاب الدنيا ويوم القيامة بأكرم الرسل «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا» خائفين أشد الخوف من وبال أعمالهم الدنيوية «وَهُوَ» أي العذاب المترتب عليهم جزاء أعمالهم «واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة لأنه محتم عليهم أزلا «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ» يكونون في أطيب بقاعها جزاء لأعمالهم الحسنة «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما لذّ وطاب وخطر بالبال «عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ» الجزاء الحسن «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» 22 الذي لا أكبر منه لأنه من الإله الكبير، وهذه الآيات المدنيات في هذه السورة. قال تعالى «ذلِكَ» النعيم العظيم «الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بأن قرنوا أعمالهم الطيبة بفعل ما هو صالح لأن الإيمان بلا عمل كالصوم بلا صلاة والحج بلا زكاة «قُلْ» يا حبيبي لمن تبلغهم أحكامي «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي التبليغ «أَجْراً» جعلا ما ليكون مدار للتهمة والظن بي، ولا أطلب منكم شيئا عما أبلغه لكم من كلام ربي ولا لموعظة ما لإرشادكم «إِلَّا» شيئا واحدا «الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» لا غيرها أريد منكم أبدا، قال ابن عباس لم تكن بطن من قريش إلا وله صلّى الله عليه وسلم فيهم قرابة، لهذا

قال لا أريد منكم لقاء نصحي وإرشادي للأخذ بكلام ربي إلا أن تحفظوا قرابتي وتصلوا رحمي وتكرموهم، لأن هذه الآية نزلت في الأنصار حينما قالوا له تمنّ علينا يا رسول الله، قال لا أريد شيئا إلا المودة في القربى. قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فيما يرويه البخاري عن ابن عمر ارقبوا محمدا في أهل بيته. وروى مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إني تارك فيكم ثقلين أولها كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم في أهل بيتي، كررها صلّى الله عليه وسلم تأكيدا في حبهم وإكرامهم والصحيح أن أهل بيته نساؤه ومن حرمت عليهم الصدقة بعده، وآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضوان الله عليهم. وهذا الطلب لا يسمى أجرا بالنسبة لقريش في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، فتكون مودتهم لازمة بل يكون فيه الأجر بالنسبة للأنصار المخاطبين في هذه الآية. أخرج الترمذي عن ابن عباس قال قال صلّى الله عليه وسلم أحبّوا الله لما يغذوكم به، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبّي. وعلى كل لا يقال إنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة، لأن ذلك ممنوع إذا كان أجرا ماديا كالدراهم وغيرها، أما الكفّ عن أذية أهله وإرادة مودتهم فلا يسمى أجرا بالمعنى المتعارف، وعليه فإن طلب المودة في القربى ليس بأجر، فيرجع الحاصل على لا أجر البتة، ولهذا فلا ينتقد عليه إلا كما ينتقد على القول فيهم. ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب لأن هذا ليس بعيب يلام عليه، بل يمدح فيه، ولأن المودة بين المسلمين واجبة، فهي في أهل البيت أوجب، ولهذا كان الاستثناء متصلا. أما من جعل الاستثناء منقطعا فقد ركن إلى تقدير فعل (تَوَدُّونَ) وعمد على الوقف على كلمة أجرا أي إلا أن تودوا أقاربي أو تقدير أذكركم المودة في القربى، والأول أولى كما ترى لما في الأخير من لزوم وتقدير ما الأمر في غنى عنه ولا حاجة فيه. هذا ولا معنى لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) الآية 47 من سورة سبأ المارة، وهي آية مقدمة في النزول على هذه الآية لفظا ورتبة ومن المعلوم أن المقدم لا ينسخ المؤخر، راجع

بحث النسخ في المقدمة، وهذا من جملة المرامي التي من أجلها أقدمت على هذا التفسير المبارك ورتبته بحسب النزول ليعلم القارئ خطأ القائلين بنسخ أمثال هذه الآية متى ما عرف أنها متقدمة، لأن العلماء رحمهم الله أكثروا من أقوالهم بالنسخ ومنهم من تغالى فيه حتى خالف الأصول التي وضعت لمعرفة الناسخ والمنسوخ كهذه الآية وآيات الإخبار والوعد والوعيد وغيرها، سامحهم الله. وليعلم أن مودته صلّى الله عليه وسلم وأقاربه وكفّ الأذى عنهم من فرائض الدين، فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال علي وفاطمة وابناهما. وقد أجمع السلف والخلف الصالحون على مودتهم، فلا يصح القول بوجه من الوجوه بنسخ هذه الآية أبدا، وعفا الله عن هؤلاء الذين لا هم لهم إلا أن يقولوا هذا ناسخ وهذا منسوخ ولولا الراسخون في العم الواضعون أصول علم الناسخ والمنسوخ والوافقون لأمثالهم على ما يتقولون به من النسخ بالمرصاد لتوسعوا بأكثر من هذا. وأخرج بن جرير عن أبي الديلم قال لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنهما أسيرا، أقيم على درج دمشق، فقام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، فقال له علي: أقرأت القرآن؟ قال نعم، قال أقرأت آل حم؟ قال نعم، قال أما قرأت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ؟ قال فإنكم لأنتم هم؟ قال نعم، قال فأطرق أي ندما على ما قال وأسفا. فانظروا أيها الناس كيف قاتل من قاتل من أهل الشام أناسا لا يعرفونهم ولا يقدرون مكانتهم. راجع الآية 137 من الأعراف في ج 1، وقال علي كرم الله وجهه قال الله فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن. يعني هذه الآية. وقال الكميت: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومعرب وقال عمر الهيتي: بأية آية يأتي يزيد ... غداة صحائف الأعمال تتلى وقام رسول رب العرش يتلو- وقد صمت جميع الخلائق- قل لا وقال الآخر:

أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جدّه يوم الحساب وأخرج ابن حبان عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار، وأخرج احمد والترمذي وصححه النسائي عن المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إنا لنخرج فترى قريشا تتحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب صلّى الله عليه وسلم ودر عرق بين جبينه، ثم قال والله لا يدخل قلب امرئ ايمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي. وما أحسن ما قيل: داريت أهلك في هواك وهم عدا ... ولأجل عين الف عين تكرم وقد سئل ابن الجوزي في جامع دمشق هل يوجد لهذا المثل في القرآن ما يشير اليه، قال نعم قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 33 من سورة الأنفال في ج 3 ولهذا أكثر الناس من الثناء عليهم إرضاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وطاعة لربه، حتى أنهم أفرطوا بذلك، ومنهم من يمدحهم رياء، قال علي رضي الله عنه لرجل أفرط في الثناء عليه وكان يتهمه في مودته: أنا دون ما نقول وفوق ما في نفسك رضي الله عنه ما أعظمه وأحلمه. قالوا كان الشيخ محي الدين العربي يكره الشريف عونا ويندد به، فرأى في النوم السيدة فاطمة رضي الله عنها وهي معرضة عنه، فقال لها لماذا يا سيدتي؟ فقالت لكراهتك عونا، فقال أما تعلمين ما يفعل من المظالم؟ فقالت له أما تعلم أنه منا أهل البيت؟ فانتبه مرعوبا لشدة غيظها عليه، فذهب اليه، فلما رآه عرف الغضب في وجهه لما كان يسمعه من ذمه، فقال على رسلك يا ابن بنت رسول الله والله ما جاء بي إليك وأنت تعلم ما أنا عليه من كراهتك إلّا اني رأيت كذا وكذا، ولهذا جئتك معتذرا، فلما سمع منه الرؤيا تهلل وجهه، وقال اشهد يا محي الدين اني أشهد الله بأني تبت اليه من كل ما كنت أفعل ولا أعود اليه وحسن حاله بعد ذلك. رحم الله الجميع رحمة واسعة فهؤلاء أهل البيت أيها الناس، حبهم ايمان وبغضهم كفر اهـ ملخصا من الفتوحات المكية، وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، وقد تساهل الناس في هذا الزمن في حبهم حتى انهم لم يلتفتوا إليهم، وأفرط آخرون فجعلوا

حبهم رفضا وسلكوا محببهم في سلك الروافض وهم فرقة من إخواننا الشيعة لا الشيعة أنفسهم الذين يفضلون عليا فضله الله على غيره من الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين لقرابته من رسول الله ومصاهرته له ولقوله إن عليا مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي. ولأن نسبه بسببه، ولميزات أخرى كثيرة سنأتي عليها في غير هذا الموضع إن شاء الله. وآخرون قالوا بحبه وادعوا فيه ما هو براء منه، وهو من التفريط بمكان، أما أنا فأقول ما قاله الشافعي رحمه الله: ان كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي ولكنه ليس برفض من واجبات الدين، ولكن بلا تفريط ولا افراط، وقد سئل الإمام الجوزي عن المثل السائر (مدّ رجلك على طول فراشك) هل يوجد في القرآن ما يشير اليه؟ قال نعم قال تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الآية 45 من سورة الفرقان في ج 1 أي لا إفراط ولا تفريط، رحمه الله ما أكثر دقة نظره في القرآن وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 38 من سورة الانعام فراجعها. وعلى هذا فيجب على كل مؤمن احترامهم وتعظيمهم والقيام بحقوقهم وقضاء مصالحهم وعدم النظر إلى بعض هفواتهم، فإن غصن الشجرة منها وإن مال، والعبرة بالخاتمة نسأل الله حسنها، قال تعالى «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» مضاعفا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» 23 للمحبين الطائعين «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بما جاء به من الكتاب وقد كذبوا «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» فينسيك القرآن أو يجعلك من المختوم على قلوبهم لو كذبت علينا يا محمد، لأنه لا يجترئ على افتراء الكذب علينا إلا من كان كذابا مثل بعض قومك، وهذا تعريض حسن بأنهم هم المفترون المطبوع على قلوبهم، لأن الكلام جاء بمثابة التعليل لقولهم، وقد أتى بأن بدل إذا مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به إرخاء للعنان ليفهموا بأنه لو كان محمد نفسه فعل ذلك لختم على قلبه، وهو معصوم بعصمة الله محال عليه أن يقع منه شيء يغضبه، فكيف بغيره «وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ» وهذا تأكيد بأن ما يقوله

محمد صلّى الله عليه وسلم ليس بمفترى، وكيف يكون مفترى ومن عادته تعالى أن يمحق الباطل «وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» المنزلة على رسوله بطريق الوحي «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 24 ودخائلها وخفيات الأمور وبواطنها فلا يخفى عليه شيء مما يحوك في صدورهم وما هو قار في قلب محمد. وهذه الآية تدل دلالة تامة على تنزيهه من الافتراء وطهارة ما هو ثابت في خلده عن أن يصره بشيء من ذلك. وقال بعض المفسرين في هذه الآية إن يشأ يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم، وهو حسن ولكن ما جرينا عليه أحسن وأوفى بالمرام وأنسب بالمقام وأليق لسياق الكلام، وقد مشى عليه جهابذة من العلماء، قال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) الآية، قالوا يريد أن بحثنا على أقاربه من بعده فأخبره جبريل عليه السلام بأنهم لتهموه فأنزل الله تعالى هذه الآية «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» بالتجاوز مما تابوا عنه «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» صغارها وكبارها «وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» 25 سرا وعلما من خير وشر. انتهت الآيات المدنيات وهي لها مناسبة بما قبلها وبعدها كما لا يخفى بخلاف غيرها وإن كانت معترضة، فالقاعدة من كونها تأتي معترضة، وإنك إذا حذفتها وقرأت ما بعدها متصلا بما قبلها صح المعنى، أغلبية، تدبر. قال تعالى «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» دعوة ربهم ويجيب الله دعاء المؤمنين إذا دعوه وفعل استجاب وأجاب بمعنى واحد، وكل منهما يتعدى باللام للداعي وبنفسه الدماء وعليه قوله: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب «وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فوق ما يستحقون بحسب أعمالهم «وَالْكافِرُونَ» بالله تعالى الذين لا يدعون ولا يعترفون بألوهيته «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» 26 جزاء ألفتهم عن دعاء الله وكفرهم به. تدل هذه الآية المكية بأن الله تعالى لا يجيب دعاء الكافرين، وهو كذلك، قال تعالى (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الآية 16 من سورة الرعد ج 3، ومن قال إنه تعالى يستجيب لهم فإنه على طريق الاستدراج، والمؤمنون على طريق التشريف، وهذه الآية المدنية الرابعة، وقد

مطلب بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر:

نزلت في أصحاب الصفّة حينما سألوا رسول الله أن يغنيهم الله من فضله ويبسط عليهم الرزق ويدر عليهم الأموال. مطلب بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر: قال جل قوله «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ» بعضهم على بعض، وعتوا عتوا كبيرا، إذا أعطوا زيادة على حاجتهم النسبية لأن الإنسان شرير بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة والصحة رجع لمقتضى طبيعته، ولو أن الله تعالى يرزق عباده من غير كسب لتفرغوا إلى الفساد، ولكن شغلهم به حكمة منه قال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسدة وقال الآخر: عليك بالقصد لا تضب مكاثرة ... فالقصد أفضل شيء أنت طالبه فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها ... ولا يفكر ما كانت عواقبه حتى إذا ذهبت عنه رفارقها ... تبين الغين فاشتدت مصائبه وعلى القانع أن يثق بالله فإنه لا يضيعه ويعطيه ما يكفيه وليقل كما قال: أتتركني وقد أيقنت حقا ... بأنك لا تضيع من خلقت وأنّك قاسم للرزق حتما ... تؤدّي ما رزقت كما قسمت وإني واثق بك يا إلهي ... ولكن القلوب كما علمت «وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» لمن يشاء بقدر حاجته «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» 27 بما يناسبهم يغني هذا والغناء خير له ويفقر هذا والفقر خير له بمقتضى حكمته، فلو أغناهم جميعا أو أفقرهم جميعا لتعطلت مصالح الكون، ولا يخفى ان البغي مع الفقر أقل منه مع البسط، وكلاهما سبب ظاهري للإقدام على البغي، والإحجام عنه، فلو عم البسط القلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن. ولهذا يشير قوله صلّى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يضل أحدكم يحمي مقيمه الماء. وإلى ذلك يوعز سبب النزول المشار اليه أعلاه، وينظر إليه قول خبّاب بن الأرت: نظرنا إلى أموال بني قريظة،

والنضير وبني قينقاع فتمتيناها، فنزلت هذه الآية. ولا يضرّ تعدد أسباب النزول، فقد تكون آية واحدة لأسباب كثيرة. هذا، واعلم أن التوبة واجبة في كل ذنب، وشروطها أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على أن لا يعود أبدا «فإن فقد أحدها لا تصح، وهذا فيما يتعلق بالذنوب التي بين العبد وربه، أما إذا كانت بين الناس يزبد عليها شرط رابع وهو الاستحلال من صاحبها وإبراء ذلك من كل حق، مثلا إذا كان غصب مالا من أحد فيجب ردّه اليه أو مسامحته من قبله، وإن قولا أو فعلا فبالمسامحة والعفو من قبله، وإن لم يعين له ما قال وما فعل إذ قد يكون مما لا يقال خشية الفتنة فيكون الإفشاء أشد ضررا من الذنب. وليعلم أن مصائب الدنيا لا تختص بواحد دون آخر فيشترك فيها الصديق والزنديق، إلا ان المؤمن أكثر مصابا من غيره، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: خص البلاء بالأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. أو ان أكثره في هؤلاء لأنه لا يتعداهم تدبر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: والله اني لأستغفر الله وأتوب اليه في اليوم أكثر من مائة مرة، وفي رواية للغزالي انه صلّى الله عليه وسلم قال إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة، وذلك لترقيه سبعين مقاما عما كان فيه حيث يرى دائما بعدا بين حالته الحاضرة والماضية بسبعين درجة، ولهذا قيل حسنات الأبرار سيّئات المقربين، لأن الأبرار إذا وصلوا إلى درجة المقربين رأوا أنفسهم مقصرين، وان عملهم الأول يحتاج إلى توبة واستغفار. وروى مسلم عن الأعز بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله جميعا، فاني أتوب إليه في اليوم مائة مرة. ورويا عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لله أفرح بتوبة عبده من المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة (أي فلاة لا ماء فيها ولا نبات والمفازة في الجبل والأرض الوعرة وتسميها العامة الدوّة) معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده. وفي رواية لهما من لفظ

مسلم: فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك من شدة الفرح، أي بدلا من أنت ربي وأنا عبدك. وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل من أهان لي وليا بارزني بالمحاربة، واني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرود، وما تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل ما افترضته عليه، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه، وإن في عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، فأكفه عنه ان لا يدخله عجب فيفسده ذلك، وان من من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانهم إلا الفقر، فلو أغنيته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، إني أدير أمر عبادى بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير، أخرجه البغوي بإسناده وهذا الحديث الجامع لأحوال العباد من أحاديث الصفات، وقدمنا ما يتعلق بأمثاله في الآية 158 من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع التي فيها ما يتعلق بذلك، فراجعها. وجاء عن صفوان بن عسال المرادي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية 158 المنوه بها أعلاه، أخرجه الترمذي حديث حسن صحيح انتهت الآية المدنية، وهي كالتي قبلها. قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» أي اشتد يأسهم من نزوله، الله حبسه عنهم ولا يعلمون وقت إطلاقه «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» بقيض الغيث عليهم

«وَهُوَ الْوَلِيُّ» الذي يتولى أمور عباده بإحسانه ولطفه بسائق رأفته «الْحَمِيدُ» 27 على انعامه المحمود على إنزال بركات السماء وبسط منافعها، المتعطف على خلقه بما ينفعهم وكشف ما يضرهم، وقد ذكرهم الله تعالى في هذه النعمة لأن الفرح بعد الشدة بحصول النعمة اتمّ وأدعى للشكر. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ» أوجد وفرق «فِيهِما مِنْ دابَّةٍ» هي لغة ما دبّ على وجه الأرض، وعرفا ذوات الأربع من الحيوان فقط «وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ» بعد تفرقهم وتشتتهم «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» 29 وجاز إطلاق لفظ الدابة على من في السماء لأن الدبيب لغة المشي الخفيف ويحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران أو أن الله تعالى خلق فيها أنواعا من الملائكة أو أصنافا من الحيوانات يدبون دبّا كالإنسان، أو أن الملائكة أنفسهم قد يتمثون بالبشر فيمشون مشيا، لأن لهم التشكل بصور غير صورهم، كجبريل حينما تمثل للنبي مرة بصورة أعرابي في حديث الإيمان والإسلام والإحسان، ومرة بصورة دحية الكلبي، قال تعالى «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» من الذنوب، لأن جل البلاء من الأوجاع والقحط والغرق والحرق وغيرها من المصائب يوجدها الله تعالى عقوبة لمقتر في الأعمال المكروهة، وقد يوجدها عفوا للثواب كما ذكر آنفا، وبما أن البشر هو المسبب لعملها نسبها الله إليه، وإلا في الحقيقة كل من عند الله، قال إبراهيم عليه السلام بعد أن نسب الهداية والطعام والشراب لله تعالى «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية 80 من سورة الشعراء ج 1، نسب الشفاء لله كما نسب الإحياء والإماتة إليه، لأنها متحققة منه لا علاقة للعبد وغيره فيها البتة، ونسب المرض لنفسه لأن أكثر أسبابه من الأكل والشرب والحر والقر وإن كانت بإيجاد الله تعالى، إلا أنه هو المسبب لها باختياره ورغبته، وهذا من قبيل التأدب مع الله تعالى، إذ ينبغي للعاقل أن ينسب الخير إلى الله والشر لنفسه، لأن اقترافه له برضاه وشهوته، وإن عقابه عليها من هذه الحيثية «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» 30 من الذنوب فلا يعاقب عليها وعن كثير من خلقه فلا يجازيهم على سيئتهم. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي ثميلة قال: قال علي رضي الله عنه ألا أخبركم

مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر:

بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ) الآية هذه وسأفسرها لكم يا علي، ما أصابكم من مصيبة أو مرض وعقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم عقوبته في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه. وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمؤمنين المصابين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية وأن ترزقنا الصبر إذا ابتلينا، وتعظم لنا الأجر عليه. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو لله عنه أكثر. قال ابن عطاء من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر: وقال علي كرم الله وجهه: هذه أرجى آية في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانيا وإذا عفا لا يعود. راجع الآية 84 من سورة الإسراء والآية 5 من سورة الضحى في ج 1 والآية 160 من سورة الأنعام والآية 53 من سورة الزمر المارتين. هذا، وقد تعلق في هذه الآية من يقول بالتناسخ بحجة أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا، مع أن السياق والسياق من هذه الآية يدلان على أنها مخصوصة بالمكلفين أصحاب الذنوب فإن من لا ذنب له كالأنبياء قد تصيبهم مصائب، لما جاء في الخبر: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كما مر آنفا، ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، فالأطفال والمجانين غير داخلين في الخطاب لأنهم غير مكلفين، وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فيما يصيبهم من المصائب، فهي لحكم خفية، قيل مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر، لا لأن لهم حالة سابقة كما زعموا، ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب

[سورة الشورى (42) : الآيات 31 إلى 40]

وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة بدليل الأحاديث المذكورة آنفا، فلا وجه إذا لما تعلق به القائل بالتناسخ ولا دلالة في الآية. والقائلون بالتناسخ هم فرقة من الفلاسفة يعتقدون أن الروح إذا ماتت ولم تستكمل فضائلها تنسخ أي تنقل إلى نطفة أخرى لاستكمال الفضائل المزعومة، ويقرب من هذه عقيدة الدروز الذين يقولون بالتقمص أي إذا مات الميت تتقمص روحه أي تنقل إلى إنسان أو حيوان ولد ساعة موته، وهذه عقائد عقلية ساذجة لا أصل لها ولعلها سرت عليهم من الخوارج الخارجين عن شرائع الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، والدين عند الله هو الإسلام دين أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» الله ولا فائتينه عن أن يصيبكم بذنوبكم بل هو قادر عليكم لا تستطيعون الهرب من قضائه والتفلّت من قبضته «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أراد معاجلتتكم بالعقوبة «مِنْ وَلِيٍّ» يدافع عنكم «وَلا نَصِيرٍ» 31 ينصركم ويحميكم منه «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ» السفن الجاريات على الماء «فِي الْبَحْرِ» والأنهار التي هي في عظمها «كَالْأَعْلامِ» 32 الجبال العالية وأصل العلم بفتح العين الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق والجيش، ولذلك سمي الجبل علما سواء كان عليه نار كما قالت الخنساء: وإن صخرا لنأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار أو لم يكن قيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما سمع قولها هذا قال قاتلها الله ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا. وهذه الآية من الإخبار بالغيب أيضا، لأنه عند نزولها لم تكن هذه المراكب الضخمة، والبواخر العظيمة التي هي حقيقة في كبرها كالجبال، فسبحان من أودع كتابه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وما بعده، لأن فيه ما يكون من حالتي أهل الجنة والنار بعد يوم القيامة أيضا، قال تعالى «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ» تلك السفن «رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» أي البحر أو النهر، لأن السفن إذ ذاك والآن أيضا تجريها الرياح بالشراع «فإذا سكنت وقفت بخلاف سفينة سيدنا نوح الجسيمة التي كان سيرها ووقوفها بكلمة اسم الله راجع الآية 46 من سورة هود المارة، وهذا معجزة له

عليه السلام، أما المراكب العظيمة ذوات المحركات وإن كانت تسير بقوة البخار فإن الرياح تؤثر فيها تأثيرا قد يلحىء ربانها إلى الوقوف إذا رأى مريا خوفا من الغرق لأنه لا يقدر أن يسيرها بانتظام لما تلعب فيها الرياح يمينا وشمالا حتى تكون كالكرة بيد الشاب، فيمشيها بتؤده لأنها مهما عظمت فهي عند اشتداد الريح وهيجان البحر كتبنة صغيرة، وقد رأيناها عيانا هكذا بسفرنا إلى الحجاز، وممن عظيم ما رأينا لم تسمح أنفسنا بالعودة بحرا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لزيارة بيته الحرام وضريح نبيه عليه الصلاة والسلام «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من آيات الله «لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القادر وعبرة مؤثرة «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» 33 لنعم الله من كاملي الإيمان، لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وهذه صفه المؤمن يصبر في الشدة وبشكر في الرخاء فيظفر بمطلوبه كما قيل: وقلّ من جد في أمر يطالبه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر قال تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ» يغرقهن ويهلكهن «بِما كَسَبُوا» ركابها من الذنوب الموجبة لذلك، لأن السفن لا جرم لها، ولهذا عاد الضمير على راكبيها وعود الضمير على ما ليس بمذكور جائز إذا تقدم ما يدل عليه أو كان معلوما كما هنا، راجع الآية 4 من سورة القدر في ج 1، «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» 34 بأن ينجيهم بفضله ورحمته ومنّه وعطفه ولطفه «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» 35 محيد يحيدون عنه ويلجأون إليه إذا وقفوا في مثل هذه الشدائد وعرفوا بطل جدالهم. واعلم أن (وَيَعْلَمَ) في صدر هذه الآية جار على الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون بالنصب عطفا على تعليل محذوف، أي لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون إلخ، «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ» أيها الناس من الحطام «فَمَتاعُ الْحَياةِ» في هذه «الدُّنْيا» تتمتعون فيها به لانقضاء آجالكم، ثم تتركونه، وهذا مما يستوي فيه المؤمن والكافر «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب الذي خبأه لكم بمقابل أعمالكم الصالحة «خَيْرٌ» من زخارف الدنيا وجاهها «وَأَبْقى» منها وأدوم وأحسن «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بنعيم الآخرة «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 36 في أمورهم كلها،

وما قيل إن هذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله لا يتجه، لأن هذه الآية مكية وهو رضي الله عنه تصدق بالمدينة لا بمكة، لهذا فإنها عامة في كل من اتصف بما جاء فيها، ويدخل فيها الصديق دخولا أوليا، لأنها غير مقيدة بزمان فتشمل كل من هذا شأنه إلى يوم القيامة. ثم قسم الله تعالى عباده من جهة التحمل إلى ستة أقسام فقال أولا «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ» كالشرك بالله ونسبة الولد والزوجة إليه تعالى عن ذلك «وَ» يجتنبون «الْفَواحِشَ» كل ذنب عظيم قبحه يسمى فاحشا كالزنى واللواطة والقذف والسرقة من محل محرم والقتل عمدا، راجع تفصيلها في الآية 32 من سورة الأعراف في ج 1 «وَإِذا ما غَضِبُوا» على من أساء إليهم «هُمْ يَغْفِرُونَ» 37 إساءته لا يعاقبونه عليها ويكظمون غيظهم حلما وعفوا، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الآية 134 من آل عمران في ج 3، ثانيا «وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» لما دعاهم إلى الإيمان به «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» إذا أرادوا عمل شيء يهمّ المجتمع تذاكروا فيه فيما بينهم لا يستبدون برأيهم، فقد ورد: ما تشاور قوم إلا هدوا لما فيه رشدهم، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 38 في سبيل الخير ووجوه البر. واعلم أن المشورة هي استخراج الرأي بمراجعة الناس بعضهم إلى بعض، فتحصل من تصادم الآراء واحتكاك الأقوال النتيجة المرضية التي يجمع عليها للتشاورون أو أكثرهم، كما تحصل النار من قدح الحجر بعضه ببعض أو بالزناد. وتشير الآية إلى مدح المشاورة والمتشاورين، وقد جاء في الخبر: ما خاب من استشار ولا ندم من استخار. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم، ثم تلا هذه الآية. وقد كانت الشورى بين النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الأصحاب رضي الله عنهم بعده، وكانت بينهم في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك مما لم يرد فيه نص شرعي، لأن

الشورى تكون إذا لم يكن نص، ولهذا أتت القاعدة الشرعية (لا اجتهاد في مورد النص) هذا في الأحكام والحدود، أما في الأمور الإدارية والسياسية والتي مصدرها العرف والعادة فيؤخذ بما يقر عليه رأي الجماعة، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة. وفيما يتعلق بالحروب لا بأس من اتخاذ ما لم يتخذه العدو، لأن الحرب خدعة، ولذا جاز فيه الكذب على العدو. أخرج الخطيب عن علي كرم الله وجهه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى، ولا تقصوا برأي واحد. فعلى هذا ينبغي أن يكون المستشار عاقلا عابدا وأن يؤخذ بقول الأكثر كما يستفاد من قوله ولا تقضوا برأي واحد. وأخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا: استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا. والشورى على هذا الوجه من جملة أسباب صلاح الأرض، ففي الحديث: إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم أشراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها. وقيل: إذا استشارك عدوك فاخلص له النصيحة لأنه بها خرج من عداوتك ودخل في مودتك. وهذه الآية عامة محكمة نافذة إلى الأبد، حكي عن ابن الفرس أن هذه الآية نزلت بالمدينة وقد انفرد وحده بهذا إذ لم يقل به غيره، وان الغرس ما احتج به على ذلك من أن وقوع المشورة في القتال وغيره لم يكن إلا في المدينة لا يؤيد كون هذه الآية مدنية، لأن كثيرا من الآيات المكيات تنطبق على حوادث وقعت في المدينة، وكثيرا من الآيات المدنيات تنطبق على وقائع حدثت في مكة، فلا يعني أن هذا مكي وذلك مدني، لأن إثبات ذلك متوقف على السماع الصحيح والقول غير المطعون فيه من الرجال الثقات، وقدمنا في الآية 32 من سورة النمل في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 159 من آل عمران الآتية في ج 3 فراجعهما، وثالثا «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ» بأن تعدي عليهم ظلما وعدوانا «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» 39 لأنفسهم ممن بغى عليهم من غير تعد عليه مراقبا قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من سورة

البقرة ج 3، وذلك أن المؤمن خلق عزيزا يأبى الذل وسكوته في مثل هذه الحالة هوان فيه ومهانة عليه، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 9 من سورة المنافقين ج 3، وعلى هذا يؤول قول الإمام الشافعي: زن من وزنك، بما اتزنك. وما وزنك به فزنه. من جاء إليك، فرح إليه. ومن جفاك، فصدّ عنه. ومع هذا إذا عفا وهو قادر على الانتصار لنفسه فهو أحسن وقد أخذ بالعزيمة وهي أحسن من الرخصة إذا لم يكن فيها إغراء للسفيه إذ يكون حط من الكرامة وقد يأباها خلق المؤمن، قال: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثي له أحد وقال الآخر: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وقال الآخر: فوضع الندى في موضع السيف بالعدى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى أما إذا كان يملك نفسه كالقائل: إذا فاه السفيه يسب عرضي ... كرهت أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا وقول الآخر: فأعرض عن شتم الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما فلا بأس، فقد أخذ بالعفو والصفح المحمودين، وكان من ذوي النفوس الطاهرة النقية يأبى أن يطرأ عليها معنى الذل وخاصة إذا كان يقصد تحمل الأذى قربة إلى الله تعالى فلا يحب الانتصاف لنفسه، فهو من الكاملين ولا يظن به ما يظن بغيره من الهوان والضعف. وإذا كان الإعراض عن المقابلة تمدها كقوله في السكوت عن إجابة اللئيم في سبابه: ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا

[سورة الشورى (42) : الآيات 41 إلى 50]

فلا بأس أيضا لأنه مهما كان يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. ورابعا المقابلة المعنية بقوله تعالى «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملها المساء إليه بالسيء هي أيضا «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» لأنه إذا جازى الرجل من أساء إليه بمثل إساءته له فقد أساء أيضا، إلا أنه لا يجازى على ذلك، لأنها بالمقابلة بلا زيادة، لهذا سمى جزاء السيئة سيئة أيضا، لمشابهتها لها صورة وإلا فليست بسيئة حقيقة، وبما أن الله تعالى لا يرغب الانتصار للنفس ويحب العفو فقد سمى الانتصار سيئة، ولهذا أعقبها بقوله «فَمَنْ عَفا» عمن أساء إليه «وَأَصْلَحَ» بغض النظر عن العقوبة ولم يجابه خصمه بمثل سيئته «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن كان أجره على الله سعد وفاز، لأن الله تعالى يكافىء عن القليل كثيرا، ومن انتقم حرم من هذا الأجر العظيم، لأن الانتقام قد يقع فيه تعدي لأنه من الصعب أن يقابل التعدّي بمثله تماما، ولهذا حذر الله تعالى عن التعدي المستلزم للظلم، فختم هذه الآية بقوله عز قوله «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» 40 الذين يتجاوزون حد الانتصار والبادئين غيرهم بالظلم لا بالمقابلة، وعلى كل البادي أظلم. خامسا قال تعالى «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ» لنفسه بأن قابل الاعتداء بمثله لأن نفسه لم تسمح بالعفو وليس من أولي التحمل ولا التمدح «فَأُولئِكَ» الآخذين تارهم ذيّا عن كرامتهم وحفظا لعزّهم «ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» 41 يؤاخذون به لأنهم أخذوا بالعزيمة وفعلوا ما خول لهم فلا عقاب عليهم ولا عتاب ولا عيب عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ» الطريق الموجب للعقوبة يكون «عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ» مبدئيا بلا سبب «وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ» يفسدون فيها ويتكبرون على أهلها ويعملون المعاصي ويطفون على الناس «بِغَيْرِ الْحَقِّ» تجبرا وأنفة وأنانية بقصد التعاظم عليهم «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 42 في الآخرة غير الذي يبتليهم الله به في الدنيا مما لم يعف عنه، إذ قد يسلط عليهم من هو أظلم منهم فينتقم لذلك المظلوم. وقد جاء في الخبر: الظالم سيفى انتقم به وأنتقم منه. قال تعالى في وصف الصنف السادس وهو أحسنهم «وَلَمَنْ صَبَرَ» على ما نابه من الغير «وَغَفَرَ» له تعديه عليه فضلا عن أنه لم يقابله به ولم يؤنبه عليه ولم يعاتبه به أيضا مع قدرته على الانتقام «إِنَّ ذلِكَ» الصبر على الأذى

مع المغفرة عمل مبرور. ولهذا أشار إليه بالصبر إعلاما بحسنه وتعاظمه على النفس إذ قل أن تجد من يتخلق بهذه الأخلاق الحميدة غير الأولياء وقليل ما هم، ولهذا أشار تعالى بجليل ثوابه وكبير أجره وجميل عمله عنده بقوله عزّ قوله «لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 43 التي أمر الله تعالى بها خلّص عباده لأن الصبر على المكاره من خصال الأنبياء والغفران مع القدرة من أفعال العظماء وهاتان الخصلتان من شأن أولي العزم. هذا، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات ألست من قوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) إلى هنا اثنتي عشرة خصلة متداخلة، ولذا قلنا ستة أقسام، لأن في كل قسم خصلتين، وكلها من كرائم أخلاق المؤمن وأحاسن صفاته، إرشادا لعباده للأخذ بها، وحثا لهم على التحلي بمكارم الآداب. قال: وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت ... فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا وقائله حميد بن ثور الهلالي، وإن أمير الشعراء السيد شوقي قال: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا فانظر بين المتقدم والمتأخر تجد البون شاسعا. هذا، والتمسك بآداب الأنبياء تعليما للأمراء والحكام أن يتقبدوا بهم، فيفعلوا ما أرشدوا إليه من تلك الخصال العالية، فيكونوا أكبر شأنا من غيرهم، وعلى الناس أن تتأسى بهم، لأن العبد إذا عفا عن أخيه فالله تعالى أولى بأن يعفو عنه، إذ لا يخلو أحد من قصور تجاه مولاه، ومن هنا أخذت قاعدة إسقاط الحق العام تبعا للحق الشخصي. وأعلم أن الله تعالى جعل عباده شطرين، شطر أخذ بالعزيمة التي هي من العزم وهو عقد القلب على إمضاء الأمر بالصبر والمغفرة والصفح مما هو موافق لشريعة سيدنا عيسى عليه السلام، راجع الآية 34 من سورة السجدة المارة، وهؤلاء الذين مدحهم الله تعالى فيها وقليل ما هم، وشطر أخذ بالرخصة وهي الانتصاف والمقابلة بالمثل وهذه من خصائص هذه الأمة التي جعلها الله سبحانه أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس وخير الأمور أوساطها، ومما خصت به من السنّة مما بوافق هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. ونصر الظالم ردعه عن الظلم، وخيرها في هذه الآية بين الأمرين الرخصة والعزيمة وندبها إلى ما هو الا حسن بقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ

ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية 55 من سورة الزمر المارة، ومدح هؤلاء بقوله عز قوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الآية 19 منها فراجع هاتين الآيتين ففيهما كفاية. قيل دخل رجل دميم على امرأته وقد تزينت له فقال لها: لقد أصبحت رائعة في الجمال، فقالت له أبشر فإن مصيرنا الجنة، قال وكيف؟ قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت ولأني ابتليت بمثلك فصبرت، والشاكر والصابر في الجنة. وهذا إذا حسنت النية في الصبر والشكر وكان القصد من الانتصاف والمقابلة ما ذكرناه آنفا في تفسير الآيتين المذكورتين فيكونون ممدوحين أيضا كما يشير إليه سياق التنزيل وسياقه، إذ جاء بمعرض المدح وإلا فلا ثواب ولا عقاب، وقد أثبتنا لك أيها القارئ فيما يلي جملة أحاديث في هذا الموضوع لتلين عريكتك وتخفض جناحك وتجنح إلى العفو رغبة بما يعده الله تعالى للعافين أمثالك في يوم أنت أكثر احتياجا إليه، عنك تمتنع من الانتقام الذي فيه حظ النفس الخبيثة الأمارة بالسوء فتحرم من الأجر المقدر على العفو والصفح، فمنها ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قال موسى ابن عمران عليه السلام يا ربّ من أعزّ عبادك عندك؟ قال من إذا قدر غفر. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فليدخل الجنة، ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى، قالوا ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال العافون عن الناس، فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب. وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسّم فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال إنه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال عليه الصلاة والسلام ثلاث من الحق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى إلا أعزّ الله عز وجل بها نصره، وما فتح رجل باب عطية

يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة. وفي هذا الحديث تنبيه لأبي بكر رضي الله عنه على ترك الأولى والأخذ بالعزيمة، ولا وجه لقول من قال إن فيه عتبا من حضرة الرسول وهو فعل بعض ما وقع عليه، والله تعالى يقول في مثله (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 41 المارة، لأن التنبيه شيء والعتب شيء آخر، وكذلك لا يعد لوما لأنه لم يقترن بقول الرسول له لم فعلت أو لم قابلته. هذا وقد أمر صلّى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم فقد أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ زينب رضي الله عنها وعندي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأقبلت عليّ تسبني، فردعها النبي صلّى الله عليه وسلم فلم تنته، فقال لي سبّيها، وفي رواية دونك فانتصري، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتهلهل سرورا. وهذا من قبيل التعزير لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا في الرد، وقد رأى صلّى الله عليه وسلم المصلحة في ذلك ففوض إليها إقامة هذا الحق عنه. الحكم الشرعي: هو أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف، وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم، وقد يغلب في التعزير حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين، وقد يكون حقا محضا لله فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل فله ذلك، وإذا لم تطاوع نفسه على العفو فعليه السكوت حالئذ لئلا يفرط منه ما لا يتلافى فهو سبيل السلامة قال أحمد بن عبيد: لعمرك ما شهود الناس إلا ... بلاء والسلامة في الغياب فغب ما استطعت إلا عن كريم ... يرى لقياك من خير الطلاب يهدّي إن دللت على صواب ... ويهدي إن زللت إلى الصواب ويهدي بصدر هذا البيت بمعنى يهتدي. وسيأتي لهذا البحث صلة عند قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية 178 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء الله «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أمره ويهديه إلى رشده «مِنْ بَعْدِهِ» كما أن من يهديه فما له من مضل «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» يوم القيامة «يَقُولُونَ» يسألون ربهم ثم بين صورة سؤالهم بقوله عزّ قوله

«هَلْ إِلى مَرَدٍّ» إلى الدنيا لنعمل صالحا وهل «مِنْ سَبِيلٍ» 44 إلى ذلك لنؤمن بالله ورسله وكتبه فلا يجابون إلى طلبهم «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يُعْرَضُونَ عَلَيْها» أي النار المستفادة من لفظ العذاب آنفا «خاشِعِينَ» متقاصرين متضائلين خاشعين «مِنَ الذُّلِّ» الذي رأوه والهوان الذي حلّ بهم «يَنْظُرُونَ» إلى النار القادمين إليها «مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي بمسارقة لشدة الخوف كنظر المقتول إلى الجلاد والتيس إلى الجزار والمحكوم بالإعدام إلى المشنقة. «وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا» عند رؤيتهم أولئك «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ» الذين اتبعوهم في الدنيا وعملوا بأعمالهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» إذ عرضوهم للعذاب باتباعهم أعمالهم، وكذلك خسروا الذين لم يتبعوهم من أهليهم لأنهم صاروا إلى الجنة وانفردوا عنهم في النار، فصارت خسارتهم مزدوجة فانتبهوا أيها الناس لهذه الخسارة الفظيعة «أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» 45 لا يتحول عنهم ولا يتحولون عنه «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ» من عذاب ذلك اليوم «مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأن الأمر كله له «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» 46 طريق إلى النجاة فلا يصل إلى الحق في الدنيا ولا إلى الجنة في الآخرة، فيا أيها الناس «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ» وآمنوا به وانقادوا لرسله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» حين لا يستطيع من بالكون كله على دفعه أو تأخيره، واعلموا أنه «ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ» يقيكم من عذابه ولا ملتجى تلجأون إليه منه «يَوْمَئِذٍ» يوم يأتيكم وهذا التنوين عوض عن جملة وقد يكون عن كلمة ويكون عن حرف كما سنبين كلا بمحله وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» 47 مما اقترفتموه من الذنوب لأنكم إذا جحدتموها أقرت بها جوارحكم «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عن إجابتك يا حبيبي ولم يلتفتوا إلى نصحك «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» حتى تهتم بشأنهم ويضيق صدرك من عدم إيمانهم «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» لما أرسلت به إليهم ما عليك غيره، وليس لك أن تقسرهم على الأخذ بإرشادك، وقد علمنا أنك قمت بما أمرناك به، فاتركهم الآن حتى يحين اليوم الذي قدر فيه إيمان من يؤمن منهم وتعذيب من بصر على

مطلب أنواع التوالد وأقسام الوحي ومن كلم الله من رسله ورآه:

كفره «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» من غنى وصحة وأمن وأولاد ورياسة «فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من فقر ومرض وخوف وذل «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الخبائث التي جنوها «فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» 48 لما أسلفناه من النعم قبلها وكان عليه قبل أن يغمط حق النعمة أن يتأمل أن زوالها كان بسبب كفره وأنه إذا تاب وأناب فالله أكرم من أن يرد عليه نعمه لا أن يقابلها بالإعراض والجحود. مطلب أنواع التوالد وأقسام الوحي ومن كلم الله من رسله ورآه: قال تعالى «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما فيهما لا لغيره ولا لأحد شركة معه فيهما، فهو وحده يتصرف بهما كيفما شاء وأراد «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا يحق لأحد الاعتراض عليه، وليس يوجب عليه إجابة طلب أحد من خلقه «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» 49 فقط «أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً» كثيرين بدلالة التنوين، قالوا ولد لأنس بن مالك مئة ولد، وكذلك لعبد الرحمن بن عمر الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بن سليمان الهاشمي، وهذا من الغرائب ولكن ليس على الله بغريب ولا عجيب «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» لا يولد له البتة من الذكور والإناث «إِنَّهُ عَلِيمٌ» بما يناسب كلا من خلقه فعطاؤه عن حكمة وتخصيصه عن حكمة ومنعه عن حكمة «قَدِيرٌ» 50 على ما يريده من هذا وغيره. وما قيل إن هذه الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن منهم لوطا وشعيا لم يرزقا إلا بنات وإبراهيم لم يرزق إلا ذكورا ومحمدا صلّى الله عليه وسلم ذكورا وإناثا وعيسى ويحيى لم يولد لهما، لا يتجه، لأن عيسى ويحيى لم يتزوجا، والآية عامة في جميع خلقه، وليس المراد من يزوجهم أن بولد ذكر وأنثى في بطن واحدة توءما كما قاله بعض المفسرين إذ لا دليل على التخصيص بل مجرد إعطائهم ذكورا وإناثا في بطن أو بطون متفرقين لا مجتمعين، كما هو الظاهر، والله أعلم. وقدم الله تعالى الإناث على الذكور في هذه الآية لا لشرفهن ولكن لسياق التنزيل بأنه يفعل ما يشاء هو لا ما يشاءونه فصار تقديمهن أهم والأهم واجب التقديم، تدبر. قال تعالى «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ

اللَّهُ» كما يكلم أحدكم صاحبه وما يكلمه جل شأنه «إِلَّا وَحْياً» إلهاما كما روي عنه صلّى الله عليه وسلم قوله فنفث في روعي، أو مناما كما وقع لإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده، وكما ألهمت أم موسى بقذفه في البحر، قال صلّى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي. وما جاء أنه صلّى الله عليه وسلم كلم ربه ليلة الإسراء كما أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج 1 في بحث الإسراء والمعراج فهو مخصوص به دون سائر الأنبياء إذ ما من عموم إلا وخصص منه البعض، ولرؤيته صلّى الله عليه وسلم لربه عز وجل في الدنيا من خصوصياته أيضا وهي حق ثابت لا مرية فيها، ولم يره بالدنيا بعيني رأسه غيره ولم يكلمه أحد مشافهة مع الرؤية غيره أيضا. وقد ثبت لموسى عليه السلام تكليم الله فقط من غير رؤية، وليعلم أن رؤية الله تعالى وتكليمه جل شأنه لا بوصفان بوصف، ولا يكيفان بكيفية، لأن النطق عاجز عن بيان ذلك، وهذا أنكر من أنكر لسوء ظنه ويقينه، وصدّق من صدق بحسن إيمانه وعقيدته، وهذا نوع من أنواع الوحي. والثاني بيّنه بقوله «أَوْ» يسمع الموحى إليه كلامه المقدس الخالي عن الحرف والصوت المنزه عن الشبيه والمثيل «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» يحجب السامع في الدنيا عن الرؤية لا أن يحجب الله عن رؤيته، لأنه جل شأنه لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام ولا يحجبه حجاب، وذلك من غير رؤية كما سمع موسى عليه السلام كلامه من الشجرة وكما سمعت الملائكة كلامه في دعوتهم للسجود لآدم عليهم السلام، راجع الآية 45 من سورة الإسراء في ج 1 في بحث الحجاب، هذا. والنوع الثالث هو المذكور في قوله «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» من ملائكته الكرام «فَيُوحِيَ» ما يتلقاه منه بِإِذْنِهِ» عز وجل إلى المرسل إليه «ما يَشاءُ» أن بوحيه من الوحي المقدس «إِنَّهُ عَلِيٌّ» عن سمات وصفات خلقه «حَكِيمٌ» 51 صائب المرمى فيما بوحيه من الأمور القولية والفعلية. وسبب نزول هذه الآية على ما نقله الآلوسي رحمه الله في تفسيره روح البيان نقلا عن البحر أن قريشا قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا تكلم ربك وتنظر إليه إن كنت صادقا كما كلمه موسى؟ فقال لهم لم ينظر موسى ربه، فنزلت. وهذا أصح مما نقله الإمام علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي في تفسير الخازن المسمى لباب التأويل من أن سبب نزولها هو أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم ألا تكلم

ربك إلخ، لأن السورة مكية والآية ليست بمستثناة منها، واليهود لم يجادلوا حضرة الرسول في مكة ولم يقع معهم أخذ ورد إلا بالمدينة، وهذه الآية محمولة على عدم جواز النظر في الدنيا ولا دليل فيها على عدم جواز الرؤية في الآخرة، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وتقسيم الوحي وجواز رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة في الآية 52 من سورة المزمل، والآية 60 من سورة والنجم، والآية 60 من الإسراء في ج 1، وتطرقنا لها في غيرها من السور وفي الآية 53 من سورة يونس، والآية 36 من سورة يوسف، والآية 103 من سورة الأنعام المارات، وأشرنا إلى المواقع التي تطرقنا فيها لهذا البحث فراجعها. قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما أوحينا للرسل من قبلك كتبّا وصحفا «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا خاتم الرسل «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» قرآنا فيه حياة الأرواح في الدنيا والنجاة الطيبة والنعيم الدائم في الآخرة، وما قيل إن المراد بالروح هنا جبريل عليه السلام قيل غير سديد، لأنه لو كان المقصود هو لقال جل شأنه وهو أعلم بما يقول أرسلنا إليك روحا فقط، لأن جبريل هو من أمر الله أيضا فيكون في الكلام تكرار دون حاجة. هذا، وقد اجتمعت له عليه الصلاة والسلام أنواع الوحي كلها، إذ تشرف في بداية رسالته بالرؤيا الصادقة والنفث في الروع أي القلب، ثم بإرسال الملك جبريل عليه السلام إليه، ثم تكليمه ليلة الإسراء، وزاده الله شرفا على سائر الرسل بالرؤيا الدنيوية. قال تعالى «ما كُنْتَ تَدْرِي» يا سيد الرسل قبل أن شرفناك بالرسالة «مَا الْكِتابُ» القرآن الذي أكرمناك به «وَلَا الْإِيمانُ» بنا على وجه التفصيل الذي علمته بعد ذلك، وليس المراد بالإيمان هنا معناه الحقيقي الذي هو ضدّ الكفر، لأن الأنبياء مجمع على إيمانهم الإجمالي قبل النبوة كما علمت من ذكرهم، وكان صلّى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء يوحد الله تعالى قبل النبوة ويبغض الأصنام ويتعبّد على دين إبراهيم عليه السلام كما من قبله يتعبّد على دين من قبله من الأنبياء، بل المراد من الإيمان هنا والله أعلم الإيمان بتفاصيل الشرائع للذكورة في الكتاب المنزل عليه، لأنه في بداية أمره لم يعلم أنّ كتابا ينزل إليه، فكيف يعلم تفصيلات ما فيه، وقد يأتي الإيمان بمعنى الصلاة، قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الآية 149 من البقرة

تفسير سورة الزخرف عدد 13 - 63 و 43

في ج 3، إذ أجمع المفسرون على أن المراد به في هذه الآية الصلاة كما سيأتي في تفسيرها إن شاء الله، ولهذه الأسباب يجوز أن يعدل هنا عن الحقيقة إلى المجاز لوجود الصارف وعدم إمكان الصيرورة إليها والأخذ بمجرد الظاهر، وقد ألمعنا في المقدمة أن طريقتنا في هذا التفسير لزوم الظاهر ما استطعنا، وأن لا نحيد عنه، وهذا مما لم نتمكن من التقيد بظاهره لما علمت «وَلكِنْ جَعَلْناهُ» أي ذلك الكتاب «نُوراً» يهتدى به من الضلال، ومما يؤيد عود الضمير إلى الكتاب لا إلى الإيمان قوله «نَهْدِي بِهِ» بذلك الكتاب «مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» لأنه أمر محسوس يهتدى به، أما الإيمان فمعنى من المعاني يقر في القلب ويعبر عنه اللسان «وَإِنَّكَ» يا خاتم الرسل «لَتَهْدِي» الناس «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 52 عدل سوي «صِراطِ اللَّهِ» وطريقه الموصل إلى الحق الدال على الرشد، كيف لا وهو سبيل الله العظيم «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء ويريد لا يسأل عما يفعل فانتبهوا أيها الناس «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» 53 كلها في الآخرة مشاهدة كما هي الآن في الدنيا وما ترى منها بيد غيره فهو صورة إذ في الحقيقة لا أمر إلا لله ولا يقع شيء إلا بأمره وإرادته، وهناك يجد المحسن نواب إحسانه والمسيء عقاب وجزاء إساءته. ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه الكلمة، ولا مثلها في عدد الآي. هذا، والله أعم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه وسلم. تفسير سورة الزخرف عدد 13- 63 و 43 نزلت بمكة بعد سورة الشورى عدا الآية 54، فإنها نزلت بالمدينة، وهي تسع وثمانون آية، وثمنمئة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «حم» 1 تقدم ما فيه، وقد أقسم الله تعالى فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 لكل شيء وجواب القسم قوله عز قوله «إِنَّا جَعَلْناهُ» أي الكتاب الملقى إليك يا محمد المشار إليه آخر السورة المارة «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» 3

معانيه فلا تحتجوا بعدم فهمه «وَإِنَّهُ» هذا القرآن ثابت عندنا مدوّن «فِي أُمِّ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ. وسمي أما لأن كل الكتب السماوية المنزلة على الرسل وغيرها مسجلة فيه ومنه ينسخ ما ينزله الله على من يشاء من عباده، قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) الآيتين من آخر سورة البروج في ج 1، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة والباقون بضمها وهو الصواب ولهذا يقول تعالى «لَدَيْنا لَعَلِيٌّ» شرفا ومنزلة وشأنا «حَكِيمٌ» 4 لا يتطرق إليه البطلان على مرور الدوران، راجع الآية 42 من سورة فصلت المارة وما ترشدك إليه من المواضع في حفظ هذا القرآن وتعهد الله به «أَفَنَضْرِبُ» نذود وننحى ونترك «عَنْكُمُ» يا أهل مكة «الذِّكْرَ» بالقرآن فلا نذكركم به ونهملكم «صَفْحاً» إعراضا عنكم، فلا نأمركم ولا ننهاكم، أو نمسك عن إنزاله بسبب «أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» 5 بأنواع الكفر والمعاصي ونبقيكم سبهللا، كلا، لا نفعل ذلك من أجل انهماككم وإصراركم على المعاصي والكفر، بل ننزله عليكم ونكلفكم بالإيمان به وترك ما أنتم عليه، لئلا تقولوا في الآخرة ما جاءنا من كتاب ولا نذير. قرأ نافع وحمزة بكسر الألف من أن، أي إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر، وقيل إن أن هنا بمعنى إذ، مثلها في قوله تعالى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 278 من البقرة في ج 3، أي والجزاء مقدم على الشرط، وقرأ الباقون بفتحها على التعليل وهو الأحسن والأوفى بالمرام. قال تعالى «وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ» 6 قبلكم «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 7 مثلما يسخر بك قومك فلا تضجر لما ترى منهم، فإن لك أسوة بإخوانك الأنبياء، وهذه تقدير للآية قبلها مبينة أن إسراف الأمم السابقة الكثيرة في التكذيب لم يمنعنا من إرسال الرسل إليهم ولا إنزال الكتب عليهم، فكذلك إسراف قومك يا محمد لم يحل دون إرسالنا إياك إليهم وإنزالنا كتابك عليهم، وفيها تسلية لحضرة الرسول ليهون عليه ما يلاقية من قومه، قال تعالى يا محمد لا يغرّ قومك ما هم عليه من القوة والكثرة في المال والولد «فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً» وقوة ومن هم أكثر منهم أموالا وأولادا، وهذا نوع آخر

[سورة الزخرف (43) : الآيات 11 إلى 20]

من التسلية لحضرة الرسول صرف فيه الخطاب من قومه إليه ضمن إخباره عن حكاية حال سابقة لقوله جل قوله «وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» 8 أي القصة التي أهلكوا فيها وحالتهم مع أنبيائهم إذ سلف ذكرهم على التفصيل فيما قصه الله قبل، وقد كرره مرارا حتى صار ما أوقعه بالأولين كالمثل السائر، فحذّر قومك من أن ينزل بهم مثله ويصيبهم ما أصابهم، يريد قوم نوح وصالح وهود وشعيب ولوط وموسى وعيسى، ومن بينهم. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ» بالغ القدرة منيع الجانب العظيم الذي لا يكيّف «الْعَلِيمُ» 9 بما فيهن وبالحكمة التي خلقهنّ من أجلها لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا خلقهن غيره تعالى ولا يتمكنون من إنكارهما أو نسبة شيء بما فيهن منهما لأولهم خشية الكذب المستقبح عندهم، وذلك الإله الفعال «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» لتستريحوا عليها، ومنه مهد الصبي السرير الذي ينام فيه لأن فيه استراحته ومنامه، وإنما جعلها مهدا ليمكن مخلوقاته من الانتفاع بها «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» في الصحارى وفجاجا في الجبال ومرتفعا في الأودية ليتيسر لكم المشي عليها لتمام النفع «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» 10 في أسفاركم لمقاصدكم من القرى والبلاد والمراعي والمقالع وغيرها. مطلب نعمة المطر ونعمة الدواب والأنعام وما يقال عند السفر والرجوع منه: «وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياتكم، وهذا من جملة رأفته بكم أيها الناس ورحمته بدوابكم وأنعامكم وجعله «بِقَدَرٍ» لكل خلقه من نام وجامد يحسب الحاجة إليه وقدر ما اقتضته المشيئة المبينة على الحكم والمصالح، فلم يشح عن الحاجة ولم يزد لحد الغرق الذي لا يكون إلا للعذاب أو أمر آخر يريده، وهذا القدر الذي ذكره لا يعلمه غيره والإبرة المحدثة (أودوميتر) لا تفيد على التحقيق نزوله بالبقعة التي هي فيها أو بساعة معلومة، لأن المطر قد يكون فيها أو بأطرافها قريبا منها أو بعيدا، وقد يكون قليلا بمكان كثيرا بآخر، لهذا لا يعرف مقداره على الضبط، لأنه قد يكون فوقها قليلا وبأطرافها كثيرا وبالعكس، وبمقدار ما تتأثر منه الأرض، لذلك فإن ما يزعمونه من تقدير الأمطار هو بحسب التخمين

والحسبان بالنسبة للبقعة المغروزة فيه الآلة، وهذا إذا لم يطرأ على الجو ما يغير رطوبته، فإذا طرأ قد لا تمطر تدبر. «فَأَنْشَرْنا» أحيينا «بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ» مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالمطر «تُخْرَجُونَ» 11 من قبوركم أحياء في الآخرة بعد موتكم في الدنيا «وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من ذوات الأرواح والنمو من بشر وحيوان وحوت وطير وحشرات ونبات هو ذلك الإله العظيم الذي خلق السموات والأرض «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» 12 عليه برا وبحرا وتحت الأرض والبحر وفي الخلاء «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ» ما ظهر منه لجهة العلو وبطن الفلك بالنسبة للركوب فيه يسمى ظهرا لأن ظهرها طائف على الماء «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ» على لطفه بكم وعطفه عليكم «إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» أي الفلك أو ظهور الأنعام والدواب وغيرها من كل ما يركب، فيدخل فيه الطائرات والغواصات والسيارات على اختلاف أنواعها، وهذا الشكر واجب، لأنه بمقابل نعمة الركوب والتسخير، لأنها أقوى منكم سواء أكانت بنفسها أو بما يسيرها من ماء وهواء أو بخار أو قوة أخرى، ومن نعمته تذليلها فلولا تذليل الحيوان للإنسان ما استفاد منه شيئا لا ركبا ولا أكلا، راجع قوله تعالى (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) الآية 72 من سورة يس في ج 2، والآية 32 من سورة الشورى المارة لتعلم هذه النعمة العظيمة، وأنها تستحق الذكر والشكر، ولها صلة في الآية الأخيرة من سورة لقمان المارة أيضا، «وَتَقُولُوا» عند استواءكم على ما تركبونه شكرا لمسخره لكم «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» الفلك والأنعام والمراكب «وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» 13 مطيقين وضابطين بسبب قوتها وصعوبتها والصعب القوي لا يكون قرينا للضعيف، ولولا نعمة الله علينا بتذليلها لما كان لنا أن نقرن هذه الدواب والفلك والمراكب والسيارات والطيارات وغيرها، لأنها أقوى منا، قال عمر بن معد يكرب: لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا وقال ابن هرم: وأقرنت ما حملتني ولقلّما ... يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر

بما يدل على أن قرن بمعنى طاق، ويقول الراكب أيضا «وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» 14 في المعاد وآخر ما تركب عليه هو النعش، اللهم أحسن سيرنا إليك وأكرم وفادتنا عليك، روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي إلخ اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون سفرنا هذا وأطوعنا بغده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من عناء السفر (تعبه وشدته) وكآية المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد. وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون. قال تعالى «وَجَعَلُوا لَهُ» كفار قريش لذلك الإله العظيم مع إنعامه عليهم «مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً» نسبوه إليه وهو قولهم الملائكة بنات الله لأن الولد جزء من الوالد «إِنَّ الْإِنْسانَ» جنسه «لَكَفُورٌ مُبِينٌ» 15 مظهر جحوده لنعم الله بلا حياء ولا خجل. قال تعالى على طريق الاستفهام الإنكاري «أَمِ اتَّخَذَ» لنفسه «مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ» وأنتم أيها الكفرة تأنفون منهن «وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ» 16 منهم أي كيف يؤثركم على نفسه لأن من يقدر على الاتخاذ يتخذ لنفسه الأحسن فكيف يجدر بهم أن يقولوا هذا «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» من جنس البنات وآثر ذكر الرحمن إعلاما بأنه لولا سبق رحمته وسعتها لأهلكهم بهذا القول الذي لا يجوز نسبته له تعالى «ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» صار مكفهرا من سوء ما بشر به «وَهُوَ كَظِيمٌ» 17 مملوء كربا وشدة حزن وغيظ وغم بحيث لا يكاد يتحمل أكثر مما هو فيه، قيل إن بعض العرب هجر زوجته لأنها جاءت ببنت فخاطبته بقولها: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ماشينا وإنما نأخذ ما أعطينا ... حكمة رب ذي اقتدار فينا فلم يرد عليها لشدة غضبه. قال تعالى توبيخا لهؤلاء الكفرة «أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا» بالتشديد مبينا للمفعول وقرىء بالتخفيف وقرىء يناشأ بالمفعول أيضا بمعنى الإنشاء

كالمغالات بمعنى الاغلاء أي يتربّى «فِي الْحِلْيَةِ» الزينة يريد البنات لأنهن يزخرفن بالحليّ ليرغب فيهن أو باعتبار أنهن ناقصات، ولهذا احتجن للتزيين «وَهُوَ» جنس البنات «فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» 18 لضعف حالهن وقلة عقولهن، أي ألا ينسبوا لله الولد الذكر القادر علي الخصومة والإتيان بالبرهان والحجة إذا كانوا لا بدّ ناسبين له تعالى ولدا، تعالى عن ذلك، أفضلوا أنفسهم عليه فجعلوا له البنت ولهم الولد، قاتلهم الله. وما قيل إن هذه الآية بالأصنام لأنهم كانوا يزينونها بالذهب والفضة، يبعده قوله (فِي الْخِصامِ) لأن الأصنام جامدة لا تخاصم ولا توصف بشيء من الأنانية، والكلام وارد على تقبيح قولهم، وانهم من عادتهم المناقضة في أقوالهم ورميهم القول بغير علم رجما بالغيب. وتشير هذه الآية على النشء في الزينة والنعومة بالعيش من المعايب والمذام، لأنه من صفات ربات الحجال فعلى الشهم أن يتباعد عن ذلك ويأنف عنه ويربأ بنفسه عن التشبه بهن ويعيش كما قال عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا، فإن الحاضرة لا تدوم، أي تزيّوا بزيّ خشن الطعام واللباس، لأن كلمة تمعددوا تأتي لثلاث معان: التزيّيّ بزيّ الغير، والبرء من المرض يقال تمعدد إذا برىء، والضعيف إذا أخذ بالسمن يقال له تمعدد أيضا كما في القاموس، والأول هو المنطبق على المعنى المراد والله أعلم. هذا، وإذا أراد أن يزين نفسه فليحلها بلباس التقوى قال تعالى (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) الآية 26 من الأعراف في ج 1، وقال عليه السلام: ليس للمؤمن ان يذلّ نفسه، وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله والتزين بزينة التقوى، وإن كان لا بد فاعلا ومقلدا غيره فليتزين بما أحلّ الله له من اللباس لا غير على أن لا يتشبه بما هو من خصائص النساء، لأن ذلك من التخنّث الذي تأباه مروءة المؤمن، وقد جمع الكفرة في مقالتهم هذه ثلاث كفرات: نسبوا إلى الله الولد وهو كفر، ونسبوا إليه أخس النوعين وهو كفر مزدوج لما فيه من الإهانة بنسبة شيء لجلاله لا يرضونه لأنفسهم، وجعلوا هذه البنات المشئومات من الملائكة وهو كفر لاستخفافهم بالملائكة وتسميتهم إناثا وهم ليسوا بإناث بل هم جنس خاص لا يوصف بأنوثة ولا بذكورة، لذلك شنع الله عليهم بقوله عز قوله

[سورة الزخرف (43) : الآيات 21 إلى 30]

«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ» حتى يجزموا بذلك وهذا تهكم بهم لأنهم لم يشهدوا خلقهم وإنما قالوه جرأة على الله قاتلهم الله «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ» هذه على إفكهم هذا «وَيُسْئَلُونَ» 19 عنه يوم القيامة. نزلت هذه الآية حينما قال لهم حضرة الرسول وما يدريكم أن الملائكة إناث؟ قالوا سمعناه من آبائنا ونشهد أنهم لم يكذبوا، فوبخهم الله على ذلك وعلى قولهم «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ» أي الملائكة والأصنام، والسياق يؤيد الأول إذ لم يسبق للأصنام ذكر، وقد استدلوا بنفي مشيئة الله ترك عبادتها على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وقالوا إن الله لم يشأ ترك عبادتها، ولو شاء لتحققت مشيئته ولعجل عقوبتنا على عبادتها، بل إنه شاء عبادتها لأنها متحققة، فتكون مأمورا بها أو حسنة، ويمتنع أن تكون منهيا عنها أو قبيحة. وهذا استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا، وقد استدلت المعتزلة فيها أيضا على أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان لأن الكفار ادعوا أن الله تعالى شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأوثان لقولهم (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء منا ترك عبادتها لمنعنا من عبادتها ولكن شاء عبادتها فلم يمنعنا، فوبخهم الله تعالى ورد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» البتة بدلالة التنكير والتأكيد بحرف الجر «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» 20 يحزرون ظنا وتخمينا وهو كذب محض لأن الله تعالى لم يشأ عبادتها ولم يرض بها ولم يستحسنها، وعدم تعجيل العقوبة هو عدم حلول الأجل المعين لها وسبق الكلمة منه تعالى بذلك، راجع ما تقدم في الآية 163 من الصافات المارة، لأن الله تعالى قدر لكل ما يقع في كونه وقتا لا يتعداه ولا يسبقه. قال تعالى «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ» أي القرآن ذكرنا لهم فيه ما يزعمونه «فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» 21 كلا لم نأتهم بكتاب ولم نرسل لهم رسولا بعد إسماعيل غير محمد وحيث لم يكن لهم حجة يتمسكون بها من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع، وإنما حجتهم التقليد المحض المشار إليه بقوله عزّ وجل

«بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» طريقة مأخوذة من الأم وهو القصد وتطلق على الدين لأنه يؤم أي يقصد ويقتدى به يقال فلان لا أمّة له أي لا دين له ولا نحلة، قال قيس بن الحطيم: كنا على أمة آبائنا ... ويقتدي بالأول الآخر وقال غيره: وهل يستوي ذو أمة وكفور. وقيل الأمة بمعنى الجماعة وهو كذلك، إلا أنه لا يتجه هنا «وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» 22 باتباعهم التقليدي فقط، أخبر الله حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم بأن قومه مسبوقون بمقالتهم هذه وأنهم ما يقولونها إلا تقليدا لآبائهم كما أن اتّباعهم تقليدي عار عن البرهان على صحة بقوله جل قوله «وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» رؤساؤها وأغنياؤها «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» 23 وقومك كذلك معترفون بهذا التقليد وهو داء قديم فيهم لا يعدل عنه إلا من وفقه الله، وفيه تسلية لحضرة الرسول، لأن ما يسمعه من قومه سجية فيهم تناقلوها دون سند أو حجة أو دليل، فيا أكرم الرسل «قل» لهؤلاء المتنطعين «أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى» بدين أصوب وأعدل وأقوم «مِمَّا» من الدين الذي «وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ» وأحسن منه وأيسر ألا تقبلونه وتتركون دين آبائكم، فأجابوه بما حكى الله عنهم رأسا دون ترو بالأمر «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» 24 لسوء حظهم وسبق شقائهم، قالوا هذه المقالة القبيحة ولم يوفقوا أن يقولوا يتبعك إذ جئننا بدين خير من ديننا ودين آبائنا، وهذا كقول قوم صالح (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الآية 76 من الأعراف، قاتلهم الله تشابهت قلوبهم، ويشير عدم توفيقهم لقول الحق الذي به نفعهم ما جاء في الآية 32 من سورة الأنفال ج 2، قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» إذ آثروا الكفر على الإيمان باختيارهم ورضاهم «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» 25 من الإهلاك والتدمير «وَ» اذكر لقومك يا محمد «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» 26 من الأوثان وإني لا أعبد «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» 17 إلى دينه

[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 إلى 40]

القويم الحق وطريقه المستقيم الصدق «وَجَعَلَها كَلِمَةً» أي جعل براءته تلك من الأوثان «باقِيَةً» تردد «فِي عَقِبِهِ» ذريته وبعض من بعده وهي كلمة لا إله إلا الله، لأن قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جاريا مجرى لا إله وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى إلا الله، فلا يزالون يلهجون بها ويوحدون الله بالعبادة «لَعَلَّهُمْ» إذا تلقوها عنه عقبا بعد عقب، وقد أشرك بعضهم فلم يقلها «يَرْجِعُونَ» 28 عن الشرك إلى التوحيد اقتداء بجدهم الكريم، وان من أشرك منهم يرجع إلى الله بدعاء من وجد منهم، لأن ذريته عليه السلام لم تخل قط ممن يوحد الله ويدعو إليه منذ نشأ إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة إن شاء الله القائل «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ» قومك يا محمد «وَآباءَهُمْ» من قبلهم بالنعم المترادفة ولم أعاقبهم «حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ» من عندنا وهو القرآن «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» 29 موضح لهم الحق من الباطل من الأحكام والحدود والأخبار «وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ» بدل أن يصدقوه «قالُوا هذا سِحْرٌ» قد افتريته من عندك يا محمد «وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» 30 فزادوا بالطين بلة والنار شرارة إذ ضموا العناد إلى الكفر والاستخفاف إلى البهت، فسموا القرآن سحرا وكفروا به، وسموا الرسول ساحرا وكذبوه «وَقالُوا» فوق ذلك كله مفترحين علينا رأيهم الفاسد «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» 31 صفة لرجل، وفيه دليل على جواز الفصل بين الصفة والموصوف يريدون أعماهم الله الوليد بن المغيرة من قريش مكة وعروة ابن مسعود من الطائف من ثقيف، فرد الله تعالى عليهم مؤنبا لهم جرأتهم هذه «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» كلا لا حقّ لهم بذلك ولم تكن النبوة خاصة بالأشراف والأغنياء الذين يزعمون، وإنما هي فضل الله يختص به من يشاء من عباده الذين هم أهل لها، قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 125 من الأنعام المارة، فهو أعلم بمن يصطفيه لها، ثم ضرب مثلا بقوله عز قوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا شريفا وهذا حقيرا «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» متفاوتة في الأموال والأولاد والنسب والعشرة والجاه والمنصب «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً

مطلب هو ان الدنيا عند الله وأهل الله وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:

سُخْرِيًّا» في مصالحهم ويستخدموهم بأشغالهم حتى يتعايشوا وبترافدوا. وهذا لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المفتر عليه، بل ليستقيم نظام العالم، ولولا ذلك لما سخر أحد لأحد، ولأفضى الحال إلى خراب الكون، إذ لا يستغني أحد عن معاونة الآخر، وفي التساوي تنعدم الفائدة، إذ لا ينقاد أحد لغيره، فعلى العاقل أن يتدرج في هذه الدنيا ولا ينظر إلى ما يجمعه الأغنياء من الحطام، بل ينظر إلى ما هو نافع له في عقباد «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» 32 لأنهم وما يجمعونه فان ورحمة الله باقية، وهذا مما يزهد في الانكباب على الدنيا ويعين على التوكل والانقطاع إليه تعالى، قال ابن الوردي: فاعتبر نحن قسمنا بينهم ... تلقه حقا وبالحق نزل ويرحم الله الشافعي إذ يقول: فأعددت للمرت الإله وعفوه ... وأعددت للفقر التجلد والصبرا فمن تمسك بهاتين العدّتين أمن من هول الدارين وفاز بالنجاة. مطلب هو ان الدنيا عند الله وأهل الله وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس: قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» فيجتمعون على الكفر ويطبقون عليه رغبة فيه إذا رأوا السعة عند الكفرة «لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ» مصاعد من فضة أيضا «عَلَيْها يَظْهَرُونَ» 33 إلى العلو كالدرج والسلم الذي يصعد عليه للعلو «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» من فضة أيضا «وَسُرُراً» من فضة «عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ» 34 خصّ السرر لأنها مما يجلس عليها المنعّمون «وَزُخْرُفاً» وجعلنا ذلك كله مزينا بالذهب والجواهر مرصعا بالأحجار الكريمة «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتمتع بها الإنسان مدة حياته أو بعضها ثم تذهب بذهابه وهي سريعة الزوال خاصة عند فقدان الشكر «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» 35 الكفر والمعاصي الصارفين جوارحهم وأموالهم في رضاء الله فهذه هي النعم الدائمة التي يجب أن يمتع بها المؤمن قال: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار

العرار وردة طيبة الرائحة ناعمة وكان القائل مر بها قبل العشية وهو سائر، فإذا لم يشمها في ذلك الوقت فاته ريحها، فكذلك الإنسان إذا لم يمتع نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح وهو قادر عليه فاته ذلك بالسقم والهرم والموت على حين غرة فيندم ولات حين مندم، لذلك يجب على العاقل أن لا يضيع الفرص بالتسويف والتأني. وليعلم أن الدنيا بما فيها كله زهيد عند الله تعالى ولذلك يقول في صدر هذه الآية (لَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ) إلخ أي لأعطيت الكفار أكثر أسباب الحياة المفيدة للرزق ليتنعموا بها في هذه الدنيا الحقيرة، ولكن لم نفعل ذلك لئلا تزداد الرغبة في الكفر، وتشير هذه الآية إلى الإعراض عن الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى والتمسك بالدين القويم. أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء. وعن علي كرم الله وجهه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم. هذا، وأخذ من هذه الآية قاعدة شرعية وهي إذا كان بناء سفلي لرجل وعليه بناء علوي لآخر فيكون السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت. وقرىء سقفا بضمتين وبضم وسكون وفتح وسكون. وأخرج الترمذي بحديث حسن عن المسور بن شداد جدّ بنى فهر قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله، قال فإن الدنيا أهون على الله تعالى من هذه الشاة على أهلها. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر. راجع الآية 104 من سورة يوسف المارة تعلم هذا. وان الله تعالى لم يعط الكفرة جميع الأسباب المفضية للنعم كراهية أن يرغبوا فيها فتؤدي بهم إلى الكفر حين يرون أهله منعمين، فيتوهمون أن ذلك لفضيلة فيهم. قال تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ» فلم يذكره عند شدّته ورخائة ويعش بضم الشين بمعنى يتعامى ويتجاهل، وقرىء بفتح الشين أي يعمى، والفرق بينهما أن الأول من عشا يعشو إذا نظر ولا آفة في بصره، والثاني عشي يعشى إذا كان في بصره آفة

فلا يكاد يبصر جيدا، إذ يصير على عينيه كالضباب، ونظيره عرج بضم الراء لمن به عرج حقيقة، وعرج بفتحها لمن مشى مشية الأعرج من غير آفة في رجله، وفعل يعش هذا من الأول أي يتعامى «نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً» يحمله على الغفلة عن ذكره ويسوقه إلى الهفوات في أقواله وأفعاله «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» 36 لا يفارقه أبدا فيزين له العمى ويخيل له أنه على الهدى حتى يستولي عليه، فيجب على الإنسان المسارعة لفعل الخير والتملّي في ذكر الله بعين بصره وبصيرته، ولا يترك للشيطان مجالا في قلبه ليستولي، ولهذا فإن من يداوم على ذكر الرحمن يتباعد عنه الشيطان فلا يقربه مادام ذاكرا له. قال تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ» يصدون العاشين «عَنِ السَّبِيلِ» السوي والهدى والرشد «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» 37 بسبب وساوسه ودسائسه يريهم الشر خيرا والإيمان كفرا، وقد جمع الضمير في أنهم لأن من مبهمة في جنس العاشي، ولفظ شيطان مبهم في جنسه أيضا، فأرجع الضمير في أنهم الذي يعود على الشيطان مجموعا لذلك، ولأن من باعتبار معناها تدل على الجمع «حَتَّى إِذا جاءَنا» وقرأ بعضهم جاءنا أي العاشي وقرينه «قالَ» العاشي لقرينه اذهب عني «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» غلب المشرق على المغرب كما غلب القمر على الشمس في القمرين، أو أنه أراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء، لما بينهما من البعد، والأول أبلغ لأنه المتعارف ولأنه أكبر بعدا، أي انك أهلكتني بمقارننك في الدنيا، ليتني لم أتعرف عليك «فَبِئْسَ الْقَرِينُ» 38 أنت، قال تعالى «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ» العتاب والمجادلة والحذر من قرب بعضكم لبعض «إِذْ ظَلَمْتُمْ» أنفسكم بالأمس أي الدنيا ولم تذكروا يومكم هذا الذي منه حذركم أنبياؤكم «أَنَّكُمْ» اليوم «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» 39 كما كنتم في الدنيا مشتركين بالكفر، قالوا إن عموم البلوى بطيب القلب، وعلى هذا قول الخنساء في بعض رثائها لأخيها صخر: ولولا كثرة الباكين عندي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النفس عني بالتأسي فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم في العذاب ولكن لا يروّحهم لعظم ما هم فيه،

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 إلى 50]

قال تعالى «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ» في علم ربك الأزلي «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 40 كلا لا تقدر أن تهديه ولا تفدر على هداية من أضللناه «فَإِمَّا» مركبة من إن الشرطية وما التأكيدية للشرط مثل لا التي في الاقسام «نَذْهَبَنَّ بِكَ» لنمينك وننقلك إلى الدار المهيأة لكرامتك قبل أن نوقع فيهم ما قدر لهم من العذاب «فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» 41 لك منهم بعدك في الدنيا وفي الآخرة لا محالة، لأنا لا نتركهم سدّى وهم قد فعلوا ما فعلوا، واقتصر بعض المفسرين هنا على عذاب الآخرة وبعضهم على عذاب الدنيا لقوله تعالى (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) إلخ الآية 43 من سورة يونس المارة والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما جرينا عليه أتمّ فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكر الانتقام فلا تدل على تخصيص العذاب في الدنيا، لأن من يهدده الله بعذابه في الآخرة لا يؤمنه من عذاب الدنيا، كما أن من يعذبه في الدنيا لا يحتم عذابه في الآخرة «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ» به من العذاب الدنيوي قتلا وأصرا وجلاء في حياتك «فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» 42 في كل وقت، وهذا من قبيل التسلية لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم وإعلاما له بإنجاز وعده إياه بالانتقام الشديد من المشركين في حياته أو بعد وفاته، وقد كررت هذه الآية معنى في الآية 46 من يونس والآية 77 من المؤمن المارتين وفي الآية 40 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها لأنها بمثابة العهد لحضرة الرسول من ربه عز وجل بنصرته والانتقام له من أعدائه، قال تعالي يا محمد «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ» من هذا القرآن وأدم العمل به كما أنت عليه «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 43 في طريقتك لا ميل فيها ولا عوج «وَإِنَّهُ» القرآن الموحى إليك «لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» في حياتك وبعد موتك وشرف عظيم تذكرون فيه بالملأ الأعلى وفي الأرض «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» 44 عنه يوم القيامة هل قمتم بحقه فشكرتموه حق شكره وعظمتم منزله حق تعظيمه أم لا راجع الآية 30 من سورة الفرقان في ج 1، ويؤذن إفراد الضمير بالخطاب كله وجمعه آخر الآية أن المراد بمن يسأل هو قومه، لأنهم هم الذين يترقب منهم التقصير حاشا البشير النذير أن يقصر في شكر ربه وتعظيمه،

كان صلّى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية إذا سئل لمن يكون الأمر في أمتك من بعدك؟ يسكت، لأن الله لم يخبره بذلك وهو لن ينطق من نفسه فيما هو من هذا القبيل، فلما نزلت هذه الآية صار يقول لمن يسأله: هو لقريش. وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان. وروى البخاري عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه وتعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه (الحديث) . راجع بحث النزول في المقدمة، وفيه: فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي، إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة، إلى أن قال عدي ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سرّه حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم. وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية التي تشير إلى أن الإنسان بالطبع يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن هذا مرغوبا فيه لما امتنّ به على رسوله بقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ولما طلبه إبراهيم عليه السلام من ربه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) الآية 84 من سورة الشعراء ج 1، وهو لا يسأل الله شيئا لنفسه من نجاته من النار، راجع الآية 83 من الصافات المارة، والآية 258 من البقرة في ج 3 وما يرشدانك إليه تقف على ما جرى لإبراهيم مع قومه وربه وأبيه والنمرود وغيرهم، وذلك لأن الثناء خير من الغنى، وقائم مقام الحياة الشريفة، ولذا قيل ذكر الفتى هو عمره الثاني، وقال ابن زيد: إنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى وقال الآخر: إنما الدنيا محاسنها ... طيب ما يبقى من الخبر

فقد يكون الذكر أفضل من الحياة لأنه يحصل في كل مكان بخلافها، حكي أن الطاغية هلاكو بعد أن بلغ ما بلغ من الظفر سأل أصحابه من الملك؟ فقالوا أنت دوخت البلاد، وأطاعتك الملوك، وملكت الأرض، وصار العباد في طوعك، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن، فقال كلا، الملك هذا الذي له أكثر من ستمئة سنة قد مات، وهو يذكر الآن على المآذن كل يوم وليلة خمس مرات ذكرا مكررا من ملايين الناس، يريد محمدا صلّى الله عليه وسلم. ولو لم يقل هذا الجبار هذه الجملة الدالة على حضرة الرسول لصرف قوله إلى الملك الأعظم حضرة المولى جلّ جلاله لأن ذكره على المآذن أكثر من ذكره رسوله صلّى الله عليه وسلم ولاثيب بكلامه هذا ثوابا عظيما يوشك أن يقربه إلى الله، ولكن أبت نفسه بل أبى الله أن يلهمه ذلك، وهو إنما قالها بحق الرسول حسدا ليس إلا. وهذه الآية نزلت في بيت المقدس قبل الهجرة زمن الإسراء، فتصير مكية أيضا، وهي «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» 45 قال ابن عباس لما أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلم بعث له آدم وولده من المرسلين، فأذن جبريل وأقام الصلاة، وقال يا محمد تقدم فصلّ بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل اسأل يا محمد وتلا الآية، ان قريشا زعمت أن لله شريكا وأن الملائكة بناته، وزعمت اليهود والنصارى أن له ولدا، فاسأل هؤلاء الأنبياء جميعهم هل كان شيء من ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت. وقالت عائشة رضي الله عنها: قال عليه السلام ما أنا بالذي أشك، وما أنا بالذي أسأل، فكان صلّى الله عليه وسلم أثبت يقينا من ذلك. هذا، وقال أبو القاسم المفسر في كتابه التنزيل: نزلت هذه الآية في بيت المقدس ليلة المعراج، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرّوا لله تعالى بالوحدانية وقالوا بعثنا في التوحيد، وبهذا قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد، وهذا القول أقوى وأوثق من القول بأنها نزلت في السماء ليلة المعراج، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ بالأنبياء في السماء، وإنما صلى بالملائكة كما بيناه في قصة الإسراء والمعراج أول سورة الإسراء في ج 1، على أن ما وقع في المعراج لا يعد حجة لوجود الخلاف فيه بخلاف الإسراء المجمع عليه وعلى كفر من ينكره، وكانت الصلاة بالأنبياء

ليلة الإسراء في بيت المقدس. وهذا الأذان والصلاة الكائنة بالأنبياء في الأرض والتي بالسماء بالملائكة هي غير الأذان والصلاة المفروضة، لأنها لم تفرض بعد إذ كان ذلك عند العروج، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا هناك، وهذا التفسير أولى من تقدير كلمة (أمم) قبل لفظ (مَنْ) أي اسأل أمم من أرسلنا من قبلك من أقوامهم الموجودين في زمنك من أهل الكتابين وغيرهم، إذ لا مانع من إجرائها على ظاهرها، ولا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف أو تأويل آخر، وعلى كل إنه لم يأت نبي ولا رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى القائل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ» إلى فرعون «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» 46 إليكم وإلى بني إسرائيل، وفيها تعريض لما يدعيه فرعون من الربوبية الكاذبة «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا» المار ذكرها في الآية 132 من الأعراف في ج 1 «إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ» 47 سخرية بها واستهزاء، وقد علمت ما فعل الله بهم، قال تعالى «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» التي أريناها لهم قبلها، أي أن كل آية منها موصوفة بالكبر والعظم على حد قولك إخواني كل منهم أكرم من الآخر أي كلهم كرماء، وعليه قول الحماسي: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري أي كلهم أكابر عظماء «وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ» الأدنى أولا كالقحط والنقص والطوفان والدم والقمل والجراد «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 48 عن كفرهم لترحمهم فلم يرجعوا، ولم تؤثر بهم الآيات ونقضوا عهودهم التي أعطوها لموسى بالإيمان به عند كشف كل آية «وَقالُوا» فرعون وملؤه «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» الماهر في السحر، إذ كان السحرة عندهم مقدمين لما يرون من أعاجيبهم، كما أن الطبيب كان مقدما زمن عيسى عليه السلام، وذا الفصاحة في عهد محمد صلّى الله عليه وسلم وكان التفاخر بها ساريا بينهم فالطبيب والبليغ له القدم الأعلى عند قومه «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» بأننا إذا آمنا يكشف عنا العذاب فاسأله يكشفه «إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ» 49 وقد دعى فكشف عنهم وعادوا مصرين على كفرهم ومتهمين رسولهم بالسحر، قال تعالى «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ» الأخير كما هو الحال في كل مرة

[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 إلى 60]

إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» 50 بعهدهم أيضا، ويقولون ما أصابنا إلا الخير لما يروا بعد كشف كل آية من آيات عذابهم خيرا وبسطة «وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ» بقصد إغرائهم «قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» وكان قصره يمر من تحته نهر النيل يتدفق يمينا وشمالا، قالوا له نعم، ثم قال لهم «أَفَلا تُبْصِرُونَ» 51 عظمتي وفقر موسى وضعفه، قالوا نعم نبصر وقد جمعهم وخطب فيهم هذه الغاية، قال لهم «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» يشير إلى موسى عليه السلام وقد كذب بل شر من كل ذي شر، ثم وصم موسى عليه السلام وحاشاه مما وصمه به، فقال ما موسى بخير مني بل أنا خير من هذا «الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» 52 يفصح عن كلامه عايه الخبيث باللثغة التي سببها هو كما بيناه في الآية 27 من سورة طه في ج 1، وأجاب نفسه بالتفضيل عليه ولم ينتظر جواب قومه الذين جمعهم وألقى عليهم هذه الجملة، إذ انتقل بنفسه من ذلك إلى الإخبار بالأخيرية، وعليه قول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت بالعين أملح ثم بين نوعا آخر من أسباب افتخاره فقال «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» مثلي ليعلم الناس أنه ألقي إليه مقاليد الملك فيطيعونه وينقادون لأمره، وكان في ذلك الزمن إذا سور الرجل بسوارين من ذهب وطوق بطوق من ذهب يكون دلالة على سيادته في قومه، ويريد الملعون بقوله هذا أن لو كان لما يدعيه موسى من صحة بأنه رسول الله رب العالمين أجمع لألبسه الذي أرسله أسورة ذهبية إعلاما برسالته وإيذانا بلزوم طاعته لينقاد له الناس «أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» 53 بعضهم ببعض متتابعين يشهدون له بصدق ما جاء به ويعينونه على من خالفه على الأقل إذا لم يحلّ بما يدل على السيادة والحاكمية، قالوا له لم يسور ولم تأت معه الملائكة قال لهم حينئذ لا صحة لدعواه قالوا نعم، وقد ظن اللعين أن الرياسة والقوة من لوازم الرسالة في المرسل ولم يعلم أن الله الذي أرسله كافيه عن ذلك، ويقرب من قوله قول كفار قريش (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ) الآية 31 المارة.

مطلب الآية المدنية وإهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد الله بن الزبعرى:

مطلب الآية المدنية وإهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد الله بن الزبعرى: هذه الآية المدنية من هذه السورة وذلك أنه حينما تليت عليهم الآيات المارّة التي ذكرها الله تعالى عن فرعون قالوا وكيف أطاعه قومه وهم عقلاء، وكان بهم قوام الملك، وكيف سمعوا قوله، قال تعالى «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ» بما موّه عليهم من كلامه، ولمّا رآهم يسمعون له علم أنهم سخفاء، لأنه يعلم أنه لا يصغي لقوله ذلك عاقل، وأنه استفزهم بكلامه، فأذعنوا له وطأطئوا رءوسهم لسلطانه، وقد استزلهم بما ألقى عليهم من عظمة لجهلهم بحقيقة الأفضلية التي ذكرها لهم وعدم علمهم بأن الرسالة لا تستلزم الرياسة والمال والقوة، وكانت هذه الثلاثة من دواعي التسلط على البشر فموّه عليهم بها وهو يعرف من أين تؤكل الكتف، فصدقوا أقواله الواهية «فَأَطاعُوهُ» ووافقوه على تكذيب موسى بما استخف من عقولهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 54 خارجين عن الطاعة منقادين لإغواء فرعون مغرورين في النظر إلى الأمور الظاهرة، قال تعالى «فَلَمَّا آسَفُونا» أسخطونا وأغضبونا بإفراطهم لطاعة فرعون وتفريطهم بالإعراض عن موسى وصاروا بحالة يؤسف عليها فقد استوجبوا إنزال العذاب عليهم وعدم الحلم الذي عاملناهم به لذلك «انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» 55 مع فرعون وملائه الذين أركسوهم بذلك «فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً» إلى النار وقدوة إلى الكفار «وَمَثَلًا» عبرة وموعظة «لِلْآخِرِينَ» 56 من بعدهم بأن صار حديثهم تتداوله الألسن وصار يضرب المثل لسيدهم، فيقال لكل باغ لم يقبل النصح مثلك مثل فرعون، وتقدمت كيفية إغراقهم في الآية 53 من سورة الشعراء ج 1، قال تعالى «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا» بالعبادة من حيث أن النصارى عبدته كما عبدت العرب الملائكة «إِذا قَوْمُكَ» يا سيد الرسل «مِنْهُ» من هذا المثل «يَصِدُّونَ» 57 بكسر الصاد أي يضجّون وقرىء بضمها بمعنى يعرضون عنك ولا يلتفتون لقولك، والقراءة الأولى أولى وأنسب بالمقام، أي يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا أو ضحكا مع إعراض وتمايل «وَقالُوا» قومه من قريش «أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ» يعني عيسى عليه السلام يخاطبون

محمدا صلّى الله عليه وسلم قال له ربه «ما ضَرَبُوهُ لَكَ» أي المثل بعيسى «إِلَّا جَدَلًا» خصومة بالباطل لا حقا ولا لطلب التميز بين الحق والباطل، بل لئلا يفهموا الحق فيذعنوا له «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» 58 ألدّاء شديد والخصومة واللجاج على طريق المغالبة والمكابرة والوقاحة، أخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية. وقد نزلت هاتان الآيتان في عبد الله بن الزبعرى القرشي قبل إسلامه، إذ كان يقول لحضرة الرسول إذا كان الآلهة المعبودة كلها في النار وأن اليهود عبدت عزيرا والنصارى عيسى بن مريم وبنو مليح من العرب عبدت الملائكة ونحن عبدنا الأوثان فترضى أن تكون آلهتنا مع هؤلاء، ونحن مع أولئك، إذ ليس ما عبدناه بأحسن مما عبدوه، ولسنا بأحسن منهم أيضا، ففرحت قريش، ارتفعت أصواتهم بالضحك على زعمهم أنه حج محمدا صلّى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، كيف وهم عبيد لمولاهم وهم أطوع الناس إليه، ولم يرضوا بعبادتهم وأنهم سيتبرءون منهم بحضورهم في الموقف العظيم يوم يخيب ظنهم وظن أمثالهم بكل معبود من دون الله تعالى، فرد الله عليهم بما تقدم من أنهم ضربوا لك هذا المثل على طريق الجدال عنادا وعتوا، وسيأتي تمام هذا البحث في الآية 99 من سورة الأنبياء الآتية إن شاء الله فراجعه. قال تعالى «إِنْ هُوَ» ما عيسى ابن مريم الذي ضربتم به الأمثال وقلتم ما قلتم فيه بأنه إله وهو براء من ذلك، إذ ليس بإله وما هو «إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ» بالنبوة والرسالة كسائر عبادنا الذين اصطفيناهم لإرشاد العباد «وَجَعَلْناهُ مَثَلًا» عبرة عجيبة وآية كبيرة «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» 59 إذ خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم من للتراب، راجع الآية 90 من آل عمران في ج 3، وصار يضرب فيه المثل ليتأكدوا من قدرة الله تعالى ويعلموا أن العبد المخلوق لا يكون إلها، قال تعالى «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا» ولدنا منكم يا أهل مكة وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة كما ولدنا حواء من آدم على خلاف ما جرت به العادة «مَلائِكَةً» كما ولدنا عيسى، وهذا تذييل لوجه دلالته على القدرة البالغة وهو أعجب وأبدع من خلق عيسى من غير أب،

[سورة الزخرف (43) : الآيات 61 إلى 70]

أقررناهم «فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» 60 يخلفونكم فيها في السكن والتصرف كما كنتم خلفا لمن قبلكم وكما يخلفكم أولادكم، وإذا صيرناهم كذلك فإنهم لا يستحقون العبادة أيضا لأنهم مخلوقون مثلكم، إلا أن خلقهم على طريق الإبداع وشأنهم التقديس والتحميد والتسبيح، وأنتم خلقكم بطريق التوالد وشأنكم العمل، ومع هذا فنحن قادرون على أن نخلقهم منكم ونجعلهم يعملون كما تعملون من عمارة الأرض ويعبدونني ويطيعونني كالملائكة في السماء ونجعلهم متصرفين في الأرض، كما أن الملائكة يتصرفون في السماء «وَإِنَّهُ» عيسى ابن مريم «لَعِلْمٌ» علامة «لِلسَّاعَةِ» أي نزوله من محل رفعه علامة على قرب القيامة، وهذه الآية صريحة بأن سيدنا عيسى سينزل من السماء إلى الأرض التي رفع منها، ويؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد. وفي رواية أبي ذرّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ليس بيني وبين عيسى نبي وانه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصّرتين (المحصرة من الثياب التي فيها صفرة خفية) كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل (أي أن له لمعانا وبريقا خلقة) فيقاتل الناس على الإسلام، يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون. وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم وفي رواية فامامكم منكم قال ابن ذؤيب فأمّكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلم. ويروى أنه ينزل على تينة من الأرض المقدسة يقال لها أفيق (وهذه واقعة على بحيرة طبرية وهي مركز قضاء الزوية الآن من أعمال حوران ويحتمل أن رفعه كان منها) وبيده حربة وهي التي يقتل فيها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام فيقوم عيسى ويصلي خلفه علي شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس (المراد بتخريبها إزالة ما فيها من الصور والتماثيل وقلبها إلى مساجد عادية أو أنه يهدمها جزاء لما

وقع فيها من المحرمات) ويقتل النصارى إلا من آمن أي آمن به ومشى على شريعته التي يقوم فيها في الأرض وهي شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم) وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ينزلنّ ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد. وقرأ ابن عباس (لعلم) بفتح العين واللام أي علامة على الساعة، وهذه القراءة كالتفسير لعلم بكسر الغين وسكون اللام بأنه بمعنى العلامة وهي قراءة جائزة ولو كانت على خلاف ما عليه المصاحف إذ لا زيادة فيها ولا نقص، أما ما جاء بأن أبيا قرأ (وإنه لذكر للساعة) فلا يجوز لأنها تخالف رسم القرآن وحروفه أيضا، وكل قراءة هذا شأنها لا عبرة بها ولا قيمة لنقلها كما أشرنا إلى ذلك غير مرة، وإن القراءات السبع كلها لا تخالف القرآن رسما ولا حروفا، وما جاء فيها من مد المقصور وقصر الممدود وإشباع بعض الحروف بالحركات واختلاس بعض الحركات ونقلها لما بعدها وحذفها مثل بامركم وفي الأرض وبامركمو وما أشبه ذلك فلا بأس به، إذ لا تبديل لأصل الكلمة ولا زيادة ولا نقص، تدبر. هذا وإن السيد عيسى عليه السلام كما أنه ثبت رفعه إلى السماء بالآية القرآنية 158 من سورة النساء في ج 3 وبالأحاديث الصحيحة، كذلك نزوله ثبت في هذه الآية وبالأحاديث الصحيحة المار ذكرها، وأنه عليه السلام يعمل بالشريعة المحمدية ويأخذ أحكامه من الكتاب والسنة، وقال بعضهم إنه يأخذ الأحكام من نبينا عليه الصلاة والسلام شفاها بدليل حديث أبي يعلى الذي فيه: والذي نفسي بيده لينزلن عيسى بن مريم، ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنّه. وقد تجتمع روحانيته بروحانيته ويأخذ عنه، وقد وقع لكثير من الكاملين رؤيته صلّى الله عليه وسلم مناما والأخذ منه، كما وقع لبعضهم رؤيته يقظة والأخذ عنه كالشيخ عبد القادر الجبلي والشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي والشيخ أبي العباس المرسي وغيرهم، وواقعة الرفاعي رحمه الله مشهورة متواترة حينما زار قبره الشريف وقال بحضور جماعة لا يحتمل تواطؤهم على الكذب:

في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي فمدها صلّى الله عليه وسلم وقبلها بحضور جم غفير وتناقلتها الركبان وشاع خبرها في مشارق الأرض ومغاربها، وألفت فيها الرسائل والمدائح، وقد رد الجلال السيوطي على منكري ذلك مستدلا بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي. وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة وقال الإمام محمد بن أبي جمرة: هذا يدل على أن من يراه في النوم فسيراه في اليقظة، وان رؤيته بصفته المعلومة إدراك الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للخيال. هذا، وقد جاء في الخبر: ما من مسلم يسلم عليّ إلا ردّ الله تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام. وأخرج بن عدي عن أنس: بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا، فقلنا يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال قد رأيتموه؟ قالوا نعم، قال ذلك عيسى بن مريم سلم علي. وفي رواية ابن عسكر عنه كنت أطوف مع النبي صلّى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا لم أره، قلنا يا رسول الله رأيناك صافحت شيئا ولا نراه، قال ذلك أخي عيسى بن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه. فهذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على صحة الاجتماع بحضرة الرسول والأخذ عنه، ولا بدع فقد جاء بالقرآن العظيم خطاب الملائكة لمريم في الآية 45 ولزكريا في الآية 39 من آل عمران في ج 3 ولإبراهيم ولوط في الآية 69 فما بعدها من سورة هود المارة وغيرها، وثبتت رؤية الملائكة لكثير من أصحاب رسول الله بغير هورهم الحقيقية، وإن قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) الآية 30 من سورة السجدة المارة تقيد جواز نزول الملائكة على غير الأنبياء. أما صفة ذاته الشريفة التي يجتمع بها من يراه وكيفية حياته في البرزخ وردّ روحه إليه كما جاء في الحديث فلا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، والصحيح أن عيسى عليه السلام قد يوحى إليه كما في حديث

مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وجاء في رواية صحيحة: فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحوّل عبادي إلى الطور (أي لا قدرة ولا طاقة يقال ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان لأن المباشرة والدفاع إنما يكونان باليد واليدين فكأن يديه معدومتان لعجزه عن الدفع بهما) وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام وما جاء في الخبر: (ألا لا وحي بعدي) باطل لا أصل له، وكذلك ما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد وفاه النبي صلّى الله عليه وسلم باطل لا أصل له أيضا، ويرده خبر الطبراني: ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السلام. فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله على الإيمان وهو على طهارته، ومن نفى الوحي أراد نفى وحي التشريع وهو كذلك، لأن ما ذكر من الوحي وحي لا تشريع فيه، لأن شريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم باقية إلى الأبد، وان عيسى عليه السلام يحكم فيها ويبقى في الأرض أربعين سنة وقيل سبع سنين تتمة الثلاث والثلاثين سنة التي مكثها قبل رفعه والله أعلم، راجع الآية 55 من سورة المؤمن المارة لتقف على ما يتعلق في هذا البحث، وان المهدي يقدمه للصلاة فيقول له إنما أقيمت لك ويصلي خلفه بما يدل على دفع توهم نزوله ناسخا بل متبعا لشريعة محمد ومؤيدا كونه مفتديا بشريعته، وما عدا هذه الصلاة يكون هو الإمام دائما، لأنه صاحب الوقت ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد، وان الدنيا ستيتهج بأهلها مدة مكثه، ثم أنه عليه السلام يموت ويصلي عليه المؤمنون ويدفن بالحجرة الشريفة في الحرم النبوي. وما بعده من خير لأهل الأرض وإذ ذاك يكون بطنها خيرا من ظهرها، لأن موته عليه السلام علامة على قرب الساعة وهو حق واقع لا محالة «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» لا تشكوا بها أيها الناس إذ لا محل للشك في نزول عيسى ولا موته بعد إقامته المدة المقدرة له في الدنيا، قال تعالى «وَاتَّبِعُونِ» إيها الناس واهتدوا بهداي وتمسكوا برسلي وتعبدوا بشرعي «هذا» الذي أدعوكم إليه على لسان رسلي «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 61 يوصل إلى النجاة فإياكم أن تنحرفوا عنه «وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ» عن سلوك هذا الطريق السوي ولا تسمعوا

مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا:

لوساوسه بعدم التصديق بما جاءكم في كنابي وعلى لسان رسولي وعدم الإيمان بي «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» 62 عداوته من زمن آدم فاحذروه وتباعدوا عنه لا يوقعنكم بأشراكه فتندموا. مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا: قال تعالى حاكيا عن سيدنا عيسى عليه السلام زمن إرساله الأول بمناسبة ذكر نزوله «وَلَمَّا جاءَ عِيسى» قومه «بِالْبَيِّناتِ» التي أظهرها الله على يديه من إبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى وإحياء الموتى وغيرها «قالَ» إلى قومه المرسل إليهم «قَدْ جِئْتُكُمْ» يا بني إسرائيل «بِالْحِكْمَةِ» العدل والحلم والعلم والإنجيل والنبوة «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ» في الكتاب المنزل علي من ربي عز وجل «بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» من التوراة في أمر الدين والدنيا، وقال في الآية 50 من آل عمران في ج 3 (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وكان عليه السلام غابة همه في الدعوة ما يتعلق بأمر الدين لأنه عن الدنيا بمعزل لذلك لم يبالغ في أمر الدنيا ولم يلتفت إليها ولم يلفت نظرهم إليها «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 63 فيما آمركم وأنهاكم وإني أقول لكم «إِنَّ اللَّهَ» فاطر السموات والأرض «هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» لأني بشر مثلكم قد فضلني بالنبوة والرسالة «فَاعْبُدُوهُ» كما أنا أعبده وحده «هذا» الذي أنا عليه من التوحيد الذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 64 يوصلكم إلى الجنة إن تمسكتم بعبادة ربكم الواحد «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ» من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى وتحزبوا عليه وهموا بقتله وهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية الذين كانوا في زمنه، وقدمنا شيئا من هذا في الآية 165 من الأعراف في ج 1، «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم بالإنكار على عيسى والإصرار على قتله «مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» 65 في الآخرة راجع الآيتين 33/ 34 من سورة مريم في ج 1، قال تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ» قوم عيسى بإصرارهم على الكفر به وقتله «إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غرة من انهماكهم في هذه الدنيا «وَهُمْ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 71 إلى 80]

لا يَشْعُرُونَ» 66 بها وإذ ذاك يرون سوء صنيعهم فيه. وإلى هنا انتهى ما جاء في حق عيسى عليه السلام. قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ» على المعاصي في الدنيا «يَوْمَئِذٍ» يوم تقوم الساعة ويقفون في الموقف يكون «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» فيه، لأن كلّا منهم يحمل على صاحبه وخليله بما حل به من العذاب، فيقول له أنت الذي سببته لي «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» 67 الذين تحابوا في الدنيا على تقوى الله وتخاللوا من أجله فهؤلاء ينتفعون بها بالآخرة فيشفعون لبعضهم كما انتفعوا بها في الدنيا بأمر بعضهم بعضا بالمعروف ونهيهم عن المنكر ويرون ثواب ما كانوا مجتمعين عليه ويتناصحون فيه، راجع الآية 63 من سورة يونس المارة والآية 31 من سورة إبراهيم الآتية في بحث الصداقة، ويقول الله تعالى لهؤلاء «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» مما يخاف الناس العصاة من أهوال يوم القيامة «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» 68 على ما فاتكم في الدنيا، قال المعتمر بن سليمان إن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادى يا عبادي، فيرجوها كل أحد، فيتبعها قوله عز قوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) التي أظهرناها على أيدي رسلنا «وَكانُوا مُسْلِمِينَ» 69 لنا منقادين لأوامرنا، فييأس الكفار ويقفون حائرين مبهوتين، ويقال لهؤلاء المؤمنين «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ» المؤمنات «تُحْبَرُونَ» 70 تسرون فيها وتنعمون بنعيمها فيظهر على وجوههم آثار الفرح والسرور والرضاء ثم «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ» جمع صحيفة أواني الطعام «مِنْ ذَهَبٍ» بيان لنوعها وجنسها «وَأَكْوابٍ» أوانى الشرب من ذهب أيضا، ولما كان الطعام عادة أكثر من الشراب جمع الصحاف جمع كثرة والأكواب جمع قله «وَفِيها» أي الجنة التي أدخلوها «ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» من المأكول والمشروب والملبوس والمنام والنساء وغيرها، وجاء هنا ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهائها تخصيص بعد تعميم كما ذكر أولا الوصف الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف بأواني الذهب الذي هو بعض من النعيم والترفه تعميم بعد تخصيص، قال تعالى «وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» 71 أبدا لا تتحولون عنها «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ» العظيمة بهية المنظر منعشه الأرواح

«الَّتِي أُورِثْتُمُوها» شبه الله تعالى ما استحقوه بأعمالهم الصالحة من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه الرجل لوارثه من الأملاك والأموال، ويلزم من هذا التشبيه تشبيه العمل نفسه بالمورث بكسر الراء فاستعير الميراث لما استحقوه، ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقيل تمثيلية، وجاز أن تكون مكنية، فالتبعية هي التي لا تجري الاستعارة فيها ابتداء غير اسم الجنس بل تبعا، وردها السكاكي إلى المكنية، وهي لفظ المشبه به المتروك المستعمل في المشبه المرموز إليه بذكر لازمه كلفظ السبع المتروك في قولنا: أظفار المنية نشبت بفلان، والتمثيلية هي الهيئة الحاصلة في الذهن المنتزعة من عدة أمور نحو إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لمن يتردد في الفتوى والأمر، ولكل أقسام مذكورة في محلها، وقد فسرها الخطيب بغير هذه التفاسير، ومن أراد تمام الاطلاع على هذا فليراجع علم البيان. هذا، ويقول الله تعالى قوله وقد جعلت لكم الجنة ميراثا «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 72 بسبب عملكم الطيب في الدنيا ونعم الميراث الجنة الدائمة من الدنيا الفانية يا عبادي الأبرار «لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ» لا يحصى نوعها ولا جنسها فهي ألوان وأشكال وطعمها متنوع لا يقدر أن يصفها واصف ولا يعدها عاد «مِنْها تَأْكُلُونَ» 73 متى اشتهيتم بلا تعب ولا ثمن، أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل؟ قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من يا قوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت. وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل؟ قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك. وجاء في حديث آخر أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا بنت مكانها مثلها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزلته في النار والمؤمن يرث الكافر منزلته في الجنة وذلك قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) الآية، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 43 من سورة الأعراف وله صلة في الآية 32 من سورة النحل الآتية.

وأخرج هناد وعيد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط يعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمون المنازل بأعمالكم. أي بفضل الله لأن الأعمال وحدها لا تكفي، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة. بعمله أي على سبيل الاستقلال والسببية، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث. واعلم أن الآية السابقة تفيد أن ما كان بين الناس في الدنيا من مودة ومحبة وخلة تنقطع كلها إلا ما كان منها على تقوى الله وطاعته ورضاه، وهؤلاء هم المتحابون في الله، المتصادقون على محبته. روي عن علي كرم الله وجهه في تلك الآية قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب، قال ويموت أحد الكافرين فيقول يا رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، يا رب أضلّه ولا تهده كما أضلني، ولا تكرمه كما أهانني، فإذا مات خليله الكافر جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. وقيل في هذا: وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك ان ولى ويرضيك مقبلا ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا وقال الآخر: وتعجب في قطعي مودة صاحب ... وقد كنت قدما مولعا بوداده فقلت لها يا عزّ لا تعجبي له ... من الحزم قطع العضو عند فساده هذا وقد ذكر الله تعالى الملاذ كلها ولم يذكر اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجهه الكريم، على انها تدخل في قوله (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وعلى هذا قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس: حبب إليّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة. وقال قيس بن ملوح:

ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر حتى يطول على الصراط وقوفنا ... وتلذ عيني من لذيذ المنظر ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه: شتان ما بين ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذّ الأعين كإصبع تغمس في البحر، لأن شهوات الجنة لها عد ونهاية لأنها مخلوقة، ولأتلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل جلاله ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية. ولسائل أن يسأل هل في الجنة توالد لأنه من جملة ما تشتهيه النفس؟ فالجواب نعم أخرج الإمام احمد وهناد والدارمي وعيد بن حميد وابن ماجه وابن حبّان والترمذي وحسّنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور، فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي. قال ابن منده لا ينكر هذا الحديث إلا جاهل أو جاحد أو مخالف للكتاب والسنة لأنه من جملة ما يشتهى وهو مذكور في الكتاب والسنة. وقال في حاوي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم. وقال السفاريني في البحور الزاخرة حديث أبي سعيد أجود أسانيده اسناد الترمذي. وقال الأستاذ أبو سهيل فيما نقله الحاكم إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ. وأما من قال إنه لا يولد لهم فقد احتج بقوله تعالى (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) والمطهرات لا يحضن ولا ينفسن كما أنهن لا يبلن ولا يتغوطن، وان الولد يجعل من المني ولا مني هناك، ويعقبه الطمث والوجع ولا وجع هناك، ولم ينظر. هذا القائل إلى أن الله تعالى قادر على أن يولدهن في الجنّة بلا نفاس ولا ألم ويحملهن بلا حيض وبلا مني، لأن في اشتراط لزوم ذلك تعجيزا للقدرة. وما قيل إن التوالد في الدنيا لبقاء النوع الانساني وهو باق في الجنة بلا توالد فيكون عبثا، يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب والسماع والنظر فإنها للدنيا لشيء، وفي الجنة لشيء آخر. بقي هنا أن من أصحاب النفوس الخبيثة الذميمة من يقول انه ليشتهي اللواط في الجنة وهو بعيد عنها كما يشتهيها في الدنيا وهو من أهلها، فيقال

له إنها لا تكون في الجنة لأن ما لا يلبق أن يكون فيها لا يشتهيه أهلها لأن أنفسهم طاهرة سليمة من الأرجاس، والجنة مقدسة لا يدخلها إلا مقدس وهذه الفعلة القبيحة لا يشتهيها في الدنيا إلا ذو والأنفس الرذيلة مثل المعتزلي الذي أشرنا إليه في الآية 84 من الأعراف في ج 1 ومن تحدثه نفسه بذلك ويشتهي اللواطة في الجنة فالجنة عليه حرام، لأن ذلك دليل على ولعه فيها والوالع فيها لا شك مستحلّ ومستحل الحرام كافر بالإجماع ولا يشم ريح الجنة لوطي، وهو داخل في قوله تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» 74 لأنها خبيثة وأهلها خبثاء وأنفسهم خبيثة والخبيث أحق أن لا يخرج من النار ويدوم عليه العذاب وأجدر أن «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ» العذاب أبدا «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» 75 آيسون من رحمة الله وأنى لأمثالهم الرحمة في الآخرة وكانوا لا يؤمنون بها وكيف يرجون لطف الله وهم قد كفروا به، قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بتخليدهم بالعذاب لأنا لا نعذب أحدا بلا جرم «وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» 76 أنفسهم بجناياتهم وشهواتهم وسوء فعلاتهم الدنيئة. قال تعالى «وَنادَوْا يا مالِكُ» خازن النار يستغيثون به، قيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ يا مال فقال ما أشغل أهل النار عن الترخيم، وهذا الثناء على طريق الاستفهام المعنوي «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هذا العذاب فنموت ونستريح منه فرد عليهم بقوله «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» 77 فيه لا خلاص لكم منه خلود بلا موت، راجع الآية 108 من سورة هود المارة «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وعدناكم به على لسان رسلنا يا أهل النار «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» 78 لأنكم في الدنيا كنتم تنفرون عنه ولا تقبلونه لما فيه من تعب النفس وعدم رغبتها له وقد اخترتم رغبة الدنيا عليه فتعبتم بالآخرة. قال تعالى مخبرا حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم بما يحوك في صدر قومه من تجمعاتهم ومذاكراتهم في شأنه «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً» في المكر بك والكيد لك، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في دار النّدوة يتناجون فيما يفعلونه به ليتخلصوا منه وقد بعث رحمة لهم، قال تعالى لا تخشهم يا حبيبي «فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» 79 أمورا كثيرة من أنواع الكيد والمكر بأعظم وأكبر مما يتصورونه ومهيئون لهم ما يدحض إبرامهم مما

[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 إلى 89]

يخلصك منهم «أَمْ يَحْسَبُونَ» هؤلاء الكفرة الذين يريدون اغتيالك بما تسول لهم أنفسهم الضالّة الغاشمة فيظنون «أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى» وحياتك يا حبيبي أنا أسمع له منهم وأعلم بما تحدثه به أنفسهم «وَرُسُلُنا» أيضا الموكلون بالخلق والمرسلون لهذه الغاية «لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» 80 ما يقع منهم سرا وعلنا لا يتركون منه شيئا، لأنا أرسلناك لتدبر لهم أسباب الرحمة الدائمة رحمة بهم، وهم يحيكون لك أسباب العذاب ليجلوك أو يحبسوك أو يقتلوك ولجهلهم لا يعلمون أنا حافظوك منهم ومن غيرهم ومؤيدوك عليهم، وهذا إيماء لحضرة الرسول بالهجرة عن قومه الذين أشغلوا أنفسهم بكيفية التخلص منه وهو متعب نفسه الكريمة بماهية خلاصهم من الكفر وإنجائهم من العذاب، ولكن كل ينفق مما عنده، وكل إناء بالذي فيه ينضح. «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ» كما تظنون «فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» 81 له المعظمين شأنه ولسبقتكم بطاعته كما يعظم ابن الملك احتراما للملك، وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد لأنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال، فالمعلق بها محال مثلها، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له: والله لأبدلنك في الدنيا نارا تلظى، فقال سعيد لو عرفت هذا إليك ما عبدت إلها غيرك. وهاتان الآيتان باعيتان على المشركين عداوتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم وإسنادهم الولد إلى الله وهو منزه عنه «سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» 82 من الافتراء عليه وهو براء من الولد وغيره «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ودعهم «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في دنياهم ويستبروا في اللهو «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 83 به بالدنيا قتلا وأسرا أو الجلاء والموت وفي الآخرة بأنواع العذاب الأليم «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» الآية يعبد ويقدس ويطاع لا إله غيره له الخلق والأمر. ونظير هذه الآية 4 من سورة الأنعام المارة من حيث المعنى فكأنه جلّ ذكره ضمّن معنى المعبود فيهما وحذف الضمير الراجع إلى الموصول لطول الكلام ليصح تعليق الجار والمجرور فيه وهو هو

ولا يقال هنا إن النكرة إذا أعيدت تكون غير الأولى لأن المعنى هنا أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض، وهي دلالة قاطعة على أنه تعالى غير مستقر في السماء وكما أنه غير مستقر في الأرض وهو إلههما فكذلك هو إله السماء مع أنه غير مستقر فيها تدبر. ومن الشك فاحذر فتسقط إلى الحضيض. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله تعالى غير ذلك، راجع الآيتين 18/ 103 من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْعَلِيمُ» 84 بما يصلحهم «وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها فلا يعلمه غيره «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 85 في الآخرة «وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ» لأن أمرها منوط به وحده وما يزعمون من أن أوثنهم تشفع زور وبهت، لأنها باطلة ولا يأذن الله بالشفاعة لأحد «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» كالأنبياء والرسل والملائكة ومن يشاء من عباده العارفين الكاملين، ولمن يأذن لهم من غيرهم أن يشفعوا له «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» 86 بحالة المشفوع له لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعوّل عليها. وجمع الضمير هنا باعتبار معنى من، كما أن الإفراد باعتبار لفظها والاستثناء متصل لأن المراد به أي بالذين يدعون هم المشركون وبمن دونه كل من يعبد من دون الله عز وجل لما في معنى من من معنى الشمول والعموم. وسبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا بأنه يشفع لمن يتبعه فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة منه وكذلك قول اليهود والنصارى إن عزيرا والمسيح يشفعان لهم، فردّ الله تعالى على هؤلاء كلّهم بأن ما يتوخونه من الشفاعة من أولئك باطل لأنهم لا يملكون شيئا من الشفاعة لهم، وأن الذين يمكن أن يشفعوا هم الذين اعترفوا بالإله الواحد الحق إذا خولهم ذلك لمن يشاء من عباده، فالشافعون مقيدون بمشيئة الله والمشفوع لهم مقيدون برضاء الله، راجع الآية 79 من سورة الإسراء والآية 109 من سورة طه في ج 1. ولهذا البحث صلة في الآية 28 من سورة الأنبياء الآتية، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أوثانكم أم الله «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» الذي خلقهن لعلمهم بعجز أوثانهم لأنها من صنع أيديهم فقل لهم عند ذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» 83 تختلقون

القول بأن أصنامكم شركاء لله، والشريك لا بد وأن يعمل مثل شريكه أو أقل منه وشركاؤكم عاجزون عن عمل شي ما في السموات والأرض، فكيف تسندون لهم أمر الشفاعة وهم لا يدفعون عن أنفسهم سوءا، وكيف تعبدون غير الله مع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم؟ وفي هذه الجملة تعجيب مما هم عليه من المناقضات «وَقِيلِهِ» قول محمد صلّى الله عليه وسلم «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ» قومي «قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» 88 بك ولا يصدقوني وفيه معنى التحسر والتحزّن منه صلّى الله عليه وسلم وهنا قد شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان كما قال ابن عباس وقال قتادة هذا نبيّكم يشكو قومه إلى ربه وهو آسف من ذلك. وفيه معنى القسم أي وحق قيله، وإنما أقسم بقيله لبيان رفع جنابه وعلو شأنه والتعظيم لدعائه والتبجيل لا لتجائه إليه، قال تعالى «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ» يا سيد الرسل لا تدع عليهم وأمهلهم كما أمهلتهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَقُلْ سَلامٌ» أي اتركهم الآن لأن السلام هنا سلام متاركة لا سلام تحية، ومن قال إنه سلام تحية استدل بجواز السلام على الكفار وابتداؤهم بالتحية محتجا بما أخرجه ابن أبي شيبة عن شعيب بن الحجاب قال كنت مع علي بن عبد الله العارفي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه، فقال شعيب فقلت انه يهودي أو نصراني فقرأ علي هذه الآية. وما أخرجه بن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول في ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال ما أرى بأسا أن تبدأهم، قلت ولم؟ قال لقوله تعالى وتلا هذه الآية. وان هذين الحديثين لا حجة فيهما، لأن اليهود والنصارى من أهل الكتاب الذين لا يقولون بنبوة عيسى وكونه ثالث ثلاثة ولا بإلهيته، والذين لا يقولون بنبوة عزير وبالبداء على الله من اليهود وليسوا من الكفار والمشركين مع الله غيره المعهودين بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) 89 عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم وقبيح اعتقادهم وفساد آمالهم وخيبة رجائهم لأنها بحقهم خاصة لا دخل لأهل الكتابين بها والأولى بالسياق أن يكون سلام متاركة مثل سلام ابراهيم عليه السلام لأبيه، كما مر في الآية 47 من سورة مريم في ج 1. هذا، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل غير سديد، قال الإمام: وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل، لأن الأمر

تفسير سورة الدخان عدد 24 - 64 - 24

لا يفيد الفعل الا مرة واحدة، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه الى التزام النسخ، ومثله يمين الفور فهي مشهورة عند الفقهاء، وهي دالة على أن اللفظ المطلق قد يتقيد بحسب قرينة العرف، وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه الى التزام النسخ والله أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب. هذا واستغفر الله، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، آمين. تفسير سورة الدخان عدد 24- 64- 24 نزلت بمكة بعد الزخرف وهي تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «حم» 1 تقدم ما فيه وهو رمز بين الله ورسوله لا يعلمه غيرهما، وهذا من معجزات القرآن (أن المنزل عليهم لا يعلمون وقت انزاله أن هناك كلمات معروفة عند المخاطب أو المخاطب مجهولة عند غيرهما، ومنه أخذت الملوك الرموز فيما بينهم (شفرة) لا يعرفها غيرهم، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» 2 المظهر الحلال والحرام والحدود والاحكام. وجواب القسم قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» أي القرآن العظيم المقسم به بلفظ الكتاب «فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» هي ليلة القدر السابعة والعشرون من شهر رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف، إذ أنزل فيها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم نزل مفرقا بحسب ما أراده الله تعالى القائل (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية 186 من سورة البقرة في ج 3، وقال هنا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وقال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة المارة في ج 1، وانما وصفها بالبركة إذ لا أبرك ولا أعظم ولا أحسن ولا أشرف مما نزل فيها، لا سيما أنها كانت ليلة الجمعة فصارت مباركة من وجوه شتى، وإنما أنزله ليلا لأن الليل زمن المناجاة ومهبط النفحات ومورد

مطلب في ليلة القدر وليلة النصف من شعبان وفضل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعمال:

الكرامات ومحل الاسرار ومجمع الأبرار وفيه فراغ القلوب واجتماع المحب بالمحبوب بخلاف النهار. ولهذه الأسباب وقع الإسراء ليلا كما أشرنا اليه أول سورة الاسراء ج 1 فراجعها وراجع سورة القدر وآية البقرة المذكورة أعلاه لتقف على ما يتعلق بها. مطلب في ليلة القدر وليلة النصف من شعبان وفضل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعمال: وتفسير هذه الليلة بليلة القدر هو ما عليه ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد وابن زيد والحسن وأكثر المفسرين وهو الموافق لظاهر التنزيل وهناك أقوال لعكرمة وغيره بأنها ليلة النصف من شعبان المسماة ليلة البراءة ومشى عليه بعض المفسرين لما روى البغوي بسنده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال تقطع الآجال من شعبان الى شعبان حتى أن الرجل ينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى. ولما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت قصدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه الى السماء فقال يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قلت ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بنى كلب. - أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه- قالوا وبينها وبين ليلة القدر أربعون أو واحد وأربعون يوما ما عداهما، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وهذه الأحاديث والأقوال على فرض صحتها غاية ما فيها عدّ ليلة النصف من شعبان مباركة، وهو كذلك لأنها لا تزال معظمة يقومها الناس ويصومها البعض ويتصدقون فيها، إلا أنها ليس فيها ما يدل على أن القرآن أنزل فيها، ولا يوجد ما يقابل النصوص الظاهرة الصريحة المارة المثبتة بأن المراد في هذه الليلة الواردة في هذه السورة هي ليلة القدر وما ورد لا ينافي أفضلية ليلة البراءة المشار إليها بما تقدم وبما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى

السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلي فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر. وبما أخرجه أحمد ابن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس، وفي رواية وقاطع رحم. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تؤيد أفضليتها على غيرها عدا ليلة القدر، ولا أعلم كيف صرفوا هذه الليلة إلى ليلة النصف من شعبان مع صراحة القرآن بأنها ليلة القدر، والقرآن يفسر بعضه بعضا ولا يوجد حديث صحيح يصرفها بل ولا غير صحيح، وأما أقوال المفسرين فمجرد اجتهاد منهم وقد أخذ بعضهم عن الآخر دون استناد لقرآن أو سنة، ولم يذكر في هذه الأحاديث أنها ليلة النصف من شعبان، وهنا يظهر لك قول المغالين بأنها ليلة البراءة أنه غير مستند على نص صريح من الكتاب والسنة أنها هي، أما فضلها فلم يختلف فيه اثنان. واعلم أن ما ورد في فضل بعض الليالي والأيام والأوقات وما قيل إن لله خواصّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص هو بالنسبة لما يقع فيها من الأعمال والأفعال والأقوال، وإلا فالأيام والساعات والمواقع متساوية من حيث هي، وعلى هذا فإن أفضل السنين السنة التي ولد فيها محمد صلّى الله عليه وسلم وهي عام الفيل التي حمى الله بها بيته، وأهلك من قصد نخريبه أبرهة ومن معه، وأفضل الشهور شهر رمضان لذكره تعالى باسمه في القرآن العظيم ولإنزال القرآن فيه ولتشريف سيدنا محمد بالرسالة فيه أيضا، ثم ربيع الأول لوقوع ولادته الشريفة فيه، ثم رجب لانه مفرد الأشهر الحرام المذكورة صراحة في القرآن الكريم ولوقوع الإسراء فيه وتحريم القتال فيه، ثم شعبان لوقوعه بين رجب ورمضان ولكون ليلة البراءة فيه المحترمة لسنية صيامها وقيامها، وقد ورد بارك الله في خميسها وسبتها لوقوعهما في جوار الجمعة، ثم ذو الحجة لوقوع الحج فيه ولكون الأيام المعدودات والمعلومات المنوه بهما في القرآن العظيم فيه ومنها يوم عرفه ويوم التروية ويوم النحر وأيام التشريق، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها، ثم شوال لوقوعه بين رمضان وذي القعدة الحرام ولكون عيد الفطر فيه واستحباب صيام الأيام الستة منه، ثم ذو القعدة لمجاورته ذا الحجة، ولهذا

فإن الدار إذا كانت بين جيران صالحين تفضل على غيرها وتعتز بجوارها حتى قيل بجيرانها تغلو الديار وترخص. ثم المحرم شهر الأنبياء ورأس السنة وآخر الأشهر الحرام وفيه يوم عاشوراء وفيه أجاب الله تعالى دعوة أنبيائه وأهلك أعداءه. وأفضل الأيام يوم الجمعة لما فيه من اجتماع الناس لسماع الذكر، ولأنها بمثابة العيد وجاء أنها حج المساكين وفيها ساعة الإجابة، راجع الآية 4 من سورة القدر في ج 1. هذا في الأزمنة، أما الأمكنة فأفضل بقعة في الأرض بل وفي السماء البقعة التي ضمت جثمان سيد الكائنات عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أجمع على هذا السلف والخلف ولما دفن فيها رثته ريحانته فاطمة رضي الله عنها فقالت: ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الدهور غواليا صبّت علي مصائب لو أنها ... صبّت على الأيام صرن لياليا وقال الأعرابي حينما زار تلك الروضة المطهرة: يا خير من دفنت في الترب أعظمه ... وطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي فداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ورثاه حسان رضي الله عنه فقال: كنت السواد لناظري ... فعمى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ولم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق بمثل هذا، ثم المسجد الحرام المشتمل على الكعبة المعظمة، وقد جاء أن الصلاة فيه تعدل مئة ألف صلاة بغيره، ثم مسجده صلّى الله عليه وسلم لاحتوائه على الروضة المقدسة، وورد أن الصلاة فيه تعدل ألفا بغيره، ثم المسجد الأقصى لاحتوائه على الصخرة الشريفة والحرم المقدس مهبط الأنبياء ومجمع أضرحتهم الطاهرة، وجاء أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة بغيره، مما يدل على أفضلية هذه المواقع الكريمة، ثم مدافن الأنبياء والأولياء العارفين والعلماء الكاملين لقربهم من الله تعالى والجوامع والمساجد والمحال التي يقام ذكر الله بها ويتلى فيها كتابه وأحاديث نبيه. أما الأشخاص فأفضل من عليها الرسل الفخام والأنبياء العظام، ثم الأمثل فالأمثل من الأولياء العارفين والعلماء العاملين والشهداء والشجعان المقاتلين

في سبيل الله فمن دونهم، وقد نص الله تعالى على تفضيل الأنبياء وكونهم درجات لما أوتوا من منّ الله عليهم وتوفيقه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأما الأعمال فلبعضها أيضا فضل وشرف على بعض بالنسبة لفاعلها وللزمان والمكان المعمولة فيه وبحسب النيات والمقاصد والإخلاص، قال ابن الفارض رحمه الله: وعندي عيد كل وقت أرى به ... جمال محياها سبعين قريرة وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة أما التسمية فمقتضى الحال سميت ليلة القدر لما يقدر الله تعالى فيها من الأمور، وسميت مباركة لما يعود فيها من البركة على العاملين فيها وليلة الرحمة لما يقع فيها من رحمات الرحمن على عباده، وسميت ليلة البراءة ليلة النصف من شعبان لما أن من قبل فيها برىء من الذنوب وصار كيوم ولدته أمه نقيا وليلة الإجابة لما أن الله يطلع فيها على عباده فيجيب ما يطلبونه منه، وليلة العرض لما فيها من اطلاع الله تعالى على عباده المتعرضين لألطافه، وليلة الصك لأن العامل إذا استوفى الخراج من الناس أعطاهم صكا بوفاء ما عليهم من الذّمة فكذلك الباري جل جلاله يكتب لعباده المقبولين صكا بقبول أعمالهم وغفران ذنوبهم، ويوم العيد لأن الله تعالى يعود بالإحسان على عباده فيه، وقد جاء في الخبر: إذا كان يوم العيد وخرج الناس إلى الجبّانة يقول الله تعالى ما حق الأجير إذا أكمل عمله؟ فتقول الملائكة أن يعطى أجره، فيقول الله اشهدوا أني قد غفرت لهم. وليلة التروية لأن الخليل رأى فيها ذبح ولده، وليلة عرفة لأنه عرف أن تلك الرؤيا من الله حقا فعزم على تنفيذها، ويوم النحر لنحر إبراهيم ولده إسماعيل وفاء لأمر ربّه. هذا، وما قيل إن آدم عليه السلام تلاقى مع حواء في عرفة فسمي به لم يثبت ثبوتا يصح الاستناد إليه ويستدل فيه، وهكذا لم يوضع اسم إلا لمعنى في الأصل زمن وضعه والله أعلم. قال تعالى «إِنَّا كُنَّا» نحن إله السموات والأرض ولم نزل «مُنْذِرِينَ» 3 الناس أن يجتنبوا مخالفتنا ويحذروا عقابنا، واعلموا أيها الناس أن تلك الليلة المباركة «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» 4 مفصول مقضى به حسب حكمتنا بمقتضى إرادتنا، قال ابن عباس يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر

[سورة الدخان (44) : الآيات 11 إلى 20]

ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج فيبرم وينفذ ذلك، لأن الكتابة لا تكون إلا ليلة البراءة كما تقدم، قال تعالى ما معناه نأمر بكل شيء «أَمْراً» نصب على الاختصاص وإن الأمر المحكم الذي أنزلناه حاصل «مِنْ عِنْدِنا» بمقتضى علمنا وتدبيرنا وحكمتنا «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» 5 الرسل إلى الأمم السابقة لأجل إرشادهم وقد أرسلناك يا محمد إلى من على وجه الأرض وخاصة لأهل زمانك «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» إليهم ورأفة بهم ونعمة عليهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم إذا أجابوا دعوتك وآمنوا بك «الْعَلِيمُ» 6 بأفعالهم كلها. ومن قال إن الضمير في أنزلناه لا يعود للكتاب وأراد بالكتاب اللوح المحفوظ المقدس أعاده إلى غير موجود لمعلوميته كما في قوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كما أشرنا إليه في الآية 34 من الشورى المارة، قال تعالى «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «مُوقِنِينَ» 7 به عن علم فهو رب هذين الهيكلين العظيمين ومن فيهما ومرسل الرسل رحمة ومنزل الكتب هدى، وهذا كما تقول إن هذا الإنعام الكثير هو انعام فلان الذي تسامع الناس بكرمه وداع صيته لدى الخاص والعام، أي بلغك حديثه أو حدثت عنه أو ذكرت لك قصته «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» عنى القطع والجزم هو الذي «يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهل تعلم أحدا يقدر على هذا غيره، كلا ثم كلا، هذا هو الإله العظيم القهار «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» 8 لا ربّ غيره، وإن هذه الأصنام ليست بآلهة لأحد وليست بقدرة على شيء من ذلك بل عاجزة عن كل شيء، قال تعالى مخبرا نبيه بعدم إيقانهم بذلك «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ» منه، ولذلك تراهم «يَلْعَبُونَ» 9 فلم يتأثروا من هذه الآيات ولم يلقوا لها بالا ولم يوقروا مبلغها لهم بل يسخرون منه ويستهزئون به «فَارْتَقِبْ» يا سيد الرسل عذابهم «يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» 10 يراه كل أحد وذلك أن الهواء يتكدر في سني الجدب والقحط لما يخالطه من الغبار فيراه الرائي كأنه دخان حتى ان الجائع يصير على بصره مثل الغشاوة فيرى الفضاء ما بينه وبين السماء كأنه دخان «يَغْشَى النَّاسَ» أجمع حتى يقولوا من شدة جزعهم منه «هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» 11 لا يطيقه البشر، ولهذا سماه عذابا ووصفه بكونه مؤلما، لأنه ناشىء عن شدة الجوع.

مطلب آية الدخان والمراد ببكاء السماء والأرض ونبذة من قصة موسى مع قومه وألقاب الملوك وقصة تبع:

مطلب آية الدخان والمراد ببكاء السماء والأرض ونبذة من قصة موسى مع قومه وألقاب الملوك وقصة تبّع: وليعلم أن هذا الدخان ليس بالدخان الذي هو آية من آيات الساعة، لأن ذلك لم يحضره حضرة الرسول، ولو كان المراد هو لما خاطبه به بقوله تعالى: (فَارْتَقِبْ) وإنما هو ما ذكرنا والله أعلم، وذلك لمن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم لما رأى قومه لا يزالون يتمادون في الإنكار والكذب دعا عليهم فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأجاب الله دعاءه فأخذتهم سنة قد حصت أي أهلكت كل شيء حتى أكلوا الجيف والجلود وقد أثر فيهم الجوع حتى صار أحدهم يرى الفضاء كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك أنهكهم الجوع، فادع الله لهم يرفع عنهم ما حل بهم وإلا هلكوا. فأنزل الله هذه الآية إلى قوله (عائِدُونَ) . يؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله ابن مسعود وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصّا عند باب كنده يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول، الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الآية 88 من سورة ص في ج 1، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى الناس إدبارا، قال اللهم سبعا كسبع يوسف. وفي رواية للبخاري قالوا «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» 12 فقيل له إن كشفنا عنهم القحط عادوا فدعا ربه فكشف عنهم وسقوا الغيث، وأطبقت السماء عليهم فشكوا كثرة المطر فلجأوا إليه صلّى الله عليه وسلم، فقال اللهم حوالينا ولا علينا فكشف عنهم. ومع ذلك عادوا إلى إصرارهم وكفرهم فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى (فَارْتَقِبْ) إلى قوله (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) . هذا، وإطلاق الدخان على ما يراه الجائع

أو على الذي يرى عند تكدر الهواء لا يأباه وصفه بقوله (مُبِينٍ) لأنه مما يتخيل ويتوهم أنه دخان ظاهر، وقد يقره العقل. واعلم بأن إرادة الجدب من هذا الدخان والمجاعة مجاز من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، وهذا هو الصارف عن إرادة الظاهر، لأنه لو كان المراد به الدخان الذي هو من علامات الساعة لما صح قوله تعالى على لسانهم (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ولم يصح أيضا قوله جل جلاله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية، إذ لا يكون شيء من ذلك يوم القيامة. هذا، وما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال (خمس قد مضين أي من علامات الساعة اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان) فهو غير هذا الدخان المقصود في هذه الآية، وعلى فرض صحته فيها وهو بعيد فتكون الآية على ظاهرها وتلزم بأن نقول إن المخاطب بها غيره صلّى الله عليه وسلم ممن لم يخلق بعد أو نجبر أن نقول بوقوعها في زمانه صلّى الله عليه وسلم وهو خلاف الواقع، إذ لم يثبت أن هذه العلامة وقعت بزمنه صلّى الله عليه وسلم. وعلى كل الحالين فلا يصح تأويلها به والله أعلم. هذا وقد وقع في دير الزور وأطرافها سنة 1931- 1932 غبار في أوقات متفرقة بسبب انقطاع الأمطار ويبس الأرض وارتفع بالجو فأظلم الأفق وصار ذلك الفضاء العظيم ملآن بما يشبه الدخان حتى أنرلنا المصابيح لأنا صرنا بحالة لم ير أحدنا الآخر من كثافة ذلك الغبار ولا نستطيع الخروج إلى الساحات والطرق وضاقت النفوس وأولئك كثير من الأطفال والشيوخ أن يهلكوا لولا أن منّ الله تعالى علينا بكشفه بعد ساعات، بما يدل على أن هذا مثل ذلك، وأن الدخان الذي هو من علامات الساعة لم يقع بعد، وما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين (على وزن اقرن جزيرة اليمن) تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا. قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية (المارة) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فعلى فرض صحة هذا الحديث فهو صريح بأنه يكون آخر الزمان وهو من علامات الساعة ولا ينطبق

بصورته المبينة في هذا الحديث على هذه الآية بمقتضى ما فسرت به وواقع الحال في ذلك الزمن، إذ لم يثبت وقوعه البتة على الصورة المبينة في هذا الحديث، وتلاوة الآية من قبل حضرة الرسول على فرض صحته يكون من قبيل التمثيل، لأن الآية صالحة لذلك مجازا لا حقيقة، وعليه فإن ما جرينا عليه من التفسير هو ما عليه جمهور جهابذة المفسرين ومروى عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل واختاره الزجاج والقراء. قال تعالى «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى» أي كيف يتذكرون ومن أين يتعظون بما أصابهم «وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ» 13 لكل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم فهو أعظم واولى من أن يتذكروا به ولم يتذكروا «ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لإرشاده «وَقالُوا مُعَلَّمٌ» من قبل الغير يعنون عداما غلاما لبعض ثقيف أعجمي ولم يكتفوا بقولهم معلم بل قالوا «مَجْنُونٌ» 14 أيضا لأنه يغشى عليه كالمجنون، وذلك أنهم يرونه حين ينزل عليه الوحي كالمغمى عليه، قال تعالى «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ» القحط الذي حل بكم إجابة لدعوة نبيكم ومؤخرون العذاب الآخر «قَلِيلًا إِنَّكُمْ» يا أهل مكة «عائِدُونَ» 15 إلى الكفر والجحود لا محالة سواء أمهلناكم أم لا، ولهذا لم نرجئكم كثيرا، فانتظروا «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى» فيكم بالدنيا في بدر وغيرها وفي الأخرى أكبر وأشد لأن يوم بدر مهما كان عظيما لا يبلغ هذا المبلغ الموصوف بالآية ولا يحصل به الانتقام النام من الكفرة، ولكن يوم القيامة بعد الفصل بين الناس «إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» 16 منكم الانتقام القاسي وناهيك بالجبار إذا كان هو المنتقم كفانا الله شر انتقامه «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ» قبل قومك يا سيد الرسل «قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» 17 على ربه مثل ما أنت كريم عليه، ولما كان إرساله للقبط قوم فرعون ولبني إسرائيل قومه قال موسى لفرعون وملائه «أَنْ أَدُّوا» أعطوا وسلموا «إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» الذين استعبدتموهم وتخلوا عنهم «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من الله بذلك «أَمِينٌ» 18 على أداء الرسالة إليكم «وَأَنْ لا تَعْلُوا» تترفعوا وتتبختروا وتستكبروا «عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني إليكم، وإن شئتم بيّنة على صدقي «إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ

[سورة الدخان (44) : الآيات 21 إلى 30]

مُبِينٍ» 19 دليل واضح وبرهان ساطع تقتنعون به إذا لم يتغلب عليكم العناد والمكابرة. فلما سمعوا هذا منه هددوه وتوعدوه بالقتل إن لم يكف عنهم فقال لهم «وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ» 20 تقتلوني رجما بالأحجار أو تؤذوني بكلام قبيح، وإنما قال عذت، لأن الله تعالى أخبره بقوله (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الآية 35 من سورة القصص في ج 1، راجع تفسيرها ولوثوقه بعهد ربه أنهم لا يتمكنون من أذاه كرّ عليهم فقال «وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» 21 أيها القبط وخلوني واتركوا لي بني إسرائيل قومي إذ أيس منهم وعلم بإعلام الله إياه أن القبط لا يؤمنون «فَدَعا رَبَّهُ» قائلا في دعائه «أَنَّ هؤُلاءِ» القبط قوم فرعون «قَوْمٌ مُجْرِمُونَ» 22 لا يهتدون إلى الرشاد لكثرة إجرامهم، فاهلكهم يا رب وأنجز لي وعدك فيهم، فأجابه بقوله «فَأَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل خاصة «لَيْلًا» وهذا إعلام بتلبية طلبه بإهلاك القبط وإنجاء بني إسرائيل «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ 23 من فرعون وقومه، فخرج بهم إلى البحر فدخله وقومه، ثم تبعه فرعون وقومه فدخلوه وراءهم حتى صاروا جميعا فيه، قال تعالى «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً» ساكنا على حالته حتى يكمل خروج قومك منه ويكمل دخول آل فرعون «إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» 24 كلهم جميعا لا محالة وأنت وقومك كلهم ناجون فلا تستعجل، فامتثل أمر ربه، ولما تم خروج بني إسرائيل وتكامل دخول القبط أمره ربه أن يأمر البحر ينطبق عليهم، فأمره فانطبق عليهم، فلم ينج منهم أحد، كما لم يغرق من بني إسرائيل أحد، ثم نعى الله تعالى حال المغرقين بعد أن اطمأن موسى وقومه فقال «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 25 تدفق بين البساتين «وَزُرُوعٍ» متنوعة تركوها «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» 26 محل قعود مزخرف عظيم بناؤه كانوا ينعمون به وليس بمقام واحد بل مقامات كثيرة بدليل التنكير «وَنَعْمَةٍ» جليلة وهي نعم كثيرة أيضا عظيمة «كانُوا فِيها فاكِهِينَ» 27 ناعمين أشرين بطرين، لأنهم لم يقدروها ولم يشكروها، لذلك حرموا منها «كَذلِكَ» مثل هذا الفعل الفظيع أفعل بأعدائي فيذهبوا هدرا «وَأَوْرَثْناها» تلك البساتين والأنهار والقصور وغيرها

[سورة الدخان (44) : الآيات 31 إلى 40]

«قَوْماً آخَرِينَ» 28 هم بنو إسرائيل إذ عادوا إلى مصر بعد ذلك واحتلوا محالهم «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ» إذ لا عمل صالح لهم يصعد إلى السماء أو يعمل في الأرض لتفقداه فتبكيان على فقده بخلاف المؤمنين فإنهما تبكيان عليهم لأن لهم فيها عملا صالحا قارا وصاعدا، وذلك لأن السماء تبكي على فقد عبد كان لتسبيحه وتكبيره وتهليله وقراءته فيها دوي كدوي النحل، وإن الأرض تبكي على فقد عبد كان يعمرها بالقيام والركوع والسجود والقعود للصلاة والاعتكاف والذكر وللإصلاح بين الناس قال النابغة: بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه جاشع متضائل وقال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع وقال الفرزدق يرثي عمر بن عبد العزيز: الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا أي لا تعجب كيف طلعت في زمن حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة. والقمر منصوب بواو المعية ونجوم منصوب بكاسفة، وقرأ بعضهم برفع النجوم والقمر على أنهما فاعل تبكي، والأول أولى تدبر. ونقل صاحب الكشاف عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مؤمن يموت في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض. «وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» 29 لو أنهم طلبوا الانتظار حين نزول العذاب ولم نمهلهم، لأنه وقع في وقته المقدر، وهو لا يتقدم ولا يتأخر «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ» 30 هو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة والاسترقاق، ولا هوان يضاهيه، ولا مهانة تساويه، وتلك الحقارة عليهم «مِنْ فِرْعَوْنَ» وقومه وملائه «إِنَّهُ كانَ عالِياً» على ما في أرض مصر وتوابعها أجمع متكبرا عليهم متجبرا يفعل فيهم ما يشاء، عاتيا «مِنَ الْمُسْرِفِينَ» 31 في أنواع الظلم، إذ تجاوز حده حتى انه ادعى الربوبية «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» 32 لأنا قدرنا أن يكون منهم أنبياء وأولياء وملوك وأمراء وأناس صالحون لزمانهم «وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ» بعد إنجائهم من الفرق الذي هو الآية الكبرى بحقهم

وإغراق أعدائهم بآن واحد وإنزال المن والسلوى عليهم وإظلالهم بالغمام وتفجير الماء من الصخرة في التيه وغيرها «ما فِيهِ بَلؤُا» اختبار وامتحان «مُبِينٌ» 33 ظاهر لننظر كيف يعملون، ونظهر لمن بعدهم ذلك، ونري من عاصرهم إياه، وإلا فنحن عالمون بما يقع منهم قيل خلقهم، راجع قصتهم مفصلة في الآية 52 فما بعدها من سورة الشعراء في ج 1، قال تعالى بعد أن قص على حبيبه ما جرى لموسى مع قومه «إِنَّ هؤُلاءِ» قومك يا سيد الرسل «لَيَقُولُونَ» 34 لك عند ما تخبرهم بالبعث بعد الموت «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» 35 بعدها مرة ثانية ويقولون لك لفرط «جهلهم فَأْتُوا بِآبائِنا» الذين ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 36 أنا نحيا بعد الموت، قال تعالى «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ» ملك اليمن، قالوا إن المراد به أسعد بن مليك المكنّى بأبي كرب، وكانت ملوك اليمن تلقب بلفظ تبع، كما أن ملوك الحبشة تلقب بالنجاشي والروم بقيصر والفرس بكسرى والقبط بفرعون والترك بخاقان والعرب بالخليفة، وسمي تبعا لكثرة أتباعه بالنسبة إلى غيره في ذلك الزمن عدا قوم الملك حمير لأن الملك كان فيهم، يقول الله تبارك وتعالى يا أكرم الرسل إن قومك المتطاولين عليك ليسوا بأحسن من قوم تبع لا في العمل، ولا أقوى منهم في الشدة، ولا أكثر منهم في الأموال والأولاد والعدد والعدد، فلماذا يتطاولون عليك؟ قالوا وكان تبّع سار بقومه وجيوشه نحو المشرق وحيّر الحيّرة وبنى سمرقند وعاد إلى المدينة حيث ترك ابنا له فيها عند ذهابه، وعلم أن أهلها قتلوه غيلة وصار يقاتلهم لأجله، وصمم على استئصالهم وتخريب بلدتهم، وصار أهلها يقاتلونه نهارا ويقرونه ليلا، فقال إن هؤلاء لكرام، ثم جاءه حبران عالمان من بني قريظة وقالا له أيها الملك لا تفعل ما صممت عليه وإن أبيت أن تسمع قولنا حيل بينك وبين ما تريد، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، قال ولم؟ قالا إن هذه المدينة مهاجر نبيّ يخرج من قريش اسمه محمد، وسيكون في منزلك الآن قتال بين أصحابه وعدوهم، قال ومن يقاتله وهو نبي؟ قالا قومه، فانكف عن قتالهم وعدل عن استئصالهم وتخريب بلدتهم، وترك دم ابنه حرمة لما قالوه، وقفل إلى اليمن وأخذ الحبرين مع نفر

من اليهود معه بغاية الإكرام، فصادفه بالطريق نفر من هذيل وقالوا له ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة، قال ما هو؟ قالوا له مكة وأرادوا بذلك إهلاكه لأن مكة لا يقصدها أحد بسوء إلا أهلكه الله كما هو متعارف بينهم، فاستدعى الحبرين واستشارهما في ذلك، فقالا له لا تفعل، لأن هؤلاء لم يريدوا نصحك وإنما أرادوا قتلك لأن هذا البيت لا يناوئه أحد إلا هلك فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله، فقال أفعل وأخذ النفر من هذيل وقطع أيديهم وسمر أعينهم ثم صلبهم ودخل مكة فنزل الشعب الطامح ونحر فيه ستة آلاف بدنه وكسا البيت بالوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كساه كما أن أول من سمي تبعا أول ملوك اليمن، وأقام فيه ستة أيام، وطاف وحلق، وانصرف، فلما دنا من اليمن حال من فيها من قومه بينه وبين دخوله، لأنه ترك دينهم، فخطب فيهم ودعاهم إلى الإيمان بالله وحده وهو خير من دينهم، لأنهم عبدة أوثان، فطلبوا منه أن يتحاكموا إلى النار التي هي أسفل جبل عندهم ومن شأنها أن تحرق الظالم ولا تضر المظلوم، فوافقهم على ذلك، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إليها في دينهم، وخرج هو والحبران وما معهما من الكتب في أعناقهما، وقعد الفريقان عند مخرج النار، فخرجت وغشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوه لها معها، والرجال الذين كانوا يحملون القرابين، وخرج الحبران يتلوان التوراة، ونكصت النار حتى رجعت إلى المحل الذي خرجت منه فأعلن تبع إيمانه بالله وأصر قومه على الكفر، فذمهم الله «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الكافرة وأخبر عن مصيرهم بقوله جل قوله «أَهْلَكْناهُمْ» بكفرهم وعدم انقيادهم للإيمان كما أهلكنا قوم تبع هؤلاء بسبب عنادهم. قالوا وكان هذان ومن معهم أصل اليهود في اليمن، وان تبعا آمن بمحمد حسب إخبارهما له عنه قبل مبعثه وولادته، وكان بينه وبين مبعثه سبعمئة سنة، ومما نسب لتبع هذا قوله: وكسونا البيت الذي حرم الله ... حلاء معصيا وبرودا وأقمنا به من الشهر عشرا ... وجعلنا لنا به إقليدا وخرجنا منه نؤم سهيلا ... قد رفعنا لواءنا معقودا

[سورة الدخان (44) : الآيات 41 إلى 50]

هذا وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن سهيل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم. وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى بن مريم. وهذا يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام، والأول أصح لأن الحبرين لم يذكرا عن عيسى شيئا، ولعله آمن بما جاء به موسى لأن الحبرين من أتباعه، والحادثة هذه قبل الميلاد بمئة وثلاثين سنة تقريبا، أو أنه عاش لمبعث عيسى عليهم السلام، قالوا وإن الحبرين أخبراه لا يدرك محمدا صلّى الله عليه وسلم فأوصى الأوس والخزرج أن يقيموا بالمدينة وأن يؤازروه إذا خرج وهم أحياء، وأن يوصوا من بعدهم بمؤازرته، وقال رحمه الله أيضا: حدثت بأن رسول المليك ... يخرج حقا بأرض الحرم ولو مدّ دهري إلى دهره ... كنت وزيرا له وابن عم قالوا وكتب كتابا بإيمانه وأودعه لديهم على أن يعطيه لحضرة الرسول العربي من يبلغ زمانه منهم. قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» 38 لأنه إذا لم يكن بعث ولا حساب يترتب عليه الثواب والعقاب، فيكون خلق الخلق لمجرد الفناء لعبا بل عبثا، وهذا دليل قاطع على البعث. ولبحثه صلة في الآية 16 من سورة المؤمنين الآتية، فراجعه. «ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الجد الصحيح القاطع «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 39 ذلك ولهذا قال المؤمنون (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الكون وما فيه (باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الآية 191 من آل عمران في ج 3، قال تعالى مهددا لهم ولأمثالهم من الكفرة «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل والمؤمن والكافر «مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ» 40 قومك فمن قبلهم ومن بعدهم «يَوْمَ لا يُغْنِي» فيه «مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً» من الأشياء أي لا تنفع القرابة والصداقة والخلّة والسيادة من أي ولي كان «وَلا هُمْ» الموالي والرؤساء «يُنْصَرُونَ» 41 أيضا فلا يقدرون على نصرة أنفسهم، ولا دفع العذاب عنهم،

مطلب دعاء أبي جهل في الدنيا ومأواه في الآخرة ونعيم الجنة ومعنى الموتة الأولى:

فكيف ينفعون غيرهم «إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ» فلا يخلص من العذاب غير الذين يرحمهم الله فإنهم يخلصون ويشفعون لغيرهم أيضا بإذن الله لمن يشاء رحمته. راجع الآية 86 من سورة الزخرف المارة «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أعدائه «الرَّحِيمُ» 42 بأوليائه. قال تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ» 43 مرّ ذكرها في الآية 42 من الصافات فراجعها فهي «طَعامُ الْأَثِيمِ» 44 في جهنم وهي خاصة بكثيري الآثام كبيري الكفر عامة، وما قيل إنها خاصة في أبي جهل على فرض صحته لا يقيد عمومها وشرابه فيها «كَالْمُهْلِ» در درى الزيت وعكره ووسخه حال حرارته «يَغْلِي فِي الْبُطُونِ» 45 حال نزوله فيها «كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» 46 الماء المتناهي في الحرارة. أخرج الترمذي وقال حديث صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه، أجارنا الله ثم يقال لذلك الأثيم بعنف وشدة «خُذُوهُ» جرّوه واسحبوه «فَاعْتِلُوهُ» احملوه وأوقعوه «إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ» 47 وسطها «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ» 48 الماء الشديد الغليان وإضافة العذاب إلى الحميم إضافة مبالغة أي عذابا هو الحميم، وسمي عذابا لعظم حرارته، ثم يقال له على سبيل التبكيت والتحقير «ذُقْ» هذا أحد أنواع العذاب المخصّصة لك «إِنَّكَ» تزعم في الدنيا «أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» 49 عند قومك وتصف نفسك بهاتين الصفتين، ولا تعلم أيها الكافر أن العزيز من أعزه الله، لا من أعزته الدنيا بحطامها، والكريم من أكرمه الله لا من احترمه الناس لماله أو جاهه أو عشيرته أو رياسته: مطلب دعاء أبي جهل في الدنيا ومأواه في الآخرة ونعيم الجنة ومعنى الموتة الأولى: قيل كان أبو جهل يقول: ما بين لابتيها (يريد مكة) أعز وأكرم مني فتقول له خزنة جهنم على طريق التوبيخ والتقريع والسخرية (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) . واعلم أن لفظ الشجرة فيها ثلاث لغات: فتح الشين وكسرها وإبدال الجيم ياء، ويوجد الآن طائفة من العرب في العراق ينطقون الجيم ياء فيقولون ريل بدل رجل. ويقال لهذا الأثيم أيضا «إِنَّ هذا» العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ بِهِ»

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 إلى 59]

في الدنيا «تَمْتَرُونَ» 50 تشكون بصحته ولا تصدقون من أخبركم به، هذا وقد علمت أن هذه الآية عامة في جميع الكفار فيدخل فيها أبو جهل وأضرابه دخولا أوليا لأنهم كانوا يقاومون حضرة الرسول بأنواع المقاومات وهو أكرم الخلق وأعزهم على الله. انتهى وصف حال أهل النار حمانا الله منها. وهناك وصف أهل الجنة، رزقنا الله إياها، قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ» 51 من كل سوء، والمقام بفتح الميم المكان وهو من الخاص الذي استعمل بمعنى العام، وبالضم موضع الإقامةِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 52 جارية خلالها لزيادة البهجة وحسن النضارة، وأهل هذه الجنات «يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ» الحرير الرقيق «وَإِسْتَبْرَقٍ» ما ثخن منه ويسمى ديباج قيل هو أعجمي معرب أو أنه خرج من الأعجمية لاستعماله في العربية قبل نزول القرآن. ومعنى التعريب جعل الكلام الأعجمي عربيا لتصرفه وإجرائه مجرى الكلمات العربية بتغيره عن منهاجه الأعجمي وتمشيته على أوجه الإعراب، راجع الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1، تقف على جميع الكلمات الموجودة في القرآن المقول فيها إنها أعجمية هي عربية، «مُتَقابِلِينَ» 53 يعني هؤلاء الأبرار في جلوسهم، ينظر بعضهم إلى بعض بشوق ومحبة، وهذا من آداب المجالسة والمخاطبة، لأن في الصدود وإعطاء الظهر للجليس والمخاطب إهانة وعدم اكتراث بكلامه، راجع الآية 44 من سورة الصافات المارة والآية 16 من سورة الواقعة في ج 1، «كَذلِكَ» كما أكرمناهم بما ذكرنا، فقد أحببناهم «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» 54 نقيات بيض واسعات الأعين يحار الرائي من وصفهن «يَدْعُونَ فِيها» يطلبون أهل الجنة «بِكُلِّ فاكِهَةٍ» أرادوها فتحضر لهم حالا «آمِنِينَ 55 من تعب قطفها وانقطاعها وغسلها، لأن ثمر الجنة يدنو لطالبه، دائما لا ينقطع، طاهر زكي لا يتقيد بموسم، أو بقطر كثمار الدنيا ولا ينقص، إذ يخلق الله بدله حين قطفه، ومهما أكثروا من أكلها فهم بمأمن من مضرّتها، بخلاف ثمار الدنيا، لأن الله تعالى جعل في كل قطر زمنا للفواكه والخضراوات بحسب ما يوافق أهله، والبيئة التي هم فيها، حتى ان الحكماء الأقدمين حذروا أكلها بغير موسمها، وقبل نضجها، ولو علم الله فيها خيرا لهم لجعلها دائمة

في كل مكان، إذ لا يعجزه شيء، ولجعلها مما يدخر كالزيتون والتين والتمر والزبيب وغيرها، ولذلك ينبغي أن يتحاشى عن أكلها في غير موسمها وقيل نضجها، ويكثر منها وقتها لما فيها من النفع للوجود بصورة لا تؤدي إلى التخمة، قال تعالى «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ» لأن الجنة محل الخلود دائما «إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى» التي فارقوا الدنيا بها، وإنما ليستثنى الموقة الأولى من موت الجنة مع أنها لا موت فيها البتة، لأن السعداء جعلنا الله منهم إذا ماتوا يصيرون بلطف الله تعالى إلى أسباب الجنة لما يرون من نعيم برزخ القبر فيلقون فيه الروح والريحان، ويرون منازلهم في الجنة عند خروج أرواحهم، كما مر في الآية 89 من سورة الواقعة فى ج 1، فكأن موتهم في الدنيا كان في الجنة لانصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها، لأن الله تعالى قال في سورة الواقعة المذكورة (إِذا بَلَغَتِ) الروح (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) عند بلوغ الروح الحلقوم لا تقدرون على التكلم ولكنكم (تَنْظُرُونَ) منزلتكم في الجنة أو النار، وإنما جعل الله تعالى هذه الرؤيا في تلك الحالة حتى لا يقبل فيها إيمان ولا توبة لأنها حالة يأس، وإلا لما مات أحد على الكفر، راجع الآية 90 من سورة يونس المارة وما ترشدك إليه من الآيات المتعلقة في هذا البحث. قال تعالى «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» 56 وقرىء ووقّاهم بالتشديد للتكثير «فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ» أي أن ذلك العطاء بمجرد الفضل من الله لأن أعمالهم لا تؤهلهم ذلك ولا بعضه، بل لا يستحقون بعملهم على الله شيئا، لأنه مهما كان كثيرا لا يقابل بعض نعم الله عليهم «ذلِكَ» وقايتهم من النار وإدخالهم الجنة «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» 57 الذي لا أعظم منه. قال تعالى ملتفتا لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ» القرآن المشار إليه أول السورة «بِلِسانِكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّهُمْ» قومك المشار إليهم آنفا في الآية 22 المصدرة بقوله (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي لعلهم يتفكرون به فيؤمنون حين «يَتَذَكَّرُونَ» 58 به فيتعظون ويرجعون عن غيّهم وطغيانهم وإلا «فَارْتَقِبْ» فيهم نزول العذاب كما «إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» 59 ما يحل بك من الدوائر بزعمهم، وستكون عليهم دائرة السوء. هذا، ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، لأن

تفسير سورة الجاثية عدد 15 - 65 - 45

غاية ما فيها إخبار الله تعالى نبيّه عما يحل بقومه الكافرين وما يناله عباده المؤمنين، ومن المعلوم أن الاخبار والوعيد والتهديد لا يدخلها النسخ، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة. هذا، ولا يوجد سورة مختومة في هذه اللفظة غير هذه. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين تفسير سورة الجاثية عدد 15- 65- 45 نزلت بمكة بعد سورة الدخان عدا الآية 14، فإنها مدنية، وهي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمانون كلمة، وألفان ومئة وواحد وتسعون حرفا، وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «حم» 1 راجع ما قبله تجد معناه «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» القرآن عليك يا سيد الرسل «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 2 لتبشر به المؤمنين وتنذر به الكافرين الذين يطلبون منك نزول الآيات «إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القدير كافية «لِلْمُؤْمِنِينَ» 3 بها فلا حاجة لإنزال غيرها، لأنهم إذا أجالوا النظر وأنعموا الفكر فيها تزيدهم هدى ونورا إذا أرادوا الإيمان، والذين لا يريدونه لا تنفعهم كثرة الآيات لأنهم لا يستدلون بها على موجدها، فلا تزيدهم إلا عمى وضلالا، لأن فيهما «وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ» فيهما «مِنْ دابَّةٍ» صغيرة أو كبيرة ناطقة أو عجماء «آياتٌ» أيضا لأن في هذه الدواب المختلفة الجنس والنوع والعقل والمعاش والفعل والتناسل دلائل كثيرة على الصانع المبدع «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 4» أنه الإله الفعال لكل شيء، أما الذين لا يوقنون فلو ملأت لهم الأرض آيات لا يؤمنون لأنهم في غفلة عن ما يؤدي لفوزهم وخلاصهم «وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» وما يحصل من تعاقبهما من ظلمة ونور، وزيادة ونقص، وطول وقصر بصورة منتظمة لا تنخرم حتى يأذن الله بخراب هذا الكون، آيات أيضا عظيمات دالات علي حكمة الحكيم لمن كان له قلب حي «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ» غيث

لأنه ينشأ عنه ومن هنا للتأكيد والتقوية راجع الآية 13 من سورة المؤمن المارة ويراد به هنا المطر للعلة نفسها هناك لأن أعظم الأرزاق هو الماء ومنه يتغذى ما يكون رزقا لجميع الخلق «فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ» التي هي معدن الأرزاق «بَعْدَ مَوْتِها» يبسها ويبس نباتها، وفيها الاستدلال على البعث بعد الموت، لأن الذي أحياها يحيي الموتى «وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» يمينا وشمالا شرقا وغربا، وجعلها باردة وحارة ومعتدلة وشديدة كدرة وصافية لينة وعاصفة «آياتٌ» عظيمات أيضا دالات على وجود الإله المغير لها المعبود بالحق وعلى نفي الأوثان العاجزة عن كل شيء «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 5 مراد الله في ذلك كله. اعلم أرشدك الله أن في ترتيب هذه الآيات آيات أيضا لمن تدبرها وتفكر فيها، لأنه إذا نظر هذين الهيكلين الجسيمين علم بالضرورة أنه لا يقدر على صنعها إلا الرب العظيم فآمن به، وإذا تفكر في خلق نفسه وكيفة تقلبها من حال إلى حال فنظر في أصل خلقه وخلق الحيوانات بالولادة والتولد ومصيره ومصيرها ازداد إيمانا، وإذا استحد فكرته وراجع فطنته في الحوادث المتجددة ليل نهار وما يقع صباح مساء أيقن بأن لا فاعل مختار لهذه الأشياء إلا الواحد القهار، وإذا تدبر تصاريف الرياح وتقلبات الدهر واستدل بإحياء الأرض بالمطر بعد اليبس الذي هو بمثابة الموت لها على حياة البشر بعد موته لأن السبب واحد فيهما استحكم إيمانه وكمل يقينه وعقل الحكمة التي أرادها ربه من إيجاد الكون وأخلص لله ففاز بخير الدنيا والآخرة، ولهذا ختم الله الآية الأولى بالمؤمنين، والثانية بالموقنين، والثالثة بالعاقلين، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث أفلح وفاز فاعقل هذا في الدنيا هداك الله لحكمته لتتوصل في الآخرة إلى فسبح جنته «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ» الذي برأ كل شيء وأحسن خلقه وهداه لما فيه هداه، وقد أوجدها عبرة وعظة لأولي الألباب ليعقلوا معناها ويعرفوا مغزاها، «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الناصع بواسطة أميننا جبريل لتتلوها على قومك علهم يؤمنوا بها وإذا لم يفعلوا فقل لهم «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» 6 أي لا يؤمنون أبدا، إذ غلب على عقولهم الإفك، وحجب قلوبهم وسخ الإثم، وصم آذانهم رين التكذيب، وعمى أبصارهم

غلو الشرك. وهذه الآية التي عجب فيها الوليد فذكرها إلى قومه كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة المدثر في ج 1 فراجعها. واعلم يا سيد الرسل أن من لم يؤمن بما نتلوه عليه من هذه الآيات المدللات له «وَيْلٌ» وهلاك كبيرِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 7 يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ» فلا يلتفت إليها ولا يعتبر بها «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً» يأنف عنها ويتجبر «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لشدة عتوه وعناده، وثم هنا للاستبعاد وعليه قول جعفر بن عليه: لا يكشف النعماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها «فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 8 توبيخا له وهذه البشارة على طريق التهكم والسخرية، لأن البشارة تكون في الأمر السّار، فإذا اقترنت بضدّه كان معناها الإنذار وأريد بها التقريع، قال تعالى «وَإِذا عَلِمَ» بالتخفيف والبناء للفاعل، وقرأه بعضهم بالتشديد والبناء للمفعول، أي إذا تيقن هذا المستكبر «مِنْ آياتِنا شَيْئاً» بسماعها منك «اتَّخَذَها هُزُواً» وصار يسخر بها ويقرؤها على أضرابه ليضحكوا منها، لأنهم لا يفقهون معناها بسبب كثافة صدأ قلوبهم، وقد صدهم الله عنه لخبث طوبتهم وسوء نيتهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» 9 ثم بين نوع إهانته بقوله عزّ قوله «مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ» ومن أمامهم أيضا لأن الوراء الجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، ومن كانت جهنم وراءه فهي قدامه حتما لأنه إذا زج فيها صارت وراءه، لأنها كانت أمامه «وَلا يُغْنِي» يدفع ويمنع «عَنْهُمْ ما كَسَبُوا» شيئا في الدنيا من العمل لقبحه ولا من إخوانهم لأنهم أشرار مثلهم، ولا من المال لأنه من حرام، فلم يجمعه من حل، ولم ينفقه في سبيل الله، ولا من الأهل لأنهم كفرة، وعلى فرض إيمانهم فلا صلة بين المؤمن والكافر ولا تراحم البتة، وإذا كان لهم عمل طيب فقد كوفئوا به في الدنيا «وَلا» يغني عنهم أيضا «مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» لأنها إن كانت أصناما فلا تضر ولا تنفع، وإن كانت الملائكة وعزير والمسيح فإنهم يتبرءون منهم، وهم لا يشفعون إلا لمن أذن الله بالشفاعة له ورضيها كما مرّ غير مرة، ولبحثها صلة في الآية 28 من سورة

[سورة الجاثية (45) : الآيات 11 إلى 20]

الأنبياء الآتية «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 10 نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث لأنه كان يشتري من أحاديث العجم ويتلوه على الناس ليشغلهم عن سماع القرآن ويحبذ لهم سماعها، والاستهزاء بالقرآن، قاتله الله الذي وهي عامة في كل من هذا شأنه ونزولها فيه لا يقيدها. قال تعالى «هذا» الكتاب المنزل عليك يا سيد الرسل «هُدىً» لمن عقله يهتدي به ورشد لمن استرشد به «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» هو عليهم عمى وضلالة «لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ» هو أشد العذاب في الآخرة كما أن الموت أشد عذاب الدنيا ولذلك يطلق عليه لفظ الرجز «أَلِيمٌ» 11 نعت للزجر على قراءة الجر، وللعذاب على قراءة الرفع، ثم عدد أفضاله على عبده بقوله عز قوله «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ» التي تركبونها وتحملون أثقالكم عليها «فِيهِ» في البحر «بِأَمْرِهِ» جل أمره لأنها تجري بالرياح، وهي لا تهب إلا بأمر الله والتي تجري بالمحركات كذلك بأمره، إذ لو شاء لما تحركت والتي بقوة البشر أيضا بأمره إذ لو أراد لأعجزهم «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» من ربح التجارة وزيارة البلدان والاجتماع بالإخوان واستخراج اللآلئ «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 12 نعمه عند سيرها وبلوغكم مقاصدكم إذا كنتم لا تشكرونه دائما «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ» من الكواكب وغيرها «وَما فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن لتنتفعوا بها «جَمِيعاً مِنْهُ» وحده وأنى لغيره شيء من ذلك لعجزه عن جزء بعض ما هنالك «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير من حيث لا حول لكم ولا قوة عليه «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 13 في آلائه ومكوناته فيتعظون ويعتبرون، وهذه الآية المدنية قال تعالى يا أكرم الرسل «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» ولا يتوقعون وقائعه بأعدائه ولا يخافون انتقامه مع استحقاقهم إياه فالرجاء مجاز عن التوقع كما أن الأيام مجاز عن الحوادث واستعمالها شائع في ذلك «لِيَجْزِيَ قَوْماً» أي المؤمنين وتنوينه للتعظيم ولفظ قوم يدل على المدح «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» 14 من العمل الصالح الذي من جملته العفو والصفح عمن يعتدي عليهم. وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه ابن عباس هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نزل بأصحابه في غزوة بني المصطلق على بئر المريسيع،

فأرسل ابن أبي غلامة ليستسقي فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستسقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، فقال ابن أبي لعلامة ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل (سمّن كلبك يأكلك) قاتله الله ما أخبثه وكلامه، ولكن الدنّ ينضح بما فيه، ويكفي أنه رئيس المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم. فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حينما شتمه المشرك من غفار بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به غير سديد، لأن الآية مدنية بالاتفاق كما علمت، ولأن المسلمين في مكة عاجزون عن البطش، والذي لا يقدر ينتصر لنفسه لا يؤمر بالعفو. وما قاله بعضهم إن هذه الآية منسوخة لا يصح، لأن المراد بها ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ» ثواب عمله «وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وزر إساءته «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» 15 في الآخرة فيعاملكم بما كنتم تعملون في الدنيا، ونظير صدر هذه الآية الآية 45 من فصلت المارة «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ» بين الناس «وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الحلال ولا طيّب إلا وهو حلال ولا حلال إلا وهو طيب «وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» 16 في زمانهم وعلى من قبلهم عدا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأنهم من أولي العزم للاجماع على تفضيلهم «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ» يعرفون بها الحلال من الحرام والحق من الباطل والجد من الهزل «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» الذي هو موجب للاتفاق لا الاختلاف، فكان اختلافهم بعد العلم «بَغْياً بَيْنَهُمْ» حاكوه بينهم حسدا للأنبياء وحبا ببقاء الرياسة، وهذا تعجب من حالهم لأن العلم يرفع الاختلاف لا يوقعه «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 17 بمحض العناد وإظهار التكبر وليس عن جهل ليعذروا به، لأن التوراة أنزلت على نبيهم موسى عليه السلام مفصل فيها كل شيء يحتاجونه من أمر الدين والدنيا، فاختلافهم في تأويلها وعدم قبولهم بعض أحكامها ما هو إلا بغي وتجبر وطغيان، قال تعالى «ثُمَّ جَعَلْناكَ» يا سيد الرسل «عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ

[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 إلى 30]

الْأَمْرِ» العائد لدينك وآتيناك سنة مستوية ومنهاجا قويما وطريقة مستقيمة «فَاتَّبِعْها» أنت وقومك المؤمنين بك «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» 18 طريقتك هذه وأخيرتها مما يدعونك إليه من طرق آبائهم المعوجة «إِنَّهُمْ» هؤلاء الكفرة الذين يريدونك على دينهم وسنة آبائهم الضالة لو أطعتهم على فرض المحال واتبعت أهواءهم «لَنْ يُغْنُوا» يمنعوا ويدفعوا «عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» أراد إيقاعه فيك «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» في الدنيا ولا وليّ لهم في الآخرة ولا يتبعهم إلا ظالم مثلهم «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» 19 فيها وأنت خلاصتهم، فدم على ما أنت عليه من التوجه إلى الله والإعراض عن وأعدائه أعدائك، وهذا الخطاب الموجه إلى حضرة الرسول مراد به غيره من أصحابه الذين معه لأنه معصوم من اتباع الكفرة، راجع الآية 63 فما بعدها من سورة الزمر المارة، قال تعالى «هذا» القرآن المنزل عليك يا حبيبي «بَصائِرُ لِلنَّاسِ» في قلوبهم وكما هو نور لأبصارهم وحياة لأرواحهم، هو معالم لحدودهم وأحكامهم «وَهُدىً» من الضلال لمن اتبعه «وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» 20 به ويصدقون بما فيه «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا» اكتسبوا بجوارحهم اليد والرجل واللسان والفرج وغيرها ففعلوا فيها «السَّيِّئاتِ» هي كل ما ساءك فعله فيك من الغير أو خالف أمر دينك أو أغضب غيرك صنعه «أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ» كلا لا نفعل ولا ينبغي لنا أن نفعل ذلك، وإن كانوا هم يحكمون بالمساواة فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 21 وبئس القضاء قضاؤهم ذلك، إذ لا يستوي الخبيث والطيب، كما لا تستوي الظلمات والنور، راجع الآية 104 من سورة المائدة ج 3. قال بعض كفرة قريش لإن كان ما تقولونه في البعث حقا لنفضلنكم فيه كما فضلناكم في الدنيا بالمال والنشب والسعة والجاه، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم فيها بأنه شتان ما بين المؤمن والكافر في الآخرة، لأن المؤمن مؤمن في حياته ومماته بالدنيا والآخرة، والكافر كافر في حياته ومماته فيهما، ومال الدنيا زائل لا محالة فلا قيمة له ولا عبرة بالتفاضل فيها، أما حال الآخرة الذي هو محل التفاضل والتنافس فهو باق للمؤمنين في نعيم الجنة، وباق للكافرين في جحيم

مطلب تفنيد مذهب القدرية وذم اتباع الهوى وأقوال حكيمة، والدهر:

النار، والبون شاسع بين الحالتين فليس من أقعد على بساط الموافقة، كمن أجلس مع مقام المخالفة، ولا بد من الفرق وإعلاء المؤمنين وإخزاء الكافرين في يوم لا شفيع فيه ولا معين إلا من رحم الله، وأذن له بالشفاعة. قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري، ولقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) الآية، ولما بلغها الفضيل جعل يرددها ويبكي ويقول ليت شعري من أي الفريقين أنت يا فضيل؟. قال تعالى «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» ويعدل فيهما بين خلقه بالحق فينصف المظلوم من الظالم ويظهر التفاوت بين المسيء والمحسن، فإذا لم يكن كل ذلك في الحياة لأمور اقتضتها حكمته فلا بد من كينونها في الممات أي بعده حتما. وهذه الآية بمعرض الإنكار على حسبانهم تساوي الفريقين بدليل قوله «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 22 في الآخرة فلا يزاد على جزاء الظالم ولا ينقص من مكافآت المحسن. مطلب تفنيد مذهب القدرية وذم اتباع الهوى وأقوال حكيمة، والدهر: قال تعالى «أَفَرَأَيْتَ» أيها الإنسان الكامل «مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» فصار تبعا لما تهواه نفسه «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» منه بعاقبة أمره «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ» فلم يجعله يسمع الهدى «وَقَلْبِهِ» فلم يدعه يعقله «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» فلم يتركه يراه فمن هذا شأنه أخبروني «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» استفهام إنكاري، أي لا يهديه أحد البتة لأنه لا يجاب إلا بلا «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» 23 أيها الناس فنلاحظون وتقولون لا هادي إلا الله، ولا مضل لمن هداه، ولا هادي لمن أضله. قال الواحدي: لم يبق للقدرية مع هذه الآية عذرا وحيلة لأن الله تعالى صرح بمنعه إياه عن الهوى حتى أخبر بأنه ختم على جوارحه كلها وعطلها عن النظر إلى طريق الهدى، وقيل في هذا المعنى: إذا طلبتك النفس يوما بشهوة ... وكان إليها للخلاف طريق فدعها وخالف ما هويت فإنمّا ... هواك عدو والخلاف صديق

لأن أصل الشر كله متابعة الهوى وكل الخير في مخالفته، وقيل: نون الهوان من الهوى مسروقة ... فأسير كل هوى أسير هوان وقال أبو عمرو موسى بن عمر الأشبيلي الزاهد: فخالف هواعا واعصها إن من يطع ... هوى نفسه ينزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في؟؟؟ أي مصرع واعلم أن متابعة الهوى مذمومة قبل الإسلام، قال عنترة: إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها وقال الأبوصيري: وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محضاك النصح فاتهم ولا تطع منهما خصما ولا حكما ... فأنت تعرف كيد الخصم والحكم وقال غيره: هي النفس إن تمهل تلازم خساسة ... وإن تنبعث نحو الفضائل تبتهج قال ابن عباس: ما ذكر الله هوى إلا ذمه. وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك. وقال سهل التستري هواؤك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وجاء في الحديث والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وفي حديث آخر: ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. فيجب على النبيه النبيل أن يعرض عن هواه فإنه مفارقه، وإلا فهو نار ثانية عليه يذهب معه إلى جهنم، قال: جمع الهواء مع الهوى في مهجتي ... فتكاملت في أضلعي ناران فقصرت بالممدود عن نيل المنى ... ومددت بالمقصور في أكفاني وهذه نزلت في الحارث بن قيس السهمي، إذ كان لا يهوى شيئا إلا ركبه. وحكما عام في كل من اتبع هواه، وفيها إعلام عن ذم الهوى واتباع الشهوات ما فيها لمن اتبع ذلك، لأن جواهر الأرواح منها ما هو مشرق علوي نوراني، فلا يميل إلا لما يرضي خالقه مبدعه، ومنها ما هو رذيل سفلي ظلماني فلا يميل إلا لما يعجب نفسه، وإن الله تعالى يقابل كلا بما يليق بماهيته وجوهره. ونظير هذه الآية

الآيتان 43- 44 من سورة الفرقان، في ج 1 فراجعهما. قال تعالى «وَقالُوا» منكرو البعث بعد هذه الآيات البينات على إثباته «ما هِيَ» الحياة «إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ» أي يموت آباؤنا «وَنَحْيا» نحن بعدهم ونموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، وهكذا أرحام تدفع وأرض تبلع، أو نحيا نحن ونموت، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وعلى هذا قوله تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) أي رافعك إلى السماء الآن ومتوفيك بعد، راجع الآية 55 من سورة آل عمران ج 3 «وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» في كره ومره واختلاف جديديه. واعلم أن الدهر اسم لمدة العالم من مبدإه إلى منتهاه، ويعبر به عن كل مدة طويلة، بخلاف الزمن، فإنه يقع على القليل والكثير. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار. وفي رواية يؤذيني ابن آدم، ويقول يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما. وفي رواية يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار. وأخرج مسلم لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر. وأخرج أبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم: يقول الله عز وجل استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني عبدي وهو لا يدري، يقول وا دهراه، وأنا الدهر. وأخرج البيهقي: لا تسبوا الدهر، قال الله عز وجل أنا الأيام والليالي أجودها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك. ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث، فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله تعالى عز وجل، ولهذا عدّ بعض العلماء سب الدهر من الكبائر، لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وتنزه وهو كفر، وما أدّى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كبيرة، وقالت الشافعية مكروه لا غير. وعندنا نحن الحنفية تفصيل، فمن سب الدهر وأراد به الزمان كما هو المتعارف لدى العامة فلا كلام في الكراهة، وإذا أراد رب الزمن وهو الله عز وجل ولا أظن أحدا يريد ذلك فلا كلام في الكفر، راجع الآية 139 من سورة الأنعام المارة. ومن هذا القبيل إذا نسب فعل الأشياء إلى الكواكب

وغيرها، فإن أراد أنها بنفسها تؤثر يكون كفرا، وإذا قال المؤثر هو الله وإنما اقتضت قدرته أن يكون إذا كان كذا كان كذا فلا بأس، وإن أطلق في هاتين المسألتين فمحل تردد لاحتمال الأمرين، والأولى أن يحمل على ما هو الأحسن في مثل هذا. وكانوا قبل الإسلام يستدون الإهلاك إلى الدهر إنكارا منهم لقبض الأرواح من قبل ملك الموت بإذن الله، وكذلك يستدون كافة الحوادث إليه لجهلهم أنها بتقدير الله تعالى، وهؤلاء بخلاف الدهرية لأنهم مع اسنادهم الوقائع إلى الدهر لا يقولون بوجوده تعالى، بل يقولون إن الدهر مستقل بالتأثير، أما هؤلاء فيعترفون بوجود الله. قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ... ) الآية 9 من سورة الزخرف المارة، وهي مكررة كثيرا في القرآن «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» 24 أي لا علم لهم ولا يقين فيما يقولونه، لأن مصدره الحسبان والميل إلى ما يشتهون من القول من غير موجب، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول من غير حجة أو بينة فاسد باطل، وإن متابعة الشك والوهم منكر. واعلم أن بعض العلماء أنكر قراءة أنا الدهر بضم الراء الوارد في حديث أبي داود المار ذكره بداعي لو كان صحيحا لكان من جملة أسمائه تعالى، ويرويه بفتح الراء ظرفا لأقلب، أي إني أقلب الليل والنهار الدهر، ولكن يردّه رواية مسلم (فإن الله هو الدهر) لذلك إن الجمهور على ضم الراء ولا يلزم أن يكون من أسمائه تعالى، لأنه جار على التجوز ولا مانع لأن الله تعالى له أسماء كثيرة لا يعلمها غيره وهذه التسعة والتسعون المشهورة هي أسماؤه الحسنى، راجع الآية 8 من سورة طه في ج 1 تعلم أن أسماءه لا تحصى وأن لها مشتقات كثيرة، قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» واضحات لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير لأنها ظاهرة «ما كانَ حُجَّتَهُمْ» بعدم قبولها والأخذ بها «إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا» الذي ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 25 أنت وأصحابك يا محمد بأن ربكم الله يحيي بعد الموت، فيا سيد الرسل «قُلِ» لهؤلاء الجهلة «اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» من العدم ابتداء من نطفة ضعيفة ميتة «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم من الدنيا «ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ» أنتم ومن قبلكم ومن بعدكم

أحياء كما يقتضيه معنى الجمع «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» الذي مجيئه حق «لا رَيْبَ فِيهِ» لأنه لا بد واقع «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 26 حقيقة قدرته تعالى وتصرفه في ذلك «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ» بدل من يوم في صدر الآية والعامل بهما «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» 27 إذ يصيرون إلى النار. قال تعالى «وَتَرى» يا سيد الرسل في ذلك اليوم الرهيب «كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» على ركبها بين يدي الله عز وجل تنتظر القضاء بالعدل من الحاكم العدل وإذ ذاك «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» الذي نمقته حفظتها بأعمالها وأقوالها ويقال لها «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 28 في الدنيا عن الخير خيرا منه وعن الشر بمثله. ثم يقول الله تعالى «هذا» الذي أحصاه حفظتنا هو «كِتابُنا» لأنا أمرناهم بتدوينه وهو منطبق على ما كان في علمنا قبلا وهو الآن «يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وقع منكم بلا زيادة ولا نقص لأنه موافق للحق الذي هو في لوحنا أزلا، واعلموا أيا الناس «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ» نأمر الملائكة بنسخ وكتابة «ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 29 في الدنيا مما هو مدون عندنا، لأن الاستنساخ لا يكون إلا عن أصل. وتدل هاتان الآيتان على أن استحقاق العقوبة لا يكون إلا بعد مجيء الشرع، على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين إن بعض الواجبات تجب بالعقل. هذا ومما يؤيد التفسير الذي جرينا عليه ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة، وخلق القلم، فقال اكتب، قال ما أكتب؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر، ورزق مقسوم حلال أو حرام، ثم ألزم كل شيء بيانه، وذلك دخوله في الدنيا متى، وخروجه منها كيف، ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف، ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا، فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم، فإذا فنى الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فيقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا، فترجع فيجدونه قد مات. ثم قال ابن عباس: ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) وهل يكون

[سورة الجاثية (45) : الآيات 31 إلى 37]

الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنه سئل عن الآية، فذكر نحو ذلك، ثم قال هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب؟ وقد روى الاستنساخ من اللوح عنه جماعة «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ» و «ذلِكَ» الإدخال «هُوَ الْفَوْزُ» للمؤمنين والظفر العظيم «الْمُبِينُ» 30 الظاهر لهم في الجنة جزاء عملهم «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» فيقال لهم يوم الحساب وظهور الحجة عليهم «أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» في الدنيا من قبل رسلي وتحذركم من هول هذا الموقف «فَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الأخذ بها منهم «وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» 31 معتادين الإجرام حتى صارت ديدنا لكم لا يحتمل انفكاككم عنها «وَ» قد كنتم في الدنيا أيضا «إِذا قِيلَ» لكم «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ» بالبعث «حَقٌّ وَالسَّاعَةُ» هذه التي أنتم فيها الآن حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا «قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ» ولم تلتفتوا إلى أن الذين أخبروكم بها هم رسل الله وأنهم يتكلمون عن الله وبأمر الله وجاوبتموهم بقولكم «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا» بما تقولونه فلا نعتقده إلا توهما ولا نقول به إلا حدسا كأن الذين يعظونكم بذلك ليسوا بشيء وقد أكدتم تكذيبهم بقولكم «وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» 32 ما تقولونه وبقيتم شاكين بوجود هذه الحياة ومنكرين يوم الجمع هذا لأنه عندكم لا يعقل وإن ما لا يعقل لا يكون، ولم تعلموا أن أفعال الله لا تدرك، وأنها لا تقابل إلا بالخضوع لها، فانظروا الآن إلى ما كان منكم في الدنيا. قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في الدنيا وجزاؤه لأن العقوبة تسيء صاحبها وتقبح منه لذلك سميت سيئات ولما رأوها مجسمة أمامهم دهشوا «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 33 من أنواع العقاب الذي كان أخبرهم به رسلهم، إذ كانوا ينكرون ولا يصدقون ويسخرون بهم عند ما يذكرون لهم ذلك ويخوفونهم به «وَقِيلَ» لهم بعد إدخالهم النار وإحاطة العذاب بهم «الْيَوْمَ نَنْساكُمْ» فنترككم في هذا الشقاء ونجعلكم كالمنسيين بالنسبة لكم وهذا من باب المقابلة أي المتروكين لأن الله تعالى لا ينسى شيئا وذلك «كَما نَسِيتُمْ» في الدنيا «لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» في الآخرة ولم تبالوا به ولم تصفوا

لنصح أنبيائكم وإرشادهم لكم بالعودة إليه «وَمَأْواكُمُ» الذي تأوون إليه للاستراحة وعند النوم هو «النَّارُ» لا راحة لكم ولا نوم فيها بل عذاب دائم مستمر «وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 34 يخلصونكم منها أو يمنعون عذابها عنكم «ذلِكُمْ» الجزاء الشاق والعذاب الذي لا يطاق «بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بنعيمها الزائل وبهجتها المزخرفة وشغلكم حكامها عن الاعتراف بهذا اليوم. «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها» أبدا وقرىء بضم ياء يخرجون وفتحها وهو أحسن «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 35 يسترضون فلا يطلب منهم إرضاء ربهم والإيمان به وبالبعث والنبوة لأنه لا يقبل عذر فيه ولا توبة. والالتفات من الخطاب إلى الغيبة إيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم، وأن الخطاب للخزنة الذين نقلوهم من مقام المخاطبة إلى غيابة النار، والالتفات من أنواع البديع المستحسنة في الكلام. قال تعالى «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 36 إخبار مراد منه الإنشاء أي احمدوا ربكم أيها الناس ومجدوه وعظموه لأنه ربكم ورب كل شيء «وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فكبروه وعزروه وحق للرب أن يعظم ويمجد ويكبر ويحمد «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب في الانتقام من أعدائه البليغ في النصرة لأوليائه «الْحَكِيمُ» 37 في أحكامه وإحكامه. وقد ختمت هذه السورة بمثل ما بدئت به من الصفتين الجليلتين كما هو شأن كثير من السور، وتفيد هذه الصفات أن الكمال كله في القدرة والرحمة والحكمة ليس إلا لله وأن لا متّصف بكمال هذه الصفات غير الإله العظيم الكبير في سمواته وأرضه، المتصرف بما فيهما، ويوجد سورتان مختومتان بهذه اللفظة، الحشر والتغابن، روى مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: العزّ إزاره والكبرياء رداؤه، فمن ينازعه عذبه. وأخرج الرقاق وأبو مسعود عنهما: يقول الله عز وجل العزّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار. وهذا مخرج على ما تعتاده العرب في بديع استعارتهم، وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثوب، فيقولون شعاره التقوى ولباسه الزهد، فضرب الله عز وجل بالإزار والرداء مثلا له جل شأنه في

تفسير سورة الأحقاف عدد 16 - 66 - 46

انفراده في صفة الكبرياء والعظمة. وفي هذا إعلام بأنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازا كالرحمة والكرم وغيرهما، وشبههما بذلك لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان، ولأنه لا يشاركه في ردائه وإزاره أحد، فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن يشاركه فيهما أحد، لأنهما من صفاته اللازمة المختصة به وهذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تفسير سورة الأحقاف عدد 16- 66- 46 نزلت بمكة بعد الجاثية، عدا الآيات 10، 15، 35 فإنها نزلت بالمدينة، وهي خمس وثلاثون آية، وستمئة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «حم» 1 تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» 2 تقدم تفسيرها بنظيراتها التي قبلها حرفيا «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الذي تقتضيه الحكمة الكونية والتشريعية وهذا الاستثناء مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو مفعوله، أي ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حالا ملابسا بالحق، وفيه دلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتغاء أفعاله على حكم بالغة عظيمة وانتهائها إلى غايات جليلة بالغة، وكل ذلك يؤجل إلى قدر مقدر في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير، ولا يقدم ولا يؤخر، يدلك عليه قوله عز قوله «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» ينتهي إليه فناؤهما، وهو معلوم لديه وحده، لأن علمه مما اختص به نفسه المقدسة. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا» به في هذا القرآن من بعث وحساب وغيره «مُعْرِضُونَ» 3 عنه لا يلتفتون إليه والواو للحال أي والحال أنهم في إعراض عريض عنه، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعرضين «أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخبروني عنها وكيف تعبدونها وهي أوثانا جامدة لا حقيقة لها «أَرُونِي» ماهيتها و «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى تستحق العبادة «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي

مطلب عدم سماع دعاء الكفرة من قبل أوثانهم وتفتيده وتبرؤ الرسول صلى الله عليه وسلم من علم الغيب وإسلام عبد الله بن سلام:

السَّماواتِ» حتى عدلتموها بخالقها كلا «ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن جاء فيه ما تقولونه، وهو ليس فيه شيء من ذلك «أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» وبقية منه يؤثر عن الغير، ومن هنا سميت الأحاديث أخبارا، أي أروني مطلق علم من العلوم السالفة «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 4 في زعمكم هذا بأنها أهل للعبادة فإذا لم يكن عندكم شيء من ذلك فأنتم إذا ظالمون. مطلب عدم سماع دعاء الكفرة من قبل أوثانهم وتفتيده وتبرؤ الرسول صلّى الله عليه وسلم من علم الغيب وإسلام عبد الله بن سلام: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» دعاءه ولو ظل دائبا يدعوها ليل نهار «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» لا تجيبه لأنها جماد لا تبصر ولا تسمع ولا تفهم باللفظ ولا بالإشارة «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» 5 لأنهم لا يدرون بهم. هذا إذا كانوا أصناما أو كواكب، أما إذا كانوا من ذوي العقول فإن كانوا من المقربين المقبولين عند الله كعيسى والمسيح وعزير والملائكة فلاشتغالهم عنهم بما هو خير، أو كونه بمحل ليس من شأنه الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي، لأن الله تعالى يصون سمعهم عن سماع دعائه، لأن ما لا يرضاه الله يؤلمهم سماعه، وإن كان لا يضره لأنه لم يأمر به ولم يرده، ويتنزه الله تعالى عن مثله، وإن كان من أعداء الله كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر لو فرض سماعه، والميت ليس من شأنه السماع ولما يتحقق منه السماع إلا معجزة كسماع أهل القليب لقوله صلّى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع منهم وما جاء في السلام على الأموات وأنهم يردون السلام فذلك من قبل أرواحهم الخالية عن أجسادهم، لأن الأرواح كلها خالدة المنعم منها والمعذب، وهؤلاء المتخذين للعبادة ليسوا بأولئك، وإن كان حيا فإن كان بعيدا عنه فالأمر ظاهر بعدم السماع وإن كان قريبا سليم الحاسة فلا فائدة من إجابته، إذ لا يقدر على إجابة طلبه. قال تعالى «وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ» العابدون والمعبودون «كانُوا» أي المعبودون «لَهُمْ» لعابديهم «أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» 6 جاحدين لها منكريها يقولون كما أخبر الله عنهم (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الآية 63 من سورة

القصص في ج 1، وهي مكررة في المعنى كثيرا فيخذلون حينذاك ويعلمون أنه قد سقط في أيديهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» الذي أتاهم على لسان رسولهم وهو القرآن «لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» 7 وإنما حكموا عليه بأنه سحر لعجزهم عن الإتيان بمثله، وعلى الأنبياء بأنهم سخرة لأن الأمور التي تظهر على أيديهم خارقة للعادة «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» من لدن نفسه أي إذا لم يقولوا سحر قالوا اختلقه «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ» فيكون تجاوزا على الله «فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» يدفع عني عذابه أو يمنعه من الوصول إلي فكيف افتري عليه لأجلكم وأنتم لا تستطيعون كف عقوبته عني ولكن «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ» من القدح في وحي الله والطعن فيّ «كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ» لمن عصاه إذا لم يكن مشركا به «الرَّحِيمُ» 8 بمن أطاعه ورجع إليه. تشير هذه الآية إلى أن من تاب وأناب لربه فإنه يغفر له ويرحمه، وهو كذلك إذا شاء «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» حتى تقولوا إني ابتدعت ما جئتكم به (الابتداع أن يأتي الرجل بما لم يكن قبل) ولم تنكرر هذه الكلمة في القرآن، أي لأني لست أول رسول أرسله الله لهداية البشر حتى تعجبوا وتقولوا ما تقولون، إذ بعث رسل قبلي جاءوا أقوامهم بمثل ما جئتهم به، فكيف تنكرون نبوتي وتجعلونها بدعة «وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» فيما يستقبل من الزمان في هذه الدنيا هل أخرج أو أقتل أو أحبس كما فعلت الأقوام السالفة بأنبيائهم، ولا أعلم هل تصرون على تكذيبكم لي فتهلكون خسفا أو غرقا أو رهبة، أو تؤمنون فتنالون ما وعدني به ربي إليكم من نعيم الآخرة كغيركم من الأمم المكذبة والمصدقة؟ لأن هذا كله من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لأني بشر مثلكم لا علم لي به إلا أن الله تعالى أخبرني بأن المؤمن مصيره في الآخرة الجنة، والكافر مرجعه النار، وأمرني أن أخبركم بهذا، وهو حق لا مناص منه. وفي هذه الآية ردّ على من ينسب إلى الأولياء علم الغيب من الأمور الكلية والجزئية، لأن الأنبياء أنفسهم صرّحوا بعدم علمهم الغيب إلا ما يوحيه الله إليهم منه، وما لا يكون للنبي لا يكون للولي قطعا.

قال في بدء الأمالي: ولم يفضل ولي قط دهرا ... نبيا أو رسولا بانتحال وقال النسفي لا يبلغ ولي درجة الأنبياء. وقال إن نبيا واحدا أفضل من جميع الأولياء فتنبه، واعلم أن الولي مهما بلغ من علو الشأن والرفعة لا ينال أدنى درجات الأنبياء، فضلا عن الرسل. قال تعالى يا أكرم الرسل قل لقومك ما أتبع فيما أقوله لكم سحرا ولا كهانة ولا اختلاقا ولا خرافات «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي وإني لست بساحر ولا كاهن ولا قصاص «ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 9 لكم شريعة الله كما أوحاها إلي لا أبتدع شيئا فيها من نفسي ولا أنقل لكم عن غيره شيئا أبدا، واعلم أن البدع والبديع من كل شيء المبدأ، والبدعة تطلق على ما لم يكن زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتكون حسنة إذا أجمع على حسنها المؤمنون، وسيئة إذا أجمعوا على قبحها، ولا عبرة بقول البعض في التحسين والتقبيح. هذا، قالوا لما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزّى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحدا، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذاته لأخبره الذي بعثه ما يفعل، وقال الكلبي: لما ضجر أصحاب محمد من أذى المشركين قالوا له حتى متى تكون على هذه الحالة فقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهل أترك في مكة أم أومر بالخروج إلى أرض رفعت لي بالمنام ذات نخيل وشجر. وما أخرجه أبو داود في ناسخه من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة الفتح ج 3 (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأن الأصحاب قالوا له هنيئا لك يا نبي الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله الآية 48 من الأحزاب ج 3 وهي (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية 5 من سورة الفتح ج 3، لا يصح لأن هذه خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ وهي محكمة. وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة، قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ» هذا القرآن الذي أتلوه عليكم منزل «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ» أيها اليهود «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ» في المعنى يعني التوراة والإنجيل

والزبور والصحف السماوية «فَآمَنَ» ذلك الشاهد وهو عبد الله بن سلام على أن القرآن من عند الله كما آمن بالتوراة بأنها من عنده «وَاسْتَكْبَرْتُمْ» عن الإيمان به أنفة وعدوانا وظلما لأنفسكم وغيركم «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» 10 ويناسب هذه الآية في المعنى الآية المدنية 17 من سورة هود المارّة، يروى البخاري ومسلم عن سعيد بن العاص قال: ما سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال وفيه نزلت هذه الآية. وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، وهو في أرض يخترق النخيل، فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، ومن أي ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أخواله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أخبرني بهن آنفا جبريل، أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيارة كبد الحوت، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال أشهد أنك رسول الله. ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله ابن سلام البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرأيتم إن أسلم عبد الله، قالوا أعاذه الله من ذلك، زاد في رواية، فأعاد عليهم، فقالوا مثل ذلك، قال فخرج عبد الله إليهم، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه، زاد في رواية، فقال عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخافه يا رسول الله أن يصموني به وأنا براء مما يقولون، ولكن الشريف يخاف أن يلصق به ما يعيبه، وبهذا ثبت كذب اليهود وبهتهم. قالوا وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله عبد الله، وفي كتب اليهود أن الحصين هذا رأى النبي صلّى الله عليه وسلم حينما قدم بصرى وصار يتردد إليه ويعلمه التوراة، حتى انهم نسبوا تأليف القرآن إليه لعنهم الله وأخزاهم ما أبهتهم، لأن هذا لم يصل

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 إلى 20]

إلى مكة، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة بالمدينة، فلما رآه وصارت اليهود تقول هذا كذاب، قال لهم وجه هذا ليس بوجه كذاب، على أنه لو فرض صحة اجتماعه به في بصرى فإن ذلك الوقت كان عمره صلّى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، ولم تحدثه نفسه بنزول كتاب عليه كي يؤلفه له، ولم يدع النبوة ليركن إليه ويعلمه، ولم يبق في بصرى زمنا يستوعب تعرفه به فضلا عن تعليمه، وقد بقي حتى بلغ الأربعين من عمره، ولم يتكلم بشيء من الوحي، قاتلهم الله على إفكهم وكفرهم، وما هذا إلا حسد منهم لعبد الله على إيمانه ليس إلا وكان من أمره ما كان رضي الله عنه، ولهذا البحث صلة في الآية 47 من سورة النساء في ج 3، لأنه رضي الله عنه تأخر في إعلان إسلامه لليهود خوفا من الطعن فيه كما يشير إليه قوله (هذا الذي كنت أخافه) بالحديث المار ذكره في معرض العذر عن تأخير إسلامه، وهناك أقوال بأن الشاهد في هذه الآية موسى عليه السلام شهد على التوراة التي هي مثل القرآن بأنها منزلة من عند الله، كما شهد محمد على القرآن فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم يا معشر قريش عن الإيمان بالقرآن ومحمد، وأن الآية نزلت في محاججة كانت بين الرسول وقومه، واستدل صاحب هذا القول بأن السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة، والأول أولى، لأن هذه الآية من المستثنيات بمقتضى الأحاديث الصحيحة المتقدمة، ومنها ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة عبد الله بن سلام، وروى ذلك عن محمد ابن سيرين وهو ما عليه جمهور المفسرين وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وروى ذلك ابن سعيد وابن عساكر عن عكرمة. قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم «لَوْ كانَ» ما جاء به محمد «خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» هؤلاء المؤمنون به بادئ الرأي لفقرهم ومهانتهم عندنا يعنون عمارا وصهيبا وابن مسعود وأمثالهم من فقراء المسلمين، ويسكتون عن أبي بكر وأصحابه الذين آمنوا قبل هؤلاء «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» هؤلاء الكفرة «فَسَيَقُولُونَ» عنادا وجحودا «هذا» الذي جاء به محمد وآمن به هو وأولئك «إِفْكٌ قَدِيمٌ» 11 كان يقوله مثله من قبله لقومه ليس بقرآن. قال

تعالى ردا لقولهم كيف يقولون ذلك «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى» أنزلناه عليه كما أنزلنا هذا القرآن على محمد «إِماماً» يقتدي به قومه «وَرَحْمَةً» منا لمن آمن به وصدقه وعمل به وهو شاهد أيضا لما جاء به محمد لأن ما جاء فيه من المعاني مطابقة لما في قرآنه من التوحيد والوعد والوعيد والقصص والأخبار «وَهذا كِتابٌ» أنزلناه عليك يا محمد «مُصَدِّقٌ» لما قبله من الكتب في المعنى وخاصة فيما هو في كتاب موسى لأنه أعم من غيره بالنسبة لسائر الكتب وجعلناه «لِساناً عَرَبِيًّا» حال من فاعل مصدق وهو الضمير العائد للكتاب «لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» منهم بلسانهم كي يفهموه ويعوه «وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» 12 العاملين به «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» على إيمانهم وجمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم أن يلحقهم ما يكرهونه «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» 13 على ما فاتهم من الدنيا لأن الله عوضهم خيرا منها في دار جزائه ولا على ما يناله غيرهم مما يحبونه لأن كلا منهم راض بما أعطاه الله ويعتقد أن لا أحد أحسن منه من صنفه ولذلك فلا تحاسد عند أهل الجنة، راجع الآية 30 من فصلت «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 14 في دنياهم من الإحسان وناهيك بإحسان يكون من الملك الديان. وهذه الآية المدنية الثانية، قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» بأن يحسن إليهما ولا يسيء «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً» حين ثقل عليها «وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» بشدة الطلق حالة الوضع «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع «ثَلاثُونَ شَهْراً» وذلك أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع سنتان، فإذا وضع لأكثر من ستة نقص من مدة الرضاع مثل ما زاد على مدة أقل الحمل، فإذا كان الوضع لتسعة مثلا كان الرضاع واحدا وعشرين شهرا وهكذا، أما من يولد لتمام سنتين على قول أبي حنيفة أو لتمام أربع سنين على قول الشافعي رحمهما الله فهو نادر، وعلى كل يكون رضاعه دون السنتين، ولهذا البحث صلة في الآية 14 من سورة المؤمنين الآتية، «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ» جمع لا واحد له من لفظه.

وقال سيبويه واحده شدة، راجع تفصيل ما فيه في الآية 14 من سورة القصص في ج 1، «وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» هي نهاية تمام قوته واستوائه وغاية كمال شبابه وعقله وكماله، ولهذا جاء في الحديث أن الشيطان يمر يديه على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول له يأبى وجه لا يفلح. وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جديد عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار. وقيل في هذا المعنى: إذا المرء في الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وإن جرّ أسباب الحياة له العمر لأنه والعياذ بالله ينطبع على ما هو عليه فيصعب تبديل خلقه كما يستحيل تغير خلقه، وفي هذا المعنى أيضا يقول الآخر: وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت سنّ الأربعين وقال الآخر: أبعد شيي أبتغي الأدبا ... وكنت قبلا فتى مهذبا إلا من شملته عناية الله فخصه بلطف منه بسائق ما قدر له في الأزل، لأنه قد يسبق عليه كتابه كما جاء في الحديث الصحيح المار ذكره. «قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» ألهمني ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» بالإيمان والهداية والرشد «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» مني بأن يكون خالصا لوجهك «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» بأن تكون صالحة مرضية أنتفع بها وتنتفع بي في الدنيا والآخرة «إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 15 قلبا وقالبا «أُولئِكَ» أمثال هذا القائل هم «الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» في الدنيا من الطاعات، لأن المباحات وإن كانت حسنة إلا أنها قد تكون لا حسنة ولا قبيحة فلا يثاب عليها، ولهذا عبّر بالأحسن جل إحسانه القائل «وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» فلا نؤاخذهم عليها وسيعدّون «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» في الآخرة وكان هذا الوعد بالقبول والتجاوز وإدخال الجنة لهؤلاء الشاكرين التائبين «وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» 16 به في الدنيا على لسان رسلهم لا خلف فيه البتة.

مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب:

مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب: أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وقال علي كرم الله وجهه إنها نزلت في أبي بكر حيث أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أنه أسلم أبواه غيره وأوصاه الله بهما، ولزمت هذه الوصية من بعده، وفي قوله كرم الله وجهه (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) دليل على مدنية هذه الآية، إذ لم تطلق هذه الكلمة على أحد قبل الهجرة. قال ابن عباس وقد أجاب الله دعاءه فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله منهم بلال، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ووفقه لفعله. وقد أجاب دعاءه بإسلام أهله أيضا فاجتمع له أبواه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، وابنه عبد الرحمن، وحفيده أبو عتيق، وكلهم مسلمون. ولم يجتمع لأحد من الصحابة مثل هذا، وقد صحب رضي الله عنه محمدا صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد صلّى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب نسبة لجده ليعلمه مقامه وقدره لأن عبد المطلب مشهور في مكة وغيرها، وكان يلقب بقاضي العرب وخطيب الحرم ليحترمه، فقال الراهب هذا والله نبي، وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا، وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر، وبعد أن شرفه الله بالنبوة آمن به، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا ربه بما حكاه الله عنه في هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لم يثبت، وهو أهل لأن ينزل به قرآن لأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ومن رءوس المهاجرين الأخيار وأحبهم إلى النبي المختار، والآية بلفظها عامة يدخل فيها كل من هذا شأنه ويدخل فيها أبو بكر وسعد وأمثالهما من الصحابة دخولا أوليا، وعلى القول بأنها خاصة بالصديق فيكون لفظ الإنسان بالآية من العام المخصوص، لأن لفظ الإنسان

لم يأت في القرآن العظيم إلا في سياق الذم، قال تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية 17 من عبس (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 6 من الإنفطار (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية 6 من الإنشقاق (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية 2 من العصر في ج 1 وقال (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) من آخر الأحزاب في ج 3، فهذه كلها في معرض الذم، فتكون الأولى في معرض المدح هنا، إذ ما عموم إلا وخص منه. قال تعالى «وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما» تضجر منهما كراهية لهما راجع الآية 23 من الإسراء في ج 1، «أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ» هذه الجملة مقول القول أي أأنشر حيّا من قبري بعد بلائي «وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» فلم يحيى منهم أحد «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ» عليه لما سمعا كلامه الدال على إنكار البعث، وعدم الإيمان وصارا يقولان له «وَيْلَكَ» هلاكك من وبال هذا الكلام، وأصل الويل الدعاء بالثبور والهلاك، ويقوم مقام الحث على الفعل أو تركه «آمِنْ» بالله وصدق رسوله واعتقد بالحياة الآخرة بعد الموت، فقد وعد الله به رسله وأخبرونا به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» واقع لا محالة، وأنه سيدخل المؤمنين الجنة والكافرين به النار البتة «فَيَقُولُ» لهما «ما هذا» الذي تدعوان إليه بأن أصدقه وأقبله «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 17 خرافاتهم الكاذبة الملعقة، وهذه الآية عامة في كل كافر دعواه والداه إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فلم يفعل ولم يصغ لقولهما، وما زعمه مروان في الحديث الذي رواه البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر رضي الله عنهما شيئا، فقال لشرطته خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها من وراء الحجاب ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن (تريد مما هو يفيد الذم) إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي. ومما يؤيد قول عائشة وينفي قول مروان عليه ما يستحق من الملك الديان قوله تعالى «أُولئِكَ» العاقون الكافرون هم «الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ

مطلب فى قوله (أذهبتم طيباتكم في حياتكم) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد:

الْقَوْلُ» بالعذاب المقدر أزلا «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» 18 الآخرة كما خسروا الدنيا، وعبد الرحمن رضي الله عنه وعن والديه من أفاضل المؤمنين فلا يتصور دخوله في هذه الآية البتة، وإسلام أبويه قبله لا يقتضي نزول هذه الآية فيه، لأن إسلامه جب ما قبله فضلا عن أنه من أبطال المؤمنين، وله مواقف مشهورة يوم اليمامة وغيره، لهذا فلا يعقل نزول هذه الآية فيه، بل هي عامة في كل مؤمنين دعيا أولادهما للإيمان، قال تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» بحسب برهم وكمال إيمانهم، وللكافرين الدركات بمقتضى عقوقهم وعصيانهم، وفيه تغليب الدرجات على الدركات «وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ» يوم القيامة «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 19 فيها فلا يزاد على سيئات المسيء ولا ينقص من حسنات المحسن. مطلب فى قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد: «وَ» اذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ» فيقال لهم على رءوس الأشهاد «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» فلم يبق لكم في الآخرة ما تكافأون عليه لأنكم استوفيتم حظكم في الدنيا «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي فيه الذل والصغار والخزي والهوان «بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا، والكبرياء من خصائص الإله فلا يحق لكم أن تتصفوا به بسبب ما خولكم من نعمه من مال وولد ورئاسة بل عليكم أن تشكروا نعمه وتتواضعوا لجلاله ليزيدكم «وَ» يجازيكم أيضا «بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» 20 تخرجون عن طاعته وتتجاوزون حدوده وتقعون في حماه، وقد وصف الله تعالى هذا الصنف بالاستكبار وهو من عمل القلب، والفسق وهو من عمل الجوارح، وجعل عذابهم بالذل والهوان بمقابلة ذلك. روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبّة ثلاث، فقلت أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس

والروم ولا يعبدون الله، فاستوى جالسا، ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت استغفر لي يا رسول الله. طلب المغفرة رضي الله عنه إذ فهم من كلام صاحبه صلّى الله عليه وسلم أن طلبه ذلك مما لا ينبغي أن يقع من مثله وظن أنه أخطأ باقتراحه ذلك، غفر الله له ورضي عنه يخاف من مثل هذا وهو مبشر بالجنة، فكيف بنا أيها الناس؟ نسألك اللهم العفو والعافية والرضاء، ولنذكر نبذة مما كان عليه حضرة الرسول لعلنا نتعظ ونقنع بما عندنا رزقنا الله القناعة بالدنيا والشفاعة بالآخرة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ورويا عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو (غذاؤنا) الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحم، أي من قبل الغير. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وروى البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في برده إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، قال وأراه قال قتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن به إلا برده، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشيت أن تكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير. وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال ما هذا يا جابر. فقلت اشتهيت لحما فاشتريته، فقال أو كلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وجاء رجل إلى عمر فرآه يأكل في قصعة وآخرين يأكلون في قصعة أخرى، فجلس معه بزعمه أن الذي أمامه أحسن فإذا هي عظام وعصب فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال فما تظن، إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايبها إلى آل محمد صلّى الله عليه وسلم، والذي يليه إلى

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 30]

المهاجرين والأنصار، والذي يليه إلى من حضر من المسلمين، وما بقي لعمر وآل عمر، على أننا أعلم بصلاء الجداء منكم، ولكن لا نريد أن يقال لنا غدا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وعليه فلا يظن أحد أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصبر على قلة الأكل وأدونه لعدم قدرته على غيره، كلا كيف وقد خيره الله أن يجعل له جبال مكة ذهبا، ولكن هذا من باب الزهد له صلّى الله عليه وسلم ولعمر رضي الله عنه، والآية في كفار قريش لأنهم كانوا مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الآخرة تاركين ما يوصل إليها من خير ولهذا ذكرهم الله بقوله «وَاذْكُرْ» يا محمد لقومك الكافرين «أَخا عادٍ» هودا عليه السلام «إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء يقال احقوقف الشيء أي أعوج أو كثيب الرمل المعوج، وقال ابن عباس هو واد بين عمان ومهرة، فيه ذلك الكثيب المنكسر وإلا فاللغة لا تسمي الوادي حقفا وإنما ذكرهم بهم لأنهم كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة وجاها وقد سلط الله عليهم العذاب بكفرهم ليتعظوا بمن قبلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ» جمع نذير بمعنى الرسل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي قبل نبيهم وبعده قال لهم «أَلَّا تَعْبُدُوا» أحدا ولا شيئا «إِلَّا اللَّهَ» وحده المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن عبدتم غيره «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» 21 في هوله عظيم في عذابه ترتعد له القلوب وتذل فيه الجبابرة وتقشعر له الجلود وتهان فيه الأكاسرة والقياصرة «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا» تصرفنا بما تموه علينا من الكذب «عَنْ» عبادة «آلِهَتِنا» التي دأبنا عليها وآباؤنا من قبلنا، كلا لا نقبل منك «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 22 في قولك «قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ» وحده بوقت مجيء العذاب الذي هددتكم به لم يخبرني به «وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من لدنه لتعلموا أني قمت بواجبي نحركم وأديت ما أمرت به «وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» 23 أهمية عذاب الله ولا تلقوا إليه بالا، فلم يلتفتوا إلى قوله، قال تعالى «فَلَمَّا رَأَوْهُ» أي العذاب الذي وعدهم به نبيهم وقد بينه الله بقوله جل قوله «عارِضاً» في ناحية السماء «مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» قال ابن عباس

أوديتهم بين عمان ومهرة، وقيل في مهرة في أراضي حضرموت باليمن، ففرحوا فرحا شديدا، لأن المطر كان حبس عنهم مدة طويلة، وكانوا أهل عمل، إلا أنهم يسيرون إلى المراعي ومواقع القطر في الربيع، فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم، وهم من قبيلة إرم «قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» لأن العارض هو السحاب يعرض في ناحية السماء ثم يطبق بآفاقها فيمطر إن شاء الله، قال الأعشى: يا من يرى عارضا قد بت أرقبه ... كأنما البرق في حافاته الشعل وقال الآخر: يا من رأى عارضا أرقت له ... بين ذراعي وجبهة الأسد قال تعالى ردا على زعمهم «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ» من العذاب «رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» 24 لا طاقة لقوى البشر على تحمله ولا تقدر على دفعه، وهذه الجملة صفة ريح لأنه نكرة والجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال، وهذه الريح المشئومة «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ» تمر به وتهب عليه «بِإِذْنِ رَبِّها» لأنها مرسلة منه بالعذاب فلا تبقي لما تمر به أثرا، فأهلكهم الله جميعا «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» خالية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية، أو لسيد المخاطبين خاصة، وقرىء يرى على الغيبة بالمجهول وهي المثبتة بالمصاحف «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الصارم «نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» 25 قالوا إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة، فدخلوا بيوتهم حين رأوها وأغلقوا أبوابها، فقلعت الأبواب وصرعتهم، وأهالت عليهم الرمال سبع ليال وثمانية أيام، حتى دفنتهم وصار لهم أنين تحت الرمال، ثم كشفتها عنهم وحملتهم فرمتهم في البحر وتركت بيوتهم خالية، قالوا وإن هودا عليه السلام خط على نفسه ومن آمن به خطا فصارت تمر بهم لينة باردة معجزة له عليه السلام. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، وإذا تخيلت السماء (تغميت، والمخيلة السحاب الذي يظن فيه المطر) تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر،

فإذا أمطرت السماء سرّي عنه (كشف وأزيل ما كان به من الغم) فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) الآية. وتمام القصة مبينة في الآية 58 من سورة هود المارة فراجعها وما ترشدك إليه، قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ» أي قوم عاد «فِيما» في شيء عظيم «إِنْ» نافية بمعنىّ ما أي ما «مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» يا أهل مكة من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» يستعملونها فيما خلقت لها من النظر في آلاء الله ليفقهوا أمر دينه فصرفوها لغير ما خلقت لها من أمور الدنيا الصرفة «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ» يحول دون ذلك العذاب لأنهم استعملوها في معصية الله، فكان وجودها نقمة لا نعمة «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» التي أظهرها على أيدي أنبيائهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 26 أحاط بهم العذاب جزاء سخريتهم، وفي هذا تهديد لأهل مكة ووعيد كبير لما يجابهون به نبيهم، «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى» بإهلاك أهلها كديار ثمود وقرى قوم لوط وحجر صالح وقرى عاد باليمن، وإنما خاطب أهل مكة بهذا لأنهم يرونها بأسفارهم وحلة الشتاء والصيف «وَصَرَّفْنَا» بينا وكررنا «الْآياتِ» الدالة على التوحيد والبعث والأوامر والنواهي «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 27 إلى الإيمان بذلك، فلم يفعلوا وأصروا على كفرهم «فَلَوْلا» هلا «نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً» يتقربون بها إلى الله ليشفعوا لهم عنده فعبدوها من دونه. ألا عبدوا الله وحده كي ينصرهم ويخلصهم مما حل بهم «بَلْ ضَلُّوا» عن الطريق السوي فلم يتقربوا إليه وتقربوا إلى أوثانهم التي غابت «عَنْهُمْ» عند حلول العذاب بهم فلم ينتفعوا بهم «وَذلِكَ» قولهم إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده هو «إِفْكُهُمْ» اختلاقهم الكذب «وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» 28 من البهت على الملائكة وعيسى وعزير من إسناد عبادتهم إليهم، إذ تبرءوا منهم وأنكروا عبادتهم لهم وعلمهم بهم أيضا، ولهذا فقد غشيهم العذاب ولم يجدوا من ينقذهم منه، ولو أنهم تعرفوا إلى الله وتقربوا له لنجاهم منه، ثم شرع جل شرعه

مطلب تكليف الجن ودخولهم في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأولي العزم من الرسل:

ببيان ما وقع لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم مع الجن ليذكره لقومه، وقد مر أول سورة الجن ما يتعلق برؤيتهم وحضورهم لدى الرسول بصورة مفصلة فراجعها في ج 1. مطلب تكليف الجن ودخولهم في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وأولي العزم من الرسل: قال تعالى «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» منك كما يستمعه الإنس لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إليهم أيضا كما أوضحناه هناك «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي مجلسك الذي كنت تتلوه فيه «قالُوا» بعضهم لبعض «أَنْصِتُوا» تأدبا واحتراما لسماعه وليعوا ما يأمر به وينهى عنه، فأصغوا وبقوا منصتين «فَلَمَّا قُضِيَ» فرغ من القراءة وتفاهموا مع حضرة الرسول وأجابهم لما سألوا عنه «وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» 29 لهم سوء عاقبة الطغيان ومخوفيهم من هول القيامة والوقوف لدى الملك الديان لأنهم بعد أن آمنوا به صلّى الله عليه وسلم أمرهم تبليغ قومهم ما سمعوا منه وأن يؤمنوا بالله، ولما ذهبوا إليهم «قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى» يفهم من هذا أنهم كانوا يتدينون بالتوراة ولم يذكروا عيسى لأنه عليه السلام كان يعمل بالتوراة عدا ما غيرت منها شريعته بما جاء في الإنجيل المنزل عليه وهي أجل الكتب السماوية وأجمعها بعد القرآن، ويدل على عملهم بالتوراة قوله تعالى «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية الإنجيل فما قبله، لأن الذي فيها كله موجود بالقرآن، ثم وصفوه بوصف أعظم بقولهم «يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» الذي يجب اتباعه من العقائد والأحكام «وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» 30 لا يضل متّبعه ولا يزيغ «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه هذا الكتاب الجليل وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أرسله الله لإرشاد هذا العالم كله «وَآمِنُوا بِهِ» وصدقوه واعملوا بكتابه. واعلم أن الإيمان داخل بالإجابة، وإنما خصوه بالذكر ثانيا لأنه الأصل وهو المقصود من الإجابة، فيكون من باب ذكر العام وعطف أشرف أنواعه عليه، فإذا فعلتم «يَغْفِرْ لَكُمْ» الله ربه وربنا وربكم ورب الكون أجمع «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» التي اقترفتموها «وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» 31 حق عليكم بسبب كفركم بالله وتعديكم على الغير. تفيد هذه الآية الكريمة أن الجن كالإنس منهم المؤمن

ومنهم الكافر، وأن مؤمنهم معرض للثواب وكافرهم مهيء للعقاب، وإنما عبر بمن لأن الغفران لا يعم كل الذنوب إذا لم يشأ الله ذلك، لأن منها ما هو حق خالص لله مبني على المسامحة، ومنها ما يتعلق بها حق الغير فيتوقف غفرانها على إرضاء أربابها لأنه مبني على المشاححة، فقد لا تسمح نفسه بعفوها، فالأولى تكفرها التوبة فقط، والثانية التوبة وتأدية الحقوق، والمقاصصة أو العفو، والتي فيها حق الله حق العبد فيلزم لها كلا الشرطين، راجع الآية 27 من سورة الشورى المارة تعلم تفصيل هذا، على أن الله تعالى إذا أراد خيرا بأمثال هؤلاء فإنه يرضي خصومهم ويدخلهم الجنة جميعا، قال ابن عباس وابن أبي ليلى إن الجن كالإنس يثابون على الإحسان ويعاقبون على الإساءة ويدخلون الجنة والنار بسبب أعمالهم، ونراهم في الآخرة من حيث لا يروننا عكس حالتهم في الدنيا كما ذكرناه في الآية 27 من سورة الأعراف في ج 1، وهذا أصح الأقوال في الجن يؤيده قوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) الآية 56 من سورة الرحمن في ج 3، قال هذا حمزة بن حبيب، وقال عمر بن عبد العزيز يكونون في رحاب الجنة وربضها أي فنائها، ثم هددوا قومهم فقالوا لهم «وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ» فإنه يخذله ويأخذه أخذا قويا «فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ» لأنه في قبضة ذلك الإله العظيم الذي لا يفوته فائت ولا يهرب من جزائه هارب سواء دخل في أعماق الأرض أو طار في أقطار السماء أو غاص في أعماق البحور، ولهذا البحث صلة في الآية 33 من سورة الرحمن في ج 3 فراجعه «وَلَيْسَ لَهُ» لهذا الذي لا يجيب داعي الله من «مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ» يمنعون وصول العذاب إليه أو ينصرونه منه «أُولئِكَ» الذين لا يجيبون داعي الله الآبون عن الإيمان به «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 32 ظاهر معرضين عن سلوك الطريق القويم. وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة واضحة على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم إلى الجن، وعلى أن الجن هم رسله إلى قومهم كرسل سيدنا عيسى عليه السلام، كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة سبأ وفيها ما يرشدك إلى الآية 158 من سورة الصافات والآية 128 من سورة الأنعام المارات فيما يتعلق بهذا وغيره فراجعها تجد ما تريده إن شاء الله. أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن الحبر أنه قال:

صرفت الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرتين. وقد نقلنا في القصة على ما ذكره الخفاجي أن الأحاديث دلت على أن وفادة الجن كانت ستة مرات، وبذلك يجمع بين الاختلاف الوارد في الروايات بأن كان عددهم سبعة، وقيل تسعة، وقيل اثنى عشر، وقيل ثلاثمائة، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم اثنا عشر ألفا، وعن مجاهد أنهم واحد وأربعون، وهذا الاختلاف في العدد أيضا يدل على أن لقاءهم بحضرة الرسول كان ست مرات وكل راو روى عددا مما ذكر، وكما وقع الاختلاف في الوفادة والعدد والمكان وقع الاختلاف في الزمن، وقدمنا أيضا ما يتعلق فيه أول سورة الجن، وإلى هنا انتهى ما يتعلق بالجن، أما تاريخه فقد أخرج أبو نعيم في الدلائل والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة أي كان أول اجتماعهم به. هذا والله أعلم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا» قومك يا محمد «أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ» يعجز ويتعب أو يتحيّر وحاشاه من هذا كله «بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» مرة ثانية كما خلقهم أول مرة قل يا أكرم الرسل «بَلى» هو قادر على ذلك وهو أهون عليه، لأن الإبداع وهو اختراع ما لم يكن أعظم من الإعادة لأن لها مثالا وهو على غير مثال «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 33 وإحياء الموتى شيء مقدور لله، فينتج إحياء الموتى مقدور لله، وذلك أن قوله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) تشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول كما ذكرنا، ويلزم منها أنه تعالى قادر على إحياء الموتى كما أنشأهم أول مرة. واعلم أن ما قرأه بعضهم بدل قدير (يقدر) لا يلتفت إليه ولا تجوز هذه القراءة كما مر في الآية 58 من سورة الأنعام، ولبحث القراءة صلة في الآية 11 من سورة الحج في ج 3. قال تعالى «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من منكري البعث وغيرهم «عَلَى النَّارِ» يوم القيامة يقال لهم «أَلَيْسَ هذا» الذي تشاهدونه من الإحياء بعد الموت والعذاب الذي أوعدكم به الرسل في الدنيا «بِالْحَقِّ» والصدق كما أخبروكم به «قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ» تعالى «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» 34 بذلك وتجحدونه. وهذه الآية الثالثة المدنية كما قال صاحب البحر

عن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم وقد التفت بها جل جلاله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم يسليه بها عما هاجمه به قومه فقال عز قوله «فَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ» ذوو الثبات والجد والحزم «مِنَ الرُّسُلِ» قبلك وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وهو خاتمهم، راجع الآية 13 من سورة الشورى المارة والآية 7 من سورة الأحزاب في ج 3، وهذا أصح الأقوال في عددهم، وقال بعض العلماء إن الرسل كلهم أولوا عزم، لأنهم امتحنوا وصبروا عدا من استثنى الله بقوله في حق آدم (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) الآية 115 من سورة طه. وفي حق يونس بقوله (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) الآية 48 من سورة القلم المارتين في ج 1، وقال آخرون هم الثمانية المذكورون في الآيتين 85/ 86 من سورة الأنعام المارة، وعلله بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الآية 97 منها وقال غيرهم أنهم تسعة: نوح لصبره زمنا طويلا على أمته، وإبراهيم لصبره على الإلقاء بالنار، وإسماعيل لصبره وتسليم نفسه للذبح، ويعقوب على فقد ولده، ويوسف على البئر والسجن والمرأة، وأيوب على البلاء العظيم الذي ابتلي به، وموسى على قومه، وداود لبكائه على خطيئته أربعين سنة، وعيسى على الزهد في الدنيا، وهذا القول ضعيف لعدم ذكره خاتم الرسل الذي امتحن بأكثر منهم وصبر على أذى قومه مع قدرته عليهم بتقدير الله إياه على الانتقام منهم، والقول الأول هو الصحيح، وقد نظمهم بعض الأجلة بقوله: أولو العزم نوح والخليل الممجد ... وعيسى وموسى والحبيب محمد أي اصبر يا محمد على دعوة الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» نزول العذاب الذي وعدناك به ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم وأنهم مهما مكثوا في هذه الدنيا لا يعد شيئا بالنسبة لطول الآخرة «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ» من العذاب وأهوال القيامة «لَمْ يَلْبَثُوا» في الدنيا «إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» لأنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا لما يرون من أهوال القيامة وطولها حتى يظنونه ساعة واحدة. واعلم يا سيد الرسل أن هذا القرآن الموحى إليك وما فيه من الآيات البينات «بَلاغٌ» كاف من الموعظة وان

تفسير سورة الذاريات عدد 17 - 67 - 51

فيه العبرة لمن له قلب واع وسمع سامع وبصر ناظر وفكر ثاقب وتدبر واسع، أما من ليس له شيء من ذلك فهو عات فاسق، ولهذا يقول الله تعالى «فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» 35 الخارجون عن طاعة الله الذين لا يتعظون بالإنذار والوعيد. ولا يوجد سورة مختومة بمثل هذه اللفظة ولا مثلها في عدد الآي. قال قوم من القوم ما في الرجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية، أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا إله الا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم، بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحكيم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا ساعة أو ضحاها، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون. اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى أتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الذاريات عدد 17- 67- 51 نزلت بمكة بعد سورة الأحقاف وهي ستون آية، وثلاثمئة وستون كلمة، وألف ومئتان وتسعة وثلاثون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً» 1 الرياح التي تذر التراب وغيره فتفرقة وتبدده تشبيها بتذرية الهشيم لاجتماع التفرق في كل «فَالْحامِلاتِ وِقْراً» 2 السحب التي تحمل المياه حملا ثقيلا «فَالْجارِياتِ

[سورة الذاريات (51) : الآيات 11 إلى 20]

يُسْراً» 3 الفلك التي تجريها الرياح على الماء بسهولة وتؤده، كما يشعر به قوله يسرا، ويراد بها السفن ذات الشراع «فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» 4 الرياح التي تقسم الأمطار وتفرق السحب إلى حيث يشاء الله وبالمقدار الذي يعلمه الكائن بأمره، لا دخل ولا تأثير لها ولا لغيرها بشيء منه. هذا، وقد أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لعظم منافعها وجواب القسم قوله «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» حق لا خلف فيه فكل ما أخبركم به الرسول من البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار صدق لا مرية فيه «وَإِنَّ الدِّينَ» الجزاء على الأعمال وغيرها حسنها وسيئها والحساب عليها «لَواقِعٌ» 6 حتما والوعد به منجز حقا ثم أكد قسمه بقسم آخر فقال «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» 7 البناء المتقن الرصين الذي لا تفاوت فيه المستوي الحسن البديع الخلق، المزيّن بالنجوم البديعة وقيل الطرق، قال زهير: مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح فريق لضاحي مائه حبك جمع حبكة كطريقة يقال حبك الماء للتكسّر الجاري فيه إذا ضربته الريح، ويؤيد الأول قوله تعالى في الآية 47 الآتية (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) والآية 5 من سورة والشمس (وَالسَّماءِ وَما بَناها) في ج 1، وقوله (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) الآية 27 من النازعات الآتية وأقسم تعالى بها لحسن خلقها وجواب القسم قوله «إِنَّكُمْ» يا أهل مكة ويا أيها الناس أجمع «لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» 8 فيما أنزلناه على رسولنا فمنكم من يقول ساحر ومنكم من يقول كاهن ومن يقول شاعر ومن يقول أساطير الأولين في حق القرآن وكهانة وسحر أيضا، ومنكم من يقول افتراه من نفسه وتعلمه من الغير، ومنهم من يقول لو نشاء لقلنا مثل هذا «يُؤْفَكُ» يصرف «عَنْهُ» عن الإيمان به «مَنْ أُفِكَ» 9 من صرفه الله عن خيره وحرمه من هداه ومنعه من رشده بسبب اختلاق هذه الأكاذيب «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ» 10 الكذابون المبهتون «الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ» غفلة وجهالة وعمى «ساهُونَ» 11 عن التعرض لنفحات نور القرآن لاهون عن التفكر في معناه معرضون عن الإيمان به لشدة انهماكهم في زخارف الدنيا وتوغلهم في شهواتها «يَسْئَلُونَ» سؤال سخرية واستهزاء «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» 12 الذي تذكره لنا يا محمد، كأنهم أعماهم الله

مطلب قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات والتهجد وآيات الله في سمائه وأرضه:

يريدون أن يريهم إياه عيانا، فقل لهم يا سيد الرسل يرون اليوم الذي يسألون عنه «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» 13 يحرقون فيها، يقال فتنت الشيء أحرقته وأزلت خبثه لتطهر خلاصته، وسيعرفونه حقا يوم تقول لهم خزنة جهنم «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» عذابكم المعد لكم الذي هو نتيجة كفركم بالرسل ومرسلهم والكتب والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار ونمرة جحودكم بذلك التي اقتطفتموها بأيديكم الأثيمة ويقال لهم أيضا «هذَا» الإحراق والتعذيب هو «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» 14 وتسألون عنه في الدنيا «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» في ذلك اليوم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 15 جارية بينها «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الكرامة وحسن القبول لأن الأخذ قبول عن قصد «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ» في حالة الدنيا قبل دخولهم الجنة «مُحْسِنِينَ» 16 في أعمالهم ومعاملاتهم مع أنفسهم وغيرهم. مطلب قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات والتهجد وآيات الله في سمائه وأرضه: ثم وصف معاملتهم معه جل جلاله بقوله «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» 17 لأنهم يؤثرون عبادة الله على النوم فيستغرقون أكثره بالصلاة والذكر «وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» 18 ربهم عن تقصيرهم بالنهار أيضا لأنهم عرفوا أنهم مهما عبدوه لا يؤدون بعض شكره، على حد قول الشيخ بشير الغزي دفين حلب رحمه الله: لو أن كل الكائنات السنه ... تثني علي علاه طول الأزمنه لم تقدر الرحمن حق قدره ... ولم تؤد موجبات شكره إلخ ما جاء في أرجوزته في نظم الشمسية في علم المنطق، وهؤلاء الكرام دعموا إيمانهم بالعمل الصالح الجثماني والمالي أيضا، يفيده قوله عز قوله «وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ» منها معلوم لديهم يعطونه «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» 19 الذي ليس عنده شيء ولا يجري عليه شيء من الزكاة المفروضة ومن صدقة الفطر والتطوع، إذ يجوز فيها انفاق ما زاد على الحاجة كما في الآية 22 من سورة البقرة في ج 3 المنبه عن إنفاق الفضل عن الحاجة، وهذا الإنفاق رغبة وعن طيب نفس طلبا لما عند الله من الثواب، لأن الأعمال الصالحة ثلاثة: مالي فقط وهو الزكاة، وجثماني فقط وهو الصلاة والذكر، ومالي وجثماني وهو الحج. والمحروم هنا يراد به والله أعلم

المتعفف الذي لا يسال بدليل قرنه بالسائل، ولهذا نبه الله عليه، لأن الناس غالبا لا يعطون إلا من يسأل ولا يكادون يعطون المتعفف لظنهم أنه مكتف، ولكن الله تعالى ذمّ الذين لا يعرفونهم إذ يجب على الأغنياء تفقد أمثالهم لأن التصدق عليهم أفضل منها على غيرهم، وقد جاء بالخبر: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم، قال تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ... لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) الآية 271 من البقرة في ج 3 فقد جعل جل شأنه الذين لا يتفقدون المتعففين جهلاء ليتقضوا لذلك ويرفعوا عنهم وصمة الجهل وليتعظ الذين يريدون وجه الله في صدقاتهم، وإنما خص الأسحار بالاستغفار لأنها في ثلث الليل الأخير وهو وقت مبارك فيه يطلع الله تعالى على عباده وهو وقت غفلة أكثر الناس، ولهذا فإن العارفين سارعوا إلى التهجد فيه، لأنهم يعرفون ما فيه، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟. ولمسلم قال: فيقول أنا الملك أنا الملك، وذكر الحديثين، وفيه حتى يضيء الفجر، وزاد في رواية من يقرضني غير عديم ولا ظلوم؟ يريد نفسه تقدست وعلت. فمالكم أيها الناس معرضون عن التعرض لهذه النفحات القدسية والرحمات الرحمونية، فهلموا إليها اغتنموها ولا تضيعوا أوقاتكم سدى وتهملوا أنفسكم فيفوتكم هذا الخير في هذا الوقت فهو مظنة القبول، والإجابة إذا صحت النية وخلصت من الأهواء وكانت الرغبة إلى الله متوفرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله

[سورة الذاريات (51) : الآيات 21 إلى 30]

إلا أنت لا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من تعارّ في الليل (يقال تعار الرجل من ذنوبه إذا انتبه وله صوت) فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال اللهم اغفر لي أو قال دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته. ولهذا جعلت صلاة الليل من السنن المؤكدة لما فيها من الثواب العظيم في الدنيا بتنوير القلب وتطهيره، وبالآخرة بالفوز في جنات النعيم. واعلم أن المراد من هذا الحق حق الزكاة المفروضة لأن هذه الآية جاءت بمعرض الإخبار عن أوصاف المتقين فلا يقصد منها الإنشاء فيقال إن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وسبق أن ذكرنا غير مرة بأن الزكاة لا على قدر المفروض بالمدينة، كانت متعارفة قديما قبل الإسلام وبعده، راجع الآية 7 من سورة فصلت المارة، وكذلك الصلاة كانت متعارفة إذ لم تخل أمة منهما، إلا أن القدر والهيئة لم يكونا على ما نفعله الآن، وان الله تعالى لم يبين في كتابه ذلك وإنما أبانه حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم أما الأصل فقد تعبد الله به الأمم كافة بواسطة رسله، قال تعالى «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ» واضحات عظيمات الدلائل على وجود الإله القادر وحكمته البالغة وتدبيره الباهر لما فيها من الجبال والأودية والأنهار والعيون والبحار والمسالك والفجاج والطرق للسائرين فيها، فمنها السهل والوعر والصعب والرخو والرملة والعذبة والسبخة والمعادن المتنوعة والدواب المنبئة المختلفة في الصورة والشكل واللون والكبر والصغر، فمنها الطيب والخبيث، والمفترس والهادئ، والنفور والألوف، وفيها أنواع النبات والأشجار المثمرة وغيرها، المتباينة في الجنس والنوع والفصل والضر والنفع والطعم والرائحة وغير ذلك «لِلْمُوقِنِينَ» 20 بالله المصدقين بكتبه ورسله واليوم الآخر المستدلين بها على مبدعها، الآخذين العظات والعبر من كيفياتها وكمياتها وماهيتها. «وَفِي أَنْفُسِكُمْ» أيها الناس آيات جليلة وعظيمة وعظات كبيرة «أَفَلا تُبْصِرُونَ» 21 إبصار ناظر مدقق ونظر مبصر محقق يستعين بعين بصره على عين بصيرته فيتعظ بما

مطلب في الرزق وأنواعه وحكاية الأصمعي، وفي ضيف إبراهيم عليه السلام:

انطوى عليه جسمه من البراهين الدالة على الخالق إذ ليس في العالم من شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير، وذلك مثل انفراده في هذه الهيئة النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة، والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنايع المختلفة، واستجماع الكمالات المتنوعة، واحتياره على سائر الحيوانات بالنطق واعتدال القامة، وكما أن الإختلاف في الأرض والمياه والحيوان والطير والحوت والحشرات فكذلك هو الإنسان، فمنه الأسود ومنه الأحمر والأبيض والأصفر وما بين ذلك، ومنه الاختلاف في المأكل والمشرب والملبس والمنام، ومنه اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، فمنها ما هو من أصل واحد، ومنها ما هو من أصول متنوعة، ومنها ما هو موافق للحيوان بسبيل الطعام ومجرى الشراب ومخرجهما، وقد بيّنا مراتب خلق الإنسان في الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن، فراجعهما واعتبر وتيقظ. ويكفي على عظمة الخالق وكمال قدرته خلق أصلك من تراب وأنت من نطفة فعلقة فمضغة فلحم ودم وعظم، ثم روح وحركة وكلام وسمع وبصر وعقل وشباب وكهولة وشيخوخة وهرم، وكذلك في الغذاء فمنه موافق لغذاء الحيوان كالحضروات والحبوب واللحم، ومنها ما هو مباين كالتبن والشوك والحشيش وغيره. واعلم أن الله تعالى جمع في الإنسان ما لم يجمعه في الحيوان، لأن الحيوان الذي يأكل اللحم لا يأكل النبات والذي يأكل النبات لا يأكل اللحم غالبا، والإنسان يأكلهما معا، وجمع فيه ما لم يجمعه في الملائكة، ولا في الحيوان، لأن الملك له عقل بلا شهوة، والحيوان له شهوة بلا عقل، والإنسان جامع لهما، فسبحان من أودع في كل خلقه عظات لا تحصى وعبرا لا تستقصى، ولله در القائل: دواؤك منك ولا تشعر ... وداؤك فيك ولا تبصر وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر مطلب في الرزق وأنواعه وحكاية الأصمعي، وفي ضيف إبراهيم عليه السلام: قال تعالى «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» 22 به مقدر عند الله تعالى على تعاطي الأسباب، فقد يكون عفوا وبتسخير الغير، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 2/ 3 من سورة الطلاق

في ج 3، راجع هذا البحث في تفسيرها وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي تجد ما لا يخطر يبالك. واعلموا أيها الناس أن ما قدر لكم لا حق بكم لا محالة وإن أعرضتم عنه، أما غير المقدر فلو طلبتموه بجميع أسباب السعي فلن تدركوه، فدع أيها العاقل همك واهتمامك فيه: الذي إليك حاصل لديك ... والذي لغيرك لم يصل إليك ومن الرزق ما هو مقسوم، قال تعالى (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) الآية 32 من سورة الزخرف المارة، ومنه ما هو مضمون وهو ما به قوام البنية لأن الله قدره له عند خلقه، ويطلق الرزق على المطر لأنه سببه من إطلاق السبب وإرادة المسبب عنه، ولأنه نفسه رزق، لأن الماء من أعظم الأرزاق وأنفعها، راجع الآية 13 من سورة المؤمن والآية 5 من سورة الجاثية المارتين، وكذلك فإن ما أودعه الله فيها من الزّين والكواكب والمطالع والمغارب التي ينشأ عنها اختلاف الفصول من مبادئ الرزق أيضا، والعلم بسيرها ومنازلها وبروجها وما أودعه الله فيها من التأثير لنضج الأثمار والحبوب وتلوينها وطعمها والشفاء من الأمراض والعاهات رزق أيضا، فكل ما توعدون به أيها الناس في الدنيا والآخرة من خير وشر ونفع وخسر رزق أيضا، فابتغوا عند الله الرزق، وخذوا من كل شيء أحسنه لتفوزوا وتنجوا. قال تعالى مقسما بذاته العالية «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ» إن كل ما توعدون به على لسان رسلكم «لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» 23 وهنا جواب القسم الثالث العظيم من لدن حضرة الرب العظيم، أي فكما كل إنسان ينطق بلسانه ولا يتمكن من النطق بلسان غيره فكذلك يأتيه رزقه الذي قسم وقدر له في الدنيا ولا يقدر أن يأكل رزقه غيره، وان ما وعده به رسوله في الآخرة من البعث والحساب والعقاب والثواب واقع لا ريب فيه، كما أنه لا شك لكم في نطقكم، فلا تظنوا خلافه، وهذا من قبيل ضرب المثل كقولك (إن هذا الأمر كما ترى وتسمع) أي كما أنك لا تشك أنك ترى وتسمع فلا تشك في هذا الأمر. قال الأصمعي أقبلت من جامع البصرة، فطلع علي أعرابي على قعود، فقال ممن الرجل؟ فقلت من بني أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من

موقع يتلى فيه كتاب الله، قال أتل على شيئا منه، فتلوت (وَالذَّارِياتِ) إلى قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) الآية، قال حسبك، فقام على قعوده ونحره ووزع لحمه على من أقبل وأدبر، وعمد إلى قوسه وسيفه فكسرهما وولى. وقد عجبنا جميعا من حاله وفعله وإدباره، ثم بعد سنين حججت مع الرشيد وطفقت أطوف البيت، وإذا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي، وإذا قد نحل جسمه واصفر لونه، فسلم علي واستقرأني السورة، فقرأتها حتى بلغت الآية، فصاح وقال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال وهل غير ذلك؟ قلت بلى، قال زدني، فقرأت (فَوَ رَبِّ السَّماءِ) الآية، فصاح وقال يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل الجبار حتى خلف، ألم يصدقوه حتى حلف؟ وكرر هذه الجملة ثلاثا وخرجت معها نفسه. رحمه الله رحمة واسعة ورزقنا التصديق بآيات الله تعالى على ما يريده. ثم شرع يقص لحبيبه ما وقع لجده، وهذه القصة ولو أن فيها بعض ما قصه سابقا إلا أن القصص المكررة كل واحدة منها فيها ما لم يكن في غيرها ولنفي بالمقصود، وهذا من بلاغة القرآن العظيم وفوائد التكرار: قالوا لمسلم فضل ... قلت البخاري أولى قالوا البخاري مكرر ... قلت المكرر أحلى فقال تعالى قوله يا سيد الرسل «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» 24 وصفهم بالكرم لأنهم ملائكة كرام عليه أو لأن إبراهيم الكريم أكرمهم أو لأنهم ضيوفه وهو مكرم على الله، ولفظ ضيف يطلق على الواحد والجمع ولذلك جاء وصفه جمعا كالصوم والزور، قيل كانوا تسعة عاشرهم جبريل عليه السلام، راجع قصتهم في الآية 69 من سورة هود المارة. واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً» عليك يا إبراهيم يا خليل الرحمن «قالَ سَلامٌ» ثم سكت وصار يتملأ بهم ويتعجب من حالتهم إذ دخلوا عليه بلا استئذان، ورأى أن عملهم هذا منكر، فقال أنتم «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» 25 لأن دخلو لكم قبل أن نأذن لكم وقبل أن تستأذنوا عندنا منكر، ولم يجر في عرفنا وأنتم غرباء عن هذه البلاد ولا معرفة لنا بكم، فكيف تجاسرتم على هذا، أولا تعرفون أن عوائدنا هنا عدم

جواز الدخول إلا برخصة من صاحب البيت، أنبهم عليه السلام من جهة عدم مراعاتهم العوائد المتعارفة، ولكنه عذرهم بكونهم غرباء عن بلاده، ولأنهم سكتوا ولم يردوا عليه بشيء بما استدل به على أنهم عرفوا تقصيرهم، لأنه لم يشك بهم أنهم غير بشر لمجيئهم بصفة البشر ولم يسألهم عن هويتهم وهم لم يذكروا له شيئا «فَراغَ إِلى أَهْلِهِ» ذهب بانسلال حتى لا يحسوا به أنه ذهب ليحضر لهم قراهم وهكذا عادة الكرام إذا نزل بهم الضيف ينسلون من أمامه ليهيئوا له قراه من حيث لا يشعر ولئلا يمنعوه من ذلك، فأسرع وذبح وطهى، كما يدل عليه قوله «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» 26 مشوي لقوله في الآية 69 من سورة هود المارة (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) والقرآن يفسر بعضه، فحمل عليه كما يحمل المقيد على المطلق، راجع الآية 45 من سورة الأنعام المارة «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ» زيادة في إكرامهم لأنه لم يدعهم إليه بل وضعه أمامهم، وهذا من آداب الضيافة التي شرحناها في الآية المذكورة من سورة هود المارة، فرآهم لم يأكلوا «قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» 27 بلين ولطف كما تدل عليه أداة الطلب الخاصة بالرفق والاحترام، لأنه أراد تلافي ما بدر منه عند دخولهم، ولا سيما أنهم لم يجادلوه، فلم يترك شيئا من آداب الضيافة قولا وفعلا إلا فعله معهم، ولما رآهم لم يجيبوا دعوته ولم يمدوا أيديهم لأكله وهو من خير ما يقدم للضيف خشي منهم ووجل وساوره الخوف، لأنه أنبهم ولم يعرفهم وأصروا على عدم الأكل «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» لأن عدم الأكل يدل على سوء الظن، وهو أمارة على الضغائن، وهذه عادة معروفة عندهم ولا تزال حتى الآن فصار يدخل ويخرج فلما أحسوا به أنه قلق من عدم أكلهم ووقع في قلبه الرهبة منهم وهم جماعة وهو واحد «قالُوا لا تَخَفْ» وأخبروه بأنهم ملائكة الله «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» 28 كثير العلم «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ» لما سمعت قولهم هذا «فِي صَرَّةٍ» صيحة مأخوذة من صرير القلم والباب والهودج والرحل، أي صارت تولول كعادة النساء إذا سمعن شيئا، وصرتها هذه هي قولها في آية هود المارة (يا وَيْلَتى) وقيل الصرة الجماعة المنضمين لبعضهم، كأنها جاءت مع نسوة ينظرن الملائكة الكرام «فَصَكَّتْ وَجْهَها» عند سماعها تلك البشارة،

[سورة الذاريات (51) : الآيات 31 إلى 40]

أي ضربت يديها على وجهها تعجبا، وهذه أيضا من عادتهن عند ما يسمعن ما ينكرنه «وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» 29 لم تلد قط فكيف بعد هرمها وهي مع عقمها عجوز «قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ» وقضى أن تلدي ولدا مع كبرك وعقمك هذا «إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ» فيما يفعل والحكيم لا يصعب عليه ما يريده «الْعَلِيمُ» 30 فيما أنت عليه من العقم والكبر وهرم زوجك أيضا وسائر مخلوقاته، وختمت آية هود 73 المارة بقوله (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) لأن الحكاية هناك أبسط منها هنا، فذكروا ما يدفع الاستبعاد بقوله (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ولما صدقت أرشدت إلى القيا بشكر الله وذكر نعمته بقولهم (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وهنا لم يقولوا (أَتَعْجَبِينَ) فتبهوها إلى ما يدفع تعجبها بقولهم (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ومن كان حكيما عليما لا يقال له كيف عمل ولم عمل، تدبر. هذا واعلم أنه عليه السلام لما عرفهم ملائكة وهو يعلم أنهم لا يأتون إلا لمهمّة، خاطبهم بقوله كما حكى الله عنه «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ» 31 فما شأنكم بعد هذه البشارة لأنه عرف أن الأمر ليس مقصورا عليها ولا بد من أمر عظيم جاءوا لتنفيذه «قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» 32 متوغلين بالإجرام القبيحة وهم قوم لوط، قال وما تفعلون بهم قالوا «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ» 33 مرسلة «مُسَوَّمَةً» من سوّمت الماشية إذا أرسلتها في المرعى أو معلّمة بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا بل هي «عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ» 34 بحقوق الله المتجاوزين ما سنه لهم نبيّهم ولم يقنعوا بما أبيح لهم، فجادلهم إبراهيم بذلك كما سيأتي في الآية 33 من العنكبوت الآية، ولد مر منه في الآية 73 من سورة هود المارة فأعلموه أنه لا مناص من إهلاكهم وتركوه وتوجهوا إلى قرى قوم لوط فلما وصلوها، قال تعالى «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» 35 بلوط عليه السلام قالوا «فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» 36 أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن أهل البيت لوط وابنتاه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنهم كانوا ثلاثة عشر واستدل في هذه الآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي، أي لم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد، وإلا لم يستقم الكلام، فإن الإيمان والإسلام

[سورة الذاريات (51) : الآيات 41 إلى 50]

صادق على الأمر الواحد كالناطق والإنسان، أما على الاتحاد المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، وإنما خصهم بالإيمان أولا لأنه أهم من الإسلام إذ لا يكون مؤمن إلا وهو مسلم، لأن الإسلام أعم من الإيمان، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، وقد يكون مسلما لا مؤمنا، قال تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الآية 14 من سورة الحجرات ج 3، لأن الإسلام مطلق الانقياد بخلاف الإيمان، تدبر. وسيأتي تمام هذا البحث في تفسير الآية المذكورة آنفا «وَتَرَكْنا فِيها آيَةً» علامة من آثارهم ظاهرة «لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ» 37 ليستدل بها على تدميرهم وإهلاكهم من يأتي بعدهم، فيمتنعون عما يوجب إيقاع مثله فيهم، قال تعالى «وَفِي مُوسى» تركنا في أراضي القبط الذين كذبوه آية أيضا ليعتبر من خلفهم بهم فيرتدعوا عن معاصي الله «إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ» ملك مصر «بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 38 برهان ظاهر وحجة قاطعة ودليل ساطع كاليد والعصا والآيات المبينة في الآية 130 من سورة الأعراف في ج 1، «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» أعرض الخبيث عنه بجنبه وهو أشد من الإعراض بالوجه وأكثر احتقارا وأعظم أنفة واستكبارا عنه، أو مع ركنه الذي يتقوى به من ملائه ووزرائه وجنوده، والأول أولى «وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» 39 فلا نطيعه ولا نركن إليه، وبعد أن أظهر لهم جميع تلك الآيات وقابلوه بالإصرار على الكفرَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ» هو وقومهَ هُوَ مُلِيمٌ» 40 حالة إتيانه بما يلام عليه من الكفر والعناد، راجع تفصيل هذه القصة في الآية 63 من الشعراء في ج 1، قال تعالى «وَفِي عادٍ» تركنا أيضا أثارا وعبرا لما كذبوا نبيهم هودا عليه السلام «إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ» 41 التي لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ولا خير فيها ولا بركة إذ هي المستأصلة المهلكة لجميع من أرسلت عليهم دون أن تترك منهم أحدا، قال تعالى في وصفها «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» 41 القش المكسر البالي المفتت وهو كل يابس دريس من نبات الأرض، راجع قصتهم في الآية 72 من سورة الأعراف المذكورة وفي الآية 58 من سورة هود المارة، «وَفِي ثَمُودَ» تركنا

عبرا ومتعظا عند ما كذبوا نبيهم صالحا «إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ» 43 انقضاء الأجل المضروب لنزول العذاب فيكم وهو ثلاثة أيام بعد عقر الناقة «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ» تكبرا وتجبرا عن طاعته وطاعة رسوله «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» 44 راجع قصتهم في الآية 39 من سورة الأعراف في ج 1، «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» من عليهم عند مشاهدتهم نزول العذاب ولا من قعود إذ هلك القائم قائما والقاعد قاعدا «وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» 45 إذ لا دافع لعذاب الله، ولا مانع منه، ولا رافع له، ولا قوة لأحد على مقابلته «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ» هؤلاء الأمم المهلكة أهلكناهم غرقا لأنهم كذبوا نبيهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» 46 خارجين عن الطاعة، راجع قصتهم في الآية 39 من سورة هود المارة. هذا، وبعد أن قص الله على نبيه أخبار هؤلاء المهلكين بصورة مجملة بعد أن قصها عليه بالسورة المذكورة مفصلة من باب ذكر المجمل بعد المفصل أحد أنواع علم البديع المستحسنة وذكر ما يتعلق بالحشر والنشر، شرع يذكر له أفعاله العظيمة فيما يتعلق بالتوحيد والوحدانية ويؤدى إليهما مما هو نعمة للإنسان والحيوان، فقال جل قوله «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ» بقوة وقدرة خارجة عن طوق المخلوقين وخارقة للعادة، وما قيل إنه جمع يد تضعيف وليس هنا استعمال المجاز مكان الحقيقة لأن الأيدي معناها الحقيقي القوة، قال تعالى في وصف أنبيائه (أُولِي الْأَيْدِي) الآية 45، وقال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) الآية 17 من سورة ص ج 1، إذ لايراد بها الجارحة البتة، وبناؤها شيء عظيم خارج عن تصور البشر وإحاطته دال على عظمة منشئه القائل «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» 47 بناءها بحيث تكون الأرض بالنسبة لها كحلقة ملقاة في فلاة، وهذا من معجزات القرآن لأنه قبل اكتشاف النجوم ذوات الأذناب الطويلة بالآلات الرصدية ما كان أحد يعلم إن الفضاء واسع لا نهاية له مدركة، حتى انه وسع تلك الكواكب التي تحتاج إلى محيط لا يحده عقل البشر، والآيات الدالة على أن السماء مبنيّة كثيرة منها ما ذكرناه آنفا في تفسير الآية 7 المارة، ومنها ما جاء في الآية 32 من سورة البقرة في ج 3، وفي الآية 12 من سورة النبأ الآتية وغيرها «وَالْأَرْضَ فَرَشْناها»

[سورة الذاريات (51) : الآيات 51 إلى 60]

بسطناها ومددناها «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» 48 نحن الإله الكبير العظيم، وهذه الآية لا تنافي كرويتها، لأن كل قسم منها بالنسبة لمن هو عليه مفروش ممهد، وفي قوله تعالى (مَدَدْناها) في الآية 19 من سورة الحجر المارة معجزة أخرى، إذ لا يعلم أحد في عهد نزول القرآن أنها ذات طول غير الله تعالى، راجع الآية 15 من سورة الحجر المذكورة «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ» صنفين اثنين ذكر وأنثى، حقيقة ومجازا مادة ومعنى «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 49 صنع الله فالسماء والأرض زوجان، وكذلك الشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والحر والبرد، والصيف والشتاء، والخريف والربيع، والنور والظلمة، والحلو والحامض، والمالح والباهت، والإنس والجن، والذكر والأنثى من الحيوان والنبات، والوحش والطير، والحوت والحشرات، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والسعادة والشقاوة وغيرها، أفلا توجب الذكرى أيها الناس فتستدلوا بها على مبدعها وتؤمنوا به وتصدقوا رسله وكتبه «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» اهربوا من عذابه طلبا لثوابه ومن معصيته إلى طاعته بالإذعان لأوامره ونواهيه والانقياد لما يرضى بكليتكم «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» 50 لما جئتكم به من الحجج القاطعة والأدلة القوية والبراهين الساطعة والأمارات الظاهرة «وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» تشركونه بعبادته وتسمونه إلها زورا وإفكا، لأنه لا شريك له ولا وزير، فاحذروا هذا كل الحذر «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» 51 كرر جل جلاله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم الشطر الأخير من هذه الآية عند النهي عن الشرك، لأن الأولى عند الأمر بالطاعة إعلاما بأن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، والغرض من ذلك زيادة الحث على التوحيد والمبالغة في الفصيحة. قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما كذبك قومك ووضعوك بما لا يليق، فإنه «ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا» فيه قومه مثل ما قاله قومك فيك «ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» 52 وهذا من قبيل التسلية له صلّى الله عليه وسلم من ربه عز وجل ليوطن نفسه الكريمة على تحمل الأذى والطعن فيه، أسوة بإخوانه الأنبياء، ولهذا قال تعالى مقرعا لهم وموبخا

صنيعهم معه بقوله عز قوله «أَتَواصَوْا بِهِ» أي هل وصى بعضهم بعضا بهذه الألفاظ الدالة على التكذيب والإهانة للرسل حتى تناقلوها جيلا بعد جيل، كلا «بَلْ هُمْ» أنفسهم «قَوْمٌ طاغُونَ» 53 حملهم بغيهم على ذلك وتشابهت قلوبهم فوقرت وملئت من كراهية الحق فنطقت بتلك الألفاظ كما تكلم بها أسلافهم لا أنهم تواصوا بها، لأنه إذا توجد التواصي من القوم بعضهم لبعض كقوم نوح عليه السلام إذ طال أمده فيهم فصاروا يوصي بعضهم بعضا بعدم طاعته لأنه ساحر إلخ، فلا يوجد من الأقوام الماضية لغيرهم، إذ أن عذاب الاستئصال الذي أوقعه بهم يحول دون ذلك، لعدم بقاء من ينقل ما وقع منهم، ولهذا جاء القول علي طريق الاستفهام الإنكاري والتعجب من اتفاقهم على كلمات: ساحر كاهن مجنون مختلق شاعر متعلم وغيرها، والأشنع من هذا توغلهم كلهم بالطغيان على أنفسهم وغيرهم وخاصة الأنبياء، ومن كان كذلك لا جرم يصدر منه كل قبيح، وإذ كان قومك يا سيد الرسل من هذا القبيل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» واتركهم ولا يهمنك شأنهم «فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» 54 على عدم إيمانهم، لأنك بلغت وأنذرت وبذلت جهدك في نصحهم، فما عليك أن لا يؤمنوا، فحزن صلّى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية وظن أصحابه أن الوحي انتهى وأن العذاب قرب أو ان نزوله، فأنزل بعدها «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» 55 الذين هم في علم الله تعالى أنهم يؤمنون، فيؤمنون وتزيد المؤمنين إيمانا، فسري عنه صلّى الله عليه وسلم وابتهج أصحابه، وفرحوا بذلك وقرت أعينهم وطابت نفوسهم وقوي أمله صلّى الله عليه وسلم، وصار يبالغ في إرشادهم ونصحهم وتذكيرهم. قال تعالى «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» 56 ويوحدوني ويعرفوني أني ربهم وخالقهم ومحييهم ومميتهم «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ» يرزقونه أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم أيضا، لأني أنا الكفيل بأرزاق الخلق كلهم «وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» 57 أسند جل شأنه الإطعام لذاته الكريمة، والمراد عياله الفقراء، لأن من أطعمهم لأجله فكأنما أطعمه، وإلا فهو المنزه عن الطعام والشراب، وكل ما هو من صفات المخلوقين وحوائجهم. والآية تبين أن شأنه جل شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، لأنهم

يملكونهم للاستفادة منهم، والله مالكهم ليعبدوه لأنه خلقهم لعبادته فقط وليعلموا استحقاقه العبادة ويعملوا بما يوصلهم إليه، وقد صح في حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت لو أنك عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن فلانا استطعمك فلم تطعمه، أما علمت لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقي، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه، أما علمت لو أنك أسقيته لوجدت ذلك عندي. أخرجه مسلم، والمعنى أن الله تعالى يقول إني خلقت العباد للعبادة ليعلموا أنهم مخلوقون لها، وأنه تعالى غير محتاج لهم ولا لعبادتهم ولا يريد الاستعانة منهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم لمصالحهم، لأن الله غني عن كل خلقه «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ» لهم جميعا وأن الترازق الذي يجري بينهم لبعضهم بتسخيره وتقديره وجعله الأسباب مرتبة على المسببات، وإلا فكل يأخذ رزقه الذي قدره له الله، «ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» 58 الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله تعب ولا نصب ولا مشقة، فيوصل أرزاق عباده إليهم ولو لم يطلبوها أو يعملوا لأجلها «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» من كفار مكة الذين أفنوا عمرهم بغير ما خلقوا له وأشركوا به غيره في الدنيا «ذَنُوباً» حظا وافيا ونصيبا ضافيا من العذاب يوم القيامة «مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ» الكفار من الأمم الماضية الهالكة قبلهم «فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» 59 بإنزاله فليترقبوا وليتربصوا له رويدا فهو نازل بهم لا محالة إن أصروا على ظلمهم وحينئذ يطلبون تأخيره فلا يمهلون لحظة واحدة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم لهؤلاء الكفار لو عقلوه. واعلم أن استعمال الذنوب بفتح الذال بمعنى الحظ والنصيب شائع في العربية، قال علقمة بن عبد التيميّ يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا: وفي كل حي قد ضبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب

تفسير سورة الغاشية عدد 18 - 68 - 88

فلما سمعه قال نعم وأذنبة وأطلقه من أسره، وقال الآخر: لعمرك والمنايا طارقات ... ولكل بني أب منها ذنوب وقيد قوله بابن الأب لاستثناء عيسى عليه السلام، لأنه لم يمت، على أنه عليه السلام قد يكون له نصيب من المنايا بعد نزوله كما صح في الأخبار، راجع الآية 58 من سورة الزخرف المارة، وهو من الأصل الدلو الذي يستسقى به الماء في البئر ويقتسم به الماء، قال الراجز: إنا إذا نازلنا غريب ... له ذنوب ولنا ذنوب وإذ أبيتم قلنا القليب. قال تعالى «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 60 به على لسان رسلهم، وهذا وعيد لهم بالويل والثبور من هول وفظاعة ما يلاقونه في الآخرة من العذاب على ما فعلوه بالدنيا من العصيان والكفر، وختمت هذه السورة بما ذكر أولها في قوله (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) فقال (فَوَيْلٌ) إلخ، أي مما يوعدون إذا لم يتوبوا ويرجعوا عمّا هم عليه، إذ يكون مصيرهم الهلاك الذي ما فوقه هلاك. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الغاشية عدد 18- 68- 88 نزلت بمكة بعد الذاريات، وهي ست وعشرون آية، واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا، ويوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به وهي سورة الإنسان، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «هَلْ أَتاكَ» يا سيد الرسل «حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» 1 التي تغشى الناس بأهوالها وتغطيهم بفظائع أحوالها، وفي التقدير بالاستفهام إعلام الناس بأن حضرة الرسول لا يعلم شيئا عنها عند نزول هذه السورة، وأن ما يعلمه بطريق الوحي الإلهي، وإيذان بأنه يتلى عليه ما لم يسمعه من أحد، وإشارة إلى زيادة الاعتناء بما يتنزل عليه لما له من الشأن العظيم

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» أي يوم تقوم القيامة المعبر عنها بالغاشية، ان وجوه أصحابها «خاشِعَةٌ» 2 ذليلة خاضعة، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذه الوجوه التي تشاهد على غاية من الهوان فرءوس أهلها «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» 3 دائبة على العمل في نار جهنم تعبة من مشقة الأعمال وشدة العذاب التي تلاقيه ذلك اليوم جزاء عملها في الدنيا وتوغلها في الترف والرّفاه، فكما كانت تعمل في الدنيا لغير الله فإنها تعمل في الآخرة لقاءه في نار جهنم عملا تكل منه الجبال، فطورا تجر بالسلاسل والأغلال وتارة تخوض بالنار كما تخوض الإبل في الوحل، ومرة ترقى صعودا بأعالي جهنم وتهبط منه، وبذلك كله فإنها «تَصْلى ناراً حامِيَةً» 4 لأنها في سوائها وإذا عطشت فإنها «تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» 5 متناهية في الحرارة، قال تعالى (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) الآية 16 من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج 3، وإذا سألت عن طعامهم فيها أيها الإنسان فإنهم «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ» فيها «إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ» 6 هو يابس الشبرق شوك ترعاه الإبل مادام رطبا، فإذا يبس تحاشته لأنه سم قاتل، قال أبو ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعا بان عنه النمائص وقال ابن غرازة الهذلي يذم سوء مرعى إبله: وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود أي أن طعامهم فيها يشبه هذا النبات الخبيث، وشرابهم ما علمت، وليس سواء، فبينهما كما بين نارنا ونار جهنم. قال المشركون لما سمعوا هذه الآية إن إبلنا لتسمن على الضريع استهزاء وسخرية، لأن الإبل لا تأكله أبدا ولا يسمى ضريعا إلا بعد يبسه لأنه مادام أخضر يسمى شبرقا، فكذبهم الله بقوله «لا يُسْمِنُ» الضريع الدابة أبدا «وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» 7 البتة لأنه لا يؤكل حتى يشبع، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) الآية 27 من الحاقة الآتية، لأن للنار دركات لكل دركة نوع من العذاب ويكون على قدر الذنب العقاب، فمنهم طعامهم الزقوم، ومنهم ذو الغصة، ومنهم الضريع، ومنهم الغسلين، كما سيأتي أجارنا الله من ذلك كله، وهذا ما وصف الله به أهل النار، وهاك

[سورة الغاشية (88) : الآيات 11 إلى 20]

وصف أهل الجنة جعلنا الله من أهلها، قال تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» 8 أهلها، وهذا أيضا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، منعمة برضاء الله وجنته «لِسَعْيِها» الذي فعلته بالدنيا «راضِيَةٌ» 9 به لما رأت حسن جزائه فى الآخرة لأنه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» 10 لا يدرك الطرف مداها «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» 11 في لهو وباطل بل كل ألسنتها التسبيح والتهليل والتحميد والتسليم «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» 12 إلى حيث أراد طلبها بمجرد إشارة منه دون تكلف ما لا تحتاج لجر أنابيب ووضع رافعات وصبابات، وهذا للشرب والنظارة و «فِيها» للجلوس والنوم «سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» 13 أنشأها الله لعباده، وناهيك بشيء ينشئه الله، فصف من حسنها وماهيتها وعلوها وزخرفها ما شئت فلن تدرك حقيقتها ولن تقدر أن تحيط علما بها لأنها من مصنوعات الله، وسبب ارتفاعها ليشرف من عليها على ما خوّله ربه من الملك الواسع والنعيم الشاسع «وَأَكْوابٌ» طوس مستديرة وأكواز بلا عرى من فضة وذهب كما يشعر بعظمها التنوين «مَوْضُوعَةٌ» 14 بعضها جنب بعض على حواف الأعين الجارية مملوءة مهينة للشرب بقدر ما يشرب الشارب «وَنَمارِقُ» وسائد، قال زهير: كهولا وشبانا حسابا وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق يؤيد هذا التفسير قوله تعالى «مَصْفُوفَةٌ» 15 بعضها لبعض للاتكاء عليها، وهذا أحسن من تأويلها بمطارح، لأن الصف عادة أكثر استعمالا في الوسائد، وما جاء في قولهن: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق لم يرد بها الوسائد لأنها لا يمشى عليها بل يراد منها ما بينه الله بقوله «وَزَرابِيُّ» وهي ما نسميها الآن سجّادا وأحسن أنواعه شغل العجم، أما هذا فهو من إبداع المبدع، وهو فوق ما نتصوره، فاسع أن تكون أهلا بأن تمشي وتجلس عليه «مَبْثُوثَةٌ» 16 مبسوطة متفرقة في الغرف والباحات والأبهاء والساحات ومحال النزه وغيرها بحيث أينما أردتها وجدتها بالغرف والجنان والصحارى.

مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة:

مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة: وبعد أن وصف الله النار والجنة وأهلهما التفت إلى عباده حدثا لهم على الاعتبار في بعض مخلوقاته التي هي بين أيديهم ومسخرة لهم، فقال جل قوله «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» 7 والإبل جمع لا واحد له من لفظه ومفردها جمل وبعير وناقة وقعود، ويجمع الجمل على جمال، والبعير على أباعر وأبعر وبعران، والقعود على قعدان، والناقة على نياق ونوق، وإنما خص الإبل لأنها من أنفس أموال العرب إذ ذاك وحتى الآن عند أهل البادية، وأعزّها عليهم، ولها مكانة عندهم حتى انهم يتفاخرون فيها، ولم يروا قبل أعظم منها للركوب والحمل والأكل، ولهم فيها منافع كثيرة، وذلك أنهم أنكروا ما وصفه الله من الجنة والنار وأهلهما فذكرهم الله بهذا النوع من مخلوقاته العجيبة الصنع المذللة لهم، مع أنها أقوى منهم ليعلموا أن الذي خلقها قادر على خلق ما وصف في الجنة والنار ليسترشدوا بذلك. هذا وان الفيل مما يعرفونه أيضا وهو أقوى من الإبل، إلا أنه لا منافع فيه مثل ما في الإبل ولم يطلعوا عليه كلهم، ولأنه لا يؤكل، ولا لبن له ولا صوف، وليس بلين الجانب كالإبل تقودها الأولاد وتعقلها المرأة، وتقنى للزينة والتجارة والركوب والدر، وتحمل الأثقال وفيها خواص لا توجد بغيرها، كاحتمالها العطش والمشاق في السفر، وتحمّل وهي باركة، وترعى من النبات ما لا يرعاه غيرها، والفيل خلو من هذه الصفات، وقد اخترع القبان منها بالنظر لسرتها وطول عنقها، ولها ميزة في خلقها وتركيب أعضائها وتأثرها بالصوت الحسن حتى انها قد تودي بحياتها من شدة طيّها المسافة البعيدة عند سماعها الحداء، ولها من الشفقة على أولادها ما لم يوجد عند غيرها، كما أن عندها من الحقد ما يقابل ذلك على من يعتدي عليها عند هيجانها اى الذكور منها، وقد ذكرنا ما يتعلق في بحثها في الآيتين 138/ 143 من سورة الأنعام المارة فراجعهما. وإنما ذكّرهم الله تعالى ببعض نعمه عليهم، لأن المراد منه التذكر في دلائل توحيده وبراهين قدرته وإمارات صنعه مما يرون ويعلمون، أما مخلوقاته الأخرى الموجودة في ذلك الزمن والتي وجدت الآن وما ستوجد بعد فهي وإن كانت أعظم في الاستدلال إلا أن ضرب المثل بما هو موجود

أكثر تأثيرا مما لم يوجد، فإذا قلت لهم توحيد سفينة عظيمة تمشي بالبخار على البحار وسيارات تقطع مسافة اليوم في ساعة، وطيارات تطوي الشهرين بيوم، وهاتف وراد ينقلان الصوت من المغرب إلى المشرق بلحظات لم يصدقوا، فلهذا اقتصر الله تعالى على ما هو معلوم عندهم كلهم. ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم كلموا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. أي إذا ذكرتم لهم أشياء كهذه يخشى أن يكذبوه، ولو قلتم إن الله أخبر بها رسوله يوشك أن يكذبوا وإذا كذبوكم فقد كذبوا الذين نقلتم عنهم فيؤدي إلى الكفر الذي جاء الأنبياء لإزالته. ومن هذا الحديث المروي عن الدجال بأنه يبلغ خبر خروجه المشرق والمغرب بيوم واحد، فقد أنكره كثير من العلماء لاستحالة وصول الخبر المذكور بيوم واحد إذ لم يكن عندهم لا سلكي أو راد أو هاتف، أما الآن فلا تجد من ينكره من هذه الحيثية، وكذلك حديث: تطبخ المرقة في مكة وتؤكل في المدينة وهي حارة، وحديث تقارب البلدان وغيرها من المغيبات التي أخبر عنها الرسول المكرم ووقع الشك في صحتها، ومن هذا قوله تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية 188 من البقرة في ج 3، عند سؤالهم عن الأهلّة، فلو قال لهم ما يذكره الفلكيون والطبيعيون في هذا لم يصدقوه. قال تعالى «وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» 18 بلا عمد أو بعمد غير مرثية على كلا التفسيرين في الآية الثانية من سورة الرعد في ج 3، والآية 9 من سورة لقمان المارة، إذ لا يدرك أطرافها أحد ولم يقف على كنهها أحد ولم يطلع على بنائها أحد كما لا ينالها أحد «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» 19 على الأرض بصورة ثابتة راسخة لا تزول ولا تزال إلا بقدرة الملك المتعال، إذ جعلها رواسي للأرض لئلا تميد بأهلها، راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة، «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» 20 بسطت ومهدت ليستقر عليها كل شيء، فانظروا أيها الناس إلى هذه الأشياء، واعلموا أن من يقدر عليها يقدر على خلق ما وصف في الجنة والنار وما أعده لأهلها، وأنكم لا تقدرون على خلق ذبابة ولا تخليص ما تسلبه منكم فضلا عن خلق الإبل والسماء والجبال والأرض وما فيها من البدائع والعجائب، ألا له الخلق والأمر، راجع الآية 72 من الحج ج 3.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 إلى 26]

ولما لم ينجع بهم هذا ولم يعتبروا ويتعظوا التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَذَكِّرْ» قومك يا سيد الرسل واحرص على إيمانهم ودم على ما أنت عليه «إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» 21 فقط فلا يمنعك عدم قبولهم لنصحك وإصغائهم لرشدك من إدامة التذكير، لأنك يا حبيبي «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» 22 لتجبرهم على الإيمان ولا بمسلط لتكرههم عليه، وإنما عليك البلاغ فقط وقد قمت به، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له، لأن غاية ما فيها التهديد والتخويف تمهيدا للذارة والبشرة وترغيبا للتصديق بما جاءهم به، وإن الله تعالى ما أنزل آية السيف وأمر رسوله بالقتال حتى غربل الناس وأوضح لرسوله المؤمن من الكافر وأظهر له من يؤمن طائعا مختارا راغبا، ومن يؤمن كرها وخوفا. هذا، وإن الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) عنك وأعرض إعراضا كليا «وَكَفَرَ» 23 وأصر على كفره، متصل في ضمير عليهم ومحله الجر تبعا له، أي فإنك متسلط على هذا الصنف من الكفرة المدبرين عن الإيمان إدبارا كليا مثل الوليد وأبو جهل وأضرابهما، ولهذا أمر الله الرسول بالجهاد وأباح له قتل أمثال هؤلاء وسبيهم وإجلاءهم وأسرهم، وقد عاتبه على أخذ الفداء من أمثالهم، راجع الآية 67 من سورة الأنفال ج 3، وقد جعل جزاءهم الدنيوي هذا، أما العقاب الأخروي «فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» 24 في دركات جهنم ولا أكبر من عذابها، فيكون في هذه لآية إيعاد لهم في المدارين، وإشارة بأنه سيسلط عليهم وتظهر كلمته، وهذا لا ينافي حصر الولاية بذاته تعالى، لأنه الولي لا غيره وليّ، وان ذلك يكون بإذنه وأمره وإرادته، وعليه فيكون المعنى لست يا سيد الرسل على هؤلاء الكفرة الممتنعين من التصديق بك والإيمان بربك بمجبر ولا مكره إلا على من تولى وكفر بأن دام على كفر، فإنك مسلط عليه. وما قاله الزمخشري وغيره تبعا له أو من بنات فكره وأولاد ذهنه من أن الاستثناء هنا منقطع وإن المعنى لست بمسئول عنهم لكن من تولّى وكفر منهم فإن الله تعالى له الولاية عليه، فهو بعيد عن المعنى المراد والله أعلم، حتى ان عصام الدين قال فيه إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعد إلا غير مخرج من متعدد قبله لعدم دخوله فيه

تفسير سورة الكهف عدد 19 - 69 - 18

مخالف في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله عليهم، وليس حكمهم مخالفا له، تدبر. «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ» 25 رجوعهم بعد الموت لنا لا لغيرنا «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» 26 في الموقف ومجازاتهم وناهيك بنا إذا حاسبنا أو عفونا، وقيل: حاسبونا فدققوا ... ثم منّوا فأعتقوا هكذا عادة المترك ... بالمماليك يرفقوا وفي رواية يشفقوا. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وعلى من تبعهم بإحسان ورضوان من الله ومغفرة ورحمة. تفسير سورة الكهف عدد 19- 69- 18 نزلت بمكة بعد الغاشية، عدا الآيات 28 ومن 83 إلى 101 فإنهن نزلن بالمدينة، وهي مئة وعشر آيات، وألف وخمسمائة وسبع وخمسون كلمة، وسنة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «الْكِتابَ» القرآن العظيم العربي السوي «وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» 1 في مبانيه ولا بمعانيه، لأن العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، يقال في رأيه عوج كما يقال في عصاه عوج، ولكن يقال لما يدرك بالعين بفتح العين، ولما لا يدرك بكسرها. ومن هذا القبيل الغين بفتحتين الخديعة في الرأي، وبفتح وسكون الخديعة في البيع والشراء، والسكن بالفتح ما سكنت إليه، وبالسكون أصل الدار، والغول بالفتح البعد، وبالضم ما اغتال الإنسان، واللحن بالفتح الفطنة، وبالسكون الخطأ بالكلام، والخمرة بالفتح الريح الطيبة، وبضم الخاء في اللبن والعجين والنبيذ، والجد بالفتح الحظ، وبالكسر الاجتهاد، راجع الآية 17 من سورة الفرقان في ج 1 والآية 56 من سورة المؤمن المارة تجد ما يتعلق بهذا البحث «قَيِّماً» عدلا مستقيما جيء بهذه تأكيدا لأن

نفي العوج يغني عن الاستقامة، ولذلك وصفه به إذ رب مستقيم مشهود له في الاستقامة لا يخلو عن أدنى عوج أو عوج في ذاته ورأيه عند تصفحه وتفحصه «لِيُنْذِرَ بَأْساً» عذابا عظيما في الدنيا والآخرة «شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ» للكافرين به «وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ» عند الله «أَجْراً حَسَناً» 2 لا أحسن منه وهو الجنة ونعيمها الدائم، يدل عليه قوله «ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» 3 لا يتحولون عنه «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» 4 من الملائكة وهم قريش ومن حذا حذوهم، ويدخل في هذه الآية الذين اتخذوا عزيرا والمسيح ولدين له من النصارى واليهود، تنزه عن ذلك تأسيا بهم، راجع الآية 30 من سورة التوبة والآية 16 من سورة المائدة في ج 3، وبما أن قولهم هذا كله بهت وافتراء محض قال تعالى «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ» أبدا وإنما صدر منهم هذا القول عن جهل مفرط بذات الإله المنزه عن ذلك، وانتفاء العلم قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وقد يكون في نفسه محالا لا يستقيم تعلق العلم به كهذا القول، لأنه ليس من العلم لاستحالته «وَلا لِآبائِهِمْ» به علم فإنهم قالوه عن جهل أيضا وتلقوه عنهم جهلا دون نظر وتدبر وتفكر «كَبُرَتْ» هذه الكلمة منهم وعظمت «كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» من غير أن تحكم بها عقولهم ولكن لا عقل لمن يقولها ما أكبرها من كلمة «إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» 5 بحتا غير مطابق للواقع، وبعضهم عرّف الكذب بأنه الخبر الغير مطابق للواقع مع علم قائله أنه غير مطابق للواقع، ولا وجه لهذه الزيادة في الحد لأن الكثيرين يقولون هذا القول ولا يعلمون كونه باطلا غير مطابق للواقع، فظهر أن هذه الزيادة باطلة «فَلَعَلَّكَ» يا سيد الرسل «باخِعٌ نَفْسَكَ» مهلكها «عَلى آثارِهِمْ» حين تولوا عنك لما أنذرتهم ودعوتهم للإيمان حزنا عليهم وتتبع طرفك حسرات عليهم لتباعدهم عنك، شبهه وإياهم برجل فارق أحبته فصار يساقط الدموع على آثارهم وأطلال ديارهم وجدا عليهم وتلهّفا على فراقهم، راجع الآية الثانية من سورة الشعراء في ج 1، وهنا كأنه يشير إلى ما جاء آخر السورة امارة من قوله (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) وهو وجه المناسبة بمجيئها بعدها، وقد أبان الله تعالى سبب تأسفه

وتأوهه عليهم بقوله «إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ» الجليل الشأن أي القرآن المعبر عنه بصدر السورة بالكتاب ووصفه بالحديث بالنسبة لما نتلوه نحن لأن تلاوتنا له حادثة وهو قديم منزه عن الحدوث، راجع بحث خلق القرآن بالمقدمة «أَسَفاً» 6 مفعول لأجله أي أنك قاتل نفسك لأجل التأسف عليهم لعدم إيمانهم، فلماذا يكون منك هذا؟ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البحتري، في نفر من قريش اجتمعوا (على خلاف رسول الله ومناوأته) وكان صلّى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلافهم إياه وإنكارهم ما جاء به من الهدى فأهمه ذلك وأغمه، فأنزل الله هذه الآية يسليه بها. وقال بعض المفسّرين إن معنى باخع قاتل والقتل والإهلاك شيء واحد، قال ابن الأزرق: لعلك يوما إن فقدت مزارها ... على بعده يوما لنفسك باخع أي مهلك. وقال الفرزدق: ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحّته عن يديه المقادر أي القاتل. قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ» من الجبال والأودية والبحار والأنهار والنبات والأشجار والمعادن والحيوان «زِينَةً لَها» كما زينا السماء الدنيا بالكواكب المختلفة ليغتر أهلها بها وتأخذ قلوبهم زخارفها وذلك «لِنَبْلُوَهُمْ» نختبرهم ونمتحنهم «أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» 7 فيها وأزهد لما يعطى منها من غيره المنهمك في حبها لنظهر للناس ذلك وليعلموا من يميل إليها بكليته ممن يرغب عنها، وإلا فالله عالم بذلك قبل ذلك «وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها» من الزينة بعد كمالها وتطاول أهلها «صَعِيداً» أرضا ملساء «جُرُزاً» 8 يابسة بعد أن كانت خضراء زاهية ونفعل بأهلها كذلك بأن نسلبهم ما جمعوه منها حتى يأتوننا صفر اليدين خاسرين الدنيا والآخرة، راجع الآية 94 من سورة الأنعام المارة، وقد أكدت الجملة بأن واللام إيذانا بتحقيق وقوعه وهو واقع لا محالة في الوقت المقدر لخراب الدنيا، راجع الآية 25 من سورة يونس المارة.

مطلب قصة أهل الكهف ومن التوكل حمل الزاد والنفقة، وخطيب أهل الكهف:

مطلب قصة أهل الكهف ومن التوكل حمل الزاد والنفقة، وخطيب أهل الكهف: قال ابن عباس: إن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا منكم إلى يهود المدينة واسألوهم عنه، فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم، فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي، فاسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الشمس ومغربها ما خبره، وعن الروح (راجع الآية 85 من الإسراء في ج 1) فرجعوا وأخبروا قومهم بذلك، ثم انهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ» الغار الواسع يكون في الجبل «وَالرَّقِيمِ» اللوح المكتوب عليه أسماؤهم وقصتهم «كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» 9 أتظنّ يا محمد أن شأنهم أعجب من آياتنا التي منها خلق السماء والأرض وما فيهما وعليهما كلا، بل في خلقنا ما هو أعجب وفي صنعنا ما هو أبدع من ذلك، وإذ سألوك عنهم يا حبيبي فاذكر لهم ما نوحيه إليك مما هو أوضح مما عند أهل الكتاب وغيرهم وأصح «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ» جمع فتى وهو الطريّ من الشباب والجمع للقلة «إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» هدى ونصرا وأمنا من أعدائنا ورزقا ومغفرة «وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا» الذي نحن عليه من مفارقة الكفرة والركون إلى دينك القويم «رَشَداً» 10 واهتداء للطريق الموصل إليك. قال تعالى «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» 11 أي أجبنا دعاءهم وهديناهم الدخول في الغار الذي صاروا إليه وألقينا في قلوبهم أن يناموا فيه قناموا حالا مع أن الخائف لا ينام وجعلنا عليهم حجابا ثقيلا بحيث لا تنبههم الأصوات إلى الوقت المقدر ليقظتهم منه كما سيأتي «ثُمَّ بَعَثْناهُمْ» أيقظناهم من نومهم «لِنَعْلَمَ» لا شك أنه تعالى عالم وإنما أراد إعلام الناس بذلك ليعرفوا «أَيُّ الْحِزْبَيْنِ» المختلفين في مدة نومهم «أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً» 12 الأمد المدة التي لها حد والفرق بينه وبين الزمان أن الأسد يقال باعتبار الغاية بخلاف الزمن فإنه عام في المبدأ

والغاية ومثله المدى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَبَأَهُمْ» خبرهم قصصا صحيحا «بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه وهو «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً» 13 بإيمانهم وبصيرة في تصديقهم ومعرفة بإسلامهم «وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» الطاهرة المملوءة بالعقيدة الراسخة بوجود الإله الواحد والبعث والجنة والنار لأنا نورناها بنور البصيرة، ثم أوقرناها بالصبر، وقويناها باليقين «إِذْ قامُوا فَقالُوا» لملكهم الجبّار دقيانوس حين أنبهم على عدم عبادة الأوثان وعدم الاعتراف بألوهيتها «رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً» إن دعونا غير إلهنا الحق تبعا إلى هواكم وخوفا من عقابكم فيكون قولنا قولا «شَطَطاً» 14 أشرا كذبا محضا وبهتا، لأن الشطط هو الغاية في البعد والنهاية في مجاوزة الحد، وقالوا أيضا «هؤُلاءِ قَوْمُنَا» الذين اتبعوا «اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» وفي هذا تبكيت وتقريع، لأن الإتيان بالحجّة على صحة عبادة الأوثان محال «لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ» وإذا لم يأتوا فقد ظلموا أنفسهم «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» 15 لا أظلم ممن زعم أن لله شريكا. قال تعالى «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ» تركتم قومكم «وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» من الأوثان فرارا من دينهم الذي يريدونكم عليه قسرا أيتها الفئة الصالحة حفظا لدينكم وحرصا عن صدكم عنه، وذلك أنهم هربوا من أمام الملك لما رأوه يريد الفنك بهم لما سمعه منهم من الطعن في دينه وهجروا أوطانهم وفارقوا قومهم حبا بدينهم وحرصا عليه وقال بعضهم لبعض أثناء الهرب «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ» وكلهم يعرفه بدليل مجيئه معرفا، فتراكضوا نحوه ولجأوا إليه وأعمى الله جماعة الملك الذين لحقوقهم ليقبضوهم ويحضروهم أمامه ليعذبهم على ما وقع منهم، إن يروهم، كيف لا وقد ألهمهم الله تعالى قوله «يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» 16 منتفعا ويسرا وسهولة، ثم اختفوا فيه وألقى الله عليهم النوم الثقيل. وقد ذكر الله تعالى ما خصهم به من اللطف والعطف لقوة يقينهم وثبات عزيمتهم فقال «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ» تميل وتعدل «عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ» جانبه

وجهته «وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ» تتركهم وتزورّ عنهم «ذاتَ الشِّمالِ» لجانبه وجهته «وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ» من متسع الغار «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» وعجائبه وبدائعه لأن من كان في ذلك السمت لتصيبه الشمس وهي لا تمسهم إكراما لهم وهم لم يقصدوا ذلك الغار إلا بهداية الله «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» وفي هذه الجملة ثناء عليهم لسلوكهم سبل الهداية وعطفا عليهم لتخصيصهم بتلك الكرامة ولطفا بهم لإنقاذهم من الضلالة «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» 17 من دونه البتة «وَتَحْسَبُهُمْ» أيها الناظر إليهم «أَيْقاظاً» لأن أعينهم مفتحة «وَهُمْ رُقُودٌ» نيام، والواو هنا للحال، وهذا من جملة ما خصّهم الله به ليهابهم منّ يدخل عليهم فيتحاشاهم وينكص خوفا منهم لأنهم جماعة وفي ظل كهف فلا يتجاسر أحد من أن يقربهم. قال تعالى «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» من جانب لآخر بصورة متمادية بدليل تضعيف الفعل لئلا تأكلهم الأرض وزيادة في حرمتهم حفظا لكيانهم وإكراما لشأنهم «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» عتبة باب الكهف ومحل غلقه لو كان له باب يغلق كالحارس لهم من الهوام وغيرها يقلب معهم أيضا مفتوحة عيناه وقد سعد بسعادتهم ويدخل الجنة معهم فلا يوجد فيها من نوعه غيره فهو من المخصوصين كحمار عزير وعصا موسى وناقة صالح وكبش إسماعيل، ولهذا صار بعض الشيعة يسمون أولادهم كلب علي وسمي ما وراء عتبة الدار وصيدا لأنه يوصد بالعمد ويدقر بها لئلا يفتح. راجع آخر سورة الهمزة في ج 1، «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ» أيها الإنسان الكامل وهم على حالتهم تلك «لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً» لما ترى عليهم من الهيبة التي ألقاها الله عليهم ليبقوا على حالتهم حتى انقضاء الأجل المضروب لقيامهم كما سيأتي «وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» 18 لما ألقى الله عليهم من الهيبة ووضعية كلهم ووحشة مكانهم، قال ابن عباس: غزونا الروم مع معاوية فمررنا بالكهف، فقال معاوية لو كشف الله لنا عنهم لنظرناهم، فقال ابن عباس منع الله ذلك من هو خير منك، وتلا عليه (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) الآية، لأن المخاطب بها سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم. قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم بذلك اليوم «بَعَثْناهُمْ» أحييناهم من موتهم

بانقضاء آجالهم المقدرة في علمنا «لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ» عن مدته لاشتباههم بها كما سيأتي في القصة «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ» بعد إفاقتهم «كَمْ لَبِثْتُمْ» في رقدتكم هذه، لأنهم لم يروا تغييرا ما من أنفسهم إلا ما أنكروه من طول أظفارهم وشعورهم «قالُوا» بعضهم لبعض «لَبِثْنا يَوْماً» كعادة النائم إذ لا يزيد على اليوم غالبا، ولما نظروا إلى الشمس، وقد يقي منها بقية، وكان نومهم غدوة النهار، ورأوا آثار النوم بأعينهم كأنهم لم يستوفوا معتادهم منه، فقالوا «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إلا أنهم في شك من قولهم هذا لما رأوا طول أظفارهم وشعورهم، بما يدل على أن نومهم أكثر من أن يقدر، فارتبكوا و «قالُوا» بعضهم لبعض «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ» فوضوا العلم إلى الله لئلا يخطئوا في التقدير، ثم أحسوا بالجوع فقال بعضهم لبعض «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» الفضة المضروبة المتعامل بها تداولا بين الناس وهو بكسر الراء المال من الدراهم فقط، وبفتحها المال و؟؟؟ والإبل كما في أدب الكاتب لابن قتيبة، وقيل في المعنى: أعطينني ورقا لم تعطني ورقا ... قل لي بلا ورق هل ينفع الورق وفي رواية الحكم، والكاغد الذي يكتب عليه بفتح الراء، ويطلق على الفضة الغير مضروبة أيضا «هذِهِ» إشارة إلى ورقكم. وفي حملهم هذه النقود عند فرارهم دليل على جواز حمل النفقة وما يصلح للمسافر لئلا يكون عالة على غيره أو يعرض نفسه للهلاك الحسي أو للتسؤّل وهو الهلاك المعنوي، وهذا رأي المتوكلين على الله، قال صلّى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل، وقال بعض الأجلة: إن توكل الخواص ترك لأسباب بالكلية، مسندلا بما روي عن خالد بن الوليد أنه شرب السم فلم يصبه شيء، وأن سعد ابن أبي وقاص وأبا مسلم الخولاني مشيا بالجيوش على متن البحر، وكذلك البراء الحضرمي خاض بقومه البحر، وتميم الداري دخل الغار الذي فيه النار ليردّها بأمر عمر رضي الله عنهم. وقال الإمام أحمد وإسحق وغيرهما من الأئمة بجواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبيب لمن قوي يقينه وتوكله، ودليل الاحتياط مع التوكل فعل موسى عليه السلام وفتاه حينما سارا إلى الحضر إذ حملا معهما حوتا كما سيأتي في الآية 61 الآتية وعمل هؤلاء الأبرار

[سورة الكهف (18) : الآيات 21 إلى 30]

وحبري تبّع المار ذكره في الآية 37 من الدخان المارة وقول خاتم الرسل المار ذكره أكبر برهان على ذلك، «إِلَى الْمَدِينَةِ» هي اخنوس ويطلق عليها الآن طرطوس وهي غير طرطوس اللاذقية «فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً» أي الباعة الذي طعامه زكيّ حلال نظيف «فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» لنأكله «وَلْيَتَلَطَّفْ» في مشيه وحركته ويلين الكلام مع أهل المدينة من باعة الطعام وغيرهم، ويترفق بمن يكلمه أثناء ذهابه وإيابه وشرائه ومن يعامله أو يسأله ويستر حاله ويكتم شأنه «وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» 19 من أهل المدينة وغيرها ولا بما كان لنا مع ملكها، ولا عما نحن فيه الآن «إِنَّهُمْ» الكفرة من أهلها «إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» أيها الإخوان ويعرفوا مكانكم ويطلعوا على قصتكم «يَرْجُمُوكُمْ» بالحجارة حتى تموتوا شر موتة وأعيبها «أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ» التي هربنا منها وصرنا إلى ما نحن فيه من أجلها «وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً» إن عدتم إلى الكفر بعد إذ نجاكم الله منه «أَبَداً» 20 لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ يستعبدونكم في الدنيا ويسترقونكم فلا يتيسر لكم الخلاص منهم والرجوع بالتوبة إلى ربكم فتموتمون على ملتهم، وفي الآخرة تردون إلى عذاب النار. وقد بالغ خطيبهم رحمه الله في تحذيرهم ونصحهم بما لا مزيد عليه، مما يدل على صدق إيمانه بربه وزهده بدنياه طمعا بآخرته، وإن إصغاءهم لمرشدهم دليل على أنهم كلهم ذلك الرجل. قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم لحكمة أحييناهم لحكمة و «أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ» أطلعنا أهل المدينة عليهم لحكمة أيضا و «لِيَعْلَمُوا» أي الذين ينكرون البعث أشباه قومك يا سيد الرسل «أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» بالبعث بعد الموت «وَأَنَّ السَّاعَةَ» المعينة لخراب الكون الدنيوي وظهور الأخروي حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ يَتَنازَعُونَ» أهل المدينة الذين اطلعوا عليهم «بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ» وقت توفاهم الله من كيفية إخفائهم في الغار وإظهارهم، فاتفقوا بعد أن رأوهم رجعوا إلى كهفهم وماتوا فيه ثانيا «فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً» أي سدوا باب الكهف عليهم حتى يحفظوا من تطرق الناس إليهم، ولا حاجة لأن يعلم الغير مكانهم «رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ»

مطلب أسماء أهل الكهف وقول في الاستثناء وقول أبو يوسف فيه والملك الصالح في قصة أهل الكهف:

وعلمه كاف عن علم الناس «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» أي حكام المدينة الملك وأعوانه الذين أسلموا عند ظهور آيتهم كما سنوضحه بعد في قصتهم «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» 21 وكان كذلك، ومن هنا استنبط جواز المحافظة على قبور الأنبياء والأولياء بالبناء عليها تخليدا لذكرهم، تدبر. ثم إن الخائضين في أمرهم من أهل الكتاب والمسلمين الذين يكونون بعدهم عند ما يزورون قبورهم هذه «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» وهذا قول اليهود «وَيَقُولُونَ» أي النصارى «خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» وقولهما هذا «رَجْماً بِالْغَيْبِ» من غير علم واستناد «وَيَقُولُونَ» المسلمون «سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء لا أحد منكم يعلم عددهم على الحقيقة وإنما «رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ» منكم و «ما يَعْلَمُهُمْ» من الناس «إِلَّا قَلِيلٌ» من الأولين والآخرين، وهذا هو الحق من الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات وما فيهما من الماضي والحال والمستقبل لا يكون إلا الله. مطلب أسماء أهل الكهف وقول في الاستثناء وقول أبو يوسف فيه والملك الصالح في قصة أهل الكهف: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، وهم: 1 مكسليخا 2 يمليخا 3 مرطونس 4 بيلونس 5 سارينوس 6 ذوقواس 7 كشقيططنوس وهو الراعي وكلبهم قطمير. وقوله هذا حق، والله أعلم، لأن الله تعالى أردف الجملتين الأوليين وهما (ثَلاثَةٌ) إلخ و (خَمْسَةٌ) إلخ بقوله جل قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ولم يقل بعد جملة (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ) إلخ شيئا وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظن القولين الأولين وأن يكون الثالث هو الصواب والله أعلم. «فَلا تُمارِ فِيهِمْ» لا تجادل يا سيد الرسل بعددهم وشأنهم أحدا «إِلَّا مِراءً ظاهِراً» بلا توغل فيه ولا قطع في حقيقته، وعليك أن تقف عند حد ما قصصناه عليك من أمرهم ولا تزد عليه شيئا «وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» 22 من أهل الكتابين أي الذين سألهم وقد قريش عنهم ليسألوك عنهم، ولا ترجع لقول أحد بشأنهم بعد أن أخبرناك عنهم وبينا لك حقيقتهم.

هذا، ولما سألت قريش حضرة الرسول عنهم كما ذكرنا في الآية الثامنة المارة آنفا قال لهم غدا أخبركم، لأنه لا يعرف عنهم شيئا ولم يوح إليه بهم قبل سؤالهم ولا وقته، فأخّر الجواب انتظارا لنزول الوحي عليه لأنه لا ينطق عن هوى، وبما أنه عليه السلام لم يقل إن شاء الله لم يوح إليه في الغد، ولبث الوحي أياما لئلا يغفل مرة ثانية عن إسناد المشيئة لله في كل حركاته وسكناته، ثم أنزل الله تعالى أثر قصتهم هذه قوله جل قوله «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ» من الأشياء أبدا «إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً» 23 على الجزم بل لا بد من أن تعلقه بالمشيئة فنقول «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» إذ لا يقع شيء دون مشيئته، فإذا قلت إني عازم أن أفعل أو أتكلم كذا فقل متصلا إن شاء الله، لأنك لا تدري أتوفق لذلك أم لا، وهذا نهي تأديب من الله لحضرة رسوله وتعليم لأمته كي تفتدي به «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» المشيئة في قول أو فعل وقلها عند تذكرك. الحكم الشرعي: يمتد الاستثناء عند ابن عباس سنة، مثلا إذا قال قولا أو حلف فيجوز لديه أن يتبع قوله ذلك على الفعل والقول بالمشيئة إلى سنة. وقال الحسن إلى أن يتفرقا من المجلس ولا يمتد بأكثر من ذلك، وجوّز بعض العلماء إلحاقها في الزمن القريب ولم يجوزه الآخرون إلا متصلا بالقول أو الفعل، وهذا ما عليه العمل الآن، وقد دسّ بعض الناس إلى الخليفة العباسي بأن أبا يوسف يخالف في حكمه قول جده ابن عباس بقصد أن ينال منه، فأرسل إليه وسأله قال له نعم، لأن هذا القائل يريد أن يبايعك اليوم ويعطيك ما شئت من عهد وميثاق ويمين ويقول بعد ذلك إن شاء الله فينقضي بغيك، وقد أردت سد هذا الباب لئلا يتمسك أحد بقول جدك فيكون حجة عليك، فاستحسن ذلك منه وأقره وجعل عليه العمل، وهو رحمه الله أخذه من هذه الآية إلا أنها مقيدة بالنسيان فلا يجوز تطبيقها بعدمه. «وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً» 24 من هذا الذي أنا عليه في نبأ أصحاب الكهف وغيرهم من الآيات والحجج الدالة على نبوتي، وهذا لأن الكامل لا يزال يترقى في الكمالات مهما علت رتبته فيها، وعليه فلا محل للقول بأن الذي عليه الرسول هو غاية الرشد ولا أقرب مما هو عليه، لأن الكمالات

لا نهاية لها، وفي هذا رد أيضا لمن قال إن حضرة الرسول لا يحتاج إلى إنشاء الصلاة عليه لكماله وعلو مرتبته. قال تعالى «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ» شمسية «وَازْدَادُوا تِسْعاً» 25 بحساب الأشهر القمرية وهذه المدة مدة لبثهم نياما في الكهف وهي كالبيان للمدة المتقدمة، وجواب السائلين عن مدة لبثهم فإن جادلوك يا سيد الرسل في مدة لبثهم بعد هذا اليمان فلا تلتفت إليهم لأنه محض عناد ولا تمارهم فيه و «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا» لا أنا ولا أنتم وهو الأجدر والأحسن بك من الأخذ والرد معهم لأنه هو الذي «لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده جلّ علمه «أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ» به وقد حذف بدلالة الأول، أي ما أسمعه بكل مسموع وأبصره بكل مبصر ويبصر جلّ شأنه ما لا نبصره ويسمع ما لا نسمعه، لأن قوانا كليلة عاجزة، وهاتان الكلمتان صيغتا تعجب أي ان ذلك أمر عجيب من شأنه أن يتعجب منه ولا امتناع من صدور التعجب من صفاته تعالى، أما التعجب منه فممتنع، راجع الآية 11 من سورة الصافات المارة، وقل لمن يقول لك إن للكفرة أولياء يشفعون لهم عند الله الذي تدعوهم إليه «ما لَهُمْ» أي أهل السموات والأرض كلم «مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» غير الإله المنفرد في أمره الذي لا يقبل أن يتدخل أحد فيه «وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» 26 من خلقه، فلئن لا يشرك معه من مصنوعاته شيئا من باب أولى. هذا آخر ما قصة الله تعالى علينا من شأن أهل الكهف، فيجب الوقوف عنده وإسناد علم ما عداه إليه تعالى بأن يقول المسئول إذا سئل عن أكثر من هذا، الله أعلم بشأنهم، لأنا لا نعلم إلا ما قصة الله علينا فيهم. هذا، وإن في قوله تعالى في الآية 9 المارة (أصحاب الكهف والرقيم) ردا لما قاله بعضهم إن أصحاب الكهف هم المعنيون في هذه الآيات، وأصحاب الرقيم هم الذين ذكرهم حضرة الرسول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة عن سالم عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فآواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار، فقالوا والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم

كان لي أبوان شيخان كبيران إلخ. وهو حديث طويل يراجع في محله، لأن هؤلاء يطلق عليهم أهل الكهف وأهل الغار، والمذكورون في الآيات أهل الكهف وأهل الرقيم، كما سيتبين لك من القصة الآتية إن شاء الله التي خلاصتها كما قاله الأخباريون: إن غالب أهل الإنجيل بعد عيسى عليه السلام عظمت فيهم الأحداث والخطايا وطغت ملوكهم، فعبدوا الأوثان وأكرهوا قومهم على عبادتهم، ولما صار الأمر إلى دقيانوس شدد في ذلك كثيرا وأراد هؤلاء الفتية الذين هم من أشراف قومهم على عبادتها فأبوا وصاروا يجادلونه في عدم صلاحيتها للعبادة، فخاف أن يتبعهم قومه، فهددهم بالقتل إذا لم يوافقوه على عبادتها، فأبوا وانصرفوا من أمامه، فأمر بإحضارهم فهربوا ومروا براعي غنم، فلما عرف أمرهم ترك غنمه وتبعهم هو وكلبه، وما زالوا حتى بلغوا الكهف، فدخلوه واختبارا به وناموا، وأضل الله جنود الملك عنهم كما أضل جنود فرعون عن اللحاق بموسى عليه السلام، راجع الآية 22 من سورة القصص فما بعدها ج 1، وأعمى الناس عن مكانهم طيلة هذه المدة وحفظهم الله من البلى بما قصه علينا في كتابه وهو خير حافظا، كما أعمى الله قريشا عن حضرة الرسول حينما تخبأ في الغار الوارد في الآية 40 من سورة التوبة في ج 3، راجع تفصيلها في بحث الهجرة آخر هذا الجزء. ولما لم يقفوا على خبرهم ولم يهتدوا لهم وقد أيسوا منهم بعد أن صرفوا غاية جهدهم، فأمر الملك أعوانه أن يكتبوا أسماءهم وأنسابهم وتاريخ فقدهم والمكان الذي فقدوا به والسبب الداعي لهربهم على صحيفة من نحاس ففعلوا، ثم أمر بحفظها في خزانته ليطلع عليها من بعدهم، وبقي دقيانوس ومن بعده على حالتهم، ثم بعد زمن عظيم ملك تلك المدينة رجل صالح اسمه بندوسيس فتحزب قومه معه وصار منهم من يدعو إلى الإيمان تبعا للملك ويقر بالبعث والحشر، ومنهم من أصر على التكذيب وعبادة الأوثان، ولما رأى الملك ظهور الكفرة على غيرهم حزن ودخل بيته وجعل تحته رمادا ولبس مسحا وصار يتضرع إلى الله بأن يظهر له آية تحق الحق وتبطل الباطل، فألقى الله في نفس أولياس من أهل البلد الذي فيه الكهف أن يبني حظيرة لغنمه على باب الكهف، ونزع ما كان من الحجارة عليه، فأذن الله تعالى لهم باليقظة فقاموا كأنما استيقظوا

من ساعتهم، فقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم اذهب إلى المدينة متنكرا مترفقا وانظر ماذا يقول الجبار دقيانوس فينا وأتنا بطعام تشتريه من أحد المؤمنين، وقال مكسليخا اثبتوا يا إخواني على الإيمان وارفضوا الأوثان رفضا باتا ولا تخافوا من أحد أبدا على فرض عثورهم علينا ومطاردتنا، لأننا ملاقو الله، ثم تكلموا بينهم على مدة لبثهم وكلوا يظنون أنهم ناموا ليلة وقعدوا على عادتهم، ولما رأوا حالتهم وطول أظفارهم وشعرهم عرفوا أن نومهم كان كثيرا جدا، فقوضوا أمر علم موتهم إلى الله كما ذكر الله، ثم خرج يمليخا من الكهف ورأى الأحجار مبعثرة فلم يلق لها بالا، وتوجه نحو المدينة حتى إذا دخلها تخيل له أشياء لم يعهدها قبل، حتى انها غير مدينتهم، فدنا إلى بياع الطعام فأعطاه قطعة من فضة وقال له أعطني بها طعاما، فلما تناولها رأى نقشها قبل ثلاثة قرون وأكثر، فقال له من أين لك هذه لعلك وجدت كنزا من هذا الورق؟ فلم يعرف ما يقول له، فاجتمع الناس وصاروا يكلمونه وهو لم يرد عليهم، فأخذوه إلى مدير المدينة وكان مؤمنا اسمه اريوس واسم صاحبه الذي معه طنطيوس وهو مؤمن أيضا، وظن يمليخا أنهم أخذوه إلى دقيانوس، فانقطع قلبه من الخوف وصار يبكي ويقول يا ليت إخوتي معي فنقدم جميعا بين يدي هذا الجبار لأنا تواثقنا على الإيمان وعدم الافتراق أحياء وأمواتا، فقال له يا فتى أين الكنز؟ فقال لا كنز عندي هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وو الله ما أدري ما شأني وشأنكم وماذا أقول لكم، فقالا له من أنت؟ فقال يمليخا من أهل هذه المدينة، فقالا أنت بمن يعرفك، فصار ينظر إلى وجوه القوم فلم يعرف أحدا، فقالا له أنت كذاب، فاغتاظ من وصمهم له بالكذب، فلم يرد عليهم ونكس بصره إلى الأرض واختار السكوت إذ لم يعرف ماذا يقول لهم، فقالا له لا نرسلك ولا نصدق قولك أبدا، لأن نقش هذا الورق قديم وأنت شاب فكيف تزعم أنه مال أبيك ونقش هذه البلدة، ولكن بين لنا الحقيقة لنتركك، قال أخبروني ما فعل الملك دقيانوس؟ فقالا لا يوجد على الأرض ملك بهذا الاسم، إن كان قديما فقد هلك، فقال إني حيران وإن قلت لكم حقيقتي لا تصدقوني، فقالا قل لعلنا نستنبط من كلامك ما نستدل به على خفية الأمر، فقال نحن فتية

كنا على دين واحد وهو عبادة الله وحده، فأكرهنا الملك دقيانوس على عبادة الأوثان، فهربنا منه وتبعنا راعي غنم وكلبه، وقد أوينا إلى الكهف بجبل مخلوس ونمنا فيه، فلما انتبهنا لم نعلم المدة التي نمنا فيها لما رأينا من هيأتنا، وقد أرسلني إخوتي لأشتري لهم طعاما والتجسس الأخبار، وقد ظهر لي تبدل كثير في المدينة وأهلها، ولما أعطيت قطعة من ورقي لبائع الطعام صار على ما ترون، وإن لم تصدقوا فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقا وغالب أهل المدينة معهم، ولما قربوا من الكهف سمع أصحابه اللغط، فظنوا أن جنود الملك جاءت لتأخذهم فسلم بعضهم على بعض وقالوا لنذهب إلى الجبار ونرى صاحبنا، فلما هموا ليخرجوا فإذا المديران ويمليخا وأهل البلد على باب الكهف، فتقدم يمليخا وقص عليهم الخبر، فعرفوا أنهم كانوا تياما بأمر الله ذلك الزمن الطويل، وأوقظوا ليكونوا آية للناس على صدق البعث، ثم رأوا تابوتا من نحاس داخل الكهف مختوما، وكان رجلان مؤمنان بدروس وروماس يكتمان إيمانهما زمن الملك دقيانوس كتبا أنساب الفتية في لوح من رصاص ووضعاه في التابوت وطرحاه في الكهف، ففتحوه فإذا فيه: إن مكسليخا ويمليخا ومخشلينا وطرطوس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوش وقالوس والكلب قطمير كان هؤلاء فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا الكهف، فلما أخبر الملك بمكانهم أمر بسده عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وشأنهم ليعلم من بعدهم حقيقتهم. فلما رأوا ذلك عجبوا ودهشوا، وأرسلوا خبرا إلى ملكهم الصالح بندوسيس أن أقبل، فإن الله أظهر لك آية على البعث، فجاء ودخل الكهف هو ومديراه وحيوهم بالسجود المعتاد إذ ذاك وتعانقوا معهم وصاروا يسبحون الله تعالى ويحمدونه ويمجدونه، ثم ان الفتية بعد ذلك قالوا للملك ومديريه إنا نستودعكم الله وناموا فتوفاهم الله تعالى. ثم إن الملك أمر بأن يصنع تابوت لكل منهم ليوضع فيه وأن يدفنوا في الكهف كل بمحل نومته وأن يعمر مسجد على باب الكهف، وكان ذلك، ولما رجعوا تحروا خزانة الملك فوجدوا لوحا مكتوبا فيه أسماؤهم وأنسابهم وشأنهم كما في اللوح الذي وجدوه بالتابوت الكائن معهم في الكهف، وقد آمن أهل البلد كلهم لظهور هذه الآية العظيمة، والله أعلم.

مطلب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة الفقراء المؤمنين والإعراض عن الكفرة مهما كانوا، وقصة أصحاب الجنة:

هذا على القول بأنهم كانوا بعد المسيح، وهناك قول آخر بأنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، والقرآن لم يبين لنا زمانهم، لذلك يجب أن نحيل العلم بزمانهم وعددهم إلى العليم الخبير وهو أسلم. وفي إكرام هؤلاء الفتية دليل على صحة كرامات الأولياء، وكذلك قصة عرش بلقيس المارة في الآية 39 من سورة النمل وما ذكرناه أول سورة الجن وما ذكر في سورة مريم في الآية 16 فما بعدها من سورتها في ج 1 وآخر سورة الأحقاف المارة وما ذكر في الآية 37 من سورة آل عمران ج 3 عن مريم وزكريا، والأدلة السمعية والنقلية والعقلية تدل على ثبوتها، والأخبار متواترة والآثار شاهدة ومؤكدة على وجودها ولا ينكرها إلا فاسق مارق. قال تعالى «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ» مما أخبرك به عن هذه القصة وغيرها ولا تلتفت إلى الأقاويل فيما يخالف ذلك لأنه محرف مبدل مغير وإن ربك «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ولا مغيّر لها البتة «وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» 27 حرزا تلجأ إليه فيه منه عند إلمام ملمة. وملتحد في الأصل المدخل في الأرض، قال خصيب الضمري: يا لهف نفسي ولهف غير مجدية ... عني وما عن قضاء الله ملتحدا ويأتي بمعنى الميل والعدول، والأنسب هنا ما ذكر أولا. وهذه الآية المدينة الأولى من هذه السورة. مطلب أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بملازمة الفقراء المؤمنين والإعراض عن الكفرة مهما كانوا، وقصة أصحاب الجنة: قال تعالى «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ» إلى غيرهم وتتركهم «تُرِيدُ» بمجالسة غيرهم من الأشراف والأغنياء بقصد «زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» فتستبدل محبتهم وهم مؤمنون بسبب فقرهم وميلهم للآخرة بأناس كفرة دنيويين لكونهم أغنياء ورؤساء كلا لا تفعل «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ» في شهوات الدنيا وملاذها وهو عيينة الآتي ذكره النازلة في حقه هذه الآية، وأمية ابن خلف الذي يقول في حقه جل قوله «وَكانَ أَمْرُهُ»

في الآخرة «فُرُطاً» 28 هلاكا وخسرانا، والفرط الظلم والاعتداء ومجاوزة الأمر عن حده وضياع الأمر عن وقته وتعطيل العمر في اللهو والسرف في الشيء الباطل، نزلت هذه الآية قيل وما بعدها في سيدنا سلمان الفارسي ورفقائه رضي الله عنهم، وذلك حين أتى عيينة بن حصن الفزاري إلى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان عند حضرة الرسول جماعة من فقراء المسلمين، فقال له أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحهم عنك، حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا على حده لأنا لا نرضى أن نجالسهم، فلم يلتفت لقولهم. ومن قال إنها نزلت في أمية ابن خلف، قال إن هذه الآية مكية بالنظر لأن السورة مكية، والصواب ما جرينا عليه وعليه أكثر المفسرين، وقد أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان رضي الله عنه، وروى أبو الشيخ عنه ذلك، وإن حضرة الرسول صار يلتمسهم ويتعاهدهم أكثر من ذي قبل، حتى قال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، ثم قال إلى سلمان وأبي ذر وأمثالهما معكم الحياة والممات. أما الآية المكية التي نزلت في سيدنا بلال ورفقائه الخمسة التي تضاهي هذه الآية، فهي الآية 52 من سورة الأنعام المارة كما أشرنا بها عن هذا فراجعها. ثم التفت إلى حبيبه صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «وَقُلِ» يا سيد الرسل لقومك عاملي القلوب عما يراد بهم في الآخرة «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها الغافلون عن ذكره انتبهوا فإليه الأمر ومنه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ» بهذا القرآن المنزل عليّ من ربي «وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ: وهذه الجملة جارية مجرى التهديد على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية 40 من فصّلت المارة، وإني لست بمعرض عن هؤلاء لأجل إيمانكم، فإن آمنتم فلكم الجنة، وإن أصررتم على كفركم وظلمتم أنفسكم فالله تعالى يقول «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» السرادق الحجرة التي تحيط بالقسطاط، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن فقد شبه الله تعالى ما يحيط بهم من النار بالسرادق حول الحجرة، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال

[سورة الكهف (18) : الآيات 31 إلى 39]

رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة، أي مساقة عرضه «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا» من شدة العطش فيها «يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ» يشبه عكر الزيت المذاب الشديد الحرارة «يَشْوِي الْوُجُوهَ» لعظم حرارته عند شربه «بِئْسَ الشَّرابُ» ذلك «وَساءَتْ» النار «مُرْتَفَقاً» 29 منزلا لأهلها ومتكأ ومجتمعا، وجيء بهذه اللفظة للمشاكلة مع الآية الآتية وإلا ليس لأهل النار ارتفاق ولا منزل يتكأ فيه ولا مجمع محمود، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى (كَالْمُهْلِ) كعكر الزيت، فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه، أي جلدته أعاذنا الله تعالى منه وأدخلنا في قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» 30 في دنياه، وجملة إنا فما بعدها معترضة بين صدر آيتها وصدر قوله تعالى «أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ» ذلك الثواب عند رب الأرباب «وَحَسُنَتْ» جنة عدن دار الإقامة والخلود «مُرْتَفَقاً» 31 متكأ ومقرا ومجلسا لأهلها، راجع معنى السندس وما بعده في الآية 53 من سورة الدخان المارة ومعنى الأساور في الآية 53 من سورة الزخرف المارة وجعل بعض القراء والمفسرين هاتين الآيتين 30/ 31 آية واحدة وقال إن جملة (لا نضيع) إلخ معترضة بين صدر الآية وعجزها وهو سديد لولا وجود كلمة (أولئك) لهذا فهي آيتان مرتبطتان ببعضهما. قال تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ» يا سيد الرسل «مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» 32 لتكون جامعة للقوت والفاكهة والخضر والزينة معا «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها» ثمرها من كل ذلك «وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» إشعار بأنها حملت حملها المعتاد ونبت حب الزرع كله فلم تجحد منه الأرض شيئا يؤدي إلى نقص الحاصل «وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً» 33 لإتمام النفع وإكمال الزينة لأن أحسن القصور وألطف البساتين ما يجري فيها الأنهار «وَكانَ لَهُ» لصاحبها «ثَمَرٌ» بالفتح جمع ثمرة وبالضم

الأموال المثمرة على الإطلاق «فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ» حالة مخاطبته له «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» 34 أنصارا وحشما، لأن من كان كذلك كثر أصحابه قال: الناس أعوان من والته دولته ... وهم عليه إذا عادته أعوان والناس عبيد الدرهم والدينار، قال هذا القول لأخيه المؤمن «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ» أفردها بالذكر لأنها في الأصل واحدة ولكن لما فصل بينها بالنهر صارت اثنتين بحائط واحد «وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» بما قاله وما خطر بباله من القول السيء الذي أخبر الله عنه بقوله جل قوله «قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» 35 شك الخبيث في دمارها لطول أمله في الدنيا وغروره بعاقبته ونماديه في غفلته وأكثر الناس الآن هكذا مسجلين في الديوان مسلمين، ولم يعملوا عمل الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون وذلك بسبب انهماكهم في الدنيا وغرورهم فيها، ثم تطاول هذا الكافر ولم يكتف بإنكاره وما قاله لأخيه بل تطرق لإنكار البعث أيضا فقال «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» كما يقال ثم بغى وطفى وقال على فرض صحة ما تزعمون أننا نحيا ونرد إلى الله فأنا أقسم لكم «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها» من هذه الجنة التي ترونها «مُنْقَلَباً» 36 مرجعا وعاقبة في الآخرة التي تقولون بوجودها كما أعطاني في هذه الدنيا، ومن هذا القبيل تفوهات بعض السفهة الآن ردهم الله للهدى ووفقهم للرشد ووقانا وإياهم من الردى «فَقالَ» أخوه المؤمن «له» لأخيه الكافر وقد محى الله كلا منهما صاحبا فقال «لِصاحِبِهِ» لأن الصاحب يطلق على الأخ لغة وعلى غيره فلا منافاة لما ذكر من أنهما أخوان «وَهُوَ يُحاوِرُهُ» يجادله بما مر ذكره مستفهما منه بقوله «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» 37 حتى قلت ما قلت ذكره رحمه الله بنعمة الخلق والذكورة والتعديل في الخلقة لعله يتذكر نعم الله عليه فيرجع عما هو عليه، ولما لم يرد عليه لما رأى من كلامه له من التأنيب مضى ونفخ إبليس في أنفه، أعرض عنه أخوه المؤمن وقال له «لكِنَّا» أصلها لكن انا حذفت الهمزة من أنا ونقلت حركتها إلى نون لكن فتلاقت النونان نون لكن ونون انا

[سورة الكهف (18) : الآيات 40 إلى 49]

فأدغمتا بعد أن سكنت الثانية فصارت لكنا «هُوَ اللَّهُ رَبِّي» وقرىء لكن أنا على الأصل وهو استدراك لقوله أكفرت، أي أنت بمقالتك تلك كافر لكن أنا مؤمن «وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» 38 أبدا، ثم قال على طريق الأمر بالحث والإزعاج وهلا «وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ» بدل مقالتك السيئة تلك «ما شاءَ اللَّهُ» اعترافا بأن ما فيها منه وبأمره ومشيئته «لا قُوَّةَ» على عمارة وإنبات ما فيها وحفظه من الآفات لأحد ما «إِلَّا بِاللَّهِ» بمعونته ولطفه في ذاتك أيها المغرور «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً» 39 تكبرت على وتعاظمت «فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ» في الدنيا أو في الآخرة «خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ» ما تدري لعله «يُرْسِلَ عَلَيْها» على جنتك التي أطغتك «حُسْباناً» شهبا وصواعق أو نارا، قال حسان: بقية معشر صبّت عليهم ... شآيب من الحسبان شهب نازلة «مِنَ السَّماءِ» فيدمرها أو يحرقها «فَتُصْبِحَ صَعِيداً» أرضا غبراء لا شية فيها يدل على أنها كانت جنة ذات أشجار وزروع «زَلَقاً» 40 جرداء ملساء تزلق فيها الأقدام لا ثبات فيها، وأصل الزلق المشي في الوحل والزّلل في الرجل، شبه عروها من النبات بعد أن كانت ملتفة بأرض وحلة أو رملة لا شيء فيها مما يستمسك به «أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً» في أعماق الأرض «فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً» 41 لا تناله الأيدي ولا الدلاء فتيبس أشجارها ونباتها. قال تعالى «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» من جميع جهات الجنة إذ أرسل عليها نارا فأحرقتها كلها وصاعقة فأحرق نباتها وغار ماؤها «فَأَصْبَحَ» صاحبها ذلك المغرور بها عند مشاهدتها والنظر إليها «يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ» يضرب أحدهما بالأخرى تأسفا ولهقا عليها، قال عمر ابن أبي ربيعة: وضربنا الحديث ظهرا لبطن ... وأتينا من أمرنا ما اشتهينا وذلك حزنا وندما «عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» من المال والتعب وحرمانه من منافعها وبهجتها «وَهِيَ خاوِيَةٌ» ساقطة مترامية «عَلى عُرُوشِها» أي سقطت جدران الجنة على عروش الكرم، وهذا كناية عن تدميرها كلها وخلائها

من كل ما كان فيها لأن خوا بمعنى خلا «وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» 42 قال هذا لما سقط في يده وقال يا ليتني سمعت موعظة أخي، لأنه عرف أن ما أتاه كان بسبب الكفر والطغيان، لذلك أظهر ندمه حين لات مندم، وقد خاب أمله من الناس لأنهم كانوا يلتفون حوله بغية ما عنده، فلما ذهب ذهبوا عنه على حد قوله: رأيت الناس قد ذهبوا ... إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب ... فعنه الناس قد ذهبوا يدل على هذا قوله تعالى «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيحفظون له جنته «وَما كانَ مُنْتَصِراً» 43 هو أيضا لعجزه. قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك المقام مقام نزول الهلاك وإيقاع الهوان وصبّ العذاب «الْوَلايَةُ» الحقيقية بكسر الواو بمعنى السلطان والملك وبفتحها النصرة والتولي «لِلَّهِ الْحَقِّ» وحده لا يملكها غيره فلا حائل يحول دون تنفيذها ولا مانع يمنع وقوعها «هُوَ خَيْرٌ ثَواباً» لأهل طاعته «وَخَيْرٌ عُقْباً» 44 بضم القاف وسكونها وعلى وزن فعلى شاذا وكلّها بمعنى العاقبة، ضرب الله تعالى هذا المثل بمناسبة الآية المتقدمة النازلة بحق عيينة بن حصن الفزاري وأصحابه المار ذكرهم وفقراء المسلمين سلمان وأصحابه، وذلك أن رجلين من بني إسرائيل ورثا ثمانية آلاف دينار فاقتسماها بينهما، فأما أحدهما فتزوج بألف وبنى قصرا بألف وشرى جنة بألف واشترى متاعا وخدما بألف واسمه قطروس، وأما الآخر واسمه يهوذا فتصدق بها وطلب ثوابها جنة وقصرا وزوجة ومتاعا وخدما في جنته، فأصابته حاجة فتعرض إلى صاحبه، فقال له ما فعلت بمالك؟ فأخبره الخبر، فقال له وإنك لمن المصدقين بأنك تثاب وتعطى وأنك تبعث؟ قال نعم، فقال والله لا أعطيك شيئا ما دامت هذه عقيدتك، فقال والله لا أحول عنها أبدا، وسيغنيني الله عنك ويرديك، فأنزل الله هذه الآية بحقهما وهذان هما المشار إليهما في الآية 50 من سورة الصافات المارة لا المشار إليها في سورة نون ج 1، تأمل.

مطلب مثل الدنيا وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطقها يوم القيامة كما في السينما:

مطلب مثل الدنيا وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطقها يوم القيامة كما في السينما: قال تعالى «وَاضْرِبْ» يا سيد الرسل «لَهُمْ» لقومك على صحة البعث «مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» من كل صنف ونوع وجنس ولون وشكل كان ملتفا بعضه على ببعض متكاثفا زاهيا رابيا تهتز به الأرض ابتهاجا وحسنا «فَأَصْبَحَ» بعد ذلك «هَشِيماً» يابسا مفتتا «تَذْرُوهُ الرِّياحُ» واعلم أن كلمتي تذروه والذاريات لم تكررا في القرآن، أي تنسفه يمينا وشمالا «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» 45 ضرب الله تعالى هذا المثل يشبه به حال الدنيا في نضرتها وزينتها وما يطرأ عليها من الهلاك والفناء بالنبات في الأرض يخضر ويزهو ثم ييبس ويتكسر فتطيره الرياح ثم يحييه الله تعالى بالمطر فيعود كما كان كأن لم يطرأ عليه شيء، وهكذا الخلق ينشأ من الماء أيضا فيكثرون ويتباهون بالأموال والأولاد والرياسة والجاه ثم يموتون ثم يحييهم الله تعالى كما كانوا، ثم يعاملون بمثل أعمالهم، فيحيا حياة طيبة دائمة من حيّ على بينة ويهلك هلاكا قبيحا دائما من هلك على بينة. ونظير هذه الآية في المعنى الآية 34 من سورة يونس المارة. قال تعالى «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتفاخر بها أهلها «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» زينة الحياة الآخرة وهذه «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً» من زينة الدنيا «وَخَيْرٌ أَمَلًا» 46 ممّا يؤمله الإنسان من جميع خيرات الدنيا لعظيم جزائها عند الله، وهو نائلكم حقا، لأن وعد الله بها صادق، وأكثر آمال الدنيا كاذبة قد لا ينالها الإنسان، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. وأخرج مالك في الموطأ أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، والحقيقة أنها كل عمل صالح. قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» عن مواقعها هذه فتجعلها هباء منثورا، راجع الآية 107 من سورة طه والآية 4 من سورة الواقعة في ج 1، وأمثالها كثير في القرآن «وَتَرَى الْأَرْضَ» بعد ذلك «بارِزَةً»

ظاهرة للعيان لا بناء فيها يسترها ولا شجر يحجبها ولا جبل يغطيها ولا خلق عليها ولا فيها، راجع الآية 4 من سورة الإنشقاق في ج 1 والآية 2 من سورة الزلزلة في ج 3 ولا أنهار ولا بحار، وذلك عند النفخة الأولى «وَحَشَرْناهُمْ» الموتى المدفونين فيها أحياء بعد ذلك وسقناهم إلى الموقف فأحضرناهم فيه بعد النفخة الثانية «فَلَمْ نُغادِرْ» نترك في بطن الأرض والماء والحيوان والحوت والهواء «مِنْهُمْ أَحَداً» 47 إلا أحضرناه في أرض المحشرَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا» للحساب والجزاء كما يستعرض القائد العام جنوده لا يخفى عليه منهم أحد، أما القائد فقد يخفى عليه آحاد وشتان بين الخالق والمخلوق فيقول لهم الله عزّ وجل وعزتي وجلاليَ قَدْ جِئْتُمُونا» أيها الخلقَ ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» في الدنيا وحدانا لا مال ولا ولد ولا نشب ولا رياش عندكمَ لْ زَعَمْتُمْ» في الدنياَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً» 48 في الآخرة نلاقيكم فيه ونقاضيكم على أعمالكم من صدق وإيمان وكفر وخسران. ونظير هذه الآية الآية 94 من سورة الأنعام المارة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (قلقا) - لأن الغرلة القطعة التي تقطع من جلدة الذكر وهي موضع الختان- كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح- يريد عيسى عليه السلام-: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) إلى قوله (العزيز الحكيم) ، قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، زاد في رواية فأقول سحقا سحقا. قال بعض العلماء المراد بهم- والله أعلم- هم الذين ارتدوا بعده ومنعوا الزكاة من العرب، ولكن الحديث عام فيشمل هؤلاء وغيرهم من أمثالهم، وان من خصّه فيهم استنبط اختصاصه من قوله صلّى الله عليه وسلم (أصحابي) إذ لا يسمى صاحبا إلا من شاهد حضرة الرسول أو شاهده الرسول ليدخل الأعمى ومات على ذلك «وَوُضِعَ الْكِتابُ» أل فيه للجنس إذا أريد به أهل اليمين

وأهل الشمال، وظاهر ما بعده تخصيصه بأهل الشمال فقط، فتكون أل فيه للعهد أي الكتاب المعهود الذي فيه صحف أعمالهم، قال صاحب الجوهرة في منظومته: وواجب أخذ العباد الصحفا ... كما من القرآن نصا عرفا وقال بدء الأمالي: وتعطى الكتب بعضا نحو يمنى ... وبعضا نحو ظهر أو شمال والحكم الشرعي: وجوب اعتقاد هذا، ومن أنكره فهو كافر لإنكاره كلام الله دون تأويل أو تفسير، قدمنا ما يتعلق بهذا في الآيتين 36/ 37 من سورة الإسراء المارة في ج 1، وله صلة في الآية 9 فما بعدها من سورة المطففين الآتية، «فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ» خائفين من سوء أعمالهم «وَيَقُولُونَ» عند مشاهدته «يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ» استفهام تعجب من كونه «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من أعمال بني آدم وغيرهم «إِلَّا أَحْصاها» أثبتها ودونها فيه «وَوَجَدُوا» فيه كل «ما عَمِلُوا» في دنياهم «حاضِراً» بحيث يخيل إليهم فعلهم وقولهم كما أوقعوه في الدنيا بتخييل حقيقي وتمثيل واقعي بحيث ينطق كل بما وقع منه، بخلاف تمثيل أهل الدنيا (سينما) فإنه صوري وما يسمعونه من الكلام ليس من كلام الأشباح المخيلة نفسها بل من الشريط المعروض كالأسطوانات التي تمر عليها الإبرة، ونظير هذه الآية الآية 21 من آل عمران ج 3، فيسمعون كلامهم أنفسهم وكلام من تكلموا معه ويسمعون نطق جوارحهم بما عملت وبأي مكان وزمان يرونه أيضا ويرون جزاءه مهيأ بنسبته «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» 49 بحيث لا ينقص ثوابا ولا يزيد عقابا ولا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يثيب أحدا بغير عمل صالح، وهذا لا على سبيل الوجوب إذ له جل جلاله إثابة العاصي وعقاب الطائع إذ لا يسأل عما يفعل وإنما يعامل العاصي بمقتضى العدل والطائع بحسب الفضل، فمن أين لكم أيها الناس بعد هذا تنكرون إعادة خلقكم وتكذبون رسلكم، وقد ضرب لكم الأمثال الحقيقية عليه وقص عليكم رسله نتيجة ما تؤولون إليه.

[سورة الكهف (18) : الآيات 50 إلى 59]

مطلب إبليس من الجن لا من الملائكة وانواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار: قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك بعد قصة أهل الكهف وأصحاب الجنة وحال البعث ومنكريه «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» وهذا السجود للتحية والتكريم لا للعبادة، لأن سجودها خاص بالمعبود العظيم وحده، وكان اسمه عليه اللعنة بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، فلمّا عصى سمي إبليس لأنه أبلس وأيس من رحمة الله وغيرت صورته إلى السمرة والزرقة بعد البياض والصفرة والحمرة. وهذا الخبيث الذي لم يتمثل أمر ربه «كانَ مِنَ الْجِنِّ» وهذا كلام مستأنف كأنه قيل لم لم يسجد مع الملائكة، فقيل لأن أصله من الجن لا من الملائكة إذ لو كان منهم لما تخلف عن أمر ربه لأنهم لا يعصون الله فيما يأمرهم طرفة عين ولا يغفلون عن ذكره، فثبت أنه من الجن بنص هذه الآية التي لا تقبل التأويل. واعلم أن قبيلة إبليس انقرضت ولم يبق منها غيره فهو أصل الجن والشياطين، كما أن آدم أصل البشر، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: قاتل الله أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول كان من الجن. وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وانه الأصل الجن كما أن آدم أصل البشر فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس من غير تشبيه، لأن نوحا أبو البشر الثاني بسبب إهلاك من قبله من ذرية آدم، وإبليس أبو الجن الثاني بسبب انقراض الجن قبله من ذرية أبيهم الجان. ومن هذا يعلم أن ما قيل إنه من الملائكة لا يستند إلى دليل صحيح، وهو قيل مخالف لصراحة القرآن، وإن من قال أنه منهم عده من أقربهم إلى الله، وهذا يقدح في عصمة الملائكة الذين لا خلاف في عصمتهم، راجع الآية 158 من الصافات المارة وما ترشدك إليه فقيه ما تريده، ولهذا فإن الاستثناء في هذه الآية منقطع على حد قوله تعالى (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) الآية 58 من الزخرف المارة على العكس في المعنى أي في المستثنى والمستثنى منه، ومثله في قوله تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) الآية 63 من سورة مريم في ج 1، لأن المستثنى فيها ليس

من جنس المستثنى منه. أما إطلاق لفظ الجن على الملائكة في قوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) الآية 158 من سورة الصافات المارة على قول من قال إن المراد بالجنة فيها الملائكة، لأن العرب تقول إن الملائكة بنات الله، لأنه مأخوذ من الاجتنان وهو الستر، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه، فتدخل الملائكة في هذا اللفظ من هذه الحيثية فقط، وعليه يجوز إطلاق لفظ الجن على كل الملائكة على هذا المعنى، وإلا فالجنّ جنس والملك جنس آخر مخالف، وقد أثبت الله في قوله الآتي أنه له ذرية بنص لا يقبل التأويل ولا يحتمله، وأنت خبير بأن الملائكة لا يتوالدون فلا ذرية لهم، وأنهم خلقوا من نور الله، والجن من ناره بنص القرآن، فلا مشابهة بينهم في أصل الخلقة، تدبر «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» بعدم الامتثال تكبرا لزعمه أنه أفضل منه، راجع هذا البحث في الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1، «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ» يا بني آدم «أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي» بعد أن خالف أمري وطرد من رحمتي «وَهُمْ» إبليس وذريته «لَكُمْ عَدُوٌّ» أيها الناس ثابت العداوة مع أبيكم آدم بالنص القطعي، فإذا كنتم إليه ولذريته ظلمتم أنفسكم بدل أن ترحموها، والله تعالى يقول «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ» المتخذين أعداءهم أولياء «بَدَلًا» 50 من الله تعالى، قيل إن إبليس يوسوس للعبد بترك الصلاة ويوسوس له فيها أيضا ليقطعها عليه، وله من نوع الذرية خمس: (1) الأعر يحبب للناس الزنى (2) ووتير يجزّعهم على المصائب (3) ومسوط يلقي في قلوبهم الأراجيف (4) وداسم يأكل ويشرب مع من لم يسم الله تعالى (5) وذو بنور الذي يرغب الناس للدخول في الأسواق. وقد أخرج ما بمعناه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن مجاهد، وروى مسلم عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك شيطان يقال له جثرب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا، قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. وروى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا،

ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت. قال الأعمش أراه قال فيلتزمه أي يضمه إلى صدره تحيذا لفعله، عليه وعلى ذريته الكافرة اللعنة والغضب. وروى ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس يولد لآدم ولدا إلا ولد معه شيطان يقرن به، ولا علينا أن نعلم كيفية توالده، لأن كثيرا من الأشياء لم يطلع الله عليها خلقه، والقصد وجوب الاعتقاد بحصول الذرية له، سواء أكان ذلك كالبشر أم كالحيوان أو كالطير أو الحوت أو الحشرات وغيرها. قال تعالى «ما أَشْهَدْتُهُمْ» أي إبليس وجنوده وذريتهم «خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» أي ما أطلعتهم على ذلك، لأني خلقتها قبل خلقهم، فافردوني أيها الناس بالعبادة كما انفردت بالخلق، وإياكم أن تشركوا في ذلك غيري فتظلموا أنفسكم «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» 51 أعوانا أستعين بهم على خلقهما أو خلق شيء مما فيهما وعليهما فكيف تتخذونهم أولياء من دوني أيها الكفرة «وَ» اذكر يا محمد لقومك حالة أولئك المتخذين شريكا معي «يَوْمَ يَقُولُ» لهم يوم القيامة «نادُوا شُرَكائِيَ» الذين عبدتموهم في الدنيا «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم شركائي وأنهم يشفعون لكم في الآخرة هذه «فَدَعَوْهُمْ» واستغاثوا بهم هلم انقذونا مما نحن فيه واشفعوا لنا كما وعدتمونا في الدنيا «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» لأنهم إن كانوا من الملائكة أو عزيز وعيسى وعلي عليهم السلام أو غيرهم من البشر فإنهم يتبرءون منهم ويستعيذون بالله من عبادتهم ويتضرعون إلى الله بالعفو عنهم من هذه النسبة الباطلة، وإن كانوا من الأصنام فهي حجارة أو خشب أو غيرها من الجماد الذي لا يسمع ولا يتكلم، ثم يحال بينهم وبين ما يعبدون لقوله تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ» وبين أوثانهم «مَوْبِقاً» 52 مهلكا، قال ابن عباس هو واد في النار يجتمعون فيه في جهنم «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا» أيقنوا وتحققوا «أَنَّهُمْ مُواقِعُوها» مدفعون إليها وداخلون فيها وذلك بعد أن أراهم عجز أوثانهم وتبرأ الأولين وإهلاك الآخرين في الموقف بعد الحساب والقضاء «وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» 53 لأنهم بعد أن أوقعوا فيها أحاطت بهم من

كل جانب فلا محيص لهم غير الاحتراق فيها. قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليتعظوا فلم ينجع بهم «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» 54 في الباطل، وقيل إن هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث، وقيل في أبي بن خلف، لأنهما أكثر الكفرة جدالا في القرآن، والآية عامة فيهما وفي غيرهما ممن عمل ويعمل عملهما إلى يوم القيامة، وفي كل من يجادل في آيات الله بالباطل. روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا، فقال ألا تصليان؟ فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا (أي لما تريده منا) فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته يقول وهو مول يضرب فخذه بيده (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) . وهذا الحديث لا يعني أن الآية نزلت في ذلك، وإنما ذكرها حضرة الرسول بمناسبة ما قاله علي تعجبا من سرعة جوابه وعدم موافقته له على القيام إلى الصلاة، وفيه إيماء إلى عدم قبول قوله، ولهذا ضرب فخذه. قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ» مما هم عليه «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» هلاك الاستئصال «أَوْ» انتظار لأن «يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» 55 عيانا مقابلا لهم يشاهدونه بأعينهم، وهو جمع قبيل، وإذ ذاك لم يقبل منهم الإيمان، لأن الحالة حالة يأس وبأس، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة، أي انهم لا يؤمنون بأحد هذين الشيئين، وذلك ليس من شأن العاقل، إذ عليه أن يؤمن بمجرد وضوح الدلائل على الإيمان، وقرىء قبلا بضم القاف والباء، وبكسر القاف وفتح الباء، والمعنى ضروب من أنواع العذاب وبفتحتين مستقبلا، وهو ما يجوز فيه ثلاث لغات كالعمر والقصر والدهر والولد والرغم والشط والسقط والفتك والشرب والفم والضر والزعم والوجد والقلب والضب والطب والقطب والحرض. قال تعالى «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» الأمم بعقاب العاصي وثواب الطائع «وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أنبياءهم «بِالْباطِلِ» مثل قولهم (ما أنتم إلا بشر مثلنا) وقولهم (لو شاء الله لقلنا مثل هذا) (ولو شاء الله لأنزل ملائكة)

(ولولا أنزل هذا القرآن على رجل) الآية، وأشباه هذه الآيات كقولهم ساحر وكاهن وشاعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين واختلاق وافتراء إلى غير ذلك «لِيُدْحِضُوا» يزيلوا ويبطلوا ويمحقوا «بِهِ» بجدالهم هذا «الْحَقَّ» الذي جاءهم من عندنا على أيدي رسلهم «وَاتَّخَذُوا» أولئك الكفرة «آياتِي» التي أنزلتها إليهم بواسطة رسلى «وَما أُنْذِرُوا» به منها وما فيها من التهديد والوعيد والتقريع والتوبيخ والتبكيت «هُزُواً» 56 سخرية بضم الزاي وإسكانها «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» يريد القرآن خاصة بدليل تذكير الضمير فيما يأتي «فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» من الكفر والعصيان، أي لا أظلم من هذا أبدا «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» أي الذين ذكروا فأعرضوا «أَكِنَّةً» أغطية كثيفة «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يعوه ويفهموه «وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» لئلا يسمعوه ويعقلوه «وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى» الذي تريده لهم يا سيد الرسل «فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» 57 لسابق سقائهم وإحقاق الكلمة عليهم، لأن هذه الآية خاصة في أقوام منهم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون أبدا «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ» على كفرهم، ولكن من مقتضى رحمته تأخيره، ولذلك جاء الإضراب بعده بقوله «بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ» لتعذيبهم في الدنيا كما لهم موعد لعذابهم في الآخرة لا خلف فيه «لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» 58 منجى وملجأ قال الأعشى: وقد أخالس رب الدار غفلته ... وقد يحاذر مني ثم مائيل ينجو. قال تعالى «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا» أعاد الضمير لأهلها، والمراد بهم هنا الذين يعلمونهم أكثر أهل مكة وهم قوم نوح فما بعده، لأن القرى لا تهلك إلا بهلاك أهلها، وإلا فما داموا فيها فهي عامرة بهم، وكان سبب إهلاكهم الظلم «وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» 59 أجلا فاجأناهم به، والمراد به هلاك الاستئصال عقابا لهم على ظلمهم لأن غيره يحصل لكل الأمم، أي وكذلك قومك يا محمد إن لم يؤمنوا فيحل بهم ما حل بهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 69]

مطلب قصة موسى عليه السلام مع الخضر رضي الله عنه: قال تعالى «وَ» اذكر لقومك هذه القصة العظيمة أيضا «إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام، وهو ابن أخت موسى كما ذكروا وأكبر أصحابه، وخليفته في شريعته بعد هرون عليهم السلام، وهو من عظماء بني إسرائيل وسمي فتى، وهو هنا بمعنى خادم وعبد لقيامه في خدمته ودوام متابعته له وكثرة تعلمه منه، وإلا فمعنى الفتى الشاب الطري السجي الكريم، والفتوة لقب شرف ويأتي بمعنى الحديث في السن، ولهذا يقال لليل والنهار الفتيان، والتلميذ عبد حكمي لأستاذه مهما كان شريفا أو حقيرا. قال شعبة: من كتبت عنه أربعة أحاديث فأنا عبده، ومن علمني حرفا كنت له عبدا. ومقول القول «لا أَبْرَحُ» لا أزال أسير «حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» قالوا بحر فارس والروم وملتقاهما مما يلي المشرق ولعل المراد بما يقرب من مجمعهما لأنهما لا يجتمعان إلا في البحر المتوسط وهما شعبتان فيه «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» 60 أداوم على السير زمنا طويلا، والحقب ثمانون سنة، وذلك أن الله تعالى وعد موسى أن يلقى الخضر هناك، وموسى هذا هو ابن عمران، وما قيل إنه ابن ميشا من أولاد يوسف لا صحة له ولا ثقة بالمنقول عنه وهو كعب الأحبار، لأن الله تعالى لم يذكر في كتابه مسمى بهذا الاسم غير صاحب التوراة، ولو أراد غيره لذكره وعرفه ليتميز عنه، روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس إن نوفل البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو بني بني إسرائيل، فقال ابن عباس كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال أنا فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه (أي لم يقل الله أعلم) فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال يا رب فكيف لي به؟ قال فخذ معك حوتا فاجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة (بوجد بقرب ملتقى نهر الكلب والبحر الأبيض المتوسط في بيروت صخرة عظيمة

يزعمون أنها هي تلك الصخرة، وأن المراد بملتقى البحرين نهر الكلب والبحر الأبيض هناك، وهو قول لم يثبت، وقد ذكرنا غير مرة بأن أشياء كهذه لا يمكن القطع بها، وأن كل ما لم يبينه الله يجب أن نحيل العلم فيه إليه) وضعا رءوسهما فناما، فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، وتيقظ يوشع عند ذاك فرآه، قال تعالى «فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» أي نسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه من أمر الحوت وهو قوله تعالى «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً» 61 إذ أمسك الله عن الحوت جرية الماء وموجه فصار عليه مثل الطاق، وان موسى لم يسأله عن المكتل الذي فيه الحوت ولهذا نسب الله تعالى النسيان إليهما وبقيا يمشيان بقية يومهما وليلتهما «فَلَمَّا جاوَزا» المكان الذي فقدا فيه الحوت وداوما على السير ألقى الله على موسى الجوع ليتذكر موعد ربه، حتى إذا كان الغد من هذا اليوم «قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» 62 وذلك لأنه جاوز المحل الذي أمره الله به، أما قبله فلم يحس بتعب لأنه لا يكلف عبده بما لا قدرة له به ولا طاقة له عليه سواء في العمل أو في العبادة، راجع الآية الأخيرة من سورة البقرة في ج 3، فتيقظ إذ ذاك يوشع و «قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ» قال له موسى بلى، قال «فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» أي نسيت أن أقص عليك خبره، فذكر له شأنه وقال «وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لك، قال هذا على سبيل الاعتذار، ثم قال «وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» 63 أي أن خروجه من المكتل ودخوله البحر وصيرورة البحر عليه طاقا كالسرب كان عجبا، قيل كان في أصل الصخرة عين ماء يقال لها عين الحياة لا يصيب شيء من مائها إلا حيّ، وقد أصاب ذلك الحوت منها شيء، فتحرك وانسل من المكتل إلى البحر، مع أنه كان مطبوخا، ولهذا كان لموسى وفتاه عجبا، لأنه حوت مطبوخ وقد أكلا منه، والأعجب منه أيضا ماء البحر مع شدة موجه، وما يحصل فيه من الجريان يمينا وشمالا بسببه يكون سربا مثل الطاق ويبقى على حاله زمنا، إلا أنه ليس بأعجب من فلق البحر له عليه السلام، وإنما لم يتعجب منه لأن الله وعده به «قالَ»

[سورة الكهف (18) : الآيات 70 إلى 79]

موسى لفتاه «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» من المكان الذي نطلبه «فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» 64 حتى وصلا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب وهو المعني بقوله تعالى «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا» هو الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان، وقالوا إن من عرف اسمه واسم أبيه ومات مسلما دخل الجنة، نقله الباجوري في حاشيته على شرح ابن قاسم، ونقل ابن زياد في فتاويه غاية بلوغ المرام عن العلامة أحمد بن زيد الجيش من كتب (علي عليه السلام ولد في 10 رجب سنة 30 من عام الفيل دخل الجنة) والله يرزق من يشاء بغير حساب إذا أراد فعل، ثم وصف ذلك العبد بقوله «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» 65 وهو الإخبار بالمغيبات التي خصه الله بها، قالوا فلم عليه موسى فقال عليه السلام، وانا بأرضنا السلام، ثم رد عليه وقال من أنت؟ قال موسى، قال موسى بني إسرائيل، قال نعم، قال وما شأنك «قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» 66 وقد ثبت عن حضرة الرسول أن هذا هو الخضر عليه السلام، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّي الله عليه وسلم إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء (الفروة القطعة من النبات اليابس المجتمع، وتطلق على وجه الأرض أيضا) قالوا وكنيته أبو العباس وكان من أبناء الملوك الأقدمين الذين تزهدوا وتركوا الدنيا، قالوا قال يا موسى أما يكفيك التوراة والوحي وتكليم الله لك، قال إن ربي أرسلني إليك، ثم قال له من أين عرفتني موسى نبي إسرائيل، قال عرّفني الذي أرسلك إليّ ثم «قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 67 يا موسى لأني على علم علمنيه ربي لا تعرفه «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» 68 ولا تقدر أن تعرفه لأنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا وقد أعمل بخلافه لأنك تنظر إلى ظاهر الأمور وأنا إلى باطنها «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» استثنى عليه السلام لعدم وثوقه من نفسه بالصبر، ثم قال «وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» 69 من الأمور ولا أخالفك في شيء تريده لأني جئتك متعلما «قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ» يتعلق بصفات الألوهية الذي لا يحل السؤال عنه

لأن ما أفعله مخالف ظاهره لظاهر الشرع، لأني سأفعله مبدئيا وان أنكرته، وقرىء تسألنّي بفتح اللام وتشديد النون وثبوت الياء فيه وفيما قبله إجماعا، بخلاف ياء (نبغ) لأن منهم من حذفها ومنهم من أثبتها وعليه الوقف والقراءة في المصاحف بتخفيف النون وإسكان اللام «حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» 70 فأبينه لك من تلقاء نفسي، فرضي موسى على هذا الشرط وترافقا «فَانْطَلَقا» يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلموهما أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلم ير موسى إلا الخضر عمد إلى لوح من السفينة، فقلعه، وذلك قوله تعالى «حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» ثقبها فالتفت إليه موسى وقال له قوم حملونا بغير نول تعمد إلى سفينتهم فتخرقها، وهو قوله تعالى «قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» 71 كبيرا عظيما يقال امر الأمر إذا كبر، ومنه قول أبي جهل لعنه الله أمر أمر ابن أبي كبشة يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم وأبو كبشة زوج مرضعته حليمة، فيكون أباه من الرضاع، ولم ينسبه لأبيه عبد الله استحقارا به حقره الله في ناره «قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 72 وقد وعدتني بالصبر واشترطته عليك وعدم السؤال فلم توف بالشرط «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي» تحملني وتغشني «مِنْ أَمْرِي عُسْراً» 73 فلا تشدد وتعسر علي متابعتك واعف عن هفوتي وعاملني باليسر والسهولة، وإنما قال له ذلك لأنه لم ير الماء دخل السفينة من الثقب، ولم يعارضه أهلها بذلك لأنهم يعرفونه لا يعمل شيئا عبثا، قالوا وجاء عصفور فوقع على خرق السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال الخضر لموسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، وإنما اعترض عليه موسى لأن فعله مخالف للظاهر، ولا يجوز للأنبياء السكوت على ما يرونه مخالفا لشريعتهم وهم معذورون إذا لم يصبروا لا سيما وأن في عمله ذلك خطر على أهل السفينة الراكبين فيها ومضرة على أصحابها، وكلا الأمرين غير جائز بل ممنوع شرعا بحسب الظاهر، ثم خرجا من السفينة وصارا يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأمسكه واقتلع رأسه من جئته بيده فمات حالا،

وهو قوله تعالى «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» 74 منكرا عظيما لا يتلافى وهو بخلاف خرق السفينة إذ يمكن تلافيه ولأنه قد لا يؤدي إلى الهلاك، وتقرأ نكرا بضم الكاف وسكونها «قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» أكد إنكاره عليه بأن واللام لقوله «لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» 75 وإنما زاد في جملته هذه (لك) لأنه نقض العهد مرتين، فلما أحس موسى بانفعال الخضر من اعتراضه عليه ثانيا، لأن في هذه الجملة تعنيفا له «قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» 76 إذا فارقتني لوضوح العذر ولا لوم عليك البتة «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» بسقط لشدة ميلانه للانهدام «فَأَقامَهُ» أشار إليه بيده فاعتدل «قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» 77 لأنهم لم يضيفونا ولم يطعمونا فلبسوا بأهل لتعمل لهم ذلك عفوا، قالوا إن هذه القرية (أنطاكية) مدفن الرجل الصالح حبيب النجار من أصحاب عيسى عليه السلام، قال أبي بن كعب: قال النبي صلّى الله عليه وسلم كانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا «قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» لأني لا أقدر على مصاحبتك لعدم صبرك على ما ترى مني وعدم علمك نتيجته ولكن «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» 78 روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمة الله علينا وعلى موسى (وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه) لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامه (حياء وإشفاق من الذم واللوم) فقال (إن سألتك) الآية، فلو صبر لرأى العجب. قال تعالى مبينا ما استنكره السيد موسى بقوله «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» قيل كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون بها «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» حتى لا يأخذها أحد منهم «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ (وكان أمامهم ملك) وليس بشيء «يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» 79 لم تتكرر هذه الكلمة بالقرآن

[سورة الكهف (18) : الآيات 80 إلى 89]

أي يأخذها مصادرة لاحتياجه إليها في الحرب وإذا رآها معيبة تركها فكان ما فعلته صلاحا لأهلها إذ يمكنهم إصلاح ما أفسدته منها والانتفاع بها. وفي هذه الآية دليل على أن العامل الذي لا يكفيه عمله يسمى مسكينا ويعطى من الزكاة، قالوا وكان ذلك كافرا اسمه الجلندى، وتوجد في العراق عائلة كريمة تدعى بيت الشاوى من رؤساء عشائر العبيد ينتسبون إلى هذا الملك ولهم مكانة في العراق، وكانت رؤساء العشائر حينما يأتون بغداد يدخلون معرضين رماحهم ويمرون من تحت الطاق العائد لهم إذعانا واحتراما لهم. مطلب عدم جواز القراءة بما يخالف ما عليه المصاحف والقول في نبوة الخضر وولايته وحياته ومماته: قال تعالى «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ» وكان ابن عباس يقرأ (وكان كافرا) وليس بشيء، راجع الآية 6 من الزخرف المارة تعلم أنها تفسير لا قراءة وأن كل ما هو مخالف لرسم المصاحف لا تجوز قراءته «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً» 80 بعقوقه وسوء صنيعه فيحملهما حبه على اتباعه فيكفران «فَأَرَدْنا» بقتله «أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً» صلاحا وتقى «وَأَقْرَبَ رُحْماً» 81 بهما وعطفا عليهما منه، روى البخاري ومسلم عن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانه وكفره، ولذلك فإن أبوي الولد لم يعارضا الخضر عليه السلام بشأن قتله لعلمهما أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة وقد جربوه وهذا أقصى حد في الاعتقاد بالأولياء إذ لا يمكن الأحد أن يحذو حذوه، فاعتبروا يا أولي الأبصار، قال تعالى «وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما» روى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كان الكنز ذهبا وفضة- أخرجه الترمذي- «وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» قالوا اسمه كاشح واسم ولديه أحرم وحريم، قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي

راجع الآية 22 من الطور الآتية تجد هذا البحث، «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما» إذا كبرا وعقلا ويا أخي موسى إنما أقمت لهم الجدار «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» بهما حتى يبقى الكنز محفوظا لهما ولا يليق بنا أن نترك هذا لعدم قيام أهل البلدة بضيافتنا. واعلم أن الذي وقع مني كله بأمر الله «وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» ولا باختياري ورأبي «ذلِكَ» الذي ذكرته لك «تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» 82 واعترضت به علي، هذا وفي قول الخضر عليه السلام عند ذكر العيب (أردت) أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع ربه، وفي الحقيقة إن ذلك من الله لأنه بأمره فعل ما فعل كما قضاه في الأزل عز وجل، وفي ذكر القتل قال (أردنا) بلفظ الجمع تنبيه على أنه من العارفين بعلمه تعالى، العاملين بأمره فيما يؤول إليه الأمر، وأنه لم يقدم على فعل القتل إلا لحكمة عالية بإلهام من ربه، ولذلك أذعن والداه كما مر آنفا، وقال ثالثا (فَأَرادَ رَبُّكَ) لأن حفظ الأنبياء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله وحده، ولذلك أضافه إليه. هذا، وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) إلخ على أن الخضر نبي لأن النبي من لم يفعل بأمره بل بالوحي، والوحي من شأن الأنبياء، وأول هذا المستدل قوله تعالى (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا بأنها النبوة لأن لفظ الرحمة أطلقت في مواضع كثيرة على الرحمة والنبوة والرسالة في القرآن العظيم، وقد أخرج هذا القول ابن ابي حاتم عن ابن عباس، ولذلك مشى عليه جمهور من العلماء على أنه نبي لا رسول، وقال القشيري وجماعة أنه ولي وهو الصحيح، وأجابوا عن قوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) بأنه إلهام من الله والأولياء ملهمون والإلهام من درجات الأنبياء لأنهم أول ما يرون الرؤيا الصالحة الصادقة، ثم الإلهام، ثم الوحي بواسطة الملك، وعن قوله (آتيناه رحمة) إلخ أنه علم الباطن، وعلى هذا أكثر العارفين وأهل العلم. وكما اختلفوا في نبوته وولايته اختلفوا في حياته ومماته فقال أكثر العلماء أنه حي واتفقت الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على حياته وذكروا عنه حكايات كثيرة وأجمعوا على رؤيته والاجتماع به ووجوده في المواقع الشريفة كما ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية

وأبو طالب المكي في كتبه والحكيم الترمذي في نوادره وغيرهم من المحققين الذين لا يتصور اجتماعهم على الكذب لا سيما وفيهم الإمام النووي. وقال الشيخ عمر بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، وقالوا إنه يجتمع بالناس كل سنة بالموسم وانه شرب من عين الحياة وإذ ثبت وجوده بنص القرآن وإجماع المفسرين على أنه هذا العبد الذي أرشد الله رسوله موسى إليه هو الخضر، وقد اكتسب هذا القول درجة التواتر في أقوال الكثيرين فلا يكون عدمه إلا بدليل على موته، ولا نص فيه في كتاب أو سنة أو إجماع أو نقل عن بعض الثقات، وقد وردت أحاديث كثيرة في حياته ضربنا عنها صفحا لعدم وجود ما يقابلها في مماته من صحة السند وثقة الرواة المشهورين من الرجال. هذا وقد احتج من قال بوفاته دون أن يعين زمانا أو مكانا أو معاصرا له من ملك أو مملوك أو حادثة أو واقعة ما، بأن البخاري سئل عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال كيف يكون هذا، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. وما جاء في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل موته: ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية. وما قاله بعض الأئمة عند سؤاله عنه أنه قرأ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) الآية 31 من الأنبياء الآتية، ولا يخفى على ذي الرّوية أن هذه الأحاديث والآية في معرض العام، وما من عام إلا وخصص وما يدرينا لعل الله خصه من ذلك، على أن الآية قد يدخل فيها الخضر لأنه لا بد سيموت، وما قاله ابن تيمية لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى الرسول ويجاهد بين يديه، وقوله صلّى الله عليه وسلم يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، وكانوا ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا، معروفين بأسمائهم وأنسابهم، ولم يكن الخضر معهم، لهذا أصح وأقوى ما جاء في هذا الباب على أنه يجوز أن يكون مخصوصا من عموم ما جاء في ذلك كله كما ذكرنا آنفا، إذ لا عامّ إلا وخصص ولا مطلق إلا وقيد، أو أنه كان يعبد الله تعالى على الماء أو في الهواء لا على الأرض فلا يشتمله قوله صلّى الله عليه وسلم لا تعبد على الأرض، ولا يبعد أنه جاء إلى الرسول وبايعه وجاهد معه إلا أنه

لم يره أحد كالملائكة، ولم يخبر الرسول عنه لأمر ما وكم من مؤمن في زمانه صلّى الله عليه وسلم موجودا ولم يتيسر له الوصول إليه والجهاد معه، وهذا أويس القرني من أخيار التابعين لم يتيسر له الوصول إليه والمرافقة له في الجهاد ولا التعليم، وكذا النجاشي رضي الله عنهما، أما الخبر القائل: لو كان الخضر حيا لرآني، فقد قال الحافظ إنه موضوع لا أصل له، ولا مانع من القول إنه كان يأتي الرسول ويتعلم منه خفية، لأنه غير مأمور بالظهور لحكمة إلهية، على أن كثيرا من الأصحاب والتابعين رأوه وصافحوه حتى في الجهاد منهم عبد الله بن المبارك الشائع الصيت دفين هيت رضي الله عنه الذي لا يشك أحد في صدقه. قال تعالى مبينا القسم الثاني مما سألوه عنه «وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ» اعلم أن ما قالوه بأن اسمه مزربان ابن مرزية بن قيلقوس بن يافث بن نوح عليه السلام، وما قالوا بأنه الإسكندر المشهور غير صحيح، وان الله تعالى لم يسمه الإسكندر وإنما سماه ذا القرنين الذي ملك الدنيا إذ قالوا ملكها مؤمنان هذا وسليمان، وكافران نمروذ وبختنصر واختلف في نبوته ونبوة لقمان وعزيز على أقوال لم يترجح أحدها على الآخر عند الأكثر خوفا من إدخال من لم يكن نبيا مع الأنبياء أو إخراج من كان نبيا منهم وهو أمر عظيم لم يقدم عليه الكاملون العارفون، على أنه رجح صاحب بدء الأمالي عدم نبوتهم بقوله: وذو القرنين لم يعرف نبا ... كذا لقمان فاحذر عن جدال راجع الآية 20 من سورة لقمان لماره، وللبحث صلة في الآية 260 من سورة البقرة في ج 3 نوضحه فيها إن شاء الله، هذا ومن قال بنبوة ذى القرنين استدل بقوله تعالى (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) الآية الآتية بأن خطاب الله تعالى لا يكون إلا مع الأنبياء، وهو غير وجيه، لأن الله تعالى خاطب مريم في آل عمران، راجع الآية 17 منها في ج 3 وليست نبية بالاتفاق، راجع الآية 57 من سورة مريم في ج 1، وقال في بدء الأمالي: ولم تكن نبيا قط أنثى ... ولا عبد وشخص ذو افتعال ومن قال إنه ملك احتج بقول عمر رضي الله عنه حين سمع رجلا يقول لآخر

مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات:

يا ذا القرنين، فقال تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة، لأن الرسول قال: خير الأسماء ما عبد وحمد، وان الرسول كان ينهى عن التسمية ببعض الأسماء مثل فلاح ونافع وشبههما، فساغ لعمر أن ينهى عن ذلك، وهذا لا حجة فيه، لاحتمال علم سيدنا عمر بأن أحد الملائكة اسمه ذو القرنين، فنهى عن ذلك، ولو فرض أن اسمه وافق أسماء الملائكة فلا يفرض أنه ملك، والقصد من قول عمر على فرض صحته عدم رغبته بأن يسمى الناس بغير ما حبذه حضرة الرسول. مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات: وأصح الأقوال انه عبد صالح ملكه الله تعالى أرضه والبسه الهيبة وأعطاه العلم والحكمة والشجاعة، وسبب تسميته بذلك طوافه قرني الدنيا شرقها وغربها، وكما اختلف في تسميته ونبوته اختلف في نسبه، فمنهم من قال إنه من حمير ومنهم من قال إنه من الفرس ومنهم من قال إنه من الروم، وأصح الأقوال في نسبه واسمه ومن هو على الحقيقة ما سيأتي في الآية 99 الآتية، فراجعها، وقد ذكرنا في المقدمة أن كل قول يصدر بلفظ قالوا دليل على ضعفه وعدم تحققه. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ» من حاله وقصته «ذِكْراً» 83 من أنبائه صحيحا لوروده في الذكر الحكيم القرآن الذي لا أصح منه، ولا يوجد في الكتب القديمة ما هو مفصل مثله لكونه منزلا من الله بلفظه ومعناه. قال تعالى «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» وثبتناه فيها وقدرناه على أهلها ومهدنا له سبلها «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» يحتاجه لإصلاح الدنيا «سَبَباً» 84 بإرشادنا إليه وهدايتنا لأتباعه «فَأَتْبَعَ سَبَباً» 85 أي سلك طريقا «حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى الغمار مما يلي «مَغْرِبَ الشَّمْسِ» بحيث لا يمكن لأحد إذ ذاك مجاوزة الحد الذي وصل إليه «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» ذات طين أسود، أي في مطمح نظره رآها كأنها تغرب في هوة مظلمة كما أن راكب البحر يرى أن الشمس تغيب فيه وتطلع منه، إذ لم ير الساحل وهي في الحقيقة تغيب وراءه وتطلع أمامه، لأن الشمس أكبر من الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف مرة وهي في الفلك الرابع فكيف يمكن دخولها في عين من عيون الأرض، على أن الله تعالى

[سورة الكهف (18) : الآيات 90 إلى 99]

قادر على أكثر من ذلك، وليس عليه بكثير أن يدخل الجسم الكبير في الأصغر ولا يبعد أن يطوي الأرض لعباده حتى يقطعوا منها ما لا تقطعه الطائرات ولا غيرها، وان الله تعالى لم يخبر أحدا عن حقيقة غروبها في تلك العين، وإنما أخبر عن وجدان ذى القرنين غروبها فيها، لأنه ركب البحر متجها إلى الغرب إلى أن بلغ موضعا لم يتمكن معه من السير فيه، فنظر إلى الشمس عند غروبها فوجدها بنظره كذلك «وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً» 86 أي عند تلك العين في الموضع الذي وقف به سيره «قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ» من لم يسلم منهم «وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» 87 بأن نأسرهم ونعلمهم الإيمان تدريجيا «قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ» بقي على ظلمه ولم يتب من كفره بل بقي مصرا «فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ» بالقتل الآن «ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ» في الآخرة «فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً» 88 فظيعا متجاوزا الحد «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى» الجنة في الآخرة والعفو عما اقترفه في الدنيا «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» 89 فنعامله باللين والعطف. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» سلك طريقا آخر حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى العمار مما يلي «مَطْلِعَ الشَّمْسِ» أي منتهى الأرض المعمورة في زمنه التي تطلع عليها الشمس قبل غيرها من جهتها إذ لا يمكن أن يبلغ موضع الطلوع لنفسه «وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» 90 بحيث لا يوجد جبل ولا شجر يظللهم منها، وان الأرض هناك رخوة جدا لا تحمل البناء، وإنما فيها أسراب يدخلونها عند طلوعها تظلهم منها، حتى إذا زالت وبعدت عنهم خرجوا لمعاشهم الذي هيأه الله لهم هنالك «كَذلِكَ» حكم فيهم كما حكم بالذين وجدهم عند غروبها، ولم نتكلم على هؤلاء وأولئك، كما قيل إن الأولين من قوم صالح، والآخرين من قوم هود، إذ لا دليل يعتمد عليه ولا نقل يوثق به، قال الأصوليون إذا كنت مدعيا فالدليل، وإذا كنت ناقلا فصحة النقل. ولا يوجد دليل قاطع ولا نقل صحيح في ذلك ولذلك نكل علمهم إلى الله القائل «وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» 91 به وبما وعده وبمن معه وعدته وآلاته وعدد جنده وبما عمل في ذلك وما فعل وقصد

ونوى وحدثته به نفسه أو خطر بباله. هذا ولم يقص الله تعالى علينا ما وقع بينه وبين أهل المغرب والمشرق غير تلك المكالمة. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» 92 سلك طريقا آخر أيضا «حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» هما جبلان في ناحية الشمال مرتفعان، قالوا إن الواثق بالله العباسي بعث من يثق به لمعاينتهما فخرجوا من باب الأبواب وشاهدوه وأخبروه بأنهم رأوه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس، إلا أنه حتى الآن لم يطلع عليه أحد، كمدينة إرم التي لم يطلع عليها إلا رجل واحد كما قيل، راجع الآية 8 من سورة الفجر في ج 1، ولا بد أن يحين الوقت للعثور عليهما لا سيما وأن يأجوج ومأجوج من وراء السد، وخروجهما من أمارات الساعة، وهم المعنيون بقوله تعالى «وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» 93 إلا بجهد شديد، لذلك فهم منهم مرادهم بمشقة وبالإشارة وهو ما قصه الله تعالى بقوله «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» يقرآن بالهمزة وبغيره، ولم يأت ذكرهما في القرآن إلا هنا وفي سورة الأنبياء في الآية 66 الآتية «مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» التي هم فيها، إذ يأكلون عشبهم ويحملون كلاهم ويتعدون عليهم «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً» جعلا وأجرة من أموالنا «عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» 94 يمنعهم من الوصول إلينا لنأمن تجاوزهم على حدودنا، لأن لهم ما بين الجبلين، فلما رأى صحة قولهم «قالَ» لا أريد منكم شيئا وإني لم آخذ على إحقاق الحق أجرا، وإن «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي» من القوة والغلبة والمال «خَيْرٌ» مما تعطونه لي، وإن من واجبي أن أصونكم وغيركم من التعدي، لا سيما وقد دخلتم في حوزتي، لذلك لا أكلفكم بمال ما ولكن إذا أردتم الاستعجال فيه «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» من أبدانكم وأشخاصكم «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» 99 جدارا منيعا مرتفعا حصينا يحول دون وصولهم إليكم، قالوا فما هذه القوة التي تريدها منّا والتي تعنيها بقولك من أبداننا؟ قالَ لهم آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» قطعه وعملة وبنائين وحطبا لأريكم ماذا أفعل، فأحضروا له ما شاء، قالوا وقد حفر الأساس ما بين الجبلين حتى بلغ الماء وجعل فيه الصخر وبناه بلبن الحديد، وجعل بينه الفحم والحطب، وكان

بطول فرسخ وعرض خمسين ذراعا وبعلو ذروة الجبلين. قال تعالى «حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» جانبي الجبلين لأنهما متصادفان، أي متقابلان ومتقاربان في العلو، أعطى الحطب النار و «قالَ انْفُخُوا» عليه بالمنافيخ ففعلوا وسبت النار والفحم تدريجا ولم يزالوا كذلك «حَتَّى إِذا جَعَلَهُ» أي البناء «ناراً» بأن صار كله نار «قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» 96 نحاسا مذابا فأتوه به فأفرغه على البناء فتداخل فيه حتى صار كأنه قطعة واحدة، قال تعالى «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ» يعلموا عليه ولا يتسوروه لارتفاعه وملاسته «وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» 97 لصلابته وسمكه، وكان الجبلان مما يليهم قائمين بصورة مستقيمة كانهما مشقوقان بمنشار لا يتمكنون من الصعود إلى قمتهما، قال ذو القرنين لأولئك القوم الذين هم أمام السد بعد أن طرد أولئك المشكو منهم إلى ما وراءه وعمر عليهم ذلك البناء العظيم «قالَ هذا» السد المنيع الذي سويته لكم «رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» بكم تفيكم شر أعدائكم الآن «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي» بخروجهم بعد «جَعَلَهُ» أي هذا البناء العظيم «دَكَّاءَ» أرضا مستوبة لكم منخفضة من الأرض كأنه لم يكن لأن الله لا يعجزه شيء «وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» 98 واقعا لا مرية فيه «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تم إنشاء السدّ «يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فيبقون كذلك إلى اليوم الذي يأذن فيه الله بخروجهم فيندك إذ ذاك وينفلتون، فتراهم يسعون في الأرض فسادا ويعبثون في البلاد والعباد، ولا يزالون كذلك إلى أن يحين الوقت المقدر لتدميرهم فيهلكوا «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» بعد ذلك، لأن خروجهم من علامات الساعة الكبرى، فيموت كل الخلق الموجودين على وجه الأرض وفي البحار وغيرها، وتبقى الحال على هذه مدة أربعين سنة، أو إلى ما شاء الله، ثم ينفخ النفخة الثانية فيحيون كلهم الأولون والآخرون ويساقون إلى المحشر المعني بقوله تعالى «فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً» 99 للحساب والجزاء. تدل هذه الآية على أن خروجهم يكون قريبا من قيام الساعة. قال الأخباريون هم قوم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام، ومن أولاده الترك والخزر والصقالية، وأولاد حام الحبشة والزنج والنوبة، وأولاد سام العرب والروم والعجم، وان

تفسير الموج المذكور في الآية من قبلهم في البشر أولى من تفسيره فيما بينهم، لأن سياق ما قبلها وسياق ما بعدها من الآيات يدل على هذا، تأمل. واعلم أن كل أمة منهما أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألفا من صلبه، وهم أصناف مختلفة باللون والطول والعرض والشكل، أقوى من كل حيوان، يأكلون من يموت منهم، وإذا خرجوا أكلوا الحيوانات، وشربوا المياه، وعاثوا في الأرض، ثم يهلكون. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده الشريفة تسعين (وذلك أن تجعل رأس السبابة وسط الإبهام وهي من موضوعات الحساب) . وعنه قال في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غدا، قال فيعيده الله كأشدّ ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليه ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى، قال فيرجعون فيجدونه على هيئته حين تركوه، فيخرقونه، فيخرجون على الناس، فيستقون المياه، ونفر منهم الناس لشدة وحشيتهم، ولأنهم يأكلون ولا يشبعون، ويشربون ولا يروون، لا يخلص منهم إنسان ولا حيوان ولا حوت، يفسدون كل ما عثروا عليه، فيختفي الناس منهم ليسلموا من أذاهم، لأنهم لا يتركون شيئا إلا أكلوه أو أفسدوه، حتى إنك لترى الأرض عارية من الشجر والنبات. هذا وقد جاء في بعض القصص أن السدّ هو الموجود الآن المشاهد في ناحية الشمال فيما بين الجبلين في منقطع أراضي الترك، وهذا لعمري غير صحيح، لأنه من مجرد كلس والله أخبرنا بأن هذا السد من حديد ونحاس، وما يقال إن الحديد والنحاس تفتنانهما رطوبة الأرض لا جدال فيه، وإنما الأخذ والرد بالعثور عليه ليس إلا، وان الذي حدا بهم لهذا القول عدم العثور عليه، لأنهم على زعمهم أحاطوا بالمعمور كله فلم يجدوه، على أنهم يعترفون بأنهم لم يكشفوا القطبين الشمالي والجنوبي، وإذا لم يكشفوهما لا يليق بهم أن يقولوا أحطنا بالأرض أو بالمعمور منها، إذ قد يكون فيهما أو وراءهما، ويقول ابن خلدون في مقدمته إن السدّ وسط جبل قوقيا المحيط الكائن في القسم الشرقي من الجزء التاسع في الإقليم السادس، ولهذا فإن القول

مطلب أن ذا القرنين ليس اسمه إسكندر وليس بالمقدوني ولا اليوناني ولا الروماني وإنما هو ذو القرنين:

رجما بالغيب في أشياء كهذه، لا يجدر بالعاقل الخوض فيها، بل عليه أن يكل علمها إلى الله، ومن يعش ير هذا، وجاء في رواية: تتحصن الناس في حصونهم فيرمون بسهام إلى السماء، فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون قهرنا من في الأرض، وعلونا من في السماء، فيزدادون قسوة وعتوا، فيبعث الله عليهم نفقا (ذودا يكون في أنوف الإبل) في رقابهم فيهلكون، فو الذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا، أي يمتلىء أجسادها لحما، يقال شكرت الدابة إذا امتلأ ضرعها، أخرجه الترمذي. وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ليحجنّ البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج. يدل هذا الحديث على أن الإسلام يتجدد بعد هلاكهم، والله أعلم. مطلب أن ذا القرنين ليس اسمه إسكندر وليس بالمقدوني ولا اليوناني ولا الروماني وإنما هو ذو القرنين: وليعلم أن لفظ إسكندر الذي أطلق على ذي القرنين هذا ليس هو الإسكندر الرومي الذي ملك الفرس والروم والذي يؤرخ الروم بأيامه، لأن هذا الذي نحن بصدده كان على عهد إبراهيم عليه السلام بعد نمرود وقد عاش ألفا وستمئة سنة قبل إسكندر المقدوني بأكثر من ألفي سنة، لأن إسكندر المقدوني ولد قبل المسيح بثلاثمائة وست وخمسين سنة، وولايته قبلها في سنة 236، ووفاته سنة 340، فيكون عمره 33 سنة، وكان وزيره أرسطو طاليس الفيلسوف المشهور الذي حارب دارا وأذلّ ملوك الفرس ووطئ أرضهم، وعمر الإسكندرية وغيرها، وكان كافرا، وقد غلط كثير من العلماء والمفسرين فظنوه هو المذكور في القرآن، وحاشا كلام الله أن يشمل هذا الكافر بما ذكر من الثناء، وليس هو الإسكندر اليوناني الذي ولي الملك بعد أبيه مرزين، واسمه المرزبان المار ذكره أول الآية 84 وإنما هو غيرهما، وهو رجل اسمه ذو القرنين فقط، كما ذكر الله، وهو رجل صالح، نابه طيب، وقد قبض الله له قرناء صالحين، فأطاع الله وأصلح سيرته، وقصد الملوك والجبابرة وقهرهم، ودعا الناس لطاعته على طاعة الله تعالى وتوحيده، قالوا ولما أقبل إلى مكة شرفها الله ونزل بالأبطح قالوا له في هذه البلدة خليل

الرحمن، فدخلها ماشيا وقال ما ينبغي لي أن أدخل بلدة فيها خليل الرحمن وأنا راكب، حتى جاء إلى إبراهيم عليه السلام وسلم عليه وعانقه، فهو أول من عانق عند السلام، وسخر الله له السحاب والنور والظلمة فإذا سرى بجيوشه يظله السحاب من فوقه وتحوطه الظلمة ويهديه النور، وكان على مقدمته الخضر عليه السلام، فحظي بعين الحياة، وأخطأها ذو القرنين، وانقادت له البلاد، وإن ما قصّ الله علينا من أمره كاف من عظمته، ومات في مدينة شهرزور ودفن فيها، وقالوا إنه دار في الدنيا مدة خمسمائة سنة، وقال بعضهم إنه مات في بيت المقدس، والله أعلم. وقد ذكرنا آنفا في تفسير الآية 9 المارة أن سبب نزول هذه الآيات بذكر ذي القرنين وأصحاب الكهف هو ما ذكره اليهود أن كفار قريش الذين ذهبوا إلى المدينة لهذه الغاية وعند مجيئهم منها أخبروا قومهم ثم سألوا الرسول عنها، وقد نزلت هذه الآيات بالقصتين المذكورتين، وآية 85 من الإسراء المارة في ج 1 في السؤال عن الروح دفعة واحدة، لأن السؤال عنها دفعة واحدة، ووضعت كل منها في موضعها الآن بأمر من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما السلام بما هو موافق لما عند الله في لوحه وعلمه، كما ذكرناه في المقدمة. واعلم أن الله تعالى لم يذكر في القرآن العظيم اسم الإسكندر حتى يقال إنه اليوناني أو المقدوني أو الرومي ويؤولون الآية عليه، وإنما سماه ذا القرنين وإن المؤرخين من عند أنفسهم لقبوه بالإسكندر، ولهذا حصل الالتباس بينه وبين الإسكندر المقدوني أو الرومي أو اليوناني ووقع الخطأ بنسبة ما جاء في القرآن إلى أحدهم، والصحيح والله أعلم أنه ليس بأحد هؤلاء الثلاثة وإنما هو ذو القرنين أبو كرب صعب بن جبل الحميري، واسم أمه هيلانه، وكان يتيما في بني حمير كما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه سر العالمين وكشف ما في بني الدارين في ص 3 وهو ثقة فيما ينقل ويكتب، كيف لا وقد لقب بحجة الإسلام ورضيه الخاص والعام، يؤيد هذا ما جاء في حاشية بدء الأمالي ص 37 وما ذكره الزيلعي صاحب الكنز بأنه لقي إبراهيم خليل الرحمن وعانقه كما ذكرنا آنفا وقد سئل ابن عباس عن المعانقة فقال أول من عانق إبراهيم خليل الرحمن لما كان بمكة وأقبل إليها ذو القرنين حتى

[سورة الكهف (18) : الآيات 100 إلى 109]

صار بالأبطح، قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن، فقال ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن، فنزل ومشى إليه فسلم واعتنقه كمامر آنفا، فكان هو أول من عانق وعمره يزيد على الألفي سنة، كما يروى أن قيس ابن ساعدة خطب بسوق عكاظ فقال: يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين ملك الخافقين قد أذل الثقلين وعمر ألفين، ثم كان كلمحة العين، ولهذا فإنه ليس بالإسكندر المقدوني ولا الرومي ولا اليوناني ولا اسمه إسكندر البتة، لأن عمرهم ودينهم وسيرتهم تخالف عمره ودينه وسيرته، وإنما هو ذو القرنين وكل ما نقله المفسرون بأنه يوناني أو مقدوني أو رومي وأن اسمه مرزبه أو غيره لا نصيب له من الصحة لأنهم تناقلوه بعضهم عن بعض دون أن يعرفوا مصدر الناقل الأول، وقد تهاونوا فيه ولم يبعثوا عما يؤيده، هذا والله أعلم. قال تعالى «وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ» أي بعد النفخة الثانية «لِلْكافِرِينَ عَرْضاً» 100 ليشاهدوها عيانا فتنقطع فرائضهم من رؤيتها، ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله جل قوله «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي» فلا يبصرون طرق الهدى والرشد فيها «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» 101 له من رسلي ويعرضون عنهم لئلا يفقهوه وليعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ) 83 إلى هنا عدها أكثر العلماء من القسم المدني الذين تبعنا أقوالهم ومشينا عليها في تفسيرنا، هذا والصحيح أنها مكيات، إلا أنها لم تنزل مع سورتها لما قدمناه هنا وفي الآية 58 من الإسراء في ج 1، ولعل السهو بعدّها مدنيات جاء من هذه الجهة، لأن الصحيح أن لا مدني في هذه السورة إلا الآية 28 المارة لا آية 38 التي ذكرها الغير. قال تعالى «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي» الملائكة كما اتخذ اليهود عزيزا والنصارى المسيح «مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ» لهم، كلا لا سبيل إلى زعمهم هذا فأخبرهم يا سيد الرسل بفساد ظنهم، وأنهم سيتبرءون منهم يوم القيامة ويكونوا لهم أعداء بسبب كفرهم «إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» 102 هو ما يقدم للضيف عند نزوله وبئس ذلك النزل في ذلك اليوم العصيب، وإذا كان أول قراهم جهنم والعياذ بالله فما هو آخره يا ترى؟ لأنهم إذ ذاك يستغيثون ولا

يغاثون، لأنهم عن ربهم محجوبون، ولا أعظم عذابا من هذا كما لا أعظم لأهل الجنة من نعيم رؤية الله تعالى، كما سيأتي في الآية 107. «قُلْ» لهم يا أكرم الرسل «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة «بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» 103 في الدنيا والآخرة هم «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» عن طريق الصواب ومحجة السداد وجنحوا إلى ما فيه الهلاك والدمار «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» 104 في عملهم ولا يدرون أنه سبب خسارتهم في الآخرة «أُولئِكَ» الضّال سعيهم الظانون بحسن صنيعهم وهو شيء هم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» ولم يصدقوا رسله «وَ» مع نكران «لِقائِهِ» في الآخرة كما أنكروا كلامه في الدنيا «فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» ومحق ثوابها الذي كانوا يأملونه لأنهم ماتوا على كفرهم وقد كافأهم الله عليها في الدنيا بما أنعم عليهم فيها، ولذلك «فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» 105 إذ لا قيمة لهم ولا قدر ولا مكانة ولا حظ لهم عندنا ولا نصيب في الآخرة، وعدم إقامة وزنهم ازدراء بهم، وهؤلاء الموصوفون بما ذكرهم الخاسرون في الدنيا والآخرة لا كما يقولون إنهم الفقراء والصعاليك الذين شرفوا بالإيمان، لأن هؤلاء هم الناجحون الرابحون الناجون. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ) الآية. وذلك لأن الوزن للأعمال لا الأجساد «ذلِكَ» إشارة إلى حبوط عمالهم وخمسة قدرهم، أي الذين ذلك شأنهم «جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» 106 زيادة على كفرهم فلم يكتفوا به حتى ضاعفوه بالسخرية بكلام الله وذات رسله وكتبه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ.» مكافأة لهم على أعمالهم الطيبة في الدنيا «نُزُلًا» في الآخرة أول قراهم عند ربهم وبعده ما هو أعظم وأعظم إذا كان أوله الجنة، وهذه بمقابل الآية 102 بحق الكافرين الذين أول قراهم جهنم وآخره بما هو أفظع وأشنع، وآخر قرى هؤلاء الأبرار رؤية الملك الغفار التي لا تعد جميع الجنان شيئا بالنسبة إليها عند أهل الجنة، والفردوس بالعربية البستان، وكذلك

بالرومية والحبشية، راجع الآية 182 من سورة الشعراء في ج 1، ويطلق على ربوة الجنة «خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» 108 إلى غيرها، وما قيل إن كلمة الفردوس لم تسمع في كلام العرب إلا من حسان بعد الإسلام لقوله: وإن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد لا يصح، لأن أمية بن الصلت قبل الإسلام سبقه بذلك بقوله: كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس ثم القوم والبصل وقال جرير يمدح خالد بن عبد الله القسري: وإنا لنرجو أن نرافق رفقة ... يكونون في الفردوس أول وارد ومن سمع قبل الإسلام من الجاهليين كثير أيضا. وهذه الكلمة مكررة في القرآن في الآية 11 من سورة المؤمنين الآتية فقط، أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة. فلو لم تكن العرب تعلم هذه اللفظة لما ذكرهم حضرة الرسول بطلبها، وتفيد هذه الآية أن الجنات غير الفردوس لإضافتها إليه، وهو كذلك، قال أبو حبان إن جنات الفردوس بساتين حول الفردوس، ولهذا يندفع ما يقال إن الآية تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس، مع أن درجاتهم متفاوتة، ولا يعارض الحديث السابق ما رواه أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا، إذ لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها فوق بعض، وتكون الوسيلة هي أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنة، على أن المراد والله أعلم في هذا الحديث علو المكانة لا المكان. قال تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي» التي هي في علمه والمقدرة في حكمه «وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» 109 مرارا كثيرة لنفد ولم تنفد كلمات الله، وما قيل إن هذه الآية نزلت بالمدينة عند ما قال اليهود إنا أوتينا علم التوراة، فكيف تتلو (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الآية 85 من الإسراء

[سورة الكهف (18) : آية 110]

في ج 1 لا صحة له، وقد أوضحنا هذه في تفسير هذه الآية فراجعها يظهر لك مكّيتها، والآية المدينة في هذا الصدد هي الآية 27 من سورة لقمان المارة فما بعدها كما بيناه هناك، ولذلك كانت أبلغ من هذه في المعنى لما فيها من لفظ أبلغ في العدد والكمية، وهكذا دائما تكون الآية المتأخرة في النزول أبلغ بحكم التدريج تأمل، أما هذه فمكية، وقد توهم من قال إنها مدنية لما أنه وقع السؤال عنها والبحث فيها في المدينة، وما كل ما جرى البحث فيه بالمدينة مدني، تنبه فقهك الله في أمر دينك ودنياك. «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك إني كما تقولون «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» لا ميزة لي عليكم بالبشرية، ولكن بما خصني الله به من النبوة والرسالة، وما أكرمني به من الوحي الذي «يُوحى إِلَيَّ» من لدنه، وهذا تعليم له عليه الصلاة والسلام لسلوك طريق التواضع في أقواله وأفعاله، ولئلا يزمو على أمته بما منحه الله به، وهذا وشبهه ما يشير إليه صلّى الله عليه وسلم بقوله: أدّبني ربي فأحسن تأدبي. «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو ربي وربكم لا شريك له «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ» في الدار الآخرة، ويقر بأن المصير إليه، ويعتقد ذلك اعتقادا جازما لا مرية فيه «فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً» في دنياه يعضد به إيمانه لينتفع فيه بآخرته «وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» 110 ولا شيئا أبدا، بل يخلص له في قوله وعمله وفعله ونيته. روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سمّع سمع الله به ومن يرائي يرائى به. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه. وفي رواية: وأنا منه بريء، وسبب نزول هذه الآية أن جبذ بن زهير قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه أحد سرّني، فقال عليه السلام إن الله لا يقبل ما شورك فيه. وقيل إنه قال له: لك أجران، أجر في السر وأجر في العلانية. فالرؤية الأولى محمولة على قصد الرياء والسمعة، والثانية على قصد الاقتداء به، فالمقام الأول مقام المبتدئين، والثاني مقام الكاملين. روى مسلم عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم من حفظ عشر آيات من أول الكهف

تفسير سورة النحل عدد 20 - 70 - 16

عصم من فتنة الدجال. وفي رواية: من آخرها. فعلى من أراد الحفظ من فتنته- عصمنا الله منها بيقين- فليحفظ عشرا من أولها وعشرا من آخرها عملا بالروايتين. ويوجد سورة أخرى فقط مختومة بما ختمت به هذه السورة وهي الإخلاص في ج 1. وليعلم أن كلمة الشرك المزجور عنها تكررت في القرآن في مواضع كثيرة لأنها أعظم شيء مكروه عند الله، ولهذا فإن كل شيء داخل تحت المشيئة بالعفو عنه والمغفرة إلا الشرك، لأنه الكفر الظاهر، وقد شبه به الرياء إذ ورد الرياء هو الشرك الخفي، لعظم وزره عند الله، راجع الآية 33 من سورة الأعراف في ج 2 والآيتين 22/ 79 من الإسراء أيضا، وسنبحث عنه كلما مررنا بما ينم عليه في اللفظ والمعنى كما جعلنا ذلك قبل. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة النحل عدد 20- 70- 16 نزلت بمكة بعد الكهف، عدا الآيات 126 و 127 و 128، وهي مئة وثمان وعشرون آية، والفان وثمنمئة وأربعون كلمة، وسبعة آلاف وسبعمئة وسبعة أحرف. وتسمى سورة النعم، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ولا يوجد مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» بقيام الساعة أي يأتي، وجاء بلفظ الماضي لأنه محقق الوقوع، قال الشيخ عبد القاهر: إن إخبار الله تعالى بالتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع، إذ لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى الماضي المحقق وقوعه «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» أيها الناس فإنه آت لا محالة «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 1 به غيره، وهذا مما يعد سببا لتلو هذه السورة التي قبلها، إذ ختمها بذم الشرك، وبدأ هذه بتقبيحه أيضا، قال ابن عباس لما نزلت (اقتربت الساعة) المارة في ج 1 قال الكفار إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قربت فأمسكوا عما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه

لا ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا، فنزل قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) . فأشفقوا، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل (أتى أمر الله) فوثب النبي صلّى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنوا أنها أتت حقيقة، فنزل (فلا تستعجلوه) . ويطعن في هذا عدم نزول سورة الأنبياء أو شيء منها قبل هذه السورة، تدبر. واعلم أن هذه الآية لما نزلت على حضرة الرسول قال بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإصبعيه بمدهما، أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد، ورويا في السنن مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى وضم السبابة والوسطى. قال تعالى «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ» الوحي سمي روحا لأن فيه حياة القلوب، أو أن الباء بمعنى مع، أي ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل عليه السلام، وهذه الآية تقارب في المعنى الآية 57 من سورة الشورى المارة، وهذا الإنزال «مِنْ أَمْرِهِ» جل أمره «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لرسالته آمرا لهم «أَنْ أَنْذِرُوا» الناس وأخبروهم «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» 2 لتنالوا رحمتي والعاقبة الحسنة مني أنا، ذلك الإله العظيم الذي «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 3 به غيره وهو الذي «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» 4 مظهر الخصام له كأنه لم يخلقه مما يعلم أو كأنه خلق نفسه ونسي ما كان عليه من الضعف اغترارا بما صار إليه. نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي كما نزلت فيه آية (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) الآية 77 من سورة يس المارة إلى قوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) في ج 1، وهي عامة في كل مخاصم لله وفي آياته. قال تعالى «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ» أيها الناس «فِيها دِفْءٌ» من صوفها ووبرها وشعرها تستدفئون به بما تعملون منها من اللباس والخباء للاستظلال وغيرها «وَمَنافِعُ» من درّها وركوبها ونسلها وتحميلها «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» 5 من لحمها وسمنها ولبنها واقطها وجبنها وزبدها وهو مما يعتمد عليه غالبا للتقوت، أما أكل الطيور والأسماك فيجري مجرى التفكه، وإنما قدم منفعة اللباس على منفعة الأكل لأنها أكثر وأعظم من منفعة الأكل إذ قد يكون من غيرها من الحيوان

مطلب جواز أكل لحوم الخيل وتعداد نعم الله على خلقه:

«وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ» يقال للرجل جمال بالتخفيف وبالتشديد على التكثير، وجميل وللمرأة جميلة وجملاء قال: فهي جملاء كبدر طالع ... بذت الخلق جميعا بالجمال أي أنها زينة وبهاء لصاحبها عدا منافعها «حِينَ تُرِيحُونَ» وقت ما تردونها من المرعى إلى مراجعها «وَحِينَ تَسْرَحُونَ» 6 بها جمال أيضا وقدم الرواح على التسريح لأنها ترجع أجمل مما تغدو فيه تتبختر مشيتها مجتمعة متمتعة من المرعى ملأى بطونها حافلة ضروعها، ويفرح بها عند رجوعها أكثر منه عند ذهابها لأنها تكون خاوية البطون والضروع متفرقة مسرعة يخاف عليها الوحش والضباع والنهب. قال تعالى «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ» بدونها «إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» الشق نصف الشيء، وعليه يكون المعنى لم تبلغوا ذلك البلد الذي تريدونه بغيرها إلا بنقصان نصف قوة أنفسكم «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» 7 بخلقه إذ سخر لهم هذه الأنعام لاستراحتهم «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ» خلقها لكم أيضا «لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» تتباهون بها كالأنعام إلا أنها لا تؤكل ولا يستفاد من درها ووبرها، وفيها من المنافع ما لم تكن في تلك عدا الإبل فإنها جامعة للأمرين، ولذلك عجّبهم الله بها، راجع الآية 17 من الغاشية المارة «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» 8 أيها الناس من أدوات الركوب والحمل كالعجلات والسيارات والطائرات والسفن البخارية والقطارات والغواصات مما علمتم ومما لا تعلمون أيضا أنواعا وأجناسا نخلقها لكم بعد لمنافعكم والمزينة أيضا، عدا أصناف الحيوانات البرية والبحرية مما تنتفعون به ومالا، وليس المراد من هذه الآية بيان التحليل والتحريم بل تنبيه العباد على نعمه تعالى عليهم. مطلب جواز أكل لحوم الخيل وتعداد نعم الله على خلقه: الحكم الشرعي يجوز أكل لحوم الخيل والبغال المتولدة من الخيل، أما المتولدة من الحمر الأهلية فلا، وعليه الشافعي وأحمد وكثير من أهل العلم، وقال مالك وأبو حنيفة ومن نهج نهجهم وهو قول ابن عباس لا يجوز أكل لحوم الخيل، لأن الله تعالى عدّ ما هو للأكل على حدة وما هو للركوب على حدة، ودليل الأكل

[سورة النحل (16) : الآيات 11 إلى 20]

هو ما أخرجه البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه. وما رويا عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل، وأن القرآن في هذه الآيات تكلم عن الركوب والزينة وسكت عن الأكل فدار الأمر بين التحريم والإباحة فوردت السنة بالإباحة لأكل الخيل وتحريم الحمر الأهلية والبغال منها تبعا لها، لأن الحيوان ينسب إلى أمه، فأخذنا بالسنّة جمعا بين النصين، لأن السنّة مبينة لكتاب الله تعالى وشارحة له، فالأخذ بها جائز، أما ما قيل إنها ناسخة لكتاب الله فلا، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة وفي الآية 146 من الأنعام المارة، ولبحثه صلة واسعة تأتي إن شاء الله في الآية 106 من البقرة في ج 3. «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ» الموصل للإيمان به، وهذا على غير الوجوب، إذ لا يجب عليه شيء ولكن بمحض الفضل، وقصده بيان استقامته بالآيات والبراهين، فعليكم أيها الناس اتباعها وسلوكها «وَمِنْها جائِرٌ» معوج مائل عن الاستقامة فلا تسلكوها لأنها مسلك أهل الزيغ والبدع والأهواء والطيش «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» 9 إلى الطريق الحق، ولكنه لم يشأ ذلك لأمر اقتضته حكمته، ولو كان لما بقي محل لخلق النار ولا معنى للتفاضل «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ» ينبت لكم «شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» 10 أنعامكم ودوابكم وكل ما له حاجة في الرعي، وكذلك «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» كالجوز والبرتقال وأنواع المشمش والإجاص والخوخ والكثرى وغيرها، لأنه تعالى ذكر في كتابه أمهات الأشياء وعبر عن البقية بلفظ الثمرات والفاكهة، والأب فيما يخص الحيوان من جميع أجناس وأصناف النباتات «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكر من أجناس الحيوان وأصناف الثمار وأنواع النبات «لَآيَةً» عظيمة دالة على قدرة القادر ووحدانيته «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 11 فيها فيعقلون معناها ويفقهون مغزاها «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافعكم أيها الناس «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» لمنافعكم أيضا بصرفها كيف يشاء ويختار «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير الجاري على نظام بديع

لا يتغير على كر الدهور «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 12 فوائد تسخيرها ويستدلون بها على مراده منها «وَما ذَرَأَ» خلق وبرأ «لَكُمْ فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن ومياه «مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» وأشكاله وهيئته وكيفيته وكميته وماهيته وطعمه وريحه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف مع اتحاد الأصل في الغالب وكونها كلها من الماء خلقه ومقرتا «لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» 13 فيها فيعتبرون ويتعظون ويعترفون بكمال القدرة لله تعالى، وفي هذه الآية دلالة على عقم قول المنجمين إن هذه الكواكب هي نفسها الفعالة المتصرفة في شئون العالم السفلي، لأنه تعالى يقول مسخرة مذللة مقهورة بأمره لمنافع خلقه، وقد أسهبنا البحث بهذا في الآيتين 110/ 112 من سورة الصافات المارة فراجعها وما تشير إليها من المواضع ففيها كفاية. وبعد أن ذكر الله تعالى بعض النعم الموجودة في السماء والأرض أتبعها بما هو في الماء فقال «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا» مع أنه مالح ليعلم خلقه أنه قادر على إخراج الضد من الضد «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» كاللؤلؤ والمرجان واليسر وغيرها «وَتَرَى» أيها الإنسان «الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» جواري في البحر بسرعة مقبلة ومدبرة بشدة مع أن الريح واحدة والمخر الشق لأن السفينة تشق الماء شقا حالة جريها فيه «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الربح في تجارتكم والتنقل للاعتبار والزيارة وحمل الأثقال ولتفكروا كيف تبلغ بكم المواقع التي تقصدونها بسيرها «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 14 هذه النعم وتقوموا بحقها من توحيد الله وطاعته وتمجيده وتعظيمه، لأن الركوب في البحر من أعظم النعم لما فيه من قطع المسافات البعيدة في زمن قصير بالنسبة للسير بالبر ولعدم الاحتياج للحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون، وما أحسن ما قيل فيه: وإنا لفي الدنيا كركب سفينة ... نظن وقوفا والزمان بنا يسري واستدل بهذه الآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة، وإليه ذهب الكثير، وأخرج عبد الرزاق بن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث: غاز أو حاج أو معتمر. وجاء في رواية أخرى: لا يركب البحر إلا غاز أو

حاج أو معتمر، مصدر بالنهي وممنطق بالحصر. قال تعالى «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لأنه تعالى لما خلقها خلقها طائفة عائمة، فصارت تمور وتتحرك بالهواء، فأثقلها بالجبال راجع الآية 9 من سورة لقمان والآية 19 من سورة الحجر المارتين والآية 2 من سورة الرعد في ج 3، «وَأَنْهاراً» جعل فيها للشرب والسقي وغيرها «وَسُبُلًا» طرقا وفجاجا تسلكونها بأسفاركم في السهل والجبل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» 15 إلى المكان الذي تريدونه فلا تضلون قصدكم ولا يصعب عليكم بلوغه «وَعَلاماتٍ» جعل فيها أيضا لتستدلون بها على المواقع كالجبال والوديان والروابي والأنهار والأشجار والعيون في تنقلاتكم النهارية «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» 16 في الليل كالثريا وسهيل والجدي وبنات نعش والفرقدين والبلدة والقلادة والنثرة والعبور والميزان، فإنها ترشدكم على القبلة والشمال والشرق والغرب تهتدون بها إلى قصدكم بمعرفة الجهات الطالعة منها والسائرة إليها. ولما ذكر الله تعالى من عجائب صنعه وغرائب إبداعه وعظيم حكمته مما هو مخلوق له وكل شيء مخلوق له قال على سبيل الإنكار لتاركي عبادته مع هذه النعم التي غمرهم بها «أَفَمَنْ يَخْلُقُ» أيها الناس مثل هذه المخلوقات العظيمة «كَمَنْ لا يَخْلُقُ» شيئا مثل أوثانكم وتساوون هذا الخلاف الجليل بها مع أنها عاجزة عن حفظ نفسها «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» 17 أن مخلوقاته كلها بما فيها أوثانكم التي لا تخلق ولا ترزق لا تستحق للعبادة، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة الحق القادر على كل شيء. هذا، وقد عبر الله تعالى عن الأوثان بلفظ من الدالة على من يعقل مع أنها جمادات وينبغي أن يعبر عنها بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل لأنهم لما سموها آلهة أجريت مجرى من يعقل على زعمهم، فخاطبهم جل جلاله على قدر عقولهم فيها وفي الآية الآتية بعد «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» يا بني آدم لأنها كثيرة منها ظاهرة ومنها خفية، ومنها ما أنتم متيقظون لها وما أنتم غافلون عنها لا تعرفون قدرها، لأن المعافى الآمن لا يعرف نعمتهما إلا عند طروء الخوف والمرض، والسميع البصير لا يعرف نعمتهما إلا عند فقدهما، وكذلك بقية الأعضاء والمأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والأموال والأولاد والنساء والسكن لا يعلم قدرها إلا عند

[سورة النحل (16) : الآيات 21 إلى 30]

زوالها، وقد أنعم الله نعما كثيرة لا يحصيها إلا هو «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ» لعباده إذا نسوا نعمه فتيقظوا وتابوا وقاموا بشكرها «رَحِيمٌ» 18 بهم يعفو عما سلف منهم ومن رحمته التجاوز عن قصورهم وتكثير نعمه عليهم وإمهالهم بالعقوبة ليرجعوا إليه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» 19 من أقوالكم وأفعالكم «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونها آلهة «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» مما ذكر أبدا «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» 20 بصنعكم وبعمل أيديكم التي هي من خلقنا، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى دلت على أنها لا تخلق شيئا، وهذه تدل على أنها نفسها مخلوقة ففيها زيادة في المعنى ونادرة أخرى وهي «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» فكيف يكون الميت إلها، ومن شأن الإله أن يكون حيا يحي ويميت مجيبا لمن دعاه «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» 21 للحساب والجزاء والعقاب وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى يبعثها يوم القيامة بخلاف سائر الجمادات، والحكمة من بعثها تكذيب عابديها وتبرؤها منهم إذ يجعلها القدير صالحة للكلام إظهارا لبطلان زعمهم فيها من الشفاعة لهم والتقرب إلى الله بعبادتهم. فيا بني آدم «إِلهُكُمْ» الذي يستحق العبادة ويفعل الخير والشر «إِلهٌ واحِدٌ» هو الله لا إله غيره الذي تجدونه غدا في الآخرة ينعم الطائع بالجنة ويعذّب العاصي بالنار «فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ» هذا الإله العظيم جاحدة وحدانيته «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» 22 عن عبادته خاضعون لعبادة الأوثان مائلون لحبها. مطلب لا جرم ولفظها وإعرابها وقدم لسان العرب وتبلبل الألسن وذم الكبر: «لا جَرَمَ» قال البصريون إن لا من لا جرم ردّ لكلام سابق مثل قوله تعالى (لا أُقْسِمُ) وهو هنا إنكار قلوبهم التوحيد واستكبارهم عنه، وجرم فعل ماض بمعنى ثبت وحق ووجب وعلى هذا قوله: ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا وان مع ما في حيّزها فاعلة أي ثبت وحق علم الله تعالى بسرهم وعلانيتهم وعدم محبته للمستكبرين المشار إليهم في قوله «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما

يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» 23 عن عبادته والإنابة لطاعته والانقياد لأمره، وعليه يكون المعنى أن من حق العالم بالسرّ والعلانية أن لا ينكر وحدانيته ولا يستكبر عن عبادته، ويجوز أن تكون بمعنى كسب وفاعله يعود على ما قبله والجملة بعدها محلها النصب على أنها مفعولة لها، وبه قال الزجاج، وقيل لا عاملة وجرم اسمها باعتباره مصدرا مبنيا على الفتح وخبرها الجملة في أن واسمها وخبرها، فتكون مثل لا بدّ من التبديد وهو التفريق، أي لا من بطلان دعوة الجحود والاستكبار عن عبادة الله، لأن بطلانها أمر ظاهر مقطوع به. قال الفراء هذا هو أصل لا جرم لكنه كثر استعماله فصار بمعنى حقا. ومن العرب من لفظها مثل لفظ لا بد بضم الجيم وسكون الراء وفتح الميم، لأن فعل وفعل اخوان كرشد ورشد وعدم وعدم ذكره الكشاف، وهذه اللفظة تؤيد القول باسميتها، وقال الخليل إن جرم مع لا مركب تركيب خمسة عشر وبعد تركيبها صار معناها معنى فعل، وعليه فإن ان وما بعدها يعدها في تأويل مصدر فاعل لها، وقالوا إن لا جرم يعني عن القسم، تقول لا جرم لآتينك، وعليه تكون الجملة بعدها جواب القسم. وفي عموم هذه الآية يدخل كل متكبر سواء عن عبادة ائمه أو على خلقه. روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر، فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحبّ أن يكون نوبه حسنا ونعله حسنا؟ قال إن الله جميل يحب الجمال. أي ان هذا من النظافة وهي مطلوبة وليست من الكبر المذموم، والكبر بطر الحق أي جعل الحق باطلا وغمط الناس حقهم أي احتقارهم فلم توهم شيئا وغمص بمعنى غمط، لأن كلّا بمعنى انتقص وازدرى، والتكبر والكبر والاستكبار ألفاظ متقاربة يجوز استعمال بعضها مقام بعض مع فرق بالمعنى، والمفهوم من عدم الحب البغض، لأن من لا يحبه الله يبغضه. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ» المتكبرين «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على نبيكم «قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 24 كما قالوا في الآية 5 من سورة الفرقان في ج 1، وإنما قالوا وفاهوا بهذا «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» لم ينقص منها شيء لأن ثواب ما فعلوه من صلة رحم وإقراء ضيف وغيره وما أصابهم من

البلاء في الدنيا كافأهم الله عليه فيها من الرزق والأولاد والعافية وغيرها، فلا يكفر الله بها شيئا من أوزارهم لإعطائه لهم بدلها بالدنيا فتبقى أعمالهم السيئة ثابتة عليهم تامة «وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» أي ويحملون مع أوزارهم بعض أوزار أتباعهم، لأن الرؤساء عليهم وزرهم وشيء من أوزار أتباعهم. أخرج مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا. «بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي يضلونهم من حيث لا يعلمون أن طريقهم الذي يدعون إليه ضلالة، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على من له لب «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» 25 أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة بأنبيائها كما مكر قومك بك يا سيد الرسل، وقد قص الله عليه مكر قوم إبراهيم وهود وصالح بأنبيائهم وهم عرب مثل قومك، وبهذا يبطل قول من قال إن أصل لسان الناس السريانية، وان تبلبل الألسن كان بعد نمرود، فإذا كان لهذا القول صحة فيكون قبل عاد وثمود وقبل صالح وهود، لأن قومهما كانوا عربا، ولأن أهل اليمن كانوا عربا، لأن جرهم منهم، وكان قبلهم طسم وجديس يتكلمون بالعربية بما يدل عن أن لسان العرب كان قديما، لأن الله أرسل هودا وصالحا وهما من ذرية نوح عليه السلام قبل إبراهيم وهما عربيان، ولم يرسل للعرب من ذرية إبراهيم غيرهما وشعيب عربي أيضا وأرسل إليهم إسماعيل عليه السلام قبله وقد تعلم العربية من جرهم، ومن ذريته محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. ومما يدل على قدم لسان العرب قوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) الآية 31 من الأحزاب في ج 3، وهذه الآية عامة في كل ما كر كايد مبطل يحاول إلحاق الضرر بالغير. قال تعالى «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ» أي جاء أمره باستئصال واقتلاع أساطين بنيانهم وأصوله، لأن القواعد أس البناء «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» جاء الظرف تأكيدا لأن الخرور لا يكون إلا من فوق، والأحسن أن يقال يحتمل أنهم عند سقوطه لم يكونوا تحته، فلما قال من فوقهم

علم يقينا أنهم تحته فخر عليهم فأهلكوا جميعا «وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 26 وهم في مأمن منه معتمدون على قوة بنيانهم. قال المفسرون المراد بهذا نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل المارّ ذكره في الآية 34 من سورة القصص في ج 1 بطول خمسة آلاف ذراع ارتفاعا بالهواء، وعرض ثلاثة آلاف ذراع، فأهب الله تعالى عليه الريح فسقط عليهم وهلكوا، واقتدى به أخوه فرعون إذ أمر وزيره هامان ببناء صرح له راجع الآية 36 من سورة المؤمن المارة، قالوا وقد تبلبلت الألسن من الفزع فتكلم الناس بثلاث وسبعين لغة، وعاش بعد ذلك مدة ثم أهلكه الله ببعوضة على ما هو المشهور نقلا عن ابن عباس ومقاتل وكعب، «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ» فلا يقتصر على عذابهم الدنيوي هذا بل يذلّهم في الآخرة ويهبننهم أيضا «وَيَقُولُ» لهم بمعرض التوبيخ «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ» تخاصمون المؤمنين على قراءة فتح النون، وعلى كسرها يكون المعنى تخاصمون الحضرة الإلهية «فِيهِمْ» في الدنيا، والمشاقة وجود كل من الخصمين في شق أي طرف غير شق صاحبه، والمعنى هاتوهم ليدفعوا عنكم العذاب كما كنتم تزعمون، فيكتون ويخرسون «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» أي أنبياؤهم وصلحاؤهم الذين كانوا معهم في الدنيا يدعونهم إلى الإيمان وكانوا يعرضون عنهم، ومقول القول «إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» 27 وهذا شماتة بهم وزيادة في هوانهم ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ» استسلموا وأخبتوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والاستهزاء، وقالوا معتذرين «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» في الدنيا، جحدوا كفرهم وخبثهم من شدة الخوف وعظم الهول ولما رأوه من الإهانة، فقال لهم الذين أوتوا العلم «بَلى» كنتم تعملون الأسواء كلها في دنياكم فلا تنكروا «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 28 فيحق عليهم القول وتقول لهم الملائكة «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» 29 عن اتباع الرسل والإيمان بهم جهنم. وذكر الأبواب في الآية دليل على تفاوت منازل أهل النار في العذاب، وذكر الخلود لزيادة همهم وغمهم وحزنهم بقطع أملهم

[سورة النحل (16) : الآيات 31 إلى 40]

من الخلاص «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» بعد إنهاء حال الكفرة، وقد أفردوا بالذّكر ليطلعوا على حال الكافرين ومصيرهم فيفرحوا ويتم سرورهم بثمرة أعمالهم التي كان الكفرة يضحكون منها وتقر أعينهم بانتقام الله تعالى لهم منهم فيدخلون الجنة وقد أمنوا على أنفسهم وعرفوا حال أعدائهم «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على رسلكم «قالُوا خَيْراً» نصب على تقدير أنزل فاطبق الجواب على السؤال لأن القول لا ينصب المفرد ورفع أساطير بالآية الأولى 24 على تقدير حذف المبتدأ المقدر وهو هو وأساطير خبره، ولأنهم عدلوا بالجواب عن السؤال ولم يعتقدوا كونه منزلا، فلم يستحسن الوقف على أساطير لعدم تمام الكلام واستحسن الوقف في هذه الآية على (خيرا) لتمام الكلام، ولهذا حسن الابتداء بقوله «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» لهم من الدنيا لقوله تعالى «وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» 30 في الآخرة التي هي «جَنَّاتُ عَدْنٍ» لهم «يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام النعمة وبهجة النظر «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» 31 في الآخرة الدائمة وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ» طاهرين، وهذا بمقابلة (ظالمي أنفسهم) في بيان فريق أهل النار في الآية الأولى «يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» وبمقابلة قول ملائكة العذاب للكافرين (أدخلوا أبواب جهنم) تقول ملائكة الرحمة «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 32 في دنياكم. واعلم أن ما جاء في هذه الآية وفي قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) الآية 73 من سورة الزخرف المارة ونظيرتها الآية 43 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 19 من سورة الطور والآية 24 من سورة الحاقة الآتيتين يدل على أن الجنة تكون للشخص بمقابل عمله الحسن. مطلب التوفيق بين الآيات والحديث بسبب الأعمال وفي آيات الصفات: وهذه الآيات لا تتنافى مع قوله صلّى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته، لأن معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، أما التوفيق للإخلاص فيها وقبولها

فيكون برحمة الله وفضله ليس إلا، وعليه فيصح أن يقال لم ندخل الجنة بمجرد العمل، وهذا هو مراده صلّى الله عليه وسلم وهو على حد قول العبد لسيده تفضلتم علي يا سيدي بما لم أكن أهله، فيقول له السيد بل بحسن خدمتك وأدبك. ويصح أن يقال تدخل الجنة بسبب الأعمال برحمة الله وفضله ومنّه، لا بالوجوب كما قال بعضهم، لأن الله لا يجب عليه شيء لأن الكون وما فيه ملكه وتحت سلطانه وله أن يفعل فيه ما يشاء، فلو عذب الطائع وأناب العاصي أيعارضه أحد؟ كلا لا يسأل عما يفعل، قال صاحب الزبد في عدم جواز نسبة الظلم إليه تعالى: وله أن يؤلم الأطفالا ... ووصفه بالظالم استحالا لأن الظلم تصرف فى حق الغير فيما لا يحل، والله جل شأنه متصرف في ملكه لأن الكل تحت قبضته، فلو أن أحدا هدم داره أو أحرق متاعه هل لأحد معارضته وهل عليه عقاب ما؟ كلا البتة، فإذا كنا نحن العبيد لنا التصرف المطلق فيما ملكناه الله لأن ملكنا له مجاز، فكيف يعترض أحد على المالك الحقيقي إذا تصرف في ملكه. راجع الآية 28 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 73 من سورة الزخرف المارة ولهذا البحث صلة في الآية 19 من سورة الطور والآية 24 من سورة الحاقة الآتيتين فراجعه تجد ما يسرك إن شاء الله القائلَ لْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء الجاحدون نبوتك يا سيد الرسل المنكرون وحينا إليكِ لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ» بقبض أرواحهمَ وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ» بعذابهم الدنيوي، وهذه الآية من آيات الصفات التي أشرنا إليها غير مرة بأن مذهب السلف الصالح إبقاؤها على ظاهرها ومذهب الخلف وبعض المتكلمين، على تأويلها بما يناسبها، راجع الآية 67 من سورة الزمر المارة وما ترشدك إليهَ ذلِكَ» مثل فعل هؤلاءَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الكفر والتكذيبَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ» بتعذيبهم من أجلهَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 33 بما عملوا من الخبائث «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في دنياهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 34 على الرسل وما جاءوهم به من عندنا جزاء كسبهم هذا بما لا تطيقه أجسامهم «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا

آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء، ولو قالوه اعتقادا جازما لأصابوا المرمى، ويؤذن قولهم أن لا فائدة من بعثة الرسل، لأن المشيئة الله، لو أراد لم يحرم شيئا ولم نعبد شيئا، وهذا أيضا اعتراض منهم على الله جار مجرى العلة في أحكام الله تعالى، وهو باطل لأنه لا يجوز أن يقال لم فعل الله كذا، ولم لم يفعل كذا، لأن أفعال الله لا تقلل، وكان في حكمة الله تعالى وسنته إرسال الرسل ليأمروا عباده بعبادته، وينهوهم عن الإشراك به والتعدي على الغير، وإن الهداية والإضلال أمرهما في الحقيقة إليه، وهذه سنته في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه. ولما كانت سنته بإرسال الرسل إلى الكافرين قديمة لا محدثة ولا طارئة ولم يبتدعها ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم كان قولهم (لو شاء الله) إلخ جهلا، لاعتقادهم أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثتهم وهو أيضا اعتقاد باطل. قال تعالى «كَذلِكَ» مثل فعلهم هذا «فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» إذ كذبوا الرسل وأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحله «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 35 هذا استفهام تقريري، أي ليس عليهم إلا التبليغ القولي وليس عليهم قسرهم على الإيمان وجبرهم على الهداية وإجبارهم على الرشد، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارة «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا» كما بعثناك في أهل مكة وأمرنا كلا من الرسل أن يقولوا لقومهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» مبالغة في الطغيان والطاغية ويطلق على كل من عبد من دون الله حاشا الملائكة وعزيز وعيسى وعلي عليهم السلام وغيرهم من الصالحين لعدم علمهم ورضاهم «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ» فتاب وأناب واتبع طريقهم الموصل إليه ففاز برضائه «وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» فلم ينتفعوا بهدى رسولهم لسابق ثقائهم في علم الله وإرادته إضلالهم لسوء طويتهم فهلكوا وخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، وهذه الآية كافية للدلالة على أن الله تعالى هو الهادي والمضل دون اعتراض، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا» أيها الناس «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» 36 حيث بقيت مساكنهم خاوية بسبب العذاب الذي حل

بهم، وفيها تنبيه على أنكم يا أهل مكة إذا أصررتم على الكفر يكون مصيركم مثلهم، قال تعالى «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ» يا سيد الرسل وتجتهد كل الاجتهاد لا يغير ما هو مدون في أزلنا أبدا «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ» أبدا ولو أطبق الخلق على إضلال من هداه لن يقدروا أيضا «وَما لَهُمْ» الضالين «مِنْ ناصِرِينَ» 37 يمنعونهم من عذاب الله المقدر لهم ولا يقدر أحد أن يهديهم أيضا، «وَأَقْسَمُوا» هؤلاء الكفرة الضالون «بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» قال ابن الجوزي أتى رجل مسلم يتقاضى دينه من كافر، فقال فيما قال والذي أرجوه بعد الموت، فقال الكافر أترجو وتزعم هذا والله لا يبعث من يموت. فنزلت هذه الآية ردا عليه وتكذيبا له، وهو قوله «بَلى» يبعث من يموت «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجزا على طريق عدم جواز الخلف على الله إن الله لا يخلف الميعاد ومن أصدق من الله قيلا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 38 كيفية ذلك، لأنهم يقولون إن هذه البنية إذا بليت وتفرقت أجزاؤها امتنع عودها بعينها، لأن الشيء إذا عدم فقد فني ولم تبق له ذات ولا حقيقة، ولم يعلموا أن الله تعالى الذي بدأ خلقهم قادر على إعادتهم كما كانوا عليه، وهو أهون عليه لأن خلقهم من لا شيء على غير مثال والصعوبة إنما تكون في الابتداع لا في التقليد، فهذه السيارات والطائرات والراد والكهرباء وغيرها بعد أن اخترعت هان على العاملين عملها وكان العقل لا يصدق وجودها لو لم يشاهدها، فالفضل فيها للمبتدع لا للمقلد. واعلم أن الحكمة في إعادة الخلق أحياء في الآخرة «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ» الله الذي خلقهم أول مرة «الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ» في الدنيا حقيقة وعيانا «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ» 39 في إنكارهم البعث وتكذيبهم ما أخبرهم به الرسل من وجود الحساب والعقاب والجنة والنار ويتحقق أن الله تعالى إذا أراد شيئا كان لا محالة بدليل قوله «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 40 حالا بين الكاف والنون، أي يوجد عند وجود هذين الحرفين بل بينهما. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 50]

ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. واعلموا أيها الناس أن خلقكم وبعثكم عندنا كشيء واحد لا يصعب علي شيء من ذلك والإيجاد والإعدام عندنا سواء لا يتخلف شيء عن أمرنا طرفة عين، فانظروا أيها الناس واعلموا أن لا كلمة على الخلاق فيما يخلق ويفني. قال تعالى «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» في الدنيا «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» عظيمة وحسنى جليلة ونعما جسمية «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» في الإحسان إليهم وأعظم أجرا إذا صبروا على ما أصابهم في الدنيا «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 41 ما أعد الله لهم في الآخرة على صبرهم لزادوا في اجتهادهم على العبادة وفي صبرهم على أذى الكافرين وغيرهم. نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة بسبب أذى المشركين إليهم، وفيها دليل على أن الهجرة إذا لم تكن خالصة لوجه الله للتمكن من القيام بأوامره وعبادته كما ينبغي كانت كالانتقال من بلد لآخر للتجارة أو الزيارة لا مزيّة لها ولا شرف فيها ولا ثواب، يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلخ. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ صَبَرُوا» على ظلم المشركين وأذاهم في سبيل الله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 42 في أمورهم كلها. واعلم أن الصبر والتوكل مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه، لأن الصبر قهر النفس وحبسها على أعمال البر واحتمال الأذى من الخلق وعلى الشهوات المباحات وعلى المصائب وعن المحرمات والتوكل انقطاع عن الخلق، فبهذا المنتهى والأول المبتدأ. مطلب التعويض الثاني بالهجرة وعدم الأخذ بالحديث إذا عارض القرآن: وهذه الآية الثانية التي يعرض الله تعالى بها لرسوله بالهجرة، والأولى 20 من سورة المؤمن المارة. قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا» يا أهل مكة إن لم ترشدكم عقولكم إلى التصديق بهذا الذي قصصناه عليكم «أَهْلَ الذِّكْرِ» الذين أنزل عليهم قبلكم من اليهود والنصارى،

وقولوا لهم هل أرسل الله نبيا إلا رجلا فيما سبق من الأمم إلى الأمم «إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 43 أمرهم الله أن يسألوا أهل الكتابين لأنهم يعتقدون ذلك لعلمهم بما أنزل الله في كتبهم من هذا. نزلت هذه الآية في كفار مكة القائلين الله أعظم وأجل أن يرسل رجلا إلى الناس ولو أراد لأرسل ملكا. فرد الله عليهم زعمهم واستشهد على بطلانه بأهل الكتابين لأنهم لا يعلمون «بِالْبَيِّناتِ» المعجزات «وَالزُّبُرِ» الكتب المنزلة مثلهم، أي اسألوهم عن هذا كما سألتموهم قبلا عن حقيقة محمد وكلفوكم أن تسألوه عن الروح وأصحاب الكهف وذى القرنين، وقد أجابكم كما ذكروه لكم ومع هذا كله لم تصدقوا نذرعا بقولكم كيف يكون بشرا رسولا، عتوا وعنادا لا غير. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ» القرآن وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه للعاقل يذكره بأمر دينه ودنياه، وإنما أنزلناه عليك يا سيد الرسل «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» 44 فيه فيؤمنون، والمراد من التبيين في هذه الآية بيان ما أجمل في القرآن من المتشابه، أما الحكم منه فهو مبين مفسّر لا يحتاج إلى التبيين، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على أنه متى تعارض الحديث مع القرآن وجب الأخذ بالحديث، لأن الرسول هو المبين للقرآن بنص هذه الآية وبنص قوله (ما ينطق عن الهوى) لأن القرآن مجمل والحديث مبين له، والمبين مقدم على المجمل، ولأن المنزل عليه لا يتكلم في نفسه بل بوحي من ربه. وهذا الاستدلال بغير محله، لأن القرآن منه محكم ومنه متشابه، فالمحكم مبين لا يحتاج إلى البيان ويجب الأخذ بظاهره دون حاجة إلى تأويل أو تفسير أو قياس أو استحسان، سواء أخالف الحديث أم لا، لأن الحديث الذي نراه مخالفا لبعض القرآن لا يعمل به، ولعله موضوع لمعنى لا نعرفه، أو أنه مكذوب على حضرة الرسول، والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من الحديث وأهل العلم. قال تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) لا يتبدل حكمها ولا يتغير معناها من بدء الكون إلى آخره (وأخر متشابهات) إلى أن قال (لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) وهم الأنبياء فمن دونهم ممن هو على آثارهم في العلم والعمل، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 من آل عمران في ج 3

بصورة مسهبة إن شاء الله. واعلم أن القائل بهذا قائل بأن الحديث ينسخ القرآن وهو قول لا وجه له، كيف وقد قال تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) الآية 66 من سورة يونس المارة، والنسخ بالسنية تبديل فكيف يجوز أن يقال به فضلا عن أن جهابذة الأصوليين لم يعترفوا به، وما قيل بجوازه فهو قيل ضعيف مستنده حديث الترمذي وغيره (لا وصية لوارث) بأنه نسخ آية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) الآية 186 من سورة البقرة ج 3، مع أن هذه الآية مخصصة بآية المواريث الآتية في سورة النساء كما سيأتي بحثها إن شاء الله، وقد ألمعنا إلى بطلانه في المقدمة في بحث النسخ، وسيأتي توضيحه في الآية 106 من سورة البقرة ج 3 عند قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) إلخ، واعلم أنه لا يجوز بوجه من الوجوه أن يؤخذ بالحديث إذا عارض ظاهر القرآن، وهو دليل على عدم صحته، لأنه لا يتصور أن بصدر من حضرة الرسول قول يخالف ظاهر كلام الله، كيف وهو الذي لا ينطق عن هوى وعليه أنزل القرآن وهو دليله وحجته وبرهانه. قال تعالى «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا» المنكرات «السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بمن قبلهم «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 45 كما أهلك من قبلهم فجأة حال غفلتهم من نزول العذاب «أَوْ يَأْخُذَهُمْ» على غرة «فِي تَقَلُّبِهِمْ» في الأرض عند أسفارهم بها ذاهبين أو آئبين «فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» 46 الله ولا فائتيه ولا قادرين على الهرب منه «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» بأن يريهم إهلاك أناس أمامهم فيخافوا من وقوعه بهم أو يحدثه بهم تدريجا فيعذبهم فيهلكوا بين الخوف والعذاب أول بأول بصورة تدريجية حتى يقضى على آخرهم «فَإِنَّ رَبَّكُمْ» أيها الناس القادر على تسليط أنواع العذاب والهلاك عليكم «لَرَؤُفٌ» كثير الشفقة عليكم «رَحِيمٌ» 47 بكم لا يعجل عقوبتكم بل يمهلكم لترجعوا إليه وتتوبوا مما أذنبتم به إليه. وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما تنفطر منه القلوب وترتعد منه الفرائض. والمكر المشار إليه هو أن قريشا لما عجزت عن صد دعوة الرسول صارت تحيك الدسائس لتخلص منه، وصاروا يعقدون الاجتماعات في دار الندوة ويتذاكرون

مطلب من أنواع السجود لله وتطاول العرب لاتخاذ الملائكة آلهة:

في كيفية إهلاكه أو إخراجه من بين أظهرهم، فأنزل الله هذه الآية بوعدهم بها بإنزال أصناف العذاب والهلاك إذا هم فعلوا به شيئا، وهذا من مقدمات الأسباب الداعية إلى هجرته صلّى الله عليه وسلم التي قرب أوان إذن الله تعالى له بها. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» المراد بهذه الرؤية البصرية لا القلبية، ولذلك وصلت بإلى إذ يراد منها الاعتبار ولا يكون إلا بنفس الجارحة التي يمكن معها النظر إلى نفس الشيء ليتأمل بأحواله ويتفكر فيه فيعتبر ويتعظ «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» يقال للظل بالعشي فيء من فاء إذا رجع، وفي الصباح ظل لأنه مما نسخته الشمس والفيء ينسخها. قال حميد بن ثور في هذا: أبى الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العفاة تروق فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق وأراد بالسرحة امرأة على طريق الكناية، أي تنشر ظلاله انتشارا «عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» 48 صاغرون ذليلون، قال ذو الرمة: فلم يتق إلا داخر في مخيس ... ومنحجر في غير أرضك في حجر المخيس السجن «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» 49 عن السجود لعظمته بل يتواضعون ويخشعون ويخضعون لهيبة جلاله «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» 50. مطلب من أنواع السجود لله وتطاول العرب لاتخاذ الملائكة آلهة: وهذه الآية شاملة لنوعي السجود، لأنه سجود طاعة وعبادة كسجود الملائكة والآدميين وسجود انقياد وخضوع كسجود الضلال والدواب، وجاء بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل تغليبا لأنه أكثر مما يعقل كتغليب المذكر على المؤنث وجمعها جمع من يعقل، لأنه وصفها بصفته، لأن السجود من شأن من يعقل، وهذه السجدة من عزائم السجود وقد بينا ما يتعلق فيه في الآية 37/ 38 من سورة فصلت المارة فراجعه ترشد لما تريده فيه. «وَقالَ اللَّهُ» تعالى يا ابن آدم إني نهيتكم كما نهيت

آباءكم من قبل على لسان رسلي أن «لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ» الإله الذي يعبد في السماء والأرض هو «إِلهٌ واحِدٌ» فرد صمد لا رب غيره ولا إله سواه ولا يستحق العبادة إلا إياه، وإنما قال واحد لأن الاسم الحامل معنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منها هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وقيل لك إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، وإذا أريدت الدلالة على الجنسية فلا حاجة للتاكيد كما تقول واحد اثنين، ولهذا البحث صلة في الآية 23 من سورة الأنبياء الآتية عند قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية إن شاء الله، «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» 51 لا ترهبوا غيري أبدا، وقد جاء بالالتفات من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ من الترهيب، والرهب خوف مع حزن واضطراب، قال تعالى «وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً» ثابتا دائما واجبا لازما، قال أبو الأسود الدؤلي: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا وقال أمية بن الصلت: وله الدين واصبا وله الملا ... ك وحمد له على كل حال ثم خاطب خلقه على طريق الاستفهام بقوله جل قوله «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» 52 أيها الناس بعد أن عرفتم ما قصصناه عليكم من كمال عزّته وكبير قدرته وعظيم سلطانه وجليل عفوه «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» لا من غيره فيجب عليكم شكر نعمه «ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ» 53 تضجّون بالدعاء وتصيحون بالاستغاثة ليكشفه عنكم، والجوأر رفع الصوت بالاستغاثة قال الأعشى: يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا «ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» 54 لأنهم يضيفونه إلى أسباب أخر ولا يعلمون أنه هو مسبب الأسباب فإذا كان الضر

من القحط وأنعم الله عليهم بالغيث أضافوه إلى الكواكب وإذا كان مرضا أضافوا الشفاء إلى العقاقير، وإذا كان ريحا أو ولدا أضافوه إلى كسبهم، وما ذلك إلا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من تلك النعم بدل أن يشكروها ويحمدوا المنعم بها عليهم «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 55 عاقبة كفركم وجحدكم، وفي العدول من الغيبة إلى الخطاب على قراءة الفعلين بالتاء زيادة في التهديد والوعيد وقرأهما بعض القراء بالياء. ثم شرع جل شأنه يعدّد مساوئهم فقال «وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ» لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها من أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تحمي ولا تشفع «نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ» من الأنعام راجع الآية 138 من سورة الأنعام المارة تجدها مفصلة هناك، ثم أقسم بذاته الكريمة فقال «تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ» أيها الكفرة «عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» 56 في الدنيا من هذه الأشياء القبيحة وغيرها، وهذا السؤال يكون حتما يوم القيامة عن عدها آلهة، وتخصيص بعض نعمه إليها وتخظيظها بنصيب منها تشبيها لها بالآلهة «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ» وهم يكرهوهن لأنفسهم وذلك أن فرقا منهم كخزاعة وكناية يزعمون أن الملائكة بنات الله «سُبْحانَهُ» وتنزه وتعالى عن ذلك «وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» 57 من الذكور، أي كيف ينسبون النوع المحبوب إليهم والمكروه إلى ربهم «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» من الكآبة والحياء من الناس كأنه جاء بشيء منكر فاحش «وَهُوَ كَظِيمٌ» 58 ممتلىء غضبا وحنقا وحزنا على ما حل به من الغم وعلى زوجته أيضا كما أشرنا إليه في الآية 17 من لزخرف المارة «يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ» يتغيب عنهم ويستتر منهم «مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ» لئلا يرونه فيعيّرونه ثم يتفكر ماذا يصنع بها «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ» بأن يتركه حيا فيربيه على هوان لنفسه ومذلة لها كأن ذلك المولود من زنى وقد ذكر الضمير باعتبار عوده إلى ما بشر به «أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» فيدفئه حيا فيئده حتى يموت تحته ويتخلص من عاره وشناره. قال تعالى ذامّا صنيعهم هذا بقوله «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 59 في هذه القسمة وهذا الحياء وهذه السنة وهذا الإباء وهذا الوأد، راجع الآية 8 من سورة التكوير في ج 1 فيما يتعلق بهذا.

[سورة النحل (16) : الآيات 61 إلى 70]

قال تعالى «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ» كراهية الإناث ووأدهن خشية العار أو الفقر «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى» نزاهته عن ذلك وتعاليه وغناه عن العالمين أجمع، وهذه الجملة لم تكرر في القرآن إلا في الآية 27 من سورة الروم الآتية «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المتمتع في كبريائه الغالب، الغير محتاج لأحد من خلقه «الْحَكِيمُ» 60 في إمهال عباده المتطاولين عليه لأمر يعلمه لأنه لا يؤاخذهم على ما يبدر منهم من الظلم والتعدي حالا بل بمهلهم ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ» مثل هذا وأشباهه «ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» بل لدمّر كل من على الأرض حالا «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» لإيمان من يؤمن منهم وإصرار من بصر «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» 61 عنه لحظة، وهذه الآية ونظيرتها في المعنى الآية 45 من سورة فاطر في ج 1 عامة في كل ظالم مخصوصتين في قوله (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) الآية 35 من سورة فاطر المذكورة، لأن في جنس الناس يدخل الأنبياء والصالحون ومن لا يطلق عليهم اسم الظلم، فاتقوا الله أيها الظلمة فلا تحملوا أوزاركم وأوزار غيركم بظلمكم، فقد يهلك بظلمكم وشؤمكم خلق كثير لا دخل لهم في أعمالكم، وقد فعل الله تعالى ذلك في قوم نوح عليه السلام عدا من كان في السفينة وأدخل الدواب التي لا تعقل بالهلاك عقوبة لكم، لأن أكثرها مخلوقة لمنافعكم وأنتم تظلمون أنفسكم وتتجاوزون حقوق الله وتتعدون حدوده. واعلم أن البلاء قد يعم، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 15 من سورة الأنفال في ج 3، قال أبو هريرة: إن الحيارى لتهلك في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم. واعلموا أن الله لو يؤاخذكم بما يقع منكم لا نقطع نسلكم ولم يبق على وجه الأرض أحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله. «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» لأنفسهم، وهذا بمقابلة قوله (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) في الآية المارة 57 «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ» مع ذلك إذ يتمنون «أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» العاقبة الحسنة عند الله وهي الجنة في الآخرة وهو كذب محض

وافتراء على الله، وهذا ردّ لقول الخبيث منهم (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) الآية 50 من سورة فصّلت المارة والآية 36 من سورة الكهف أيضا. قال تعالى «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ» في الآخرة لا شيء لهم غيرها «وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» 62 معجلون إليها، والفرط التقدم إلى الماء قبل القوم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض، لأنه صلّى الله عليه وسلم يقف على حوضه الكوثر يوم القيامة ويرد عليه المؤمنون به. قال تعالى «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» رسلا كما أرسلناك إلى هذه الأمة «فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» كما زين لقومك أعمالهم القبيحة بالفاء الوسوسة إليهم وقبولها منهم وإلا ففي الحقيقة إن المزين هو الله تعالى، راجع الآية 39 من سورة الحجر المارة والآية 35 المارة من هذه السورة، والذين يتبعون ما يزين لهم الشيطان رغبة به «فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ» في الدنيا التي هم فيها لأن اليوم المعروف معروف في زمان الحال كالآن وصدر بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، ويسمى مثل هذا حكاية الحال الماضية، وهو استعارة من الحضور الخارجي إلى الحضور الذمني، والمراد به مدة الدنيا، لأنها كلها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة، وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 63 في الآخرة لكفرهم بالله واتخاذهم أولياء من دونه. قال تعالى «وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» يا محمد «إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» من البعث وغيره لا لعة أخرى وهذا معنى الاستثناء المفرغ أي ما أنزلناه إلا لهذه الغاية، وهذه الآية قريبة في المعنى من الآية 39 المارة قبلها، ولقوله تعالى في الآية 44 المارة أيضا وتشمل كل شيء اختلفوا فيه من أمر الدين والدنيا، لأنه داخل ضمنها «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 64 به فينتفعون بهديه ورشده أما غير المؤمنين فلن ينتفعوا به وهو عليهم عمى، راجع الآية 44 من سورة فصلت المارة «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» جدبها ويبسها لأنه موت بحقها «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة «لَآيَةً» دالة على البعث للإنسان بعد موته بالنسبة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» 65 آيات الله سماع قبول فيعونها ويتدبرونها ويعقلون ما فيها، لأن

مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:

سماع الأذان وحده لا يكفي للانتفاع بالمسموع، بل لا بدّ من اقترانه بالقبول وإلا عدّ كسماع الموتى، ولهذا قال تعالى بحق الذين يسمعون ولا يعون (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية 22 من سورة فاطر في ج 1. مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها: هذا وبعد أن عدد الله تعالى مساوئهم وذكر الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وضرب المثل لصحة البعث طفق يعدد نعمه على خلقه فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ» المار ذكرها بصدر هذه السورة «لَعِبْرَةً» كبيرة وعظة عظيمة إذا تفكر بها، ثم بين هذه العبرة بقوله «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» ذكر الضمير وهو مؤنث لأن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، فكان ضميره ضمير الواحد المذكر بحسب اللفظ وبحسب المعنى جمع، فيكون ضميره ضمير الجمع وهو مؤنث، ولهذا المعنى ذكره هنا وأنثه في سورة المؤمنين في الآية 23 في نظير هذه الآية، والأنعام اسم جمع وكل ما كان كذلك يجوز فيه التذكير والتأنيث والجمع والإفراد من حيث اللفظ والمعنى، كالخيل والإبل والغنم وغيرها من أسماء الأجناس التي لا واحد لها من لفظها، قال الشاعر: تركنا الخيل والنعم المفدى ... وقلنا للنساء بها أقيمي وقال الكسائي إنما يفرد ويذكر على تقدير المذكور وذلك كقوله: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق وهذا شائع وفي القرآن سائغ، قال تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الآيتين 54/ 55 من سورة المدثر في ج 1، وقال تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) الآية 38 من الأنعام المارة، وإنما يكون هذا في التأنيث المجازي تدبر. «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» الفرث في الكرش ما دام فيها، نخرج «لَبَناً خالِصاً» من شوائب الكدورة، ومن مصل الفرث والدم جاريا بسهولة هنيئا مريئا، بدلالة قوله «سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» 66 لا غصّة فيه ولا يحتاج للمضغ ولا يثقل على المعدة ولا يحتاج للشرب بعده، وهو غذاء وماء يكفي الكبير والصغير، ذلك تدبير الحكيم

القدير الذي هو بكل شيء خبير. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما شرب أحد لبنا فشرق، إن الله تعالى يقول (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) وهو كذلك، فإذا وقع الشرق فيه فاعلم أن اللبن مشوب بماء، لأن كلام الرسول لا ينخرم أبدا. وقرىء سيغا بالتخفيف والتشديد، وهي قراءة جائزة لأن اللفظ يحتملها بلا زيادة ولا نقص لما ذكرنا أن التشديد والتخفيف والمد والإشباع لا يعد نقصا ولا زيادة. هذا، واعلم أن الحيوان إذا تناول غذاءه ينزل إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان حيوانا، وإلى أمعائه إن كان من غيرهما فيحصل في الغذاء الهضم الأول، فيجذب بقدرة الله تعالى الصافي إلى الكبد، والكثيف إلى الأمعاء، ثم يحصل الهضم الثاني في الذي انجذب إلى الكبد، فيصير دما مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتجذب بحكمة الحكيم الصفراء إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والمائية إلى الكلى، ومنها إلى المثانة، ويذهب الدم في العروق، وهي الأوردة الثابتة في الكبد، فيحصل الهضم الثالث، فيصب الدم من تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض، فينقلب بقدرة القادر ذلك الدم لبنا صافيا فيه. هذا مصير الصافي من الغذاء، ولا يستبعد أحد كيفية الانجذاب المذكور، لأن القوة الجاذبة من أمر الله، والذي وضعها في الحديد يضعها في غيره، والنظر قوة جاذبية الاستفراغ وقس عليها. وأما الكثيف الذي نزل الى الأمعاء فيخرج فضلات، فسبحان اللطيف بخلقه، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان، ولكن الله تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان، ويخرج ما بضره، فله الحمد والشكر، ولهذه الحكمة ورد أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء غفر انك ثلاثا، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. وكان نوح عليه السلام يقول الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه. والله أعلم. هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن، لأن أفعال الله لا تعلل، ولعل الله تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات الله تعالى، وكيفية

تراكيب مخلوقاته، ونتائج ما ركبت لأجله، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا، والأنثى باردا رطبا، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا، لأجل غذائه كما كانت في الرحم، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه: حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع، وهذه النطفة مكونة من الدم، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما. هذا، وإذا تدبرت بدائع صنع الإله في هذا وغيره وعجائب مكوناته اضطررت للاعتراف بكمال قدرته، وتمام حكمته، وتناهي رحمته بعباده، وغاية رأفته بهم، قسرا، فسبحانه من إله عظيم أوحى إلى حبيبه «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ» لكم عبرة عظيمة وعظة كبيرة أيها الناس «تَتَّخِذُونَ مِنْهُ» من عصير التمر والعنب ثمر النخيل والكرم «سَكَراً» مشروبا يتفكه به كما قال أبو عبيدة، وخمرا بلغة العرب، وقال ابن عباس مطعوما يتفكه به، قال الأخطل: بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا مجرى فيهم المزاء والسكر والمزاء نوع من الأشربة المسكرة. قيل إنه نقيع التمر والزبيب إذ طبخا وذهب تلثاهما، وما لا يسكر من الأنبذة، لأن الله تعالى قد امتنّ على عباده في هذه الآية به، ولا يقع الامتنان منه إلا بمحلل. وقال ابن عباس: هو الخلّ بلغة الحبشة، واستدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ صاحب ذلك القيل بهذا التأويل، وعضد استدلاله بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال حرم الله الخمر بعينها القليل منها والكثير. والسكر بضم السين من كل شراب، أخرجه الدارقطني.

مطلب في السكر ما هو وما يخرج من النحل من العسل وأقسام الوحي:

والى حل شرب النبيذ إلى ما دون الإسكار، وذهب إبراهيم النخعي وأبو جعفر والطحاوي وسفيان الثوري، وأجازه أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إذا لم يسكر، أما الخمرة فقليلها وكثيرها حرام، أسكرت أو لم تسكر. قال تعالى «وَرِزْقاً حَسَناً» كالتمر والزبيب والعنب والدبس والأشربة المتخذة منهما التي تشرب آنيّا والخل أيضا. مطلب في السكر ما هو وما يخرج من النحل من العسل وأقسام الوحي: هذا وفي وصفه تعالى الرزق الحاصل منهما بالحسن يفيد أن السكر غير حسن، وأن التمييز بين السكر وبين الرزق الحسن في الذكر، عدّه، أي السكر غير حسن، وذلك يدل على التحريم الذي سينزله بعد في القسم المدني، ولهذا عرض على قبح تناوله لعدم وصفه بالحسن ورمز إلى أن السكر وإن كان مباحا إذ ذاك فهو مما يحسن اجتنابه، وهذه أول آية نزلت في الخمر على القول بأن المراد بالسكر الخمر، ولهذا فلا وجه للقول بأن هذه الآية منسوخة، لأنها ذكرت في معرض تعداد نعم الله على عباده، وكان نزولها بزمن مباح فيه شربها، لأن التحريم طرأ بصورة تدريجية، فضلا عن أن السكر يحتمل معاني كثيرة كما مر آنفا، والنسخ يقتضي أن يكون صريحا لشيء صريح لا يحتمل التأويل والتفسير، بخلاف ما هنا، وقد ألمعنا في المقدمة بأن هذه الآية أول آية أنزلت في الخمر مطلقا، ولم ينزل غيرها في مكة، وان الآيات الثلاث في البقرة والنساء والمائدة نزلن في المدينة، وسنوضح هذا البحث في الآيات 220 و 43 و 94 من السور المذكورة على طريق اللف والنشر المرتب فراجعها «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من النعم «لَآيَةً» باهرة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 67 أن لهذه الأشياء خالقا مدبرا ومبدعا حكيما. قال تعالى «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» 68 من شجر الكرم ويسقفونه ويبنون من غيره بيوتا للنحل لتقذف فيها العسل رزقا للخلق «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ومن أوراقها وأشجارها وتطلق الثمرة على الشجرة «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ» الذي ألهمك أن تسلكها وتدخلي فيها لإخراج العسل «ذُلُلًا» مسخرة منقادة لأربابها عند إرادتهم نقلها من

محل لآخر لتمام الانتفاع بها «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أبيض وأحمر وأصفر وما بينها بحسب السن والفعل والمرعى، فالذي تأكله من ذلك يحيله الله تعالى في بطونها عملا، وفي بطون القرّ حريرا، وفي الغير قذرا، فتفكروا رحمكم الله من غذاء واحد مطعوم وملبوس وسماد، وكذلك شجر الفواكه تسقى بماء واحد وأرض واحدة وتعطي أنمارا مختلفة حلوا وحامضا ومزا وغير ذلك. راجع الآية 4 من سورة الرعد في ج 3، وفي اختلاف ألوانها عبرة أيضا والمؤثر واحد جلت قدرته، وقد جعل «فِيهِ» أي الشراب الخارج من بطون النحل «شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ال فيه للجنس فيصدق على الواحد والمتعدد لأنه شفاء لبعض الأمراض، وقد يضر بعضها وحده، أما إذا مزج بأجزاء أخر ففيه نفع لأكثر الأمراض «إِنَّ فِي ذلِكَ» العسل الخارج من النحل وهو يأكل ما يأكل غيره من الطيور والحيوان «لَآيَةً» عظيمة وعبرة جليلة «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 69 في عجيب صنع المبدع الأعظم. والمراد بالوحي هنا التسخير، لأن الوحي أصله الإشارة السريعة، فيكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، ويكون بصوت مجرد، فما كان من هذا النوع للأنبياء فهو وحي، وما كان للأولياء فهو إلهام، وما كان للطير والحيوان والجماد فهو تسخير، راجع الآية 51 من سورة الشورى المارة تعلم أقسام الوحي وقد أسهبنا بحثه في المقدمة فراجعها. ومن بدايع الصنع الذي ألهمه الله إلى النحل بناء بيوتها على شكن مسدس من أضلاع متساوية، لا خلل فيها ولا زيادة ولا نقص، والأعظم من ذلك أنها تبدأ بنائه من طرفه لا من وسطه، وهذا مما يعجز عنه البشر غالبا، ومن عجائب القدرة أن لها أميرا نافذ الحكم على أفرادها وهو أكبرها جثة ويسمى يعسوب، ولها على باب كل خليّة بواب لا يمكن غيرها من الدخول، وقد ألهمها الله تعالى الخروج إلى المرعى والرجوع إلى محلها أينما كان لا تضله أبدا، وحتى الآن لم يعرف بوجه حقيقي خروج العسل من فمها أو من دبرها، والآية صالحة لكلا الأمرين، لأن الله تعالى قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) فالذي يخرج من الفم أو من الدبر يصدق عليه أنه خارج من البطن، فسبحانه جل كلامه أن يتطرق إليه الخلل كيف وهو تنزيل من حكيم حميد صانه من

طرق الباطل عليه. واعلم أن النحل على نوعين أهلي يأوي إلى البيوت لا يستوحش من الناس، ووحشي يأوي للجبال والكهوف والأشجار. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. راجع الآية 82 من سورة الإسراء في ج 1 لتقف على آيات الشفاء كان ابن عمر رضي الله عنهما كلما خرجت به قرحة لطخها بالعسل، وتلا هذه الآية. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله اسقه عسلا، فسقاه ثم جاء فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا، فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال رسول الله: صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرىء. وما قاله بعض الملحدين اعتراضا على هذا الحديث من أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به إسهال، فهو ناشيء عن جهله وحمقه وقلة عقله وعقيدته، لأن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخمة والهيضة وغيرهما، وقد أجمع الأطباء على أن علاج مثلهما يترك إلى الطبيعة أولا، فإن احتاجت إلى معين أعطي شربة تعينه على تنظيف أمعائه، فيحتمل أن ذلك الشخص من هذا القبيل، فكان أمره صلّى الله عليه وسلم له بشرب العسل السهل جاريا على قاعدة الطب والأطباء يخبرون على ذلك، وفيه دليل على حذقه صلّى الله عليه وسلم بالطب دون تعليم من أحد، وفضلا عن هذا فلا يبعد أن حضرة الرسول علم بتعليم الله إياه أن شفاء ذلك الرجل يكون بالعسل فكان شفاؤه به على رغم أنف كل معترض، وهو مما جرّب أيضا، إلا أن من لا يعنقد به لا ينفعه جزاء وفاقا. قال تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» يا ابن آدم وجعل للبثكم في الدنيا أجلا لا تتعدونه «ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ» بحلوله أطفالا وصبيانا وشبابا وكهولا وشيوخا، يحسب آجالكم المقدرة عنده، فمنكم من يحتفظ بكمال عقله ورشده إلى وفاته مهما بلغ من العمر «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» الهرم والخوف إذ ينقص منهم القوى ويفسد الحواس ويضعف العقل فيكون حالهم من هذه الحيثية كحال الطفولة، ومن هنا تصور الردّ إلى أرذل العمر وقد بينه الله تعالى بقوله «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» أي

[سورة النحل (16) : الآيات 71 إلى 80]

يصير كالصبي الذي لا عقل له بسبب نسيانه ما علمه قبلا فيصير بعد العلم جاهلا والقوة ضعيفا والسمن نحيفا ليربكم الله قدرته في أنفسكم، فلا مجال لتأويل آخر لمعنى الأرذل، ولا تتقيد هذه الآية والحالة التي يصير إليها الإنسان بسن أو شخص. ونظير هذه الآية الآية 68 من سورة يس في ج 1 وهي (ومن نعمره ننكه في الخلق) أخرج بن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة، وهو يختلف باختلاف الأمزجة والأمكنة، فربّ معمر لم تنقص قواه وغير معمر فسدت جوارحه، والتقيد بالسن مبني على الغالب. روى البخاري ومسلم عن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات. قال: لا طيب للنفس ما دامت منغّصة ... لذاته بادكار الشيب والهرم وهذا يعم المؤمن والكافر ولا وجه لتخصيصه بالكافر، لأن ظاهر الآية أو الحديث ينافي ذلك التخصيص لمجيئها على الإطلاق، وقد أوردنا في قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) الآية من سورة والتين المارة في ج 1 أن الصالح قد لا يخرف، وليس كل صالح نراه هو صالح في الحقيقة، فكم صالح قد يبتليه الله تعالى بأمراض مزمنة لزيادة درجاته في الجنة، وما جاء عن عكرمة أن من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ليس على إطلاقه لأنا شاهدنا علماء وقراء فلجوا وخرفوا، ورأينا على العكس من يعمر ويموت بكمال عقله بل وقواه وجوارحه، وإن شيخنا الشيخ حسين الأزهري مفتي الفرات ومدرسها عاش 127 سنة ولم يفقد من قواه شيئا وخاصة ذاكرته، تغمده الله برحمته التي يختص بها من يشاء ولم نر أورع منه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بكل شيء قبل خلقه وما يؤول إليه بعد خلقه وبعد موته «قَدِيرٌ» 70 على تبديل الخلق من حال إلى حال «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ» فوسعه علي أناس وضيقه على آخرين، وكما فضلوا بالرزق فضلوا بالخلق والخلق والعقل والصحة والحسن والعلم والصوت والمعرفة وغير ذلك فهم منقادون إلى ما قدر لهم في الأزل متفاوتون في كثير من الأشياء بمقتضى الحكمة الإلهية، ولكن «فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ» معطيه ومضيفيه «عَلى ما مَلَكَتْ

أَيْمانُهُمْ» من الإماء والعبيد لأنهم لا يرضون أن يتساووا معهم فيه طلبا للتفاضل الذي هو غريزة في البشير «فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ» من حيث المعيشة لا من حيث الملكية، لأنها خاصة بالأسياد، فإذا كان البشر لا يرضي التساوي مع بعضه، فكيف أنتم يا أهل مكة تساوى أصنامكم مع الله، والملائكة معه في العبادة وهم عباده، وكيف يرضى الله أن تجعلوا عبيده وخلقه شركاء معه «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» 71 أولئك الكفرة يأكلون رزقه ويعبدون غيره وينكرون نعمه «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» من جنسكم ونوعكم والخطاب يشمل آدم فمن دونه ومن خصصه بآدم نظر إلى أن الله خلق زوجته منه، إلا أن جمع الأنفس والأزواج يأباه، واستدل بعضهم في هذه الآية على عدم جواز نكاح الجن، ولفظ الآية يدل على الجنس، إذ لا يحصل الإنس بغيره، قال تعالى (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الآية 21 من الروم الآتية، وقال تعالى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) الآية 188 من البقرة في ج 3، فيبعد أن يكون من غير جنسه لأن الإنس فيها بعد قضاء الحاجة غير متصور، «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً» الحافد لغة المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة، ومنه قول القانت (وإليك نعى ونحفد) في دعاء القنوت لدى السادة الحنفية، وشرعا على ولد الولد، وإنما خص الحفدة لأنهم قد يكونون أحب إليهم من أولادهم، قال: ابن ابننا من ابننا نحب ... الابن تشر الحفيد لب أخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم على ما قيل أزواج البنات، ويقال لهم أصهار، وأنشدوا لذلك: ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما يعد كثير ولكنها نفس عليّ أبية ... عيوني لأصهار اللئام تدور والأول أولى لأنه الذائع المشهور المتعارف، «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» مما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات وحسن وزها من اللباس والسكن «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ» أولئك الكفرة فيقولون إن لله شريكا وأنه لا يبعث

من يموت «وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ» التي من جملتها الإيمان به، لأنه من أعظم النعم، وكل نعمة دونه «هُمْ يَكْفُرُونَ» 72 استفهام تعجب من حالهم القبيح «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً» أي لا يملك شيئا من الرزق البتة «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» 73 على شيء أصلا من أسباب الرزق وغيره، لأنها جماد محتاجة لمن يتعاهدها «فَلا تَضْرِبُوا» أيها الكفار «لِلَّهِ الْأَمْثالَ» بأن تجعلوا له شريكا تعبدونه على عدّه واعتباره شريكا لله مماثلا له، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الآية 32 من البقرة في ج 3، «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ» بأنه لا مثيل له ولا شريك «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 74 ذلك ولا تعرفون كنه ذاته فلهذا تجاسرتم على ضرب المثل له بما لا يليق بجلاله ولا يناسب عظمة كماله «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» عاجزا عن كل شيء لا مكاتبا ولا مأذونا، وإنما خصه الله بالمملوكية لا شتراكه هو والحر بالعبودية فميز بينهما في هذا الوصف، والمراد بالشيء هنا النفقة مما رزق، وهذا من المبهم، وهو من بديع الكلام «وَمَنْ» أي رجلا سيدا «رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً» وهو حر قادر على جميع أنواع التصرف بماله وبنفسه وبواسطة غيره «فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ» أي الرزق على الغير «سِرًّا وَجَهْراً» لا يعارضه معارض «هَلْ يَسْتَوُونَ» الأحرار السادة والعبيد المملوكون؟ كلا لا يستوون، ولم يقل يستوبان لإرادة الجمع، ولما نهاهم الله عن ضرب الأمثال لقلة علمهم بها ضرب لنفسه مثلا فقال مثلكم في إشراككم الأوثان بالله الرحمن، كمثل من سوى بين العبد العاجز المملوك والحر السيد القوي الكريم، فكما لا يستويان وكذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، مع أنهما في الصورة البشرية سواء، وإن كان لا يجوز التسوية بين هؤلاء عندكم فكيف تسوون بين الخالق الرزاق وبين الأوثان العاجزة عن كل شيء، مع أنه لا يجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المستحق الحمد وحده لا أوثانكم «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 75 أن الحمد يختصّ بالله ويظنون جهلا أن منه لأوثانهم «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ» أخرس ولادة،

إذ ليس كل أبكم أخرس ولا كل أخرس أبكم «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» لعجزه عن كل شيء، والمراد بالشيء هنا الأمر بالعدل والاستقامة كما يدل عليه عجز الآيات، وهذا من المبهم «وَهُوَ كَلٌّ» ثقيل «عَلى مَوْلاهُ» سيده الذي يعوله لأنه «أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ» فلا ينجح ولا يفلح، لأنه لا يفهم ولا يفهم، أخبروني أيها العقلاء «هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ» ذو الرأي والرشد يعلم مرادهم ويحثهم على سلوك الطريق السوي «وَهُوَ» في ذاته ينفع العام والخاص و «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 76 في أقواله وأفعاله وأحواله لا يوجهه لأمر إلا وقد أنهاه بحنكة وحكمة دون أن تزوده بالوصية، وفي مثله يقال أرسل حكيما ولا توصه، فهل يستويان هذا وذاك؟ كلا، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه المقدسة ولما يقيض به على عباده من النعم وللأصنام التي هي جماد لا تنطق ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع مع ثقلها على عابديها لاحتياجها للخدمة والحفظ من التعدي «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده خاص به علم ما يقع ممن فيهما لا يعلمه أحد من خلقه ويعلم زمن انتهائهما، لا علم لأحد بذلك غيره، «وَما أَمْرُ السَّاعَةِ» التي يقوم بها الناس من قبورهم ويساقون فيها إلى المحشر «إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ» قدر انفتاح الجفن أو طبقه «أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» من ذلك لأن التمثيل بلمح البصر بالنسبة للبشر إذ لا يرون أقل منه حتى يمثوا به، أما عند الله فهو أقل لأن لمح البصر يحتاج إلى حركة، والحركة لا بدّ أن تأخذ شيئا من الزمن، وأمر الله لا يحتاج لذلك، لأنه إذا قال لشيء كن كان بين الكاف والنون، تأمل كيفية إحضار عرش بلقيس في الآية 40 من سورة النمل في ج 1، و (أو) هنا مثلها في قوله تعالى (أَوْ يَزِيدُونَ) في الآية 147 من الصافات المارة جريا على عادة الناس، ولذلك قال (كلمح بالبصر) ولو كان يوجد لفظ يدل على أدنى من ذلك متعارف بينهم للسرعة لقاله، ومثل هذا مثل (أف) الواردة في الآية 23 من الإسراء في ج 1، فلو كان يوجد لفظ متعارف يدل على أدنى منه في مراتب الضجر لذكره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 77 في كل ما يتصور وهو قادر على إقامة الساعة حالا، ثم صرب مثلا على قدرته فقال

«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» البتة لأنكم تولدون على حالة أقل من البهائم إدراكا لا تعرفون معه الحجر من الثمر، والقرّ من الحر، والنفع من الضر «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتعقلوا بها بصورة تدريجية «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 78 الله الذي منحكم تلك القوى وقدركم فيها على إزالة الجهل الذي ولدتم عليه وقد ركبها فيكم لتستعملوها لما خلقت له أداء لشكرها، وتشكروا المنعم بها عليكم، لا أن تضعوها بغير موضعها وتقابلوها بالكفر، قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ» الفضاء الواسع ما بينها وبين الأرض، وقد يراد به الهواء وجوف السماء، قالوا إن الطير مهما ارتفع لا يتجاوز اثني عشر ميلا، إذ ينقطع الهواء فإذا تجاوزت هذا القدر لا تستطيع العوم ولا الوقوف، وقد تموت بسبب انقطاع الهواء «ما يُمْسِكُهُنَّ» شيء عند قبض أجنحتهن من الوقوع «إِلَّا اللَّهُ» لأنه في حالة نشر أجنحتهن، يقال إن الهواء يمسكها مع أنه قد لا يوجد هواء، لان الجو كالأرض مختلف أحواله فكما يوجد في الأرض أودية يوجد في الجو خبن لا هواء فيه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإمساك بدون واسطة «لَآياتٍ» بالغات تدل على كمال القدرة الإلهية «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 79 بها وإنما خصّ المؤمنين لأنهم أهل الاعتبار والانتفاع بآيات الله وإسنادها لذاته المقدسة «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» المبنية بالحجر والمدر والخشب وغيره «سَكَناً» تقرون فيه «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً» ومن أشعارها وأوبارها وصوفها خيما وأقبية وأخبية عند ما تريدون التنقل من المرعى والنزهة «تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ» رحيلكم إلى البوادي لرعي أنعامكم «وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ» أيضا في منازلكم إذ لا يهمكم حملها ولا يثقل عليكم نصبها ونقصها «وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها» جعل لكم أيضا «أَثاثاً» من فرش، ولباس، وغرائز لحفظ الألبسة والحبوب، وبسط وزرابي وغيرها مما تحتاجونه لبيوتكم وأنفسكم «وَمَتاعاً» وأشياء أخرى، لأن الأثاث يطلق على جميع حوائج البيت، والمتاع يطلق على ما ينتفع به ويتمتع فيه في البيت خاصة، ومن قال إن المتاع والأثاث شيء واحد فقد جهل هذا الفرق،

[سورة النحل (16) : الآيات 81 إلى 90]

والله أعلم بما يقول، فلو كانا بمعنى واحد لما أفردهما أي ان الله تعالى جعل لكم ذلك لنتمتعوا به «إِلى حِينٍ» 80 مدة مقدرة من الزمن «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ» من الأشجار والزروع والمغر والوديان والكهوف «ظِلالًا» تستظلون بها من الحر والقر والمطر والخوف «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً» تسكنون بها، إذ جعل فيها مداخل وأسرابا لكم ولأنعامكم وحيوانانكم تتقون بها من الثلج والبرد والهواء الشديد بما يكفي للفقير الذي لا بيت له يلتجأ إليه، أما الغني فعنده الخيام والقساطيط بما يغنيه عن ذلك «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ» ثيابا وأكسية وقمصانا من القطن والحرير والصوف والوبر لكل بحسبه «تَقِيكُمُ الْحَرَّ» والبرد، واكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالته عليه، وإن ما يقي الحر يقي البرد وقدمه بالذكر لأنه الغالب عندهم «وَ» جعل لكم «سَرابِيلَ» أخرى دروعا وجواشن جمع جوشن وهو الصدر في الحديد أو النحاس يلبسه المجاهد على صدره «تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ» هلاككم في الحرب فتمنع وصول قواطع السلاح إلى أجسادكم «كَذلِكَ» مثل ما أتم عليكم نعمة التي بها قواكم «يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» في أمور دينكم ودنياكم حالا ومستقبلا «لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» 81 لله وتؤمنون به وتخلصون العبادة إليه وتذرون ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل بعد تعداد هذه النعم العظيمة المسبغة عليكم، وقد بلغتهم وأمرتهم ونهيتهم ونصحتهم وقمت بما أمرت به، فلا تبعة عليك «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 82 الظاهر فمن أطاعك فثواب طاعته لنفسه، من عصاك فعقاب عصيانه عليها إذ لم تؤمر بقسرهم بعد. وبعد أن عدد الله تعالى هذه النعم العظيمة وأظهر لخلقه عدم تأثرهم مما ذكرهم به قال «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ» التي غمرهم بها بأنها منه «ثُمَّ يُنْكِرُونَها» قولا وفعلا لأنهم ينسبون كسبها لفعلهم وفعل آبائهم الذين ورثوها عنهم «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» 83 بها فلا يستعجلونها لطلب رضائه ولا يعترفون بها أنها منه إلا من لم يبلغ حد التكليف أو من لم تبلغه الدعوة، أو بلغته ولم يفعلها لنقص في عقله فليس عليه شيء، أما من يعرفها أنها من الله وينكرها عنادا فذلك هو الكافر. وبعد ان ذمتهم الله تعالى

على عدم تقديرهم تلك النعم، شرع يخوفهم عاقبة أمرهم بذكر أحوال القيامة فقال «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً» نبيا يشهد لهم وعليهم بما عملوا في دنياهم «ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» بإدلاء الحجج هناك والمجادلة والعذر كما كانوا في الدنيا «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 84 لأن العتاب يطلب لإزالة الوجدة التي في نفس الخصم ليسترضيه، فعدم طلبه ذلك دليل على بقاء غضبه، ولا يمكن استرضاء الرب إلا بالتوبة، ولات هناك توبة، ولو كانت لما بقي للنار من حاجة، لأنهم عند ما يساقون للعذاب ويرون أن في التوبة خلاصا يتوبون كلهم «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ» وأدخلوا فيه فلا محل لقبول العذر والاسترضاء «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ» بسبب ذلك «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 85 لأجله بل يناغتهم ويحيط بهم. فيا سيد الرسل اذكر لقومك هذا ليتذكروا ويتدبروا من الآن «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ» في الدنيا يوم القيامة في الموقف «قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» فاسألهم يا رب وخذهم كما أوقعونا في العذاب وانتقم لنا منهم لإغرارهم إيانا بالدنيا بأنهم يشفعون لنا في هذا اليوم، ولما أسمع الله كلام العابدين إلى معبوديهم الذين اشاروا إليهم من الأصنام وغيرها «فَأَلْقَوْا» أجابوهم بصنف حالا دون رؤية وتأمل فرموا وطرحوا «إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» نبذوه نبذا وهو جملة «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» 86 بذلك لأنكم لم تعبدونا ولم تشركونا مع الله بالعبادة ولم نتعهد لكم بالشفاعة، ولا يقال إنها جماد لا تنطق لأن الله الذي بعثها وأعادها في الآخرة خلق فيها قوة النطق لتكذيب عابديها وترد عليهم «وَأَلْقَوْا» العابدون لما سمعوا منها ذلك «إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ» يوم كذبتهم أوثانهم وتبرأت منهم «السَّلَمَ» الاستسلام لحكم الله تعالى إذ أيسوا مما كانوا يرجونه «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» 87 في الدنيا من أنها تشفع لهم، لأن الأوثان بعد أن ردت عليهم بما ذكر الله ولوا عنهم وغابوا لئلا يروهم مرة ثانية كراهية لهم ونفورا منهم «الَّذِينَ كَفَرُوا» بأنفسهم «وَصَدُّوا» غيرهم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فمنعوهم عن الإيمان به «زِدْناهُمْ» بسبب صدهم غيرهم «عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ» الذي استحقوه «بِما كانُوا

مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي الله عنهم وفي العهود:

يُفْسِدُونَ» 88 غيرهم مرّ ما فيها في الآية 25 المارة فراجعها «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم السابقة «شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» لأن كل نبي يبعث بلسان قومه ومن قبيلته غدا لوط عليه السلام فإنه ليس منهم ولكن لما تزوج منهم وقطن معهم عد منهم أو أنه من باب التغليب «وَجِئْنا بِكَ» يا أكرم الرسل «شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» أمتك من قريش وغيرهم بما كان منهم وجاءت هذه الآية بمعنى التكرار للآية 84 المارة قبلها والتأكيد للآية 36 المارة أيضا تشديدا للتهديد وزيادة في الوعيد ليذكر قومه فيها وينبههم للتيقظ لعاقبتها «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» من الحدود والأحكام والحلال والحرام والقصص والأخبار «وَهُدىً» من الضلال «وَرَحْمَةً» للناس المخبتين لأوامره ونواهيه وحرمانا للكفرة المفرطين به المهملين ما فيه «وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» 89 خاصة بالجنة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» بين الناس وإليهم «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» بما يمكن من الصلة إليهم بحسب الطاقة، قال عليه الصلاة والسلام بلوا أرحامكم ولو بالسلام «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» التطاول على الناس ظلما «يَعِظُكُمْ» ربكم أيها الناس بما ينفعكم فى الدنيا والآخرة، فعظوا أنفسكم به وغيركم بالحسنى «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 90 بها فتحصدون ثمرها. مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي الله عنهم وفي العهود: وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر، ولذلك اعتاد الخطباء قراءتها على المنابر يوم الجملة لأنها عظة جامعة للمأثورات والمنهيّات، قالوا إن أول من قرأها على المنبر الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو الذي منع سبب سيدنا علي كرم الله وجهه على المنبر الذي اعتاده من قبله من ملوك الأمويين عليهم ما يستحقونه من الله إذا كان وقع منهم ذلك، فيكون رضي الله عنه قد أبدل الشر بالخير كما أبدل حضرة الرسول الكفر بالإيمان، قال عبد الله بن عباس: مررت بقوم يسبون عليا وكان معي العباس فقال لي خذني إليهم فلما أوقفته عليهم، قال لهم أيكم السابّ لله؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب لرسول الله؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب

لعلي؟ قالوا أما هذا فقد وقع، فقال إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبّني، ومن سبني فقد سبّ الله تعالى، ومن سب الله فقد كفر. ثم تركهم وأدبرنا، فقال لي كيف رأيتهم حينما سمعوا ما قلت؟ فقلت له يا أبت: نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر الذليل إلى العزيز القاهر فقال زدني يا بني، فقلت: زرق الوجوه مصفرة ألوانهم ... نظر التيوس إلى شفار الجازر فقال زدني، فقلت: أحياؤهم تنعى على أمواتهم ... ومسبة أمواتهم للغابر فقال لا فض الله فاك يا بني. الحكم الشرعي: اختلف العلماء رحمهم الله في حكم من سب الصحابي على أقوال أصحها أنه يفسق، والحديث على فرض صحته جار مجرى التهديد. قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لكفت في كونه تبيانا لكل شيء. وقال أهل المعاني ما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية. وقال بعض أهل العلم إن الله تعالى جمع في هذه الآية ثلاثا من المأمورات وثلاثا من المنهيات: ذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وقابله بالفحشاء وهي أقبح شيء من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن تعفوا عمن ظلمك، وتحسن لمن أساء إليك، وتصل من قطعك وأرحامك والفقراء والمساكين، وقابله بالمنكر وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وتسيء لغيرك، وذكر إيتاء القربى وهو التودد إليهم والشفقة والإنفاق عليهم، وقابله بالبغي وهو التكبر عليهم وظلمهم حقوقهم وقطيعتهم، راجع الآية 32 من الأعراف والآية 36 من الإسراء في ج 1 تجد ما يتعلق بهذا مستوفيا. روى عكرمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخي أعد علي، فأعادها فقال له الوليد والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. وأخرج البارودي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه، فأتى قومه

[سورة النحل (16) : الآيات 91 إلى 100]

فانتدب رجلين، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال نحن رسل أكثم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، ثم تلا عليهم هذه الآية، قالوا ردد علينا هذا القول، فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوها، فأتيا أكثم، فأخبراه، فلما سمع الآية قال إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهي عن مذامها، فكونوا في هذا الأمر رأسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، عرض عليهم بكلامه هذا طلبا لأن يكونوا أول أتباعه لئلا يسبقهم أحد فيتقدم عليهم لدى محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه. وأخرج الطبراني وأحمد والبخاري في الأدب عن ابن عباس أن هذه الآية صارت سببا لاستقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبّته للنبي صلّى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره، فقال أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع، أي بموضعها هذا من هذه السورة. وهذا يؤذن بأن نزولها كان متأخرا عنها، وهذا مغزى ما ذكرناه في المقدمة، وفي الآية 100 من سورة الكهف المارة. قال تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» أحدا باسم الله تعالى، لأنه من آكد الحقوق، وقدمنا ما يتعلق بالعهود في الآية 34 من سورة الإسراء فراجعها. الحكم الشرعي: وجوب الوفاء به إذا كان فيه صلاحا، وإلا فلا، قال صلّى الله عليه وسلم: من خلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. لأن العهد يمين وكفارته كفارة يمين وهذا من العام المخصص بالسنة، قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين بايعوا حضرة الرسول في الموسم قبل الهجرة، وسيأتي بيانها إن شاء الله في الآية 10 من سورة الممتحنة والفتح في ج 3، وبعد أن أمر الله تعالى بإيفاء العهد نهى عن النكث فيه فقال «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها» باسم الله تعالى فتحنثوا، وكيف يليق بكم ذلك «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا» على الوفاء به وهو الشهيد على كل شيء «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» 91 من الوفاء والبر والنقض والحنث، ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال «وَلا تَكُونُوا» أيها المعاهدون المؤكدون عهودكم بالأيمان «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» في إبرامه وإحكامه وجملة (من بعد قوة) معترضة بين ما قبلها

وقوله تعالى «أَنْكاثاً» طاقات الخبوط المنقوضة بعد الغزل أو القتل «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا» دغلا وخيانة وخديعة بأن تظهروا الوفاء وتبطنوا النقض، وهذا هو معنى الدخل، لأنه الذي يدخل بالشيء على طريق الإفساد بسبب «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى» أكثر عددا وأوفر مالا «مِنْ أُمَّةٍ» أخرى وذلك أن الناس في الجاهلية كانوا يحالفون الخلفاء، فإذا وجدوا قوما أقوياء أكثر منهم وأعز نقضوا عهدهم معهم وحالفوا الأكثر عددا والأعز مكانة، فذم الله تعالى صنيعهم هذا وقال «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» أي الوفاء بالعهد ويختبركم لينظر أتتمسكون بعهدكم وما وكدتموه بالإيمان من بيعة الرسول أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم فتنقضونه كما كان يفعله من قبلكم «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» 92 في الدنيا فيثيب المحق ويعاقب المبطل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وقطع مادة الاختلاف «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 93 من خير أو شر ثم كرر ما بمعنى الآية الأولى تأكيدا وتهديدا وإعلاما بعظم نقض العهد فقال «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» أيها الناس الحذر الحذر من هذا «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» تزلق أقدامكم عن محجة الإسلام والإيمان بعد أن ثبتها الله فيهما بتوفيقكم إليهما وتعرضوا أنفسكم لما تكرهون «وَتَذُوقُوا السُّوءَ» في الدنيا بذم الناس «بِما صَدَدْتُمْ» غيركم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» لأن من نقض العهد فقد علّم غيره نقضه فكأنه صده عن الوفاء به «وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 94 في الآخرة جزاء عملكم ذلك، ثم أكد ثالثا فقال «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الذي عاهدتم به رسوله عليه، لأنه هو المقصود في هذا الكون كلّه المطلوب بأن تنقاد له الخلق أجمع ويوقى له بما يريده منهم، لأن هذه المعاهدة هي التي سببت الهجرة إلى المدينة إذ جعلت لهم أصحابا فيها، فكذلك أكد الله تعالى عليها هذه التأكيدات لإيجاب الإيفاء بها، وهكذا كل عهد لعموم لفظ الآية، وإياكم أيها الناس أن تأخذوا لقاء نقضه «ثَمَناً» ثم وصف هذا الثمن بكونه «قَلِيلًا» لأنه مهما كثر فهو قليل بنسبة نقض العهد الذي لا يقابله ثمن لما يترتب عليه من

الخزي والعار في الدنيا والعذاب والعقاب في الآخرة، وبالنسبة لما يترتب على الوفاء به من المدح في الدنيا والثواب في الآخرة «إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ» من الأجر العظيم على الوفاء بالعهد «هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» مما تتعجلون أخذه من حطام الدنيا على نقضه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 95 ماهية العوضين وعاقبتهما في الدارين، واعلموا أيها الناس أن «ما عِنْدَكُمْ» من متاع الدنيا جميعه «يَنْفَدُ» يفنى فيها لا تأخذون معكم منه شيئا للآخرة إلا وباله «وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» لكم ثوابه لا يقنى ويصحبكم في الآخرة، لأن من أخذ مالا على نقض العهد فقد فضل ما عنده البالي الذي يحمل ورزه في الآخرة على ما عند الله الباقي أجره المضاعف خيره في الدار الدائمة. روى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا» على ضراء العهد والبر بأيمانهم والمحافظة على وعودهم «أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 96 في الدنيا فنعطيهم بمقابلة الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الأحسن منها «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» في دنياه من وفاء العهد وغيره «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لأن من لا إيمان له لا ثواب له في الآخرة، لأن الله تعالى يكافئه على عمله الصالح في دنياه حتى يلقى الله وليس له عنده شيء من الخير: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، بعيش رغيد وجاء مديد ومال ولد وصحة وقناعة وأمن مماة حياته مع زوجة صالحة وإخوان صالحين حتى يلقى الله راضيا مرضيا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» 97 وهذا وعد حق من الله الحق، والله لا يخلف وعده. واعلم أن هذه الآيات وإن كانت نزلت في الذين عاهدوا حضرة الرسول أوّل معاهدة عاهدها الناس له فهي عامة في كل عهد حق فيه صلاح، لأن نزولها في الجماعة الذين عاهدوا حضرة الرسول في الموسم في 8 محرم الحرام سنة 52 من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة لا يخصصها أو يقيدها بها، بل هي عامة، راجع الآية 113 من آل عمران في ج 3 تجد تفصيل هذه المعاهدة إن شاء الله، وإنما أخرناها عن موقعها هنا لما رأينا أن ذكرها هناك أكثر مناسبة، ومن الله التوفيق.

[سورة النحل (16) : الآيات 101 إلى 110]

ثم التفت جل جلاله إلى حبيبه فخاطبه بقوله «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ» أيها الإنسان الكامل «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» 98 وهذا الخطاب شامل لجميع الأمة، وقدمنا في المقدمة ما يتعلق بالاستعاذة فراجعها ففيه كفاية «إِنَّهُ» الشيطان «لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ» ولا قدرة «عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» لضعف كيده وقوة يقينهم «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 99 بدفع وساوسه والتغلب عليه «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ» ويتخذونه وليا من دون الله ويركنون لدسائسه «وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ» بإغوائه ووساوسه وإغرائه «مُشْرِكُونَ» 100 بالله غيره ولما قال المشركون إن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ما هو إلا مفتر يتقول من تلقاء نفسه، وذلك حينما يسمعون آية لين بعد آية شدة، وهذا هو المراد والله أعلم بهذا التبديل المزعوم من قبلهم مثل ذكر العفو بعد القصاص، وكظم الغيظ بعد الأمر بالمقابلة، والفطر بالسفر بعد الأمر بالصيام وهكذا، ومنه تبديل الكعبة عن بيت المقدس في التوجه بالصلاة أنزل الله «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» لحكمة نراها، وهذا معنى قوله «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» وهذه جملة اعتراضية فيها توبيخ للكفرة وتنبيه على فساد رأيهم جاءت بين صدر هذه الآية وبين قوله تعالى «قالُوا» كفار قريش يا محمد «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» بما تسنده لربك وإنك تقول اختلافا من نفسك، قال تعالى ردا عليهم «بَلْ» هو من عندنا ليس من قبل محمد و «أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 101 فائدة هذا التبديل وما يترتب عليه من المصالح، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في المقدمة، وله صلة ستأتي في الآية 107 من سورة البقرة ج 3 إن شاء الله. «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة المعترضين علينا رجما بالغيب المتهمين جنابك بالافتراء إن ما نتلوه عليكم «نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام وأضيف إلى القدس أي الطهر كإضافة حاتم الجود وطلحة الخير إضافة بيانية، أي الروح المقدس «مِنْ رَبِّكَ» نزل به عليك «بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ» به «الَّذِينَ آمَنُوا» على إيمانهم فيزدادوا يقينا به «وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» 102 وفي هذه الجملة تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغير المسلمين، واعلم أن من قال بعدم

وجود النسخ في القرآن كأبي مسلم الأصفهاني وغيره ممن ذكرناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة قال إن هذا التبديل المشار إليه في هذه الآية هو لبعض الأحكام المبينة في التوراة وغيرها من الكتب القديمة، وهو من سنة الله القائل على لسان رسوله عيسى بن مريم (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الآية 51 من آل عمران الآتية في ج 3 والآية 44 من سورة الزخرف المارة. ومن قال بالنسخ قال هو كتبديل استقبال القبلة بالكعبة وما يضاهي ذلك. قال تعالى «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ» فيما بينهم «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» نزلت هذه الآية عند ما قال المشركون بعضهم لبعض إن محمدا يتعلم ما يتلوه علينا من القصص والأخبار من آدمي مثله، وليس هو كما يزعم أنه من عند الله، واختلفوا في الذي يتعلم منه، فمنهم من قال إنه عايش غلام حويطب، ومنهم من قال جبر غلام رومي لعامر الحضرمي، ومنهم من قال إنه بسار، ومنهم من قال إنه سلمان الفارسي أو عداس غلام عتبة بن ربيعة، أو بلعام غلام أيضا، لأنهم كلهم يقرءون، سبب هذه النسبة أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا آذاه المشركون قعد لأحدهم يسمع منه شيئا من القرآن ليستميلهم إلى الإيمان، لأنهم أهل كتاب يعرفون ما جاء في كتبهم مما هو موافق لما جاء في القرآن، وذلك ترويجا للنفس وتسلية لما أهمه من أمر قومه وما يتهمونه به، فكذبهم الله تعالى بقوله «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ» يميلون عليه ويشيرون «إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ» والأعجمي وإن سكن في البادية والحاضرة العربية يعجز أن يتكلم بفصاحة العرب، فضلا عن بلاغة القرآن الذي عجز عن مباراته فصحاء العرب الذين ينزل بلغتهم، وهؤلاء العبيد ليسوا بعرب ولا فصحاء فيستحيل عليهم التكلم بالعربية الفصيحة «وَهذا» القرآن الذي نتلوه عليك يا سيد الرسل هو «لِسانُ» واضح فصيح بليغ «عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» 103 يستحيل على جميع الناس النطق بمثله وإذا استحال عليهم النطق به فمن باب أولى أن يستحيل عليهم تعليمه أو الإتيان بمثله فثبت بهذا البرهان أن الذي جاء به محمد هو وحي إلهي ليس من نفسه ولا من تعليم الغير. وقال بعض العلماء المراد باللسان هو القرآن نفسه لأنه يطلق على القصيدة والكلمة، قال الشاعر: لسان السوء تهديه إلينا.

مطلب في الكفر تضية، والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى، والتعويض للهجرة ثالثا.

أي كلام السوء وليس بشيء لمخالفته الظاهر. واعلم يا محمد أن هؤلاء المتقوّلين ضلّال لا يؤمنون بآيات الله و «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ» لفهمها بالدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 104 في الآخرة، ثم أشار إليهم بأن محمدا لا يفتري الكذب بقوله «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ» الكفرة «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» 105 ومحمد براء ومعصوم مما يتهمونه به. مطلب في الكفر تضية، والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى، والتعويض للهجرة ثالثا. واعلم أن الكذب من الكبائر لأنه إيجاد ما لم يوجد، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جرار قال: قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن يسرق؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن بكذب؟ قال لا، قال تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي) إلخ. «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» مختارا طائعا وجب قتله في الدنيا وفي الآخرة هو خالد في جهنم «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ» على كلمة الكفر من شخص يتحقق إيقاع الضرر منه فأجرى كلمه الكفر على لسانه تقية كما تجوز موالاة الكفرة تقية على ما يأتي في الآية 39 من آل عمران في ج 3، لأن التوسل لخلاص النفس بلفظ الكفر ظاهرا «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» فلا وزر عليه لأنها رخصة من الله تعالى أعتق بها نفسه، وقد تفضل الله تعالى على عباده بها والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فإذا قبلها وأخذ بها فلا بأس عليه، وإذا لم يقبلها ولم يأخذ بها وأبى أن يكفر وقتل من أجل إيمانه فقد أخذ بالعزيمة ولا وزر عليه بل يثاب، لأن الأفضل في مثل هذا أن يؤخذ بالعزيمة لا بالرخصة، لاحتمال عدم القتل، لأن بلالا وصهيبا وخبابا وسالما أوذوا بالضرب والحرق بالنار وألبسوا أدراع الحديد ووضعوا بحر الشمس في تلك البلاد الحارة، وقد وضعت عليهم الأحجار الحارة لإجبارهم على الكفر، فصبروا ولم يكفروا بلسانهم، ثم تركوا ولم يقتلوا وفازوا بخير الدارين، أما من أكره على شرب الخمر أو أكل لحم الميتة أو الخنزير ومما هو دون المكفرات كالربى والقمار

فليس له أن يأخذ بالعزيمة بل يجب عليه الأخذ بالرخصة، وإذا قتل ولم يأخذ بالرخصة فهو آثم، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» والعياذ بالله بعد أن كفر بلسانه وطابت نفسه به وبقي عليه «فَعَلَيْهِمْ» أي الكافرين وجمع الضمير باعتبار معنى من «غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ» في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» 106 في الآخرة «ذلِكَ» الغضب والعذاب «بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا» وزخارفها وآثروها «عَلَى الْآخِرَةِ» وكفروا بطوعهم واختيارهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» 107 ولا يوفقهم للرشد والإيمان «أُولئِكَ» الذين استحبوا الكفر على الإيمان هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» فلم يجعلهم ينتفعون بها لأنهم صرفوها إلى غير ما خلقت لها «وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» 108 عن الله وعما يراد بهم المتوغلون في الغفلة الكاملة، لأن الغفلة عن تدبير العواقب هي غاية في الغفلة ونهاية في اللهو «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» 109 حقا لأنهم ضيعوا رءوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما يفضي للخلود بالنار ولله در القائل: إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير ما وجب هذا ولما أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية وعذبوهم ليرجعوا عن الإيمان بالله فأبي ياسر وسمية فقتلوهما وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام لمرضاة الله، رحمهما الله رحمه واسعة، ووافقهم عمار على ما شاءوا من كلمات الكفر بلسانه بعد أن شاهد قتل أبويه فأخبر محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك فقال كلا إن عمارا ممتلىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء وهو يبكي، فقال ما وراءك؟ قال شرّ، نلت منك يا رسول الله أي أنه تكلم فيه مثل ما أراد الكفرة منه بسبب تعذيبه بعد قتل أبويه، قال كيف وجدت قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان، فجعل يمسح عينيه وقال إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت هذه الآيات. وهي عامة في كل من هذا شأنه، لأن نزولها فيمن ذكر لا يقيدها، وإن المكره على الكفر ليس بكافر، وقد استثنى المكره بالآية إذ ظهر منه ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا. قال تعالى «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا» فرارا بدينهم إلى ديار غير ديارهم

[سورة النحل (16) : الآيات 111 إلى 120]

«مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا» عذبوا وأوذوا من أجل إيمانهم بالله «ثُمَّ جاهَدُوا» أنفسهم على التثبت بإيمانهم «وَصَبَرُوا» على ما نالهم من أذى المشركين ومر الغربة وذلّها «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي الفتنة التي ألجأتهم إلى الكلام بما ينافي الإسلام تقية، خشية القتل «لَغَفُورٌ» لهم على ما صدر منهم بالنظر لما وقر في قلوبهم «رَحِيمٌ» 110 بهم لا يؤاخذهم على ما وقع منهم حالة الإكراه، وهذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة أخي أبى جهل من الرضاع وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، حينما عذبهم المشركون على إيمانهم، فأعطوهم من الكلام القبيح ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم أعلنوا إيمانهم وهاجروا من مكة، وبعد عودتهم من الهجرة بعد نزول آية السيف في المدينة جاهدوا مع المؤمنين أعداءهم الكفرة، وبما أن الجهاد متأخر عن زمن هجرتهم عبّر الله تعالى عنه بثم المفيدة للتراخي، وهؤلاء الذوات محميون بحماية الله تعالى بدليل قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ) إلخ، ومن كان الله له فلا يبالي من شيء، لأنه وليه وناصره، وهذه الآية الثالثة التي يعرض الله تعالى بها لنبيه في الهجرة ليتريض إليها ويمرن نفسه عليها. وما قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد بعد إسلامه كما أشرنا إليه في الآية 193 من الأنعام المارة، وأنه عند فتح مكة شرفها الله استجار بعثمان لأنه أخوه لأمه وقبل إسلامه، فقيل ضعيف، لا يكاد يصح، إلا إذا كانت الآية مدنية، والقول بمدنيتها أضعف من القول في نزولها فيه، لأن هذه السورة مكية ولم يستثنى منها إلا الآيات الثلاث الأخيرات على قول الجمهور، لهذا فلا يلتفت إلى غير ما ذكرناه. قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» وتدافع وتخاصم عنها، ونفس الشيء عينه وذاته، فالنفس الأولى جملة الإنسان، والثانية عينه وذاته، فكأنه قيل كل إنسان يجادل عن ذاته لا عن غيره مهما كان قريبا له وحبيبا، لأن انشغاله بنفسه في ذلك الوقت العصيب ينسيه قريبه وحبيبه لعظم ما يشاهد ويلاقي من الهول، فيقول الكافر أضلنا كبراؤنا وأطعنا ساداتنا ما كنا مشركين وما حرمنا ولا حللنا من شيء فيتشبثون بكل ما يمكنهم من طرق الدفاع

مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل الله على عباده:

ليتخلصوا مما حل بهم، ولات حين خلاص، وهذه الآية لا تنافي الآية 84 المارة وهي (ثم لا يؤذن للذين كفروا) إلخ، لأن يوم القيامة يوم طويل شديد الهول تختلف فيه أحوال الناس فترى الكفرة مرة لا يؤذن لهم بالكلام، وأخرى يبكون وتارة يجادلون، وطورا يحاورون شركاءهم وأوثانهم «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها لا يغير عقابها كلام ولا جدال «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 111 شيئا بل يجازون على الخير بأحسن منه وعلى الشر بمثله. مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل الله على عباده: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً» واسعا كافيا يبسر وسهولة «مِنْ كُلِّ مَكانٍ» كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1، بدعوة ابراهيم عليه السلام الواردة بالآية 156 من البقرة في ج 3، لأن المراد بالقرية مكة «فَكَفَرَتْ» أهاليها وسكانها «بِأَنْعُمِ اللَّهِ» المترادفة عليها ولم تشكرها وتقدرها «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ» الإذاقة جارية عند أهل المعاني مجرى الحقيقة لشيوعها فيما يمس الناس من البلايا والشدائد، فيقولون ذاق فلان الضر وأذاقه العذاب، يشبهون ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يدركه من طعم المرّ قال: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها وشبهوا اللباس به لاشتماله على الملابس، ولما كان الواقع عبارة عما يغشى الإنسان فكأنه قال فأذاقهم ما غشيهم من «الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» جزاء «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» 112 لم يقل صنعت لأن المراد أهل القرية كما ذكرنا. واعلم أن المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوّره بصورة أوضح منه وهنا بين المشبّه وهو القرية، ولم يذكر المشبّه به لوضوحه عند المخاطبين ولأن ذكر المشبه به غير لازم، لأنه إما أن يراد بها قرية محققة أو مقدرة وحذفه في علم البلاغة في مثل هذا جائز، وذلك أن أهل مكة كانوا في أمن وطمأنينة وخصب عيش، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية 60 من سورة العنكبوت الآتية والمراد من

قولهم مطمئنة عدم احتياج أهلها للانتقال فقد تدل على ملاك الأمر، إذ قال العقلاء: (ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية) وبعد الإنعام عليهم بهذه الثلاثة أنعم الله عليهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فكفروا به وكذبوه وآذوه وأرادوا قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة عنهم وسلط عليهم بعد هجرته البلاء والشدة والجوع والخوف بسبب تكذيبهم له وإرادة إخراجهم إياه من بلده حينما حاكوا المكر فيه، كماه سيأتي تفصيله في الآية الأخيرة من سورة المطففين في بحث الهجرة. وما قاله الحسن من أن هذه الآية مدنية وأن المراد بالقرية هي المدينة تحذيرا لأهلها مما أصاب أهل مكة قول مخالف لجمهور العلماء والمفسرين يؤيده قوله تعالى «وَلَقَدْ جاءَهُمْ» أي أهل مكة «رَسُولٌ مِنْهُمْ» يعرفون مكانته قبل النبوة «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» في الدنيا بالجوع والقتل والأسر والخوف والجلاء «وَهُمْ ظالِمُونَ» 113 أنفسهم وغيرهم بالكفر. قال تعالى «فَكُلُوا» أيها الناس «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً» وذروا ما تفترون من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها راجع الآية 130 من سورة المائدة في ج 3 في تفسيرها، «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ» عليكم «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» 114 تخصونه وحده بالعبادة «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» لأنها كلها تضر بأبدانكم وتختطف صحتكم وتوقعكم في الأمراض القتالة، وقد اكتشف الأطباء في عصرنا هذا وجود دودة قتالة في الخنزير سموها (ترنجيويس) وأجمعوا على أنها لا تموت بالطبخ بل تنتقل لآكل لحمه وتعيش في المعدة وتميت آكلها، ولذا منعوا أكله قبل المعاينة، حتى ان الأمير كيين هجروه بتاتا كما يقال، إلا أنهم قد هجروا الخمر قبلا ثم عادوا إليه، وفضلا عن هذا، فإن أكله يورث الجذام ويقلل الغيرة، ومنه يعلم أن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا وصيانة وجودنا وعقلنا من الخلل «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» وفي الآية 4 من سورة المائدة الآتية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهي بمعناها «فَمَنِ اضْطُرَّ» لأكل شيء من ذلك «غَيْرَ باغٍ» على الناس «وَلا عادٍ» على نفسه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 115 بهؤلاء المضطرين وسنأتي على تفسير هذه الآية بصورة مفصلة واضحة وبيان مضار هذه

المحرمات مع بيان الحكم الشرعي فيها في الآية المذكورة من سورة المائدة ج 3 إن شاء الله، وقدمنا بعض ما يتعلق فيها في الآية 145 من سورة الأنعام المارة فراجعها «وَلا تَقُولُوا» أيها الناس «لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» من تلقاء أنفسكم لأن التحليل والتحريم من خصائص الله تعالى، وذلك أنهم كانوا يحللون ويحرمون برأيهم وينسبونه إلى الله تعالى، كما تقدم في الآية 138 من سورة الأنعام المارة. يدل على هذا قوله جل قوله «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» 116 بل يخيبون ويخسرون، وان متاعهم في هذه الدنيا وما هم عليه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» لأن الدنيا مهما طال أمدها فهي قليلة، ولا تطمئن النفس الزكية إليها لتوقع المصائب والفتن والشحناء بين أهلها عداوة وبغضاء من أجل حطامها الزائل، وأشد ما يكون إذا وقع بين الأقارب، وفلما ترى المتصافين فيها لله، قال: والمرء يخشى من أبيه وأمه ... ويخونه فيها أخوه وحاره فإذا كان أقرب وأحب الناس إلى الرجل فيها يخافهم ويخشهم فتبا لهم من دار وسحقا لها من إقامة، هذا ما يلاقونه في الدنيا، وأما في الآخرة فيقول الله تعالى «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 117 لا تطيقه قواهم «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» هو ما تقدم في الآية 146 من الأنعام المارة، «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 118 بتحريم أشياء على أنفسهم لم يحرمها الله كلحوم الإبل وغيرها، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الآية 160 من النساء في ج 3، «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ» كلمة جامعة لكل قبح «بِجَهالَةٍ» غير متدبرين عاقبته ولا معاندين الله فيه عصيانا عليه، وإنما بسبب غلبة شهوتهم الناشئة عن الجهل قال: وما كانت ذنوبي عن عناد ... ولكن بالشقا حكم القضاء «ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الذي عملوه من السوء وندموا وتابوا توبة نصوحا، يدل عليه قوله تعالى «وَأَصْلَحُوا» أنفسهم واستقامت أحوالهم «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي التوبة «لَغَفُورٌ» لما سبق منهم «رَحِيمٌ» 119

[سورة النحل (16) : الآيات 121 إلى 128]

بهم تشير هذه الآية إلى عظيم فضل الله، وجليل رحمته، وكبر كرمه، وسعة مغفرته، وكثرة لطفه على عباده وعطفه عليهم إذ تكفل لمن هذا شأنه بالعفو، ومن كان الله كفيله فهو تاج رابح، وتقدم ما يتعلق بعظيم فضل الله وعفوه في الآية 160 من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع المتعلق بها هذا البحث فراجعها. ونظير هذه الآية الآية 17 من سورة النساء في ج 3، «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» لاجتماع صفات الكمال والخير فيه وتلبسه بالأخلاق الحميدة، وهذه الصفات قد لا توجد في شخص واحد ولهذا سماه الله أمة: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ولأنه كان وحده مؤمنا بالله والناس كلهم كافرون، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل يبعثه الله أمة وحده. لمفارقته الجاهلية وما كانت عليه من عبادة الأوثان وهي جارية مجرى كلام العرب. يقولون فلان رحمة وفلان نسّابة، إذا كان متناهيا في المعنى الموصوف به «قانِتاً» خاضعا مطيعا «لِلَّهِ» وحده «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين إلى دين الإسلام، وهو أول من اختتن وضحى وأقام مناسك الحج «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 120 قط لأنه من صفره نشأ على التوحيد فكان مؤمنا بالله مخلصا له وكان في جميع أحواله «شاكِراً لِأَنْعُمِهِ» كلها التي منها توفيقه للإيمان ونصرته على عدوه بالحجة الدامغة وانجاؤه من النار، ولهذه الخصال الكريمة «اجْتَباهُ» ربه للنبوة وشرفه بالرسالة واصطفاه للخلة «وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 221 في أقواله وأفعاله ووفقه لدين الإسلام وطريقه القويم «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن جعلنا ذكره فيها دائما مثمرا حسنا عند كل ملة وأمة، فلا تجد قوما إلا ويعرفوه بفضله ويذكرونه بالخير، هكذا كان عليه الصلاة والسلام في الدنيا «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» 122 للقاء الله ولأعلى مقامات الجنة «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل في هذا القرآن الكريم «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 123 لأن ملته ودينه هو الحق وكل محق يدين بدينه، وقيل في هذا: كل يدين بدين الحق لو فطنوا ... وليس دين لغير الحق مشروع

مطلب يوم الجمعة والآيات المدنيات وكيفية الإرشاد والنصح والمجادلة وما يتعلق فيهما:

ولا تكرار في هذه الآية، لأن الأولى تتضمن أنها سجيته عليه السلام، وهذه يأمر الله بها حبيبه محمدا بأن يسلك طريقة جده إبراهيم، وفيها ردّ صريح على العرب وغيرهم الحاضرين والسالفين القائلين إنه كان مشركا، لأنها جاءت نافية عنه مادة الشرك منذ نشأته كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كما زعم اليهود والنصارى، راجع الآية 67 من آل عمران ج 3، ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم يتعبد على شريعته ويتدين بدينه الذي ألهمه الله إياه إلى أن كمل الله له شريعته الناسخة لكل الشرائع والموافقة لكل عنصر وعصر إلى آخر الدوران ليقتدي بها وبأمر أمته باتباعها، قال تعالى «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ» فرض ووجب احترامه وعدم العمل به كسائر الأيام «عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» مع نبيهم وهم اليهود لأن موسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعه وأن يتفرغوا في كل أسبوع يوما للعبادة فيه، فأبوا إلا السبت محتجين بأنه اليوم الذي فرغ الله به من الخلق، وهذا الاختلاف لم يقل به بعضهم دون بعض منهم من أراده، ومنهم من أباه، كلا، بل أنهم كلهم اتفقوا عليه خلافا لنبيهم الذي وافقهم على رغبتهم، لأن الخلاف كان بينهم وبينه، وكذلك عيسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعة فأبوا إلا الأحد محتجين بأنه اليوم الذي بدأ فيه الخلق، وهذا الاختلاف من سعادة أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ تفضل الله عليها به فقبلته ولم تختلف على نبيها فيه. مطلب يوم الجمعة والآيات المدنيات وكيفية الإرشاد والنصح والمجادلة وما يتعلق فيهما: وسبب تعظيمه أن الله تعالى خلق آدم فيه، وتاب عليه فيه. وأطاف سفينة نوح فيه، وأرساها فيه، وقيل دعوة يونس فيه، ونجاه فيه، وإجابة دعوة زكريا فيه، وكان تمام الخلق فيه، ولأن الفرح والسرور إنما يكونان عند التمام والكمال فلأن يكون التعظيم له أولى من يوم البدء والفراغ: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نحن الآخرون أي (في الوجود والزمن) السابقون (في الفضل ودخول الجنة) يوم القيامة بيد أنهم (غير أن الذين) أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه وأوتيناه من بعدهم فهذا (إشارة إلى يوم الجمعة) يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه (على نبيهم فلم يقبلوه) فهدانا الله تعالى له

فهم لنا تبع فغد لليهود وبعد غد للنصارى. ومن قال إن الاختلاف وقع بينهم أوّل فقال جعل بمعنى وبال، أو قال إن في الكلام حذفا وهو كلمة وبال، أي إنما وبال السبت، أو إنما جعل وبال السبت ولعنته التي مسخوا فيها قردة وخنازير على المختلفين فيه، وتقدمت قصة النسخ في الآية 164 من الأعراف في ج 1، وقال بعضهم إنما فرض عليهم السبت، ولما بعث عيسى نسخ بالأحد، كما أن شريعته عدلت بعض أحكام التوراة، ثم نسخ الأحد بالجمعة، لأن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم ناسخة لكل الشرائع، فكان أفضل الأيام الجمعة، وأفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم. «وَإِنَّ رَبَّكَ» يا خاتم الرسل «لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين غيرهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 124 من السبت وغيره كتحريم الإبل وحل الخنزير وقليل الخمر والزواج بالمحرمات وغير ذلك مما ابتدعوه، ولم ينزل الله به برهانا، قال تعالى يا سيد الرسل «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» من بعثت إليهم قاطبة «بِالْحِكْمَةِ» بالحجة المزيلة للشك المزيحة للشبهة بالتؤدة واللين والرفق وإيراد الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة والحجج القاطعة لتأييد دعوتك «وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» الرقيقة اللطيفة بخطاب مقنع للخصم مقرون بالعبر المؤثرة والعظة النافعة والأمثلة الظاهرة بقصد نصحهم وطلب خيرهم وإرادة ميلهم إلى كلامك وجنوحهم إلى رشدك وهديك. وهذه طريقة ثانية لأصول الدعوة إلى الله لأن الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال، والموعظة الحسنة مزج الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة والشدة باللين. والطريقة الثانية هي المبينة بقوله جل قوله «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من غيرها بأن تناظر معانديهم بالطريقة الحسنة التي هي أحسن طرق المجادلة، وتبدي لهم لين العريكة وخفض الجانب والرفق بالمخاطبة، بلا غلظة ولا فظاظة ولا تعنيف، وتأتي لهم بكل ما يوقظ القلب ويجلو العقل وتنبسط له النفس وينشرح له الفؤاد، بوجه مطلق ملئه البشاشة، كي يكون إرشادك أوقع في قلوبهم، وهديك أنفع في نفوسهم، وكلامك أنفع لصلاحهم، ودلالتك أميل لقلوبهم. واعلم أن هذه الصفات التي يجب أن يتحلى بها العلماء والمتصدرون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها من سمات من ورثوا عنه العلم الذي هو صفوة خلق الله صلّى الله عليه وسلم، ويجب أن

تكون طريقتهم في النصح والهدى على نحو ما ذكرنا مع تحمل الأذى وثقل الثقلاء وعناد المعاندين وشقاق العتاة، وإذا ابتلوا بالمناظرة أن يكون سبيلهم فيها منبثقا عن هذه الأحوال الثلاثة، وذلك بأن يناظروا الطبقة الراقية بالأصل الأول، وغيرهم من أصحاب الفطرة السليمة بالثاني، والمعاندين المتشدقين بالثالث، لينفعوا وينتفعوا، وإذا لم يستعملوا هذه الطرق التي علمها الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلم وأمره جلّ أمره بسلوكها وقابلوا الناس بالفظاظة وبالشدة والغلظة والعنف والأنفة والتكبر والتجهيل شامخين بما آتاهم الله من فضله، فيوشك أن يضلوا ويضلوا ويكون عملهم وبالا عليهم في الدنيا والآخرة، لأن المعتبر في دعوة الخلق إلى الخالق استعمال الصناعات الثلاث المذكورة التي هي البرهان والخطابة والجدل من بين الصناعات الخمس المبينة في علم المنطق، وسهل القول المذكور في علم البيان وفصيح اللفظ المشار إليه في علم البديع ليتيسر له ما يريده من النفع التام لما يرضي الملك العلام، وهذا هو الطريق النافع لقبول الإرشاد، لأن الآية تشعر إلى الاقتصار عليها «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» الذين لا تؤثر فيهم الدعوة بطرقها الثلاث لسابق شفائهم «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» 125 الذين ينتفعون بدعوتك، إلا أن التبليغ للفريقين من واجب الرسل حتى لا تبقى حجة لمعتذر وهو من بعدهم من واجب العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء، وهذه الآيات المدنيات الثلاث من هذه السورة كما قاله المفسرون بدليل ما أخرجه النحاس عن طريق مجاهد عن الخبر أنها أي هذه السورة نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحد، ولهذا عدت مدينة كما عدت الآية 54 من الزخرف المارة مكية مع أنها نزلت في بيت المقدس ليلة الإسراء، لأن العبرة أن جميع ما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا وكل ما نزل بعدها يعد مدنيا كما أشرنا إليه في المقدمة في بحث المكي والمدني. قال تعالى «وَإِنْ عاقَبْتُمْ» أحدا أيها الناس على فعل يستوجب العقوبة «فَعاقِبُوا» المسيء «بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» منه أي كما فعل بكم افعلوا به بلا زيادة ولا نقص إن شئتم «وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ» على الإساءة وعفوتم عن المسيء «لَهُوَ» الصبر والصفح «خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» 126 عليه من المتشفي بالقصاص

عند الله تعالى الذي يعظم الأجر للصابر، وعند الناس لما يطرونه من الثناء عليه في وجهه والمدح بغيابه بخلاف التقاصص، إذ لا يقال للمقتص إلا أنه أخذ حقه ولم يعف ولم يصفح ولم يقبل الرجاء بالعفو. هذا ولما مثل المشركون بقتلى أحد بقروا بطن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وجدعوا انفه وقطعوا مذاكيره وأذانه وأخذت هند بنت عتبة أم معاوية قطعة من كبده ومضغتها لتأكلها تشفيا به فلم تقدر أن تسيغها فأخرجتها وأرسلتها، فتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك وقال رحمك الله رحمة واسعة ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم، ثم قال والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم بل أصبر وأحتسب، وكفر عن يمينه. وإنما قلت تأثر صلى الله عليه وسلم لأنه بشر يعتريه ما يعتري البشر، وقد بكى على ابنه إبراهيم واغتاظ لابن بتمه، ورأى مرة النساء يبكين في جنازة وقد انتهرهن عمر رضي الله عنه فقال عليه السلام دعهن يا عمر فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب. هذا وسمى الفعل الأول عقوبة للمزاوجة في الكلام، يعني إن أساء إليكم أحد فقابلوه بإساءته مثلا بمثل، راجع الآية 39 فما بعدها من سورة الشورى المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث مستوفيا. وقد أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في استيفاء الحقوق في القصاص، لأن الزيادة ظلم تأباه شريعة الله العادل. وما قيل إن هذه الآية منسوحة قول لا يلتفت إليه بل هي محكمة لأنها واردة في تعليم حسن الآداب وكمال الأخلاق والنصفة في استيفاء الحقوق وترك التعدي النهى عنه. ومثل هذه الأمور لا يدخلها النسخ أبدا. قال تعالى يا خاتم الرسل اعمل بهذا «وَاصْبِرْ» على ما أصابك من أذى قومك «وَما صَبْرُكَ» على ما يؤذيك ويحزنك «إِلَّا بِاللَّهِ» بتوفيقه ومعونته لك «وَلا تَحْزَنْ» على ما وقع على عمك فإن له فيها درجات في الجنة عند الله، وكذلك قومك لا تحزن «عَلَيْهِمْ» بسبب ما فعلوه فيه وعدم رعايتك وعن إعراضهم عنك ولا على قتلى أحد كلهم، فإنهم أفضوا إلى رحمة ربهم وعطفه ولا يضرهم ما مثله المشركون بهم لأنه مما يزيد في أجرهم «وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ» هو الشدة التي يتكمش لها الوجه ويكفهر وينقبض فيها الصدر ويضيق بسبب ما وقع

من الغم والحزن فيه وقرىء بفتح الضاد وكسرها «مِمَّا يَمْكُرُونَ» 127 بك ويكيدون لك من الدسائس ويحيكونه لك من المصائد، فإنهم لن يصلوا إليك، وإني حافظك منهم، وناصرك عليهم. وفي هذه الآية رمز إلى استتباع أمته له في ذلك كله، لأن كل أمة تقتدي بإمامها وقد خوطب ابن عباس من قبل أحد معزّيه في هذا البيت: اصبر نكن بك صابرين وإنما ... صبر الرعية عند صبر الراس خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس هذا على إنه يصح أن يقال فيه: سأصبر حتى يعلم الناس أنني ... صبرت على شيء أمر من الصّبر «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا» السيئات واجتنبوا التعدي في القصاص وغيره وراقبوا ربهم في كل أمورهم مع خالقهم وخلقه «وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» 128 لأنفسهم ولغيرهم العافين عن الناس الكاظمين الغيظ ومن كان الله معه فهو آمن في الدنيا والآخرة، قال بعض الكمل: كمال الطريق الموصل إلى الله صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، وكمال الإنسان ان يعرف الحق لذاته والخير ليعمل به، فإذا أردت أيها الإنسان العاقل أن يكون الله معك بالعون والفضل والرحمة فكن مع المتقين الصادقين المحسنين ومنهم، فهؤلاء الذين أمرنا الله بمخالطتهم، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الآية 152 من سورة التوبة في ج 3، وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الآية 2 من العلاق في ج 3، وقال تعالى (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الآية 92 من يوسف المارة. واعلم أن ترك الإساءة من الإحسان بل إحسان وزيادة، قيل ترك الإساءة إحسان وإجمال. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة نوح عدد 21 - 71 - 77

تفسير سورة نوح عدد 21- 71- 77 نزلت بمكة بعد سورة النحل، وهي ثمان وعشرون آية، ومثلها في الآي سورة التحريم فقط، ومئتان وأربع وعشرون كلمة، وتسعة وتسعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» وقلنا له «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 1 وهو الغرق العام في الدنيا والعذاب الفظيع في الآخرة وهو أخزى وآلم من عذاب الدنيا، وتقدم نسب سيدنا نوح مع قصته وقومه في الآية 37 من سورة هود المارة، «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ» من الله «نَذِيرٌ مُبِينٌ» 2 لا أخفي عليكم شيئا مما أرسلني به إليكم وأول ما آمركم به هو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ» 3 فيما أرشدكم إليه فإن فعلتم ما أنصح به إليكم «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» السابقة التي بينكم وبينه، أما الحقوق التي بينكم فعليكم أن تؤدوها لمستحقيها، لأن الإيمان لا يسقطها، إلا أن تسامحوا بينكم، وإلا فتعاقبوا عليها وتؤاخذوا بها، ولهذا المغزى قال تعالى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعضها ولم يقل ذنوبكم، لما فيه من الشمول بحقوق الناس، على أنه إذا شاء فإنه يرضي خصومكم ويتوب عليكم «وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لم يطلع أحدا عليه ومن رحمته بكم أن أمهلكم ولم يجعل عقوبتكم كي ترجعوا إليه قبل حلوله «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ» أبدا عن وقته، لأن العذاب والموت لهما أجلان عند الله لا ينزلهما بعباده إلا بانقضائهما «لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 4 حقيقة ما أقوله لكم وعاقبته لسارعتم لما آمركم به ولقبلتموه نوا، ولكنكم لستم من أهل العلم لتفقهوا نفع ما جئتكم به، ولا يقال كيف يقول يؤخركم، ثم قال إذا جاء لا يؤخر، لأن الله تعالى قضى في سابق علمه أن قوم نوح إذا آمنوا يعمرون ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكوا قبل ذلك، فقال لهم رسولهم آمنوا يؤخركم إلى وقت سماه لكم تنتهون إليه، وهو الأطول، ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت الأقل

[سورة نوح (71) : الآيات 11 إلى 20]

لأنه بني على سبب وهو معلق على وجوده، وذلك مبرم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية الثانية من سورة الأنعام المارة فراجعه. ولا شك أنهم لو أطاعوه لعمرهم الله كما عمر أهل السفينة الذي يشير إليه قوله (يؤخركم) ولكنهم لمّا أصروا على كفرهم عجل لهم العذاب «قالَ» نوح عليه السلام على طريق الاعتذار والتقدم بأنه قام بواجبه لحضرة ربه أمام قومه بعد أن رأى نفرتهم عن الإيمان وعدم قبولهم النصح، صار يشكوهم إلى ربه «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» 5 دائما مستمرا دائبا في دعوتهم إليك «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» 6 مني وإدبارا عني ونفارا من الإيمان بك «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ» منذ أمرتني حتى الآن «لِتَغْفِرَ لَهُمْ» ذنوبهم في المدة التي أمهلتهم بها «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ» لئلا يسمعوا دعوتي وتذكيري بك «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» لئلا يروني «وَأَصَرُّوا» على كفرهم «وَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان وأنفوا من الطاعة «اسْتِكْباراً» 7 تعاظما وتطاولا علي وهوانا بي واستخفافا بما جئتهم به من لدنك، حتى انهم كرهوا رؤيتي «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً» 8 بأعلى صوتي في محافلهم وطرقهم ومجتمعاتهم وحدانا وجماعة «ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ» بدعوتي هذه على ملأ منهم «وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» 8 فيما بيني وبينهم إذ لم أترك طريقا من طرق الإرشاد والنصح إلا سلكته معهم ودعوتهم به «فَقُلْتُ» في تلك الحالات كلها «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» من كفركم ومن ظلم بعضكم «إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» 10 عظيم المغفرة كبير العفو لا يؤاخذ على ما سبق، لأن الإيمان به يجبّ ما قبله فإن أجبتم فإنه بمحض كرمه وفيض جوده «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» 11 كثيرا يزيل ما حلّ بكم من الجدب، ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث، وذلك أنه حبس عنهم الغيث وأعقم أرحام نسائهم مدة أربعين سنة لعدم إجابتهم دعوة نبيهم، ولهذا قال لهم ذلك بإلهام من الله تعالى وثقة به أن يفعل لهم ما يقوله، والمراد بالسماء السحاب أو المطر، قال الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا وقال لهم أيضا «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ

مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر:

وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» 12 فيها بأن يعطيكم من الخيرات أكثر مما كنتم عليه قبلا، وقال لهم هذا ليحركهم على الإيمان ويرغبهم بما يحدث عنه، لأنهم كانوا يحبون الأموال والأولاد فأتاهم من حيث تميل إليه نفوسهم وطبعهم، روي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن البصري (واعلم أنه كلما أطلق لفظ الحسن فقط فالمراد به هذا) فشكا إليه الجدب، فقال استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال استغفر الله، وشكا إليه آخر قلة النسل فقال استغفر الله، وشكا له آخر قلة ربيع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع أتاك رجال يشكون أمورا متباينة فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فيكون دواء واحد لعلل مختلفة، فقال ما قلت من نفسي إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه استغفروا ربكم) الآية. ولما رآهم عليه السلام لا يلتفتون إليه ولا يصغون لهديه هددهم بما حكاه الله عنه بقوله «ما لَكُمْ» يا قوم أي شيء جرى لكم وما شأنكم ولم «لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» 13 فلا تعتقدون عظمته ولا تقدرون هيبته؟ والوقار معنى السكون والحلم، وجاء هنا بمعنى العظمة والجبروت، لأنه يتسبب عنها في الأغلب، وعليه يكون المعنى لماذا لا تأملون لله تعظيما موجبا للإيمان به والطاعة إليه، ومن قال إن رجا بمعنى خاف واستدل بقول الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها، غير سديد، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة والقول به يوجب ترجيح رواية الآحاد على التواتر، وهو غير جائز لإمكان التوسع بالألفاظ وجعل المثبت منفيا وبالعكس، وهذه الطريقة لا تسلك في الألفاظ القرآنية قطعا. مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر: قال تعالى «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» 14 من حيث الجنسية كالطير في الضعف والاحتياج عند خروجه من البيضة فلا أضعف ولا أخرج للمداراة منه، وفي الصفة في كمال الخلق، فمنكم العالم والجاهل، والجليل والحقير، والغني والفقير، والكريم والبخيل، والسهل والصعب، والمريض والصحيح، وفي الكيفية في الصور من تمام الخلقة وناقصها، وحسن الخلق وسيئه، وحسن الخلق وقبحه، والدميم والقبيح، وفي ابتداء خلقكم أيضا طورا بعد طور، وتارة بعد تارة، وكرة بعد كرة بصورة

تدريجية، من النطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى لحم وعظام، إلى قوام بديع، وبعد تمام خلقكم جعلكم أصنافا مختلفين أيضا في اللون والشكل واللغة والطبع، راجع الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن المارة، والأطوار هي الأحوال المختلفة قال: فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار وفي نقصانه أيضا ضعف في القوى والجوارح إلى أضعف تدريجا إلى حالة الهرم والخرف، فسبحان المبدئ المعيد الفعال لما يريد القائل «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» 15 بعضها فوق بعض «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً» يضيء ليلا «وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» 16 تضيء نهارا، وإنما سمى الأول نورا والآخر سراجا، لأن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد عنها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها ونور الشمس، لا بطريق الانعكاس من كوكب آخر، والله أعلم، راجع الآية 9 من سورة القيامة في ج 1 وما ترشدك إليه تجد ما يتعلق بالكسوف والخسوف. «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» 17 بدأ خلق أصلكم آدم عليه السلام من الأرض والناس كلهم من صلبه ولم يأت المصدر من لفظ الفعل ليكون المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كما هو مشاهد لكم، لأن الإنبات من لفظ الفعل من صفات لله تعالى وصفاته غير محسوسه لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب إلا بإخبار الله تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» 18 بديعا للحشر والحساب، أي يحييكم بعد إماتتكم بصورة لا يعرفها البشر، لأن الإحياء والإماتة من خصائصه جل شأنه، ثم طفق يعدد عليهم بعض نعمه فقال «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً» 19 لتمكنوا من التقلب فيها كيفما شئتم، وهذه الآية أيضا لا تنافي كروية الأرض لأنها مبسوطة بالنسبة لما نراه منها، وقد تكون بخلافه، وبسبب عظمها لا تظهر كرويتها للناظرين إلا بأدلة، ثم بين علّة البسط فقال «لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا» طرقا «فِجاجاً» 20 واسعة وضيقة ومختلفة، والطرق تكون في السهل والجبل، والفجاج في الجبل فقط، وبعد أن ذكرهم بذلك كله وعدد عليهم نعم ربه وخوفهم عقابه، علم بإعلام الله إياه عدم إيمانهم، راجع

[سورة نوح (71) : الآيات 21 إلى 28]

الاية 36 من سورة هود المارة «قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا» سفلتهم وفقراءهم «مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» 21 في الآخرة يعني رؤساءهم وأغنياءهم لأن مالهم وولدهم وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما بسبب الكفر صارا سببا للخسارة في الآخرة، وقرىء وولده بضم الواو لغة بالولد بفتحها ويجوز أن يكون جمعا كالفلك فيصدق على الواحد والمتعدّد، ثم شرع يعدد سيئاتهم فقال «وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» 22 مبالغة كبير يقرأ بالتخفيف والتشديد، وذلك لأنهم صدّوا الناس عن اتباعه بشتى الوسائل وسلطوا عليه السفهاء والعيد «وَقالُوا» رؤساؤهم وقادتهم لأتباعهم وسوقتهم وفقرائهم وسفلتهم «لا تَذَرُنَّ» لا تتركوا «آلِهَتَكُمْ» وداوموا على عبادتها، ثم أكدوا النهي وصرحوا بأسمائها فقالوا «وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً» 23 كما يقول لكم نوح، فهذه هي آهتكم فتمكوا بها ولا تنظروا إلى ما يقوله لكم، أفردوا هذه الأصنام الخمسة بالذكر مع أنها داخلة في آلهتهم، لأنها عندهم أعظمها، قالوا كانت ودّ بصورة رجل، وسواع بصورة أنثى، ويغوث بصورة أسد، ويعوق بصورة فرس، ونسر بصورة نسر، وكان لكل منها خدم وحشم وجماعة يعظمونها ويرجونها ويخافونها، ومنهم انتقلت عبادة الأوثان لما بعدهم من الخلق. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت هذه الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب تعبد، أما ود فكانت لكلب دومة الجندل، وسواع فكانت لهذيل، ويغوث لمراد، ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير لآل ذي الكلاع، وهذه غير اللات التي كانت تعبدها ثقيف، والعزّى لسليم، وغطفان وجشم ومناة لخزاعة بقديد، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة، ولذلك سمت العرب أنفسها بعبد يغوث وعبد ودّ وعبد العزّى وغير ذلك (وكبّارا) لغة أهل اليمن، قال قائلهم: والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضّاء وقال الآخر: بيضاء تصطاد القلوب وتسمّي ... بالحسن قلب المسلم القرّاء

بتشديد الضاء في الأول والراء في الثاني، قال نوح عليه السلام «وَقَدْ أَضَلُّوا» كبراؤهم «كَثِيراً» من الناس «وَلا تَزِدِ» هذه الأصنام «الظَّالِمِينَ» أنفسهم بعبادتها «إِلَّا ضَلالًا» 24 فوق ضلالهم «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» العظيمة «أُغْرِقُوا» بسببها «فَأُدْخِلُوا ناراً» عقب إغراقهم بلا فاصلة بدليل العطف بالفاء، وهذه الآية تدل على عذاب القبر قبل البعث ويبعد حمله على عذاب الآخرة لإبطال دلالة الفاء، ولوجوب تفسير ادخلوا بفعل الاستقبال الصرف إلى سيدخلون وهو خلاف الظاهر، وتدل أيضا على أن من مات غرقا أو حرقا أو أكلته السباع أو الطير أو الحوت مثلا، أصابه ما أصاب المقبور من عذاب القبر، قال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من آخر، وأنشد ابن الأنباري: الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثات فنون ذات أطوار لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار «فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» 25 يخلصونهم من الغرق لا من قادتهم ولا من أوثانهم، وفي الآية تعريض بتفنيد زعمهم بأن آلهتهم تنصرهم وتهكم في اعتقادهم بها وتوبيخ لهم لأن أصنامهم وزعماءهم أغرقوا معهم. وقدمنا ما يتعلق بعذاب القبر في الآية 46 من سورة المؤمن وله صلة في الآية 27 من سورة إبراهيم الآتية. وبعد أن عدد مساوئهم وتحقق إياسه منهم وقد توغر صدره عليه السلام طيلة عشرة قرون تقريبا وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك لأوثان ولم يصغوا له وأصروا على تكذيبهم له وازدادت إهانتهم له، دعا عليهم كما ذكر الله «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» 26 يدور عليها أو يسكن فيها، وهذه الكلمة لا تستعمل إلا بالنفي العام ولم تكرر في القرآن، يقال ما بالدار ديار أو ديّور، أي ما بها أحد، وأصله ديوارا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في مثلها. وإشراك غير قومه بالدعاء يثبت عموم بعثته عليه السلام من حيث آخرها كما أشرنا إليه في الآية 73 من سورة يونس المارة، واستدل بعضهم في هذه الآية على عموم الطوفان، على أن لفظ الأرض يطلق على قطعة منها، قال تعالى (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الآية 103

من سورة الإسراء ج 1، إذ المراد بها أرض مصر فقط، وقال تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) الآية 71 منها، والمراد بها مكة، لأنه لا قدرة لهم على غيرها، كما أن سلطان مصر لا حكم له على غيرها لقوله تعالى (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الآية 25 من القصص في ج 1 أيضا، إذ لو كان لسلطان مصر سلطان على أرض مدين التي فيها شعيب لما قال هذا الكلام لموسى وفي هذه الآية دليل أيضا على أن البلاء يعم لأن الله تعالى أغرق معهم أطفالهم وحيواناتهم، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية 25 من الأنفال في ج 3، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 44 من سورة يونس فراجعه. ثم بين السبب في طلب إهلاكهم جميعا بقوله «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ» يا سيدي على ما هم عليه من الكفر «يُضِلُّوا عِبادَكَ» بسوقهم إلى الضلال، قال ابن عباس: كان الرجل منهم يأخذ ابنه إلى نوح عليه السلام ويحدره من اتباعه ويقول له إن أبي حذرني اتباعه وها أبي أحذرك منه فاحذره، فأوص ولدك من بعدك بعدم اتباعه، ولهذا قال عليه السلام «وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» 27 عريقا في الكفر، إذ تلقاه عن أبيه كما تلقاه أبوه عن جده، ولشدة إصراره عليه بوصي به ولده من بعده. ثم انه عليه السلام لما رأى دعوته هذه قد أجيبت بإلهام من الله تعالى له وظن أن ذلك ناشىء من عدم قيامه بالدعوة الإلهية كما ينبغي من إدمان الصبر وتحمل الأذى استغفر ربه عز وجل وقال «رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما وقع مني من التقصير في خدمتك ودعوة عبادك واستعجالي عليهم بالدعاء، وهذا على الاحتمال وهضما للنفس، وإلا فهو عليه السلام مبرا من التقصير وحاشاه أن يوصف بالاستعجال بعد صبره عليهم ألف سنة تقريبا، ولكن الأنبياء يخافون ربهم بقدر قربهم منه، والعبد كلما قرب من ربه عظمت هيبته في صدره وازداد خوفا منه وبدأ بطلب المغفرة لنفسه أولا، لأنها أولى بالتقديم، وهكذا كان محمدا صلى الله عليه وسلم يبدأ بنفسه بالدعاء ثم يثني بالمتصلين به لأنهم أحق من غيرهم، فقال «وَلِوالِدَيَّ» أبيه لمك بن متوشلح وأمه شمناء بنت انوش، قالوا وكان بينه وبين آدم عليه السلام عشرة آباء كلهم مؤمنون، ثم عمم بدعائه فقال «وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً» قيد بالمؤمن

تفسير سورة ابراهيم عدد 22 - 72 - 14

لإخراج الكافر لأنهم من جملة من دخلوا بيته «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» عامة فتشتمل دعوته هذه كل مؤمن ومؤمنة من آدم إلى آخر الدوران «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» 28 هلاكا ودمارا وخرابا، فاستجاب الله تعالى دعاءه فأغرقهم جميعا على الصورة المارة في قصته في سورة هود المذكورة، أما وقد أجاب الله دعاءه بإهلاك قومه ومن على أرضه في زمنه، فهو أكرم من أن لا يجيب دعاءه بالمغفرة له وللمؤمنين قبله وبعده بمنه وكرمه وعسى أن تكون ممن شملته دعوته بالمغفرة لعموم لفظها بلطفه وعطفه ومنّه. ولا توجد سورة مختومة بما ختمت به، ولم تكرر في القرآن أيضا، ومثل ما بدئت به مر في سورة القدر في ج 1. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين. تفسير سورة ابراهيم عدد 22- 72- 14 نزلت بمكة بعد سورة نوح، عدا الآيتين 28/ 29 فإنهما نزلنا في المدينة، وهي اثنتان وخمسون آية، وثمنمئة وإحدى وستون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا، ومثلها في عدد الآي الحافة ونون. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الر» تقدم ما فيه أول سورة يونس لمارة، هذا القرآن العظيم المدون في أنزلنا «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «لِتُخْرِجَ النَّاسَ» بهديه وإرشاده «مِنَ الظُّلُماتِ» الكفر والطغيان والجهالة «إِلَى النُّورِ» الإيمان والطاعة والعلم، تشير هذه الآية إلى أن طرق الإضلال كثيرة، لأنه جمع لفظ الظلمات الداخل فيه جميع أنواعها، وأفرد لفظ النور لأن طريق الإيمان واحد، وهكذا في جميع ما ورد في كتاب الله تعالى يكون النور مفردا والظلمات جمعا، وإنما شبه الكفر بالظلمات لأنها نهاية ما يتحيّر فيها الرجل من طرق الهدى، وشبه الإيمان بالنور لأنه غاية ما ينجلي به طريق الهداية، وهذا الإخراج «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» وأمره وتوفيقه وتسهيله وتيسيره «إِلى صِراطِ

الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» 1 الذي أمر عباده بسلوكه ويجوز في اللفظ العظيم الآتي الجر على أنه صفة لما قبله والرفع على الابتداء «اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا «وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ» به التاركين عبادته «مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» 2 في الآخرة لا تطيقه أجسامهم، ووصف الكافرين بأنهم «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ» وآثروها عليها طوعا واختيارا ورضاء «وَيَصُدُّونَ» الناس مع ذلك «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فيمنعونهم من سلوكها «وَيَبْغُونَها» الطريق الموصلة إلى الله المؤدية لدينه القويم المسببة لدخول الجنة «عِوَجاً» ميلا وزيغا حائدين عن القصد السوي، راجع الآية الأولى من سورة الكهف المارة «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم كانوا «فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» 3 عن الصواب ناء عن الحق في هذه الدنيا ويوم القيامة في أشد العذاب إذا لم يتوبوا ويرجعوا، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» يتكلم بلغتهم، وقرىء بلسن على الجمع، ثم بين العلة في ذلك بقوله «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ما يفعلون ويذرون فيفهمهم ويفهموا عنه، ولا يفهم من هذه الآية كون محمدا عربيا وقد أرسل للعرب خاصة لأنه لا يعرف لغة الآخرين ممن على وجه الأرض، لأن الله تعالى آذنه بإرسال رسل من قبله إلى الأطراف يترجمون لهم بألسنتهم ما يتعلق بالإيمان والإسلام، لأن القرآن العظيم أثبت عموم رسالته بالآية 158 من الأعراف المارة في ج 1، لأن لفظ الناس يدخل فيه العربي والأعجمي، فضلا عن الناس كلهم تبعا للعرب، لأن القرآن جاء بلغتهم ليجتمعوا عليه والاجتماع خير من التفرقة، وجاء في تفسير أبو السعود والرازي أن الله تعالى أنزل الكتب كلها عربية ثم ترجمها السيد جبريل على الأنبياء بلغة أقوامهم ليفهموها. هذا وإذا كان الكتاب واحدا بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وحدوده وأحكامه. وقد ألمعنا إلى عموم الرسالة في الآية 28 من سورة سبأ المارة فراجعها وما ترشدك إليه. وبعد بيان الرسول للمرسل إليهم ذلك «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ» ممن آثر الضلالة على الهدى «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ممن فضّل الهدى على الضلال تبعا لما هو مخلوق

له أزلا «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أمره الذي لا يكون في ملكه إلا ما يريد «الْحَكِيمُ» فيمن يضل ويهدي بحسب معدنه وجبلته «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا» التسع المار ذكرها في الآية 129 من الأعراف في ج 1، وقلنا له «أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ» بني إسرائيل من بين القبط وأنقذهم «مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» مر تفسيرها آنفا «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» التي أوقعها على الأمم السابقة بعد ما ابتلاهم بنعمه وأظهروا للناس كفرها، والمراد من الأيام هنا الوقائع لأن العرب يعبرون عن الحوادث بأيام فيقولون يوم الفجار وذي قار ويوم قضّه وغيرها، قال عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غور طوال ... عصينا الملك فيها ان ندينا ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 14 من سورة الجاثية المارة، «إِنَّ فِي ذلِكَ» التذكير بالوقائع الكائنة على الأمم السالفة «لَآياتٍ» عبر وعظات «لِكُلِّ صَبَّارٍ» على البلاء وعلى الجور والأذى «شَكُورٍ» 5 لنعم الله وعطائه وهما صفة خيرة الخلق من المؤمنين لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» أي اذكر يا خاتم الرسل ما قاله أخوك موسى لبني إسرائيل إذ يعدد نعمه عليهم لتقصها على قومك ومقول القول «اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» عذا بعد أن خلصهم من رق الفراعنة الملمع إليه في الآية 127 من الأعراف فما بعدها في ج 1، وبعد أن أراهم آيات ربهم في إغراق عدوهم ونجاتهم بآن واحد والآيات التي بعدها كالمن والسلوى والإظلال بالغمام وتفجير الماء وقد كانوا فرعون وآله «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» يبغونكم باشده وأشنعه «وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» يسترقونهم ويستخدمونهم «وَفِي ذلِكُمْ» الحال الذي أجروه معكم «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» 6 لا أعظم منه، لأن قتل الذكور وإبقاء النسوة للاسترقاق غاية في الذل ونهاية في العار، وقيل في المعنى: ومن أعظم الرزء فيما أرى ... بقاء البنات وموت البنينا وهذه الواو التي في ويذبحون يسميها القراء الواو الكبيرة، إذ مر قبلها في

مطلب النهي عن الانتساب لما بعد عدنان ومحاورة الكفرة وسؤال الملكين في القبر:

الآية 141 من سورة الأعراف ج 1 ويأتي بعدها في الآية 29 من البقرة في ج 3 بلا واو «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ» أعلم ووعد وأوعد «لَئِنْ شَكَرْتُمْ» نعمه التي من جملتها خلاصكم من رق القبط والغرق «لَأَزِيدَنَّكُمْ» نعما فأجعل منكم ملوكا وأنبياء راجع الآية 23 من المائدة في ج 3، «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ» تلك النعم وجحدتموها «إِنَّ عَذابِي» لمن يكفرها «لَشَدِيدٌ» 7 أشد من عذاب استرقاق القبط وإماتة الرجال وإبقاء النساء منكم «وَقالَ مُوسى» لبني إسرائيل «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» فضره يعود عليكم وعليهم في الدنيا والآخرة والله لا يعبا بكم «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ» عن جميع خلقه لا حاجة له في شكرهم «حَمِيدٌ» 8 بذاته وإن لم يحمده خلقه ثم ذكرهم بمن قبلهم فقال «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» كقوم إبراهيم وموسى وشعيب وغيرهم «لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» لعدم إحاطة علم البشر بهم لكثرتهم ولأن الله لم يبينهم لنا، قال تعالى (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ) الآية 79 من الفرقان المارة في ج 1 ونظيرتها الآية 79 من سورة المؤمن المارة، ولهذا قال ابن مسعود كذب النسّابون الذين يدعون معرفة الأنساب إلى آدم، والله تعالى نفى معرفة العلم بذلك عن عباده، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم فيمن ينتسب لآدم عليه السلام وفيمن ينتسب من عدنان إلى إسماعيل عليه السلام كذب النسّابون، لأن الله تعالى لم يبين القرون ما بين النّبيين. مطلب النهي عن الانتساب لما بعد عدنان ومحاورة الكفرة وسؤال الملكين في القبر: وهذه الآية التي نحن بصددها كافية لسد باب الانتساب إلى ما بعد عدنان لأن الذي لا يعلمه إلا الله يعجز عنه البشر، لذلك يجب علينا أن نحجم عن الانتساب إلى ما بعد عدنان، ولهذا البحث صلة في الآية 111 من سورة المؤمنين الآتية. قال تعالى «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» على صدقهم وما جاؤهم به من عند ربهم «فَرَدُّوا» أي الكفرة من أولئك الأمم «أَيْدِيَهُمْ» أوصلوها وأخذوها

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 إلى 20]

«فِي أَفْواهِهِمْ» أي الرسل لئلا يتكلموا بما أرسلوا به، أو إلى أفواه أنفسهم إشارة لعدم رغبتهم بما يقولون لهم، وهذا كناية عن إسكاتهم تكذيبا لهم، وكثيرا ما يقع هذا بين المخاطبين الآن من أهل القرى والبوادي، إذا لم يرد المخاطب أن يسمع كلام المخاطب فإنه يشير إليه بيده ويضعها على فم نفسه كأنه يقول له ردّ قولك إلى فيك ولا تنطق بما تريد لأني لا أصدقه، وقد يقوم إليه ويضع يده على فيه إذا كان لا يهابه، يدل على هذا المعنى قوله تعالى «وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» فلا حاجة لبيان «وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ» من الإيمان والتوحيد والبعث «مُرِيبٍ» 9 موقع في التهمة إن لم نجزم جحود ما جئتم به، والريبة قلق وعدم طمأنينة بالأمر، لذلك فلا نميل لأمر نحن في شك منه. وقيل إنهم أخذوا أيديهم فعضوها بأفواههم تعجبا أو غيظا، وهذا لا يوافق النظم ويأباه السياق «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي» وجود «اللَّهِ شَكٌّ» استفهام إنكاري، أي أتنكرون وجود الإله «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وخالق ما فيهما وبينهما الذي «يَدْعُوكُمْ» للإيمان به والتصديق برسله «لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» إذا أجبتم دعوته وصدقتم رسله، والمراد من لفظ من هنا وفي مثلها غفران الذنوب التي هي حق الله فقط، أما حقوق العباد فلا تغفر إلا بإسقاطها من قبل أهلها أو بمشيئه الله القادر على إرضاء خصومهم، راجع الآية الثانية من سورة نوح المارة «وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا يقدم ولا يؤخر ولا يبدل، وانه قدّر لكم آجالا تبلغونها إن أنتم آمنتم وصدقتم وآجالا دونها إن أصررتم على كفركم عقوبة لكم، راجع الآية 12 من سورة نوح المارة «قالُوا» لرسلهم «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» ولستم بآلهة ولا ملائكة حتى نتبعكم أ «تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 10 يميّزكم عنا ويثبت أن آلهتنا باطلة وأنكم على الحق «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» لسنا بآلهة ولا ملائكة كما ذكرتم «وَلكِنَّ اللَّهَ» الذي خلق ورزق وأحيا وأمات الذي منّ عليكم بالعقل والسمع والبصر والأمن والعافية والولد والجاه والرياسة «يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ»

برسالته إلى إرشاد خلقه لدينه رحمة بهم، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير «وَما كانَ لَنا» بصفتنا رسل الله «أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ» قوة وبرهان ومعجزة نقسركم بها على اتباعنا والإيمان بنا «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» لأنا عاجزون مثلكم، ولولا ما خصنا الله به من الوحي لما فضلناكم بشيء، ولولا أن يرسلنا إليكم لما دعوناكم إلى شيء «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» 11 أمثالنا على أن يقدرنا لمجابهة عنادكم وعدائكم «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ» نحن معاشر الأنبياء، يراجع نظير هذه الآية في المعنى الآية 22 من سورة يس في ج 1، «وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا» التي نسلكها في أمور ديننا الموصل لرضاء الله. واعلموا أيها الناس أننا عبيد الله ورسله إليكم وقد أمرنا بإنذاركم وإقلاعكم عما أنتم عليه من الكفر وما علينا إلا نصحكم وسنثابر عليه ولو لم تصغوا إلينا «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» به من التكذيب والإهانة والاستخفاف، لأنه في سبيل تنفيذنا أمر الله بدعوتكم إلى دينه القويم المؤدي إلى جنات النعيم لا إلى شيء يعود علينا بالنفع المادي ونستمد المعونة منه على ما نريده من إرشادكم «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» 12 أمثالنا فيما هم سائرون فيه. واعلم أن التوكل في الآية الأولى بقصد إحداثه وفي هذه بقصد التثبت عليه، فلا يعد تكرارا «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ» لما رأوهم مثابرين على دعوتهم إلى دينهم دين الله الواحد وأنهم أقسموا على الصبر فيما يلاقونه من أذى في سبيل دعوتهم «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا» بلادنا وقرانا «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» كما كنتم قبل ادعائكم النبوة والرسالة، وذلك أنهم كانوا قبل لم يأمروهم بتركها ولم يخالفوهم في شيء مما هم عليه، وإلا فهم نشأوا على التوحيد من حين فصالهم كسائر الأنبياء، وكانوا قبل أمرهم بالدعوة كأنهم منهم «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» 13 الذين كذبوكم وأمروكم بالعودة إلى دينهم. ونظير هذه الآية الآية 88 من سورة الأعراف المارة في ج 1، «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ» التي يريدون إخراجكم منها «مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ» الوعيد بإهلاكهم والوعد بإحلالكم محلّهم حق ثابت «لِمَنْ خافَ مَقامِي» الوقوف بين يدي في الآخرة «وَخافَ وَعِيدِ» 14 بالعذاب

«وَاسْتَفْتَحُوا» استنصروا أي طلبوا النصر من الله على أعدائهم لما رأوا إصرارهم على الكفر وعلى أذاهم، وقد جرت عادة الله تعالى بنصرة أوليائه عند الضيق بمقتضى عهده المار ذكره في الآية 172 من الصافات والآية 110 من سورة يوسف المارتين فنصروا حالا «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» 15 لا يميل إلى الحق لتعاظمه في نفسه وخسر، وهذه الآية على حد قوله تعالى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) الآية 19 من الأنفال والآية 88 من سورة التوبة في ج 3، وقال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 110 من سورة يوسف المارة وجزاء هذا المخالف لرسوله «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ» يعذب فيها في الآخرة لأنه قادم عليها غير العذاب الذي حل به في الدنيا وقال (من ورائه) لأنها تكون بعد موته لا مناص له منها فهو واردها حتما، قال: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب وتأتي وراء بمعنى قدام على أنها من الأضداد والمشتركات اللفظية أو المعنوية، فتكون بمعنى القدام والخلف وعلى هذا قوله: أليس ورائي ان تراخت منيتي ... لزوم العصا تحفى عليها الأصابع وقوله: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقوم تميم والغلاة ورائيا وقول الآخر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ» 16 عطف بيان لأن الماء مبهم ففسره بالصديد وهو القيح الذي يسيل من جلود المعذبين فيها «يَتَجَرَّعُهُ» يتكلف بلعه مرة أخرى لشدة العطش واستيلاء الحرارة «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» بسهولة بل يغص به لنتنه وكراهيته فيشربه بعد اللّتيا والتي على كره وقسر «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ» من أطراف جسده حتى من شعره وظفره «وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» إذ لا موت فيها «وَمِنْ وَرائِهِ» أي شراب الصديد «عَذابٌ غَلِيظٌ» 17 أشد وأزهق للنفس مما كان فيه من أمامه وخلفه، قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 إلى 30]

كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» المثل يستعار للصفة التي فيها غرابة راجع الآية 112 من سورة النحل المارة، وبيّن ذلك المثل بقوله عز قوله «أَعْمالُهُمْ» التي عملوها في الدنيا من إقراء ضيف أو إغاثة ملهوف أو صلة رحم أو عتق رقبة أو فك الأسير أو غيرها «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» فطيّرته ولم تبق له أثرا، هكذا يمثله الله لهم يوم القيامة لتزداد حسرتهم فتراهم «لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ» منها من الثواب لأنها وقعت منهم حال الكفر إذ يشترط لثواب الأعمال أن تكون مع الإيمان بالله وعدم الشرك به «ذلِكَ» حرمانهم من ثواب أعمالهم الطيبة «هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» 18 عن طريق الصواب والخسران الكبير عن حسن المآب، وشبه هذه الآية، الآية 29 من سورة النور في ج 3، قال تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لأمر عظيم لا عبثا ولا باطلا «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس من بينهما فيخسف بكم الأرض أو يطيركم بالهواء فيجعلكم هباء «وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» 19 غيركم أطوع منكم إليه وأكثر عبادة «وَما ذلِكَ» إذهابكم والإتيان بغيركم «عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» 20 لا ممتنع ولا متعذر لأن القادر لا يصعب عليه شيء فالذي خلق السموات والأرض لا شك قادر على إبادتهما ومن فيهما وإيجاد غيرهم، وهذه الآية مكررة في سورة فاطر ج 1، والأنعام المارة والنساء ج 3، وغيرها ولكن لمناسبة أخرى. قال تعالى «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» من قبورهم بعد النفخة الثانية وسيقوا إلى المحشر وبعد إجراء الحساب ومقابلة العابدين لمعبوديهم من البشر وغيره وعند إجراء المحاورة بينهم «فَقالَ الضُّعَفاءُ» العابدون والأتباع الذين غلبوا على أمرهم في الدنيا لما رأو العذاب «لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» عليهم في الدنيا من الرؤساء والأغنياء الذين ساقوهم لعبادة غير الله «إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً» في الدنيا مسيرين في خدمتكم وأمركم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا» اليوم فتكفونا وتدفعوا عنا وتمنعونا «مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» فترفعونه عنا كما كنتم تعدونا بذلك في الدنيا «قالُوا» لهم لا لأنه «لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ» إلى الإيمان الذي كنا نؤمر به ولا نسمعه، ولكن ضللنا فأضللناكم «سَواءٌ عَلَيْنا» نحن وأنتم في

في العذاب سواسية «أَجَزِعْنا» منه «أَمْ صَبَرْنا» عليه «ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ» 21 عنه فلا نجاء ولا مهرب ولا محيد ولا مخلص، من خاص إذا عدل لجهة الفرار، راجع الآية 10 من سورة القيامة المارة في ج 1، ثم ان الفريقين ألقوا اللوم على الشيطان فاستحضره الحق جل وعلا وذكر لنا ما جابههم به وهو «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ» بين الناس وعرف كل مصيره وصار أهل الجنة للجنة يحمدون الله تعالى على ما صاروا إليه بسبب اتباعهم أوامر ربهم وأهل النار للنار يلومون إبليس ويوبخونه على إغرائه لهم في الدنيا، فيقول لهم «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ» الناجز فلم تصدقوه «وَوَعَدْتُكُمْ» خداعا بكم وإغواء لكم وعدا كذبا «فَأَخْلَفْتُكُمْ» لأنه لا حقيقة له ولا قدرة لي على إنجازه «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» أقهركم به على اتباعي «إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ» دعوة عادية بما أوقعته في قلوبكم من الوسوسة لا بسيفي ولا برمحي ولا بأية معجزة «فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» طوعا ورغبة واختيارا عفوا من أنفسكم وتبعا لشهواتكم الخسيسة التي منبتكم بها قولا. والأماني كالآمال لا وثوق بها ولا بوقوعها «فَلا تَلُومُونِي» الآن على ما كنتم به راضين قبلا «وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» على عدم إصغائكم لدعوة الرسل المؤيدة بالبراهين والآيات وعدم اتعاظكم بمعجزاتهم وركونكم لنصحهم وإرشادهم الحق، فاقطعوا أملكم «ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ» ولا مغيثكم ومنقذكم من العذاب الآن وإن ما وعدتكم به في الدنيا كله زور وبهت لا صحة لشيء منه وإني عاجز الآن عن كل شيء مثلكم «وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ» مما أنا فيه من العذاب «إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ» في عبادة الله حال الدنيا إذ لا يعبد غيره إلا ظالم «إِنَّ الظَّالِمِينَ» أمثالنا في الدنيا «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 22 في الآخرة وها قد وقعنا به. هذا آخر قول المغوي للغوات فاعتبروا يا أولي الأبصار واتعظوا يا أولي الألباب من الآن قبل أن يحلّ بكم ما قصه الله علينا، وقد تكررت بين العابدين والمعبودين المحاورة في القرآن كثيرا لمناسبات، ومعان أخرى لا تغني عن بعضها، راجع سورة سبأ المارة وفاطر والأعراف في ج 1 والبقرة والأنفال في ج 3 وغيرها، قال تعالى

«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» 23 فيما بينهم أنفسهم، وبينهم وبين الملائكة، وبينهم وبين ربهم «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا» وصفه بكونه «كَلِمَةً طَيِّبَةً» هي كلمة الإيمان «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» هي النخلة «أَصْلُها ثابِتٌ» في الأرض «وَفَرْعُها» أغصانها المتفرعة من رأسها صاعدة «فِي السَّماءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَها» ثمرها «كُلَّ حِينٍ» ووقت وقته الله تعالى لنضجه والثمر ما يدخر ليؤكل إبان نضجه وغيره في كل زمان «بِإِذْنِ رَبِّها» وتيسيره وتكوينه «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» اعتبارا وعظة «لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» 25 المعاني المضروبة من أجلها فيتعظوا بها. زوى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحات ورقها وتؤتي أكلها كل حين. قال، قال ابن عمر فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولا شيئا قال صلى الله عليه وسلم هي النخلة، قال فلما قمنا قلت لعمر يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال ما منعك أن تتكلم؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم وأقول شيئا، فقال عمر لأن تكون قلتها أحبّ إلي من كذا كذا. قال تعالى «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ» هي كلمة الكفر إذ لا أخبث منها أبدا «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ» هي الحنظل على أصح ما جاء فيها إذا لا أخبث منها عندنا في الدنيا أما في الآخرة فالزقوم والضريع والغسلين أجارنا الله منها «اجْتُثَّتْ» استؤصلت وقطعت ورفعت جئّتها المفروشة «مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ» لأنها «ما لَها مِنْ قَرارٍ» 26 ثابت فيها ولا فرع صاعد في السماء، لأن كل شجرة عادة بقدر ما تتغلغل في الأرض ترتفع في السماء، وهذا هو الذي يثبتها ويقيها من تأثير الهواء وغيره «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» وهو كلمة التوحيد الحاصل أجرها «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» للذين يتمسكون بها لا يزيغون عن الحق فيمن زاغ ممن سلف كأصحاب الأخدود المتقدم ذكرهم في الآية 4 من سورة البروج في ج 1، ومن رسخ كسلمان ورفقائه المتقدم ذكرهم

وكعمار ورفقائه المار ذكرهم في الآيتين 109/ 110 من سورة النحل وفي الآية 24 من سورة الكهف المارتين، الثابتين على الإيمان مع تعذيبهم من أجله وأمثال هؤلاء كما أن الله تعالى ثبتهم في الدنيا «وَفِي الْآخِرَةِ» يثبتهم أيضا وفي أول برزخ من برازخها وهو القبر، وعند سؤال الملكين، وفي المحشر والحساب إلى مواقف القيامة، حتى يدخلهم الجنة التي وعدها لهم. روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا وضع في تبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد، فأما المؤمن فيقول اشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا، قال قتادة ذكر لنا أنه يفسح له في قبره، ثم يرجع إلى حديث أنس قال: وأما المنافق وفي رواية وأما الكافر فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه من الثقلين، لفظ البخاري، ولمسلم بمعناه زاد في رواية: أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون. وأخرج أبو زيد عن أنس والنسائي عن أبي هريرة ما بمعناه، وأخرج الترمذي عن البراء بن عازب، وأبو داود عن عثمان بن عفان بزيادة في ذلك. الحكم الشرعي: سؤال الملكين في القبر لكل إنسان وإنسانة حق ثابت واجب الاعتقاد به، وهو معتقد أهل السنة والجماعة بالإتفاق، قال في بدء الأمالي: وفي الأجداث عن توحيد ربي ... سيبلى كل شخص بالسؤال ومثله في الجوهرة، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا فاسق زنديق، راجع ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة المؤمن المارة وله صلة في الآية 53 من سورة الروم الآتية، «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» فيزلهم في ذلك كله ويحرمهم مما أعده للمؤمنين «وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» 27 من الهداية والإضلال فيمن يريده وفاقا لما في أزله لا اعتراض عليه فيما يفعل وهو لا يسأل، وهذا أول الآيتين المدنيتين. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً» جحودا بدلا من الاعتراف

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 31 إلى 40]

بها والقيام بشكرها «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ» الذين تابعوهم على ذلك وسببوا لهم ولأنفسهم «دارَ الْبَوارِ» 28 الهلاك والدمار، روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) إلخ قال هم كفّار قريش. وفي رواية كفار مكة أنعم الله عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن المنزل عليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور فاختاروا الكفر على الإيمان، ولهذا أحلّوا قومهم دار البوار «جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» 29 هي لهم على اختيارهم ذلك. أخرج البخاري في ناسخه عن الحبر أن هذه السورة مكيّة إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما (ألم تر) إلخ نزلتا في قتلى بدر من المشركين، والآية عامة لفظا ومعنى، وما خصه بعض المفسرين بكفار قريش بأن الله تعالى أسكنهم حرمه ووسع عليهم بإيلاف الرحلتين وجعلهم قوام بيته فأبدلوا هذه النعمة كفرا به وجحودا بربوبيته، أو أنه من عليهم بالقرآن العظيم فكفروا به وهو لا نعمة تضاهيه ولا خير يوازيه، أو أنهم من عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أكبر نعمة وأجل منة وأعظم منحة فلم يؤمنوا به وبدلوه بالكفر لا يخصصها، وكذلك لا يقيدها الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم من طرق، عن علي كرم الله وجهه، أنه قال في هؤلاء المبدلين هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة بقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. لأن هذا القول صدر منه بعد نزولها في زمن خلافته كما يدل عليه لفظه، وكذلك ما أخرجه البخاري في تاريخه وابن المنذر وغيرهما عن عمر رضي الله عنه في هذا المعنى، ويدل على عمومها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، لأن هذه الحادثة وقعت زمن عمر فلا علاقة لها بسبب نزولها، بل تشمل كل من بدّل النعمة كفرا، وهذا هو الأولى والأوفق، قال تعالى «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها يعبدونها من دونه «لِيُضِلُّوا» أنفسهم وغيرهم «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق الذي لا مئيل له ولا شبيه «قُلْ» لأمثال هؤلاء يا سيد الرسل «تَمَتَّعُوا» في هذه الدنيا بشهواتكم الخبيثة أياما قليلة «فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» 30 في الآخرة وبئس المصير النار، ويا أكرم الرسل

مطلب في الخلة ونفعها وضرها وعدم إحصاء نعم الله على عباده، وظلم الإنسان نفسه:

«قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم «وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ» ما تيسر منه وتسمح به نفوسهم مما خولناهم من النعم في وجوه البر والخير «سِرًّا وَعَلانِيَةً» وليبادروا فيه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ» عليهم وقد نكّره لهول ما يقع فيه يوم «لا بَيْعٌ فِيهِ» ليبتاع المقصر ويتلافى تقصيره ولا فداء فيه ليفتدي نفسه، يوم لا دية فيه، ولا خلاص من العذاب، وعدم إمكان شراء النفس مما حق عليها بخلاف الدنيا الممكن فيها ذلك «وَلا خِلالٌ» 31 جمع خلة إذ لا ينفع الصاحب صاحبه، ولا قريب قريبه، يوم تنقطع فيه المودة والقرابة: مطلب في الخلة ونفعها وضرها وعدم إحصاء نعم الله على عباده، وظلم الإنسان نفسه: هذا وقد نفى الله تعالى في هذه الآية وآية البقرة عدد 256 في ج 3 نفع الخلة، ويراد بها الحاصلة بميل الطبيعة ورعونة النفس، وأثبتها في الآية 66 من الزخرف المارة، لأن المراد بها الخلة الحاصلة بمحبة الله وطاعته، لأنه أثبتها للمتقين وجعل الأولى محض عداء بين المتخالدين لغير الله وعلى سخطه، إذ تكون بلاء خالصا عليهم يوم القيامة، راجع تفسيرها فقيه بحث نفيس جامع مانع نعلم منه أن كل صحبة لغير الله تكون محنة يوم القيامة، قال هرم بن جبان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم. وقال كعب: مكتوب في التوراة لا صحبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤهما من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض، وتصديق ذلك في القرآن قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) الآية 99 من سورة مريم في ج 1 فراجعها أيضا ففيها ما تقرّ به الأعين «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» أيها الناس ولدوابكم «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» فتحملكم وأثقالكم إلى مقاصدكم بأقل زمن وأقل كلفة من البر «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ» 32 تجرونها حيث شئتم للشفة والسقي والنّضارة وغيرها «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ» مستمرين على عادتهما من الطلوع والغياب بصورة مطّردة وحالة

دائمة لمنافعكم أيضا، إذ أودع الله فيهما ما أودع من التأثيرات من نضج الثمار وطعمها ولونها وإخراج النبات وأشياء أخرى مما علمه البشر وما لم يعلمه بعد «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» 33 لتنتفعوا بكل منهما، راجع الآية 12 من الإسراء في ج 1 تقف على فوائدها التي اطلع عليها البشر، ولهما فوائد أخرى تعلم فيما بعد، لأن الدنيا لم تكمل بعد، لأنها. لا تخرب إلا بعد كمالها، راجع الآية 44 من سورة يونس المارة «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» وما لم تسألوه لأنكم لا تعرفون كل النعم التي أنعمها عليكم إلا بعد حدوثها، ومن أين لنا أن نعرف الكثرى والموز والبرتقال والخوخ وغيرها قبل أن نراها، وحتى الآن يوجد ثمار لا نعرفها «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» لأنها كثيرة جدا فلا تطيقوا عدها إجمالا فضلا عن التفصيل «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» 34 أنعم الله ظلام لنفسه ولغيره، وبعد أن ذكر الله تعالى أحوال الكافرين بنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لها لما فيها من تفضيلهم وتكريمهم على الخلق كافة، وبين لهم أن الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام لمن ثابو عليها، حثا للمؤمنين على المداومة عليها، وتقريعا للكافرين والعصاة المخلّين بهما، ختم الآية بقوله (ظلوم كفار) يريد أن جنس الإنسان مجبول على هاتين الخصلتين، على أن الآية 18 من سورة النحل المارة ختمت بقوله (إن الله لغفور رحيم) ليتعظ هذا الظلوم الكفار بهذه النعم ويرتدع عن غيه ويجنح إلى مغفرة ربه ويتوب من كفره. فانظروا رعاكم الله أيجوز عصيان هذا الإله الخالق لهذه الأشياء ومذللها لكم وجاعل منافعها العظيمة لتأمين راحتكم والتوسع عليكم، فاحمدوا هذا الرب الذي يمهل من عصاه وكفر نعمه ليتوب إليه ويرجع عن غيه رحمة به، ويثيب من أطاعه كرامة له وفضلا ليزيد في طاعته، فبعد هذا كله أيجوز عصيانه؟ كلا ثم كلا. وهذه الآية عامة أيضا لأن المراد بالإنسان جنسه لا خصوص أبي جهل وأضرابه كما ذكر بعض المفسرين، على أنه وأمثاله داخلون في معناها دخولا أوليا «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» أي اذكر يا محمد لقومك قول جدك الكريم «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» صيّره وما حوله من الخوف إلى الأمن، وآية البقرة 147 في ج 3 (اللهم اجعل هذا بلدا آمنا)

أي اجعل مكة شرفها الله من جملة البلاد الآمنة التي يأمن أهلها فيها على أنفسهم وأموالهم «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» 35 أدخل نفسه عليه السلام مع أنه معصوم من عبادتها لزيادة التثبت وإظهار عجزه لربه وإعلاما بأنه لا يقدر أحد علي حفظ نفسه إلا يحفظ الله تعالى، وفيه تعليم للغير بالتبرّي من الاعتماد على النفس، وقد أجاب الله دعاءه لبنيه من صلبه إذ ثبت أن أحدا منهم لم يعبد صنما ما، وكذلك أولادهم الموجودون في زمانهم. واعلم أن عجز هذه الآية يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه، وهو كذلك، ولكن ينفي ما يرد عليه من أن أهل مكة من نسل إسماعيل عليه السلام ابنه قد عبدوا الأوثان وهذا مردود، لأنهم ليسوا في زمن إسماعيل ولا أولاد إسماعيل أيضا، فلا محل لهذا الإيراد، ولا يرد أيضا ما جاء في الحديث الصحيح (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) لأن المراد بالأمن الذي طلبه إبراهيم أمن أهلها وقد كان، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية 68 من سورة العنكبوت الآتية أي وهم آمنون، على أنه لو أريد بالأمن عدم خرابها لا يتجه أيضا، لأن الله تعالى قد حفظها من كل من أراد خرابها، أبرهة فمن قبله وحتى الآن محفوظة بحفظ الله، وستبقى كذلك بإذن الله إلى الوقت المقدر لخرابها، إذ لا يبقى لها أهل ولا من يقول الله، وهو من علامات الساعة، فلا تنافي بين الحديث والآية على هذا المعنى أيضا، والأول أولى وأوجه «رَبِّ إِنَّهُنَّ» الأصنام «أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» وهو يعلم أن المضل في الحقيقة هو الله كما ذكرناه في الآية 112 من الأنعام المارة، لأن هذه الأصنام وإبليس وشياطين الإنس والجن لا تقدر أن تضل من هداه الله، قال تعالى (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الآية 17 من سورة الكهف، ولا سيما الأصنام لأنها جماد لا تعقل حتى تضل غيرها، إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما أضيف الغرور والفتنة إلى الدنيا، والنزغ والإغواء والتزيين إلى الشيطان، راجع الآية 39 من سورة الحجر المارة وما ترشدك إليه تقف على ما تريده من هذا البحث مفصلا، ثم خصّص عليه السلام دعاءه العام في صدر هذه الآية بقوله «فَمَنْ تَبِعَنِي

فَإِنَّهُ مِنِّي» على ديني وعقيدتي «وَمَنْ عَصانِي» فيها «فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 36 به تقدر على هدايته إذا شئت، وليس في هذه الآية جواز الدعاء للكافرين بالمغفرة والرحمة، لأنها جارية مجرى الخبر، أي أن الكافر إذا تاب وأناب فإنك غفور لأمثاله، رحيم بهم، أو أنها على حد استغفاره لأبيه قبل أن يعلمه الله عدم غفران الشرك، لعلمه أنه قادر على أن ينقله من الكفر إلى الإيمان، وعلى هذا قول عيسى بن مريم عليه السلام في الآية 118 من المائدة في ج 3 (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) إلا أن عيسى ختم كلامه بما لا يدل على المغفرة والرحمة، لأن لفظ العزيز يدل على العظمة والغلبة، ولفظ الحكيم يدل على أن ما يفعله الله موافق للواقع، لأن الحكمة تعذيب العاصي وتكريم الطائع، فبين حتام الآيتين بون شاسع في المعنى، وإن استغفار إبراهيم لأبيه وقع منه بعد أن وعده بالإيمان به، راجع الآية 114 من سورة التوبة في ج 3، لهذا فإن من استدل بهذه الآية على جواز مغفرة الشرك فقد مال، إذ لا دليل له لمخالفته صراحة قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية 48 من النساء في ج 3، وهي مكررة فيها راجع الآية 8 من الشعراء في ج 1 فيما يتعلق في هذا البحث، ومنها تعلم أن عدم غفران الشرك قديم لا خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي» يريد إسماعيل عليه السلام «بِوادٍ» بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل جياد ويسمى وادي مكة «غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» لأنه رمال لا تنبت «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» التعرض له ولما فيه والتهاون به «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» أي لم أسكنهم فيه إلا ليعبدوك ويوحدوك لأن القصد إظهار ركون الإسكان مع فقدان لوازمه لمحض التقرب والالتجاء إلى جواره، لأنه بلقع خال من كل ما تقتضيه الحياة، ولهذا قال جل قوله «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» تميل حنانا وشوقا إليه ورغبة فيه «وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» الموجودة في بلادك الأخرى بأن سخّر لهم الناس بجلبها إليهم من بلادهم، وقد أجاب الله دعاءه، فترى في مكة جميع أصناف اللباس والمأكول والمشروب بكثرة كما قال تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 57 من سورة

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 41 إلى 50]

القصص في ج 1، «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» 37 نعمك ويقولون إن الإتيان بها من جملة آياتك ونعمك عليهم، قال سعيد بن جبير: لو قال الله أفئدة الناس لحجت النصارى واليهود والمجوس، ولكنه قال من الناس يريد المسلمين فقط، لأنه سبق في علمه حرماتهم من زيارته لقوله جل قوله (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الآية 25 من التوبة في ج 3، «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ» في كل أمورنا وأحوالنا وأفعالنا ونيّاتنا، لا تفاوت عندك بين السر والعلانية، قال تعالى «وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» 38 تصديقا لقولهم ذلك، وقد جمع الضمير لأن الدعاء منه ومن ابنه إسماعيل بدليل ما جاء في الآية 138 من البقرة في ج 3، وهو قوله تعالى حكاية عنهم كما هنا (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) وفي تكرير هذا النداء دلالة على أن كثرة التضرع إلى الله تعالى واللجوء إليه وحصر القصد فيه مطلوب. ثم قال إبراهيم وحده «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» 39 إشارة إلى قوله قبلا (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) الآية 100 من سورة الصافات المارة، فأجاب الله دعاءه فوهب له إسماعيل من هاجر وهو ابن تسع وتسعين سنة، وإسحق من سارة وهو ابن مئة وسبع عشرة سنة، قال تعالى على لسان خليله أيضا «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» اجعل من يقيمها، وذلك أنه علم بإعلام الله إياه أن أناسا يكونون من ذريته لا يقيمونها «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» 40 بإثبات الياء ودونها، وقد أجاب الله دعاءه إذ جعل النسوة في ذريته وهم أهل الصلاة «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ» إذا تابا وأنابا وأسلما لك، وهذا قبل أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم، ولأنهما وعداه أن يؤمنا به وبربه. أما استغفاره لنفسه مع علمه أنه معصوم من الذنب فهو بقصد الالتجاء إلى ربه والاتكال عليه، ولما يظن أن ما قاله في جملة (بل فعله كبيرهم) في الآية 63 من الأنبياء الآتية، والآية 89 من سورة الصافّات المارة وهي (إني سقيم) وقوله للجبار عن زوجته هذه أختي يريد بالخلقة والدين- تستوجب الاستغفار، لأنه من الأبرار، وإن حسنات

الأبرار سيئات المقرّبين «وَلِلْمُؤْمِنِينَ» جميعهم اغفر يا رب، وهذا تعميم بعد تخصيص لأنه داخل فيهم دخولا أوليا، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لجميع المؤمنين لأن الله تعالى أكرم من أن يردّ دعاء خليله، وستظهر ثمرة هذا الغفران «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» 41 أسند القيام إليه مجازا على حدّ قوله (واسأل القرية) أي أهل الحساب، لأن القيام منهم وهذا مما لا يخالف الظاهر، لأن من المعلوم أن القرية لا تسأل والحساب لا يقوم، لأنه معنى، والقيام للأجسام لا للمعاني، قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ» حاشا، بل هو مطلع عليهم ومحص أعمالهم، ولكنه تعالى «إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ» للتقاصّ منهم «لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ» 42 لجهة العلو لما يرون من الهول الذي يدهشهم ويحيرهم، وشخوصها بقاؤها مفتوحة لا تطرف حال كونهم «مُهْطِعِينَ» مسرعين بمشيهم إلى جهة الداعي مهرولين وراءه، لا يعرفون ما هو مصيرهم كالنعم حين يسوقها الجزار إلى المذبح، بخلاف حال الدنيا فإن من يشخص منهم بصره يقف مبهوتا لا يقدر على الحركة، وأهل الآخرة على العكس، فإنهم يمشون مسرعين، وهذا من جملة عجائب أحوال أهل ذلك اليوم «مُقْنِعِي» رافعي «رُؤُسِهِمْ» إلى السماء، وهذا أيضا على خلاف عادة أهل الدنيا، لأن من يتوقع منهم شيئا يخافه يطرق رأسه إلى الأرض «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» للنظر على أنفسهم بل يبقى شاخصا من شدة الفزع، وسبب رفعها إلى السماء توقع نزول شيء منها عليهم، إذ ينزل العرش الإلهي محمولا على الملائكة ويوضع في الموقف لفصل القضاء بين الناس، وأما الذين يعتريهم الخوف فيكونون هم «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» 43 أي قلوبهم خالية فارغة لا تفكر بشيء، ولا تعقل شيئا، أجارنا الله من هول ذلك اليوم. والفؤاد هو الجؤجؤ، قال زهير: كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمات جؤجؤه هواء يريد قلبه. وقول حسان: ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوّف نخب هواء

مطلب في الغفلة والقلب والشكوى وفتح لام كي وكسرها والقراءة الواردة فيها وعدم صحة الحكايتين في هذه الآية:

مطلب في الغفلة والقلب والشكوى وفتح لام كي وكسرها والقراءة الواردة فيها وعدم صحة الحكايتين في هذه الآية: واعلم أن الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور، وسهو يعتريه من قلة التحفظ والتيقظ وهو في حق الله تعالى محال، والمقصود منها عدم معاملة الظالم معاملة الغافل، بل ينتقم منه للمظلوم ويعامله معاملة الرقيب الحفيظ الحسيب العالم بجزئيات ما وقع منه فضلا عن كلياتها، ففي الآية تهديد للظالم وتعزية للمظلوم. والمراد من توجيه الخطاب لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم مع أنه يعلم أن ربه ليس بغافل ولا يتصور منه الغفلة فيما يتعلق بربه التثبت على ما كان عليه، كقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية 135 من سورة النساء في ج 3، أي اثبتوا على الإيمان الذي أنتم عليه، وقد يراد به خطاب أمته الغير عارفين بصفات الله، ويكون على حد قوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية 87 من سورة النمل المارة في ج 1 (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية 89 منها أيضا، ولا يخفى أن حضرة الرسول عالم بذلك، وظهور الحال على ما قيل يغني عن السؤال، وقيل في هذا المعنى مما هو منسوب للشيخ عمر السهروردي دفين بغداد قدّس سره ونور ضريحه: ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني ... عليل ومن أشكو إليه عليل ويمنعني الشكوى إلى الله أنه ... عليم بما أشكوه قبل أقول وسنأتي على بحث إسكان إسماعيل في مكة في الآية المذكورة من سورة البقرة إن شاء الله «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ» ويحيط بهم «فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم إذ ذاك «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا فيها مدة قليلة «نُجِبْ دَعْوَتَكَ» التي أمرت بها «وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» الذين أرسلتهم فأجابهم ربهم «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ» حينما كنتم في الدنيا وقلتم فيما بينكم فيها «ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ» 44 من مصيركم الذي دفنتم فيه إذا متم أي تبقون ميتين وأنكرتم النشور والحساب «وَسَكَنْتُمْ» فيها «فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» من الكفرة

أمثالكم «وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ» من الإهلاك والتدمير بسبب إنكارهم البعث «وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» 45 بأفعالهم وبما فعل بهم لتتعظوا وترجعوا عن غيكم، فأبيتم ولم ينجع بكم إرسال الرسل ولا نصحهم وإرشادهم «وَقَدْ مَكَرُوا» الذين سكنوا مساكن الظالمين «مَكْرَهُمْ» مثل الظالمين المذكورين «وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ» ثابت بعلمه الأزلي قبل إحداثه منهم وقبل خلقهم «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» 46 إن هنا وصلية أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة ونهاية المتابة، فإنه مبطله في الدنيا ومجازيهم عليه في الآخرة. وتكون إن هنا بمعنى ما، أي ما كان مكرهم لإزالة الجبال، لأن اللام فيه مفتوحة وهي لام كي، ولذلك صارت اللام الأخيرة مفتوحة لنصبها بها، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، واللام في لتزول لام التأكيد، أي مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال في الثبوت. وقرأ بعضهم بفتح اللام الأولى وضم الثانية على الفاعلية، وتكون فيها إن مخففة من الثقيلة ايضا، واللام للتوكيد. وقرىء بفتح اللامين على لغة من فتح لام كي وهي شاذة. هذا، وما حكي عن علي كرم الله وجهه بأن هذه الآية نزلت في النمروذ لأنه اتخذ أربعة أنسر وشدّ عليهن تابوتا وطرن به إلى السماء ليرى إله إبراهيم عليه السلام، وجعل لحما في خشبات بأعلى التابوت لتراها النسور فتطير إليه لتأكله فتحمل التابوت بسبب ذلك وترتفع به نحو العلو، وبهذه الصورة تمكن من الطيران مع صاحب له، وصار كلما ارتفع سأل صاحبه فيخبره أن السماء كهيأتها والأرض كذلك، ولا زال حتى خبره أن الأرض صارت عبارة عن ظلمة، وصارت الريح بينه وبين الارتفاع، والسماء كهيئتها لم يحس بقرب ما منها، قالوا ونودي أيها الطاغي إلى أين تريد، ثم صار يرمي بقوسه إلى السماء حتى افتتن ورجعت النبل ملطخة بالدم، فلما رأى ذلك قال كفيت رب السماء، فحول الخشبات التي عليها اللحم ونكسها لجهة الأرض، فهبطت النسور لتناوله، ولا زالت تهبط به حتى وصل الأرض بسلامة. قالوا فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور فظنت حدوث أمر في السماء، ففزعت وخافت وكادت تزول عن أماكنها من شدة الهلع فهو حكاية مستبعدة، لا يكاد يصدقها العقل ولا يسلم لها

الضمير، ولو قيل إنها نقلت عن ابن جبير والسدّي ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم، كما لا يرتاح الوجدان بتسليم نقلها عن علي كرم الله وجهه، ولا مناسبة بينها وبين هذه الآية، وما هو بالخبر الذي يعتمد عليه، وقال بعضهم إن الفاعل لهذا هو بختنصر. وكذلك ما قيل إن امرأة اتهمها زوجها وكلفها أن تحلف على جبل مشهور لديهم أن من حلف عليه كاذبا مات، وأنها بعد أن اتفقت مع صاحبها بأن ينتظرها بمكان على الطريق وأفقت زوجها على الحلف وذهبت معه، حتى إذا وصلت إلى المحل الذي فيه صاحبها رمت نفسها وأظهرت سوءتها له، فأركها زوجها وذلك الرجل حتى إذا وصلت إلى الجبل حلفت بأنه لم يمسها أحد إلا زوجها وذلك الرجل، مكرا منها، ونزلت من الجبل سالمة، لأن كلمة مسّها أرادت بها الفعل وأظهرت لزوجها أنه اللمس بسبب إركابه لها واطلاعه على سوءتها حين رمت نفسها، قالوا ومنذ ذلك اليوم اندك الجبل بسبب مكرها الذي مكرته على زوجها الذي لا يعلم ما دبرت له، قالوا وإن المرأة من عدنان، فهذه وأمثالها قصص لا عبرة بها، ولا وثوق بصحتها، لهذا فإن الأخذ بها لا يجوز، والأجدر حمل الآية على ما ذكرناه في تفسيرها بصورة عامة يندمج فيها كل كافر ما كر مجترئ على مناوأة الله تعالى ومبارزته، فتكون الآية من قبيل قوله تعالى (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) الآية 90 من سورة مريم في ج 1. قال تعالى «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ» بإعلاء كلمتهم ونصرتهم وإهلاك عدوهم «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب مكر الماكرين «ذُو انتِقامٍ» 47 عظيم من أعدائه المكذبين لأوليائه، واذكر يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» المعهودة ذات الجبال والوديان والبحار والأشجار. والعيون والنبات حتى تظنها أيها الرائي لها غير أرضك التي تعرفها ونشأت عليها في الدنيا لخلوها من جميع ذلك، كما قال تعالى (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الآية 107 من سورة طه في ج 1 «وَالسَّماواتُ» ذات الكواكب والشموس والأقمار المعهودة التي عشت تحت ظلها تبدل أيضا بما يبدعه الله تعالى حتى لا تشك بأنها غير السموات الأولى لخلوها مما كان فيها من الثريا والميزان والمجرة وغيرها،

روي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة (هو الطلمه أي الرغيف الثخين العظيم الذي يعملونه فيخبزونه على الملّة وكانت العرب قديما تعمله، ويوجد الآن من عشائر الجبور في الجزيرة آل محمد آمين يعملونه، وان الرغيف منه يكفي الجماعة ويضعون عليه السمن والسكر، ومنه ما يكفي الأربعين وأكثر بارك الله في الكرام) يوم القيامة يتكفأها الجبار بيده، (أي يميلها من يد إلى يد كالرقاقة) كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة. - أخرجاه في الصحيحين-. وروي عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) إلخ فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال على الصراط- أخرجه مسلم-. ولا تنافي بين هذه الآية وآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) من سورة الزلزلة في ج 1 لإمكان الجمع بينهما، وهو أن الأرض تتبدل صفتها مع بقاء ذاتها، فيضع الله تعالى بها قوة النطق، فتحدث بإذنه تعالى بكل ما وقع عليها، ثم تبدل ذاتها بغيرها، وما ذلك على الله بعزيز، وأنشد بالمعنى: اما الديار فإنها كديارهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها ومن هذا القبيل قوله: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعلم «وَبَرَزُوا» الموتى من قبورهم متوجهين «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» 48 ليتمثلوا أمامه بالموقف للحساب «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ» بعضهم ببعض «فِي الْأَصْفادِ» 49 القيود والسلاسل والأغلال «سَرابِيلُهُمْ» لباسهم «مِنْ قَطِرانٍ» هو ما تدهن به الإبل الجربة مستخرج من شجر مخصوص بإشعال النار تحت وسطه، فيسيل من طرفيه، وأكثر ما يكون شمالي حلب بمنطقة الا كبس وغيرها. وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن إلا في سورة ص الآية 38 في ج 1، وكلمة سرابيل كذلك لم تكرر إلا في سورة النحل المارة في الآية 80، والقطران يشبه الزفت ورائحته كالنفط، وقد يستخرج من شجر الأبهل والعرعر والتوت أيضا، وقد حذرهم الله تعالى مما يعرفون مبالغة في الاشتعال، وإلا فعنده أشياء لمبالغة

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 51 إلى 52]

الاحتراق أعظم وأعظم من هذه لا نعرفها أجارنا الله منها. وإذا نظرتم أيها الناس الى هذه المتفجرات التي أحدثت في الحروب واستعملت لإهلاك الناس فدمرت الحرث النسل وهي من عمل البشر فما بالكم بما هو من خلق الله الذي أتقن كل شيء؟ علموا أن هؤلاء الكفرة بعد أن يلبسوا ثياب القطران يزجّون في جهنم «وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» 50 خص الوجه لأنه أعزّ موضع في ظاهر البدن كالقلب في عنه، ولذلك قال تعالى في سورة الهمزة في ج 1 (تطلع على الأفئدة) وإلا تعلو الرأس برماح كثيرة، وكل ما ذكره الله تعالى إنما هو على قدر ما يعقله سر، وإلّا أفظع وأعظم، وإنما ذكرها كالمثل بالنسبة لما تعرفه كما مثل بالمشكاة، وأين المشكاة من نوره المقدس، وكذلك ما ذكره لنا من وصف؟؟ ونعيمها فهو لا يقاس بما عندنا «لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» الدنيا لا يظلمها وينقصها «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» 51 يحاسب الخلق كلهم، واحد محاسبة رجل واحد بالنسبة لنا، وإلا فهو أقل من ذلك «هذا» ؟؟ لما ذكر من قوله فلا تحسبنّ إلى هنا «بَلاغٌ» إخطار وإنذار من الله؟؟ إلى خلقه ليتعظوا به ويتدبروا عاقبة أمرهم فيقلعوا عما هم عليه مما لا يرضاه الله يزيدوا مما يرضاه، وهو كاف للتذكير وللتحذير والتيقظ «لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» بعدهم ومن معهم فيخوفوهم ويهددوهم «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ» الإله المعبود، القادر على ذلك كله المحيي الميت هو «إِلهٌ واحِدٌ» لا شريك له ولا شبيه مثيل ولا ند ولا ضد ولا معاون ولا وزير، المنفرد بالأمر بلا ممانع ولا الأرض «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» 52 الصحيحة والعقول السليمة في هذا؟؟ الإلهي الذي هو عبر وعظات وذكرى ما وراءها وراء ليعظوا بها ويتعظوا، يرشدوا ويرشدوا. واعلم أن هذه الجملة لم تختم بها غير هذه السورة، بما يدل أنها أكبر عظة لمن يتذكر. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه واتباعه أن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الأنبياء عدد 23 و 73 - 21

تفسير سورة الأنبياء عدد 23 و 73- 21 نزلت بمكة بعد سورة إبراهيم. وهي مئة واثنتا عشرة آية، وألف وثمنمئة وثمانية وستون كلمة، وأربعة آلاف وثمنمئة وتسعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» على ما عملوه في الدنيا، لأن القرب إما زماني، وإما مكاني، وكونه مكانيا يتعذر هنا. فلزم أن يكون زمانيّا، ولا يقال إنه مرّ عليه ما يقرب من أربعة عشر قرنا ولم يأت لأن يوما عند ربك كألف سنة مما نعدّه، والمراد أن وقت الحساب صار قريبا، ولذلك عبر بالماضي لتحقق وقوعه وقربه وقلة ما بقي بالنسبة لما مضى، لأن كل آت قريب. والبعيد ما وقع ومضى. وقيل في المعنى: فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس ومناسبة هذه السورة لما قبلها ظاهرة، إذ ما بعد الإنذار بالجزاء إلا الوقوع. وقد أخبر الله تعالى بقربه ليتيقظ المسيء ويتعظ، ويكثر المحسن ويستزيد من إحسانه، وليكون كل منهما بحالة أدعى للتأهب، وليتنبه الغافل من رقدته، ويتذكر الناس أجمع ويسرعوا بالإقلاع عن المعاصي والإقدام على الطاعات، ولكن مع الأسف لا يتذكرون «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» 1 عن الاستعداد لما يراد بهم في ذلك اليوم، لا هون عنه، غارقون في بحر النسيان، وتراهم يا سيد الرسل «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» إنزاله أي ما يحدث الله تعالى من تنزيل القرآن شيئا فشيئا، ليذكرهم به تدريجا، ويعظهم أولا فأولا ليتشوقوا إليه ويعره ويعقلوه «إِلَّا اسْتَمَعُوهُ» منك «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» 2 فيسخرون به ويستهزئون عند سماعه «لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» عنه ساهية أفئدتهم عن معناه كأنه لم ينزل لخيرهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» فيما بينهم بالباطل عند سماعه. وأعلم أن الضمير في أسروا صرف دال على الجمع فقط لأن فاعله «الَّذِينَ» وصلته جملة «ظَلَمُوا» ومن هنا صحت لغة أكلوني البراغيث، ثم بين هذه النّجوى التي بالغوا في إخفائها بينهم بقوله جل قوله «هَلْ هذا» الذي يدعي رسالة الله ويأمركم

مطلب وصف الكفرة كلام الله والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون:

باتباعه وإبطال دين آبائكم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أيها الناس ليس بملك ولا إله وإنما بسحركم بما أوتي من بلاغة في المعنى وفصاحة في القول «أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ» بمطلق ادعائه الرسالة وتقبلون قوله بمجرد أن قال لكم إن الذي أتلوه عليكم من الله «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» 3 بأم أعينكم أنه بشر مثلكم وتعقلون ببصائركم أن ما يأتيكم به سحر، قل يا أكمل الرسل لهؤلاء الكفرة الذين يحوكون لك الدسائس فيما بينهم، ويظنون أنا لا نطلعك على حقيقة أمرهم، والقراءة التي عليها المصاحف «قالَ» لهم جوابا لما تناجوا به «رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ» قليله وكثيره، وخفيه وظاهره، من كل ما وقع أو يقع «فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» فكيف تناجون فيّ ولا يطلعني على نجواكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لكل ما يقع في أرضه وسمائه مهما رق ودق «الْعَلِيمُ» 3 به سره وجهره وما تضمرونه إليّ في أي مكان وزمان كان لا يخفى عليه شيء. مطلب وصف الكفرة كلام الله والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون: واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء الكفرة لم يكتفوا بقولهم لك ساحر والقرآن سحر «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أباطيل رآها في نومه، ثم انتقلوا إلى ما هو أفظع فقالوا «بَلِ افْتَراهُ» اختلقه من نفسه، ثم أضربوا فقالوا «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وذلك أن الكفرة تضاربت آراؤهم وتنافت أقوالهم إذ اختلفوا في وصف محمد وما يتلوه عليهم على ثمانية أقوال: 1- منهم من قال إن ما يأتي به من أساطير الأولين وهو ناقل لها، 2- ومنهم من قال يتعلم من الغير ويتلوه عليكم، 3- ومنهم من قال القرآن كهانة ومحمد كاهن، 4- ومنهم من قال إنه سحر وهو ساحر 5- ومنهم من قال إنه شعر وهو شاعر، 6- ومنهم من قال إنه نثر مسجع وهو ألفه، 7- ومنهم من قال اختلقه من نفسه وهو مختلق مبتدع، 8- ومنهم من قال أباطيل نوم يراعا وينسبها إلى الله. قاتلهم الله وعذبهم في أصناف ناره وحرمهم من أنواع جنته، وقد كذبوا كلهم فيما تقولوه ولمّا عرفوا أنهم لم يصيبوا الهدف تحدوه فقالوا «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ» من لدن ربه تدل على صحة دعواه «كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» 5 بالآيات مثل موسى وعيسى ومن قبلها، ومن هنا يفهم أن ما قاله بعضهم إن المراد

بالذكر المحدث في الآية الثانية المارة هو قول الرسول. قول لا قيمة له ولا يستند إلى قول بل المراد ما ذكرناه في تفسيرها لا غير والله أعلم. قال تعالى رادا عليهم قولهم ومجيبا عن نبيه صلّى الله عليه وسلم «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» من الأمم السالفة الذين اقترحوا الآيات على أنبيائهم لأنهم كذبوا بها بعد نزولها فأهلكناهم «أَفَهُمْ» قومك هؤلاء العريقون في الكفر إذا أنزلنا عليهم آية «يُؤْمِنُونَ» 6 كلا لا يؤمنون ولو آتيناهم كل آية، وهذا من إطلاق الكل وإرادة الجزء لأن منهم من آمن ومنهم من أصر فالمخبر عنهم بعدم الإيمان هم المصرّون على كفرهم وقال تعالى في معرض الرد عليهم أيضا «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» مثلك فكيف يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» جمع الضمير للتعظيم وسببه افتضاء المقام لتعظيمه أمام قومه، أي اسأل يا محمد علماء أهل الكتابين الذين سألهم قومك بماذا يختبرونك وقالوا لهم سلوه عن أهل الكهف وذي القرنين والروح، كما تقدم في الآية 9 من سورة الكهف المارة، فقل لمثل هؤلاء هل أرسل الله للأولين ملائكة كما يزعمون فإنهم يجيبونك حتما بأن الله لم يرسل إلى البشر إلا بشرا مثلهم «إِنْ كُنْتُمْ» يا رسولنا «لا تَعْلَمُونَ» 7 ذلك راجع نظيره هذه الآية الآية 47 من سورة النحل المارة بزيادة لفظ من فقط «وَما جَعَلْناهُمْ» أي الرسل قبلك يا حبيبي «جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ» حتى يقولوا (ما لهذا الرسول يأكل الطعام) الآيتين 8/ 20 من الفرقان في ج 1، وجاءت هذه الآية بمعرض الرد لهذا القول لأنهم لا زالوا يترنمون بهذه الأباطيل وينكرون ما تنلوه عليهم بقولهم المجرد إذ لا حجة لهم ولا برهان على إبطاله لذلك تراهم يتمسكون بهذه الأقاويل الفارغة ويكررونها «وَما كانُوا خالِدِينَ» 8 في الدنيا بل يموتون كغيرهم وما أنت إلا مثلهم تموت أيضا فلا محل لا نتقادك بذلك «ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ» بنصرهم وإهلاك أعدائهم في الدنيا أما الأنبياء إخوانك «فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ» من أتباعهم الصادقين «وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» 9 بالمعاصي والتعدي على الغير هلاك استئصال، قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» عظيما جليلا يا معشر قريش على أشرف رجل منكم وهذا سفر خطير «فِيهِ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 20]

ذِكْرُكُمْ» شرفكم بين الأمم وشرعكم الشامل لهم ودينكم الذي تدينون فيه فهو أكبر النعم عليكم إذ جاء بلسانكم فلكم فيه الفخر على غيركم «أَفَلا تَعْقِلُونَ» 10 هذه النعم العظيمة وتعضوا عليها بالنواجذ وتعملوا بكتابكم هذا فتحلّوا حلاله وتحرموا حرامه «وَكَمْ قَصَمْنا» قصفنا والقصم الكسر مع تفريق الأجزاء وإذهاب التئامها، والمعنى أنا عجلنا عقوبتهم لاشتداد غضبنا عليهم ولم نمهلهم لشدة إصرارهم، وقد جرت سنتنا أن لا نمهل ظالما «مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» مصرة بل دككناها بما فيها وما عليها «وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» 11 فأسكناهم فيها بدلهم فتبعوا أثرهم بالفسق والطغيان قال: ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى ... وعرّج على الباقي وسائله لم بقي قال تعالى «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» عذابنا وشاهدوه بحاسة بصرهم بعد أن أنذرناهم وحذرناهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» 12، هربا من القرية كي لا يصل إليهم العذاب الذي رأوه أظلهم فقيل لهم «لا تَرْكُضُوا» يا قوم فليس بنافع جري إذا جاء القضاء بالعذاب وقد مر في الآية 13 من سورة ص في ج 1 أن الركض ضرب الأرض بالرجل أي بعقبها وجاء هنا بمعنى الجري على اللغة الدارجة لأن القرآن العظيم جاء فيه من كافة اللغات مما هو أحسنها «وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» من التنعم بالعيش والترف في اللباس والترفه في السكنى «وَمَساكِنِكُمْ» التي زخرفتموها في الدنيا أي تقول لهم الملائكة ذلك على طريق الاستهزاء والسخرية بهم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» 13 من قبل الغير عما جرى بكم من العذاب وعن السبب الذي أوقعكم فيه فتجزون به، قيل نزلت هذه في أهل (حصوه) قرية باليمن كان أهلها عربا حينما قتلوا نبيهم بعد أن كذبوه فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم فصاروا يهربون منهم فأدركوهم وقد أخذتهم السيوف ونادى مناد من جو السماء بالثارات الأنبياء، ولما لم يروا بدا اعترفوا و «قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» 14 بتكذيب الرسل وقتلهم ولكن لم ينفعهم الندم بعد نزول العذاب «فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ» أي قولهم يا ويلنا وهم يقتلون ويذبحون متوالية «حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً» كالزرع المحصود

«خامِدِينَ» 15 لا حراك بهم، وفي هذه الآية تحذير لأهل مكة وتخويف عظيم وتهديد شديد بأنهم إذا لم يرجعوا عن غيهم يكون مصيرهم مثل مصيرهم، قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما» وما فيهما من العجائب والبدائع «لاعِبِينَ» 16 لأن اللعب يروق ساعة أوله ولا ثبات له وإنما خلقناهما لفوائد كثيرة همها الاستطلاع على قدرتنا والتبصّر في باهر حكمتنا وأرسلنا الأنبياء ليكفروا الخلق فيها وإلا لما كان من حاجة لإرسالهم لو كان خلقها لمجرد اللهو، ثم نزّه ذاته المقدسة فقال «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً» نلهو به من امرأة أو ولد أو خدم أو جنات أو أموال وأنعام «لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا» في الجنة من الحور والولدان لا من عندكم ولكنا لم نتخذ «إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» 17 ما تنفوهون به وهذا ممتنع علينا لغنانا عنه واحتياج الكل إلينا، فالولد والزوجة لا يكونان إلا عند الأب والزوج لا يكونان عند غيره، وقال بعض المفسرين ان (إن) هنا نافيه أي (ما كنا فاعلين) وعليه يكون الوقف على (لدنا) لا على (فاعلين) والأول أي اعتبار إن شرطية محذوفة الجواب الدال عليه ما قبلها وهو (لا تخذناه) أولى بسبك العبارة والثاني أبلغ في النفي فقط تأمل، وفي هذه الآية رد وتقريع على من ينسب له تعالى الصاحبة والولد تبرأت ذاته المقدسة عنهما، ولذلك بقول بعض النصارى إن مريم صاحبة لله وعيسى ابنه، واليهود يقولون إن عزيزا ابنه، والعرب تقول الملائكة بناته، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا أي لكنا لنا ممن يفعل ذلك لاستحالته في حقنا، وإنما نفى اللهو جل جلاله عنه لأنه نقص وهو مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب منه وهذا ليس من قبيل الوجوب عليه بل القول بالوجوب عنه وهو واجب علينا، ومن أنكر أن اللعب نقص كالكذب فقد كابر، ولا داعي لمن قال إن اللهو يراد به الجماع ويكنّى عنه به وعن المرأة واستشهد بقول امرئ القيس: الا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي إذ لا حاجة لقلب الحقيقة إلى المجاز دون صارف. ثم أضرب جلّ اضرابه فقال «بَلْ نَقْذِفُ» نرمي ونطرح «بِالْحَقِّ» القرآن والإيمان به «عَلَى الْباطِلِ»

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 إلى 30]

الكفر والشرك «فَيَدْمَغُهُ» يمحقه ويدمره «فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» مضمحل مدحوض ذاهب لا أثر له، وقال بعض المفسرين المراد بالحق هنا الجد وبالباطل اللهو لأن الآية هذه مسوقة لما قبلها، وهو وجيه لولا الإضراب الموجود لأنه ينافي كونها مسوقة لما قبلها بل يفيد الانتقال عنها لمعنى آخر لأن الاضراب لا يأتي إلا لمغزى غير مغزى ما قبله وهو ما ذكرناه والله أعلم «وَلَكُمُ الْوَيْلُ» أيها الكفرة والهلاك «مِمَّا تَصِفُونَ» 18 الحضرة الإلهية مما لا يليق بها، قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ» من الملائكة إنما خصهم بالذكر مع أنهم داخلون في معنى من اعتناء بهم، لأنهم لا شغل لهم إلا التقديس والتنزيه لحضرته الكريمة يدل عليه قوله «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» 19 لا يعيون ولا يكلّون «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» بلا انقطاع «لا يَفْتُرُونَ» 20 عن تعظيمه وتكبيره وتسبيحه لأنه جار منهم مجرى التنفس من بني آدم فلا يلحقهم فيه سامة ولا تعب بل يتلذذون به ولا يمنعهم عن التكلم بغيره كما لا يمنع ابن آدم النفس عن الكلام فلا يرد عليه قول القائل إن من الملائكة من هو مشغول بتبليغ الرسل ومنهم من هو موكل بلعن الكفرة ومنهم من هو مشغول بتقليب الرياح وغير ذلك. مطلب برهان التمانع ومعنى فساد السموات والأرض وما يتعلق بهما: قال تعالى يا أكمل الرسل قل لهؤلاء الذين يزبتون لخلقي عبادة غيري أتتخذوا إلها من السماء كلا إذ لا إله غيري «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ» من أحجارها وأخشابها ومعادنها لأن الأصنام تعمل منها أو من بعضها ولا إله فيها ولمن فيها غيري وهل ما اتخذوه «هُمْ» أي الآلهة المتخذة من صنع أيديهم «يُنْشِرُونَ» 21 يحيون الموتى مثلي، كلا لا يقدرون على ذلك ولا يستحق العبادة إلا من يقدر على الإحياء والإماتة والإيجاد من العدم إلى الوجود ولا قادر على هذا غيري فأنا المستحق للعبادة وحدي، وأنت يا سيد الرسل قل لهم «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» أي السموات والأرض وإذا فسدتا فسد من فيهما وما بينهما، لأن كل أمر يصدر عن اثنين لم يجر على انتظام بل يفضي إلى المحال، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا

لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد أن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل منهما قادرا على إماتة زيد مثلا وإحيائه فإذا أراد أحدهما إماتته وأراد الآخر إحياءه أي إبقاءه حيا فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال أيضا لأن المانع من وجود مراد كل منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، فلو امتنعا معا لوجدا معا وذلك محال أيضا، أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك أيضا محال لأمرين: الأول لو كان كل واحد منهما قادرا على مالا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا بالقدرة، فإذا استويا فيها استحال أن يكون مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الآخر النّافي له وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح، الثاني إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده كان قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص والنقص يستحيل وجوده مع الإله. ولو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور واحد من قادرين اثنين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا فيلزم استغناؤه عنهما واحتياجه لهما معا وذلك محال، وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد. قال تعالى (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية 91 من المؤمنين الآتية، وهذه وحدها كافية للاستدلال على عدم وجود إله غير الله الواحد لمن كان له قلب حي أو ألقى السمع الواعي، وسيأتي تمام البحث في هذه عند تفسير هذه الآية، قال الإمام فخر الدين الرازي: القول بوجود إلهين يفضي الى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا. أو تقول لو قدرنا وجود إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على الشيء الواحد فيكون مقدورا لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقعا أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال، فثبت أن الفساد

لازم على كل التقديرات. وأعلم رعاك الله ووفقك لهداه وأرشدك لمرماك إنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلائل عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات، والكائنات دليل على وحدانية الله تعالى عقلا، ولهذا وجبت معرفة الله تعالى بالعقل فضلا عن النقل، فكل من وهيه الله عقلا كاملا ولم يعترف بوجوب وجود الإله الواحد فهو كافر، ولهذا أول بعض المفسرين قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية 15 من الإسراء في ج 1، بأن الرسول هنا معناه العقل ولكنا فئدنا هذا القول في تفسير هذه الآية فراجعها، وذلك لأن الدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن والسنة غنية عن البيان لأن القرآن كله طافح بها وأقوال المصطفى صائحة فيها، ومن قال إن معنى هذه الآية التي اشتهرت ببرهان التمانع لو كان في السماء والأرض آهة كما يقول عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير شيء مما في هذا العالم فيلزم فساده غفل عن قوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) الآية المتقدمة لا الآتية بأنها مسوقة للزجر عن عبادة الأوثان وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك. وبعد هذا الزجر أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحدا، تنبه، ولهذا نزه نفسه المقدسة بقوله «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» 22 من الشرك والولد والصاحبة والمثيل وغيرها «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» في كونه لأنه متفرد فيه «وَهُمْ يُسْئَلُونَ» 23 ما عداه من جميع الكائنات عما يقع منهم وهذا مما لا ريب فيه لأنا نرى بعض ملوك الأرض لا تسأل عما تفعل لأنهم نصوا في دستورهم المطبق على رعاياهم (ذات السلطان مقدسة وغير مسئولة) فكيف بملك الملوك حقيقة في الدنيا والآخرة لا مجارا ولا في الدنيا فقط. قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» استفهام إنكاري وتوبيخ للمشركين لأنه لمّا أبطل كون آلهة غيره بما مر أنكر عليهم اتخاذهم آلهة غيره فقال (أم اتخذوا) إلخ، وكلفهم الحجة على زعمهم فقال يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على وجود إله غير الله وإذا كنتم تحتجون بالكتب القديمة فهو كذب لأن «هذا» القرآن المنزل عليّ فيه «ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ» من أصحابي

الموجودين في هذه الدنيا «وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» من الأمم السالفة ومعاني ما أنزل على إخواني الأنبياء من الكتب والصحف موجودة فيه أيضا، لأنه يحتوي على جميع الكتب السماوية المتعلقة بالتوحيد ولا يوجد فيه ما تزعمون، وها هي ذي الكتب الأخرى التوراة والإنجيل والزبور أنظروها هل تجدون فيها شيئا مما يدل على أن الله اتخذ ولدا أو صاحبة أو كان معه إله آخر؟ كلا لا تجدون شيئا من ذلك البتة «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ» المنزل عليك من عندنا «فَهُمْ» لعدم معرفتهم وجهلهم «مُعْرِضُونَ» 24 عن النظر والاستدلال فيما لهم وعليهم. قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» 25 وحدي وهذا تقرير لما سبق من آي التوحيد لأن هذه الآية تشير إلى أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء ولرسل كافة بأنه لا إله في الكون غيره وأن يعبده من فيه وحده، فكل ما يقال بخلاف هذا كذب محض وبهت مفترى، ثم طفق يندّد بصنيعهم الفاسد فقال «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» أول من قال هذا من العرب خزاعة ثم قلدهم غيرهم «سُبْحانَهُ» تبرأ عن ذلك «بَلْ» هم الملائكة الذين يزعمونهم بنات الله «عِبادٌ مُكْرَمُونَ» 26 عنده لاستغراقهم بعبادته وأدبهم معه «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ» فيستقدمون به عليه بل يتبعونه ويقنفون أثر كلامه الجليل «وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» 27 لا يخالفونه قيد شعرة ولا أقل منها قولا ولا عملا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من الأفعال والأقوال التي وقعت منهم أو لم تقع في الحال أو التي ستقع بعد لا يخفى عليه شيء من أمر غيرهم «وَلا يَشْفَعُونَ» لأحد كما يزعم من عبدهم وكذلك بقية الملائكة وجميع الرسل والأنبياء والأولياء «إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» الله الشفاعة له ورضي عنه وأذن لهم أن يشفعوا لمن يشاء، راجع الآية 55 من البقرة في ج 3 والآية الثانية من سورة يونس المارة والآية 23 من سورة سبأ المارة وما تدلك عليه «وَهُمْ» كغيرهم من العباد العارفين مقام الألوهية الحقة كذلك تراهم «مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» 28 وجلون دائما لا يأمنون على أنفسهم منه لأن من قرب من الملك وعرف عظمته وبطشه صار أكثر الناس خوفا منه، وجاء في

الخبر: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون هلكى إلا العارفون، والعارفون على خطر عظيم. ثم شرع يهددهم، يا ويل من أغضب الجبار القائل «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ» أي الملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم فضلا عن الرعاع والجماد فأي كان من مخلوقاته جزؤ فقال «إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ» وناهيك بها من جزاء شديد «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع «نَجْزِي الظَّالِمِينَ» 29 الذين وضعوا مقام الإلهية بغير موضعها. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً» شيئا واحدا ملتصقتين ببعضهما «فَفَتَقْناهُما» عن بعضهما وخللنا الهواء بينهما فجعلنا هيكلا علويا على حدة وهيكلا سفليا، والمراد من السموات طائفتها ولهذا ثني الضمير ولم يجمع ومثل هذا قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية 42 من سورة فاطر في ج 1، وعليه قول الأسود بن يعفر: إن المنية والحتوف كلاهما ... دون المحارم يرقبان سواري وقد أفرد الخبر وهو رتقا لأنه مصدر وأصل الرتق الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة، ومنه الرتقاء من كانت ملتحمة محل الجماع، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في سورة فاطر المذكورة وله صلة في الآية 66 من سورة الحج في ج 3 فراجعهما، «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» من حيوان ونبات إذ يدخل في معنى شيء النبات والشجر لأن الماء سبب حياتهما وحياة كل شيء، وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) الآية 45 من سورة النور في ج 3، فيدخل في معنى دابة الإنسان لأن لفظ دابة موضوع لكل ما دب على وجه الأرض، وخرج هذا مخرج الأغلب لأن آدم وحواء وعيسى والملائكة والجن لم يخلقوا من الماء كما ذكرنا ذلك عند ذكر كل منهم «أَفَلا يُؤْمِنُونَ» 30 هؤلاء الكفار بألوهية من يفعل ذلك، وهذه الآية من معجزات القرآن العظيم لأنه لم يكن في مكة ولا في العالم زمن نزول القرآن من يعرف أن الموجودات كانت كتلة واحدة، ثم فتقت فتكونت منها السموات ثم الأرض ثم المخلوقات، ولا من يعلم أن أصل كل الموجودات الماء ولم يعرف أحد شيئا من هذا إلا بالعصور الأخيرة، راجع الآية 7 من سورة

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 31 إلى 40]

هود المارة. قال تعالى «وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ» لأنها كانت تتحرك بالهواء كالسفينة في الماء، فأثقلها الله تعالى بالجبال الثوابت، وفيها إشارة إلى ما يعبّر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة، لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض، راجع الآية 22 من سورة الحجر المارة «وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً» طرقا واسعة بين الجبال «سُبُلًا» تفسير للفجاج أي طرق سهلة «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» 31 بها إلى مقاصدهم من البلاد والقرى والبوادي إذا سلكوها، والفرق بين هذه الآية وقوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) الآية 20 من سورة نوح المارة، أن هذه للإعلام بأنه جعل فيها طرفا واسعة، وتلك لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الحالة والصفة، فهو بيان لما أنهم «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً» من البلى والسقوط والتغير على مدى الدهر المقدر لها، قال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية 65 من سورة الحج في ج 3، والآية 42 من سورة فاطر في ج 1، «وَهُمْ» الكفار «عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» 32 لا يتفكرون بما فيها من الشموس والأقمار والكواكب والنجوم وحركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها وترتيبها العجيب الدال على الحكمة الباهرة والنظام البديع المنبئ عن كمال القدرة القاهرة. مطلب في الأفلاك وما يتعلق بها، وبحث في الشماتة، وما قيل في وزن الأعمال والإخبار بالغيب: قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» للضياء ونضج الأثمار ومنافع أخرى كثيرة ألمعنا إليها في الآية 15 من سورة يونس المارة «كُلٌّ» من هؤلاء «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» 23 يجرون في الهواء بصورة بديعة لا يعتريها الزيغ، راجع الآية 40 من سورة يس في ج 1 والآية 15 من سورة الحجر المارة. على أن العالم الألماني أنشتين اليهودي صاحب النظرية النسبية التي تقوم على معاكسة جميع الافتراضات القديمة في الفلك والحساب يقول: إن كل الحقائق التي أقرها العلم حتى الآن ما هي إلا بالنسبة لفرضيات افترضوها مما خيل لهم أنها حقائق وليست كذلك، وان الأرض يوشك

أن لا تكون كروية ولا دائرة حول الشمس، خلافا لما أقره الأكثر على القول بكرويتها، وقال ابن كثير من علماء الإسلام وهو لا ينافي القرآن كما بينا في السورة المارة الذكر، أما القول بدورانها حول الشمس فهو بعيد عن رأي المحققين، وهو يخالف صراحة القرآن لفظا، والله أعلم بالواقع، وما ندري لعل الزمن يظهر مفكرين آخرين يؤيدون نظرية هذا اليهودي، والله تعالى يقول (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية 76 من سورة يوسف المارة. هذا، والفلك هو مدار النجوم الذي يضمها، وهو عرفا كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، والأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة ولا تقبل الخرق والالتئام ولا النموّ ولا الذبول، ولا يعرف كنه أفلاك الله إلا هو أعلمنا بوجودها كما لا يعلم مدى خرابها غيره، وكما أعلمنا بخرابها في قوله جلّ قوله (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) وفي قوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وقوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) وآيات أخرى كثيرة تدل على ذلك. قال تعالى «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» في الدنيا «أَفَإِنْ مِتَّ» يا سيد الرسل «فَهُمُ الْخالِدُونَ» 34 بعدك؟ كلا، فإنهم ميتون لا يبقى منهم أحد، نزلت هذه الآية حين قال المشركون إنا نتربص بمحمد ريب المنون، فنشمت بموته، فنغى الله تعالى الشماتة عنه في هذه الآية القاضية بعدم تخليد أحد في هذه الدنيا، قال ذو الإصبع العدواني: إذا ما الدهر جرّ على أناس ... كلا كله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشّامتون كما لقينا على أنه لا شماتة في الموت، لأنه محتوم على كل أحد، وتكون بغيره من المصائب، وإن كانت مقدرة لأنها على أناس دون آخرين، قال الشافعي رضي الله عنه: تمنّى أناس أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل الذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها وكأن قد وإنما قالوا الموت لا شماتة فيه لأنه لا علاقة للعبد فيه، حتى ان المقتول يموت بأجله، وإنما الشماتة التي تقع على الغير بفعل الغير، ومن قال: من عاش بعد عدوه ... يوما فقد بلغ المنى

بالنظر لظاهر الأمر، لأن فيه غياب عدوه عن نظره، فمن هذه الجهة يصدق قوله هذا، ومن قال إن هذه الآية تنفي حياة عيسى والخضر وإدريس والياس وغيرهم، وتثبت موتهم فقد أخطأ، لأن عيسى حي بنص القرآن والأحاديث الصحيحة، والخضر بالأحاديث والتواتر، وأنهما لا بد أن يموتا، راجع الآية 61 من سورة الزخرف في ج 2 وما ترشدك إليه، والآية 57 من سورة مريم المارة في ج 1 تغىء عن رفع إدريس، ووردت أخبار وآثار بحق الياس، راجع الآية 132 المارة من سورة الصافات والآية 85 الآتية، على أنه لا بد من موت الكل بقوله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» والذوق مقدمات الموت وآلامه لأنه به ينقطع ذلك، ويفيد سور الكلية العامة موت كل نفس، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الآية 116 من المائدة في ج 3، لأن الله تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت، فكما أنه تعالى لا يشبه شيئا من خلقه فكذلك نفسه الكريمة لا تشبه نفوس خلقه، وبعضهم جعل الخصوص أيضا في الجمادات، لأن لها نفوسا لا تموت، هذا والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وهذا يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت، بل تموت أيضا وتدخل في عموم هذه الآية إذا كان لما قالوه من صحة «وَنَبْلُوكُمْ» نختبركم أيها الناس «بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه، أي لننظر كيف شكركم على ما تحبون وصبركم فيما تكرهون «وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» 35 فنجازيكم بحسبها «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يا سيد الرسل «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً» كأبي جهل وجماعته من رءوس الكفر، لأنهم كانوا إذا مرّوا به صلّى الله عليه وسلم يضحكون ويقولون هذا نبي بني عبد مناف ويقول بعضهم لبعض «أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» أي يذمها، والذكر يطلق على المدح والذم «وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» 36 أي كيف يستهزئون بك إذ تستهزء بأصنامهم وهم أحق أن يستهزىء بهم، لأنك تعبد الخالق وهم يعبدون ما يخلقون، ونزلت فيهم هذه الآية. قال تعالى «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» العجلة طلب الشيء قبل

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 41 إلى 50]

أوانه، وهو من مقتضيات الشهوة، فلذلك صارت مذمومة حتى قيل العجلة من الشيطان، والقاعدة الشرعية: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، قال القائل: لا تعجلن لأمر أنت طالبه ... فقلما يدرك المطلوب ذو العجل فذو التأني مصيب في مقاصده ... وذو التعجل لا يخلو من الزلل فالإنسان لقلة صبره وفرط استعجاله جعل كأنه مخلوق من العجلة، لأنه يكثر منها، والعرب تقول لكثير الكرم خلق من الكرم «سَأُرِيكُمْ آياتِي» التي تطلبونها أيها الناس «فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» 37 نزولها وذلك أنهم كانوا يقولون لمحمد صلّى الله عليه وسلم هات ما توعدنا به من العذاب أدع ربك فلينزله علينا، فأجابهم الله بأنه لا بد من إنزاله بكم، ولكن لم يحن بعد أجله القدر له «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 38 في قولكم يا محمد ويكررون هذه المقالة له على طريق السّخرية والاستهزاء بوعده، وهذا هو الاستعجال المذموم الذي أوعدهم الله سوء عاقبته، راجع الآية 48 من سورة يونس المارة. قال تعالى «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» ما هو ذلك العذاب هو «حِينَ» يحل بهم «لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» 39 إذا حل بهم فلا يقدرون على ردّ شيء منه ولا تأخيره، وجواب لو محذوف تقديره لما كانوا طلبوا ولا استهزأوا ولعلموا أن جهلهم هو الذي أوقعهم في ذلك العذاب وحدا بهم إلى تلك المهالك. قال تعالى «بَلْ تَأْتِيهِمْ» الساعة المقدر فيها نزوله أو الموت «بَغْتَةً» على حين غرة فجأة «فَتَبْهَتُهُمْ» ويهولهم أمرها وتراهم حين تأتيهم حائرين «فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها» عنهم ولا الصبر عليها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 40 يمهلون ليتوبوا ويعتذروا كما أنهم لا ينصرون من قبل أحد. قال تعالى مسليا لحبيبه «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» كما استهزأ بك قومك «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» 41 من نزول العذاب فلم يحسوا إلا وقد نزل وأحاط بهم وكذلك قومك يا محمد إذا يقوا مصرين على تكذيبهم وسخريتهم يحيق بهم مثلهم، راجع نظيرة هذه الآية

الآية 134 من سورة الأنعام المارة لمناسبة غير هذه المناسبة «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك «مَنْ يَكْلَؤُكُمْ» يحرسكم إذا نمتم «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ» إذا انصرفتم فيه لمعاشكم «مِنَ الرَّحْمنِ» إذا أراد إبقاع عذابه بكم فيهما، وفي التعريض لعذاب الرحمن دون غيره من الأسماء المقدسة والصفات الطاهرة تنبيه على أنه لا حفيظ لهم غيره بمقتضى رحمته وتلقين للجواب ليقولوا رحمتك تحرسنا، ونظير هذه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية 7 من سورة الانفطار الآتية ليقول كرمك يا رب فإذا وفقوا يقولون هنا وهناك ولكن أنى لهم التوفيق وقد فات وقته إذ يقول الله «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» 42 فلا يخطر يبالهم لسابق شقائهم، فيا أكمل الرسل قل لمن يجادلك فيهم «أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا» إذا أردنا بهم شرا؟ كلا، آلهتهم التي يزعمونها «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ» فهم عن نصر غيرها عجز «وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» 43 بالنصر والتأييد ليخلفوا وإذا كانوا كذلك فلا محيص لهم من العذاب قال تعالى «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ» الكفرة «وَآباءَهُمْ» متعناهم أيضا في الدنيا فاغتروا بها ولهوا بنعيمها «حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» وهم في صحة وأمن وسعة فقست قلوبهم وظنوا أنهم خالدون فيها لا يغلبون عليها لفرط جهلهم أخذوا على غفلة «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ» التي هي تحت تصرف الكفار فنسلط عليها المؤمنين و «نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» فنسلبها منهم ونضمها للمؤمنين وهذا من الإخبار بالغيب، لأنه تقدير لما سيجريه الله تعالى لرسوله من النصر والفتوح في غزواته ومن بعده لأصحابه إذ تدخل عساكرهم أراضي المشركين عنوة أو صلحا غالبة ظافرة فنضمها إلى المسلمين فتكون في حوزتهم فإذا فعل بهم هذا «أَفَهُمُ الْغالِبُونَ» 44 أم نحن؟ كلا بل هم المغلوبون، والغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، راجع الآية 8 من سورة المنافقين في ج 3، وهذا الاستفهام إنكاري جوابه النفي، وكيف لا يكونون غالبين وهم حزب الله الذي لا زال غالبا من قبل للرسل وأتباعهم، فلأن يكون الغلب لخاتم الرسل وأتباعه من باب أولى. ولهذا البحث صلة في الآية 44 من سورة الرعد الآتية ج 3، وقد مرّ له بحث في

الآية 8 من سورة المؤمن والآية 75 من الصافات فراجعها. وفي هذه الآية إشارة إلى أن النقص الواقع بطرفي الأرض من جهة قطبيها الشمالي والجنوبي، وهو أيضا من الإخبار بالغيب، إذ لم يكن أحد في عهد نزول القرآن يعلم ذلك، صدق الله العظيم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام المارة، قيل كان ابن الجوزي يدرس في جامع دمشق في هذه الآية فقال له رجل هل في القرآن ما يدل على أن فأرة حملت عصا بذنبها وتريد أن تدخل جحرها معها؟ قال نعم في قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ... وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) الآية 25 من سورة النحل المارة، رحمه الله ما أدق فكره، راجع الآية المذكورة في سورة الأنعام المارة، والآية 23 في سورة الشورى المارتين «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» المنزل عليّ من ربي لا بما تتفوّهون به من السحر والشعر والكهانة وغيرها من الأمور الثمانية المارة من الآية 5 من هذه السورة «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» 45 يخوفون ولكنهم بمعزل عن السماع ولأنهم لا يسمعون مطلقا، وإنما قال بالوحي ليعلمهم أن إنذاره مقتصر على الإخبار الإلهي لا باقتراح الآيات لأنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية، ولأن الإيمان برهاني لا عياني. قال تعالى «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ» شيء قليل وطرف يسير كأدنى شيء «مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» 46 لأقروا على أنفسهم بالظلم حالا فكيف إذا أصابهم معظم العذاب أو صب عليهم كله يا ويل من لم يرجع إلى الله قبل أن لا يقبل منه الرجوع قال تعالى «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» فنزن بها أعمال الخلق فمن أحاطت حسناته بسيئاته فقد فاز ونجى ومن حاقت سيئاته بحسناته فقد خاب وخسر وإذ ذاك يظهر للكافرين قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) الآية 107 من سورة الكهف المارة، إذ لا أعمال لهم صالحة، وقرىء القصط بالصاد لأنه قد يحل محل السين كما أن السين نحل محله في الصراط راجع تفسيره في سورة الفاتحة في ج 1، واللام هنا في يوم القيامة بمعنى في، وعليه قول مسكين الدارمي: أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ... كما قد مضى من قبل عاد وتبّع

«فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» بذلك الوزن لأن الله تعالى وصفها بالعدل على ما يعرفون أن منها ما يكون في الدنيا مستقيما ومنها ما لا يكون فبين الله تعالى لهم أن موازين الآخرة على العدل والاستقامة فلا يتصور فيها النقص والزيادة اللذان هما من دواعي الظلم «وَإِنْ» وصلية «كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» لا يظلمه وهذا مبالغة في القلة بحسب عرفنا لأنا لا نرى أقل منها وإلا فالله تعالى يجازي ويثيب على أقل منها مما لا يدركه الطرف ولا يوزن «أَتَيْنا بِها» إلى فاعلها ليعلم أنا واقفون على كل حركاته وسكناته، وإنا نحاسبه عليها مهما كانت «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» 47 عادين محصين ومتقنين أعمالكم عالمين بها حافظيها عليكم فنعفوا عمن نشاء ونعاقب من نشاء إذا شئنا على الفتيل والنقير والقطمير، قال الشبلي وقد رؤي بالمنام بعد مرته رحمه الله ما فعل الله بك فقال: حاسبونا فدقفوا ... ثم منوا فأعتقوا هكذا عادة الملوك ... بالمماليك يرفقوا وفي رواية يشفقوا، وتشير هذه الآية إلى أن الحساب بعد وضع الموازين، أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذه شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب، فيقول ذالك عذر؟ فيقول لا يا رب، فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول احضر وزنك، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت (خفت) تلك السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء. هذا لأنه قالها بإخلاص وعقيدة راسخة فخبأها الله له، وفي هذا الحديث دلالة على أن صحائف الأعمال نفسها توزن، لا أن الأعمال تنجسد ثم توزن، والله أعلم بحقيقة الحال لأن أفعال الآخرة فوق العقل لا يعرفها إلا من يشاهدها، لهذا يجب الاعتقاد والتسليم للمخبر بها. قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ»

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 60]

التوراة الفاصلة بين الحق والباطل الفارقة بين الهدى والضلال «وَضِياءً» نورا يعرف به طريق الرشد من الغي «وَذِكْراً» يتذكر به ما يحتاجه بنو إسرائيل من أمور دينهم ودنياهم وعظة يتعظون بها وعبرة «لِلْمُتَّقِينَ» 48 الذين يعتبرون بما فيها ويعملون. ثم وصف هؤلاء المتقين الذين يعملون بالفرقان الموصوف بالأوصاف المذكورة بقوله «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يرونه فيعبدونه في خلواتهم إذا غابوا عن أعين الناس ويمتنعون من مخالفته خوفا من أن يراهم لعلمهم أنه مطلع على سرّهم وجهرهم، لأن من عبد الله وعلم أنه يراه أحسن عبادته وخشع فيها وخضع لربه «وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» 49 خائفون من هولها قبل أن يروها لأنهم آمنوا بها على الغيب تصديقا لرسلهم وكتابهم «وَهذا» القرآن «ذِكْرٌ مُبارَكٌ» عظيم الخير كثير البركات جامع لمنافع الدنيا والآخرة «أَنْزَلْناهُ» عليك يا سيد الرسل كما أنزلنا الكتب على من قبلك عيسى وموسى فمن قبلهم «أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» 50 يا أهل مكة إنزاله على نبيكم وشمول بركته لكم وخيره فيكم، وهل أنتم جاحدون صحبته، وهذا استفهام على طريق الإنكار والتقريع يضاهي ما جاء في الآية 175 من سورة الأنعام المارة. قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ» موسى وهارون «وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ» 51 بأنه أهل لما آتيناه لما هو عليه من الكمال والإخلاص لنا، قالوا لما ألقي في النار قال له جبريل عليهما السلام سل ربك ينقذك منها، قال له علمه بحالي يغني عن سؤالي، وقال ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا. فهذا كاف على إخلاصه لربه، فاذكر يا محمد لقومك شأنه هذا مع قومه وأهله «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» 52 أراد عليه السلام ما هذه الأصنام، ولكنه تحقيرا لها وتقريعا لهم بعبادتها، عبر عنها بالتماثيل وهي الصور المصنوعة المشبهة بالمخلوقين من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها، أي ما بالكم مقبلون عليها ملازمون لها منهمكون في عبادتها «قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» 53 فعبدناها تقليدا لهم «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 54 بالعكوف عليها لا يخفى على عاقل وان استنادكم للتقليد

عبارة عن هوى متبع وشيطان مطاع وإعجاب بما تصنعون «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ» أي الصدق لمقابلة قولهم «أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» 55 الهازئين في قولك لأنا لم نسمع هذا إلا منك «قالَ» يا قوم إن هذه لا تصلح للعبادة وليست برب ينفع ويضر ويحيي ويميت «بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» 56 وجازم بقولي لكم بأنها ليست بآلهة لأنها من عملكم والله خلقكم وما تعملون ولست بهازل ولا من شأني اللعب وأريد لكم ما أريد لنفسي «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ» التي تخوفوني بها ولأفعلن بها فعلا يكيدكم «بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» 57 من هنا إلى عيدكم، وذلك أن أباه كلفه، وقيل الملك أراده أن يذهب مع قومه إلى العيد، فسار معه ثم ألقى نفسه بأثناء سيره معهم لشدة تفكره وتأثره من صنيعهم على الأرض وقال إني سقيم، راجع قصته في الآية 89 من سورة الصافات والآية 78 من سورة الأنعام المارتين، فتركه أبوه ومضى إلى عبده فرجع إبراهيم إلى بيت الآلهة فوجدها في بهو عظيم، وبمستقبل بابه صنم كبير إلى جنبه أصغر منه، وهكذا بقية الأصنام، ورأى بين أيديهم طعاما وضعوه لتحل عليه بركتها، فيأكلوه بعد رجوعهم من مراسم العيد والتبرك بالأصنام، فقال لهم على طريق السخرية ألا تأكلون؟ فلم يردوا عليه فقال لهم استهزاء بهم ما لكم لا تنطقون؟ فلم يردوا عليه، فطفق يكسرها حتى أتى على آخرها، ووضع الفأس في عنق كبيرهم الذي لم يتعرض إليه كما حكى الله عنه «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً» قطعا كبيرة وصغيرة، من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر: بنو المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف «إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ» لعابديها لم يتعرض له، وهذا أولى من عود الضمير لنفس الأصنام، إذ لو كان لها كما مشى عليه بعض المفسرين لقال كبيرها ويؤيده أيضا قوله «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» 58 فيسألونه عمن كسرها لأنه بقي صحيحا وآلة التكسير في عنقه، قالوا كانت اثنتين وسبعين صنما منها من ذهب ومنها من فضة ومن نحاس وصفر وحديد وخشب وحجر وطين، فلما رجعوا من عيدهم ودخلوا على البهو رأوا ما هالهم «قالُوا» صائحين بلسان واحد «مَنْ فَعَلَ هذا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 61 إلى 70]

بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» 59 في جرأته هذه المؤدية لإهلاكه «قالُوا» الذين سمعوا صياحهم وسمعوا قبل قسم إبراهيم على كيدها «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ» بسوء ويعيبهم ويسخر بهم «يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» 60 فأوصلوا الخبر إلى النمروذ وملائه فأجمع رأيهم على جلبه واستنطاقه أولا ولهذا «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» 61 على اعترافه بذلك لئلا يقول الناس إنه أخذ بغير ذنب وقتل بغير بينة، فأتوا به ثم له «قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» 62 ولماذا «قالَ» ما فعلت شيئا وقصد غير تكسيرها وما عملت شيئا يسخط الله فيها «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ففهموا من كلامه هذا أن الذي كسرها هو الصنم الكبير المشار إليه من قبل إبراهيم، وقد وقف بعضهم على (بل فعله) ، ثم ابتدأ فقرأ (كبيرهم هذا) إلخ يريد بذلك عود الضمير على إبراهيم تخلصا من الكذب، ووقف بعضهم على هذا، وأراد أي هذا قولي فاسألوهم إلخ لأجل التخلص من الكذب أيضا، والحال أن الكذب للمصلحة جائز من النبي وغيره إذا كان هناك محذور كما هنا، فلا حاجة للوقفين اللذين لم يردهما إبراهيم نفسه، أي إنما كسرها كبيرهم بسبب غضبه عليكم، لأنكم تعبدون الصغار معه وتساوونها به وهو أكبر منها، فكرهن ليستقل بعبادتكم. قالوا ما بينتك على هذا؟ قال لا بينة لي سوى وجود آلة التكسير لديه كما شاهدتموها، فإن لم تصدقوني «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» 63 أراد بهذا إقامة الحجة عليهم لأنها إذا قدرت على النطق قدرت على الفعل، وإلا فيظهر لهم عجزها. قال تعالى «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ» لما سمعوا قوله وتفكروا به فلم يكن لهم بد إلا الاعتراف بعجزها «فَقالُوا» أولا لبعضهم «إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» 64 بعبادتكم ما لا يتكلم، لأن من لم يدفع عن رأسه الفأس كيف يدفع عن عابديه البأس، وقد أجرى الله الحق على لسانهم أثناء المذاكرة فيما بينهم على غياب من إبراهيم بدليل ما حكى تعالى عنهم (فرجعوا إلى أنفسهم) وقد لحقهم الشقاء المبعد عن الحق المهوي بهم إلى الباطل المشار إليه بقوله تعالى «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ» أي ردّوا إلى تعصبهم وآرائهم الفاسدة عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليمهم

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 إلى 80]

أنفسهم فقالوا له «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» 65 فكيف تكلفنا سؤالهم فلما رأى الحجة اتجهت عليهم «قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ» إن عبدتموه «شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ» 66 إن تركتم عبادتها «أُفٍّ» راجع معناه في الآية 23 من الإسراء في ج 1 «لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» 67 أنها لا تستحق العبادة فتتركونها، ثم طفق يندد بهم وبآلهتهم ويذمها ويحقرها ويسفههم، ولما جابههم بذلك وعرفوا أنه هو الفاعل حكموا عليه بما ذكره الله بقوله «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» 68 به شيئا يرفع العار عنكم وعن آلهتكم، لأنه طعن فيكم ووصم آلهتكم جهرا ولم يحترم أحدا ولم يقلع عما هو عليه ولم يعتذر، قالوا فقبضوه وحبسوه في حظيرة في قرية كوني، وأمر النمروذ الناس بجمع الحطب مدة ستة أشهر، حتى صار المرضى وذو العاهات والحاجات ينذرون جمع الحطب لإحراقه إذا أجيبت دعواتهم، قاتلهم الله ما أحمقهم، ثم أوقدوا ما جمعوه مدة سبعة أيام حتى صارت الطير في جو السماء تحترق من وهجها، فأخرجوا إبراهيم ليلقوه فيها، فلم يقدروا أن يتقربوا منها ولم يعلموا كيفية إلقائه بوسطها ليتم لهم ما قرروه، قالوا فخرج إبليس على صورة رجل منهم فعلمهم عمل المنجنيق (آلة قاذفة) فعملوه ووضعوه فيه مقيدا مغلولا ورموه في تلك المقذفة من محل عال مشرف على وسط النار، فتداركه الذي ألهمه ما عمل وأنطقه بما قال جلت قدرته بقوله «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» 69 فكانت كذلك لأنها لا تحرق إلا بخلق الله الإحراق فيها «وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» 70 في سعيهم وعدم حصول مرادهم «وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» 71 أرض الشام والقدس. مطلب إلقاء إبراهيم في النار وماذا قال لربه وملائكته وفي مدح الشام: قالوا لما وضع إبراهيم بالمقذف ليرمى في النار صاحت ملائكة الأرض والسماء، ربنا ائذن لنا في نصرته فليس في الأرض أحد يعبدك غيره، فقال إنه خليلي وأنا إلهه فإن استغاثكم فأغيثوه، قالوا فجاء خازن المياه وقال له إن أردت أخمدت

النار، وأتاه خازن الهواء فقال له إن أردت طيّرت النار، فقال لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل، وقالوا إنه قال حين ألقي بالنار: لا إله إلا أنت لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. فاستقبله جبريل فقال له يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا، قال اسأل ربك، قال حسبي من سؤالي علمه بحالي. روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قال: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي بالنار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآية 173 من آل عمران في ج 3. قالوا وصار كل شيء يسعى ليطفي النار على إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخها، وروى البخاري ومسلم عن أم شريك قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ. زاد البخاري قال: وكان ينفخ على إبراهيم. قال ابن عباس: لو لم يقل الله تعالى سلاما لمات إبراهيم من بردها. وجاء في الآثار أنه لم تبق نار في الأرض ذلك اليوم إلا أطفئت، ولو لم يقل على إبراهيم لبقيت باردة أبدا، ولم ينتفع بها أحد، قالوا وبقي إبراهيم فيها سبعة أيام ولم يحترق إلا وثاقه، لأنه من أعدائه وفي حرقه خلاصه من التكتيف فكان لمنفعته، وإلا لم يحرق تبعا للباسه. قالوا وأتبع الله له فيها عين ماء عذب، وأنبت على حافتها الورد الأحمر والنرجس، وبعث الله ملكا يظلل عليه ويؤنسه، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إباه، وبطنفسة فأجلسه عليها، وصار يؤانسه أيضا، قالوا وأشرف نمروذ من الصرح على إبراهيم فرآه جالسا في روضة وسط النار، فناداه كبير إلهك الذي بلغت قدرته هذا يا إبراهيم أتستطيع أن تخرج؟ قال نعم، قال تخشى إن قمت أن تضرك؟ قال لا، قال إذن فاخرج فإنك آمن وإنا لا نجابهك بشيء بعد أن رأينا فعل إلهك معك، قالوا فخرج، ولما وصل إليه قال من الذي كان معك؟ قال ملك يؤانسني، قال إني مقرب إلى ربك أربعة آلاف بقرة، قال لا يقبلها منك إلا أن تكون على ديني، قال لا أستطيع ترك ملكي ولكن سأذبحها لصنيعه بك، فذبحها وترك إبراهيم وشأنه، قالوا واستجاب لإبراهيم رجلان من قومه حين رأى لطف الله فيه، ثم آمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وتبعه لوط ابن أخيه، وكان لها أخ ثالث يسمى ناخورا

وثلاثتهم أولاد تارخ وهو آزر، فخرجوا من كوني في أرض العراق، وفروا إلى حران بدينهم، ومنها نزل هاران في أرض الجزيرة، ومكث فيها، ثم ذهبوا إلى مصر ثم إلى الشام، وأول ما نزل هاران أرض على سبيل الإقامة أرض بئر السبع من فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة تبعد عن بئر السبع ثمانية عشر فرسخا فبعثه الله نبيا إلى أهلها وما حولها. أما النمروذ فقد أصر على الكفر فأرسل الله بعرضة فدخلت في منخره إلى دماغه فأهلكته، وفي إهلاكه بهذه الحشرة الصغيرة تقريع لمن يدعي العظمة تجاه ربه عز وجل لأن هذا تعاظم حتى ادعى الإلهية فأهلكه الله بأحقر شيء من خلقه، فاعتبروا يا أولي الأبصار. وسبب تسمية أرض الشام مباركة لأن أكثر الأنبياء خرجوا منها وبعثوا لأهلها ودفنوا فيها. روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقبره الشريف؟ فقال كعب إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين ان الشام كنز الله في أرضه، وبها كنزه من عباده. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ستكون هجرة بعد هجرة (أراد بالهجرة الثانية إلى الشام إذ يرغب بالمقام فيها) فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم. وأخرج الترمذي عن زيد ابن ثبت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم طوبى لأهل الشام، فقلت وما ذاك يا رسول الله؟ قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها. وأخرج أيضا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله أين تأمرني؟ قال هاهنا، ونحى بيده نحو الشام، وقدمنا في الآية 136 من سورة الأعراف ما يتعلق بهذا فراجعه. قال تعالى «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً» فرق طلبه لأنه قال (رب هب لي من الصالحين) فأعطاه إسحق وأعطى إسحق يعقوب زياده، والنافلة ولد الولد. وهذا بعد أن أعطاه إسماعيل من الجارية هاجر زوجته، وبعد أن وضعه وأمه في مكة المكرمة، وإن ابنه إسحق من زوجته سارة. وقد بينا التاريخ بينهما في الآية 99 من سورة إبراهيم المارة وهو ثماني عشرة سنة «وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» 72 أنبياء كاملين لاثقين لرسالتنا وإرشاد عبادنا «وَجَعَلْناهُمْ

أَئِمَّةً» قادة «يَهْدُونَ» الناس إلى ديننا «بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» من كل معروف وعمل صالح وفعل طيب «وَإِقامَ الصَّلاةِ» المحافظة عليها بأوقاتها المعينة لها والمداومة على فعلها «وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» لمستحقيها من الفقراء والمساكين وهي أفضل العبادات المالية، كما أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، ومنه يعلم أن هذين الفرضين قديمان لم تخل أمة منهما «وَكانُوا» إبراهيم وابنه إسحق وحفيده يعقوب «لَنا عابِدِينَ» 73 لم يعبدوا غيرنا منذ نشأوا «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً» بين الناس على طريق النبوة بمقتضى شريعته لا على سبيل الملكية، لأنها لم تجمع إلا لداود عليه السلام فمن بعده كما سيأتي في الآية 251 من سورة البقرة ج 3 «وَعِلْماً» به وفقها بأنواعه «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ» إتيان الذكران والضراط في المجالس والطرقات وقذف المارة بالحصى والتصفير والتصفيق وعقد أيديهم وراءهم تقليدا لفعل إبليس عند طرده من الجنة، والتباهي بعوراتهم من حيث كبرها وصغرها وغيرها من الفواحش «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ» 74 خارجين عن حدود الله متجاوزين عليها «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» كسائر أنبيائنا «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» 75 للدين والدنيا وتقدمت القصة مفصلة في الآية 39 من سورة هود المارة «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ» إبراهيم ولوط «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» دعوته «فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» 76 الذي لحقه من تكذيب قومه وإهانتهم له ومن الغرق الذي أهلك به قومه «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» فلم يصلوا إليه بسوء قط «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ» منهمكين بالشرور «فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» 77 لعلمنا أنهم لم يؤمنوا، وتقدمت قصة إهلاكهم في الآية 144 فما بعدها من سورة هود أيضا، «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» الذي انطلقت فيه الأغنام فأهلكته وهو معنى قوله «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» لبلاد دخلت فيه فأفسدته كله «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» 78.

مطلب أن الجمع ما فوق الاثنين، وأحكام داود وسليمان، والبساط وسيره وما يتعلق بذلك:

مطلب أن الجمع ما فوق الاثنين، وأحكام داود وسليمان، والبساط وسيره وما يتعلق بذلك: في هذا الجمع دليل المناطقة القائلين أقل الجمع اثنان وعليه اللغات الأجنبية كلها إذ ليس عندهم تثنية بين الجمع والمفرد وعليه قوله تعالى (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية 11 من سورة النساء في ج 3، والمراد أخوان، وقرىء لحكمهما قراءة شاذة، وقيل إن الحكم كما يضاف إلى الحاكم يضاف إلى المتحاكمين فيكون معهما جمعا، تأمل وراجع الآية 116 من الصافات المارة. وخلاصة هذه القصة: قالوا دخل على داود عليه السلام رجلان، قال أحدهما إن غنم هذا قد دخلت في زرعي ليلا فلم تبق منه شيئا، واعترف الآخر بذلك، فحكم عليه السلام بالغنم كلها لرب الزرع، فلما خرجا قال لهما سليمان: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه بالحكم، فقال غير هذا أوفق وأرفق، فعادا فأخبرا داود، فدعاه وقال له بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أولى بهما وأحسن، قال له ادفع لصاحب الحرث، الغنم فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، وأمر صاحبها يزرع لصاحب الحرث مثل حرثه حتى إذا صار كهيئة يوم أكل دفع إلى صاحبه واستعاد صاحب الغنم غنمه، وبهذه الصورة يرتفع الضرر عن الطرفين، ويعود كل لماله كما كان، فقال داود عليه السلام الأمر هو ما قضبت وحكم به، وكان عمر سليمان إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومن ذلك اليوم يقال: الرجوع إلى الحق فضيلة، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل، والخطأ في البراءة خير من الخطأ بالحكم. والحكم الشرعي في هذا هو أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير نهارا فلا ضمان على ربّها لأن أصحاب الزرع مكلفون يحفظ زرعهم نهارا من المواشي التي تسرح فيه، وإن كان ليلا فعليه الضمان لأن أهل المواشي مكلفون يحفظها ليلا في مراحها لئلا تتسرب إلى مال الغير فتتلفه حال غفلة أهله، يدل على هذا ما رواه حرام بن سعيد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا (بستانا) لرجل من الأنصار فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل- أخرجه أبو داود مرسلا- وما روى الشيخان من قوله صلّى الله عليه وسلم: جرح

العجماء جبار ولم يقيده بليل ولا نهار، وقد أخذ أبو حنيفة بهذا ولم يقض بالضمان أصلا، وأخذ الشافعي بالحديث المشار إليه على التفصيل الذي فيه، وكان حكم داود عليه السلام وابنه بالاجتهاد، ولأنه لو كان بالنص لما جاز لسليمان الاعتراض عليه، ولا لداود الرجوع عنه، وان الله تعالى حمد هذا لصوابه، وأثنى على الآخر باجتهاده. قال الحسن: لولا هذه الآيات لهلك الحكام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال صلّى الله عليه وسلم إذا حكم الحاكم باجتهاده فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر. وهناك من قال إن حكمهما كان بالنص، إلا أن الآخر نسخ الأول وفيه ما فيه فضلا عن أنه يوجب عدم جواز الاجتهاد للأنبياء، لأن سليمان لم يتنبأ بعد لينزل عليه شرع، يدل عليه قوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» أي قضية الحكم بطريق الإلهام، وإنما ركن داود لحكم سليمان، لأنه رآه موافقا وأرفق من حكمه بحق الطرفين، ولأنه علم حذاقته قبل هذه، وذلك على ما قالوا إن امرأة تبتّلت واستغرقت أوقاتها بالعبادة، وكان لها جاريتان جميلتان، قالت إحداهما للأخرى قد طال علينا البلاء، لأن هذه لا تريد الرجال، وإننا بشر فلو فضحناها لرجمت وخلصنا منها، فصرنا إلى الرجال من بعدها، فأخذنا ماء أبيض ونضحتاه على سوءتها وهي تصلي، وخرجنا إلى داود عليه السلام فقالتا له إنها قد بغت، وكان حد الزنى عنده الرجم، فرفعت إلى داود والماء لأبيض في ثيابها، فسألها فأنكرت، وسألها عن الماء، فقالت لا أدري لعله ماء أبيض أو شيء مفتعل، فأراد رجمها، فقال سليمان ائتوني بنار، فإنه إن كان ماء أبيض اجتمع، وإن كان ماء الرجل تفرق، فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الحد، وهذا من ذكانه عليه السلام وحدة فطنته. ولهذا البحث صلة بعد الآية الآتية. قال تعالى «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» يسبحن أيضا ويسرن معه حيث سار وهذا هو تسخيرها «وَكُنَّا فاعِلِينَ» 79 أمثال هذه المعجزات لأنبيائنا ومن شأننا أن نفعل أكثر من ذلك فليس ببدع منا وإن كان بديعا وعجيبا عندكم أيها الناس «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ» دروع من حديد بدليل قوله «لِتُحْصِنَكُمْ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 81 إلى 90]

مِنْ بَأْسِكُمْ» من أن ينالكم سلاح عدوكم في الحرب «فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» 80 يا آل داود، وهذا استفهام بمعنى الأمر، أي أديموا الشكر لله على ذلك. واللبوس لغة كل ما يلبس، قال ابن السكّيت: البس لكل حالة لبوسها ... اما نعيمها واما بوسها «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرناها «عاصِفَةً» شديدة الهبوب ولا يرد هنا ما جاء في قوله (رخاء) في الآية 37 من سورة ص في ج والآية 12 من سورة سبأ المارة لم يذكر فيها الأمران بل ذكر مدة سيرها حين تحمل البساط على الريح اللينة. أما العاصفة فتقطع أكثر مما ذكر هناك، وبما أن الله تعالى سخرها له فتكون على رأيه إن شاء رخاء لينة وإن شاء شديدة عاصفة تقطع السنة بساعة وأقل. راجع كيفية جلب عرش بلقيس في الآية 38 من سورة النمل في ج 1، فالريح بالنسبة لسيدنا سليمان كالفرس إن شاء أطلقها فغارت وإن شاء أمسكها فسارت، فإذا أراد أن تشتد اشتدت وإذا أراد أن تلين لانت، يدل عليه قوله تعالى «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والثمار واعتدال الهواء فضلا عن أنها مهبط الأنبياء ومثواهم «وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ» 81 لأن هذه الأشياء وغيرها تجري بمقتضى حكمتنا وتدبيرنا «وَمِنَ الشَّياطِينِ» سخرنا له «مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ» في البحار لاستخراج الدراري «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ» الغوص، من البناء الرفيع، والتصوير الجميل، وعمل القدور والجفان العظيمة، والقوارير والصابون وغيرها مما عرف ذلك الزمن وما لم يعرف، «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» 82 فلا يزيغون عن أمره ولا يفسدون في الأرض ولا يبدلون ما أمروا به فلا يخالفونه بشيء ما. قالوا نسجت الشياطين لسليمان بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع له منبر من ذهب وسطه فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد عليها الأنبياء والعلماء وحولهم الوجهاء والأمراء، وحولهم عامة الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلّهم الطير بأجنحتها، وترفع الصبا البساط مسيرة شهر صباحا ومثلها مساء، وذلك بمدة ساعة أو ساعة ونصف على الاختلاف في تقدير الفرسخ، لأن الغدو من

مطلع الفجر إلى طلوع الشمس، والرواح مثله من اصفرار الشمس إلى غروبها راجع الآية 12 من سورة سبأ المارة. قالوا وكان يسير في الريح الليّنة إلى العراق فيقيل ببلخ وتخلّل بلاد الترك وجاوزها إلى الصين، ثم إلى قرب مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى إلى السند وجاورها الى مكران وكرمان في أرض فارس، وغدا منها فقال في بكسكى، ثم راح الى الشام، وكان مستقره تدمر، وفي ذلك قال النّابغة: ألا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاصددها عن النفد وجيّش الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد قالوا وسبب إعطائه البساط هو غضبه على الخيل التي ألهته عن الصلاة وعقره لها عقوبة لنفسه بحرمانها منها وعقوبة لها لتسببها لفوات صلاة العصر، وكان في شريعته جواز عقوبة المتسبب، فأبدله الله تعالى خيرا منها وهو البساط، قالوا وكان عليه السلام يحب الغزو فلا يمر بناحية إلا غزاها، وأذل أهلها وملكها، وكان يمر ببساطه وعظمته على المزرعة فما يحركها ولا يثير ترابها ولا يؤذي طائرا، راجع الآية 15 فما بعدها من سورة النمل في ج 1، والآية 10 فما بعدها من سورة سبأ المارة، وفي هذا وذاك يبيّن أن وجود الجن وإعمارهم الأرض ثابت بالنص فلا يجوز إنكار وجودهم بوجه من الوجوه، لأنه كفر صريح لمخالفته القرآن، وعدم رؤيتنا لهم في الدنيا يقابله عدم رؤيتهم لنا في الآخرة، راجع الآية 27 من الأعراف في ج 2 وبقية قصة عظمة ملك سليمان مفصلة هناك، وفي أحكام سليمان عليه السلام ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك. فتحا كما الى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان فاخبرتاه، فقال ائتوني بسكين أسقه بينكما، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى، وهذا مما يدل على أن حكمه بالاجتهاد لا بالنص بالقصتين المذكورتين. ونقلوا عنه قصصا أخرى لم نثبتها لعدم التثبت من صحتها، وهناك قصة رابعة نقلها صاحب الإبريز وهي أن امرأة شهد عليها رجلان بأنها مكنت الكلب من وطئها فحكم برجمها، وأن سليمان عليه السلام استشهد

الرجلين على الانفراد فاختلف شهادتهما قدرا عنها الحد، ومن ذلك اليوم استحب استشهاد الشهود مفردين وهو الصواب. ومن هنا يعلم أن تمكين الكلاب من النساء قديم، لم تبتدعه بعض عواهر زماننا، وأن آية التبرّج الآتية من سورة الأحزاب 32 في ج 3 تشير الى أن كل ما أحدثه أهل هذا القرن من الخلاعة قديم أيضا، وهذا من معجزات (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 18 من سورة الأنعام المارة، وليعلم أن أحكام داود عليه السلام في هذه القصص الأربع على فرض صحة الثلاث، لأن الأولى ذكرها الله تعالى فلا قول فيها وكلها موافقة لظاهر الشرع وأحكام سليمان كذلك، وإنما جوزها بحكمه، لأن قضية الحرث صارت كالصلح بينهما لرضائهما بحكمه فيها، وقضية الزنى قبيل ظهور كذب الشهادة إذ يقتضي الحكم بمثلها، أما قضية الولد فإنما قضى بها داود للكبيرة لعدم وجود بينة لدى الصغيرة، وكان الولد بيد الكبيرة فحكم باعتبارها ذات اليد والصغيرة خارجة والحكم الشرعي أن البينة على الخارج والقول لذي اليد كما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وكان عمل سليمان من قبيل الاختبار، لأنه لما رأى الكبيرة وافقت على قسمه شقين عرف أن لا شفقة لها عليه، فلو كان ابنها لما رضيت بموته، ولو أن الصغيرة وافقت على قسمه لما حكم لها به ولأبقاه لدى الكبيرة باعتبار يدها عليه، ولهذا حكم به للصغيرة حكم موافق للواقع مصدره الحذق والفطنة والاجتهاد، تأمل. قال تعالى «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» 83 والضر كلمة جامعة لأنواع الشر أنظر رعاك الله ما أبدع هذا الدعاء إذ ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغايتها، ولم يصرح بمطلوبه عليه السلام أدبا مع ربه وحياء منه وإيذانا بأن ربه عالم بمراده من دعائه، ولا شك أن الأنبياء موفقون، قال تعالى «فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ» الذين فقدهم «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» 84 ليتأسوا به ويعبروا مثله فيثابوا كثوابه ويعتبروا بطلبه ويتفكروا بعطاء الله له زيادة عما خطر بباله.

مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام:

مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام: ونظير هذه الآية الآية 42 من سورة ص في ج 1 وخلاصة هذه القصة قالوا إن أيوب ابن اموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم وامه من ولد لوط بن هاران الأصغر أخي ابراهيم عليه السلام. وكان تنبأ وبسطت له الدنيا في أرض البلقاء، من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها، وكان عنده من أصناف النعم والعبيد ما لم يكن لأحد في عصره، وأعطاه الله مع هذا أهلا وأولادا ذكورا ونساء، وكان برا تقيا لربه رحيما بالمساكين والأيتام والأرامل، مكرما للضيفان مبلغا أبناء السبيل بلادهم وهذا مما يوافق شريعتنا راجع الآية 60 من سورة التوبة في ج 3 ومن هنا وجب على الأغنياء إعطاء أبناء السبيل من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء فيها وعلى الحكومة أيضا أن تعطيهم من بيت المال ما يؤمن وصولهم، وكان شاكرا لأنعم الله مؤديا حقوقه وقد آمن به ثلاثة فقط وكان لهم مال أيضا فحده إبليس على ذلك وصار يخاطب ربه فيقول يا رب لو ابتليت أيوب بنزع ما أعطيته لخرج عن طاعتك، فقال إني قد سلطتك على ماله قالوا وكان إبليس لا يحجب عليه شيء في السموات، ولكنه بعد رفع عيسى عليه السلام حجب من أربع منها وفي مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم حجب عن الكل إلا في استراق السمع، وكان يسمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، ولذلك حسده فجمع خيله ورجله ونفخوا على الإبل فأحرقوها ورعاتها، فذهب وقال يا أيوب أتت نار فأحرقت إبلك ورعاتها، فقال إنها مال الله أعارنيها ثم نزعها مني وله الحمد، عريانا خرجت من بطن أمي وأحشر إلى الله كذلك، ثم أكثر عليه من الكلام حتى قال له يقول الناس لو كان إلهك يقدر لمنع ذلك، فلم يرد عليه، فرجع خاسئا ثم فعل بالغنم ورعاتها كذلك، وجاء إليه فقال ما قال أولا ورد عليه كما رد عليه أيضا فرجع خائبا ثم فعل بالزرع والأشجار كذلك، وأخبره فكان ما كان أولا وهكذا حتى لم يبق عنده شيء من المال ولم يره تأثر من شيء أصلا، فقال إبليس يا رب ان أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطني على ولده؟ فقال قد سلطتك، فانقض عدو الله حتى أتى ولده جميعا وهم في قصرهم فزلزله فيهم، فتلفوا عن آخرهم، ثم ذهب إلى أيوب

عليه السلام بصورة معلمهم، لأنه كان عليه اللعنة كلما فعل شيئا يذهب الى أيوب بصفة الرجل الذي يناسب ذلك الفعل، ففي تلف الإبل والغنم ذهب بصورة راعيها، وفي تلف الأشجار والزروع والثمار بصورة ساقيها، وهكذا، فقال يا أيوب وهو يبكي ليحرك حزنه لو رأيت كيف نكسوا على رءوسهم وسالت دماؤهم وتقطعت أمعاؤهم لتقطع قلبك ألما عليهم، فقال من هم؟ قال كل أولادك وأخبره خبرهم، وقال قد شقت بطونهم وكسرت رءوسهم وتناثرت أدمغتهم، وكذا وكذا، ولم يزل يصفهم ويقول له بتحرق وتأسف إلى أن رأى التأثر بدا بوجهه عليه السلام طفق يصف له مزاياهم ويعظم فظاعة ما حل بهم حتى رق قلبه عليه السلام، فاغتنم إبليس لعنه الله هذه الفرصة وذهب يعرض لربه جزعه، فتنبه أيوب واستغفر ربه حالا وصعدت توبته قبل أن يبثّ إبليس ما عنده، فخسىء إبليس وذل، ولما رأى ذلك قال يا رب إنما هان عليه المال والولد ما متعته بنفسه فإنك تعبد له ما فقده من مال وولد ونشب فهل أنت مسلطني على جسده، فسلطه الله على جسده عدا لسانه وقلبه وعقله، فانقض زاعما أنه فاز ببغيته، فأتى إليه مسرعا ونفخ في منخريه فاعتراه مرض في جميع جسده ما بين العظم والجلد استدام معه سبع سنين وبضعة أشهر وهو صابر لا يشكو، وتفرقت عنه الناس، وجاء أصحابه المؤمنون وأشاروا عليه بأن يدعو ربه بكشف ضره فأعرض عنهم وأنبهم على ما رأى من ضجرهم، وقال إن الله تعالى عافانا سنين كثيرة ومتعنا بكل نعمه الحاضرة، أفلا نصبر على بلائه بمقدار معافاته على الأقل وأطال عليهم الكلام بخطبة بليغة مؤثرة حتى انفضوا عنه، ولم يبق ممن يراجعه إلا زوجته رحمة بنت افرائيم بن يوسف عليه السلام، وصارت تأتيه بطعامه وشرابه، فلما رأى اللعين خيبة سعيه ومداومة أيوب على ذكر الله تعالى وحمده وشكره صرخ صرخة فاجتمعت إليه الشياطين من كل جانب وقالوا له ما دهاك قال أعياني هذا الرجل، وحكى لهم قصته معه، فقالوا له هل أتيته من المكان الذي جئت به آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال أصبتم، فذهب إلى زوجته وقال لها أين بعلك ذلك الذي كنت ترين، أين أولادك الذين كنت تباهين، أين مالك الذي كنت تفاخرين؟ قد ذهب عنك كل ذلك وتباعدت عنكم أصدقاؤكم

وأنفسكم الناس، فانظري لحالك أين جمالك، أين زخارفك، أين قصورك أين أين؟ فلم يزل يعدد لها ويذكرها عزها الذي كانت فيه حتى صاحت صيحة أظهرت فيها جزعها وضجرها، وقالت له ما العمل؟ قال خذي هذه السخلة وقولي لزوجك يذبحها لي وهو يبرأ مما فيه وتخلصين من هذا الحال ويعود إليك جمالك وعزك وما ذهب منك، فاستمالها الملعون بذلك وأذعنت لقوله ظانة أنه ناصح لها وأنه يرجع لها ما ذكر، فأخذت السخلة منه وذكرت لأيوب ما وقع لها وكلفته أن يذبحها لإبليس لأنه هو الذي نفخ فيك فأصابك ما أصابك، قال لها ويلك أغراك عدو الله أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والجمال والعز والصحة، أليست هي من الله؟ قالت نعم، قال كم متعنا به، قالت ثمانون سنة، فقال لها كم لك في البلاء، قالت سبع سنين وأشهر، قال لها ويلك ما أنصفت ربك، ألا صبرت على البلاء ثمانين كما كنت في الرخاء والنعم، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مئة جلدة، تأمريني أذبح لعدو الله اذهبي، طعامك وشرابك عليّ حرام، فذهبت تبكي، وبقي أيوب صابرا ما شاء الله أن يصبر بلا زاد ولا ماء ولا صديق ولا أحد، فخرّ ساجدا لله تعالى، وقال (ربّ إني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وبين عليه السلام في دعائه هذا افتقاره إلى ربه فقط إذ لم يقل ارحمني، وإن أكثر أسئلة الأنبياء ربهم على سبيل التعريض لا على طريق الطلب، لأن حياءهم منه يحول دون طلبهم، قال المتنبي في هذا المعنى: وفي النفس حاجات وفيك فطالة ... سكوتي بيان عندها وخطاب وذلك أن الأنبياء عليهم السلام تحققوا أن كل شيء كان أو يكون مسبوق بالإرادة، والإرادة مسبوقة بالعلم، والعلم تابع المعلوم فيتعلق به على ما هو عليه، في ثبوته غير المجهول مما يقتضيه استعداده الأزلي، ثم بعد أن خلق الخلق على حسب ذلك كلفهم استخراج سرّ ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي، ولذلك أرسل الرسل إليهم مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي فيهم فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بيّنة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، فلا يتوجه عليه اعتراض بخلق الكافر، وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر

بكفره، إذ أنه من توابع استعداده في ثبوته غير المجهول، ويشير إلى هذا قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) الآية 102 من سورة هود المارة، وقوله صلّى الله عليه وسلم: من وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وقد أشار الشافعي رحمة الله إلى بعض هذا في قوله: خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن هذا وبما أن الأنبياء واقفون على هذا وقد أرشدوا الخلق إليه، فإذا دعوا لأنفسهم أو على أعدائهم كان من قبيل التعريض لا التصريح، لأنهم عالمون أن الكائن كائن في الأزل، وإن ما لم يكن لا يكون أبدا سواء دعوا أو لم يدعوا، سعوا أو لم يسعوا، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: علمه بحالي يغني عن سؤالي، راجع الآية 71 المارة، قالوا ولما صعدت دعوته هذه التي هي من إلهام الله وكان قضاء الله الأرلي معلقا على وجودها منه وقد صادقت الزمن المقدر لإنقاذ أيوب مما هو فيه، بعد أن بلغ غايته وطمى نهايته، ناداه مناد من السماء أن ارفع رأسك قد استجيب لك، فاركض الأرض برجلك، فرفسها فنبعت عين ماء فاغتسل منها فشفي مما كان فيه، وعاد عليه جماله أحسن مما كان، وقام صحيحا ورأى أن الله تعالى قد أعطاه مالا وولدا كأحسن ما كان أولا، ومشى وقعد على مكان مشرف، فعنّ لزوجته أن تراه حرصا عليه، فجاءت فلم تر أحدا، فصارت تبكي، فناداها من فوق ما يبكيك يا أمة الله؟ قالت بعلي، قال وهل تعرفينه؟ قالت لا يخفى على أحد وانه في حال صحته أشبه بك، فقال أنا هو، تأمريني أذبح لإبليس، ها إني دعوت الله فردّ علي ما ترين، ثم أمره الله أن يأخذ قبضة من النبات فيها مئة عود فضربها بها تحلة يمينه كما تقدم في الآية 44 من سورة ص المارة في ج 1، ففعل، فرد عليها شبابها. هذا، وما قيل إن أيوب عليه السلام حال مرضه دوّد وألقي على الزبل وغير ذلك من الترهات التي عنها تتحاشى ساحة الأنبياء، فهو كذب لا نصيب له من الصحة، لأن الأنبياء معصومون من العاهات المنفّرة، وإن الذي أصابه هو ما بين الجلد والعظم بحيث لم يظهر عليه ما ينفر الناس عنه، وما قيل من ان النفرة بسبب سلب ما كان عنده من النعم فقد يكون بالنسبة للناس. وما قيل

أيضا إن زوجته باعت شعرها وحلف عليها ذلك اليمين هو محض كذب وافتراء وإنما حلف عليها للسبب المار ذكره وهو تكليفه ذبح السخلة لإبليس، وما نقلناه في هذه القصة هو أصح ما ورد فيها ولو لم نعتمد على صحتها، إذ لا اعتماد إلا على ما يأتي في كتاب الله وسنة رسوله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جواد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال بلى يا رب ولكن لا غنى عن بركتك. هذا واختلف في معنى (وآتيناه أهله) إلخ، فقيل إن الله تعالى أحيى له أهله وأولاده بأعيانهم وزاده مثلهم، وقيل إنه آتاه أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، وقيل إن الله آتاه مثل أهله وماله وولده وأنعامه وبيوته ومثلها ثانيا والله أعلم. والآية تحتمل المعنيين والله قادر على كل شيء. قال تعالى «وَإِسْماعِيلَ» بن إبراهيم الذي استسلم لربه وانقاد لأمر أبيه ليذبحه تنفيذا لإرادة الله، راجع قصته في الآية 117 من الصافات المارة. أما قصة وضعه في مكة وأمه فستأتي في الآية 123 من سورة البقرة في ج 3، إن شاء الله «وَإِدْرِيسَ» ابن أخوخ، وقد مرت قصته في الآية 57 من سورة مريم في ج، وفيها كيفية رفعه إلى السماء «وَذَا الْكِفْلِ» الحظ والنصيب واسمه الياس وهو أحد الأنبياء الخمس الذين تسموا باسمين بالقرآن العظيم، هذا وإسرائيل ويعقوب، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد، عليهم الصلاة والسلام، وهو ابن ياسين بن فنحاص ابن العيران بن هرون أخي موسى بن عمران عليهم الصلاة والسلام، راجع الآية 143 من سورة البقرة ج 3 بشأن ذى الكفل والآيات من 124 إلى 132 من سورة الصافات المارة. قالوا إنه لما كبر اليسع قال إني استخلف رجلا على الناس ليعمل عليهم في حياتي على أن يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب، فقال إلياس أنا فرده أولا، ثم قال مثلها في اليوم الثاني فلم يتعهد بهذه الشروط غيره، فاستخلفه ووفى بعهده ولقبه بذي الكفل لأنه وفى ما تكفل به. وما قيل ليس بنبي ينفيه قوله تعالى «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» 85 على ما ابتليناهم به راجع قصته مفصلة في الآيات المذكورة أعلاه من سورة الصافات المارة «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا

إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» 86 أي إسماعيل وإدريس وذا الكفل. وقد ذكر الله تعالى هؤلاء الأنبياء الممتحنين بأنواع البلاء بسياق قصة أيوب عليهم الصلاة والسلام لأنهم صبروا على ما امتحنوا به كما ذكر في قصصهم. قال تعالى «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» من قومه لأجل ربه واسمه يونس واسم الحوت الذي ابتلعه نون فسمي ذا النون وصاحب الحوت «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» بفتح أول نقدر وتخفيفه وقرىء بضم أوله وتشديده من التقدير وعلى الأول من القدر وهو التضييق وهي القراءة المشهورة أي ظن أنا لا نضيق عليه بلزوم الإقامة مع قومه، ولذلك تركهم وذهب، راجع قصته في الآية 123 من الصافات المارة أيضا، «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» 87 بمفارقتي قومي دون أمرك، فلا تؤاخذني يا رب على ما وقع مني، ولم يقل نجني أو خلّصني أو غير ذلك لما مر آنفا من أن الأنبياء يفوضون أمرهم لربهم «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» لأن قوله هذا تعريض لدعائنا وتنويه بالالتجاء إلينا «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقه في بطن الحوت «وَكَذلِكَ» مثل هذه الإجابة «نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» 88 بنا مما يهمهم، ولا يوجد في هذه الآية بما يتمسك به من قال بوقوع الذنب من الأنبياء بعد رسالتهم، لأنه عليه السلام لم يذهب مغاضبا من ربه كما قاله بعضهم، حاشاه، وإنما ذهب مغاضبا من قومه لأجل ربه، وإن ظنّه بعدم التضييق عليه لوثوقه بربه، ولأنه لم يظن أنه أذنب معه بترك قومه، بل كان يظن أنه مخير بين الإقامة معهم والخروج من بينهم عند عدم قبولهم دعوته، لذلك فإن فعله هذا لا يستوجب الذنب لو كان من سائر البشر، أو أن ظنه أن الله لم يقدر عليه شيئا، وهذا على القراءة بالتشديد أي لن نقدر عليه عقوبته، لتركه قومه، والمعنيان متقاربان، إلا أن القراءة بالتخفيف وتفسيرها على ما ذكرنا تبعا لغيرنا أولى وأنسب بالمقام، لأن نقدر بمعنى نضيق شائع، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) الآية 43 من سورة الروم الآتية، وجاء في الآية 7 من سورة الطارق في ج 3 (ومن قدر عليه رزقه) وفي الآية 11

من سورة الفجر في ج (فقدر عليه رزقه) وغيرها كثير وكلها بمعنى التضييق، وعليه فلم يبق حجة لمن يقول إن نقدر لا تأتي إلا بمعنى القدرة، لأنا إذا جرينا على هذا المعنى فلا يجوز نسبته إلى آحاد الناس، فكيف إلى نبي الله؟ وقد تردد في هذه معاوية بن أبي سفيان فسأل عنها ابن عباس رضي الله عنهما فقال له إنها من القدر لا من القدرة. وفيها قراءات أخرى ومعان بنسبتها ضربنا عنها صفحا لأنا ذكرنا أصح ما فيها، والله أعلم. أما ما حكى عنه بقوله (إني كنت من الظالمين) يريد نفسه لعدم انتظاره أمر ربه قومه وفي أمر بقائه أو خروجه عنهم لا لشيء آخر، على أن ابن عباس قال إن هذه الحادثة كانت قبل النبوة والرسالة مستدلا بقوله تعالى بعد ذكر خروجه من بطن الحوت (وأرسلنا إلى مائة ألف أو يزيدون) الآية 145 من الصافات المارة، مما يدل على أنه قبل النبوة والرسالة وصححه الخازن. ومن قال إنه بعد النبوة وهو ما ذهبت إليه في تفسيري هذا استدل بقوله تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الآيتين 139/ 140 من الصافات أيضا، فالجواب عنه ما تقدم، إذ تفيد هذه الآية صراحة أنه مرسل إليهم قبل هروبه بالفلك، والاستدلال بها أقوى من الاستدلال بتلك، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، تأمل. قوله تعالى «وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا في ندائه «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً» بلا ولد يرثني «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» 89 لي إن لم ترزقني وارثا، وإن رزقني فأنت خير الوارثين له، لأنك ترت الأرض ومن عليها والسماء وما فيها، وأنت الذي لا وارث في الحقيقة غيرك لمن تحت الأرض وما عليها، ومن في السماء وما فوقها «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» بأن جعلناها صالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عجوزا عقيما، فولدته كأنها حدثة «إِنَّهُمْ كانُوا» أولئك الأنبياء «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» إلى مخلوقاتنا طلبا لخيرنا «وَيَدْعُونَنا رَغَباً» بنا ورهبا «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» 90 مخبتين لعظمتنا، خاضعين لهيبتا، فعلى العاقل أن يستديم الخوف حالة الصحة، والرجاء حالة المرض، إذ يقول صلّى الله عليه وسلم لرجل دخل عليه وهو في حالة النزع: كيف تجدك؟ قال أخاف

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 91 إلى 100]

ذنوبي وأرجو رحمة ربي، فقال صلّى الله عليه وسلم ما اجتمعا في عبد في هذا الموطن إلا أعطاه ما رجا وآمنه مما يخاف. ومعنى الآية رغبا بذات الله ورجاء عفوه، وطمعا برحمته وخوفا من عذابه، ولهذا يقول الله تعالى لتحليهم بتلك الصفات الأربع العظيمة: نجيناهم من السوء وأجبنا دعاءهم ونصرناهم على أعدائهم. واذكر يا سيد الرسل لقومك أيضا بسياق ذكر هؤلاء الصالحين من الرجال المرأة الطاهرة الكاملة الصالحة البتول، وهو معنى «وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» من التزوج بالحلال السيدة مريم بنت عمران «فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا» المراد من الروح هنا معناه المعروف والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء لعيسى عليه السلام الذي قدر الله تكوينه في بطنها، وليس هناك نفخ حقيقة، ولهذا صح أن يقال نفخنا فيها، لأن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه، فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها أي مريم، كما قاله بعض المفسرين، وليس هذا بمراد، وهو كما يقول الزّمار نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقدمنا القصة ومعنى النفخ في الآية 24 من سورة مريم في ج 1، وأوضحنا هناك معنى الروح أيضا فراجعه، ولبحثه صلة في الآية الأخيرة من سورة التحريم في ج 3 فراجعه، «وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» 91 على كمال قدرتنا إذ خلفناه من غير أب، ولم يقل آيتين كما في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) الآية 12 من سورة الإسراء في ج 1، لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل، أي وجعلنا شأنها وأمرها آية. أخبر الله تعالى في هذه الآيات وأمثالها من القرآن العظيم وهو أصدق المخبرين بأن مريم عليها السلام محصنة من الحلال، والتي تحصن نفسها من الحلال لا يتصور أن لا تحصنه من الحرام، قاتل الله اللئام الذين يفترون عليها ويبهتونها، تنزهت وتبرأت عما يقول الظالمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون «إِنَّ هذِهِ» ملة الإسلام وأمة الإيمان «أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وملة واحدة وهي ملة جميع الأنبياء ودينهم، لا دين غيره اختاره الله لكم أيها الناس لتمسكوا به وتعبدوا الله وحده وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ، لأن جميع الكتب نازلة في شأنها، والأنبياء كلهم مبعوثون للدعوة

إليها ومتفقون عليها. قال تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3 «وَأَنَا رَبُّكُمْ» واحد لا إله غيري «فَاعْبُدُونِ» 92 وحدي لا تشركوا بي أحدا ولا شيئا، وهذا الخطاب للناس كافة لا يختص به واحد دون آخر. قال تعالى «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» أي البعداء عن الحق الذين لم يجيبوا الدعوة جعلوا الدين الواحد قطعا ووزعوه بينهم كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد، فاختلفوا فيه وصاروا أحزابا. وسياق الكلام يفهم على أن المعنى وتقطعتم، إلا أن الالتفات من الخطاب إلى الغيبة أوجب ذلك، وفي تخصيص لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة بهم وإيذان بأنه يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط، لأنه رب كل مربوب، وهو المقيض على عباده جوده ولطفه. ثم انه توعدهم على ذلك التفريق الذي ابتدعوه بقوله «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» 93 لا يفلت منهم أحد ولا مرجع له غيري، وإذ ذاك أجازي كلّا بما يستحقه «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ» في دنياه «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» قيد العمل بالإيمان، لأن الكافر لا ينفعه عمله الطيب في الآخرة لمكافأته عليه في الدنيا «فَلا كُفْرانَ» حرمان وبطلان ولا جحود «لِسَعْيِهِ» الذي سعاه في الدنيا كيف «وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ» 94 فلا يضيع له شيئا من عمله الحسن ولو مثقال ذرة بل نعطيه أضعافها من أحسن ما يستحقه طبقا لقوله تعالى (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية 97 من سورة النحل المارة «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ» ممتنع على أهل قرية «أَهْلَكْناها» بحسب واقتضاء حكمنا وقضائنا الأزلي لغاية طغيانهم ونهاية بغيهم وتجبرهم «أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» 95 من الكفر إلى الإيمان البتة. والجملة في تأويل مصدر خبر وحرام أي رجوعهم إلينا وتوبتهم حرام. ولا هنا مثلها في قوله تعالى (أَلَّا تَسْجُدَ) الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1، وهذا على قراءة فتح همزة أنهم وهو الأفصح، وعلى كسرها يكون معناها التعليل، والمعنيان متقاربان. وقيل إن حراما بمعنى واجب، وعليه قول الخنساء: وان حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوة إلا بكيت على صخر وقد مشى بعض المفسرين في قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)

الآية 151 من سورة الأنعام المارة، أي ما أوجب، لأن ترك الشرك واجب، وعلى هذا قال الحسن ومجاهد لا يرجعون أي لا يتوبون عن الشرك، وقال قتادة ومقاتل لا يرجعون إلى الدنيا، وقال غيرهم لا يرجعون إلى الجزاء، إلا أنه على هذا المعنى الأخير يكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد، وأنه يجرى على ذلك يوم القيامة، وفيه ما فيه، والأول أولى، والله أعلم، فليحرر. قال تعالى «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» أي سدهما المشار إليه في الآية 99 من سورة الكهف المارة «وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» 96 سراعا والحدب كل ما ارتفع ونشر في الأرض روى مسلم عن حذيفة بن أسيد العفاري قال: اطلع النبي صلّى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، قال ما تذكرون؟ قالوا تذكر الساعة، قال إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. وفي رواية ودابة الأرض، فتكون مع ذكرها عشرا. قال تعالى «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ» لقيام الساعة «فَإِذا» الفاء للمفاجأة واقعة في جواب إذا «هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» فلا تكاد تطرف من هول ما ترى في ذلك اليوم، يقولون بلسان واحد «يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» اليوم لم نقدره في الدنيا على هذه الحالة الفظيعة، ثم انتقلوا عن هذا القول فقالوا «بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» 97 أنفسنا لعدم اصغائنا إلى الذين خوفونا منه ولم نطع الرسل برفض الكفر وإلزام التوحيد، ثم يقال لهم «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ» وقود «جَهَنَّمَ» وأصل الحصب الرمي والوقود يرمى بالنار رميا بل يقذف قذفا في جهنم إهانة لهم، ولهذا عبر عنه بالحصب «أَنْتُمْ لَها» أيها الكفرة «وارِدُونَ» 98 ورود دخول، راجع الآية 98 من سورة هود المارة «لَوْ كانَ هؤُلاءِ» الأوثان كما زعم عابدوها «آلِهَةً» تعبد وتشفع لهم مما حل بهم «ما وَرَدُوها» الآن ولما دخلوا فيها وعذبوا في جهنم بسبب عبادتها،

مطلب إخساء عبد الله بن الزبعرى وجماعته، ومن كان كافرا في أصل الخلقة:

ولمّا كانت ليست بآلهة ولا تستحق العبادة يقول الله تعالى «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» 99 العابدون والمعبودون «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» هو خروج النفس بشدة حتى يظهر له صوت عال من ألم العذاب «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» 100 شيئا مما يقال لهم لانشغالهم بأنفسهم. مطلب إخساء عبد الله بن الزبعرى وجماعته، ومن كان كافرا في أصل الخلقة: ولما نزلت هذه الآيات الثلاث دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد وصناديد قريش في الخطيم، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فعرض له النفر من قريش منهم النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه هذه الآيات الثلاث، وقام فأقبل عبد الله الزبعرى السهمي، فأخبره الوليد بن المغيرة بما قاله حضرة الرسول، فقال ابن الزبعرى أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون الآيات؟ قال نعم، قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة، أهؤلاء في النار؟ قالوا فضحكت قريش وارتفعت أصواتهم وفرحوا على زعمهم أنه حجّ محمدا، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، قال تعالى في حق عيسى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية 117 من المائدة في ج 3، وقال بحق الملائكة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) الآية 41 من سورة سبأ المارة، وقال تعالى في حق عزير (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية 259 من البقرة في ج 3، بعد أن ضرب الله به المثل، ثم التفت صلّى الله عليه وسلم إلى ابن الزبعرى وقال بل هم يعبدون الشيطان لا هؤلاء، ثم قال له ما أجهلك بلغة قومك، وذلك أن ما وضعت لما لا يعقل، فيكون ما ذكر غير داخل في الآية، لأنها لم تأت بلفظ من الموضوعة لمن يعقل ليصح الاحتجاج بها، لأنها جاءت لحمل الآية على حقيقتها ورفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب كما قاله بعض المفسرين، وبما أن ما صريحة هنا بأنها لغير العقلاء فلم يتجه خلط ابن الزبعرى، وهذا بعد أن قال له ذلك حضرة الرسول نكس رأسه، وخسىء هو ومن معه، وتفقئوا خجلا وحياء بعضهم من بعض، ثم أنزل الله بعدها «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» كعيسى وعزير

وإخوانهم من الأنبياء والملائكة وأصنافهم وكل صالح محسن مطيع من المؤمنين ممن سبقت لهم السعادة «أُولئِكَ» الأفاضل الأكارم «عَنْها» أي جهنم «مُبْعَدُونَ» 191 لا يردونها ورود دخول أبدا. وهذه الآية عامة يدخل فيها كل من قدر الله له دخول الجنة وهؤلاء المحسنون «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» صوت لهيبها «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ» من نعيم الجنة وكرامة ربهم «خالِدُونَ» 102 في جنة ربهم المقدرة لهم «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» في هول الموقف ودخول النار «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» على أبواب الجنة يحيونهم ويقولون لهم «هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» 103 في الدنيا، وما قيل إنه بعد ذلك ذهب أبو جهل وجماعة من قريش إلى أبي طالب وكلفوه منع ابن أخيه من التعرض لآلنهتهم على الصورة المارة في الآية 107 من سورة الأنعام المارة، وعلى الصورة التي ذكرناها في الآية 26 من السورة نفسها لا يصح، لأن أبا طالب توفي قبل هاتين الحادثتين بكثير كما أشرنا إليه في الآيتين المذكورتين، وأن هذه متأخرة عن وفاة أبي طالب، لذلك فإنه قيل لا قائل له، واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» مثل طي الصحف والطي ضد النشر وهو تكويرها ولفها ومحو رسومها بعد أن كانت مبسوطة منشورة بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم، لأن طي الشيء كناية عن نسيانه وإعدامه وعدم تذكره بالمرة. وقال بعض المفسرين إن السجل اسم ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان دفع كتابه إليه فطواه ورفعه، والأول أولى، لأن السجل هو مجموع الصحائف التي تسجل فيها الأعمال، ومنه أخذ أهل الدنيا تسميتهم ما يدون به وقائع الأحوال الدنيوية سجلا في المحاكم وغيرها «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» بعد الموت مثل ما خلقناه أولا على هيئته، وقد وعدنا الرسل بذلك «وَعْداً» حقا ثابتا لا يبدل ولا يغير وهو لازم «عَلَيْنا» بأن من خلقناه في الأزل كافرا نعيده بعد الموت كافرا، ومن خلقناه مؤمنا نعيده يوم الحشر مؤمنا، وهذا واجب علينا إنجازه على طريق الوفاء بالوعد «إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» 104 لما نعد به لا نخلفه البتة، وهذه الآية والآية 30 من سورة الأعراف في ج 1 تؤيدان ما مشينا

عليه من تفسيرهما بأن الذي خلق يوم خلق الذر كافرا يموت كافرا ويحشر كافرا ولو عمل ما عمل من الخير كإبليس، والذي خلق مؤمنا يموت ويحشر مؤمنا، ولو فعل ما فعل من الشر، كسحرة فرعون، والحديث الصحيح الذي ذكرناه في الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1، يؤيد هذا بزيادة فيما يبدو للناس، كما هو في صحيح البخاري، وعليه فلا عبرة فيما يقع للعبد في متوسط عمره من أفعال الخير والشر، وإنما العبرة بالخاتمة نسأل الله حسنها. قال تعالى «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ» المنزل على داود عليه السلام «مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة لنزوله بعدها، وقيل الذكر اللوح أو أم الكتاب أو غير ذلك، والأول أولى «أَنَّ الْأَرْضَ» أل فيها للعهد والمعهود من أرض الدنيا الأرض المقدسة «يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» 105 لعمارتها وحفظها بإعلاء شأن دين الله وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية 56 من سورة النور في ج 3، وهناك أقوال أخر بأن المراد بالصالحين الصالحون بعمارتها الدنيوية، وعليه فيراد بالأرض الأرض كلها قال تعالى (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الآية 127 من سورة الأعراف في ج 1 ولفظ العباد لا يختص بالمؤمنين وأقوال أخر بأنها أرض الجنة، قال تعالى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) الآية 74 من سورة الزمر المارة وأولاها أوسطها والله أعلم، وقد جاء في الزبور الموجود الآن عند النصارى وغيرهم في المزمور 37 والآية 2 ما نصه: اسكن الأرض وارع الأمانة. وفي الآية 11 أما الورعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة. وفي الآية 24 لأن المباركين يرثون الأرض، والملعونين يقطعون. وفي الآية 27 صدّ عن الشر وافعل الخير واسكن إلى الأبد. وفي الآية 29 الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد. وفي الآية 34 انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض إلى انقراض الأشرار. هذا أيها الناس كتابنا ينطق بالحق عما في كتب الأنبياء السالفين، مصدقا لما جاء فيه كما أخبرنا الله على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فاعتبروا رحمكم الله في هذه العبرة العظيمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد «إِنَّ

فِي هذا» المتلو عليكم أيها الناس، «لَبَلاغاً» اخطارا كافيا وانذارا شافيا ووعظا وافيا، «لِقَوْمٍ عابِدِينَ» 106 الله وحده مخلصين له العمل الموصل إلى البغية والمؤدي إلى المطلوب ولا بعد هذا البلاغ والبلاغ المار ذكره آخر سورة إبراهيم المارة بلاغ لمن يعتبر ويتذكر «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» 107 اجمع، لأن هذه الآية عامة لمن آمن به واتبعه ومن لم يؤمن به لأنه أتى من عند نفسه فضيّع نصيبه من هذه الرحمة، وإنما كان إرساله صلّى الله عليه وسلم رحمة لأنه حينما بعث كان الناس في كفر وجهالة، وكان أهل الكتاب في حيرة لما وقع من الاختلاف بينهم في أمر دينهم وكتبهم، ولم يكن لطالب الحق من سبيل، فدعاهم صلّى الله عليه وسلم كلهم إلى الهدى وبين لهم طريق الصواب وشرع لهم الأحكام، ووضح لهم الحلال من الحرام، وأظهر حقائق ما اختلفوا فيه، ورفع الله عن العباد المسخ والخسف وعذاب الاستئصال الذي كان يقع على الأمم السابقة، ببركته صلّى الله عليه وسلم القائل إنما بعثت رحمة مهداة، ففاز من فاز برشده، وخسر من خاب بغيّه، لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إلى الخلق كافة إنهم وجنّهم وملائكتهم، بنص هذه الآية والآية 28 من سورة سبأ المارة والآية 158 من سورة الأعراف في ج 1، لدخولهم في عموم لفظيّ الناس والعالمين وهو كذلك أما كونه رحمة للأنس والجن فظاهرا لأنه هداهم إلى الحق وأنفذهم من الكفر وشرفهم بالإيمان وسبب لهم دخول الجنان، وأما الملائكة فرحمة لهم لأنهم وقفوا بواسطته على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع الله في كتابه الذي فيه ما كان وسيكون عبارة وإشارة، وأي سعادة أفضل من التحلي بمزية العلم وقد أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهره وأمنهم مما ابتلى به هاروت وماروت، وأيد هذا صاحب الشفاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إلى السيد جبريل عليه السلام هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن. وقال ابن القيم في كتابه مفتاح السعادة لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معشية ولا قوام لمملكة، ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم من آثار النبوة، وكل شر وقع في العالم أو سيقع بسبب

إخفاء آثار النبوة ودرسها، فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه. ولهذا فإذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها، فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة، وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلّى الله عليه وسلم أكمل النبيين، وما جاء به أجمل مما جاءوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف. ووجه كونه صلّى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين أجمع أسودهم وأحمرهم عربهم وعجمهم هو أنه أكرمهم على الله، وأحبهم إليه، وأنفعهم لعباده وأتقاهم، وأرضاهم إليه، وأسخاهم فيما لديه، وأوفرهم نصيبا عنده وأكثرهم مروءة بخلقه وغيرة على دينه وكونه خاتم الرسل. وما قبل إن العالمين خاص بالمؤمنين غير وجيه لعدم وجود ما يخصصه بهم، بل إنه عام مطلق، وقد بعث صلّى الله عليه وسلم رحمة لكل فرد من أفراده إنسهم وجنهم وملائكهم، إلا أن الرحمة متفاوتة فتكون لكل بحسبه بمقتضى أعماله، كما أن العذاب والعقاب يكون كذلك. هذا وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أدع على المشركين، قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة. قال تعالى «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إنما أداة حصر، والحصر قصر الحكم على شيء، أو قصر الشيء على حكم، وعليه يكون المعنى أن الإله إله واحد لا غير البتة، وهو الذي أوحى إلي ما تلوته عليكم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» 108 منقادون إلى توحيد الله. وهذا استفهام بمعنى الأمر، مثله في قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الآية 91 من المائدة في ج 3 أي هلا تنتهون عن شرب الخمر واللعب بالميسر وكل ما نهى الله عنه؟ والمعنى هنا هلا أسلمتم بعد ما أوضحنا إليكم الدلائل، فأسلموا تسلموا خير لكم، ولهذا يقول الله «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا محمد ولم يذعنوا لك «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ» أعلمتكم وأنذرتكم أيها الناس ما أمرني به ربي. وكلمة آذن تتضمن الإنذار والتحذير من الحرب، ولا سيما قد تقدمه الإنذاران المشار إليهما آنفا، وهذه كلها من مقدمات الهجرة التي آن أوانها والتي ستكون سببا للحروب معهم وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى «عَلى سَواءٍ» أي لم أخص أحدا منكم بذلك الإعلام المسبوق

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 111 إلى 112]

بالإنذارين، وإنما أعمكم جميعا لأنكم في المعاداة سواء. على وجه نستوي فيه نحن وأنتم بالإعلام والإخطار، وهذه طريقة الأنبياء قبلي إذ كانوا يخوفونهم وينذرونهم عذاب الله، لا يخصون بإنذارهم أحدا، وهانذا أنصحكم فتأهبوا لما يراد بكم «وَإِنْ أَدْرِي» وما أعلم يا قوم «أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ» 109 به من العذاب الذي تجازون به على أعمالكم القبيحة، لأن الله لم يطلعني عليه ولا على وقت وقوعه، فأنا وأنتم بعدم العلم به سواء، ولكنه كائن لا محالة «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ» 110 لا يعزب عنه شيء فكل ما تكنّونه لي من الحقد والإحن وما تطعنون بي وبديني معلوم عند الله، ولا بد أن ينتقم لي منكم إن لم تتوبوا وترجعوا عن غيكم في الدنيا أو في الآخرة، وإني لأرجو أن ينتقم منكم فيهما إن بقيتم مصرين «وَإِنْ أَدْرِي» وما أدري «لَعَلَّهُ» أي تأخير العذاب عنكم «فِتْنَةٌ لَكُمْ» امتحان واختبار يختبركم به الله لتعلموا أنتم وليعلم بعضكم بعضا أن الحجة عليكم، وإلا فإن الله تعالى عالم بما هو واقع منكم قبل وقوعه، وما أدري هل هذا الإمهال استدراج تغترون به «وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» 111 معلوم عنده تتمتعون به أياما قليلة، ثم يريكم سوء صنيعكم قبيح عملكم وخبث فعلكم «قالَ» وقرىء قل يا أكمل الرسل «رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ» بيني وبينهم والله تعالى يحكم بالحق بين جميع خلقه على السواء، ومعنى هذا الطلب ظهور الرغبة من الطالب وإعلام المطلوب أنه لا يريد غير الحق من ربه، لتطمئن نفسه بأن إلهه لا يحب إلا طلب الحق، ولكن طلب الرسول هذا يفيد الاستعجال، بنزول العذاب بقومه لما رأى من تضاعف عنادهم وتكاثر عتوهم وتوالي أذيتهم له ولقومه وتطاولهم على دينه وكنابه وإن الله تعالى قد أقر عينه فيهم، إذ عذبهم في واقعة بدر، وقهرهم في فتح مكة في الدنيا، ولعذاب الآخرة المخبوء لهم أشد وأدهى، كما أنه أقر عينه بمن آمن منهم، لأن إيمانهم أحب إليه من كل شيء «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ» به «عَلى ما تَصِفُونَ» 112 به حضرته المقدسة من الشرك وتصمونه من التكذيب وتوقعونه بنبيه وأصحابه من الأذى والإهانة ولا عون لرسوله عليكم غيره، أضاف صلّى الله عليه وسلم لفظ الرب لنفسه وحده، لأنه في معرض الدعاء

تفسير سورة المؤمنين عدد 24 - 74 و 23

والدعاء من وظائفه الخاصة. وأضافه ثانيا له ولأصحابه لأنه في معرض طلب العون والغوث والرحمة، وهي من الوظائف العامة به وبهم، وقرىء (يصفون) بالياء أيضا، وفي ذكر صفوة الخلق وما يتعلق به بختام هذه السورة بهذه الجملة التي لا توجد سورة مختومة بها طيب تضوع منه المسك، كما أن ما بدئت به من أحوال القيامة هول تنفطر له الأجساد، وما بينهما آيات وعظات عظيمة وعبر وأخبار فخيمة ما وراءها وراء. أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال إني استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر لا حاجة لي في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: اقترب للناس حسابهم إلخ. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. تفسير سورة المؤمنين عدد 24- 74 و 23 نزلت بمكة بعد سورة الأنبياء، وهي مئة وثماني عشرة آية، وثمنمئة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمنمئة حرف وحرفان، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مختومة بما ختمت به من الجمل، ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» 1 فازوا وظفروا بمطلوبهم وخلصوا ونجوا مما يرهبون، وهؤلاء المفلحون هم «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» 2 لله خاضعون لهيبته خائفون منه متذللون إليه طلبا لقبولها منهم. مطلب الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها والزكاة ولزوم أدائها والأمانة والعهد والحكم الشرعي فيهما: روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد.

وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه. ولهذا أجمعت الفقهاء على أن وقوع ثلاث حركات متوالية من المصلي تبطل صلاته. وقد حذر حضرة الرسول من العبث في الصلاة، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم! فاشتد قوله في ذلك، حتى قال لينتهينّ عن ذلك أو لتخطفنّ أبصارهم. واعلم أن الخشوع هو جمع الهمة والإعراض عن سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر، لأن من لا يتدبر القراءة لا يعرف معناها، ومن لم يعرف معناها لا يخشع لها، ومن لا يخشع لها فكأنه لم يقرأ. وأعلم أن المصلي إذا عرف نفسه أنه واقف بين يدي الله العظيم بالغ في الخشوع والخضوع والخوف، فقد ذكر البغوي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وأخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله عنها قالت: رآني أبو بكر أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف من صلاتي، ثم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميّل تميل اليهود، فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة. ومن الخشوع عدم كفّ الثوب والتمطي والتثاؤب والتغطية للفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقليب ما يسجد عليه، ومهما أمكن أن لا يخطر في قلبه غير ما هو فيه، وان يتعلق بالآخرة، لأن الخشوع محله القلب ويظهر عدمه بحركات الجوارح وهو من السنن المؤكدة في الصلاة. وقال بعض العلماء بوجوبه وفرضيته. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ» هو كل كلام ساقط من هزل وشتم وكذب وما لا يعتد به من الكلام، والذي يصدر عن غير رويّة وفكر باطلا أو غير باطل. راجع ما بيناه في هذه في الآية 72 من سورة الفرقان ج 1 وفي الآية 67 من سورة الأنعام المارة، وله صلة في الآية 11 من سورة النور في ج 3، «مُعْرِضُونَ» 3 في عامة أوقاتهم وفي الصلاة خاصة ليحصل لهم فيها الفعل والترك الشاقّين على النفس

اللذين هما قاعدتا التكليف وبناؤه «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» 4 مداومون عليها محافظون على أوقاتها وأدائها، ولا محل للقول بأن الزكاة لم تفرض بعد، لأن السورة مكية وقد فرضت في المدينة، وإن القصد هنا هو تزكية النفس من الأفعال المشينة لها وأنها على حد قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) الآية من سورة الأعلى في ج 1، وقوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) الآية من سورة والشمس المارة في ج 1 أيضا لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، ولا ينبغي العدول عن ظاهره وعن تفسير بعضه لبعض ما أمكن، وان معنى هذه الآيات على هذا هو فعل ما تزكى به النفس من المناقب واجتناب ما يشينها من المثالب كلها ليستوجبوا تزكية الله تعالى لهم وتطهيرهم من الذنوب والنقائص والعيوب، لأن المراد وصفهم بالزكاة المطلقة التي هي عبادة مالية، وقد ذكرنا غير مرة عند ذكر لفظ الزكاة أي القصد منها ما كان متعارفا عندهم إنفاته قبل الإسلام غير الزكاة المفروضة على هذه الأمة، لأن العرب كانت تزكي زكاة تلقتها عن أوائلهم، قال أمية بن الصلت: المطعمون الطعام في السنة الأز ... مة والفاعلون المزكوات ولم يرد عليه أحد، فلو لم تكن معروفة عندهم لردوا عليه لأنهم لا يسكتون إذا سمعوا غير الواقع، وتفسير ما نحن فيه بمعنى الآيتين المذكورتين آنفا بعيد، لأنهما ليستا مما نحن فيه، ولأن اقتران وصفهم بالصلاة التي هي عبادة بدنية ينادى على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة التي هي عبادة مالية، وعليه يكون المعنى الفاعلون لأدائها لمستحقيها بأوقاتها عن طيب نفس طلبا لثوابها، وعلى هذا فلا يقال أيضا إن حضرة الرسول وأصحابه طيلة وجودهم في مكة لم يزكوا مع توالي نزول الآيات التي هي من هذا القبيل عليهم، بل كانوا يزكون، لأن الرسول كان فيما لم يؤمر به يجري فيه على طريقة إبراهيم عليه السلام وشريعته، وهل يمكن أن يقال لا زكاة في شريعة من الشرائع؟ كلا، ولكنهم كانوا يتصدقون بما يتيسر لهم من جهدهم، لأن أكثرهم فقراء معدمون، ولذلك لم يشتهر عنهم فعل الزكاة في مكة. هذا، ولفظ الزكاة يصرف على إنفاق المال حقيقة، وصرفها لغير هذا المعنى مجاز، ولا يعدل عن الحقيقة إلا إذا تعذرت، وهي غير متعذرة هنا. قال تعالى «وَالَّذِينَ

هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» 5 عن كل ما حرم الله قاصرون على ما أحله لهم والفرج مطلق الشق بين الشيئين، ثم أطلق على سوءتي الرجل والمرأة، وحفظهما التعفف عن الحرام، ثم استثنى جل شأنه فقال «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» من الجواري والإماء ملكا حقيقيا، لأنه من الحلال. وهذه الآية خاصة بالرجال بحسب الظاهر، لأن النساء لا يسوّغ لهن ذلك، فلا يجوز أن يستمتعن بما ملكت أيمانهن من العبيد والإماء بالإجماع. أخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: تسرّت امرأة غلاما، فذكرت لعمر رضي الله عنه، فسألها ما حملك على هذا؟ فقالت كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين، فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا تأولت كتاب الله على غير تأويله (أي لا حدّ عليها لأن التأويل يدرا الحد، وقال صلّى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات) فقال رضي الله عنه لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا. أي أنه جعل عقابها ذلك ودرأ عنها الحدّ وأمر العبد أن لا يقربها. واعلم أن المرأة إذا كانت متزوجة بعبد فملكته وأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار. وقال النخعي والشعبي وعيد ابن عبد الله بن عقبة: يبقيان على نكاحهما. والمراد بما ملكت أيمانهم السريات الأناثي فقط، إذ أجمعوا على عدم حل وطء المملوك الذكر، وإنما عبر عنهن بما دون من إما لعدم اختصاص ما لغير العقلاء لأنهم على الغالب فيهم، أو لأنهن مثل السلع يبعن ويشترين لعدم الاكتراث بهن أو لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن أجرين مجرى غير العقلاء، هذا إذا كن من الروم والجركس ونحوهم، أما إذا كن من الزنج والحبش وشبههم فإنهن من نوع البهائم وما نوع البهائم عنهن ببعيد- إلا إذا زكّتهن الهداية- فلا غرو إذا عبر عنهن بما «فَإِنَّهُمْ» إذا لم يحفظوا فروجهم عن إمائهم وجواريهم الإناث «غَيْرُ مَلُومِينَ» 6 على جماعهم هذا الصنف من الإماء والجواري للإذن فيه، لأن كل ما أذن فيه لا يلام فاعله عليه «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ» ولم يقتصر على أزواجه وسراريه وتعدى إلى غير ذلك والعياذ بالله «فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 7 المبالغون في العدوان المتجاوزون حدود الله، لأن هذه الآية دالة على تحريم ما عدا ذلك من الاستمناء باليد وبالدبر من الصنفين وإتيان الحيوانات وكل ما لم يأذن به الشرع.

واعلم أن من قال إن هذه الآية ناسخة لآية المتعة المزعومة في الآية 24 من سورة النساء لا ثقة بقوله، لأن هذه مكية متقدمة عليها بالنزول، وتلك الآية مدنية متأخرة عنها، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا. وكذلك القول في الآية 10 من سورة المعارج الآتية لا تكون ناسخة لها للعلة ذاتها والسبب نفسه. وعلى من يدعي العلم ويقول بالنسخ أن يتثبت من معرفة أحواله وقواعده ثم يقول، لا انه رجما بالغيب بادىء الرأي، فيعرض نفسه للقدح والوصم بجرأته على كتاب الله المنزه عن كل ثلب. ولنا بحث في المتعة نبديه إن شاء الله في تفسير آية النساء المذكورة أعلاه فراجعه. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» 8 محافظون لما ائتمنوا عليه من مال وغيره مراعين به حق الله مؤدين له لأربابه حال طلبهم كما استلموه منهم، إذ لا يجوز لهم التصرف بالأمانة، وموفون بما عاهدوا الله عليه قبل وبعهدهم لرسوله صلّى الله عليه وسلم، ولما عقدوا ويعقدوا بينهم من العهود للمؤمنين وغيرهم مهما كان دينهم، لأن الوفاء بالعهد واجب لأي كان، راجع الآية 34 من سورة الإسراء ج 1 والآية 91 فما بعدها من سورة النحل المارة، وأصل الرعي حفظ الحيوان، ثم استعير للحفظ مطلقا. والأمانة منها ما يكون بين العبد وربه كالوضوء والصلاة والصوم وغسل الجنابة وغيرها مما أوجبه الله تعالى على عباده مثل البر باليمين، وما يتعلق بالأقوال التي تحرم بها النساء والإماء ويعتق بها الجواري والعبيد لأنه مؤتمن في ذلك فيما بينه وبين ربه، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الآية 37 من الأنفال في ج 3، وقال عليه الصلاة والسلام أعظم الناس خيانة من لم يتم صلاته. وجاء عن ابن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة. ومنها ما يكون بين الناس أنفسهم كالودائع والعقود والضائع والأسرار فيجب المحافظة عليها والوفاء بها، إذ لا فرق بين من يفشي سرا ائتمن عليه، وبين من يختلس مالا استودعه. الحكم الشرعي: وجوب حفظ الأمانة بالمحل الذي يحفظ به ماله من جنسها، وإذا لم يفعل وطرأ عليها طارئ فإنه يعد مقصرا شرعا ويضمنها إذا سرقت أو تلفت، ويصدق بردّها بقوله دون حاجة لإقامة حجة، وإن أقامها براءة لذمته جاز، وليس للمودع تكليف

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 11 إلى 20]

الوديع بينة على الردّ لأنه استلمها بلا بينة، ولأن المقصود منه الأمانة، إذ لا ينبغي لصاحب المال أن يودع ماله إلا عند من اشتهر بالأمانة والديانة وحصلت له الثقة به، فإذا أودعها عند من ليس من أهلها وأنكرها عليه فلا يلومن إلا نفسه، لأنه هو الجاني عليها، وليس للوديع أن يودعها عند غيره بغير إذن المودع أو تفويضه، فإن فعل ضمن أيضا. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» 9 بأن يؤدوها بأوقاتها بطهر كامل ويتموا أركانها وشروطها بوجه أكمل، ولا يعد هذا تكرارا لأنه تعالى وصف أولا الصلاة بالخشوع وأخيرا بالمحافظة، والمحافظة غير الخشوع، ولأنها أعظم أركان الدين خصت بمزيد الاعتناء فذكرت مرتين. الحكم الشرعي: في تاركها كلا الحبس والتفسيق، وعمدا تهاونا وجحودا لفرضيتها الكفر والقتل حدا، ولا عذر في تركها ما قدر العبد أن يؤديها ولو بالإيماء، ويكفي في ذلك لعن تاركها من قبل حضرة الرسول ونفي الأمانة عنه، ومن لم يحافظ على أركانها وشروطها كان كمن لم يقمها ولم يحافظ عليها، قال عليه الصلاة والسلام إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت حفظك الله كما حافظت علي وشفعت لصاحبها، وإذا أضاعها (أي لم يقم بشروطها) قالت أضاعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها. أي يوم القيامة إذ تمثل العبادات والأعمال وتجسم «أُولئِكَ» الذي هذه صفاتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْوارِثُونَ» 10 الأخلاق الحميدة والأفعال المجيدة في الدنيا وهم «الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ» أعلى مراتب الجنة «هُمْ فِيها خالِدُونَ» 11 أبدا، أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. وأخرج أيضا عن عمر بن الخطاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوما فمكث ساعة ثم سرّي عنه، فقرأ (قد أفلح المؤمنون) إلى عشر آيات من أولها وقال من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة. ثم استقبل القبلة

مطلب مراتب الخلق، وتعداد نعم الله على خلقه:

ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا. مطلب مراتب الخلق، وتعداد نعم الله على خلقه: قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» آدم عليه السلام بدليل قوله «مِنْ سُلالَةٍ» أي خلاصة «مِنْ طِينٍ» 12 معجون من أنواع تراب الأرض، ولذلك ترى أولاده الأبيض والأحمر والأسود والأصفر وما بينهما، والمؤمن والمنافق والكافر والمرائي والمداهن وما بينهما «ثُمَّ جَعَلْناهُ» أي الإنسان «نُطْفَةً» ماء قليلا نحو النقطة من مائي الرجل والمرأة والمراد نسل آدم، لأنه المخلوق من النطفة لا آدم نفسه «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» 13 حصين وهو الرحم لا يتسرب إليه غيرها «ثُمَّ خَلَقْنَا» وسط ذلك الرحم المحرز المصون بتلك «النُّطْفَةَ» فصيرناها «عَلَقَةً» قطعة دم جامد «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ» المذكورة وصيرناها في مقرها «مُضْغَةً» قطعة لحم صغيرة «فَخَلَقْنَا» تلك «الْمُضْغَةَ» نفسها بأن أحلناها «عِظاماً» وعروقا داخل مقرها المذكور «فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» سترناها به، ولذلك قال كسونا لأن اللحم كالكسوة للعظم والعرق، إذ تتداخل به وتمتد لربط المفاصل بصورة محكمة من فعل الحكيم القدير «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» بسبب نفخ الروح فيه وصيرورته حيوانا سميعا بصيرا ناطقا بعد أن كان جمادا، فهو مباين لحالته الأولى، ولذلك قال تعالى (خَلْقاً آخَرَ) وفي العطف بثم المفيدة للتراخي إعلام بأن ما بين كل حالة وأخرى احتياج إلى الزمن، وهو كذلك لما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة (فيما يبدو للناس) حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار (فيما يبدو للناس)

حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. واعلم أن جملة فيما يبدو للناس لم تكن في هذا الحديث، وإنما هي في حديث آخر رواه البخاري، ولذلك جعلناها بين قوسين، ورويا عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقها، قال يا رب أذكرا أم أنثى أسقي أم سعيد، في الرزق، في الأجل، فيكتب له ذلك في بطن أمه قال تعالى «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» 14 المبدعين المصورين المقتدرين الموجدين، وقد ذكرنا مراتب الخلق في الآية 64 من سورة المؤمن والآية 14 من سورة الأحقاف المارتين فراجعهما. «ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس «بَعْدَ ذلِكَ» الخلق وخروجكم من الرحم واستيفاء آجالكم في الدنيا «لَمَيِّتُونَ» 15 ومفارقون هذه الأرض التي نشأتم عليها فتدفنون فيها أو فيما فيها «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بعد انقضاء أجلكم في البرزخ كما هو مقدر أزلا «تُبْعَثُونَ» 16 أحياء كما كنتم في الدنيا فتساقون إلى الوقف وتحشرون فيه فتحاسبون وتجازون على ما عملتموه الخير بأحسن منه والشر بمثله، فعلى العاقل أن يتهيأ للموت لأن أمرا لا تدري متى يغشاك يجب أن تستعد له قبل أن يفاجئك قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ» سموات سميت طرائق لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» 17 لاهين ولا ساهين عن أقوالهم وأفعالهم، بل كنا ولا نزال متيقظين لحفظ أعمالهم ونحصيها عليهم كما نحفظهم في حياتهم حتى يبلغوا أجلهم وما قدر إليهم في الدنيا ويستوفونه كاملا. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ» لحاجة البشر وزروعهم وأنعامهم ومنافعهم «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» وجعلناه ينابيع عيونا وأنهارا متنوعة، ونظير هذه الآية بالمعنى الآية 22 من الزمر المارة «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» 18 كقدرتنا على إنزاله وإسلاكه في الأرض والإعادة أهون من الابتداء لأنه إبداع على غير مثال سابق والإعادة إرجاع الشيء لأصله وهو سهل على كل مبدع «فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 إلى 30]

فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» 19 شتاء وصيفا رطبا ويابسا «وَشَجَرَةً» أنشأناها لكم أيضا «تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ» جبل بفلسطين ملتف بالأشجار وكل ما هو كذلك يسمى سينا «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» الزيت لأن ثمرها الزيتون والدهن يعصر منه فكأنها نبتت به «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» 20 أدام يصبغ الخبز بصفاره الصافي البديع، قالوا إن أول شجرة ثبتت في الأرض بعد الطوفان هي الزيتون، وقالوا إنها تعيش ثلاثة آلاف سنة، ويدل على هذا تأخر إعطائها الثمر، والزيتون الموجود الآن بقضاء الزوية يسمّونه الروماني، ويقولون إنهم تلقوه عن أجدادهم الذين لا يعرفون تاريخ زرعه، وإذا أنعم الإنسان النظر فيه يصدق عقلا بأنه من زرع الرومان الذين كانوا في تلك المنطقة لما يرى من كبر أشجاره وتعميرها، ومن موقعه وأرضه والله أعلم. قال تعالى بعد أن عدد هذه الصفات العشر التي ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان وبيّن أحوال خلقه ومآلهم وعودهم إلى خالقهم وأفهمهم بأنه كما كان أصل الإنسان من الماء فكذلك الأشجار أصلها من الماء، وبين ما أودعه في السموات والأرض من منافع إليه، ذكر ما خلقه أيضا لأجله فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها» إذ نخرج لكم منها لبنا خالصا، راجع الآية 66 من سورة النحل المارة وقد بين فيها سبب تذكير الضمير هناك وتأنيثه هنا «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ» جليلة من ثماد ودثار وظلال ولباس وزينة ورياش «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» 21 وتشربون أيضا، وقد حذف الشرب لدلالة الأكل عليهَ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» 32 برا وبحرا، وتقدم أيضا في الآية 6 من سورة النحل ما يتعلق بهذا فراجعه، كما بينّا ما يتعلق بالسماوات في الآية 45 من سورة الذاريات المارة، وسيأتي لها بحث في الآية 12 من سورة النبأ الآتية والآية 25 من سورة النازعات والآية 5 من سورة والشمس الآتيتين وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» 13 عقابه، تأكلون رزقه وتعبدون غيره «فَقالَ الْمَلَأُ» أشراف قومه لأن أكثر ما يصيب الضعفاء

بذنوب الأكابر لأنهم القادة والسادة وإليهم الأمر والنهي طلبا لما عندهم من المال والجاه، ثم فسر الملأ بقوله «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا» نوح وقومه الذين يدعونكم إلى عبادة ربهم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» بدعوته لتكون الرياسة له عليكم وتكونوا أتباعا له «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» أن يرسل أحدا لدعوة خلقة إلى عبادته كما يزعم نوح «لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعونهم إليه لا بشرا مثلنا «ما سَمِعْنا بِهذا» الذي يدعو إليه نوح «فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» 24 ولم ينقل لنا عنهم أحد شيئا من هذا «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» فلا تسمعوا قوله أيها الناس اتركوه وشأنه «فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» 25 موته أو إلى أن يتبين لكم حاله عند صحوه من جنونه فإذا أصر على قوله قتلناه، فلما سمع هذا منهم ويس من إيمانهم دعا ربه بإهلاكهم، فأهلكهم كما قدمنا في القصة الواردة في الآية 26 من سورة نوح المارة. وفيها ما يرشدك إلى توضيحها في الآية 35 من سورة هود، وقال تعالى حاكيا عن نبيه بما معناه بالآية 37 من سورة الفرقان في ج 1 «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ 26 فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا» على مرأى منا «وَوَحْيِنا» بكيفية صنع السفينة «فَإِذا جاءَ أَمْرُنا» بعذاب قومك غرقا «وَفارَ التَّنُّورُ» تقدم بيانه ومكانه وكيفية الغرق ومدته ومكان السفينة ومرساها في الآية المذكورة في سورة هود فما بعدها «فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ» من أصناف الحيوان «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ» ومن آمن بك احملهم معك «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» فلا تحمله معك وهم زوجته واعلة وابنه كنعان كما مر أيضا هناك «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» من قومك «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» 27 جميعا حيث حق القول عليهم مر تفسير مثلها في الآية 37 من سورة هود أيضا «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 28 أنفسهم بكفرهم وعصيانهم «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» 29 لأنا ضيوفك فهيئ لنا مكانا، من خيراتك، وكثر لنا نسلنا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 إلى 34]

فيه نكثر من عبادتك، وإنما وصفه بالأخيرية لأن المضيف يكرم أضيافه ويحتاط بأمرهم، ولكن لا يقدر أن يكلأهم في سائر أحوالهم ويدفع عنهم المكاره في تقلّباتهم مثل الإله القادر على ذلك وغيره «إِنَّ فِي ذلِكَ» إنجاء نوح ومن معه وإغراق قومه وابنه وزوجته «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال القدرة وموجبات العظة والعبرة «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» 30 الناس ومختبريهم وممتحنيهم بإرسال الرسل لتنظر هل يسمعون لهم او يعرضون عنهم، وهذا بالنسبة للخلق، وأما الخالق فهو عالم بذلك قبل كونه. وإن هنا مخففة من الثقيلة، واللام فيها بعدها اللام الفارقة بين النافية والمخففة، وما قيل إنها نافية فليس بشيء، لأن النافية لا يليها اللام والجملة حالية «ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» 31 هم قوم عاد «فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» هود عليه السلام فقال لهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» 32 الله ولا تخافون أن يهلككم كما أهلك قوم نوح قبلكم «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ» وحضورهم لدينا بالموقف العظيم وجحدوا الحساب والعقاب «وَأَتْرَفْناهُمْ» نعّمناهم ووسعنا عليهم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وبلغناهم آجالهم وما قدر لهم فيها، ومقول القول «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ» 33 منه حذف من الثاني بدلالة الأول يريدون أن الرسل لا تكون من البشر بل من الملائكة كما قال من قبلهم إذ تشابهت قلوبهم، فكل ما نطق به الأوائل تدرج إلى الأواخر فتكلموا به، ولهذا قالوا الكفر ملّة واحدة، أي من حيث الأصول، وقال أيضا بعضهم لبعض «وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» 34 مكانتكم وسطوتكم، وهذا هو المانع الحقيقي لهم ولغيرهم من الإيمان بالله ورسله، أعماهم الله أنفوا من الانقياد إلى من هو مثلهم في الأصل وقد شرفه الله بالرسالة وعبدوا أعجز منهم لأجل الدنيا، ولو اهتدوا بهدى أنبيائهم لربحوا الدنيا والآخرة، لأن الأنبياء لا يريدون الرياسة التي هي من شأنهم، ولم يقصدوا بدعوتهم التفوق عليهم، وقال أيضا بعضهم لبعض غافلين عن كيفية إيجادهم «أَيَعِدُكُمْ» هذا الرسول

«أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» 35 من قبوركم أحياء كما كنتم في الدنيا «هَيْهاتَ هَيْهاتَ» أي بعد بعدا بعيدا «لِما تُوعَدُونَ» 36 من البعث بعد الموت وإكسابكم حياة ثانية، خذلهم الله نسوا خلقهم من العدم على طريقة الإبداع وجحدوا إعادتهم لحالتهم الأولى وقالوا عتوا وعنادا «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ وَنَحْيا» أي أيعقل أن نموت ثم نحيا؟ كلا لا صحة لهذا، والمعنى على ما ذكره المفسرون نحيا ونموت على أن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، للعلم بأن الإحياء أولا ثم الإماتة، وأرى أن الأول أولى لقولهم «وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» 37 بعد موتنا أبدا «إِنْ هُوَ» وقالوا أيضا ما هذا الذي يدعوكم إلى هذه الدعوة المبتدعة «إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بقوله بوجود حياة أخرى «وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» 38 بمصدقين اختلاقه وافتراءه ولا نسمع لقوله، ولما أيس منهم دعى عليهم «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» 39 فأجاب الله دعاءه «قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» 40 على تكذيبهم لك «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ» من السيد جبريل عليه السلام فتصدعت لهولها قلوبهم فأهلكوا جميعا، قال الشاعر: صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان قال تعالى «فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» بتخفيف الثاء أي يابسين كالأوراق والعيدان التي يجرفها السيل وبالتشديد أيضا، قال امرئ القيس: كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثّاء فلكة مغزل والمجيمر جبل من جبال بني أسد «فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 41 أي هلاكا، من المصادر المنصوبة بأفعال لا ينطق بها ولا تكتب ولا يستعمل إظهارها. «ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ» 42 أيضا وأرسلنا إليهم رسلا فكذبوهم، وهذه كالتسلية لحضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره من تكذيب قومه ليتأسى بمن قبله وقبلهم، وكل من هذه القرون أهلكت بأجلها المعين لها في علم الله المقدر على تكذيبهم لرسلهم أيضا، لقوله تعالى «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» المقدر

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 46 إلى 55]

لإهلاكها «وَما يَسْتَأْخِرُونَ» 43 عنه لحظة واحدة «ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا» واحدا بعد واحد متتابعين غير متواصلين إذ جعلنا بين كل رسول وآخر فترة، بأن كان إرسال كل رسول متأخرا عن إنشاء قرن مخصوص به كما يدل عليه قوله «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً» بالإهلاك «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتسامرون بشأنهم «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» 44 بالله ولا يصدقون رسله «ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» 45 واضح بقوة وحجة وبرهان عظيم «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا» عليهما وأنقوا منهما وتعاظموا «وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» 46 بزعمهم على غيرهم وذى سلطان أكبر من غيرهم «فَقالُوا» على طريق الاستفهام الإنكاري «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» 47 أي كيف يكون ذلك وهل يتبع الأعلى الأدنى منه؟ كلا، وهذه الجملة حالية، وكان عندهم أن كل من دان لملك فهو عابد له، وعند العرب كذلك «فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ» 48 غرقا، وتقدمت قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم، وكيفية دعوتهم وإهلاكهم في الآية 59 فما بعدها من سورة الأعراف ج 1 فراجعها، «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ» أي قومه «يَهْتَدُونَ» 49 فمنم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» دالة على قدرتنا لأنا أوجدناه من غير أب، ولم يقل آيتين للسبب الذي أشرنا إليه في الآية 91 من سورة الأنبياء المارة، ولما عرب هو وأمه إلى مصر خشية تسلط أعدائه عليه حفظناهما منهم «وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ» مكان مرتفع في مصر قرب النيل. مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام إلى مصر، وأن الذي أمر الله به الأنبياء أمر به المؤمنين، وأن أصول الدين متساوية: وذلك أنه عليه السلام بعد أن أتت به أمه من بيت لحم محل ولادته إلى قريتها الناصرة وأظهر الله له المعجزات، كان الجبار هيدروس أمر بقتل الأطفال الذين ولدوا في بيت لحم، لما أخبر أن منهم من يصير سببا لخراب ملكه، كما فعل قبله

النمروذ وفرعون، وعلمت أمه أنه يريد قتله انتدبت الرجل الصالح يوسف النجار وهربها إلى مصر. وليس المراد بهذه الربوة بيت لحم إذ لا ماء جار فيها كما أشرنا إليه في الآية 24 من سورة مريم في ج 1، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى (وَآوَيْناهُما) إلخ يعني لمصر، لأنها خزائن الأرض كلها وسلطانها سلطان الأرضين كلها، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض) الآية 55 من سورته المارة، ففعل فأغات الناس بمصر وخزائنها. ولم يذكر الله تعالى مدينة بعينها بمدح إلا مكة ومصر، وهذا هو الصحيح، والله أعلم. إذ ليس المراد هنا محل الولادة، بل محل الهجرة، لأن الله تعالى أخبر في هذه الآية بأنه هو وأمه، وأنها لما ذهبت به إلى بيت لحم لم يكن مولودا حتى ينوه به وبقي في مصر حتى بلغ أشده أتى به وأمه إلى الأرض المقدسة ليبث دعوته في قريته الناصرة وما حولها. قالوا إن قرية الناصرة وصخرة بيت المقدس أقرب مواقع الأرض المقدسة من السماء بثمانية عشر ميلا، ومن هذه القربة اشتق اسم النصارى «ذاتِ قَرارٍ» من الأرض «وَمَعِينٍ» 50 ماء جار هو نهر النيل، ومن ظن أن هذه الآية تدل على محل الولادة لا على محل الهجرة، فسر (السرى) في سورة مريم بجدول ماء من حيث لا جدول ماء هناك كما ذكرناه فيها، وإنما هذا المعين في المحل الذي آواهما إليه كما أشرنا إليه أعلاه. هذا ولما أنهى ما قصه الله على رسوله من أخبار بعض الأنبياء وأممهم، شرع يخاطبه ضمن الرسل كافة بأن يداوم على ما هو عليه بقوله «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً» لأنفسكم وأممكم والناس أجمعين، وهم لا شك يعملون ذلك كله، وإنما المراد أمرهم بالدوام على ما هم عليه، وعدم الالتفات لتكذيب أقوامهم ومخالفتهم لهم «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» 51 ويجوز أن يراد بهذا الخطاب أقوامهم أيضا لما فيه من معنى التحذير، على أن الخطاب للرسل خطاب لأقوامهم. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) الآية، وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل

يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ بصره إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب؟. وذلك لأن أكل الخلال من شروط الاستجابة التي لا بد منها، كما سيأتي في الآية 186 من سورة البقرة في ج 3، فكيف إذا كان كلّه حراما أيستجاب له؟ كلا ثم كلا. إلا أن يشاء الله القائل «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» تقدم مثلها في الآية 92 من سورة الأنبياء المارة، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية 13 من سورة الشورى المارة، وقال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية 163 من سورة النساء في ج 3، فيفهم من هذا ومما قدمناه في آية الأنبياء، أن الشرائع كلها من حيث أصول الإيمان كالاعتراف بالوحدانية لله وإرسال الرسل والمعاد واحدة لا فرق بينها أصلا، وهو كذلك، لأن الاختلاف الحاصل عبارة عما يتعلق في هذه الأصول مما هو رحمة وتخفيف للأمة بما يوافق العصور وأهلها، وفي الفروع المتعلقة بأنواع العبادات المالية والبدنية والمشتركة، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة في ج 3، ومن هنا أخذت قاعدة: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومنها قاعدة تعديل القوانين الموقتة بما يوافق المصلحة للدولة والأمة، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 13 من سورة الشورى فراجعها. «وَأَنَا رَبُّكُمْ» الإله الواحد الذي لا رب غيره «فَاتَّقُونِ» 52 لا تخالفوا أمري وأمر النبي المرسل إليكم من قبلي إذ يبلغكم كلامي الذي هو من حيث الأس واحد أيضا، «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً» قطعا مختلفة وأديانا متفرقة وصار «كُلُّ حِزْبٍ» منهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» 53 لزعمهم أن ما هم عليه هو الحق، وما سواء باطل، لأنهم لم يتفقوا على ما أمروا به من قبل الرسل مما هو متعلق بأمر الدين، فتفرقوا وتعادوا من أجل هذا التحزب، وهكذا مصير كل أمة تتحزّب وتتفرق، ولهذا أمر الرسول بجمع الكلمة، وقال: الجماعة رحمة والفرقة عذاب، راجع الآية 30 من سورة المؤمن المارة، لأن الدين في الأصل كله واحد كما أن الرب واحد، وما يأتيهم من قبل الرسل واحد، لأنه من الرب

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 56 إلى 65]

الواحد، وهذه الآية تشعر بذمّهم لأنهم آمنوا ببعض ما في كتبهم وكفروا ببعض، فسببوا تشتيت الكلمة وانحاز كل منهم إلى جهة ترمي بخلاف ما عليه الحزب الآخر. وتؤذن هذه الآيات بأن قوم محمد صلّى الله عليه وسلم تقولوا فيه الأقاويل، واختلفوا فيما بينهم بشأنه وشأن كنابه وربه عز وجل، فاتبعوا الباطل وعملوا عن الحق الذي جاءهم به. وإذا كان هذا شأنهم يا حبيبي «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ» غفلتهم وجهلهم وعماهم «حَتَّى حِينٍ» 54 انقضاء الأجل المضروب لهم «أَيَحْسَبُونَ» المؤمنون من قومك «أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ» نمنح به هؤلاء الكفرة «مِنْ مالٍ وَبَنِينَ» 55 في هذه الدنيا هو خير لهم؟ كلا، قال تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) الآية 55 من سورة التوبة ج 3، وإذا كان هذا شأنهم فاعلم يا سيد المرسلين أنا نحن إله الكل وإنّا كنا ولا زلنا «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» لا لرضانا عنهم بل لنستدرجهم بها ولينهمكوا في معاصيهم ونزداد سخطا عليهم (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) الآية 178 من آل عمران في ج 3 «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» 56 أن ذلك لشرهم لأنهم أشباه البهائم يصرفون وجودهم لشهواتهم ولا يتأملون فيما ينفعهم ويضرهم، والاستدراك في قوله أيحسبون أي لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتدبروا عاقبة أمرهم ويعملوا ما ندر لهم من الخير، هل هو استدراج أو مسارعة في الخير؟ وهذه الآية على حدّ قوله تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الآية المكررة في سورة التوبة من ج 3، وهي حجة على القائلين أن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح للعبد، لأنها تصرح أن هذا العمل الذي أراده الله لهؤلاء ليس بأصلح لهم في دينهم؟ وقد ألمعنا لهذه الآية في الآية 19 من سورة الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك لمراجعة المواضع المفصل بها هذا البحث فراجعها، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» 57 خائفون وجلون «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» 58 إيمانا تاما محصنا لا يجادلون فيها ولا يشكون ولا يحصل لهم ريب أو مرية في شيء منها «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» 59 به أحدا ولا شيئا «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ» يفعلون «ما آتَوْا» من الأعمال «وَقُلُوبُهُمْ

وَجِلَةٌ» خائفة من الله أن يعذبهم عليها لأنهم موقنون «أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» 60 وأنه يجازيهم على أفعالهم فتبقى قلوبهم مشغولة بخوف الله من تلك الأفعال التي علموا أنها غير مرضية، وشكهم في عدم قبول أعمالهم الصالحة وشوبها بالرياء، وخوفهم هذا ندم وتوبة، فلا يبعد أن يتجاوز عنهم ولا يعاقبهم عليها بمنه وفضله «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات الحسنة لا المتقدمون الموسومون بضدها هم «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الأعمال الصالحة التي تعود عليهم بالخير من ربهم «وَهُمْ لَها سابِقُونَ» 61 لأنها توصلهم إلى الجنة مقر أهل الخير، ولهذا فإنهم مبادرون لها «وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» لأن الدّين الذي كلفتم به لا حرج به عليكم، وإنما تعملون منه ما تستطيعون فمن لم يكن ذا مال لا يكلف بالصدقة والحج، والعاجز لا يكلف بالجهاد والصوم، ومن لا يقدر على القيام في الصلاة فيصلي قاعدا أو مضطجعا، ومن كان في سفر فله أن يفطر في الصوم ويقصر في الصلاة وأركان الدين، عبارة عن هذه لا غير، وكلها لا حرج فيها، أما أصل الدين وهو كلمة الشهادة والاعتراف بالرسل والمعاد فلا عسر فيها على أحد البتة، لأنها عبارة عن النطق باللسان والإيقان في القلب، وإذا عجز عن النطق اكتفى بالإيقان القلبي، والإشارة من الأخرس كافية، وقد شرع الله تعالى الرخص لعباده فيما يأتون ويذرون، راجع الآية 105 من سورة النحل المارة «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» بينا فيه الأعمال الصالحة الخالصة من المشوبة والقادر من العاجز والمكلّف من غيره بيانا كافيا شافيا، فلا حجة لكم أيها الناس بعده، وعندنا كتاب مثبت فيه ما يقع منكم من المناقب والمثالب، وسينال ما فيه من ثواب وعقاب «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 62 شيئا فلا يزاد في عمل عامل ولا ينقص منه، ولا يعاقب العاجز فيما يسبقه به القادر من الأعمال الحسنة. قال تعالى «بَلْ قُلُوبُهُمْ» هؤلاء الكفرة «فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا» الكتاب المنزل إليك يا سيد الرسل غافلون عما تتلوه عليهم من أحكامه جاهلون معناه عمون عن مغزاه، فهم عن كتاب أعمالهم أغفل وأجهل وأعمه «وَلَهُمْ أَعْمالٌ» أخر خبيثة غير ما ذكرناه «مِنْ دُونِ ذلِكَ» الذي ذكر

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 66 إلى 75]

وأسفل منه وهي فنون كفرهم ومعاصيهم العظيمة كطعنهم بالقرآن والنبوة وإنكارهم البعث والسخرية بنا بجعلهم لنا شريكا وولدا وصاحبة، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفر والشك وان ذلك إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى أن لهم أعمالا دون الكفر. وأخرج ابن جرير عن قتادة إن ذلك كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنين من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون، أي أهذا وما وصفوا به مما وقع في حيّز الصلاة فما بعدها، وهذا غاية في الذم «هُمْ لَها عامِلُونَ» 63 معتادون عليها لا يتركونها لسابق شقائهم، وهم لا يزالون على أحوالهم القبيحة لا يتذكرون عاقبة أمرهم «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ» المترفون والرؤساء والأغنياء والقادة «يَجْأَرُونَ» 64 يستغيثون ويضجّون جزعا، فإذا ذاك يحسون بما يراد بهم ويقال لهم «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ» ولا تجزعوا وتضجروا فإنه لا ينفعكم، لأنكم لم تعملوا خيرا لتجدوا من ينصركم لأجله «إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» 65 لعدم تقديمكم لنا عملا يوجب نصرتكم، ولم تطلبوا النّصر منا في الدنيا لنغيثكم ونرحمكم في هذه الدار، وإذ لم تفعلوا فاطلبوها من أوثانكم الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم «قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» من قبل رسلي أنه لا إله غيري فاعبدوني واسمعوا قول رسلي، فأبيتم وأرادت رسلنا تقديمكم إلينا بالأعمال الصالحة «فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ» 66 ترجعون القهقرى لا تلتفتون إليهم ولا إلى ما جاءوكم به، والنكوص المشي إلا الوراء وهي أقبح مشية، إذ لا يرى ما ورائه، الذي هو أمامه، والمعنى أنكم كنتم تتأخرون عن قبول الإيمان حال كونكم «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ» متعظمين بالبيت الحرام، لأنكم سكانه وأهله، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن سكان بيت الله وجيرانه وأهل حرمه، لا يظهر علينا أحد، ولا نخاف من أحد، ولو كانوا لم يستكبروا وأطاعوا وأذعنوا لمن أرسلنا إليهم لما خافوا، ولكنهم استكبروا وكفروا فلم ينفعهم البيت، لأنه قد يشفع لمن آمن بربه وصدق رسله. هذا وعود الضمير إلى غير مذكور جائز إذا كان مشهورا متعارفا راجع (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية 32 من

مطلب توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول مع علمهم بكماله وشرفه وخطبة أبي طالب:

سورة ص ج 1 فإن الضمير يعود في الأول للقرآن، وفي الثاني للشمس لمعلوميتهما مع عدم سبق ذكرهما استغناء بالمشهور المتعارف دون حاجة للتبينة إليهما. وقيل إن الضمير في هذه الآية يعود إلى القرآن المشتمل على الآيات الوارد ذكرها في قوله (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أول الآية 66 المارة، والأول أظهر، وهو مروي عن ابن عباس. وان افتخارهم بالبيت وترنمهم بأنهم خدامه وقوامه، وأنهم الآمنون به من الناس، والناس يخافون من غيرهم أشهر من أن يذكر. وقال بعض المفسرين بعود الضمير لحضرة الرسول وليس بشيء، لأنهم لا يعترفون به، فكيف يعتزون به ويستكبرون، ولو كان مرادا هو أو القرآن لقالوا عنه لا به والله أعلم. ولأنهم نافرون من الله ورسوله وكل منهم يمضي نهاره وليله «سامِراً» لأنهم كانوا طيلة أوقاتهم يسمرون بالطعن في آيات الله ورسوله ويتحازرون عليها أهي سحر أم شعر أم كهانة إلى غير ذلك. والسمر يطلق على حديث الليل فقط، ولفظ سامر جاء حالا ثانية بعد مستكبرين «تَهْجُرُونَ» 67 الأيمان بها وبمن جاءكم بها من هجر إذا هذر وتكلم بما لا يعلم، أو ترك وأعرض، أو من أهجر إذا أفحش بالقول، وخير الثلاث الوسط، لأنه أكثر مناسبة بالمعنى. مطلب توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول مع علمهم بكماله وشرفه وخطبة أبي طالب: قال تعالى «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ» الذي ذكر في تلك الآيات ويستدلوا بها على صدق الذي جاءهم بها؟ والاستفهام لإنكار الواقع واستقباحه، أي فعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر لأنهم لم يتدبروا معاني تلك الآيات المنزلة لخيرهم، ولم يعلموا ما فيها من الإعجاز حتى يؤمنوا بأنها الحق من ربهم. «أَمْ» منقطعة بمعنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى توبيخ آخر، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي بل «جاءَهُمْ» من الآيات «ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» 68 ولذلك استبعدوها وأنكروها فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، مع أن إرسال الرسل وإنزال الآيات على البشر سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر، وان ما جاءهم به محمد من جنس ما جاء به الأنبياء قبله لأممهم. ثم انتقل إلى توبيخ

ثالث والاستفهام فيه لإنكار الوقوع أيضا فقال «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ» وهو معروف عندهم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق ووفور العقل وشرف النسب وعزة الحسب والوفاء بالوعد والعهد والصدق وغيرها من الآداب الحسنة «فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» 69 أي أيقدرون أن ينكروه مع وضوحه عندهم ومعلوميته بالأخلاق الفاضلة. وفي هذه الآية دليل قاطع على أنهم يعرفون محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه على غاية من الكمال ونهاية من الوقار، ولولا ذلك لأنكروا على أبي طالب خطبته التي قرأها يوم عقد نكاحه على خديجة رضي الله عنها بحضور رؤساء قريش، إذ قال فيها: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا خدمة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم ان ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوازن يرجل إلا رجح به، فإن كان في المال قلّة فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقال وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل إلخ. ولم ينكر أحد منهم شيئا من ذلك إلا بعد ادعائه الرسالة، حسدا وبغيا وخوفا على الرياسة التي لهم شيء منها. قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ» أي ليس الأمر كما يقولون إن ما جاءهم به عبارة عن سحر وكهانة وغيرهما، وإنما «جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» الذي لا محيد عنه وهو التوحيد للإله ودين الإسلام ودين إبراهيم عليه السلام الذي تضمنته تلك الآيات الدالة على صدقه وأمانته، وقد اشتهر عندهم بالأمين «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» 70 لأن جبلّتهم مطبوعة على الكذب، وطبيعتهم مجبولة على الزيغ، وإنما قال أكثرهم لأن منهم من يعرف أحقية ذلك كله، وإنما لم يعترف به حذرا من تعيير قومه لا كراهة به، وعليه فيكون أقلهم تاركا للإيمان أنفة واستكبارا عنه وخوفا من توبيخ قومه، وأن يقولوا له صبوت أي تركت دين آبائك، وانك احتجت لطعام محمد وغير ذلك مما مر في الآية 14 من سورة فصلت المارة، كراهة لحضرته المقدسة تبعا لأهوائهم «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» فيما يعتقدون من الشرك وغيره «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» وهذه الآية قريبة في المعنى لقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية 22 من

سورة الأنبياء المارة «وَمَنْ فِيهِنَّ» لفسد أيضا، وقد خص العقلاء لأن غيرهم تبع لهم، وهذا أيضا انتقال التوبيخ خامس. قال تعالى «بَلْ» لم نتّبع أهواءهم ولكن «أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ» قرآنهم على يد رسولهم، وقد أضافه إليهم لأنه منزل لهم «فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ» المختص بهم «مُعْرِضُونَ» 71 وهو فخرهم وشرفهم، قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) الآية 44 من الزخرف المارة، وفيها معنى الاستفهام، أي المعرضون عن ذكرهم الذي آتيناه إباهم وهو مجدهم وعزهم، كيف يكون ذلك منهم بل يجب أن يتمسكوا به ويعضوا عليه بالنواجذ، لا أن يعرضوا عنه، وهذا انتقال سابع لتوبيخ آخر. قال تعالى «أَمْ» متعلق بقوله (أم يقولون به جنّة) أي يزعمون أنك يا محمد «تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً» أجرا وجعلا على أداء الرسالة بمقابل نصحك لهم وإرشادهم إلى الحق ولذلك لا يؤمنون بك، كلا لا نطلب منهم شيئا على أداء وحي ربك «فَخَراجُ رَبِّكَ» يا محمد أي رزقه «خَيْرٌ» لك من الدنيا، وثوابه في الآخرة أخير مما يتصورونه لسعته ودوامه وعدم وجود المنّة فيه. والخراج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غير ذلك، وهو في الأصل ضريبة الأراضي المعطاة إلى الدول، ففيه إشعار بالكثرة واللزوم بالنسبة إليه تعالى، ولذلك عبّر الله به عنه، وقرىء خرجا وهما في المعنى سواء «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» 72 لك في الدنيا والآخرة «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ» يا سيد الرسل بلا مقابل «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 73 بوصلهم إلى الجنة دائمة النعيم «وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» وينكرون البعث والحساب والعقاب والثواب، كقومك وأمثالهم لا يميلون إلى دعوتك السامية المستقيمة لأنهم «عَنِ الصِّراطِ» المؤدي الدين الحق المنتهي لرضاء الله القائد لجنانه «لَناكِبُونَ» 74 عادلون عنه مائلون إلى الاعوجاج «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا» لتمادوا لأن اللجاج التناهي في الخصومة والتمادي في العناد أي لبقوا «فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» 75 لم ينزعوا عنه ولم يتركوه، والعمه عمى القلب والتردد في الأمر والحيرة في الهوى، كمن يضل عن الطريق لا يدري أين يتوجه، فلا رأي له ولا دراية.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 76 إلى 85]

مطلب إصابة قريش بالقحط ثلاث مرات، واعترافهم بقدرة الله وإصرارهم على عبادة غيره، ومتعلقات برهان التمانع: قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ» قريشا قوم محمد «بِالْعَذابِ» القحط ليرجعوا إلى الله وهو أشد عذاب الدنيا «فَمَا اسْتَكانُوا» ما خضعوا ولا لجأوا «لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» 76 إليه ليكشفه عنهم بل أصروا على كفرهم. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة في الحرم الشريف فألقى عليه بعض المشركين سلى جزور، فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فأصابهم القحط، فقال أبو سفيان تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين، فقال بلى، فقال أنشدك الله والرحم، فإن قومك أكلت القد والعظام وأنهكهم الضر، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا فأنزل الله هذه الآية استشهادا على عدم خضوعهم وعلى دوامهم على حالتهم لقوله تعالى (وَما يَتَضَرَّعُونَ) وهذا القحط غير القحط الذي وقع بمكة بعد الهجرة كما ذكره السيد برهان الدين الحلبي في سيرته، وهذا غير الجوع الذي أصابهم بسبب منع ثمامة بن أثال الحنفي الميرة عنهم حينما جاءت به سرية محمد بن مسلمة التي بعثها صلّى الله عليه وسلم إلى بني بكر بن كلاب، فأسلم بعد أن امتنع ثلاثة أيام، ثم خرج معتمرا فلما قدم بطن مكة لبّى، وهو أول من دخلها ملبيا. ومن هنا قال الحنفي: ومنا الذي لبّى بمكّة معلنا ... برغم أبى سفيان بالأشهر الحرم فأخذته قريش وأتبوه على تغيير دينه، فقال لهم اتبعت خير دين، دين محمد الأمين صلّى الله عليه وسلم. ثم قال والله لا يصلكم حبة من اليمامة حتى يأذن رسول الله، ثم منع الميرة عن أهل مكة. فكتبت قريش إلى رسول الله وهو في المدينة تستغيث به مما أصابها من الجوع، فأذن لثمامة أن يمتاروا، وهذه الحادثة قبل الفتح، وعلى هذا يكون القحط أصاب قريشا ثلاث مرات والله أعلم. قال تعالى «حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ» فيما يستقبل من الزمن وهو إنزال السيف فيهم وأمر الرسول بقتالهم وقسرهم وإجلائهم «إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» 77 آيسون خائبون متحيّرون. وفي هذه الآية دلالة على قرب الهجرة وفتح الباب

الذي سيكون بعدها، إذ أشار الله عنها ثلاث مرات، وسيأتي الإذن بها في ذكرها رابعا كما ستعلمه بعد. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ولكنكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 78 الله على نعمه ولم تصرفوها لما خلقت لها ولم تقدروها حق قدرها ولم تؤدوا شكرها لخالقها، وإذ نفى عنهم قليل الشكر، فالكثير منتف من باب أولى. ولفظ ما يدل على أنهم يشكرون شكرا لا يذكر لقلته «وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ» خلقكم وبثكم «فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 79 يوم القيامة للحساب والجزاء «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ» لا لغيره «اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» في الزيادة والنقص، والظلمة والضياء، والحر والقر، ونعمة الاستراحة في الأول وطلب العمل في الثاني «أَفَلا تَعْقِلُونَ» 80 صنائع الله ومنافعه التي أسداها إليكم فتستدلوا بها على عظمته، وتشكروه حق شكره، وتؤمنوا بالله ورسوله «بَلْ قالُوا» وهذا انتقال ثمن، أي قال هؤلاء الكفرة مع توالي نعمنا عليهم «مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ» 81 وهو أي قول الأقدمين «قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» 82 بعد ذلك، استفهام إنكار وتعجب معرضين عن التفكر والتدبر جانحين عن الاتعاظ والاعتبار قائلين كيف يكون هذا؟ وإنما «لَقَدْ وُعِدْنا» بالحياة بعد الموت «نَحْنُ» من قبلك يا محمد «وَآباؤُنا» من قبل وعدوا من قبل أمثالك «هذا» الوعد نفسه «مِنْ قَبْلُ» أن توعدنا أنت، وإذ لم نقف له على حقيقة فنقول لك «إِنْ هذا» الوعد ما هو بالوعد الحق وما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 83 وخرافاتهم الواهية لا غير، ومن هنا يقال في ضرب المثل حديث خرافة. ونظير هذه الآية الآية 67 من سورة النمل في ج 1. وخرافة هذا قيل إنه استهوته الجن سنين فلما تركته صار يحدث قومه بما رأى من عجائبهم بما لا تصدقه عقولهم، ولهذا صاروا كلما سمعوا شيئا لا يعقلونه يقولون حديث خرافة. هذا وبالنظر لظاهر الآية قد يفهم أنه جاء لآبائهم رسل وردوا عليهم بما ردوا به على محمد مع أنه لم يأتهم رسول ما بعد إسماعيل الذي لم يره آباؤهم، وإنما قالوا ما قالوا بالنسبة لما سمعوه من أخبار الأمم الماضية المكررة

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 86 إلى 95]

سيرهم لديهم، لأن شأنهم في الأخذ والرّد شأنهم. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل على طريق الاستفهام لقومك «لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها» من الخلائق والنبات والمعادن والمياه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 84 وتدعون العلم؟ فإنهم لا شك «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ» لهم بعد إقرارهم هذا «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» 85 أنكم من جملة من عليها، وإنكم مملوكون لله، وأنه قادر على إبادتها كما خلقها، فتعلمون أنه قادر على إعادتكم بعد موتكم فتتعظون وتؤمنون «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» 86 فإنهم مضطرون وملجئون بأن «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» مربوبة ومملوكة «قُلْ» لهم بعد اعترافهم «أَفَلا تَتَّقُونَ» 87 خالقها أن يسلط عليكم من فيها من الملائكة وما فيها من الصواعق والبرق والبرد، فيهلككم دفعة واحدة، لعبادتكم غيره، أفلا تستدلون بأن من يقدر على خلق ذلك يقدر على إعادة الأموات أحياء «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك على طريق التعجيز ثالثا «مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» في السموات والأرض من نام وغيره «وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» يؤمن كل أحد من خوفه ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه ولا يخيف من آمنه، وهو يغيث من استجار به، ويكشف ضره إن شاء «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 88 أحدا يقدر على مثل هذا، فاذكروه لنا أيها الناس، وانهم حتما «سَيَقُولُونَ» ان هذه الخصوصية «لِلَّهِ» وحده فقط «قُلْ» لهم إذا كنتم تعترفون بذلك كله «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» 89 وتخدعون وكيف تنصرفون عن الحق إلى الباطل، وما ذلك إلا لأنكم لا تنتفعون بحواسكم إذ لا تحسنون استعمالها والوقوف على ما تدل عليه، ولا تعلمون إلا مظاهر الأشياء. وقرىء في الآيتين الأخيرتين (الله) بلا حرف الجر وهي قراءة على الظاهر، وباللام على المعني، وكلاهما جائز، فلو قيل لك من صاحب هذه الدار فقلت زيد كان جوابا عن لفظ السؤال، ولو قلت لزيد كان على المعنى، لأن معنى من صاحب هذه الدار لمن هي فيصح المعنى، وقد أنشد الزجاج على الأول: وقال السائلون لمن حضرتم ... فقال المخبرون لهم وزير وأنشد صاحب المطالع للثاني:

إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد وتشير هذه الآيات الثلاث لتقريعهم وتوبيخهم على عبادة غير الله المالك لهذه الأشياء المتصرف بها القادر على كل شيء، وتنبيه على أن الفاعل لتلك قادر على إحيائهم بعد موتهم، وأن إنكارهم وجحودهم ما هو إلا محض عناد وعتو بعد اعترافهم بأن الله تعالى الخالق المالك للسموات والأرض ومن فيهما وعليهما وتحتها وفوقهما. قال تعالى «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ» هذا إضراب عن قولهم أن الإخبار بإيجاد البعث من أساطير الأولين، أي إننا يا سيد الرسل لم نأتهم بما فاهوا به، وإنما أتيناهم بالصدق وأخبرناهم بما أخبرناهم بالحق «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 90 في جحودهم ونسبة الولد والصاحبة والشريك، ولهذا أكد فريتهم هذه بقوله «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ» فكيف ينسبون إليه الملائكة بأنها بناته كما نسب اليهود والنصارى بنوة عزيز والمسيح إليه من تلقاء أنفسهم أيضا، تعالى عن ذلك، ثم أكد الجهة الأخرى بقوله «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» آخر قط فهو المتفرد بتدبير ملكه المبرأ عن المعين، فكيف ينسبون له الشريك؟ وقد قال إنما هو إله واحد، وقال وأمتكم واحدة، ونهى عن التفرق في الدين، ونهى عن الاختلاف فيما جاءت به الرسل، لأن طريقتهم واحدة، وأصل الدين الذي أمروا باتباعه واحد، والمرسل والشارع الحقيقي هو الواحد واحد، راجع الآية 52 المارة والآية 59 من سورة الأنعام المارة وما ترشدك إليه والآية 59 من سورة الأنبياء المارة أيضا، ثم علل ذلك بقوله جل قوله «إِذاً» لو كان كما يزعمون من وجود الشريك «لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ» ليختص به منفردا عن الآخر ولا يشركه فيه، ولا يرضى الانقياد لغيره، ولامتاز ملك كل منهما عن الآخر ومنعه من الاستيلاء عليه «وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الخلق والقدرة والعظمة وغالبه عليها ليكون أكبر منه ولبسط سلطانه عليه كما يفعل ملوك الدنيا، وإذ لم ير شيئا من ذلك ولا أثر للتمايز والتغالب والتعاظم في الملك مما يقع لملوك الدنيا. فاعلموا أيها الناس أنما هو إله واحد بيده ملكوت كل شيء في السماء والأرض، راجع الآية 22 من الأنبياء المارة في برهان التمانع، ثم نزّه ذاته الطاهرة عن تقولاتهم هذه كلها بقوله

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 96 إلى 105]

«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» 91 الحضرة الإلهية المقدسة مما هو من شأن البشر. وهذه الآية في معرض الجواب لمن حاجّ حضرة الرسول من المشركين، فلا محل للقول بأن (إذا) لا تدخل إلا على كلام مشتمل على الجواب والجزاء، لأن قوله لذهب وقع جزاء وجوابا ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل، لأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله (وما كان معه من إله) تأمل. ثم وصف الله نفسه المقدسة عن تفوهاتهم بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 92 وتبرأ عما لا يليق به، ويا خاتم الرسل «قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي» في حياتي الدنيا «ما يُوعَدُونَ» 93 به من العذاب الذي ستنزله عليهم يا «رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» 94 منهم فتعذبني بعذابهم، أي إذا أردت أن توقع بهم عذابك فنجني من بينهم كما نجيت أنبياءك ومن آمن بهم من بين أقوامهم الكافرين، وهذا إظهار للعبودية، لأن النبي له أن يسأل ربه ما علم أنه يفعله ويستغيث به مما علم أنه لا يفعله تواضعا، قال تعالى مجيبا لنبيّه «وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ» 95 وهو جواب أيضا على إنكارهم موعد نزول العذاب وضحكم منه ولكن يا سيد الرسل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالخصلة التي هي أرفق وأوفق، وذلك بأن تصبر على أذاهم وتعرض عن معاداتهم وتصفح عن طلب تعذيبهم الآن، ومفعول ادفع «السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» 96 به ألوهيتنا وينعتون نبوّتنا، وهذه الآية ليست منسوخة بآية السيف الآتية بعد كما قاله بعض المفسرين، لأن المداراة مطلوبة في مثل هذا، ومحثوث عليها في كل الأحوال، ما لم تثلم بالدين، لا سيما إذا كان هناك أمل مرتقب بقبولهم النصح ورجوعهم عن الغي، أي اجعل يا محمد جواب إساءتهم لك إحسانا، ولا يهمنّك شأنهم. ولما أن أشار الله تعالى لنبيه بأن يقابل إساءتهم بالإحسان وهو بمثابة النهي عن مقابلة السيئة بالسيئة، أتبعه بما يقوي لبّه، وزيادة على ذلك الالتجاء إليه بقوله عزّ قوله «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ» 97 نزعاتهم ووساوسهم، لأنهم يحثون الناس على السيئات والهمز الدفع والتحريك كالهز والأز، ومنه مهماز الرائض، أي أن الشيطان يهمز

الناس على فعل الشر كما تهمز الراضة الدواب حثالها على الشيء. وقيل أيضا يا سيد الرسل «وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» 98 أمرا من أموري كي لا تساق نفسي إلا إلى الخير كما خلقت له، وهذا إخبار من الله بأن يكف عن قومه ويصبر على أذاهم ويديم لهم النصح حتى حين الوقت المقدر لإيمان من يؤمن وإصرار من يصر. ثم أخبره بما يكون مصيرهم فقال «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» 99 إلى الدنيا وقد جمع الضمير لما هو شائع لدى العرب أن يخاطبوا الواحد بلفظ الجمع تعظيما وتبجيلا كيف والمخاطب هو رب المخاطبين. وعلى هذا قوله: ألا فارحموني يا آل محمد ... فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل وقول الآخر: وإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا النقاخ الماء البارد، والبرد النوم. ثم علل طلبه بقوله «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» الفرصة بالدنيا وضيعتها فأعدني يا رب إلى المحل الذي تركته في الدنيا لأتدارك ما فات مني، وهيهات، قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى ان رجع ليعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأ عمل في دنياه ما يتمناه الكافر إذا نزل به العذاب. قال تعالى «كَلَّا» لا سبيل لك للرجوع. وكلا أداة زجر وردع، راجع بحثها مفصلا في الآية 14 من سورة الشعراء في ج 1، وهذه الكلمة التي يطلب فيها الرجعة «إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» لا محالة، وكل كافر سيقولها في ذلك الوقت بسبب استيلاء الحسرة والندم على أمثالهم، ولكنهم لا يجابون، لأن الوقت ليس بوقت إجابة، ولو أجابهم لما بقي للنار نصيب من أحد، لأن كل أهلها يقولها، وكيف يرجعون إلى الدنيا «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» حاجز حائل بينهم وبين الرجوع، باق مستقر «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» 100 من قبورهم، وليس معنى الغاية أنهم يرجعون إلى الدنيا بعد البعث، وإنما هو إقناط كلي للعلم أنه لا رجعة بعد الموت إلى الدنيا، وإنما مصيرهم بعده إلى الآخرة «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ» تقدم ما فيه في الآية 67 من سورة الزمر المارة.

مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها:

مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها: «فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ» بل فيه يفر المرء من أخيه وابنه وأبيه وصاحبته، ولا ينفع فية أحد أحدا إلا من يؤهله الله للشفاعة فإنه يشفع لمن يشاء «وَلا يَتَساءَلُونَ» 101 سؤال تواصل وتوادد وتحابب وتخالل كما كانوا في الدنيا لأن كلّا مشغول بنفسه. وقد يقع سؤال عتاب وخصام ومجادلة بين العابدين والمعبودين والشيطان وأتباعه واخوان السوء، راجع الآية 67 من سورة الزمر والآية 21 من سورة إبراهيم والآية 47 من سورة الزخرف في هذا البحث. وهذه النفخة هي النفخة الثانية التي يقع بعدها البعث والنشور والحساب بدليل سياق الآية نفسها والآيات بعدها. قال ابن مسعود إنها النفخة الثانية، قال يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد هذا فلان بن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه، فيفرح المؤمن أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه، ثم قرأ (فلا أنساب بينهم) الآية. وقال ابن عباس في رواية أخرى إنها النفخة الثانية (فلا أنساب بينهم) الآية، أي لا يتفاخرون يومئذ بالأنساب كما كانوا يتفاخرون في الدنيا بها ولا يتساءلون سؤال تواصل أو سؤال تعرف، كقول الإنسان للآخر من أنت؟ ومن أي قبيلة أو قرية؟ راجع الآية 66 من سورة الزخرف والآية 31 من سورة إبراهيم المارتين. وحكم هذه الآية عام، وقيل خاص بالكفرة بدليل سياق الآية. وما أخرجه البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي. وأخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة مرفوعا. وأخرج نحوه ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا. وهو خبر مقبول لا يرده إلا من في قلبه شائبة، ونسبه بالنسبة للمؤمنين فقط. وإذا كان المراد نفي الالتفات إلى الأنساب بعد النفخة الثانية فتكون للعموم، لأن كلا فيها مشغول بنفسه، أما بعدها فخاصة بالكفرة لأن المؤمنين يشفع بعضهم لبعض كما مر، أما آية الصافات 27 المارة وهي قوله تعالى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فلا ترد على هذه، لأن ذلك السؤال

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 106 إلى 115]

سؤال محاججة وجدال كما مر، وقد أرشدناك إلى المواقع الموجود فيها هذا البحث فراجعها. واعلم أن يوم القيامة طويل وله أحوال مختلفة ومواطن متباينة بعضها مع بعض، يشتد فيه الخوف والفزع فيشتغلون بها عن السؤال، وفي بعضها يتخاصمون، وفي بعضها يسكتون. وقد ألمعنا إلى ذلك هناك أيضا بصورة مفصلة فراجعها. قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» في ذلك اليوم «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 102 الفائزون الناجحون فيه «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» وغبنوا فيه فهم «فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ» 103 لا خروج لهم منها «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» 104 بادية أسنانهم كاشرون لتقلص شفاههم من الإحراق عابسون والعياذ بالله، وعند ما يستغيثون يقال لهم «أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» على لسان رسلي في الدنيا يحذرونكم فيها من هول هذا اليوم «فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» 105 ولم تلتفتوا إليها ولا إلى الرسل ولم تصغوا لإرشادهم ونصحهم، فاعترفوا واعتذروا بما ذكره الله بقوله «قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا» بسبب أعمالنا السيئة «وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» 106 في الدنيا مجانبين الحق معرضين عن الهدى، غير ملتفتين إلى الرسل «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها» من جهنم «فَإِنْ عُدْنا» إلى ما كنا عليه من الضلال بعد الآن «فَإِنَّا ظالِمُونَ» 107 أنفسنا مستحقون هذا العذاب، فيجيبهم الربّ جل جلاله بقوله العظيم الزاجر «قالَ اخْسَؤُا فِيها» أيها الكفرة وابعدوا عن هذا القول كما تقول للكلب إذا تبعك أو نبح عليك اخسأ، والمعنى اسكتوا وابقوا فيها أذلاء مهانين لا سبيل لكم إلى الخروج، فانزجروا عن هذه المقالة «وَلا تُكَلِّمُونِ» 108 بعدها في رفع العذاب، لأنكم مخلدون فيه، وهذا آخر كلام أهل النار إذ انقطع رجاؤهم. روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أهل جهنم يدعون مالكا خازن جهنم أربعين يوما (يا مالك ليقض علينا ربك) فلا يجيبهم، ثم يقول بعد تلك المدة وهم ينتظرون جوابه (إنكم ما كثون) فيها كما في الآية 77 من سورة الزخرف المارة، ثم ينادون ربهم يقولون بنفس الآية، فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين، ثم يردّ عليهم (اخسؤا فيها) الآية، فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة ان كان إلا الزفير

والشهيق. أخرجه الترمذي بمعناه عن أبي داود، وذكره البغوي بغير سند. قال تعالى ناعيا على هؤلاء الكفرة بعض ما كانوا يعملونه في الدنيا وهو «إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ» أمامكم في الدنيا «رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 109 فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا» على مقالتهم هذه واستهزأتم بهم «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» بتشاغلكم بالهزء بهم فتركتموني ولم تذكروني ولم تنتبهوا وتتيقظوا وتهابوا عذابي وتخافوا عقابي في مثل هذا اليوم «وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» 110 استهزاء بهم، نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين الموصوفين في هذه الآية. قال تعالى «إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا» على أذاكم وإهانتكم لهم في الدنيا «أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» 111 اليوم برضائي وجنتي، ثم التفت جل شأنه يخاطب الكفرة بعد اجتماعهم في الموقف «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ» أحياء في الدنيا وأمواتا في البرزخ الذي دفنتم فيه «عَدَدَ سِنِينَ» 112 كم هنا منعوتة بلبثتم وعدد تمييز «قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» وهذا بالنظر لطول يوم القيامة وعظم هوله وشدة فزعه وإلا فلبثهم في الدنيا أعواما كثيرة وفي البرزخ أكثر وأكثر، ثم انهم لما رأوا قولهم هذا غير موافق للواقع قالوا لا نعلم «فَسْئَلِ الْعادِّينَ» 113 الحفظة الموكلين بنا وإنما عرفوهم عادين لمدتهم لما تبين لهم من الصحف التي نشروها بإحصاء أعمالهم فقالوا هؤلاء الذين جمعوا أقوالنا وأفعالنا يعرفون مدة لبثنا «قالَ» تعالى قوله «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» في الدنيا والبرزخ في جنب ما ستلبثونه اليوم «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 114 قدره أو تعلمون عاقبة أمركم لما اغتررتم في الدنيا لأنها لا تعد كمية ولا كيفية بجنب الأخرى، ثم طفق يوبخهم فقال «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً» لعبا أو باطلا ولهوا «وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» 115 بل تكونون هباء سبهللا، كلا، بل خلقناكم لحكمة وليكون مصيركم إلينا. روى البغوي بسنده عن الحسن قال: إن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه (أفحسبتم) الآية إلى آخر السورة، فبرىء فقال صلّى الله عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه، فأخبره فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 116 إلى 118]

موقنا قرأها على جبل لزال. ثم نزه نفسه المنزهة عما وصفه به المشركون فقال «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» 116 وصفه بالكريم، لأن الرحمات تنزل على عباده من قبله وهو أعظم مخلوقات الله تعالى، راجع الآية 7 من سورة يونس المارة «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» ولا حجة ولا دليل، وإنما هو اختلاق من نفسه، وهذا الكافر الذي يقول هذه المقالة القبيحة «فَإِنَّما حِسابُهُ» عليها وجزاؤه يكون في الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» 117 بها بل يخيبون ويشقون ويخسئون «وَقُلْ» يا سيد الرسل «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» 118 لأن من أدركته رحمتك أغنته عن رحمة من سواك ورحمة الغير لا تغني عن رحمتك. واعلم أنه تعالى بعد أن بين أنه هو الملك الحق وأن لا رب غيره أردفه ببيان أن من ادعى ربا غيره فقد افترى باطلا، ثم أتبعه بأن من جرؤ على ذلك الذي لا بينة له عليه فجزاؤه العقاب الأليم، إذ قال (إنما حسابه عند ربه) إلخ وناهيك به محاسب. أخرج البخاري ومسلم والترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعوه في صلاتي، قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة السجدة عدد 25 و 75- 32 نزلت بمكة بعد سورة المؤمنين عدا الآيات ص 16 إلى 20 فإنهن نزلن بالمدينة. وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا، وتسمى سورة المضاجع، ومثلها في عدد الآي سورة تبارك وسورة الفجر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» 1 تقدم ما فيه والله أعلم بما فيه، راجع أول سورة لقمان المارة، وعلى أنه اسم للسورة يكون

مطلب في أهل الفترة من هم، ونسبة أيام الآخرة لأيام الدنيا.

مبتدأ خبره قوله تعالى «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 2 لجميع العالمين المدركين «أَمْ» استفهام إنكار، ويفيد الانتقال من كونه منزلا من الله بلا شك ولا شبهة إلى ما يتفوه فيه الكفرة مما حكى الله عنهم بقوله عز قوله «يَقُولُونَ افْتَراهُ» محمد من تلقاء نفسه واختلقه كلا «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل لا يقدر أحد أن يبتدع مثله وقد أنزلنا عليك «لِتُنْذِرَ» به «قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» هم قومك إذ لم ينذروا من قبل أحد بعد إسماعيل عليه السلام الذي اندرست شريعته وتفادم عهده ولم يترك لهم كتابا يرجعون إليه من بعده، راجع الآية 44 من سورة سبا المارة وأول سورة يس في ج 1، «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» 3 به. مطلب في أهل الفترة من هم، ونسبة أيام الآخرة لأيام الدنيا. قال ابن عباس هذا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولا حجة في هذه الآية على عدم عموم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم أو أنها قاصرة على العرب لعدم وجود حجة القصر، والآيات في التعميم كثيرة، إلا أنه لما كانت الأمم غير العرب تتهافت عليها الرسل واحدا بعد واحد- كما مر في الآية 44 من سورة المؤمنين المارة- دون العرب، قال تعالى (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) الآية، ولأنهم أمّيّون ولا كتاب لديهم يقتدون بما فيه من أمور دينهم، بخلاف اليهود والنصارى فإنهما بعد انقطاع الرسل عنهم ملزمون باتباع شرائع من قبلهم ورسلهم الذين كانوا يدعونهم بمقتضاها، إذ أن دعوتهم منحصرة بهم، وقد جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام (إني حقا أرسلت إلى بني إسرائيل) وفي نسخة (إلى خراف إسرائيل) فثبت من هذا أن العرب لم تدعهم إلى الله رسل بني إسرائيل، ولما كان كل نبي تنقطع أحكام نبوته بعد موته إلا محمدا صلّى الله عليه وسلم لأنه خاتم النبيين والمرسلين ورسالته عامة إلى الخلق كافة، وكانت ذرية كل نبي ملزمة باتباع شريعته، كان على قريش أن تلتزم شريعة إسماعيل عليه السلام كما كان أوائلهم متمسكين بها، إلا أنه فشت فيهم عبادة الأوثان التي أحدثها عمرو الخزاعي وعكفوا عليها إلا ما ندر منهم كزيد بن عمرو بن نوفل العدوي والد سعيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد عاصر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقالوا إنه آمن به

قبل بعثته وقد مات إبان بناء الكعبة عام 25 من ولادته صلّى الله عليه وسلم الواقعة عام الفيل سنة 570 من ولادة عيسى عليه السلام، وكان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله، وقس بن ساعدة الإيادي كان مؤمنا بالله وعاصر حضرة الرسول أيضا، وتوفي أوائل البعثة الشريفة، وخالد ابن سنان العيسي كذلك كان مؤمنا. وما قيل إنهم رحمهم الله كانوا أنبياء لا صحة له البتة، أما ورقة بن نوفل فقيل إنه تنصر. هذا، ولا تعارض بين هذه الآية وآية فاطر 24 وهي (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) كما أوضحناه في تفسيرها، فراجعها يتبين لك أنه خلا أول العرب أي سلف نذير فيهم وهو إسماعيل عليه السلام، إلا أنه لم يرسل إليهم رسول بعده وبقوا طيلة هذه المدة العظيمة مهملين دون رسول ولا كتاب، بيد أن الأمم الأخرى تتابعت عليهم الرسل. وقال بعض المفسرين إن (ما) هنا في هذه الآية اسم موصول، وعليه يكون المعنى لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، يريد بهذا النذير إسماعيل، وهو ليس بشيء، لأن أكثرهم لا يعرفون أنه كان هناك نبي أم لا، وما جرينا عليه بأن (ما) نافية أنسب بالمقام وأولى بالمعنى وأقوى حجة وبرهانا. هذا وإذا علمت نفي مجيء رسول إليهم تعلم أنهم لم يؤاخذوا على عدم القيام بالشرائع، لأنها لا تدرك إلا من قبل الرسول ولكنهم يؤاخذون بعدم معرفة الله وتوحيده، لأن العقل السليم قد يوصل إلى ذلك من غير واسطة الرسل، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 15 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها. أما ما يتعلق في عموم رسالته فقدمناه أيضا في الآية 28 من سورة سبأ المارة. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» هو المستحق للعبادة وحده، راجع الآية 116 من سورة المؤمنين المارة وما ترشدك إليه تقف على معنى العرش وعظمته. واعلموا أيها الناس أنكم «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم وينصركم غيره «وَلا شَفِيعٍ» دون أمره ورضاه فزعمكم بشفاعة الأصنام باطلة «أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» 4 بمواعظ الله وتتعظون بعبره وهو الذي «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» في الدنيا على وجه الحكمة والإتقان فينزله «مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» مدة دوامها «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ» ذلك الأمر كله ليحكم فيه وقت

فصل القضاء بين الناس في الآخرة، قال تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) الآية 4 من سورة المعارج الآتية. واعلم أن هذه المسافة ما بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام. قال ابن عباس لعبد الله بن فيروز حين سأله عن هذه الأيام: أيام سماها الله لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية المذكورة إن شاء الله فراجعه «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ» بالنسبة لتقدير أيامكم أيها الناس «أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» 5 الآن وذلك أن مسافة ما بين الأرض وسماء الدنيا على ما جاءت به الآثار خمسمائة سنة، فيكون صعوده ونزوله ألف سنة، بحيث لو كانت هذه المسافة موجودة وسار عليها ابن آدم فلا يقطعها إلا بألف سنة. هذا إذا كان العروج لسماء الدنيا فقط، أما إذا كان لمحل صدور الأمر فهو أكثر بكثير كما سيأتي في الآية 4 المذكورة آنفا، «ذلِكَ» الإله العظيم الذي صنع ما ذكر هو «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» أي ما غاب عن هذا الكون في الآخرة وما عاينوه في الدنيا «الْعَزِيزُ» الغالب أمره كل شيء «الرَّحِيمُ» بأهل طاعته «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» في الدارين «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ» آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ» 7 وقرأ بعضهم وبدى، وعليه قول ابن رواحه: باسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ» نطفة سيّالة من الإنسان مكونة «مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» 8 حقين ضعيف قليل «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» أي جعل فيه الشيء الذي اختص به تعالى ولذلك أضافه لنفسه المقدسة تشريفا له وإظهارا بأنه مخلوق كريم على ربه وإعلاما بأن له شأنا بنسبته إلى الحضرة الإلهية يؤيد هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته، وفي رواية على صورة الرحمن. وهذه الرواية الأخيرة لم تبق مجالا للتأويل والتفسير، أما الأول فقد قال بعضهم إن الضمير يعود إلى آدم أي على صورته نفسه التي هو عليها وليس بشيء والنفخ على حقيقته، وقدمنا ما يتعلق فيه في الآية 8 من سورة المؤمنين والآية 66 من سورة النحل المارتين، وفيهما ما يرشدك إلى غيرها مما هو مشبع فيه بحثه. واعلم

[سورة السجده (32) : الآيات 11 إلى 20]

أن المباشر لهذا النفخ الملك الموكل بذلك، والروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان الماء في العود وماء الورد بالورد والنار بالفحم، وقد أقام العلامة ابن الجوزي على هذا مئة دليل تشهد لها ظواهر الأخبار، ولذلك اخترته على غيره من أقوال كثيرة للفلاسفة وغيرهم، وقد أوضحت ما يتعلق به في الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه. ثم ذكر جل ذكره ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 9 الله على هذه النعم والحواس العظيمة والجوارح الكريمة التي هي من أبلغ قدرة الله تعالى في الإنسان وأكبرها نفعا له، وقدم السمع لأن الإنسان بسمع أولا ثم ينظر إلى القائل ليعرفه ثم يتفكر بقلبه فيفهم معناه، ولا خلاف في أن السمع أفضل من البصر لإمكان التفاهم مع الأعمى دون الأصم «وَقالُوا» الكفرة منكر والبعث «أَإِذا ضَلَلْنا» غيّبنا وصرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض ووضعنا فيها فلم يبق ما نتميز به عنها بأن تغلغلنا «فِي الْأَرْضِ» حتى كنا من ترابها، قال النابغة يرثي النعمان: وآب مضلوه بعين جليّة ... وغودر بالجولان حزم ونائل «أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» بعد ذلك استفهام إنكار وتعجب مما يقول لهم حضرة الرسول انكم تحيون بعد موتكم هذا وتحاسبون على أعمالكم، قال تعالى لا ترد عليهم يا حبيبي فتقول لهم نعم إنكم تخلقون ثانيا، لأنهم ينكرون أكثر من ذلك «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» 10 جاحدون، وهذا انتقال من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أشد وأفظع وهو جحود مقابلة ربهم بالحساب والجزاء لأنهم لو صدقوا بالحياة الثانية لم يصدقوا بأنهم يعذبون ويثابون على ما وقع منهم من خير وشر ولم يصدقوا أن هناك نارا للكافر وجنة للمؤمن، لأنهم ينكرون الحشر الذي هو أول مقدمات لقاء الله وهذه تضاهي الآية 33 من الأنعام المارة، «قُلْ» لهم يا سيد الرسل بل قد «يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» لقبض أرواحكم في الدنيا «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ» بعد موتكم «تُرْجَعُونَ» 11 في الآخرة لا محالة، وهذه رد لقولهم إنا لا نلاقي الله ولا نعود إليه وهو أبلغ

من إنكارهم البعث، ولولا تحقق الرجعة إلى الله واليقين بإثابة المحسن وعقاب المسيء لما رأيت من يفعل الخير أبدا ولتوغل الناس في الشر، لأن العامل يعمل رجاء الأجر وخوفا من العقاب. أما العبادة فهي مستحقة لله تعالى، ولو لم يثب عليها ويخلق الجنة لفاعلها والنار لجاحدها لكان جديرا بأن يعبد ويوحد وينزه ويمجّد لذاته المقدسة، إذ ينبغي أن تكون العبادة خالصة لله استحقاقا لربوبيته. قال تعالى «وَلَوْ تَرى» يا محمد في الموقف العظيم يوم الجزاء «إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ» حياء وندما على تفريطهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» يقولون يا «رَبَّنا أَبْصَرْنا» بأم أعيننا ما كنا نكذب به من الحياة بعد الموت «وَسَمِعْنا» الآن تصديق ما أخبرتنا به رسلك «فَارْجِعْنا» إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» 12 الآن بكل ما أتتنا به الأنبياء، فيجيبهم أن لا مجال لإجابة هذا الطلب كما مر، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما هالك مرآه من أحوال الكافرين وما يحل بهم من أنواع العذاب. قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» بأن وفّقناها في الدنيا للإيمان بما أردناه «وَلكِنْ» لم نشأ ذلك إذ «حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» 13 تأكيدا لعدم استثناء أحد من العصاة. ونظير هذه الآية الآية 119 من سورة هود المارة، ثم يقال لهم «فَذُوقُوا» العذاب الأليم «بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الذي جحدتموه في الدنيا «إِنَّا نَسِيناكُمْ» لا نلتفت إليكم أبدا فنجعلكم كالمنسيين وهو عبارة عن تركهم في العذاب لأن النسيان محال على الله فهو من باب المشاكلة على حد قوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) على قول بعض المفسرين. ويقال لهم أيضا «وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم الذي لا نهاية له «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 14 من المعاصي وذلك بعد أن يطرحوا في النار تنفيذا لعهد الله، لأن أمثالهم لا يؤمنون لسابق شقائهم «إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها» وتليت عليهم «خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» في سجودهم ونزهوه عما يقول الكفرة «وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» 15 عن الإيمان بها وتصديق من أنزلت عليه ولا يأنفون من وضع جباههم على الأرض بل ولا من تمريغ وجوههم

مطلب الآيات المدنيات، وقيام الليل، والحديث الجامع، وأحاديث لها صلة بهذا البحث:

في التراب إذلالا لأنفسهم واحتراما لخالقهم وخشوعا لهيبته وخضوعا لجلاله وتعظيما لربوبيته لسابق سعادتهم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحد مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار. وقدمنا في الآية 50 من سورة النحل ما يتعلق بالسجود فراجعه. مطلب الآيات المدنيات، وقيام الليل، والحديث الجامع، وأحاديث لها صلة بهذا البحث: قال تعالى «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» الفرش وما بمعناها من كل ما يضطجع عليه «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً» من عقابه «وَطَمَعاً» في ثوابه «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 16 من فضول أموالهم على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل أداء لشكر ما أولاهم به من النعم وشفقة على عيال الله الذين أنعم عليهم بها من فضله وكرمه. وهذا أول الآيات التي نزلت في الانتظار للصلاة بعد الصلاة. وقال أنس: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وأخرج مسلم من حديث عثمان بن عفان: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوها ولو حبوا. والآية واردة في صلاة الليل بعد النوم، لأن سياقها يدل على ذلك، ولا تسمى صلاة الليل تهجدا إلا بعد النوم، وهي كناية عن اشتغالهم بالعبادة وتركهم النوم المستفاد من قوله (تتجافى) أي تتباعد جنوبهم عن النوم. ثم طفق جل شأنه يبين لعباده الذين هذا شأنهم ما لهم عنده من الثواب العظيم في الآخرة الذي يتنافس به المتنافسون بقوله جل قوله «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ» وهم أولئك الكرام الذين مرت خصلتهم الحسنة التي يمجدها لهم ربهم. والتنوين في

كلمة نفس يشعر بأنه لا يعلم أحد غيره من نبي مرسل أو ملك مقرب ما حىء لهؤلاء الكرام عنده في الآخرة جزاء تركهم النوم وانصبابهم لطاعة الله «مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» أي شيء عظيم تطيب به أنفسهم وتنشرح به صدورهم «جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 17» في دنياهم. روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس) الآية. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا؟ وهذا الحديث لم تسمعه عائشة عند نزول هذه الآيات، إذ كان عمرها دون الست سنين عند نزولها، لأنه كان قبل الهجرة بسنة تقريبا وهي تزوجت برسول الله بعد الهجرة في السنة الثانية منها، وكان عمرها تسع سنين، وهذا الحديث روته بعد ذلك وجيء به هنا للمناسبة، وهكذا كثير من الأحاديث تذكر بمناسبة الآيات مع أنها قد تكون سمعت من حضرة الرسول قبل نزولها وقد يكون بعده. وروى البخاري عن الهيثم بن سنان أنه سمع أبا هريرة في قصة يذكر فيها النبي صلّى الله عليه وسلم يقول إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن راوحة قال شعرا: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات ما إذا قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفرة فأصبحت يوما قريبا منه، فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال سألت عن عظيم، وإنه ليسير عمن يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ (تتجافى جنوبهم) حتى بلغ

(جزاء بما كانوا يعملون) ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله، قال رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا، فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما يتكلم؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟. وأخرج الترمذي عن أبي أمامه الباهلي عن رسول صلّى الله عليه وسلم قال: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الآثام، ومطردة الداء عن الجسد. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عجب ربنا من رجلين، رجل ثار عن أوطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته، فيقول الله عز وجل لملائكته أنظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله تعالى أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي حتى أهريق دمه- أخرجه الترمذي- هذا، واعلم أن الهيثم المار ذكره في الحديث الأول ليس له في الصحيحين عن أبي هريرة غير ذلك الحديث. قال تعالى «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» 18 عند الله أبدا، وهذا استفهام إنكاري، أي لا يستوي المؤمن الموصوف بتلك الأوصاف الفاضلة مع الفاسق قط، بل بينهما بون شاسع. قالوا نزلت هذه الآية في سيدنا علي كرم الله وجهه حينما قال له الوليد بن عقبة بن أبي معيط أسكت فإنك صبيّ وأنا شيخ أبسط منك لسانا وأحدّ سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة، فقال له أسكت فإنك فاسق. وظاهر الآية العموم في كل مؤمن وفاسق لأنها واردة بمعرض ضرب المثل ولفظ التنكير يؤيد هذا المعنى الأخير، «أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى» في أخراهم، وهي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء «نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» 19 من الخير فإذا كان هذا نزلهم فما بالك بما يكرمهم الله به بعد، وهو المعطي العظيم الكريم؟،

[سورة السجده (32) : الآيات 21 إلى 30]

راجع معنى النزل في الآية 107 من سورة الكهف المارة «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا» وأما هنا واردة بمعرض التقسيم موضحة ما للفريقين بالآية قبلها، أي وهذه الطائفة «فَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة فتراهم والعياذ بالله «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها» لأنهم خالدون فيها، كما أن الطائفة الأولى خالدون في الجنة «وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» 20 في الدنيا، وهذا آخر الآيات المدنيات، ولا يوجد في القرآن آية بتأييد الكافرين في النار إلا في موضعين هذه والآية 33 من سورة الجن في ج 1 هذا في القسم المكي وفي القسم المدني أيضا في موضعين في الآية 169 من سورة النساء وفي الآية 65 من سورة الأحزاب ج 3. قال تعالى «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى» في هذه الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والخذلان والقتل وسائر المصائب فيها، وفسر أبو عبيدة العذاب الأدنى هذا بعذاب القبر وحكي أيضا عن مجاهد ولكن آخر الآية ينفيه ويصرفه لما ذكرناه، «دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ» الذي يوقعه فيكم يوم القيامة وهو الخلود بالنار «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 21 عن غيهم وبغيهم، أي لعل من سلم من تلك الآفات يرجع إلى الإيمان، أما من أصيب فمات فلا يدخل في هذا الترجي فلو كان المراد بالعذاب الأدنى عذاب القبر لما وجد تلاقيه بالرجوع ليرجى لهم إذ لا رجوع بعده إلى الدنيا «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» الدالة على أنه واحد وعلى صحة وقوع البعث والجزاء «ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها» فلم يتدبرها وأصر على شركه، وثم هنا لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وعليه قول جعفر بن علية الخارجي: ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها أي أن هذا لا أظلم منه فهو أظلم من كل ظالم إذ لا أكبر منه جرما «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» أمثاله المتوغلين في الإجرام «مُنْتَقِمُونَ» 22 منهم بالعذاب الأكبر لأنهم لم يتعظوا بما لا قوه من عذاب الدنيا «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ» إليه ولا تشك في إلقاء مثل ذلك الكتاب وجنسه إليك من قبلنا فكما ألقينا إلى موسى وعيسى وداود الكتب

ألقينا إليك هذا القرآن أيضا، وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة وإلقاء باعتبار إلقاء القرآن، ونظير هذه الآية قوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية 14 من سورة الإسراء ج 1، وقال بعض المفسرين: إن ضمير (لقائه) يعود إلى موسى على ما جرينا عليه أولا وهو أظهر، ولكن الأكثر على الثاني أي بعوده إلى محمد كما ذكرناه، ولهذا أثبتنا الوجهين. وقال بعضهم ونسبه لابن عباس لا تشك من لقاء موسى ليلة المعراج بعود الضمير إلى موسى نفسه، واستدل صاحب هذا القول بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهنّ الله إياه، فلا تكن في مرية من لقائه. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره. وهذان الحديثان لا شك فيهما، إلا أن الأخذ فيهما يوجب عود الضمير إلى غير مذكور وهو لا يجوز إلا في المتعارف المشهور من المقام والسياق، وهنا ليس كذلك، وعليه فإن عوده إلى الكتاب أنسب وأقرب، يؤيده قوله تعالى «وَجَعَلْناهُ» ذلك الكتاب الذي طلبنا عدم الشك منك في لقائه لأخيك موسى «هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» 23 كما جعلنا كتابك هدى للخلق كافه «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ» أي بني إسرائيل «أَئِمَّةً» أنبياء يقتدى بهم «يَهْدُونَ» الناس «بِأَمْرِنا» إياهم بذلك فيدعونهم إلى ما فيها من دين الله وشريعته «لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا» أولئك الأئمة «بِآياتِنا يُوقِنُونَ» 24 أنها من عند الله إيقانا لا مرية فيه، ويا خاتم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ» بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين وبين الظالمين والمظلومين «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 25 في الدنيا بالأمور الدينية والدنيوية، وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل. قال تعالى «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي يبين أو نبين والفاعل على كلا الحالين يعود إلى الله «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ»

الخالية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» عند ذهابهم وإيابهم في أسفارهم ولم يعتبروا ويتعظوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إهلاك الأمم السالفة وجعل أمتك يمرحون في منازلهم «لَآياتٍ» كافيات للاتعاظ «أَفَلا يَسْمَعُونَ» 26 هذه الآيات وما جرى على أسلافهم فينتبهون من غفلتهم وينتهون عن كفرهم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ» اليابسة ذات النبات اليابس المجروز المأكول، والجرز هو القطع أي الأرض المقطوع عنها الماء أو المقطوع نباتها لعدمه. واعلم أنه لا يقال للأرض السبخة التي لا تنبت جرز لأن الله تعالى قال «فَنُخْرِجُ بِهِ» أي الماء الذي سقناه إليها «زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ» من عشه وتبنه «وَأَنْفُسُهُمْ» من حبه وثمره «أَفَلا يُبْصِرُونَ» 27 ذلك فيستدلون به على كمال قدرة الله وإحيائهم بعد موتهم كما تحيا الأرض بعد موتها، أفلا يعتبرون بذلك؟ والأرض السبخة لا تنبت بالطبع ولو أنزل إليها الماء إلا بعد حين بأن تتغير عما هي عليه، وإنما قدّم الأنعام على البشر لأن أول الزرع يصلح لها، ولأنه غذاؤها، والبشر قد يكتفي بغيره. هذا وبعد أن ذكر الرسالة والتوحيد أتبعها بذكر الحشر فقال «وَيَقُولُونَ» مع ذلك كله كأن لم ينزل عليهم شيء ولم يحذرهم أحد أبدا مستفهمين استفهام استهزاء وسخرية «مَتى هذَا الْفَتْحُ» الحكم والقضاء الذي توعدنا به يا محمد أنت وأصحابك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 28 بقولكم ووعدكم، والفتح بلغة القرآن الفصل والحكم، قال تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) الآية 89 من الأعراف ج 1، راجع الآية 15 من سورة إبراهيم المارة، والعرب تسمي القاضي فاتحا، فأنزل الله تعالى جوابا لهم «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الهازئين الساخرين إذا جاء «يَوْمَ الْفَتْحِ» القضاء بين الناس يود الذين كفروا أن يؤمنوا ولكن «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ» لفوات وقته ولو آمنوا لا يقبل منهم «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» 29 ليعتذروا إذ يأتيهم بغتة على حين غفلة في وقت لا توبة ولا إمهال فيه «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» يا حبيبي «وَانْتَظِرْ» موعد نصرك عليهم وإهلاكهم كما «إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» 30 نزول حوادث الزمن فيك وليسوا بمبصرين ذلك. هذا وما قيل إن هذه الآية

تفسير سورة الطور عدد 26 - 76 - 52

منسوخة قيل لا وجه له، لأنها ختمت بما يدل على التهديد والوعيد وبدئت بما يدل على الإعراض في مناظرتهم، فلا يتعين فيها النسخ. وما قيل إن يوم الفتح هو يوم بدر أو يوم فتح مكة لا يتجه أيضا، لأن الإيمان فيهما مقبول والإمهال موجود، وقد نفى الله هذين فيه، فتعين أنه يوم القيامة يوم الجزاء الذي لا يقبل فيه شيء من ذلك ولا غيره. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة (ألم تنزيل الكتاب) و (هل أتى على الإنسان) . وأخرج الترمذي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ (ألم تنزيل الكتاب) و (تبارك الذي بيده الملك) . وأخرج الترمذي عن طاوس قال: تفضلان عن كل سورة في القرآن سبعين حسنة. وأخرج بن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قرأ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) و (الم تَنْزِيلُ) السجدة بين المغرب والعشاء الأخيرة، فكأنما قام ليلة القدر. وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال: ما على الأرض رجل يقرأ الم السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلا كتب له مثل أجر ليلة القدر. وجاء فيما أخرجه أبو عبيد وغيره أنها تأتي يوم القيامة لها جناحان تدافع عن قارئها، وتقول لا سبيل عليه. والأخبار بفضلها كثيرة، وكذلك في فضل تبارك. والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الطور عدد 26- 76- 52 نزلت بمكة بعد سورة السجدة، وهي تسع وأربعون آية، وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة، وألف وخمسمائة حرفا. لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالطُّورِ» 1 طور سيناء الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، ويطلق لغة على كل جبل بانفراده،

أما إذا وصف فيتقيد بكل جبل ملتفة عليه الأشجار، وإنما أقسم الله به دون غيره لعظم ما وقع عليه منه جل شأنه لسيدنا موسى «وَكِتابٍ مَسْطُورٍ» 2 هو التوراة والله أعلم بدلالة السياق والسباق، يؤيده قوله جل قوله «فِي رَقٍّ» وهو الأديم الذي يكتب عليه بفتح الراء وكسرها من الرقة ضد الصفاقة أي الوقاحة، ثم انه تجوز فيه عما يكتب فيه الكتّاب من ألواح وغيرها أو من الرقة وهي اللطافة، «مَنْشُورٍ» 3 مبسوط مفتوح، وقيل هو عبارة عن صحائف الأعمال استدلالا بقوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية 14 من سورة الإسراء ج 1، وقيل هو القرآن، والأول أولى وأنسب بالمعنى بمناسبة ذكر الطور، ولأن الكتاب الذي أنزل على موسى أنزل ألواحا مكتوبة مفتوحة، قال تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) الآية 150 من الأعراف في ج 1، ولأن القرآن لم ينزل على محمد مكتوبا تدبر. «وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ» الكائن في السماء السابعة، وسمي معمورا لكثرة زوّاره من الملائكة يعمرونه بالتسبيح والتهليل والتقديس، وجاء في حديث المعراج من إفراد مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور في السماء السابعة، قال فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ويسمى الفراغ حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وهو واقع فوقها بحيث لو سقط من قلبه حجر لسقط عليها، وهو تحت العرش كما روي عن علي كرم الله وجهه. وقال بعض المفسرين إنه الكعبة وعمارته بالحجاج، والأول أولى لذكره صراحة بالحديثين الصحيحين، وشهرته في هذا الاسم دون الكعبة، وقال آخر إنه المسجد الأقصى المعمور بالأنبياء، وهو أضعف مما قبله، لأن هناك ثلاثة بيوت مقدسة: البيت المعمور، وبيت العزة في سماء الدنيا الذي أنزل إليه القرآن جملة دفعة واحدة، والبيت الحرام بالأرض. وكل منها مشهور لا يغلب أحدها على الآخر. أما المسجد الأقصى فلم يطلق عليه لفظ بيت، لأن الله سماه المسجد الأقصى، وأطلق عليه لفظ القدس، وقد سمى الله الكعبة البيت الحرام «وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» 5 السماء العالية أو العرش، لأنه سقف الجنة كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، يؤيده الحديث المار ذكره في تفسير الآية 18 من سورة المؤمنين المارة. «وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» 6 الموقد المحمى.

مطلب من معجزات القرآن الإخبار عن طبقات الأرض، وعن النسبة المسماة ميكروب:

مطلب من معجزات القرآن الإخبار عن طبقات الأرض، وعن النسبة المسماة ميكروب: جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يركب رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا وان تحت البحر نارا وتحت النار بحرا. وورد أن البحر طباق جهنم. هذا وقد يظن من لا خبرة له في طبقات الأرض أنه لا يوجد بحر متوقد، مع أنه ثبت أخيرا أن جوف الكرة الأرضية فيه بحر يغلي كالمرجل، ومن انجرته تحصل الزلازل، ومن شظايا معادنه تحصل البراكين. وهذا من معجزات القرآن العظيم وإخباره بالغيب، إذ لا يوجد إيّان نزوله من يعلم ذلك. ولعل هذا يظن أيضا أن الميكروب المكتشف أخيرا لم يشر الله تعالى إليه، كلا بل هو موجود، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) الآية 10 من سورة الأحزاب ج 3، وجاء في الخبر: اتقوا الغبار فإن فيه النسمة. وهل النسمة إلا الحشرة الصغيرة التي يسمونها ميكروبا، وهي من الجنود التي لم تر، المشار إليها في كتاب الله، وقد يكون في التراب، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه. ولهذا ينبغي لمن يأكل الفواكه والخضراوات أن يغسلها جيدا حتى لا يبقى فيها تراب ما، لأنه لا يخلو عن النسمة أي الميكروب، وعليه فلا يظن أحد استحالة جنود لم ترها العيون، لأن الجراثيم الصغيرة التي لا ترى إلى بالمكبرات هي من جنود الله الفتاكة، وان الله تعالى يسوقها مع الرياح ويسلطها على من يشاء من خلقه، وخاصة الطاعون والهواء الأصفر والهيضة المسماة (كوليرا) والهيجان الذي يقتل فيه أقوى جبار في ساعة واحدة، أليس النمروذ أهلك ببعوضة وهو على ما كان عليه من الجبروت، ألا فلا يظن أحدا أن القرآن أغفل شيئا، كيف والله تعالى يقول (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من سورة الأنعام المارة، إلا أنه محتاج لفكر ثاقب وعقل كبير ووعي بالغ وقلب واع ودراسة طويلة، قال القائل: ومن طلب العلوم بغير درس ... سيدر كها إذا شاب الغراب

[سورة الطور (52) : الآيات 11 إلى 20]

وقال الآخر: ألا لا تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مجموعها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان هذا وقد أقسم الله في هذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ» 7 بالمشركين والعاصين في الدنيا والآخرة على بعض وفي الآخرة على آخرين، على أن العصاة قد يعذبهم فيهما أو في أحدهما، وقد يعفو عنهم، ولا يسأل مما يفعل، وإذا وقع عذابه على أحد «ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» 8 يدفعه عنه أو يمنعه منه وعلامة وقوعه أول أيام الآخرة «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً» 9 تضطرب وتدور بشدة كدوران الرحى، ولكن بسرعة لا تدرك «وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» 10 حثيثا فتزول عن أماكنها وتكون هباء منثورا، لأنها خلقت رواسي للأرض كي لا تتكفا بأهلها تكفؤ السفينة ولا تتحرك، وذلك لأجل عمارة الأرض أما وقد آذن الله بخرابها فلم يبق لها من حاجة، ليتم قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 48 من سورة إبراهيم المارة، قال جبير ابن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أسارى بدر- أي بعد نزول هذه الآية بسنين كما ألمعنا إليه في الآية 17 من سورة السجدة المارة- فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ (والطور) إلى قوله (إن عذاب ربّك لواقع، ماله من دافع) فكأنما صدع قلبي حين سمعت، (ولم يكن أسلم يومئذ) فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب. وهذا كقول عبد الله بن سلام حين سمع قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) الآية 47 من سورة النساء ج 3، قال والله يا رسول الله ما كدت لأن أرجع فأومن قبل أن يطمس الله وجهي إلخ، فأسلم وحسن إسلامه كما سيأتي في تفسير هذه الآية. قال تعالى «فَوَيْلٌ» هلاك وعذاب شديد وهوان وبلاء كبير «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوعه «لِلْمُكَذِّبِينَ» 11 بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر «الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ» 12 لاهون

[سورة الطور (52) : الآيات 21 إلى 30]

مما يراد بهم في الدنيا وما هم قادمون إليه في الآخرة مشغولون بما لا يعنيهم «يَوْمَ يُدَعُّونَ» يدفعون بعنف «إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» 13 دفعا عظيما وتقول لهم الملائكة «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» 14 الذين أخبروكم بها وتقولون لما يتلى عليكم من آيات الله لسحر وكهانة، أنظروا «أَفَسِحْرٌ هذا» المتلو عليكم كما زعتم «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» 15، أنه حق اليقين اليوم كما كنتم في الدنيا، لأن السحر لا يدوم، وهذا دائم مستمر. وبعد أن يعترفوا يقال لهم «اصْلَوْها» احترقوا في نار جهنم فمسّوا شدة حرها «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا» على حد قوله تعالى (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) الآية 21 من سورة إبراهيم المارة، فإن صبركم وعدمه «سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 16 لا محيص لكم عنه، قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» للكفر والتكذيب في الدنيا يكونوا في الآخرة «فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ» 17 متنعمين فيها «بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الخيرات «وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» 18 جزاء إيمانهم وتصديقهم، وتقول الملائكة لهم في ذلك اليوم «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً» لا تخمة فيه ولا سقم «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 19 في الدنيا راجع الآية» 32 من سورة النحل المارة، وللبحث صلة في الآية 24 من الحاقة الآية، وتراهم أيها الرائي «مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ» موصولة بعضها ببعض «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» 20 يتنقمون بهن زيادة على ذلك «وَالَّذِينَ آمَنُوا» آتيناهم ذلك كله «وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ» أي الكبار منهم بإيمانهم أنفسهم والصغار بإيمان آبائهم «أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» في الجنة تكرمة لهم لتقربهم أعينهم ويجمع لهم السرور كما كانوا في الدنيا يحبون الاجتماع بهم. الحكم الشرعي: إن الولد الصغير يحكم بإيمانه إذا مات قبل بلوغه تبعا لأحد أبويه، لأنه يتبع أحسن الأبوين في الدين وأخسّهما في النجاسة، ويتبع أمه في الرق إلا أن تعنق فتكون حرة، قال: يتبع الفرع في انتساب أباه ... والامّ في الرق والحربة والزكاة الأخف والدين الأعلى ... والذي اشتد في جزاء ودية

وأخس الأصلين رجيا وذبحا ... ونكاحا والأكل والأضحية قال تعالى «وَما أَلَتْناهُمْ» أنقصناهم «مِنْ» ثواب «عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ» في عمله «رَهِينٌ» 21 فنفس المؤمن مرهونة بعملها وتكافى بحسبه وأحسن، ونفس الكافر مرهونة بعملها وتجازى بحسبه فقط وما ربك بظلام، فلا يرهن أحد بعمل أحد. قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية 164 من الأنعام المارة وفي سورة النجم ج 1 مثلها، وذكرنا فيها أن سعي للغير ينفع، وهو من خصائص هذه الأمة كما منفصله في الآية 42 من سورة الرعد في ج 3 إن شاء الله. قال تعالى «وَأَمْدَدْناهُمْ» زدناهم وأعطيناهم وأصل المدّ الجر ويجيء غالبا بمعنى الإمداد للشيء المحبوب، والمد للمكروه، الإمداد تأخير الأجل والإغاثة وتعزيز الجنود بجماعة أخرى، قال تعالى (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) الآية 10 من سورة الأنفال ج 3، أي زدناهم بعد تقديم ما يؤكل من الغذاء «بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» 22 للتلذذ من غير طلب واقتراح إكراما لهم «يَتَنازَعُونَ» يتجازبون ويتعاطون فيناول بعضهم بعضا «فِيها كَأْساً» زجاجة مملوءة بالشراب اللذيذ «لا لَغْوٌ» باطل ولا مالا يغي «فِيها» أي لا يتكلم شاربها بمكروه أثناء شربها كعادة أهل الدنيا عند شرابهم النجس المذهب للعقل، فإنهم يخلطون أثناء شربهم ويهرفون بما لا يعرفون، لأنها لا تذهب عقولهم فيحافظون على الآداب والأخلاق «وَلا تَأْثِيمٌ» 23 فلا يقع منهم خلال شربها أو بعده ما يوجب الإثم بخلاف أهل الدنيا، فإنهم قد يتسابون ويقع منهم ما يؤثمون به، ويفعلون فعل اللئام، أما أهل الجنة فلا يقع منهم عند شربهم وبعده إلا ما يفعله الكرام من اللطف والعطف والمحبة «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ» بتلك الكأس «غِلْمانٌ لَهُمْ» مملوكون بتمليك رب العالمين لا يشاركون أحدا في خدمتهم «كَأَنَّهُمْ» في حسنهم وجمالهم «لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» 24 في صدفة لم تمسه الأيدي باق على صفائه «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» 25 بينهم، ثم بين تعالى تساءلهم فقال «قالُوا» بعضهم لبعض أثناء تذاكرهم «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا» في دار الدنيا «مُشْفِقِينَ» 26 خائفين من عذاب الله

[سورة الطور (52) : الآيات 31 إلى 40]

لا ستقلالنا أعمالنا الصالحة «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» في الآخرة وأكرمنا في الجنة «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» 27 الريح الشديدة الحرارة التي تدخل في مسام الإنسان وقيل إنها أحد أسماء جهنم، وقالوا «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ» أن نحضر الآخرة «نَدْعُوهُ» ونعبده ولم نؤده حق عبادته «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» 28 بعباده يحسن إليهم ويعطيهم أكثر مما يستحقون بمنه وفضله. وبعد أن بين ما يقع بين أهل الجنة ترغيبا للمؤمنين التفت إلى حبيبه وقال «فَذَكِّرْ» قومك يا محمد في هذا القرآن علهم يرجعون إلى ربهم فينعم عليهم بما ذكر بعضه للمؤمنين به، ولا تلتفت لما يقولونه فيك «فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» التي أنعمها عليك من النبوة والرسالة والكتاب «بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» 29 كما يزعمون وينقولون، فأنت رسول الله حقا وأمينه على وحيه صدقا «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» 30 حوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء، كلا فلست ذلك و «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» 31 المنتظرين أمر الله فيكم. واعلم أن المنون يطلق على الدهر وعلى الموت قال: تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت خليلها هذا على الأول، وعلى قول الثاني قول ذؤيب: أمن المنون وريبه يتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع قال تعالى «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ» أي عقولهم إذ يظنون أنهم عقلاء والمثل السائر (كل بعقله راض أما بماله لا) والحال ليس لهم عقول سليمة، إذ لو كان لهم عقول سليمة لما أمرتهم «بِهذا» القول المتناقض من ساحر إلى شاعر إلى كاهن إلى غير ذلك «أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» 32 باغون خلوجون عن الاعتدال، قيل لعمرو بن العاص ما بال قومك لم يؤمنوا وقد نعتهم الله تعالى بالعقل؟ فقال تلك عقول كادها الله تعالى إذ لم يصحبها التوفيق، فلهذا لم ينتفعوا بها. على أن هذه الآية لم تدل على رجاحة عقولهم، لأنها واردة مورد الاستهزاء، بل تدل على عكس ذلك، لأن الله أزرى بعقولهم، إذ لم يميزوا بين الحق والباطل والصدق

مطلب الحجج العشر وعذاب القبر وبحث في قيام الليل والإخبار بالغيب وما يقال عند القيام من المجلس:

والكذب والهدى والضلال، ويجوز أن يراد بأحلامهم أكابرهم ورؤساؤهم، لأن أحلام بمعنى أجسام، كلفظ أعلام فإنها تطلق على الجبل وعلى الرجل، قال ابن الفارض رحمه الله: نشرت في موكب العشاق أعلامي ... وكان قبلي بلي بالحبّ أعلامي وهم لفلة عقولهم سماهم أجساما تهكيبا بهم «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ» اختلقه وهي كلمة لا تستعمل إلا في الكذب، كلا، لم يختلقة وهو الصادق المأمون «بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» 33 في هذا القرآن المنزل عليك أنفة وتجبرا. مطلب الحجج العشر وعذاب القبر وبحث في قيام الليل والإخبار بالغيب وما يقال عند القيام من المجلس: فإذا كان لقولهم من صحة «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» في حسن النظم ورشاقة اللفظ ولطافة البيان والأحكام والحدود والإخبار بالمغيبات وقصص الأمم السابقة «إِنْ كانُوا صادِقِينَ» 34 بأنك اختلقته أو أنه شعر أو كهانة، لأنهم عرب مثلك يدعون الفصاحة والبلاغة، والتنكير يفيد التقليل أي ليأتوا بمطلق حديث يشابهه، وقد خسئوا لا يستيعون ولو اجتمعوا وتعاونوا وقد لزمتهم الحجة، راجع الآية 13 من سورة هود المارة، قل يا محمد «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ» أراد بشيء هنا الخلق، إذ ربما يتوهم به أنه يدل على أنه لا يخلق شيء إلا من شيء، والمعنى أوجدوا بلا خالق، فإن قالوا لا، وقعت عليهم الحجة، وإن قالوا نعم فقل لا يجوز أن يوجد خلق بلا خالق، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضروريات الاسم «أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» 35 لأنفسهم أم الله خلقهم، فإن قالوا نحن فقول باطل، لأن من لا وجود له كيف يخلق، وعلى فرض المحال فكلفهم أن يخلقوا ذبابة أو يخلّصوا منها ما تسلبهم، فإذا عجزوا ولا شك أنهم عاجزون فقد لزمتهم الحجة بأنهم مخلوقون لله، وعليهم أن يؤمنوا بخالقهم. وهذا إلزام ثان. قال تعالى «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» كلا، بل خلقها الخالق لهم، ولئن سألتهم ليقولن خلقها الله حتما «بَلْ لا يُوقِنُونَ» 36 إيقانا حقيقيا بأنه خلقها، ولو أيقنوا لا لاعترفوا، ولكنهم يجحدون عنادا بسبب إعراضهم عن آيات الله

[سورة الطور (52) : الآيات 41 إلى 49]

وعدم تدبرهم معانيها، وهذه حجة ثالثة لزمتهم فافحمتهم. قال تعالى «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ» من الرزق والمطر والعافية فيمنعونه عن أناس ويفيضونه على آخرين كما يفعل الله «أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» 37 على شيء من ذلك فيقدرون أن يفعلوا ما يشاءون فيغتون هذا، ويفقرون هذا، ويمرضون هذا، ويشفون هذا، كلا ما عندهم شيء من ذلك البتة، وليس لهم سلطة على شيء منه أصلا وفسر بعضهم الخزائن بالنبوة وآخرون بالعلم، والمسيطرين بالأرباب القهارين والجبارين المتسلطين، وهو كما ترى، وهذا إلزام رابع ألقمهم الحجر. قال تعالى «أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ» مرقي إلى السماء «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» كلام الله، وفيه هنا بمعنى عليه، لأن حروف الجر يخلف بعضها بعضا، لأن السلّم يستمع عليه لا فيه، أي هل أنهم يرقون فيسترقون السمع خبر السماء فيعلمون أن محمدا يموت قبلهم، وأنهم يظفرون بالعافية فيتمسكون بما هم عليه، فإن كان لزعمهم هذا من أصل «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ» الذي سمع ذلك ونقله إليهم «بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» 38 يدل على صحة سماعه، وإذ لم يأتوا ولن يأتوا فادعاؤهم كاذب، وتربصهم هواء، وهذا إلزام خامس داحض تربصهم به ومحسئهم. قال تعالى «أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ» 39 وهذا إنكار عليهم لاختيارهم الأحسن لأنفسهم، وجعلهم ما يكرهون لربهم، أي من ابن عرفوا ذلك فهم كاذبون من جهتين من هذه ومن إعزائهم الملائكة لله بأنهم بناته، تعالى عن ذلك، قال تعالى (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) الآية 20 من سورة لزخرف المارة، أي كلا، لم يشهدوا خلقهم، فلزمتهم الحجة السادسة «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» على إرشادك ونصحك لهم «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» 40 لا يقدرون على تأديته لك، كلا لا شيء من ذلك، وإذا كنت لا تطلب منهم شيئا على تعليمهم فيكون عدم اتباعهم لك لخيرهم أمرا مذموما (والغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه) ، ولذلك يزهدون باتباعه، وهذه الحجة السابغة التي أخرستهم. «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ» اللوح المحفوظ الذي فيه ما غاب عن الخلق علمه «فَهُمْ يَكْتُبُونَ» 41 منه ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ولا نعذّب ولا نحاسب، كلا ليس عندهم ذلك وهذه حجة ثامنة داحضة لأقوالهم لا بعث ولا حساب ولا عقاب «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً»

برسولنا فيجتمعون في ندوتهم ويتدابرون ما يمكرون به ليتخلصوا منه، وقد أرسل رحمة إليهم مع أنهم لا يقدرون على شيء لأنا نحول دونه ونمنعهم منه ونقول «فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ» 42 الذين يعود عليهم مكرهم، وهذا من الإخبار بالغيب، لأن مذاكرتهم بشأن المكر به في دار الندوة وقعت بعد نزول هذه الآيات قبل الهجرة، وقد أخبره الله تعالى بما حاكوه بينهم فيها بوقته كما سيأتي، ولذلك ترك داره وذهب إلى الغار وأمر عليا أن ينام مكانه فيها، وهذه حجة تاسعة قامعة ما يريدون به، قال تعالى «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ» يعتمدون عليه في الشدائد، كلا لا إله إلا الله لهم ولغيرهم «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» 43 به من أوثان لا تضر ولا تنفع، تنزهت ذاته المقدسة وتبرأت عن ذلك، وهذه تتمة الحجج العشر الواضحات، أفحمهم الله تعالى بها على لسان رسوله فلو كانوا موفقين لأذعنوا إليها واهتدوا بها ولا نوا، ولكن من سبق في علم الله شقاؤه فلن يرى الهدى، بل يزد قاوة وعتوا، وفضلا عن أن كلا من هذه الحجج الدامغة كافية للردع ففي كل منها توبيخ وتبكيت وتقريع، ولكن لا تغني النذر والآيات لمن ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم لا يهتدون أبدا. قال تعالى «وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا» لشدة عنادهم وقوة عتوهم، هذا «سَحابٌ مَرْكُومٌ» 44 بعضه على بعض، وهذا جواب لقولهم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) الآية 92 من سورة الإسراء في ج 1، وإذا تبين لك يا سيد الرسل حالهم هذا «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ» 45 يمرتون قصفا على حين غفلة لأنهم لا بد لهم من الموت ولو بقوا إلى النفخة الأولى التي يصعق فيها كل حي على الأرض وفي السماء عدا من استثنى الله وذلك يوم الموت حتف الأنف والموت بالصعق «يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» من الله تعالى «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» 46 من قبل شركائهم ولا غيرهم. قال تعالى «وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ» قبل صعقهم سينالهم في الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والقتل، وهذه الآية أيضا من الإخبار بالغيب إذ وقع بعض ذلك في بعضهم وكله في كلهم وأشده يوم بدر فما بعده، وكان بينه وبين نزول هذه

الآية سنتان، وقال بعض المفسرين أن دون هنا بمعنى وراء، وعليه يراد بالعذاب عذاب القبر، لأنه يكون وراء الموت وهو خلاف الظاهر، وتقدم ما فيه في الآية 25 من سورة نوح عليه السلام المارة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» 47 أنا سنزل فيهم عذابا قبل موتهم ولا بعده، وفي هذه الآية إشارة إلى أن فيهم من يتوقع ذلك بالفراسة، ومنهم من يعتقد صدقه فيتحقق ما يوعدهم به، ومنهم من يسمع ما وقع للأنبياء السابقين مع أممهم، فيعترفون أن محمدا رسول الله حقا، وأن ما يخبر به لا شك واقع، ولكنهم عنادا يصرون على الكفر وعتوا يكذبون. قال تعالى «وَاصْبِرْ» يا حبيبي «لِحُكْمِ رَبِّكَ» وأمهلهم على ما تراه من المشقة إلى الوقت المقدر لإعلاء كلمتك عليهم «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» ومرأى منا لا تخفى علينا حركاتك وسكناتك، وإنا نكلؤك مما يراد بك، فلا نمكنهم أن يصلوا إليك بسوء أو يوصلوا إليك ما تكره، ومن كان بنظر الحي الذي لا يموت لا يخاف أحدا أبدا، وصلّ يا أكمل الرسل «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» 48 من مقامك ومجلسك وللصلاة، أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا كان كفارة لما بينهما. وأخرج أبو داود والنسائي عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبّر عشرا، وسبح عشرا، وعلل عشرا، واستغفر عشرا، وقال اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة. وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال تعالى «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أيضا في صلاتي المغرب والعشاء وصلاة التهجد «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» 49 بعد وقت السحر إذ فيه تدبر النجوم أي يغيب ضوءها بنور الفجر عن الأبصار فقط، لأنها لا تغيب أصلا، وإنما تخفى على أناس وتظهر لآخرين، وفي القول في غيابها تجوز باعتبار المكان والقطر، وباعتبار ما نرى. روى البخاري

تفسير سورة الملك عدد 27 - 77 - 65

ومسلم عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن العظيم. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الملك عدد 27- 77- 65 نزلت بمكة بعد سورة الطور، وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثلاث عشرة كلمة، وألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ونظائرها في الآي الفجر والسجدة فقط. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «تَبارَكَ» تقدم ما فيه أول الفرقان في ج 1 فراجعه، «الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» يتصرف فيه وبما فيه، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1 بالغ القدرة في كل ممكن، وهل يوجد شيء غير ممكن على الله تعالى إلا إخراج خلقه عن ملكه، وذلك رحمة بهم لأنه قادر على تبديلهم بغيرهم كما أنه قادر على تبديل السموات والأرض، قال تعالى (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 67 من الواقعة في ج 1، وقال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية 48 من سورة إبراهيم المارة وأمثالها كثير في القرآن، ولما كان لا يكون ذلك إلا بإعدامهم وقد قدر لهم أجلا في هذه الدنيا لا بد بالغوه فلا يمكن إخراجهم من ملكه. مطلب في إمكان القدرة وفوائد الكواكب: قال بعض المفسرين إن قدرته تعالى مقيدة لأنه لا يقدر على ذاته المقدسة ولا على جعل صاحبة له أو ولد أو شريك تعالى عن ذلك، وهذا وإن كان كذلك لأن هذه ليست من الممكنات، وإن القول يتقييد القدرة بهذه الأسباب مما يعبس ويكفهرّ لها الوجوه ويقشعر لها البدن وترتعد لها الفرائص وينكمش لها القلب،

لهذا فالأحسن الصفح عن هكذا إيرادات والاكتفاء بظاهر اللفظ، ولهذا قال الإمام الرباني ما قال كما أثبتناه في الآية 42 من سورة النجم في ج 1، فتدبره أرشدك الله لهداك وأبعدك عما فيه رداك. واعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي مر ذكرها، راجع الآية 158 من الأنعام المارة ففيها كفاية، وقد ذكرنا جواز إطلاق اليد عليه تعالى اتباعا لما جاء في ظاهر القرآن إذ ألزمنا أنفسنا في هذا التفسير المبارك السير فيه على ظاهره ما وجدنا لذلك سبيلا، وقد جاءت أحاديث قدسية بذلك أيضا وهي مفسرة لكتاب الله، ومن عرف أن الله عز وجل منزه عن المثل والشبهيّة عرف أن يده ومجيئه وقبضته وإتيانه المشار إليه في القرآن لا تشابه شيئا من مسمياتها في البشر تدبر، قال في بدء الأمالي: تسمى الله شيئا لا كالاشيا ... وذاتا عن جهات الست خالي وقال القائل: ما كل زهر ينبت الأرض طيب ... ولا كل مصقول الحديد يماني هذا، وليحذر العاقل أن يتصرف بآيات الصفات حسبما يسبح بفكره أو تحدثه نفسه، ففيه مزالق مهلكة، كما أن عليه الكف مما يتصوره في إمكان القدرة الآنفة الذكر لأن منشأها من وساوس الشيطان ومسيرها الحيرة والوقوع بما لا يليق أن يوصف به الرب الجليل وليتعوذ من ذلك بالله ومن الذي يسأل عن مثل هذه الأسئلة، وليقل لا إله إلا الله العظيم للفرد الصمد الجبار القهار القادر على كل شيء الرحيم بعباده اللطيف بهم العطوف عليهم، وليراجع تفسير الآية 27 من سورة الشورى المارة ليقف على رأفة ربه به. «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ» في الدنيا لأن الأشياء كانت ابتداء في حكم الموتى كالتراب والنطفة والبيضة، ثم طرأت عليها الحياة، وفي الآخرة الموت عند نهاية الأجل في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام البرزخ، والحياة عند البعث في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا، أو المراد بالموت في الدنيا والحياة في الآخرة وهو أولى والله أعلم، «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم ويمتحنكم أيها الناس ليظهر لخلقه «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» له وأخلصه وأصونه لشريعته وأحبه لخلقه «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب لمن عصاه القادر على من ناوأه

«الْغَفُورُ» 2 لمن تاب إليه وأناب «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» بعضها فوق بعض «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» اختلاف أو اعوجاج أو عدم تناسب «فَارْجِعِ الْبَصَرَ» أيها الإنسان وكرر النظر فيها ودوره مرة بعد أخرى وتأمل فيها «هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ» 3 أو شقوق أو صدوع في شيء منها «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» أو عشرا أو أكثر إذ يراد به التكثير لا العدد كما تقول لبيك وسعديك، وعليه قوله: لو عد قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الدام فإنك منها كررت البصر فيه «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً» ذليلا صاغرا مبعدا لم يتوفق الرؤية ما يهواه «وَهُوَ حَسِيرٌ» 4 كليل معمي منقطع عن إدراك مطوبه محروم من رؤية مراده «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» كواكب متنوعة كالمصابيح الكهربائية بالنسبة لنظرنا وإلا فهي فوق ذلك بكثير، وهذه أول فائدة من فوائدها، والثانية «وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» الذين يسترقون السمع، وليس المراد أنهم يرمون نفس المصابيح لمنافاته معنى الزينة بل المراد أنهم يرمون بشعلة نارية منها كالقبس الذي يؤخذ من النار وهي باقية على حالها، قال تعالى (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) الآية 10 من الصافات المارة فراجعها، ومن المعلوم أن الشهاب ما يؤخذ من النار لا نفسها. والفائدة الثالثة الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر. والرابعة ما يحصل بها من نضوج الأثمار وألوانها وطعمها. والخامسة اختلاف الأنواء والمواسم الحاصلين بسيرها، وفوائد كثيرة ألمعنا إليها في الآية 62 من سورة الإسراء في ج 1، والآية 16 من سورة الحجر المارة فراجعها. واعلم أن هذا عذابهم في الدنيا «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» 5 في الآخرة وهو النار المتأججة المتوقدة يحرق فيها كل كافر متمرد من الشياطين «وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» من الإنس والجن «عَذابُ جَهَنَّمَ» بصلونها «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» 6 مصير الكفرة من الفريقين الذين «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها» لكل من السعير وجهنم وسائر طبقات النار الخاصتين بهذين الصفتين ومن ماثلهم «شَهِيقاً» هو أول نهيق الحمار «وَهِيَ تَفُورُ» 7 بهم فوران الماء بالجب

[سورة الملك (67) : الآيات 11 إلى 20]

القليل، أرأيت كيف ترفعه وتخفضه الفورة فهم كذلك فيها «تَكادُ تَمَيَّزُ» تنقطع وتنفصل أعضاؤهم وأمعاؤهم بعضها عن بعض «مِنَ» شدة «الْغَيْظِ» عليهم والحنق من شدة الفوران لولا قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) الآية 55 من سورة النساء في ج 3، وقد شبه اشتعال النار بكفرة الإنس والجن في قوة تأثيرها فيهم وإيصالها الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه، فاستعير اسم الغيظ لذلك الاستعمال استعارة تصريحية، والله يعلم كيف يصوغ الألفاظ إلى المعاني وكيف يجعلها في قوالب لائقة لمعاني بالغة «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ» جماعة كثيرة جدا أكثر من فوج أهل الدنيا كما أن الآخرة أكبر منها «سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها» أي سأل خزنة جهنم ذلك الفوج، وقد بين الله تعالى صفة هذا السؤال بقوله عز قوله «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» 8 يخوفكم عذاب هذه النار؟ فأجابوا معترفين «قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ» أكدوا جوابهم بقد المفيدة للتحقيق لشدة تحسرهم على ما فلتهم من السعادة وكثرة تأثرهم على ما لحقهم من الشقاء «فَكَذَّبْنا» ما ذكره لنا ولم نلتفت إلى رشده ونصحه «وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» مما تقول ونسبناه للسحر والكهانة والكذب والافتراء و (من) هنا يسمونها الزائدة على أن القران لا زائد فيه وهي هنا كأمثالها تأتي للتأكيد ويشترط أن يتقدمها النفي وأن تكون الكلمة الداخلة عليها نكرة كما هنا تدبر، وقلنا المرسل «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» 9 وخطأ عظيم لأنكم أتيتمونا بما لا نعلمه ولم نسمعه في آبائنا «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ» كلام الرسل «أَوْ نَعْقِلُ» ما وعظونا به «ما كُنَّا» الآن «فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» 10 تفيد هذه الآية أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وهو كذلك لأنهما حجتان ملزمتان للعبد عند ربه «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ» الذي جعلهم في جملة أصحاب جهنم «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» 11 وطردا عن رحمة الله تعالى وكرامته، وكلمة سحقا لم تكرر في القرآن أي سحقهم الله سحقا، قال الشاعر: بجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يروه ولم يشاهدوا عذابه وآمنوا بما أخبرهم رسله «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم عنده جزاء إيمانهم به وبما جاء في كتابه وذكرته رسله من غير معاينة «وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» 12 على ذلك وعلى أعمالهم الصالحة التي دعموا بها إيمانهم. وبعد أن ذكر جل ذكره ما للفريقين في الآخرة التفت إلى المشركين الذين كانوا ينالون من حضرة الرسول فأنزل فيهم قوله العظيم «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ» أيها الكفرة في حق الرسول «أَوِ اجْهَرُوا بِهِ» فهو على حد سواء عند الله «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» 13 ودخائلها وما خبىء فيها مما حدث أو سيحدث، ثم أكد قوله بقوله «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» الخلق ما يقوله خلقه، وهذا استفهام إنكاري ونفي لعدم إحاطة علمه تعالى الواقع من قبل خلقه، أي ألا يعلم ذلك من أوجد جميع الموجودات بحكمته التي هم من جملتها؟ بلى يعلم بكل ما يقع في ملكه «وَهُوَ» أي ذلك البليغ علمه هو «اللَّطِيفُ» العالم بدقائق الأشياء «الْخَبِيرُ» 14 بحقائقها. ثم طفق يعدد نعمه على عباده بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا» بحيث سهلها وجعلها صالحة لا يمتنع المشي عليها بأن يسّر وعرها وحزنها وغليظها وأوديتها وجبالها «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها» في جوانبها وفجاجها لبرزق والنزهة والزيارة «وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» المخلوق لكم فيها أيها الناس في هذه الدنيا «وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» 15 في الآخرة من القبور إلى المحشر. ثم طفق يخوف الكفرة بقوله عز قوله «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ» خاطبهم جل خط به بحسب اعتقادهم لأنهم من المشبهة أو من أشباههم إذ يعتقدون أنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه، تعالى الله عن المكان «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بقارون وغيره «فَإِذا هِيَ تَمُورُ» 16 تضطرب من شدة حركتها من أثر الخسف المسائل «أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» ريحا شديدة قاصفة ذات حجارة يرجمكم فيها كما فعل بقوم لوط وغيرهم «فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» 17 إذا عاينتم العذاب وإذا علمتم أن لا أمان لكم من أحد فلماذا تتمادون على الكفر «وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل قومك يا محمد

[سورة الملك (67) : الآيات 21 إلى 30]

وهم الأمم السابقة أنبياءهم «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» 18 عليهم بإنزال العذاب على غاية من الهول والفظاعة، أي هل وجدوا إنذاري الذي أنذروا به على لسان رسلي في الأمر والنهي ونكيري على منكري البعث والجزاء حقا أم لا؟ بل وجدوه حقا، وقرىء بالياء فيهما وبحذفها اكتفاء بالكسرة. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ» أجنحتها باسطتها في الهواء في جو السماء «وَيَقْبِضْنَ» أجنحتها إذا ضربن بها جنوبهن «ما يُمْسِكُهُنَّ» حالتي البسط والقبض من الوقوع في الأرض «إِلَّا الرَّحْمنُ» الذي شملت رحمته كل شيء «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» 19 يعلم كيف خلق وكيف دبر خلقه، راجع الآية 79 من سورة النحل المارة، وهذه الآية والتي بعدها تنبيه على قدرة الله تعالى على الخسف وإرسال الخاصب الذي خوفهم به في الآيتين المتقدمتين «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ» إن أراد بكم إيقاع العذاب؟ الجواب لا أحد «إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» 20 مما ينفخ الشيطان في صدورهم ويمنيّهم بأن لا عذاب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ» الله «رِزْقَهُ» عليكم؟ كلا، لا أحد أبدا، وتراهم عند الإمساك يتركون أوثانهم ويرجعون إلى ربهم «بَلْ لَجُّوا» ضجوا وتمادوا بالغي والعناد فلم يتأثروا ولم يرتدعوا بل صاحوا وظلوا «فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» 21 في نبو عن الحق وشراد وتباعد عنه. قال تعالى «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى» له وأولى «أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 22 وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن الذي كان مطاطئا رأسه في الضلالة والجهالة، والمؤمن الرافع رأسه في الهدى والرشد «قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» 23 الله على هذه الجوارح التي لولاها لكنتم مثل البهائم وقد ضيعتم نعمتها بصرفها لغير ما خلقت لها فحرمتم من الثواب المقدر لذلك «قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ» خلقكم وبثكم فيها في الدنيا لتفكروا بآلاء الله «وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 24 في الآخرة لتحاسبوا وتكافؤا على أعمالكم الخير بأحسن منه والشر بمثله، وتراهم يا سيد الرسل معرضين عن كل ذلك «وَيَقُولُونَ»

مطلب تبرؤ الرسول عن علم الغيب وأمر الرسول بسؤال الكفرة:

لك «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به وتهددنا فيه أنت وأصحابك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 25 أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على أعمالنا ونثاب أو نعاقب. مطلب تبرؤ الرسول عن علم الغيب وأمر الرسول بسؤال الكفرة: «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «إِنَّمَا الْعِلْمُ» بوقته ونوعه «عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 26 فقط لا أعلم ما هو ومتى يأتيكم، وما علي إلا أن أبلغكم ما أتلقاه من ربي وأخوفكم نزوله، لأنه من الغيب ولا يعلمه إلا الله «فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً» قريبا منهم في الدنيا أو في الآخرة، وقد جاء بالماضي مع أنه مستقبل لتحقق وقوعه «سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» وعلتها الكآبة وغشيتها الفترة وعمّتها الغبرة حين رؤيته «وَقِيلَ» لهم من قبل ملائكة الموت في الدنيا وفي الآخرة من قبل الخزنة الموكلين بالعذاب أو من قبل الملائكة الموكلين بتدبير الأرض أو الملائكة الموكلين بإنزال العذاب من السماء على أهل الأرض «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ» من قبل في الدنيا «تَدَّعُونَ» 27 وقوعه وتطلبون نزوله وتتمنون قربه وتسألون تعجيله وهو الذي كنتم تدعون كذبه وتكذبون من أنذركم به «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ» من المؤمنين «أَوْ رَحِمَنا» بتأخير آجالنا لأننا ننتظر إحدى الحسنيين البقاء مع النصر عليكم والظفر بكم أو الموت ودخول الجنة، لأن الله يأخذ بيد المؤمنين ويجيرهم «فَمَنْ «يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» 28 لا تطيقه أجسامهم ولا بد لهم منه إذا ماتوا على كفرهم، والمراد بالكافرين المخاطبون في هذه الآية، أي ماذا تصنعون إذا حل بكم عذاب الله ومن هو الذي يجيركم منه وأنتم على كفركم، ويدخل في هذه الآية كل من هو على شاكلتهم «قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ» الذي أدعوكم إليه أيها الناس هو الله ربنا الذي «آمَنَّا بِهِ» نحن «وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا» في كل أمورنا فهو مجيرنا من كل سوء لإيماننا به وأنتم لا مجير لكم البتة لإصراركم على الكفر وتفويض أمركم إلى أوثانكم «فَسَتَعْلَمُونَ» غدا «مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 29 نحن أم أنتم وهل يشفع لنا ربنا أم تشفع لكم أوثانكم، وهذه الآية جارية مجرى التهديد، ثم ذكرهم ببعض نعمه على طريق الاحتجاج بقوله عز قوله «قُلْ» لهم

يا خاتم الرسل «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً» ذاهبا في الأرض غائرا فيها لوصفه بالمصدر كعدل وعادل وهو سبب حياتكم لأنكم تشربون منه «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» 30 جار على وجه الأرض أو راكد فيها تناله أيديكم ودلائكم، فسيقولون لك حتما الله يأتينا به، فقل لهم إذا لم تشركون فيه من لا يقدر على شيء؟ فتلزمهم الحجة. قالوا تليت هذه الآية عند محمد بن زكريا المتطبب وهو ملحد فقال يأتي به المعول والفأس، فأذهب الله ماء عينه في تلك الليلة أعاذنا الله من الغرور وحفظنا من الاتكال على أنفسنا وزادنا بصيرة في مكوناته. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، وتسمى سورة المجادلة لأنها تجادل عن قارئها ملائكة العذاب، والمنجية لا دخار ثوابها عند الله، والمانعة لأنها تمنع من يواظب على قراءتها العذاب في الآخرة وتنجيه من عذاب القبر، والواقية لأنها تقيه مجادلة الملكين ومن العذاب الأخروي. أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك. وإنما قال تبارك لأن سورة السجدة وسورة الفجر المارتين كل منهما ثلاثون آية لعدم الالتباس. وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم خباء على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر. وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ عن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال بلى، قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر. واعلم أن هذه الأحاديث وشبهها من قبيل الإخبار بالغيب مما أطلع الله تعالى رسوله على بعض أحوال القيامة وأنه يكون حال من يقرأها أو السور الأخرى الواردة فيها من هذا القبيل كما أخبر وإلا فدفع العذاب والحساب ودخول الجنة أو النار يكون في القيامة لا في الدنيا، راجع آخر سورة الواقعة في ج 1 وآخر السجدة

تفسير سورة الحاقة عدد 28 و 78 - 69

المارة فيما يتعلق بهذا. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الحاقة عدد 28 و 78- 69 نزلت بمكة بعد سورة الملك، وهي اثنتان وخمسون آية، ومئتان وست وخمسون كلمة، وألف وأربعة وثلاثون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة القلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الْحَاقَّةُ» 1 «مَا الْحَاقَّةُ» 2 استفهام جار على التفخيم عن عظيم شأنها والتهويل عما يكون فيها «وَما أَدْراكَ» أيها السائل عنها «مَا الْحَاقَّةُ» 3 فإنك لا تعلمها إلا إذا عاينتها، لأن فيها من الشدائد والأهوال ما لا يبلغه دراية أحد، ولا يصل لكنهها الفكر، فمهما صورتها وكيفها مثلتها فهي أكبر وأعظم من ذلك. وإنما سميت القيامة حاقّة لأنها ثابتة الوقوع وتحق على القوم فتقع فيهم «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» 4 القيامة وسميت بها لأنها تقرع الناس فتدهشهم وتفرع القلوب فتفلجها، ولها أسماء كثيرة بيناها في محالها فيما مضى، وسنبين أيضا فيما يأتي. قال تعالى «فَأَمَّا ثَمُودُ» قوم صالح «فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» 5 الصيحة الشديدة المجاوزة للحد في القوة بسبب طعيانهم وبغيهم على عقر الناقة التي أظهرها الله معجزة لنبيهم على طلبهم، «وَأَمَّا عادٌ» قوم هود «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ» شديدة الصوت باردة تحرق بقوة بردها الزرع والضرع «عاتِيَةٍ» 6 عظيمة العصف قد عتت عليهم فلم يقدروا أن يقوا أنفسهم منها بعزم ولا حزم ولا حيلة، وإن الله المنتقم الجبار القهار «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ» أي العتاة المذكورين بمقتضى قضائه الأزلي «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» قاطعات متتابعات لم تفتر خلالها حتى حسمتهم على آخرهم. وفي قوله تعالى سخرها رد لمن قال إن تلك الريح كانت باتصال الكواكب. وردع لبعض المفسرين القائلين إنها عتت على الملائكة، وهذه الأيام الثمانية تسمى العجوز

[سورة الحاقة (69) : الآيات 11 إلى 20]

لأنها كانت في عجز الشتاء، ولا يزال بردها يكرر في كل سنة، أو لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سر بها لتقي نفسها منها فاتبعتها الريح فأهلكتها «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ» لمن يراهم «أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» 7 أجوافها ساقطة بالية، شبههم بجذوع النخيل الساقطة ليس لها رءوس لما قالوا إن الريح كانت تدخل من أفواههم فتخرج من أدبارهم حتى صاروا كأعجاز النخل البالية «فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» 8 أيها الرائي إذا كان إهلاكهم على هذه الصورة؟ كلا، قالوا إنها أهلكتهم جميعهم في سبعة أيام وفي الثامن القت جثتهم في البحر، فلم يبق لهم أثر فهذه كيفية تدميرهم أيها السائل عنهم، راجع قصتهم في الآية 50 فما بعدها من سورة هود المارة، ولهذا فإن عادا الأولى لا ينسب إليها أحد أن الله تعالى أخبر أن لا باقية لها، وما جاء في بحث الخراج العشر بلفظ عادي الأرض فهو منسوب إليهم إذ بقيت ديارهم مهجورة، قال تعالى (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية 58 من سورة القصص المارة. قال تعالى «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ» من الأمم الكافرة بعد عاد وثمود «وَالْمُؤْتَفِكاتُ» قرى قوم لوط وهي خمسة صبعه وصعوه وعمرة ودوما وسدوم، وهي أعظم قراهم، قلبها الله تعالى بأهلها فهن المنقلبات بالخسف، والأمم الذين ائتفكوا بذنوبهم أي «بِالْخاطِئَةِ» 9 وهي الفعلة ذات الخطأ الكبير «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ» أولئك الأقوام «فَأَخَذَهُمْ» الله الذي أرسله رحمة بهم فكذبوه فصار بغيهم عليهم نقمة وصارت أخذتهم «أَخْذَةً رابِيَةً» 10 نامية زائدة بالشدة على عقوبات غيرهم من الكفار بالنسبة لزيادة بغيهم. قال تعالى «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ» على قوم نوح بسبب تماديهم على الكفر «حَمَلْناكُمْ» أيها الناس أي حملنا أصلكم نوحا ومن معه وأنتم ذريتهم «فِي الْجارِيَةِ» 21 السفينة، وقد أضيف الحمل إليهم لأنهم كانوا في أصلاب المحمولين فيها، فكل هذا البشر من أولاد نوح عليه السلام ولهذا سمي أبا البشر الثاني «لِنَجْعَلَها» تلك الفعلة التي أغرقنا فيها من على وجه الأرض وأنجينا آباءكم المؤمنين «لَكُمْ» أيها الناس «تَذْكِرَةً» تذكرون بها «وَتَعِيَها» من بعدكم «أُذُنٌ واعِيَةٌ» 12 عافلة حافظة تذكر ما جاء من عند الله فتعتبر به وتعظ غيرها فرب مبلّغ أوعى من سامع.

مطلب في اهوال القيامة، وإعطاء الكتب، وحال أهلها:

مطلب في اهوال القيامة، وإعطاء الكتب، وحال أهلها: هذا، وبعد أن صدّر الله تعالى هذه السورة بذكر القيامة وتفخيمها وأخبار وقصص بعض الأمم السالفة وأحوالها وكيفية إهلاكها وذكر نعمة إنجاء المؤمنين، شرع يبين أحوال القيامة وما يكون فيها من أولها إلى آخرها على سبيل الإجمال فقال عز قوله «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ» 13 لا تثنّى في وقتها وإلا فهي نفختان معلومتان لكل منهما زمن معلوم، وإنما قال واحدة لعدم التثنية «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» فيها من أماكنها بعد أن مات في تلك النفخة الأولى من عليها أجمع «فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» 14 بأن ضرب الجبال في الأرض بيد القدرة البالغة، فصارت كثيبا مهيلا وهباء منثورا «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» 15 قامت القيامة ونشر من في الأرض «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» 16 رخوة مشققة مفطرة بعد ما كانت قوية محكمة لا فطور فيها «وَالْمَلَكُ» أعم من الملائكة «عَلى أَرْجائِها» جوانب السماء وأطرافها لأنها مسكنهم، فإذا كورت لجأوا إلى جوانبها وحوافّها، ثم يموتون أيضا لدخولهم في عموم قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية 35 من سورة الأنبياء وهي مكررة في البقرة وغيرها «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ» فوق رءوسهم من فوق الملائكة الذين هم على أكتاف السموات «يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» 17 أملاك عظام وهم من المستثنين من الموت كما مر في الآية 68 من سورة الزمر المارة، «يَوْمَئِذٍ» يوم إذ كان ذلك كلّه ونفخت النفخة الثانية وقام الناس وغيرهم من مدافنهم أحياء «تُعْرَضُونَ» أيها الخلائق على خالقكم ليحاسبكم ويجازبكم «لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» 18 عليه من كل ما وقع منكم سرا أو جهرا، عمدا أو خطأ، بقصد أو غير قصد. ثم تعطى الكتب بالأعمال «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» فيغلب عليه الفرح وينادى بأعلى صوته على رءوس الأشهاد «فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» 19 خذوه فانظروه واقرءوه، وذلك لأنه بلغ غاية السرور فأراد أن يطلع عليه معارفه وغيرهم ليعلموا أنه كان في الدنيا على الحق، كما أن من ينجح بالفحص يعلن بالمذياع أو غيره نجاحه ويري شهادته لمن يراه فرحا بها

[سورة الحاقة (69) : الآيات 21 إلى 30]

مع أنها قد لا توصله لشيء ولو أوصلته فإنه وما توصله إليه فان، فكيف بتلك الشهادة الباقية المخلدة الموصلة إلى دار النعيم التي لمثلها يعمل العاملون وبها يتنافس المتنافسون؟ ويقول لهم أيضا «إِنِّي ظَنَنْتُ» تيفنت في الدنيا «أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» في الآخرة لأنه كان يعتقد ما جاء به الرسل من البعث والحساب والثواب والعقاب وكان حسن الظن بالله والله عند ظن عبده به «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» 21 لأمنه مما كان يخافه وقد أعطي أمنينه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» 22 مرتفعة مكانا ومكانة «قُطُوفُها» ثمارها التي تقطف منها للأكل «دانِيَةٌ» 23 للمتناول قائما وقاعدا ومضطجعا لا تحيجه لحركه أو آلة ولا لأمر بل بمجرد ما تخطر بباله تصير أمامه وتقول لهم الملائكة «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ» لهذا اليوم «فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» 24 الماضية من أيام الدنيا، وهذه الآية السادسة التي تدل على أن العمل دخل في دخول الجنة كما ذكرنا في مثلها في الآية 72 من سورة الزخرف والآية 32 من سورة النحل المارتين والآية 43 من سورة الأعراف في ج 1 «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ» بصوت منخفض ملؤه الحزن والأسى والأسف والحرقة والندم والتأوه لسوء ما يرى وخيبة ما يلقى «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ 25 وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ» 26 كما كنت في الدنيا، وإذا كان من يسقط بالفحص قد يؤدي به الحال إلى الانتحار لشدة استيائه ويتوارى عن الناس خجلا، فلا لوم على من يسقط في الآخرة أن يقول ما قال ويقول «يا لَيْتَها» الموتة الأولى «كانَتِ الْقاضِيَةَ» 27 عليه القاطعة لهذه الحياة المشئومة يا ويلتا ويا حسرتا «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ» 28 شيئا مما أنابه من العذاب، وقد «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» 29 الذي كنت أحتمي به في الدنيا من قوة وسلطة وحجة وعقل وبقيت ذليلا حقيرا، فيقول الله تعالى لخزنة جهنم «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ 30 ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ» 31 أحرقوه بها «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً» بذراع يعلمه الله وليس مما نعرف من الذراع ويقال لهم «فَاسْلُكُوهُ» 32 بأن تلف على جسده مرات حتى تستغرقه، فيكون كأنه أدخل فيها، لأن معنى السلك الإدخال، قال تعالى (أَنْزَلَ مِنَ

[سورة الحاقة (69) : الآيات 41 إلى 50]

السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) الآية 22 من سورة الزمر المارة أو أنها تسلك فيه بأن تدخل من حلقه وتخرج من دبره كما يسلك الخيط بالإبرة، وسبب هذا الإرهاق هو «إِنَّهُ» ذلك الخبيث في حالة الدنيا «كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» 33 «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» 34 فلا يحث نفسه ولا أهله ولا غيره على التصدق غلبه في الدنيا، فعلى المستطيع أن يتصدق ويحث أهله وغيره على التصدق قبل حلول هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا جاه ولا رياسة قال بعضهم: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع النصف الثاني بالإطعام لئلا يقال لي غدا «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ» 35 صديق أو قريب ليشفع له أو ينفعه «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» 36 غسالة قروح أهل النار أو ما يسيل من صديدهم «لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» 37 كنيرو الخطايا. وبعد أن أنهى ما يتعلق بأحوال أهل النعمة والنقمة، أقسم على صحة كتابه وصدق رسوله مبرئا لهما من طعن الكفرة وأضرابهم، وهدد من يفتري عليه ويكذّب رسله بقوله جلّ قوله «فَلا أُقْسِمُ» ان الأمر واضح لا يحتاج للقسم، وعليه تكون لا نافية، وقدمنا ما فيها في أول سورة القيامة ج 1 فراجعها، «بِما تُبْصِرُونَ» 38 مما في الأرض والسماء «وَما لا تُبْصِرُونَ» 39 من مخلوقات الدنيا والآخرة «إِنَّهُ» أي القرآن العظيم في معانيه، الجليل في مراميه «لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» 40 هو رسولكم يا أهل مكة ومن حولها، وقد أضاف القول له مع أنه تعالى هو المتكلم به لأنه هو الذي يتلوه عليهم ويبلغهم إياه، وما قيل إن المراد بالرسول هنا هو جبريل عليه السلام ينفيه قوله تعالى «وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» 41 «وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» 42 لأنهم لم يصموا جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة بل وصموا محمدا بن عبد الله بن عبد المطلب بهما، وهو المبرأ عنهما ووصموا الحضرة الإلهية الجليلة، راجع الآية 34 من سورة الأنعام المارة، ثم أكد ذلك القول الذي نسبه لحضرته بقوله «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» 43 لم يختلقه محمد كما تقولون ولم يتعلمه من أحد وليس من أساطير الأولين بل هو وحي من الله منزل عليه. واعلموا أيها الناس أن هذا هو الواقع «وَلَوْ تَقَوَّلَ» محمد أو

[سورة الحاقة (69) : الآيات 51 إلى 52]

افترى أو اختلق من نفسه شيئا ونسبه إلينا وبهت «عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ» 44 كما يقوله الكفار على فرض المحال وحاشا ساحته أن يفعل شيئا من ذلك أو يخطر بباله لأنه مشغول بنا، ما فيه شيء من دنياكم، فلا ينطق إلا عنّا ولا يتكلم إلا منّا، إذ هو معصوم من كل باطل بعصمتنا، ولو وقع منه شيء ما يخالف إرادتنا «لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» 45 وأهلكناه كما تفعل الملوك بمن يكذب عليها، وذلك بأن يؤخذ بيده وتضرب عنقه صبرا، وهذا على نوعين إذا كان أربد إيقاع القتل من قفاء وهو أهون لئلا يشاهد الفعل أخذه السياف بشماله، وإذا أريد إيقاع القتل بوجهه وهو صعب عليه أخذه السياف عن يمينه وضرب عنقه، وهذا التفسير هو المناسب للمقام. وفسّر بعضهم اليمين بالقوة والقدرة، أي لسلبناه القوة، وعليه قول الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين وهو كما ترى «ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» 46 هو نياط القلب وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الذابح فإذا قطع مات الإنسان، وهذا التصوير للإهلاك على أفظع صورة لما فيه من الإذلال والإهانة، وعند ذلك «فَما مِنْكُمْ» أيها الناس «مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» 47 بيننا وبينه لتمنعونا عن إجراء ذلك فيه إذ لا قدرة لكم، والمعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلم لا يكذب علينا قط لأنه يعلم كيف نفعل بمن يفتري علينا، ويعلم أننا لا تمكن أحدا أن يبهت علينا «وَإِنَّهُ» ذلك القرآن المصون «لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» 48 من عقاب الله وعظة وعبرة لهم لأنهم المنتفعون به «وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ» 49 به كثيرين لا يصغون لسماعه ولا يميلون لاتباعه «وَإِنَّهُ» ذلك القرآن المجيد الذي كذبتم به «لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ» 50 يوم القيامة لأنهم حين يرون ما صار إليه المؤمنون من الثواب والكرامة يندمون على تكذيبهم، ولات حين مندم «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» 51 الذي لا شك فيه ولا شبهة بأنه منزل من لدنا عين اليقين ومحض اليقين. فيا سيد الرسل لا تلتفت إلى تكذيبهم، ولا تتأثر مما يصمونك به، ولا تترك دعوتهم، وكلما فرغت من تبليغ ما يتلى عليك «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» 52 وداوم على التسبيح

تفسير سورة المعارج عدد 29 و 79 و 70

شكرا لما أولاك من النعم وتأهيلك لتلقي وحي ربك الكريم. قال بعض الصوفية أعلى مراتب العلم حق اليقين كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه، ودونه عين اليقين كعلمه بالموت عند معاينة ملائكته، ودونه علم اليقين كعلمه بالموت في سائر أوقاته، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 95 من سورة الواقعة والآية 203 من سورة الأعراف في ج 1. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم. تفسير سورة المعارج عدد 29 و 79 و 70 نزلت بمكة بعد الحاقة، وهي أربع وأربعون آية، ومئتان وأربع وعشرون كلمة، وتسعمئة وتسعة وعشرون حرفا. وتسمى سورة المواقع. ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» 1 لما خوف حضرة الرسول قومه بعذاب الله وعظمه أمامهم إذا هم لم يؤمنوا ويكفوا عما يصمونه به من الشعر والكهانة المشار إليهما في السورة المارة، ولهذه المناسبة قد نزلت هذه بعدها، لأن ما بين كل سورة وأخرى لا بد من وجود مناسبة. مطلب اليوم مقداره خمسين ألف سنة ما هو وما هي: قال بعضهم لبعض ما هو العذاب الذي يهددنا به ولمن يكون يا ترى، وهل يمكن الاتقاء منه أم لا؟ فأنزل الله هذه السورة معلنا أنه «لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ» 2 إذا وقع لأنه «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» 3 المصاعد والمراقي التي تصعد عليها الملائكة إلى السماء، فلو كان من غيره لأمكن أن يكون له دافع، أما هو فلا، كيف وهو الذي «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ» جبريل عليه السلام وخصه بالذكر مع أنه داخل مع الملائكة لشرفه وفضله عليهم أجمع «إِلَيْهِ» جل شأنه على تلك المعارج «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» 4 من سني الدنيا بحيث لو صعد غير الملك من منتهى أسفل الأرض إلى غاية علو تلقي أمر الله تعالى لما وصل

إلا بتلك المدة، أما الملك فإنه يقطعها بيوم زماني بإقدار الله تعالى إياه، قالوا وتحديد هذه المسافة هو أن ثخن الأرض الواحدة خمسمائة عام، وبين كل أرضين مثلها، وبين الأرض العليا والسماء كذلك، وثخن كل سماء وما بينهما كذلك، وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك، فيكون المجموع أربعة عشر ألف سنة، ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة أحد عشر ألف سنة، فبلغت مدة العروج خمسة وعشرين ألف سنة، ومثلها في النزول، فيكون خمسين ألف سنة، ومما يدل على أن المراد صعود وهبوط ما قدمناه في الآية 5 من سورة السجدة المارة، وقيل إن المواطن في القيامة خمسون موطنا، وكل موطن ألف سنة من سني الدنيا، قال تعالى (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الآية 47 من سورة الحج في ج 3، وهذه مظهر من مظاهر (النون) في قوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ) فإنه بحروف الجمل خمسون، فهذه المواطن كلها بالنسبة إلى الله تعالى لحظة واحدة أقل من لفظكم أيها الناس بحرف النون، وهذا التقدير بالنسبة إلينا، لأن يوم الآخرة لا نهاية له، ولا يقدر بزمان، إذ لا شمس ولا قمر، وللصوفية فيه أقوال كثيرة وتفصيلات بديعة ضربنا عنها صفحا لطولها وكثرتها، لأن كلّا منهم رضي الله عنهم ذكر مما أودعه الله في قلبه المخلّى عن غيره المحلّى به، وبين ما أفاض الله عليه فيه اكتفاء بما أخرجه الإمام أحمد وابن شعبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من مكتوبة يصليها في الدنيا. وما روي عن عبد الله بن عمر يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه. فيفهم منه أن طول المدة تكون على الكافرين المعذبين لشدة ما يلاقونه وهول ما يعانون، ولا بدع بأن يكون طويلا على أناس قصيرا على آخرين، قال الشاعر في هذا المعنى: من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول

[سورة المعارج (70) : الآيات 11 إلى 20]

وقال آخر: ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا الألف فيه للإطلاق والروى، وإلا فهو مفرد يعود على الليل، وقول الآخر في هذا أيضا: ويوم كظل الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر قال تعالى «فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا» 5 لا جزع فيه، راجع الآية 83 من سورة يوسف المارة «إِنَّهُمْ» كفرة قومك «يَرَوْنَهُ» أي العذاب الذي أو عدتهم به «بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» 6 7 لأنه آتيهم حتما وكل آت قريب لا سيما وأن إنزاله بيدنا لا يمنعنا من صبه عليهم مانع، وليعلموا أن علامته نزول العذاب الأكبر الذي لا بد من وقوعه، لأن عذاب الدنيا قد يكون وقد لا يكون لأسباب نعلمها، أما عذاب الآخرة فيكون «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» 8 مثل عكر الزيت أو الفضة المذابة «وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» 9 الصوف المصبوغ ألوانا كثيرة لأن الجبال ذات ألوان منها الأحمر والأسود والأصفر والأبيض، فتكون هباء منثورا كالصوف المندوف إذا طيرته الرياح، إنما شبهها بالصوف لأنها إذا لبست بعضها ببعض بأن خلطت وسيرت أشبهته بألوانه المذكورة وما بينها «وَلا يَسْئَلُ» حينذاك «حَمِيمٌ حَمِيماً» 10 عن حاله وما حل به، لا لأنهم لا يرى بعضهم بعضا، ولكن لشدة الهول، إذ يشتغل كل بنفسه، ولهذا قال تعالى «يُبَصَّرُونَهُمْ» يشاهدونهم ويعرفونهم، ولكن لا يتكلمون معهم، ولشدة الفزع «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ» 11 زوجته التي لا يمكن أن يفتدي بها في الدنيا إلا أن يطلقها، أما في الآخرة فإنها تهون عليه وينسى الغيرة والمروءة «وَأَخِيهِ» 12 أيضا لو قدر أن يفدي نفسه به لفداها «وَفَصِيلَتِهِ» عشيرته «الَّتِي تُؤْوِيهِ» 13 بالدنيا مما يخاف ويأوي إليها عند الشدائد لو أمكن لفداها كلها بنفسه، بل «وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» لو كان في ملكه وأمكنه قبول الفداء بهم «ثُمَّ يُنْجِيهِ» 14 من عذاب الله لفعل، ولكن لا ينجيه شيء

[سورة المعارج (70) : الآيات 21 إلى 30]

أبدا إلا رحمة الله وهي بعيدة منه، راجع الآية 34 من سورة عبس في ج 1، قال تعالى «كَلَّا» لا ينجيه أحد أصلا «إِنَّها» المخصصة لعذاب المجرم هي «لَظى» 15 أحد طبقات جهنم المعدة لمن يثبت عليه الجرم العظيم في الموقف بعد الحساب ويحكم عليه بفصل القضاء بأن يعذب فيها، ولا يسمى مجرما إلا بعد ذلك، وهكذا في الدنيا يكون مدعى عليه بمجرد الدعوى عليه، وعند وجود امارة على اقترافه الجرم يسمى ظنينا، وعند تواتر الأدلة يسمى متهما، وعند الثبوت يسمى مجرما، ثم محكوما. ومن أوصاف هذه النار أنها «نَزَّاعَةً لِلشَّوى» 16 أطراف الجسد كاليدين والرجلين بمجرد طرحهم فيها، والنزع الجذب بقوة، أي أنها مفرقة لأعضاء الإنسان «تَدْعُوا» إليها كل «مَنْ أَدْبَرَ» عن الإيمان «وَتَوَلَّى» 17 عن الحق «وَجَمَعَ» مالا من غير حله «فَأَوْعى» 18 خزنه في الأوعية ولم ينفقه في وجوه البر ولم يؤد حق الله منه لعياله. وقال بعضهم معنى أوعى تعذّب يقول الأعرابي: وهاك الله أي عذّبك. ومن ورع عبد الله بن حكيم أنه كان لا يربط كيسه، فقيل له في ذلك فقال سمعت الله يقول جمع فأوعى، ومتى ما ربطته فقد أوعيته. «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» 19 جنسا وجبلة طبع على الهلع الذي فسره الله بقوله «إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» 20 21 وإذا أعطي المال لم ينفق، وإذا أصابه الفقر لم يصبر، ثم استثنى الله عز وجل من ذلك الجنس نوعا مخصوصا بقوله «إِلَّا الْمُصَلِّينَ» 22 وهذا استثناء اجمع من الواحد الذي فيه معنى الجمع كالإنسان، ثم وصف المصلين بقوله «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» 23 مواظبون على إقامتها «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ» 24 عندهم فرضوه على أنفسهم بحسب ما تجود به أنفسهم وأريحيتهم وخصصوه «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» 25 المتعفف عن السؤال الذي يظن به عدم الحاجة «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» 26 يوم القضاء والجزاء «وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» 27 خائفون وجلون «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» 28 فلا يقدر أحد مهما كان على درجة عالية في الإخلاص أن يقطع بأمنه من عذاب الله، إذ لا يخلو من التقصير بحقه، والأعمال الصالحة مهما كثرت

[سورة المعارج (70) : الآيات 31 إلى 40]

لا توازي نعمة جارحة واحدة من الإنسان «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» 29 صائنون لها عن كل ما حرم الله «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ» يشمل الرجال والنساء والعبيد والإماء «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» خاص بالذكور فقط، إذ لا يحل للنساء إلا الاستفادة من خدمتهم فقط «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» 30 بذلك وإن كثروا من الزوجات والإماء ضمن حدود الشرع «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ» من الزوجات والإماء للرجال ومن الأزواج فقط للنساء «فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» 31 المتجاوزن ما أحلّ الله لهم إلى ما حرم عليهم، وقد فصلنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 6 من سورة المؤمنين المارة، وذكرنا أيضا بأنها ليست بناسخة لآية المتعة المزعومة الواردة في سورة النساء ج 3 فراجعها، «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» 32 محافظون لا يخونون الأمانة ولا ينقضون العهد ولا يخلفون الوعد ولا يغدرون ولا ينكثون، راجع الآية 8 من سورة المؤمنين المارة والآية 34 من الإسراء في ج 1، «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» 33 بها أمام الحكام لإظهار الحقوق بلا ميل ولا ترجيح بين القوي والضعيف والوضيع والشريف، راجع الآية 32 من سورة الفرقان ج 1، وله صلة في الآية 283 من سورة البقرة ج 3، «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» 34 على أوقاتها وشروطها وأركانها على أكمل وجه، راجع الآية 8 من سورة المؤمنين المارة، ولها صلة في الآية 238 من البقرة في ج 3 أيضا، «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الكريمة «فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ» 35 عند ربهم، ويؤذن وصف المصلّين بما ذكر أن الصلاة وحدها ما لم تكن تلك الصفات منضمة إليها لا تكفي للخلاص من الله ولا تؤهل صاحبها دخول الجنة بانفرادها، وهو كذلك والله أعلم «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي شيء جرى لهم ما بالهم «قِبَلَكَ» يا سيد الرسل «مُهْطِعِينَ» 36 مادي أعناقهم نحوك وهم مديمو النظر إليك متطلعون لحهتك «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» 37 جماعات وفرقا محلّقين بأطرافك، يستهزئون بك وبما أنزل عليك، نزلت هذه الآية في جماعة من قريش كانوا يحيطون بالنبي صلّى الله عليه وسلم ويسمعون كلامه ولا يتأثرون منه، ويقولون إن دخل أصحاب محمد الجنة التي يذكرها ويصفها بقوله لندخلنها قبلهم،

[سورة المعارج (70) : الآيات 41 إلى 44]

فرد الله عليهم بقوله «أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ» 38 مثل أصحابك «كَلَّا» يا سيد الرسل لا يدخلونها أبدا ماداموا على كفرهم، لأن أمثالهم ليسوا من أهل الجنة، إذ لا يدخلها إلا الطاهرون من الشرك والكفر «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» 39 من نطفة قذرة، وهذه الجملة جارية مجرى المثل تعريضا عما يستقبح ذكره، لأن النطفة من مصب يتحاشى عن التصريح به، ولذلك أبهمه تعالى وتنزه. وهذا من آداب القرآن العظيم الواجب على الناس التأدب بآدابه، وأن يجتنبوا التصريح في كل ما من شأنه كتمه بل يومئون إليه إيماء ويعرضون تعريضا، والمعنى أن هؤلاء الكفار يدعون الشرف والفضل على أصحاب محمد، وهم وإن كانوا جميعا خلقوا من أصل واحد وشيء واحد كما ذكروا، إلا أن البشر يتفاضل بالأعمال والمعارف، والجنة لا تكون إلا للصالحين من البشر المخلصين، لا للأكابر والأغنياء وأهل الأنساب غير المتصفين بالصلاح. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه- فقال يقول الله عز وجل: يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق، وآن أوان الصدقة. «فَلا» ليس الأمر كذلك «أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» مشرق كل يوم من السنة ومغربها «إِنَّا لَقادِرُونَ» 40 على إهلاكهم جميعا بلحظة واحدة و «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ» فتخلق خلقا أحسن منهم طاعة وتصديقا كما أهلكنا القرون الأولى واستبدلنا بهم غيرهم وهو أهون علينا «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» 41 ولا عاجزين عن ذلك ولا مغلوبين عليه ولا يفوتنا أحد بذلك «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في لهوهم «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 42 وهو «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» القبور «سِراعاً» لإجابة الداعي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية «كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ» شيء منصوب كالعلم والراية وشبهها «يُوفِضُونَ» 43 يستبقون إليه أيهم يصله قبل كما كانوا يتسابقون إلى أصنامهم في الدنيا ولكنهم

تفسير سورة النبأ عدد 30 - 80 - 78

«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» لما لحقهم من الخوف والفزع والهوان خاضعين «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» وتعشاهم مذلّة وحقار بخلاف حالتهم في الدنيا، إذ كانوا ضاحكين بهيجين لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابه «ذلِكَ» اليوم الموصوف بما ذكر الذي ظهر لهم عيانا واعترفوا به «الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» 44 به على لسان رسلهم في الدنيا والذي كانوا يكذبون به. وقد ختمت هذه السورة بمثل ما ختمت به سورة الذاريات فقط. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. تفسير سورة النبأ عدد 30- 80- 78 نزلت بمكة بعد سورة المعارج وهي أربعون آية، ومئة وثلاث وسبعون كلمة، وتسعمئة وسبعون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ومثلها في عدد الآي سورة القيامة، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «عَمَّ» عن أي شيء «يَتَساءَلُونَ» 1 أهل مكة وأصلها (عن) الجارة و (ما) الاستفهامية أدغمت في بعضها وقد أعيد الضمير إلى الكفار مع عدم سبق ذكر لهم استغناء بحضورهم حسا، وقد ذكرنا غير مرة جواز عود الضمير إلى غير مذكور إذا كان مشهورا متعارفا أو معلوما بالقرينة كما هنا، وذلك أن حضرة الرسول دعاهم إلى التوحيد وحذرهم عاقبة الكفر والشرك وهول الآخرة، فصاروا يتساءلون بينهم عن يوم الآخرة الذي عظمه لهم أهو واقع أم لا، وما هو ذلك اليوم المهول، فأنزل الله تعالى هذه السورة وبين تساؤلهم «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» 2 الخبر الجليل «الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» 3 بشأنه وماهيته، مع أنهم لم يعدّدوا له شيئا لهذا بدأهم بأداة الردع والزجر بقوله «كَلَّا» لا حاجة للاختلاف فيه والسؤال عنه، لأنهم لم يصدقوا به، ثم هددهم بقوله «سَيَعْلَمُونَ» 4 ذلك حقا ويرونه بأم أعينهم بما فيه من أهوال وعذاب وكرر الزجر، فقال «ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ» 5 كنه ما يتساءلون عنه وكيفيته. وأعلم أن الله تعالى بدأ هذه السورة بما يضاهي السورة قبلها ويناسب آخرها، ولهذا

[سورة النبإ (78) : الآيات 11 إلى 20]

ذكرهم بشيء من عجائب قدرته وبدائع صنعه على طريق الاستفهام التقريري ليستدلوا به على ذلك فقال «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً» 6 لتستقروا عليها أيها الناس وتنتفعوا بها «وَالْجِبالَ أَوْتاداً» 7 لها ورواسي لئلا تميد بكم فتقلق راحتكم «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» 8 ذكرا وأنثى لتأنسوا بينكم «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» 9 لاستكمال راحتكم «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» 10 لستركم عن الأنظار بظلمة إذا أردتم هربا أو استخفاء لما لا يجوز الاطلاع عليه حفظا لكرامتكم، وهذا من المجاز إذ شبه الليل بالغطاء بجامع الستر في كل «وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» 11 لتبتغوا فيه من فضل ربكم «وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» 12 محكمات قويات لا تتأثر على مدى الدهور والأعوام لمنافعكم. وأعلم أن هذه الآية والآيات المبينة في الآية 17 من سورة المؤمنين المارة تدل دلالة صريحة لا تحتمل التأويل على أن السماء بناء، وأنها سبع واحدة فوق الأخرى، ألا فليتنبه الجاحدون «وَجَعَلْنا» في الرابعة من هذه السبع «سِراجاً وَهَّاجاً» 13 وقّادا إذ جعل جل شأنه في الشمس حرارة ونورا، والوهج جامع لهما لإنضاج أثماركم وزروعكم «وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ» الرياح التي تعصر السحاب فتمطره «ماءً ثَجَّاجاً» 14 درّارا بقوة صبّابا «لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا» لكم «وَنَباتاً» 15 لأنعامكم «وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» 16 ملتفة بعضها على بعض لكثافة أشجارها لتتنزهوا فيها وتفكهوا بأثمارها فانظروا هل تنكرون شيئا من هذه وهل يقدر عليها أو على شيء منها ابتداء إلا الله، ومن يقدر على ابتدائه ألا يقدر على إعادته بعد إتلافه؟ بلى وهو على كل شيء قدير، والقادر على هذا ألا يقدر على إحياء الموتى؟ بلى، إذ بدأ خلقهم ابتداعا على غير مثال، فإحياؤهم على ما كانوا عليه أهون عليه وله المثل الأعلى، ولهذا قال تعالى مؤكدا لهم ذلك «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» الذي تسألون عنه «كانَ مِيقاتاً» 17 لما وعدناكم به من إثابة المحسن وعقاب المسيء جزاء لكل عمل بما يناسبه، وسيكون هذا اليوم الذي يقع فيه الحساب والثواب والعقاب «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» النفخة الأخيرة «فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» 18 زمرا وجماعات لا بالواحد والاثنين، ثائرين من مدافنكم ومحل وجودكم «وَفُتِحَتِ السَّماءُ»

[سورة النبإ (78) : الآيات 21 إلى 30]

في ذلك اليوم «فَكانَتْ أَبْواباً» 19 وطرقا ومخارج وفجاجا بخلاف حالتها اليوم «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» 20 في عين الناظر إذ تقلع من مقارها فتكون هباء منثورا «إِنَّ جَهَنَّمَ» التي أعددناها للكافرين بنا «كانَتْ مِرْصاداً» 21 للناس وممرا لهم فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار، وإذ ذاك ترصد من هو من أهلها فتصيده وتوقعه فيها وتترك من هو من أهل الجنة فيعبرها، فهي كالمكان الذي يرصد الراصد فيه لعدوه، وقد شبهها الله بذلك بجامع الانتظار في كل، لأن الراصد ينتظر الصيد أو العدو ليقتله، وجهنم تنتظر أهلها لتحرقهم، وذلك أن الصراط مضروب على متن جهنم، وقد جعل الله فيه رصدا لكل من بمر به، فإذا كان من أهل الجنة تركه وشأنه حتى يصل إليها، وإن كان من أهل النار أمسك به فألقاه فيها، ولهذا قال تعالى «لِلطَّاغِينَ مَآباً» 22 مثوّى يرجعون إليها رجوع إقامة لا يخرجون منها أبدا لقوله تعالى «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» 23 سنين كثيرة، والحقب ثمانون سنة كلما نقد حقب تلاه الآخر، فلا تتناهى وإن كثرت بل يبقون فيها دائما لقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الآية 20 من سورة السجدة المارة، فراجعها تعلم الآيات الدالة على تخليد الكفرة، وأنه ليس لهم مدة مخصوصة «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً» نوما والعرب تسمي النوم بردا وهو لغة هذبل لأنه يبرّد سورة العطش، قال الشاعر: فلو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا راجع الآية 99 من سورة المؤمنين المارة تعلم ذلك «وَلا شَراباً» 24 لتخفيف حرارة ما هم فيه، قال ابن عباس هو الشراب البارد، وأنشد عليه: أمانيّ من سعدى حسان كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا هذا وما قاله مقاتل من أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى فيما يأتي (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قول عاطل لا ينبغي أن يصدر من مثل مقاتل ولعله مدسوس عليه «إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً» 25 الحميم الصفر المذاب والماء الشديد الغليان، والغسّاق السائل من صديد أهل جهنم وقال ابن عباس وأبو العاليه: الغساق هو الزمهرير الممزّق لشدة برده أحشاء شاربه، والاستثناء منقطع لأنه من غير جنس الشراب

[سورة النبإ (78) : الآيات 31 إلى 40]

النافع، وهذا الجزاء الذي يجازون به «جَزاءً وِفاقاً» 26 لأعمالهم، وإنما ينالون هذا الجزاء القاصي الذي لا أعظم منه لأنهم يشركون وينكرون البعث أيضا ولا ذنب أعظم من هذين، ولهذا أشار الله عنه بقوله «إِنَّهُمْ كانُوا» في دنياهم «لا يَرْجُونَ حِساباً» 27 على أعمالهم القبيحة «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» 28 مصدر كذب بلغة اليمن وبلغة غيرهم التكذيب، وبغير التشديد التكثير على أن هذه الأمور الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد لم تختلف فيها أمة كتابية قطعا، ومن أنكرها فليس من أهل الكتاب بل هو كافر لأن جميع الرسل بلغت أممها فيها، واعلم أن القرآن العظيم لا يتصدى لذكر أحدها إلا وأتبعها بذكر الآخرين، قال تعالى «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» 29 أثبتناه في اللوح المحفوظ فلا سبيل لإنكاره لأنها مدونة فيه وعند الحفظة كما مر في الآية 23 من سورة الإسراء ج 1، وعند ما يستغيثون مما يعاينون من الآلام يقال لهم «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» 30 وهذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار، أجارنا الله منها. ثم طفق يذكر ما للمتقين عنده فقال «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً» 31 ونجاة من العذاب والهوان والخوف بما أسلفوه من تصديقهم الرسل واعترافهم بالتوحيد والبعث وتفرعاتها، لهذا فإن لهم جزاء أعمالهم هذه «حَدائِقَ وَأَعْناباً» 32 خص الأعناب مع أنها داخلة في الحدائق إشعارا بتفضيلها على غيرها، لأنها من المدّخرة المغذية ويؤذن بذلك التنكير «وَكَواعِبَ أَتْراباً» 33 لهم أيضا في الجنة، أي جواري مستويات في السن، ويقال للبنت كاعب إذا ظهر ثديها وارتفع ارتفاع الكعب، وهذا في إطلاق الجزء على الكل «وَكَأْساً دِهاقاً» 34 مملوءة مترعة «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً» 35 فلا يكذب بعضهم بعضا ولا يكذب بعضهم على بعض كما هو الحال في شربة خمر الدنيا، والكذاب يأتي بمعنى الكذب وقد يخفف وعليه قول الأعشى: فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه وهو شائع بمعنى التكذيب، راجع الآية 23 من سورة الطور المارة تجد معنى اللغو وما يتعلق به. واعلم أن أهل الجنة جعلنا الله منهم يعطون ذلك العطاء

«جَزاءً مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل على أعمالهم الصالحة فضلا منه «عَطاءً حِساباً» 36 كثيرا كافيا مصدر حسب أقيم مقام الوصف لعطاء ثم أبدل من لفظ ربك «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» بالكسر صفة للرّب الذي هو بدل من ربك، وإذا قرىء رب السموات بالرفع يقرأ أيضا بالرفع على أنه خبر له باعتباره مبتدأ والكل جائز «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» 37 بطلب الشفاعة وغيرها، بل هو إذا شاء يأذن بها «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ» صفّا «وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا» والروح هو جبريل عليه السلام ويطلق على نوع من الملائكة مشرقين مقربين وعلى ملك ما خلق الله تعالى بعد العرش أعظم منه وعلى خلق آخر، والله أعلم بمراده به، ولهذا فإن اليهود سألت الرسول بواسطة قريش عنه، حتى إذا قال هذا قالوا غيره كما أشرنا إليه في الآية 85 من الإسراء في ج 1، وقد أفحمهم بقوله (قل الروح من أمر ربي) فهو صادق على الكل، راجع الآية 8 من سورة الكهف المارة. وأعلم أن هؤلاء الملائكة الكرام على ما هم عليه من الإجلال والتعظيم «لا يَتَكَلَّمُونَ» حال اصطفافهم وغيره إجلالا وتعظيما لهيبة ذي الجلال والعظمة «إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» بالكلام منهم، وكذلك الأنبياء فمن دونهم «وَقالَ صَواباً» 38 في دنياه وعمل بما قال «ذلِكَ» الواضح فيه أحوال أهل النار وأهل الجنة هو «الْيَوْمُ الْحَقُّ» يوم النبأ العظيم الذي يتساءل عنه الكفرة «فَمَنْ شاءَ» أن يأمن من هوله ويفوز بنعيمه «اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً» 39 يأوي إليه منه فلك طرق طاعته وتقرب بإيمانه وتصديقهِ نَّا أَنْذَرْناكُمْ» أيها الكفّارَذاباً» مهولا فظيعا وستجدونهَ رِيباً» ما بينكم وبينه إلا الموت وهو أقرب شيء لكم إذ يأتيكم على غرة ثم تبعثون إلى ربكمَ وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» محضرا من خير أو شر مثبتا في صحيفته ومشاهدا بأم عينه، راجع الآية 30 من سورة آل عمران ج 3 تجد تفصيل هذاَ يَقُولُ الْكافِرُ» بعد الحساب ومشاهدة العذاب الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» 40 لم أخلق في الدنيا ولم أو هذه الأهوال. ولا يقال هنا وضع الظاهر موضع المضمر، لأن المرء عام والكافر خاص، قال عبد الله بن عمر: إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم وحشر الدواب

تفسير سورة النازعات عدد 31 - 71 - 79

والبهائم والوحوش وغيرها، ثم يحصل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ليتخلص من العذاب المعدّ له، وما هو بنافعه، ويتمنى أن يعود للدنيا ليعمل صالحا ولا يجاب، ويتمنى أن يتوب ويعترف بما كذب بالدنيا ولا يرد عليه، فتلزمه الحسرة وخاصة عند ما يشاهد فوز المؤمنين وما صاروا إليه من النعيم، ثم يقع اللوم بينهم وبين رؤسائهم وأوثانهم ولا تنفعهم المحاججة والمخاصمة، فيزجون في جهنم أفواجا أفواجا وهم يتصايحون ولا محيص لهم عنها، ويستغيثون ولا مجيب ولا سميع إلا الإخساء والإذلال. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة النازعات عدد 31- 71- 79 وتسمى سورة الطامة والساهرة. نزلت بمكة بعد سورة النبأ، وهي ست وأربعون آية، ومئة وسبع وتسعون كلمة، وسبعمئة وثلاثة وخمسون حرما، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي ولا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالنَّازِعاتِ» الملائكة التي تنزع أرواح الكفرة نزعا شديدا بعنف وإهانة وقسوة كما تجر الشوكة من الصوف زيادة في تعذيبهم «غَرْقاً» 1 هو نزع من للنزع مبالغ فيه والإعراق في النزع التوغل فيه إلى بلوغ أقصى درجاته، وهو مفعول لاسم الفاعل قبله، أو مصدر من معناه كجلست قعودا، وقمت وقوفا، وشرط المفعول موجود هنا وهو اتفاق المصدر مع عامله لأنه بمعنى ما قبله، إلّا أنه ليس من لفظه، يقال أغرق النازع في القوس إذا اجتذبه وبلغ غاية المدّ فيه حتى انتهى إلى النصل، «وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» 2 الملائكة التي تشط أرواح المؤمنين فتسلتها سلّا كما تسحب الشعرة من الحليب والدلو من الماء بلين ولطف إكراما وتعظيما لشأنهم «وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» 3 الملائكة

[سورة النازعات (79) : الآيات 11 إلى 20]

التي تسبح في مضيّهم تنفيذ أوامر ربهم مسرعين متسابقين في الهواء والفضاء كما تسبح الحيتان بالماء «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» 4 لقبض أرواح المؤمنين وإيصالها إلى الجنة بالاحترام والتكريم، واستخراج أرواح الكافرين وزجها في النار امتثالا لأمر ربهم وتعظيما لجلاله. هذا ويوجد لهذه الآية معان كثيرة غير ما ذكرنا لا حاجة لإثباتها اكتفاء بما نقلناه «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» 5 من أمور العباد مما يعود لدينهم ودنياهم كما رسمه الله لهم، والوقف على كلمة أمرا لازم، لأن وصله بما بعده يصيّر كلمة «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» 6 بسبب نفخ الملك بالصور النفخة الأولى إذ يضطرب لها كل شيء ويموت فيها جميع الخلق عدا من استثنى الله. ظرفا (للمدبرات) مع أنه قد انقضى التدبير، تدبر «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» 7 النفخة الثانية فيحيا بها كل شيء مات من أول الدنيا لآخرها من قبل النفخة الأولى وفيها وما بعدها. وقد أقسم الله تعالى في هؤلاء الملائكة الكرام تبجيلا لشأنهم، وله أن يقسم بمن وما شاء من خلقه، أو لكثرة منافعهم بالنسبة لنا. وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن بعد الموت أيها الناس، وهو جواب لمنكري البعث من الكفار. وأعلم أن الخلائق تنقسم في ذلك اليوم المهول قسمين وقد بينهما بقوله جل قوله «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» 8 خائفة قلقة وجلة «أَبْصارُها خاشِعَةٌ» 9 ذليلة حقيرة خاضعة «يَقُولُونَ» أصحاب هذه القلوب والأبصار في الدنيا إذا قيل لهم أنكم مبعوثون بعد الموت «أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» 10 أي الحالة الأولى كما كنا أول مرة أحياء إنكارا وتكذيبا وسخرية، يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله: أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار ثم حكى الله أقوالهم في الدنيا بقوله عز قوله «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» 11 زيادة في الإنكار والجحود والاستهزاء واستعظاما، أي كيف نردّ للحياة بعد أن آل أمرنا إلى ذلك «قالُوا» مستكبرين أمر إعادتهم «تِلْكَ إِذاً» إن صحت الرجعة فهي «كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» 12 نغين فيها لتكذيبنا إياها. قال تعالى «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ» 13 نفخة لا تكرار فيها للإماتة وواحدة للإحياء

[سورة النازعات (79) : الآيات 21 إلى 30]

«فَإِذا هُمْ» منكرو البعث مجموعون «بِالسَّاهِرَةِ» 14 على وجه الأرض ظاهرين للعيان لا يسترهم شيء، وسميت ساهرة لأن نوم الحيوان وسهره عليها، قال أمية ابن الصلت: وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به أبدا مقيم وقال في الكشاف هي الأرض البيضاء المستوية الملساء لأن السراب يجري فيها أخذا من قولهم عين ساهرة أي جارية بالماء، قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحى السراب مجللا ... لإقطارها قد جبتها متلثما قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» 15 مع قومه كيف كان يتحمل مشاقهم، أما يجدر بك يا سيد الرسل أن تكون مثله فتحمل أذى قومك وإهانتهم، ذكّره الله تعالى به تسلية له، ثم شرع يذكر بعض ما خوله إياه وما لقي من المرسل إليهم فقال اذكر لقومك شيئا عنه «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» 16 اسم لواد عند الطور وقال له «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» 17 على قومه وتجاوز حدودنا «فَقُلْ» له «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» 18 بحذف إحدى التاءين أي تتزكى من كفرك وسوء صنيعك إلى قومك «وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» 19 عقابه جعل الخشية غاية للهداية، لأنها ملاك الأمر، ولأن من خشي الله يؤمل فيه كل خير، ومن أمن منه اجترأ على كل شر، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. أي استراح من وعثاء السفر في دنياه. فهنيئا لمن يبلغ منزله في الآخرة على رضى من ربه فيستريح الراحة الدائمة. وفي هذا الاستفهام ما لا يخفى من اللطف في الدعوة والاستنزال عن العتو، وإنما قدم التزكية على الهداية لأنها تخلية وهي مقدمة على التحلية، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الآية 45 من سورة طه في ج 1. قال تعالى «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» 20 وهي العصا يوم فضحت سحر السحرة وأجبرتهم على الإيمان بالله وبموسى «فَكَذَّبَ» بها فرعون وملؤه لغاية فسقهم في العناد ولم يؤمنوا كما أرينا قومك آية انشقاق القمر فكذبوها ورموك بالسحر «وَعَصى» 21

ربه وموسى كما عصى قومك ربهم وكذبوك، أي داوموا على عصيانهم ولم تؤثر بهم الآية العظيمة «ثُمَّ أَدْبَرَ» عنه وعن الإيمان به وذهب «يَسْعى» 22 للإفساد في الأرض مثل قومك «فَحَشَرَ» جمع جنوده وقومه «فَنادى فَقالَ» 23 فرعون في قومه بلا خجل ولا حياء «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» 24 والأصنام كلها أرباب لكم من دوني وكذلك الكواكب وأنا رب الجميع، قاتله الله، وهذا معنى العلو الذي أراده أمام قومه لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، كما تقدم في القصة المارة في الآية 103 من سورة الأعراف ج 1 وغيرها «فَأَخَذَهُ اللَّهُ» على الصورة المبينة في الآية 63 من الشعراء في ج 1، وهذا الأخذ العظيم كان «نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» 25 أي عاقبتهما بأن أغرقه الله وقومه في الدنيا وأحرقهم في الآخرة، وفعلته الأولى هي تكذيبه موسى وإصراره على الكفر، والثانية قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فأذاقه الله عذاب الدنيا بالإغراق وسيذيقه عذاب الآخرة بالإحراق على الصورة المبينة في الآية 98 من سورة هود المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي فعل بفرعون وقومه «لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» 26 الله ويتقيه ومن لا، فلو أتيته بملء الدنا عظات وعبرا فلا تؤثر فيه لأن القلوب إذا قست كانت أشد من الحجارة، كما سيأتي في الآية 75 من البقرة في ج 3، وذلك لأن فرعون وقومه أرادوا بكل قواهم أن يدبروا أمرا ليتخلصوا من موسى فلم يقدروا فأهلكهم الله، وإن قومك يا محمد يريدون باجتماعاتهم ومذاكراتهم التخلص منك ولن يقدروا، وإذا أصروا فيكون مصيرهم مثل مصير قوم فرعون، وقل لهم يا سيد الرسل «أَأَنْتُمْ» أيها الكفار المصرون على الإنكار «أَشَدُّ خَلْقاً» إذا أردنا إحياءكم بعد الموت «أَمِ السَّماءُ بَناها» 27 على ما ترون وقد «رَفَعَ سَمْكَها» سقفها إلى سمت العلو بغير عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية 10 من سورة لقمان «فَسَوَّاها» 28 جعلها مستوية لا شقوق فيها ولا فطور ولا تضلع فيها، راجع الآية 12 من سورة النبأ المارة «وَأَغْطَشَ لَيْلَها» أظلمه «وَأَخْرَجَ ضُحاها» 29 أبرز نهارها وعبر بالضحى عن النهار لأنه أكمل أجزائه في النور والضوء، وأضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان فيها، ولأن الليل

[سورة النازعات (79) : الآيات 31 إلى 40]

ظلمتها والنهار سراجها «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ» بعد خلق السماء وما فيها «دَحاها» 30 بسطها ومدها، قال أمية بن الصلت: دحوت البلاد فسويتها ... وأنت على طيها قادر وله من أمثال هذا كثير ومنه قوله: وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطّانها حتى التنادي ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: آمن شعر أمية وكفر قلبه. وقد ذكرنا في سورة السجدة المارة بأن لا تنافي بين هذه الآية الدالة على خلق الأرض قبل السماء لأنها تشير إلى أن الله تعالى خلق الأرض أولا بلا دحو، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض كما هو موضح هناك فراجعه. ومن جملة دحوها أن «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها» إذ فجرها بالعيون والأنهار. مطلب المياه كلها من الأرض وذم الهوى وانقسام الخلق إلى قسمين والسؤال عن الساعة: تدل هذه الآية المارة على أن جميع المياه من الأرض يؤيدها الآية 44 من سورة هود المارة، وتفهم أن ما ينزل من المطر هو ما يتبخر من الأرض أي من مياهها ورطوبتها وما يلتقمه السحاب من الأنهار والأبحر. وكانت العرب تعرف هذا لما ورد عنهم: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... منى لجج خضر لهن أجيج «وَمَرْعاها» 31 نباتها مما يرعاه الحيوان ويأكله الإنسان، ومن جملة دحوها أيضا «وَالْجِبالَ أَرْساها» 32 أثبتها في الأرض وثقلها فيها لئلا تتحرك فتخلّ بمنفعة البشر، قال زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا فانظروا أيها الكفرة هل خلق هذه الأشياء الجسيمة أعظم وأصعب أم إعادتكم بعد الموت، وليس عند الله صعب وأصعب، ولا هين وأهون، كما سيأتي في الآية 27 من سورة الروم الآتية، لأن إيجاد الأشياء كلها وإعدامها مستو عنده إذ تكون بين الكاف والنون. وإذا علمتم هذا فاعلموا أيضا أن هذه الأشياء كلها مما عدده هنا

[سورة النازعات (79) : الآيات 41 إلى 46]

وما لم يعدد خلقها «مَتاعاً لَكُمْ» أيها الناس تتمتعون بها في حياتكم «وَلِأَنْعامِكُمْ» 33 متاعا أيضا لأنها خلقت لمنافعكم. ولما ذكر الله تعالى لمعة من بدء الخلق المشعرة عن توحيده بعد ذكر النبوة، أعقبها بذكر المعاد، لأنه أحد الأصول الثلاثة التي لا ينفك ذكر بعضها عن الآخر، كما أشرنا إليه في الآية 28 من سورة النبأ المارة، فقال جل قوله «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» 34 والداهية العظمى وهي القيامة التي تطم كل شيء لشدة هولها وكل شيء دونها «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» فيها «ما سَعى» 35 في دنياه وكسبه من خير أو شر لا ينسى منه شيئا «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» 36 فلا تخفى على أحد وهناك ينقسم الخلق إلى قسمين «فَأَمَّا مَنْ طَغى» 37 على الناس في دنياه وبغى على حقوقهم «وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» 38 على الآخرة، وهذا هو القسم الأول المشار إليه في الآية 7 المارة «فَإِنَّ الْجَحِيمَ» المذكورة، وأظهرت بدل اضمارها لسبق ذكرها تهويلا لشأنها وتخويفا لأهلها. واعلم أيها القارئ أنه لا يأتي الاسم الظاهر مقام المضمر إلا لأمر ذي بال كما هنا، ومثله في القرآن كثير «هِيَ الْمَأْوى» 39 لهم لا ملجأ لهم غيرها. ثم ذكر القسم الثاني بقوله عز قوله «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ» بين يديه في موقف تلك الطامة وعلم أنه محاسب على ما يأتي ويذر في دنياه «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» 40 فزجرها وكفّها عن الشهوات المحرمة خوفا من الله تعالى «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» 41 لهم يمرحون فيها كيفما شاءوا وأرادوا، وهذه الآيات الثلاث بمقابل الآيات الثلاث قبلها. واعلم أن الخوف مقدم على العلم، قال الله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 38 من سورة فاطر في ج 1، ولما كان الخوف من الله سببا لدفع الهوى وهو علّة فيه، قدّمه عليه، فمن أعرض عن هوى نفسه وخالقها في مقامه هذا وعرف أنه يعاقب على الإقدام عليها ويثاب عن الإعراض عنها باعتقاد جازم كان مصيره الجنة عند ربه الذي خافه وترك شهوته من أجله، و (من) في الآيتين عامة في كل من يتصف بهما. والهوى مطلق الميل إلى الشهوات فهو يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الأخرى إلى الهاوية، فالسعيد من ضبط نفسه بالصبر

ووطنها على مخالفته، ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها الفانية، ولم يغتر بزخارفها وزينتها البالية، علما بوخامة عاقبتها، قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه. وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى. قال أبو عمران اليرتلي: فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه تنزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع وقال الأبوصيري: فاصرف هواها وحاذر أن توليه ... إن الهوى ما تولى يصم أو يصم وراعها وهي في الأعمال سائمة ... وإن هي استحلت المرعى فلا تسم كم حسنت لذة للمرء قاتلة ... من حيث لم يدر أن السم في الدمم وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإنّ هما محضاك النصح فاتهم هذا والسالم من موافقة هواه قليل، اللهم اجعلنا من القليل. قال: سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين، فطوبى لمن سلم منه. وقال عليه الصلاة والسلام ثلاث مهلكات: هوى مطاع، وشحّ متبع، وإعجاب المرء في نفسه. واعلم أن من اتبع هواه في واحدة جرته إلى وحدات، ومن المعلوم عدم إدراك كل ما يتمناه الإنسان مهما بلغ في الحياة، وعليه فالترك بالكلية أولى وأحسن قال: ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وقال الآخر: وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لعينك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر وقال غيره: جمع الهواء مع الهوى في مهجتي ... فتكاملت في أضلعي ناران فقصرت بالممدود عن نيل المنى ... ومددت في المقصور في أكفاني فالعاقل من يتباعد عن قليله فإنه يجره لكثيره، وهو لا يهدي إلا إلى الشر، وليس لمن تبعه عاقبة غير الهلاك، ويكفي في ذمه أنه ينشأ من شهوة النفس الخبيثة وطاعة الشيطان اللعين، قال ابن عباس: إن هذه الآيات نزلت في أبي عزير بن عمير

وأخيه مصعب، كان الأول طاغيا مؤثرا الدنيا على الآخرة، والثاني خائفا مقام ربه ناهيا نفسه عن هواها. وقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق عنه الناس حتى نفدت المشاقص أي السهام في جوفه رضي الله عنه، فلما رآه صلّى الله عليه وسلم متشطحا في دمه قال عند الله احتسبك، وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب. ولما أسر أخوه أبو عزيز لم يشدد وثاقه إكراما له، وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. وعنه أيضا أنها نزلت في مصعب المذكور المعفور له المرضي عنه وفي أبي جهل المغضوب عليه المنفور منه، وقيل في النضر وابنه. والآيات عامات كما ذكرنا فيدخل فيها هؤلاء وغيرهم، إذ لا يوجد ما يقيدها بأحد، وذكرنا غير مرة أن نزول الآية لا يقصر معناها فيمن نزلت عليه أو فيه بل تعمه وغيره إذا لم يوجد مخصص. قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها» 42 متى قيامها وإتيانها يا سيد الرسل لأنهم لا يعلمون «فِيمَ أَنْتَ» في أي شيء أنت تنطلع إليها أتريد أن تعلم وقتها، كلا، فإنك وجميع الخلق بعيد «مِنْ ذِكْراها» 43 وبيان وقتها لأنك لست بالمبين زمنها لهم ولا بالعارف وقت قيامها، فقل لهم أنا لا أعلم عنها شيئا أبدا وقل «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» 44 منتهى علمها عند الله فما هذا السؤال عنها وأنت من علاماتها لأنك خاتم الرسل، فوجودك دلالة على قربها، فليستعدوا لها «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» 45 ولهذا بعثت لا لبيان وقتها. واعلم أن هؤلاء الكفرة الملحّين بالسؤال عنها «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم وقبورهم «إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» 46 أي بقدر زمن ضحى من يومها، لأن العشي لا ضحى له، وإنما الضحى لليوم، أي كان ما مرّ عليهم في حياتهم وبرزخهم بقدر هذا الجزء بالنسبة لأهوال ذلك اليوم وطوله. أخرج البزاز وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم- وصححه- عن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه (فيم أنت من ذكراها) فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها. وأخرج النسائي عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت (فيم أنت من ذكراها)

تفسير سورة الانفطار عدد 32 - 82

فكفّ عنها وأنت خبير بأن السيدة عائشه رضى الله عنها حين نزول هذه الآية لم تكن أهلا لتحمل الحديث وليس لها علم بأن الرسول يسأل عن الساعة أو لا يسأل وبعد أن تزوجت به صارت ملازمة له في أكثر أوقاته حتى حال نزول الوحي، وكان يكثر من ذكر الساعة بحضورها صباح مساء ليل نهار، فتسمع الآيات التي نزلت بالساعة منه وتحفظها، وصار الناس ينقلون عنها ما تذكره لهم مما نزل في الساعة وغيرها قبل زواجها وبعده، وتجاوب من يسألها عن أقوال حضرة الرسول، ويدونون ما يأخذونه عنها، وعليه فلا محل للقول بأن هكذا أحاديث تكلم حضرة الرسول بها حال صغرها ولا يجوز الأخذ بها لأنها فكانت على الوجه الذي ذكرناه، وهي الصادقة فيما تقول وتذكر، ولا يتصور أن تقول شيئا من نفسها وتسنده لحضرة الرسول، بل كل ما جاء عنها وأسندته إلى حضرة الرسول قد سمعته منه ونقلته كما سمعته سواء أكانت تلك الأحاديث قبل اقترانها بحضرة الرسول أو بعده، فلا يشك بصحتها، وهي الأمينة بنت الصديق، وتعلم عقوبة من يسند لحضرة الرسول ما لم يقله. هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الانفطار عدد 32- 82 نزلت بمكة بعد سورة النازعات، وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا. وتسمى سورة المنفطرة وانفطرت. ومثلها في عدد الآي سورة الأعلى، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ويوجد سور مبدوءة بما بدنت به، ألمعنا إليها قبل ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت بها من اللفظة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» 1 انشقت، قال ابن عبّاس: ما كنت أعرف معنى فاطر حتى اختلف اعرابي مع آخر في بئر فقال أنا فطرته، أي شققته وحفرته «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» 2 تساقطت من مواقعها «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» 3 على بعضها وزالت البرازخ من

بينها فاختلطت «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» 4 بعث من فيها وقيل أصلها بعثت وأثيرت فهي منحوتة مثل سبحل وحمدل وحوقل ودمعز وصلعم إلى غير ذلك مما جاء في باب النحت، وما قاله أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة فلا تدخل في باب النحت فهو سهو منه لأن النحت غير التركيب، وعليه يكون المعنى نبشت وأخرج أهلها، وجواب إذا «عَلِمَتْ نَفْسٌ» برة كانت أو فاجرة «ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» 5 في الدنيا من عمل فإنها تعلمه حينذاك صالحا أو سيئا إذ تنشر الصحف بعد البعث في المحشر فيقف كل على عمله، ثم يقال لأهل تلك النفوس بعد أن يستقر بهم الحال في الموقف «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» 6 حتى تنكر هذا اليوم العظيم بالدنيا وتسوف بالتوبة ولا ترجع إلى ربك الذي رباك ولا تسلك طريق هداك وإلى متى: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس وإلى متى تترك الحق وتتمادى في الباطل، وتعرض عن الرحمن، وتلازم الأوثان، أي شيء خدعك حتى ضيعت ربك مع ترالي نعمه عليك، أغرك جهلك، أم غشك حمقك، أو أزاغك شيطانك عن طاعة الإله الواحد، الذي لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد؟ وهذه الآية عامة في كل كافر، وما قيل إنها نزلت في كلدة بن خلف إذ ضرب حضرة الرسول ولم يعاقبه عليها لم يثبت، ولم يوجد ما يعضده. واعلم أن التعرض في هذه الآية لكرمه دون قهره وانتقامه وبقية صفاته المانعة من الاغترار إيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه شيطانه ويقول له افعل ما تشاء فإن ربك كريم كما تفضل عليك بالدنيا يتفضل عليك بالآخرة، كقول بعض شياطين الإنس هداهم الله: تكثّر ما استطعت من الخطايا ... ستلقى في غد ربا غفورا تعضّ ندامة كفيك مما ... تركت مخافة الذنب السرورا وقول أبي نواس: خلياني والمعاصي ... واتركا ذكر القصاص وعلى الله وإن أسرفت في الذنب خلاصي

[سورة الانفطار (82) : الآيات 11 إلى 20]

وهذا قياس عقيم مشتق من قياس إبليس المار في الآية 12 من سورة الأعراف المارة في ج 1، وأماني باطلة توجب الإقبال على الذنوب والإعراض عن الثواب، وإذا كان يعتقد يقينا بأن الله غفور رحيم ويقدم على معصيته فلم لا يقول الله رزاق كريم ويترك العمل؟ ولكن اعتقاده ذلك باطل من تسويل إبليس. هذا وقد ألمعنا قبل إلى أن هذه الآية من باب تلقين الحجة للعبد حتى يقول غرني كرمك يا رب تفطينا للجواب الذي لقنه وتعريضا لألطافه عليه كالتعريض بذكر الرحمن في بعض الآيات دون غيره من الصفات، وقد يكون هذا لمن يريد الله رحمته من المؤمنين العاصين ولهم أعمال صالحة، لا للكافرين والمشركين، وقد وصف جل شأنه بقوله «الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» 7 وجعلك متناسب الخلق ماشيا على قدميك آكلا بيدك «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» 8 من الصور التي اقتضتها مشيئته من الحسن والكمال والشبه بأبويك أو أحدهما أو غيرهما من جنسك في الطول والقصر والبياض والحمار «كَلَّا» لا تغتروا بكرم الله فتعبدوا غيره أو تشركوا به شيئا أو تجعلوه ذريعة لارتكاب المعاصي ولا تغفلوا عمن أنشأكم من العدم إلى الوجود وغمركم بنعمه «بَلْ تُكَذِّبُونَ» باعتقادكم هذا «بِالدِّينِ» 9 الذي جاءكم به رسولكم، دين أبيكم إبراهيم، دين الاعتقاد بالإله الواحد والرسل والبعث والجزاء عقابا وثوابا، وكيف تكذبون به «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» 10 مراقبين يدونون كل ما يقع منكم «كِراماً كاتِبِينَ» 11 لأقوالكم وأفعالكم وإثباتها في صحفكم المحفوظة لديهم بأمرنا «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» 12 بسركم وجهركم لا يخفى عليه شيء من أحوالكم. مطلب في الحفظة الكرام وعددهم، وبحث في الشفاعة وسلمان بن عبد الله: كان الفضيل رحمه الله إذا قرأ هذه الآية قال ما أشدها على الغافلين. وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء، وإعلام بأنه عند الله من جلائل الأمور، إذ استعمل عليه هؤلاء الكرام عنده الذين لا يعصونه طرفة عين. وهؤلاء غير الحفظة المذكورين في الآية 13 من سورة الرعد الآتية في ج 3 لأن مع كل إنسان عددا من الملائكة، روي عن عثمان أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان

فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا. قال المهدوي في الفيصل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك. وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله تعالى الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات: الغائط والجنابة والغسل. ولا يمنع هذا من كتبها ما يصدر عنه فيها ويجعل لها امارة على الاعتقاد القلبي ونحوه، ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا، ويلعنانه إن كان كافرا إلى يوم القيامة. راجع الآية 18 من سورة ق في ج 1، وله صلة في سورة الرعد ج 3 عند قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ ... يَحْفَظُونَهُ) الآية. قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» 13 بالغ وسرور جليل في ذلك اليوم «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» 14 عظيم فظيع خارج عن عقل أهل الدنيا معرفته أجارتا الله منه، والمراد بالفجار هنا الكفرة المتوغلين في الكفر لا العصاة إذ تطلق كلمة فجر على الكاذب والزاني والكافر «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» 15 حينما يدانون بأعمالهم القبيحة بعد الحساب يوم القيامة «وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» 16 بل محضرون ومطروحون فيها لا يفارقونها طرفة عين، فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وهذه كقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآيتين 48 من سورة الحجر المارة و 167 من البقرة في ج 3، ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» 17 أيها الإنسان الغافل «ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» 18 استفهام تعجب جوابه هو يوم ترتعد فيه الفرائص وتشقق لهوله القلوب، وإن ما فية لا تجابهه قوى البشر، وهذا الخطاب عام إلى كل من يتأتى منه الدّراية، وفي التكرير زيادة التفخيم والتعجب. وما قيل إن الخطاب خاص بالكافر أو خاص بحضرة الرسول لم يثبت فيه شيء، وإن بين هذين القولين وبين الآية المفسرة من البعد ما لا يخفى. ثم وصف ذلك ببعض صفاته فقال «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» فيه من المنافع مؤمنة كانت أو كافرة، وتخصيصها بالكافرة على قول بعض المفسرين لا مبرر له أيضا،

تفسير سورة الانشقاق عدد 33 - 83 و 84

لأن النفس المؤمنة بما فيها نفوس الأنبياء فمن دونهم لا تملك شيئا فيه إلا بتمليك الله تعالى إياها. راجع الآية 28 من سورة الأنبياء المارة، «وَالْأَمْرُ» يكون كله «يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم كما في غيره «لِلَّهِ» 19 وحده اللهم عاملنا فيه بما أنت أهله بلطفك وأنت المنفرد فيه، فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك. قال ابن عباس كل ما في القرآن (ما أدرك) فقد أدراه وكل ما فيه (وما يدريك) فقد طوى عنه. وقال سليمان بن عبد الملك وهو من خير ملوك بني أمية بعد عمر ابن عبد العزيز لأنه افتتح خلافته بعمارة البيت المقدس والجامع الأموي بدمشق، إذ كان والده بدأ بهما وتوفي قبل إكمالهما، كما أن داود عليه السلام بدأ بعمارة الأول وتوفي قبل إكماله، فأكمله ابنه سليمان صلوات الله عليهما وسلامه، وختمها باستخلاف عمر بن عبد العزيز الذي كان في أعماله وأقواله يعد من الخلفاء الراشدين، لأبي حازم المزني: ليت شعري مالنا عند الله؟ قال يا أمير المؤمنين اعرض عملك على كتاب الله تعالى فتعلم مالك عنده، قال أين أجد ذلك في كتابه جل شأنه؟ قال عند قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ) الآية المارة، قال وأين رحمة الله إذا، قال هي قريب من المحسنين، قال صدقت. وليس في هذه الآية ما يدل على نفي الشفاعة كما زعمه بعضهم، لأن كونها لا تكون إلا بأمر الله دليل على وجودها، ولو أنها يراد بها النفي لما قيدها بالأمر ولم يقيدها به إلا لأنه يريد وجودها، وتفويض من ارتضاه لها من أنبيائه وأوليائه، وحاشاه من منعها، كيف وهو أرحم الراحمين، وقد أمر عباده بأن يشفع بعضهم لبعض وما كان أمر الرسول قط إلا من أمر الله لأنه لا ينطق عن هوى، راجع الآية 255 من البقرة في ج 3، والآية 14 من من النساء في ج 3 في بحث الشفاعة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الانشقاق عدد 33- 83 و 84 نزلت بمكة بعد سورة الانفطار، وهي خمس وعشرون آية، ومئة وسبع كلمات، وأربعمائة وثلاثون حرفا، وتسمى سورة انشقت. لا يوجد مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 إلى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ 1 وَأَذِنَتْ» سمعت وأجابت وأذعنت وخضعت «لِرَبِّها» في ذلك الانشقاق، وهو مثل انفطرت في السورة المارة من حيث المعنى. وأعلم أن انشقاق السماء وإن ثبت في هذه الآية نصا إلا أن موضعه وكيفيته غير معلومة على القطع، وقد عثرنا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه أنها تنشق من المجرّة، وقد جاء بالآثار أن المجرة باب السماء، وقال بعضهم إنها وسط السماء، وقال أهل الهيئة إنها نجوم صغار متقاربة بعضها من بعض، وقولهم هذا لا ينافي كونها باب السماء ووسطه، وان مصعد الملائكة ومهبطهم منها والله أعلم. وما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم حين أرسل معاذا إلى اليمن وقال له إنهم سائلوك عن المجرة فقل لهم إنها لعاب حية تحت العرش لا يصح، وليس هو من متعلقات الدين حتى يوصيه به. وأذن بمعنى سمع وارد في كلام العرب، قال قغيد: إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ... وما هم أذنوا من صالح دفنوا وقال الآخر: صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا أي سمعوا وصاروا كلهم آذانا وسماعها انقيادها لأمر الله بما يراد منها. «وَحُقَّتْ» 2 أي وحق لها إطاعة ربها، وليس لها أن تأباه أو تمتنع عنه لأنها مخلوقة له، ولا على المخلوق إلا إطاعة خالقه «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» 3 بسطت وسوّيت باندكاك جبالها وبنائها في أوديتها وبحورها «وَأَلْقَتْ ما فِيها» من الأموات المكفوتين بها «وَتَخَلَّتْ» 4 عن كل ما فيها «وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» 5 وحق لها أن تنقاد لأمره في ذلك كله لأنه هو الذي صنعها وأودع مكوناته فيها. أخرج أبو القاسم الجيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأجلس جالسا في قبري، وان الأرض تحرك بي، فقلت لها مالك؟ فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت، إذ لا شيء فيّ وذلك قوله تعالى (وَأَلْقَتْ) الآية. ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى لما يتعلق بالسماء، وهذه

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 11 إلى 20]

بالأرض، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة، وجواب إذا محذوف تقديره وقع من الهول ما تقصر عنه عبارة الفقهاء الفصحاء ويكل عنه لسان العلماء البلغاء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» المراد به الجنس فيدخل فيه كل إنسان «إِنَّكَ كادِحٌ» جاهد وساع مدافع في عملك وسائر فيه «إِلى رَبِّكَ كَدْحاً» عظيما، الكدح عمل الإنسان جهده في الخير والشر وهو مفعول لكادح «فَمُلاقِيهِ» 6 أي مواجه ربك يوم الجزاء فتقف أمامه فيجازيك على عملك الخير بأحسن منه والشر بمثله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» 7 في ذلك اليوم الذي وعدكم به الرسل «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» 8 وينال الثواب المترتب عليه «وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ» المعدين له في الجنة من أهل الجنة ومن المؤمنين المتصلين به أهل الدنيا «مَسْرُوراً» 9 بما أوتي من الخير والكرامة وهذا الكتاب الذي يأخذه يفرح به، راجع الآية 19 فما بعدها من سورة الحاقة، وحق له أن يسر لأنها مؤديه إلى جنة ربه ورضاه، فمن ينجح بأعلى شهادة بالدنيا عبارة عن أنها تخوله مزاولة الطب والمحاماة أو الهندسة والزراعة أو السياسة أو القضاء من مناصب الدنيا الفانية وفي نهايتها التعب والعناء، تراه يطير فرحا، فكيف بمن يفوز بالدار الباقية وما فيها من حور وولدان ومآكل ومشارب وملابس وسرور لا يفنى، وشتان بين المسرورين كما بين الدنيا والآخرة «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» 10 إهانة له وكراهية لرؤيته وبعضا لإمساكه «فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» 11 يصيح يا ويلاه يا هلاكاه، وهذا أشد حسرة وأكثر تأثرا وأعظم حزنا ممن يسقط في آخر دورة من أدوار تعليمه إذ يرجى له أن يمهل ليكمل أو يؤذن له بما دون ذلك، وأما هذا فيلاقي العذاب الأليم ويخلد في الجحيم ولا يجاب دعاؤه ولا يسمع نداؤه «وَيَصْلى سَعِيراً» 12 نارا تأجج يحرق فيها لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة طيبة «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ» بدار الدنيا «مَسْرُوراً» 13 باتباع هواه وركوب شهوته والعكوف على ملاذه «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» 14 يرجع إلى ربه ولن يحيى بعد موته وليس كما ظن «بَلى» إنه يعود إلى ربه ويبعث من قبره ويحاسب على فعله «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» 15 من يوم خلقه إلى يوم حشره إلى

ما بعد ذلك، والبصير لا يخفى عليه شيء، وهو مبالغة من باصر، وهو من يدرك الأمور المحسوسة والمعقولة يبصره وبصيرته، ولما كان الله تعالى عالما بأحواله كلها فلا يجوز في حكمته إهماله، بل لا بد من إثابته على صالح عمله ومعاقبته على سيئه. روى البخاري ومسلم عن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وان النبي صلّى الله عليه وسلم قال من حوسب عذّب، قالت فقلت أو ليس يقول الله عز وجل (يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قالت فقال ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذّب. قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» 16 الحمرة التي تبقى بالأفق بعد غروب الشمس وتظهر قبل طلوعها بعد البياض «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» 17 جمع وضمّ ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والهوام والحيتان والطير، لأن ما كان طوره الانتشار في النهار، قد يجتمع في الليل، وبالعكس فإن ما كان منضما بالنهار قد ينتشر بالليل، ويقال طعام موسوق أي مجموع ومستوسقة مجتمعة، قال الشاعر: إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لم يجدن سائقا ويأتي وسق بمعنى عمل أي وما عمل فيه وعليه قوله: فيوما ترانا صالحين وتارة ... تقوم بنا كالواسق المتلبّب وما جاء بأن يحور بمعنى يرجع قوله: وما المرء إلا كالشهاب ووضوءه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع والشفق مأخوذ من الرقة يقال شيء شفق أي لا يتماسك لوقته، ومنه أشفق عليه خاف عليه ورق له، والشفقة من الإشفاق والشفق، قال الشاعر: تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم والوسق في العرف ستون صاعا أو حمل بعير، وهذا مما يدل على أن الصاع المستعمل الآن في بعض البلاد غيره قبلا، لأن ستين منه الآن لا يحملها جملان، راجع الآية 141 من سورة الأنعام المارة تعلم تفصيل هذا، ويأتي وسق بمعنى طرد أي وما أطرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها، ومن ضوء النهار، ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس، فإذا سرقت طردت معا،

ولا حاجة هنا لتقدير لفظ (رب) أي أقسم برب الشفق كما قاله بعض المفسرين، لأن الله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه جمادا كان أو ناميا، وحكم لا في هذا القسم حكمها في (لا أقسم بيوم القيامة) المارة في ج 1 فراجعها. قال تعالى «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» 18 ثمّ نوره وجمع وكملت استدارته فصار بدرا «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» 19 أي لتداولنّ أيها الناس في حياتكم ومماتكم حالا بعد حال مماثلة ومطابقة وموافقة لأحتها في الشدة والهول، قال الأعرج بن جابس: إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقي طبق منه إلى طبق وقد تأتي عن التي معناها المجاوزة بمعنى بعد كما في قولهم: سادرك كابرا عن كابر، أي بعد كابر، وعليه قوله: ما زلت أقطع منها منهلا عن منهل ... حتى أنخت بباب عبد الواحد لأن المجاوزة والبعد متقاربان، واللام في لتركبن واقعة في جواب القسم، وجاء لفظ الطبق بمعنى عشرين عاما أخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها، أي قبلها. وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، وعلى هذا المعنى ما جاء في القاموس من جملة معاني الطبق، ويأتي بمعنى القرآن، قال العباس بن عبد المطلب يمدح حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم: وأنت لما ولدت أشرقت ... الأرض وضاء بنورك الأفق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق وعليه يكون المعنى لتركبن سنن من قبلكم قرنا بعد قرن، إلا أن هذين المعنيين الآخرين خلاف الظاهر، والمعول على الأول، وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحرضب لتبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن؟ أي فمن دونهم أو من قبلهم أو هم أنفسهم، وهو حديث صحيح ولكن لا يراد أنه جاء مفسرا لهذه الآية، تدبر ومن خصّ هذا الخطاب لسيد المخاطبين

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 21 إلى 25]

فقط من المفسرين أراد لتركبن سماء بعد سماء إذ يطلق على السماء طبق أيضا، لكون الواحدة فوق الأخرى، قال تعالى (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الآية 3 من سورة الملك المارة، وقد أوله بما يشير إلى المعراج، على أن المعراج وقع قبل هذا بأكثر من سنتين، وذكرنا آنفا بما يشعر إلى التعميم، وهو المناسب بسياق التنزيل وسباق الآي. قال تعالى «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» 20 بك يا سيد الرسل أي شيء جرى لهم، وما منع هؤلاء الكفرة عن الإيمان بك وقد آتيناهم من دواعيه ما يسمعون ويبصرون ويعون إن كان لهم سمع وبصر وعقل ينتفعون بها، وما آتيناهم هذه الجوارح والحواس إلا ليستدلوا بها على وحدانيتنا ويصدقوا رسلنا «وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ» الذي أنزلناه عليك لصلاحهم ورشدهم، فمابالهم «لا يَسْجُدُونَ» 21 لنا ولا يخضعون لقدرتنا ولا يخشون هيبتنا؟ ثم انتقل من عدم سجودهم إلى تكذيبهم فقال «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ» 22 بك وبكتابك «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» 23 في صدورهم ويجمعون فيها من التكذيب والبغض لك والحقد عليك، والإيعاء هو جعل الشيء في وعاء وعليه قوله: الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد وأريد به هنا الإضمار وهو ما يضمرونه لحضرة الرسول من العداء. وما قيل إن المراد بهم المنافقون لا يصح وإنما هم قريش الذين كانوا يحيكون لحضرة الرسول المكايد، والسورة هذه كلها مكية إجماعا، ومكة لا يوجد فيها منافقون إذ ذاك، لأن النفاق وقع بعد الهجرة في المدينة، حتى ان لفظته لم تعرف إذ ذاك. قال تعالى تهكما بهم «فَبَشِّرْهُمْ» يا سيد الرسل على سبيل التبكيت والتقريع «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» 24 لا تطيقه قواهم ويظهر على بشرتهم سوءه «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» هذا استثناء منقطع من ضمير بشرهم المنصوب، فتكون البشارة في ذلك العذاب الفظيع خاصة بالمكذبين، أما المؤمنون العاملون صالحا ف «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» 25 منقوص ولا مقطوع. وهذه الجملة تدحض قول من قال إن الاستثناء متصل على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل صالحا من آمن وعمل بعد منهم أي أولئك الكفرة، لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم

تفسير سورة الروم عدد 34 - 84 - 30

بل المؤمنين عامة، والسجدة في هذه السورة من عزائم السجود، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، روى البخاري ومسلم عن رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد، فقلت ما هذه؟ قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. ولمسلم عنه قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في (اقرأ باسم ربك) و (إذا السماء انشقت) وهذه السجدة آخر السجدات الواردة في القسم المكي وهي اثنتا عشرة سجدة وبقي في القسم المدني سجدة الرعد والحج فقط تتمة الأربع عشرة سجدة، ومن قال بالسجدة آخر الحج أبلغها خمس عشرة. وقدمنا ما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة السجدة المارة، وفيها ما يرشدك لغيرها من المواقع فراجعها ففيها كفاية. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الروم عدد 34- 84- 30 نزلت بمكة بعد الانشقاق عدا الآية 17 فإنها نزلت بالمدينة، وهي ستون آية وثمنمئة وتسع عشرة كلمة، وثلاث آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا. ومثلها في عدد الآي سورة الذاريات المارة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» تقدم ما فيه أول الأعراف ج 1 وما بعدها مما بدئت به من السور فراجعها ففيها كفاية «غُلِبَتِ الرُّومُ» 2 قبيلة روم بن يونان بن علجان بن يافث بن نوح عليه السلام «فِي أَدْنَى الْأَرْضِ» أرض العرب، لأن أل فيها للعهد والمعهود في الخطاب أرض العرب، لأن أرض الروم التي وقع فيها الغلب قريبة منها ولأنهم هم المخاطبون في هذا القرآن. وقد تواقفت الروم مع الفرس، وكانت الفرس متوافقة مع المشركين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغلبت فارس الروم وقهرتها «وَهُمْ» الروم المغلوبون «مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ» هذا «سَيَغْلِبُونَ» 3 الفرس. ولا وقف هنا بل يقرأ متصلا بما بعده إذ لا يحسن الوقف عليه. وسيكون غلب الروم للفرس «فِي بِضْعِ سِنِينَ» 4

مطلب قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور، وغلب الروم الفرس:

آتية ما بين الثلاث والتسع «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ» هذا الغلب «وَمِنْ بَعْدُ» . وقد حذف المضاف هنا ونوى معناه، ولذلك بني الظرفان على الضمّ أي من قبل الغلب ومن بعده يكون الأمر لله وحده كما هو في سائر الأوقات، إذ لا يكون شيء إلا بقضائه وقدره وإرادته «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» يقرأ متصلا «بِنَصْرِ اللَّهِ» الروم على الفرس، لأنهم أهل كتاب، كما يفرح المشركون بنصر الفرس لأنهم مشركون مثلهم «يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» 5 وأعلم يا أكمل الرسل أن هذا الوعد بنصر الروم على الفرس «وَعْدَ اللَّهِ» حق واقع لا مرية فيه أبدا «لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» البتة، كيف وهو الآمر بالوفاء به، وقوله الحق، وبيده الأمر «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 6 ذلك لفرط جهلم بشئون الله عز وجل وعدم تذكرهم بما يجب عليهم وما يستحيل على الله. وفي لفظ أكثرهم دليل على أن الأقل يعلمون ذلك. واعلم أن الكفرة «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» أي أن علمهم مقصور على ما يتعلق بمعاشهم وصنايعهم ومنافعهم ومضارهم وشهواتهم، ولا يعلمون لماذا خلقوا ولا يتفكرون بحالهم ومصيرهم ومرجع ما خلق لهم، ولماذا خلق، لأن هذا كله من أمور الآخرة. ويأتي ظاهر بمعنى زائل قال الهذلي: وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها مطلب قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور، وغلب الروم الفرس: وعليه يكون المعنى يعلمون ما هو زائل فان، ولا يعلمون ما هو دائم باق والفاعل يعود على اكثر، ومن هذا القسم أن مخترع القوة الجاذبية حيث كانت قطئة تشغله بذهابها وإيابها من فتح الباب لها وغلقه، ففتح لها نفقا تحت الباب، فصارت تخرج وتدخل منه دون كلفة، واستراح منها، ثم أنها ولدت ولم ينتبه أن ذلك النفق كان لها ولأولادها فعمد وفتح لكل نفقا، مما يدل على أن الذكي البارع في شيء قد يكون أبله في غيره. وكذلك مخترع الخطوط الكهربائية أعطته خادمته بيضة كي يسلقها وقالت له أبقها على النار خمس دقائق، فأخرج الساعة ووضعها بالدلة وأمسك البيضة بيده، فقالت له للآن وأنت واضع البيضة على النار؟! فقال لها

لم تمض الخمس دقائق بعد، فنظرت وإذ البيضة بيده والساعة في الدلة، فعكست الأمر. فالذي يكون عن هذه الأمور التافهة غافلا فمن باب أولى أن يكون المشغول بالدنيا أغفل بكثير عن أمور الآخرة لا سيما وأن منها ما هو غير معقول، كما يدل عليه قوله «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» 7 ساهون لا هون بالدنيا لا ينظرون إلى ما يتعلق بها، ولا يصرفون حواسهم لما خلقت لها، لأن الله تعالى طبع عليها وسلبهم منافعها فصدّت عقولهم عن النظر إليها، أجارنا الله من ذلك. وسبب نزول هذه الآية أن كسرى بعث جيشا على رأسه شهربان ليقاتل جيش الروم الذي على رأسه مخيلن، فغلبه بأذرعات وبصرى وهما أقرب أرض للشام إلى أرض العرب، فشق ذلك على المسلمين لأنهم أهل كتاب ويودونهم، وفرح المشركون لأنهم كفرة مثلهم ويحبونهم، فقال المشركون للمسلمين إن قاتلتمونا فسوف نغلبكم أيضا لأن إخواننا غلبوا إخوانكم. قالوا وبعد نزولها قال أبو بكر للمشركين لا تفرحوا فإن الروم ستغلب فارسا في الحرب القابلة إذ أخبرنا الصادق المصدوق سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك عن ربه عز وجل، وإخباره واقع لا محالة، فقال له أبي بن خلف اجعل بيننا أجلا نناصبك، أي نراهنك عليه، فجعل الأجل ثلاث سنين، وتراهنا على عشر قلاص، وأخبر أبو بكر حضرة الرسول، وكان القمار لم يحرم بعد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده بالحطمة ومادده في الأجل، فلقي أبو بكر أبيا فقال له تعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل، فاتفقا على مئة قلوص إلى تسع سنين من شهر كذا من عام كذا، وإنما فعل هذا أبو بكر لأنه جازم بأن الله تعالى لا بدّ وأن يصدق رسوله بما أخبر به لقوة إيمانه، وإلا لو لم يرد الله ذلك لما ألقى في قلبه الموافقة على تمديد الأجل بعد أن اتفقا على غيره. ولما شاع بين الناس أن أبا بكر يريد الهجرة من مكة بسبب الضيق الذي وقع على المسلمين عامة في أذى قريش، أتاه أبيّ وقال له أعطني كفيلا بالحظر إذا أنت نزلت مكة فكفله ابنه عبد الله، وبعد الهجرة أراد أبي أن يذهب مع المشركين للاشتراك في واقعة أحد الكائنة في السنة الثالثة من الهجرة، فجاءه عبد الله بن أبي بكر وطلب منه كفيلا بالحظر إذا هو مات أو قتل، فأعطاه كفيلا، ثم انه تلاقى مع

رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حرب أحد وضربه الرسول فجرحه جرحا بليغا مات منه بعد رجوعه إلى مكة، ثم ظهرت الروم على فارس بعد وقعة الحديبية على رأس سبع سنين من تاريخ المراهنة، إذ وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيها الهجرة، وهو تاريخ نزول هذه السورة، فقد هاجر صلّى الله عليه وسلم بعدها بقليل إذ لم ينزل عليه بعدها إلا العنكبوت والمطففين، وختم الوحي المكي بهما، وذلك بعد عقد المعاهدة بين شهرمان وقيصر، وقد ضمنا المعاهدة شروطا لم يحبا أن يطلع عليها خاصتهم فضلا عن عامتهم، لأنها تتعلق بمصالح الدولتين، وإذ كانت بحضور ترجمانه، وخافا أن يذيع شيئا منها وكل منهما حريص على كتمانها، فقال شهريان لقيصر السريين اثنين فإذا جاوزهما فشا، فقتلا الترجمان لئلا يفشي شيء من خبر تلك المعاهدة باتفاق الطرفين، ومنذ ذلك التاريخ صار مثلا: كل سر جاوز الاثنين شاع. وجعلوا لهذه الشطرة صدرا: كل علم ليس في القرطاس ضاع. فقمر أبو بكر أبيا وأخذ الحظر كله من ورثته، وأمره الرسول بالتصدق به ففعل. وهذه من الآيات البينات الدالات على صدقه صلّى الله عليه وسلم التي اعترف بها المشركون أنفسهم وهي من الإخبار بالغيب. والحكم الشرعي في هذا هو جواز المقامرة والربا والعقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار على مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد، ولم يجوزه الآخرون. أما هذه المقامرة فقد وقعت قبل تحريم القمار وكان جائزا متعارفا بينهم، إلا أنه لما كانت التأدية بعد تحريمه وكانت العبرة بالابتداء لأن الأصل إبقاء ما كان على ما كان أخذه أبو بكر، ولو كان أخذه حراما لما أمره بالتصدق به، لأن التصدق بالحرام حرام حتى قيل إن من تصدق بالحرام طلبا للأجر يكفر. وإنما أمره بالتصدق به نورعا، ولئلا يقول المشركون أخذه أبو بكر مع قول صاحبه بحرمته أو لحاجة فيه. قال تعالى «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» التي هي أقرب شيء منهم وما أودعها الله من غرائب الأشياء وبدايع الحكم فيها ظاهرا وباطنا وانها لا بد لها من الانتهاء ليعلموا أن أمر سائر الخلائق جرى على الحكمة الخارقة لا بد لها من الانتهاء بالأجل الذي قدّره لها مبدعها وليتحققوا أن «ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى» تفنى عند بلوغه «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ

[سورة الروم (30) : الآيات 11 إلى 20]

بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» 8 جاحدون البعث بعد الموت «أَوَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الجاحدون «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الهلاك والدمار فيعتبروا في كيفية إهلاكهم وسببه مع أنهم «كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» لأن الأمم الماضية أكبر أجساما وأقوى جوارح، وأصبر جنانا على الشدة من كفار قريش، لأن آثارهم تدل على ذلك «وَأَثارُوا الْأَرْضَ» حرثوها للزراعة وإخراج المعادن منها «وَعَمَرُوها» بالبناء الضخم والجنان والأنهار والسبل «أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها» أهل مكة وغيرهم وحتى الآن لم يبلغ أهل هذا القرن الذي جاء بالبدائع من الكهرباء واللاسلكي والسيارات والطائرات والمدمرات وغيرها مما لم يتصوره العقل قبلا، وما وجد من ضخامة الأبنية وقوتها وهندستها، مما يدل على رقيهم في هذا الفن وغيره من الأمور الدنيوية، كيف وقد وصفهم الله تعالى بأنهم يعلمون ظاهرها وهذا كله من الظاهر. واعلم أن عمارة هؤلاء للأرض كانت بعد عمارة الجنّ، لأنهم تقدموا عليهم في الخلقة وفي سكنى الأرض، والدليل على مهارتهم في البناء والصنائع ما ذكره الله تعالى عن عملهم لسيدنا سليمان المحاريب والتماثيل والبنايات والأواني العظام وغيرها، راجع الآية 84 من سورة الأنبياء والآية 25 من سورة سبأ المارقين، والآية 44 من سورة النمل في ج 1، «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ولم يؤمنوا فأعلكهم الله «فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بذلك الإهلاك «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 9 لعدم تصديقهم الرسل ولإصرارهم على الكفر «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى» بالرفع اسم كان مؤخر على قراءة من نصب عاقبة وجعلها خبرها مقدما، وبالنصب على أنها خبرها على قراءة من رفع عاقبة على أنها اسمها، وتطلق السوءى على أسوإ العقوبات، وقيل هي أحد أسماء النار، أي أن جزاء المسيئين أسوأ الجزاء وهو النار التي هي أسوأ من كل سوء، وما ندري لعل ما عند الله ما هو أسوا وأسوا وإنما كانت تلك للعاقبة المشئومة عاقبتهم «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» 10 فعاقبهم بأسوء العقوبات «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» جليله وحقيره فينشئه شيئا فشيئا، ثم يميته بعد انقضاء أجله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» حيا كما بدأه «ثُمَّ

مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث:

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 11 بعد الحياة الثانية للحساب والجزاء على ما وقع منكم في حياتكم الدنيا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ» ييأس ويتحير «الْمُجْرِمُونَ» 12 إذ تنقطع حجتهم فيسكتون. والإبلاس الحزن المفرط لشدة اليأس، ومنه اشتق إبليس، يقال أبلس إذا يأس من كل خير يريده وإذا تحير في كل أمره وسكت وانقطعت حجته، وأبلست الناقة إذا لم ترع من شدة الضيعة أي كثرة اشتياقها للفحل، وإنما يبلسون في الآخرة لظهور خطأهم وخيبتهم مما كانوا يأملونه من شفاعة أوثانهم، قال تعالى «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ» الدين اختصوا بهم في الدنيا وأصنامهم التي عبدوها من دون الله «شُفَعاءُ» يشفعون لهم كما كانوا يغرونهم ويزعمون صدقهم «وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» 13 إذ تنبرأ منهم ويتبرءون منها وكان كفرهم بالدنيا بسببها. وهذا مما أوجب حيرتهم ودهشتهم حتى أبلسوا «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» 14 أهل الجنة وأهل النار بعد الفصل بينهم، إذ يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 59 من سورة يس في ج 1، أي انفصلوا عن المؤمنين فينفصلوا حالا بحيث لا يبقى مجرم بين المؤمنين، ولا مؤمن بين المجرمين بمجرد هذا الأمر «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ» 15 يسرون فيها سرورا عظيما. يقال حبره إذا أسره سرورا تهلل منه له وجهه بالبشر وظهر فيه أثره «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا «وَلِقاءِ الْآخِرَةِ» وأنكروا البعث بعد الموت «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» 16 لا يغيبون عنه أبدا أما المؤمنون العصاة فقد أشار الله إليهم في آيات أخر لأنهم لم يدخلوا في هذين الفريقين أما عدم دخولهم مع المؤمنين إذ قرن إيمانهم بالعمل الصالح وهم ليسوا من أهله، وأما مع الكافرين فلأنهم لم يكذبوا آيات الله ورسله ولم ينكروا البعث، وإنما هم جماعة قصروا عن أعمال الخير وفرطوا باتباع الأهواء فلهم جزاء غير هذا بنسبة كسبهم. وهذه الآية المدنية في هذه السورة. مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث: قال تعالى «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ» أي سبحوا الله أيها الناس

ونزهوه في هذا الوقت، ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء المشتملان على التسبيح «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» 17 عظموه أيضا ويدخل فيه صلاة الصبح «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» في هذه الأوقات وغيرها إذ يسبحه فيها من خلقه من نعرف ومن لا نعرف وما لا نعرف ويحمده أيضا، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 44 من الإسراء في ج 1، «وَعَشِيًّا» يدخل فيه صلاة العصر «وَحِينَ تُظْهِرُونَ» 18 فيدخل فيه صلاة الظهر، انتهت الآية المدنية التي هي آيتان بمثابة ثلاث آيات من حيث العدد. قال ابن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم وقرأها أعني هذه الآية، ونظيرها الآية 130 من سورة طه في ج 1، والآية 78 من سورة الإسراء أيضا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وروى مسلم عن سعيد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائة قال كيف يكتب الف حسنة؟ قال يسبح الله مئة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة، وذلك أن كل حسنة تمحو خطيئة. وروى مسلم عن جورية بنت الحارث زوج النبي صلّى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعد ما تعال النهار، فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم، فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك (أي التي قلتهن في تلك المدة كلها) لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقة ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر. وأخرج عنه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاده. وقال فيهما حديث حسن صحيح. قال تعالى «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» راجع تفسيرها في الآية 96 من الأنعام المارة، وله صلة في

[سورة الروم (30) : الآيات 21 إلى 30]

الآية 28 من آل عمران في ج 3 إن شاء الله «وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالمطر «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» 19 من قبوركم أحياء مثل خروج النبات من الأرض الميتة. ثم شرع يبين بعض دلائل قدرته على البعث بعد الموت ليتعظ منكروه فقال «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ» أي أصلكم آدم عليه السلام «مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ» أيها الناس من ذلك الأصل الواحد «بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» 20 في الأرض فتلأونها كثرة «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» من جنسها «أَزْواجاً» مثلكم «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» وهنّ من أعظم النعم عليكم فلو جعلتهن من غير جنسكم لما حصلت الألفة ولما اطمأن الزوج لزوجته «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» من غير سابق معرفة ولا قرابة، ولولا التجانس لما حصلت تلك المودة والرحمة، ولا يوجد سبب لهذا التعاطف والمودة المفرطة إلا الزوجية المتجانسة، وهذا يطلب في الزوجية التجانس في البيئة أيضا ليتوافقا بالأخلاق والعوائد والآداب لأنها مع هذه تكون أكثر ألفة ومحبة ممن يتخالفان في الطبائع إذ يحتاج إلى التطبع (عند الاختلاف) بغير ما اعتاد عليه الآخر، وقل أن يمكن تغيير الطبع، وقلّ من يقدر على الصبر عند خلافه، وقد أمرت الشريعة بالتكافؤ، ولهذه الغاية ترى حوادث الطلاق كثيرة، فلو تقيد الناس بالتكافؤ لما رأيت رجلا يترك زوجته، وجل مصائب الناس من عدم تمسكهم بشريعتهم «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور في الآيتين «لَآياتٍ» عظيمات دالات على القادر المبدع المبدئ المعيد «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» 21 فيها فيؤمنون بمنشئها «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» في الكلام واللغات العربية والفارسية والعبرية والحبشية وغيرها كالقبطية والكردبة والبربوية والسريانية والكورية والإفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية والجركسية وغيرها، مما تفرع عنها وتداخل فيها «وَأَلْوانِكُمْ» الأبيض والأسود والأحمر والأشقر والأسمر وما بينهما من الألوان «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف الذي أبدعه المبدع جل جلاله لحكمة التعارف باللون واللغة والشكل والصورة والحلية، مع أنكم من أصل واحد «لَآياتٍ» كافيات للإيمان بالله والاعتراف ببالغ قدرته وعظيم سلطانه، إذ لو اتفقت الأصوات والصور

لوقع اليأس بين الناس، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه وجعل ما خلق عبرة وعظة «لِلْعالِمِينَ» 22 بكسر اللام لأنهم أهل التدبر والتفكر بآيات الله، قال تعالى (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الآية 44 من العنكبوت الآتية، وقرىء بفتح اللام أي أن تلك الآيات واضحات لا تخفى على أحد، والأولى أولى، ولفظ العالمين بالفتح يدخل فيه من يعقل ومن لا يعقل، فالذي لا يعقل لا ترد عليه الآيات ولا يعقلها، لأن من العالم من هو دون البهائم فلا يعقل ولا يفقه أيضا، لذلك فإن القراءة بكسر اللام أحسن. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» في طلب الرزق وهذه الآية تشير إلى أن النوم كما يكون ليلا يكون نهارا وكذلك السعي يكون فيهما، وإن تخصيص أحدهما للنوم والآخر لطلب المعاش لا يمنع من استعمالهما معا في ذلك، وهو من أجل النعم على الخلق، ولا نعمة من نعم الله إلا وهي جليلة، ولكن منها ما هو أجل «إِنَّ فِي ذلِكَ» التقسيم وجعل كل من الليل والنهار صالحين للاستراحة والعمل والعبادة، إذ يخلف أحدهما الآخر عند الحاجة، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من الفرقان ج 1، «لَآياتٍ» بالغات في الدلالة على الواحد المعبود بحق «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» 23 سماع قبول فيعون ما يتلقونه من قبل المرشدين «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً» بنزول الغيث وخشية مما يترقب من الصواعق والشهب «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» يبسها فيجعلها تهتز بالنبات وتربو بالماء «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة للنبات «لَآياتٍ» دالات على إحياء البشر بعد موته «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 24 قدرة الله ويستظهرون كمال صنعه وبالغ إبداعه في استنباط الأسباب وكيفية التكوين، إذ لا فرق عند الله بين الإحياءين، كما لا فرق عنده بين الإماتتين، لأن القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ» تقف وتثبت وتمسك نفسها بلا عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية 10 من سورة لقمان المارة وله صلة في الآية 5 من سورة الرعد في 3 «وَالْأَرْضُ» على الهواء والماء بلا مرتكز ولا

مطلب جواز الشوكة إلا لله ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها:

ما سك فهي والسماء قائمتان «بِأَمْرِهِ» لهما بقوله جل قوله كونا كذلك، فكانتا حالا بين الكاف والنون، دون مهلة أو تراخ، راجع الآية 11 من سورة فصلت المارة، «ثُمَّ» أنتم أيها الناس كذلك قائمون بأمره، ذلك وإنه «إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ» المدفونين بها لأجل البعث بنفخة واحدة من بوق إسرافيل عليه السلام «إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» 25 منها أحياء كحالتكم الدنيوية كاملين غير ناقصين، لأن الله تعالى يعيد للأعرج رجله، وللأقطع يده، وللأعور عينه، حتى القلفة، وهذا من قبيل إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال قيام السموات والأرض واستمساكها، ودعاؤكم وخروجكم بأمره. قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» 26 منقادون مطيعون له لا لغيره، فالذي لم يطعه فعلا يطعه بالقوة، والذي لم يعظمه قالا يوقره حالا، لأن المراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من شيء «ثُمَّ يُعِيدُهُ» كما خلقه بلا واسطة «وَهُوَ» أمر الإعادة «أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وأيسر من الإبداء لأنه كان على غير مثال والإعادة على مثال سابق، لهذا فإن اسم التفضيل هنا على غير بابه، أي أن أهون بمعنى هين، إذ لا شيء على الله بأهون من غيره ولا أصعب بأن يحتاج لامر آخر أكثر من الأول، فالعظيم والأعظم والقليل والأقل عنده سواء، لأن أمره لهما واحد لا يعز عليه شيء «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الذي ليس بعده مثل من الوصف العجيب الشان كالقدرة العامة والحكمة التامة والعظمة البالغة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» 27 في كل شيء العليم بكل شيء. مطلب جواز الشوكة إلا لله ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها: «ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ» في بطلان الشرك ثم بين هذا المثل بقوله «هَلْ لَكُمْ» أيها الأحرار المالكون للعبيد والإماء «مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ» من المال والأنعام والأولاد وغيرها هذا استفهام على طريق النفي، أي ليس لعبيدكم شركة معكم فيما رزقناكم، وإذا كان كذلك فكيف تشركون عبيدي وخلقي معي؟ ألا تساوون أيها الحمقاء أنفسكم

بربكم من هذه الحيثية؟ فكما أنكم لا تشركون عبيدكم في ملكم، فأنا لا أشرك أحدا في ملكي «فَأَنْتُمْ فِيهِ» أي الرزق الكائن لكم «سَواءٌ» مع عبيدكم، كلا، بل لكم خاصة. وهذا استفهام إنكاري أي لستم في رزقكم وعبيدكم سواء، إذ ليس لهم التصرف به دون أمركم، ولا يحق لهم أن يعارضوكم في إنفاقه والتصرف فيه، مع أنهم مثلكم في البشرية ومثلكم في الكسب وهم غير مخلوقين لكم، فاذا علمتم هذا عرفتم خطأكم في إشراك خلقي بي فيما هو من خصائصي. وهل «تَخافُونَهُمْ» أي العبيد بأن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم فيها «كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» أي تخافونهم أن يستبدوا بالتصرف بأموالكم بدون رأيكم مثل خيفتكم ممن هو من نوعكم، أي كما تخافون من الأحرار الذين مثلكم إذا كانوا شركاءكم في المال أن ينفردوا به، أو يخاف أحدكم شريكه في الميراث أن ينفرد به، أي لا حق لهم في أموركم لا في التصرف ولا في القسمة ولا في الإرث إذا متم، فإذا كنتم لا تخافون هذا من مماليككم ولا ترضونه لأنفسكم، فكيف ترضون أن تكون أصنامكم التي هي من صنع أيديكم شريكة لي وتعبدونها من دوني وهي وأنتم من خلقي، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من سورة الصافات «كَذلِكَ» مثل هذا التفصيل الواضح «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونبينها ونمثلها «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 28 هذه الأمثال فيتدبرونها، ويتعظون بها، ويعون مغزاها، وينتبهون لمعناها. ونظير هذه الآية الآية 74 من سورة النحل المارة فراجعها. واعلم أن التمثيل لتصوير المعاني المعقولة تصويرة المحسوسة إبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس ليكون غاية في الإيضاح والبيان، وفي هذه الآية إشارة إلى صحة أصل الشركة بين الناس لافتقارهم بعضهم لبعض، هذا ولما كان إعراضهم مستمر انتقل عن مجادلة إرشادهم إلى الحق لاستحالة قبولهم له فقال عز قوله «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بشركهم ذلك «أَهْواءَهُمْ» في ضروب الإشراك «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جاهلين ما يجب عليهم معرفته ولكن يا قوم «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» استفهام على طريق الإبعاد والتعجب أي لا أحد يقدر على هدايته «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 29 أي أن الذين يخذلهم الله لا أحد يمنعهم منه أو يحول بينهم وبين عذابه إذا حل بهم

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ» الذي أنت عليه يا سيد الرسل لا تمل عنه ولا تلتفت إلى غيره وتوجه إليه بكلك لا بوجهك فقط، لأن هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهو ضرب من ضروب علم المعاني الذي يزيد الكلام رونقا وبهجة حال كونك «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين يخالفه فهو دين الحق لكونه «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» أي خلقته في عالم الذر والرحم والدنيا، ولهذا قال «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الذي خلق الناس عليه، فلا ينبغي أن يغير أو يبدّل، ولهذا أمر الله تعالى رسوله ليقتدي به أصحابه المؤمنون به بتعديل وتسوية الوجه والمراد منه الكل للإقبال على الدين والاهتمام بشأنه والمحافظة على أركانه وشروطه، لأنه هو أصل الأديان التي جبل الله خلقه الطائعين على التمسك فيه، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، ثم قال، قرأوا إن شئتم (فطرة الله) الآية، زاد البخاري فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسنه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (أي مستوبة لم يذهب من بدنها شيء) هل تحسون بها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا (فطرة الله) الآية، والمراد بالفطرة العهد الذي أخذه الله على البشر حين خاطبهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية 172 من الأعراف في ج 1، فكل مولود بالعالم جار على ذلك الإقرار، وإن عبد غير الله في بداية أمره فإنه يرجع إلى عهد ربه الأزلي فيسبق عليه الكتاب فيتوب ويموت على الإيمان، راجع الآية 104 من سورة الأنبياء المارة، والآية 30 من الأعراف ج 1. واعلم أن لا عبرة في الإيمان الفطري في أحكام الدنيا، بل العبرة في الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وسلم فأبواه يهودانه إلخ، فمع وجود الإيمان الفطري محكوم له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم. أي حولتهم عنه، على أنهم لو تركوا وشأنهم لا بد وأن يعتقوا هذا الدين الإسلامي المستحسن في العقول السليمة والأطباع المستقيمة المتهيئة لقبول الحسن ولم يعدلوا عنه ما سلموا من أفات التقليد التي ينزلون بها عن هذه الفطرة التي جبلت عليها خلقته والحجة المستقيمة إلى ما يتلقونه

[سورة الروم (30) : الآيات 31 إلى 40]

ممّن يتعاهدهم، وإلا فلا تغيير لما وضعه الله «ذلِكَ» الدين القويم والفطرة المستقيمة هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ» البالغ مستوى العدالة «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 30 حقيقته فيزيغون عنه والأقل يعلم شيئا منه ويعرض عنه، فلا تنظر يا سيد الرسل إلى هؤلاء وقم به أنت وأصحابك حال كونكم «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» خاضعين له راجعين إليه «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليكم في أوقاتها فهي أسّه وعماده وملاك شعاء «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 31 به غيره «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ» بدل من المشركين بإعادة الجار وقرىء فارقوا، وهذه الآية تقيّد آية الأنعام 159 المارة لأنها تفيد التبعيض وتلك تفيد العموم، وقدمنا ما يتعلق بمثل هذا الخطاب في الآية 64 من سورة الزمر المارة، وهؤلاء لم يتفقوا على التفريق في الدين بل تعدّوه «وَكانُوا شِيَعاً» فرقا مختلفة فيه كل طائفة تشايع غيرها وإمامها الذي أضلها، ومع أنهم كلهم على ضلال في ذلك فإنهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» 32 راضون به يحسبونه حقا لعدم تدبرهم وتفكرهم في حقيقته، راجع الآية 13 من الشورى المارة تجد ما يتعلق ببحث التفرق. قال تعالى «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» بالدعاء والتضرع حالة كونهم خاشعين مقبلين راجعين إليه «ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» 33 معه غيره في العبادة والدعاء ويظن هؤلاء الكفرة العتاة أنما تنشر عليهم شيئا من رحمتنا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من النعم جزاء لفضلنا عليهم كلا بل قل لهم يا سيد الرسل إن الله لم يهملكم ولم يعطكم لتكفروا به «فَتَمَتَّعُوا» بكفركم «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» 34 عاقبة ذلك، وفي هذه الجملة التفات من الغيبة إلى الخطاب وتهديد ووعيد بسوء العاقبة، قال تعالى «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً» وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة ففيه إيذان بالإعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم ليطلعوا عليها «فَهُوَ يَتَكَلَّمُ» أي ذلك البرهان المعبر عنه بسلطان «بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» 35 وما هنا مصدرية، أي لم ننزل سلطانا بإشراكهم وإنما اختلقوه من أنفسهم «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من غيث أو صحة أو ولد أو رزق، أي مطلق نعمة، كما أن

مطلب ما قاله البلخي للبخاري وحق القريب على قريبه والولي وما شابهه:

الضر في الآية السابقة يطلق على أضداد هذه الرحمة ويشتمل على كل شر «فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من كل ما يسوء الإنسان «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» بسبب ما اقترفوه من السيئات «إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» 36 يبأسون من الرحمة، بخلاف المؤمنين فإنهم إذا أصابهم خير شكروا الله، وإذا مسهم ضرّ صبروا رجاء رحمة الله بكشفه عنهم. مطلب ما قاله البلخي للبخاري وحق القريب على قريبه والولي وما شابهه: قال بعض العارفين من أهالي بلخ لصاحب له كيف حالكم يا أهل بخارى؟ قال نحن قوم إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال البلخي حال كلاب بلخ هكذا، فقال وكيف حالكم يا أهل بلخ؟ قال نحن قوم إذا وجدنا آثرنا وإذا فقدنا شكرنا. وهؤلاء لعمري هم أهل الله العارفون الصادقون، وهؤلاء هم الصوفية الذين هم حقيقة صوفية لا متصوفة زماننا، فأين نحن منهم رجماك ربي رحماك، نسألك العفو والعافية والشكر على العافية، والتوفيق لما تحب من الأعمال، والستر الجميل، وإذا قدرت علينا قدرا لا تريد أن تكشفه عنا فنسألك الصبر الجميل عليه، وأن تجعلنا من القليل، ولا تكلنا إلى غيرك، ولا تؤاخذنا بما نفعل ويفعل السفهاء منا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ» من خلقه يوسعه عليهم بجهد وبغيره «وَيَقْدِرُ» يضيّق على من يشاء ولو جدّ ما جد «إِنَّ فِي ذلِكَ» البسط والقبض الجاريان بمقتضى المشيئة «لَآياتٍ دالات على حكمة المعطي «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 37 به ويرضون بقسمته لاعتقادهم أن ذلك مراده لا غير، ولله در القائل: نكد الأديب وطيب عيش الجاهل ... قد أرشداك إلى حكيم كامل ثم نبههم الله تعالى إلى ما يجب أن يفعل، وما يجب أن لا يفعل، وما يجب أن يترك، فخاطب به سيد المخاطبين ليعمل به أمته فقال «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من البر والصدقة والنظر والصلة، لأن هذه كلها من حق المسلم على المسلم، فكيف بالقريب الذي له حقّان حق الإسلام وحق القرابة، فالعطاء إليه يكون صدقة وصلة «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب يكفيه «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر

الغريب الذي نفدت نفقته فبقي منقطعا عن أهله فينبغي لمن وسع الله عليه أن يعطيه ما يكفيه ويبلغه اهله. وليعلم أن الله تعالى إذا بسط رزقه على عبده فإن ما ينفقه منه في سبيل البر والخير لا ينقصه بل يزيده، كما انه إذا ضيق عليه فإن التشدد بالإمساك لا يوفر عليه، وفيه قيل: إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرا قبل أن تنفلت فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل ينميها إذا هي ولت بل عليه الشكر إذا رزق، قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) والصبر عند الضيق، قال تعالى (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم المارة. وما قيل إن هذه الآية مدنية والمراد بها الزكاة قيل لا قيمة له لأنها مكية كسورتها، واستثناؤها يحتاج إلى دليل، ولم يوجد، ومما يدل على أن المراد بها غير الزكاة الإجماع على مكيتها، والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وقد استنبط من هذه الآية الإمام أبو حنيفة وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب على قريبه الموسر، ووجه استنباطه هو أن آت أمر، والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، وهو هنا معدوم، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي، وقد جاء بجانب المسكين وابن السبيل بعد القريب، ولو كان المراد الزكاة لم يقدم ذو القربى عليهما لأنهم فيها سواء. هذا وما جاء عن أبي سعيد الخدري أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه السلام فاطمة رضي الله عنها فدكا لم يثبت، وينفيه ما اشتهر أنها ادعت فدكا بعد وفاة أبيها صلّى الله عليه وسلم بطريق الإرث، وقد ردت دعواها لقوله صلّى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، - أو كما قال-. وقد ثبت لك أن الآية المدنية لا بد من دليل يؤيد مدنيتها، وهذه الآية مكة، وحادثة فدك بالمدينة ولا يوجد ما يؤيدها. قال تعالى «ذلِكَ» إعطاء القرابة المساكين وأبناء السبيل فيه «خَيْرٌ» كثير لفاعله، وإنفاق المال لأمثال هؤلاء أحصن من الاستئثار للإنسان بما أتحفه الله به من النعم، ومنعه من الفقراء وشبههم «لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بإنفاقه ويتقربون به إليه «وَأُولئِكَ» المريدون وجه الله بصدقاتهم المعطون لها عن طيب

نفس «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 38 الفائزون بالنعيم المقيم عند الله القائل «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ» بأن تأخذوا أكثر منه «فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» بل يمحق بركته ويفنيه، وقال بعض المفسرين ما أعطيتم من الهدايا بقصد أن تعود عليكم بأكثر منها فلا يبارك لكم فيها عند الله لأنكم لم تبتغوا بها وجهه، فلا يثيبكم عليها، وقال إن هذا كان متعارفا عندهم قبل الإسلام، وبقي على حاله فيما بينهم، وحرّم على النبي صلّى الله عليه وسلم وحده، واستدلوا على هذا بقوله تعالى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) الآية 6 من سورة المدثر المارة في ج 1، ولهذا يقولون تأتي الهدية على حمار فترجع على بعير. وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية المذكورة من المدثر فراجعها. وقال بعضهم المراد بالزيادة هنا الزيادة المعروفة بالمعاملة التي حرمها الشرع، لأن الآية نزلت في ربا ثقيف وقريش، وهذا القول أوفق بظاهر الآية لأنها تشير إلى مقدمات تحريم الربا على طريقة التدريج التي أشرنا إليها في المقدمة في بحث التدريج بالأحكام، كما وقع في الخمر، والمعنى الأول بعيد عن الظاهر، على أنه يبعد أن يراد بها والله أعلم بيوع العينة التي كانت تتعاطاها الجاهلية وبقي أثرها في زمننا هذا، المشار إليها في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها في بيع العينة، وذلك أن يبيع الرجل ما يساوي خمسة بعشرة مثلا لقاء الإمهال، أو يبيعه شيئا صوريا لا حقيقة له مثل أن يقول له اشتريت مني هذه الساعة أو هذا البساط أو هذا القماش بعشرة؟ فيقول اشتريت، وقبلت، لفظا من غير تقابض أو بتقابض، ثم يقول له بعتنيه بثمانية؟ فيقول بعتكه، فيعطيه الثمن الأخير ويكتب عليه الأول، فهذه بيوع لا يبارك الله بها لأن ظاهرها بيع وباطنها ربا، والله مطلع على النيات لا تخفى عليه خافية والأمور بمقاصدها، لهذا فإنه تعالى لا بد وأن يسلط على متعاطيها ما يمحق ماله ويسلب نعمته من ولد أو زوجة أو قريب أو إتلاف بحرق أو غرق أو خسارة، لأن هذا العمل حيلة على الله العالم بجليات الأمور وخوافيها، وقد مسخ الله طائفة من بني إسرائيل قردة وخنازير حينما احتالوا على صيد السمك يوم السبت راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1، وقال بعض الأئمة إن الذين يأكلون الربا بالحيلة يحشرون يوم القيامة على صور القردة والخنازير، استنباطا من

قوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) الآية 276 من البقرة في ج 3، والآية المتقدمة من الأعراف، وسنأتي على توضيح هذا هناك إن شاء الله مع قصة أهل البيت في موضعها بالآية 60 من المائدة في ج 3 إن شاء الله. وقد شاهدنا كثيرا ممن تعاطوا الربا أصالة وبالحيلة قد أفقرهم الله وسلب نعمتهم وأحاجهم إلى السؤال، ومنهم من تمتع بها مدة حياته ولم ينتقل ماله لأولاده، ومنهم من انتقل ماله لأولاده فاستهلكوه فيما حرم الله واحتاجوا إلى السؤال. وعلى كل فإنهم لا ينتفعون بما لهم انتفاعا نافعا في الدنيا، فهم في الآخرة أشد حرمانا منه ومعاقبة عليه. ولهذا البحث صلة أيضا في الآية 34 من سورة التوبة في ج 3، ألا فلينتبه الذين يريدون دوام نعم الله عليهم وانتقالها لأولادهم من ذلك، وليتعظوا بغيرهم ويتوبوا إلى ربهم قبل أن يحيق بهم عذاب الدنيا ويحيط بهم عذاب الآخرة. قال تعالى «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ» طهارة، لأن النفقة المقبولة طهارة لصاحبها من الذنوب، لأن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الزكاة، كما أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الحج، ومنها لا يكفرها إلا الهم بالمعيشة، ومنها ومنها طهرنا الله منها. وقد يراد بهذه الطهارة ما يقابل (وما آتيتم من ربّا) إلخ، أي طهارة لأنفسكم بعقود البيع الصحيحة الخالية من ذلك الفضل المصرح به فيها بأنه ربا، فإنكم نثابون عليه ثواب الصدقة لما فيها من مراعاة حق المسلم، ولذلك أعقبها بقوله «تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» بها وتبغون رضاءه «فَأُولئِكَ» المجتنبون الحالة الأولى الفاعلون الثانية «هُمُ الْمُضْعِفُونَ» 39 الذين تضاعف لهم البركة والرحمة والأجر على عملهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة والله يضاعف لمن يشاء بأكثر وأكثر، إذ أثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة التي يتوخونها من ذلك الربا الرجس، وقد مدحهم الله تعالى على فعلهم الطيب الطاهر بالإشارة الدالة على التعظيم تقديرا لفعلهم الحسن. هذا، وإن ما ذكرته في تفسير هذه الآية لم يتطرق له أحد من المفسرين، كما هو الحال في تفسير الآية 88 من سورة النمل المارة في ج 1، ولعلها ممّا ينتقد، ولكن حسب اعتقادي أقول إنه أحسن قول في تفسيرها ولا أقول كما قال الغير فيما ينفرد به: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم

مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده:

إذ لعله: أن يقف على ضد ما فهمته. ولا أصمه بالشطر الأخير من قوله: وما علي إذا ما قلت معتقدي ... إلى جهول يظن الجهل عدوانا وأظنه إذا أنصف حبّذ ما قلته لأنه منطبق على المعنى الواقع، وبعد أن فوضت العلم فيه إلى الله لم يبق محل للانتقاد وغيره. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ» كلا لم يستطيعوا ولن يستطيعوا لأنهم وأوثانهم مخلوقون له «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 40 أنظر رعاك الله إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من بلاغة عظمى في قوله من الأولى والثانية والثالثة إذ استقلت كل منها بتأكيد تعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم. مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده: قال تعالى «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» من المعاصي فإن الناس صاروا يقدمون على المنكرات والفواحش وهم سائرون في البحر ولم يخشوا أن يرسل الله عليهم ريحّا فتغرقهم، كما أنهم يفعلون تلك الخبائث في البر ولم يخافوا أن يخسف الله بهم كما فعل بغيرهم، وقد كثر الحرق والقتل والنهب والسلب والزنى واللواطة والشرب والقمار فيهما معا، وقل الحياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أجرنا من غضبك ومن القحط فقد قلت بركات البر حتى ان الزرع لا يأتي بضعفه وبركات البحر حتى ان اللآلئ لا تكاد تدرك. وما قيل إن فساد البر في مدن الصحراء، وفساد البحر في مدن السواحل، أو قلة مياه العيون، أو عدم إثبات الأرض، وخلو الأصداف، أو بقتل ابن آدم أخاه، وفي البحر بغصب الجلندي السفينة المار ذكرها في الآية 71 من سورة الكهف، وغير ذلك مما يضاهي هذا، فهو بعيد عن المعنى المراد بمناسبة هذه الآية، وإن تقييدها بمثل هذه المسائل مناف لظاهرها العام المطلق في كل فساد يقع في البحر. وهؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا في البر والبحر لا يهملهم الله، وقد أمهلهم «لِيُذِيقَهُمْ» جزاء «بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» مقدما معجلا «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 43 عن

هذه الأعمال القبيحة، حتى إذا أصروا عليها عاقبهم عليها كلها في الآخرة غير عقاب الدنيا. واعلم أنه لا يوجد في القرآن العظيم آية مبدوءة بالظاء غير هذه «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ» وتفكروا في أطلال منازلهم وتدبروا كيفية إهلاكهم واسألوا عن أسبابها وإبقاء مساكنهم خاوية تعلموا أنه «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» 42 بالله جاحدين حقوقه مثلكم، واعلموا أنكم إذا لم ترجعوا عما أنتم عليه يكون مصيركم مثلهم. وأنت يا سيد الرسل لا يهمنّك تماديهم «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» المعهود في الآية 30 المارة ولا تكرار، لأن في الأول لفظ حنيفا وإشارة إلى الدين الحنيف بأنه هو الدين القيم، وفي هذه القيم فقط الذي لا عوج فيه، والمعرفة إذا أعيدت يراد منها الأولى نفسها كما أوضحناه في سورة الانشراح ج 1، وقد أمر الله عباده على لسان رسوله بإقامة الدين والإسراع للتمسك فيه «قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» إذ لا يقبل فيه الرجوع إليه ولا التوبة ولا الفداء ولا الشفاعة المطلقة «يَوْمَئِذٍ» يوم يحل ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، حينئذ «يَصَّدَّعُونَ» 43 يتفرقون بعضهم عن بعض، والتصدّع تفرق أجزاء الأواني، واستعير لمطلق التفرق، قال تعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الآية 4 من القارعة في ج 1، أي أن أشخاص الناس تتفرق لشدة هول ذلك اليوم. واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» هو يحمل وباله وحده «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» 44 يوطئون لها ويبنون وهو عبارة عن معنى يستفاد من أفعال الخير التي سيراها صاحبها حسا، أولا في القبر، وثانيا في الجنة، كما يمهد الإنسان فراشه في الدنيا ليستريح عليه في مضجعه من كل ما ينغص نؤمه. قال تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ» بأكثر مما عملوا لأنهم أحبابه، أما الذين عملوا السيئات فإنه يعاقبهم في ياره «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» 45 لأنهم كرهوا الخير لأنفسهم فأبغضهم الله، لأن من لا يحبه يبغضه. ثم عطف على الآيات من 20 إلى 25 المارة التي عدد فيها آثار نعمه على عبده تذكيرا لهم بأفضاله

وحثا لهم على الإخلاص لحضرته، لأنه هو وحده المتفضل بها عليهم، فقال جل قوله «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته «أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» عباده بالغيث «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ثمر الخصب المتسبب عنه «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» بسبب تلك الرياح، فتصلوا إلى مقاصدكم من البلاد والقرى والبوادي وغيرها «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الأرباح في زروعكم وأثماركم وتجاراتكم برا وبحرا «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 46 نعمه المتوالية عليكم. قال تعالىَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ» كما أرسلناك إلى هؤلاء، أي الموجودين على ظهر الأرضَ جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» على صدقهم كما جئتهم به أنت وكذبوهم كما كذبوكَ انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» منهم وأنجينا المؤمنينَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» 47 بنا. واعلم أن في الآية 103 من سورة يونس المارة والآيتين 171 و 172 من سورة الصافات المارة أيضا والآية 21 من المجادلة الآتية في ج 3، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لحضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم بالظفر والنصر على أعدائه، وفيها كفالة وعهد من الله تعالى على نفسه المقدسة بنصر المؤمنين وهو الموفي بعهده ووعده، القائم بكفالته، الصادق بما يخبر، وقد وفّى لرسوله ما تعهد به له ولأصحابه، وهذا الوعد عام لكل مؤمن ومؤمنة مستمر إلى يوم القيامة، وفيه أيضا وفي الحساب والقضاء، ولكن الناس لم يكونوا مؤمنين موقنين بالمعنى الذي يريده الله منهم كما كان عليه محمد وأصحابه، ولو كانوا كذلك ما سلب منهم نعمة الملك، ولم يسلط عليهم عدوهم ولجاءهم النصر من حيث لا يشعرون، وسخر لهم كل شيء، ولكن أين الإيمان وأين الإسلام كل منهما رسم بلا جسم، ومسمى بلا اسم، ودعوى بلا برهان، وقول بلا بيان، نعم انهم مسجلون رسميا مسلمين، وأعمالهم أعمال الكافرين، لا تراحم ولا توادد بينهم، ولا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة ولا صدقة بالمعنى الذي يريده الله منهم، ولكنهم زناة شربة خمر قذفة للمحصنات كذبة همّازون لمأزون محتالون شهداء زور وبهتة مغترون، فأنى ينظر الله إليهم، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لازلتم منصورين، ما دمتم متبعين سنتي فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم،

فإذا كان هذا جزاء ترك السنن فما بالك بالفرائض، وما بالك بارتكاب المحرمات، وما بالك بالتجاهر بالشرب واللعب واللواطة بلا خوف من الله ولا حياء من الناس، وإني أخشى أن يكونوا قد صاروا حثالة بالمعنى الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلم يذهب الصالحون أسلافا الأول فالأول، حتى لا يبقى من الناس إلا حثالة كحثالة الثمر والشجر لا يبالي الله بهم. رحماك ربي عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أهل التقوى وأهل المغفرة. ومما يدل على أن هذا الوارد في الآيتين المذكورتين نصر مستمر في الدنيا والآخرة ما رواه أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حتما على الله أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر بمعناه. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ» مسيرة يوم وأيام وأقل وأكثر خفيفا أو كثيفا «وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» قطعا متفرقة أو يضم بعضه لبعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» من فرجه ووسطه «فَإِذا أَصابَ بِهِ» بذلك الغيب «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» 48 به لما يدره عليهم وعلى أنعامهم ودوابهم من الخيرات «وَإِنْ كانُوا» أولئك العباد «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ» ذلك الغيث «مِنْ قَبْلِهِ» كرره تأكيدا للدلالة على بعد عهدهم به والأحسن عود هذا الضمير إلى الرياح، فيكون المعنى من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح «لَمُبْلِسِينَ» 49 قانطين آيسين، لأنه بعد إرسال الرياح يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها، فإذا هبت الرياح قبل المطر لا يكون مبلسا بل يكون راجيا برؤية هيئة السحاب وهبوب الرياح «فَانْظُرْ» يا من يتأتي منك النظر «إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ» وحسن تأثيرها في الأرض وفي قلوب الناس «كَيْفَ يُحْيِ» الإله القادر الرؤوف بخلقه «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات والأزهار والثمار «إِنَّ ذلِكَ» الإحياء للأرض بعد يبسها الذي هو بمثابة الموت لها وإحياء نباتها بعد جفافه بالمطر من قبل الله القادر على ذلك فإنه ولا ريب «لَمُحْيِ الْمَوْتى» كما أحيا الأرض الميتة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 50 لا يعجزه شيء،

[سورة الروم (30) : الآيات 51 إلى 60]

قال تعالى «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً» ليبس الأرض وما عليها «فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا» بعد أن كان ذلك النبات أخضر يهتزّ «لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» 51 ما أسلفناهم من نعم الغيث ويجحدون نزوله كأنما لم نغثهم أبدا. واعلم أنه لم يأت في القرآن لفظ المطر إلا للعذاب، والغيث إلا المرحمة، وقد بينا ما يتعلق بتفصيل هذا في الآية 22 من سورة الحجر فراجعها. قال تعالى «فَإِنَّكَ» يا سيد الرسل «لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» قلوبهم «وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ» المختوم على آذانهم «الدُّعاءَ» الذي ترشدهم به «إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» 52 عنك بظهورهم لأنهم إذا كانوا مقبلين إليك قد يفهمون بالإشارة والرمز «وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» في هوّة هواهم «إِنْ تُسْمِعُ» ما تسمع «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» لأنهم مقبلون إليك بقلوبهم وأبصارهم مصغون بعقولهم وآذانهم، ينظرون لما تقوله بكليتهم «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» 53 لك منقادون مطيعون لأوامرنا التي تبلغهم إياها، فاترك أمثال أولئك واعرض عنهم ولا تحزن عليهم لأنهم في حكم الموتى واحرص على هؤلاء فإنهم هم المنتفعون بوعظك ونصحك. مطلب في سماع الموتى وتلقين الميت في قبره وإعادة روحه إليه والأحاديث الواردة بذلك: هذا، وقد استدل بعض الحكماء بهذه الآية على أن الأموات لا يسمعون، وأيدها بقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية 22 من سورة فاطر ج 1، وهذا القائل توصل بقوله هذا إلى عدم تلقين الميت في القبر إذ لا فائدة له منه، وقال لو حلف لا يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث لأنه ليس بأهل للكلام ولا للسماع. وحكى السفارينى في البحور الزاخرة أن عائشة رضي الله عنها ذهبت إلى نفي السماع وذلك أنه جاء في صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت ذهل ابن عمر إنما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله يبكون عليه الآن، قالت وذلك مثل قوله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم يسمعون ما أقول، إنما قال إنهم

الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، ثم قرأت الآيتين، ورجح هذا القاضي أبو يعلى من أكابر الحنابلة في كتابه الجامع الكبير، مستدلين بالآيتين المذكورتين وشبهها مما في القرآن العظيم. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنهم يسمعون وهو اختيار ابن جرير الطبري وابن قتيبة وغيره، وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على هذا، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر وظهر عليهم (على المشركين) رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا، وفي رواية أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى (بئر من اطواء بدر) وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. زاد في رواية لمسلم عن أنس: ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. وبما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى انه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل (يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم) ؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا ويفسح له في قبره سبعون ذراعا، وتملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة، وأما الكافر إلخ. وبما رواه الطبري في الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل يا فلان بن فلانة، فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله، ولكنكم لا تسمعون إلخ. وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال: كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت، فلم يعلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمر على قبرها فقال ما هذا القبر؟ فقالوا أم محجن، قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم، فصف الناس، فصلى عليها، فقال صلّى الله عليه وسلم أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا يا رسول الله أتسمع؟ قال ما أنتم بأسمع منها، فذّكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد أي كنسه، وإجابتها له

على سبيل المعجزة له صلّى الله عليه وسلم. وبالحديث الذي رواه الشيخان المار ذكره في الآية 26 من سورة إبراهيم المارة في بحث سؤال القبر. وبما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير المشار إليه في الآية 41 من سورة النازعات المارة وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى، ثم خاطب أصحابه فقال فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا عليه إلى يوم القيامة. وبما أخرجه ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه. وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له أتسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفنه معه. وبما في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلم: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه يسمع قرع نعالهم. وأجابوا عن الآيتين بما قاله السهيلي إنها كقوله تعالى (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) الآية 41 من الزخرف، أي أن الله تعالى هو الذي يسمع لا أنت. وقال غيره من الأجلة لا تسمعهم إلا أن بشاء الله أولا فتسمعهم سماعا ينفعهم، لأن الشيء قد ينتفي لانتفاء فائدته وثمرته، قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الآية 179 من الأعراف في ج 1، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في الآيتين المذكورتين. هذا وإن السيدة عائشة رضي الله عنها لم تحضر قول النبي صلّى الله عليه وسلم لأهل بدر، فغيرها ممن حضر أحفظ للقضية منها، على أنهم إذا كانوا عالمين كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين، أما وقد اتفقت الكلمة على أن الشهداء يسمعون لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون الآية 171 من آل عمران في ج 3، كما سنبينه في تفسيرها إن شاء الله، وأجمعوا على أن روح الميت تعود إليه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله منهم، فلا مانع إذا من القول بسماعهم في الجملة، وهو للقول الحق، على أن يكون هذا السماع على أحد وجهين: الأول أن يخلق الله تعالى عز وجل وهو القادر على كل شيء في بعض أجزاء الميت

مطلب في أدوار الخلقة والجناس وحقيقة أفعال وفعائل وأنواع الكفر والجهل:

قوة يسمع بها من شاء الله إسماعه كالسلام ونحوه، ولا يمنع من ذلك وجوده تحت الثرى وقد انتحلت منه هاتيك البنية وانقصمت العرى، ولا يكاد يتوقف في قبول هذا القول من يجوز أن يرى أعمى الصين بقّة الأندلس. الثاني أن يكون ذلك السماع للروح بلا واسطة قوة البدن، ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه، وإذ كان للروح على القول الصحيح تعلق بالبدن كله أو بعضه بعد الموت لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله، وهذا التعلق غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبله أجرى الله سبحانه عادة أمره بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر، وكذا عند حمل البدن وعند الغسل مثلا، ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوها فيها نفسها أن تسمع كل مسموع، لما أن السماع مطلقا، وكذا الإحساسات تابعة المشيئة، فيقتصر على القول بما ورد فقط من السلام ونحوه، ولا يلزم على هذا التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقا في أفنية القبور، لما أن مدار السماع عليه مشيئة الله تعالى، وقدمنا ما يتعلق في بحث الروح بصورة مفصلة في الآية 85 من الإسراء في ج 1 فراجعها. مطلب في أدوار الخلقة والجناس وحقيقة أفعال وفعائل وأنواع الكفر والجهل: قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» هو ماء مهين ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة إلخ وكلها ضعيفة «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» تبدأ من المراهقة إلى الشاب إلى الكهولة إلى الكمال إلخ «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً» لأن ما بعد الكمال إلا النقص «وَشَيْبَةً» شيخوخة فهوما وهو تمام النقصان، فسبحانه «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» من القوة والضعف والشباب والشيب وغيرها «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بتدبير خلقه «الْقَدِيرُ» 54 على ما يشاء، وقدمنا ما يتعلق في مراتب الخلق في الآية 67 من سورة المؤمن المارة، وله صلة في الآية 5 من سورة الحج في ج 3. قال تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ» المحكوم عليهم بالعذاب لما قدمنا أنه لا يسمى سجر ماء إلا بعد إثبات ما أسند إليه، وهذا القسم يكون عند تذاكرهم من مدة مكثهم في الدنيا والبرزخ فيقولون «ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» وإنما استقلوا مدة لبثهم مع كثرتها لطول يوم القيامة

على المعذبين وشدّة هوله «كَذلِكَ» مثل هذه الأيمان الكاذبة التي يأتون بها يوم القيامة وأنواع الإفك التي يعتذرون بها ويحاججون ربهم وغيرهم بها «كانُوا يُؤْفَكُونَ» 55 بالدنيا وينصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب، إذ كذبوا أنفسهم، لأنهم لبثوا في الدنيا وفي القبر مئات السنين، وهذا لكذبهم في الدنيا بأنهم لم يبعثوا ولم يحاسبوا ولم يعاقبوا «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ» في حالة الدنيا لهؤلاء الكاذبين «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ» من يوم خلقكم إلى يوم موتكم في الدنيا، ومن يوم موتكم في البرزخ «إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» الذي كنتم تنكرونه قرونا كثيرة «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 56 أنكم تبعثون ولا تصدقون الرسل بما جاءتكم به، وإن علمكم الآن وتصديقكم لا ينفعكم شيئا لتفريطكم به وقت نفعه، وفي هذا يقال: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخش سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر هذا وبين الساعة والساعة في الآية الأولى جناس تام مماثل، ولا يضر اختلاف حركات الإعراب ولا وجود ال في أحدهما لأنها مؤكدة، ولا يضر اتحاد مدلولها في الأصل، لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمن لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة، وأخذ أحدها من الآخر لا يضر أيضا، كما هو موضح في بحث جناس الاشتقاق. قالوا ولا يوجد في القرآن العظيم جناس من هذا النوع إلا هذه في القسم المكي جميعه، وسيأتي مثله في الآية 45 من سورة النور في القسم المدني ج 3 إن شاء الله، لأن الابصار الأول فيها جمع بصر، والثاني جمع بصيرة كما ستقف عليه هناك إن شاء الله. وقال بعضهم إن هذا النوع من الجناس لا يكون بين حقيقة ومجاز، وان الابصار الثاني في تلك الآية ليس من باب الحقيقة بل في المجاز والاستعارة، لأن البصيرة تجمع على بصائر لا على الابصار، ولأن علماء العربية قالوا إن صيغة أفعال من جمع القلة وهو لا يطرد إلا في اسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار، أو مكسورها كغيب وأغياب، أو مضمومها كرطب وأرطاب، وساكن العين كثوب وأثواب، أو محركها كعضد وأعضاد

وفخذ وأفخاذ، وصفة فعائل من جموع الكثرة وهي لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثه مدّة كسحابة وسحائب، وبصيرة وبصائر، وحلوبة وحلائب، وشمال وشمائل، وعجوز وعجائز، وسعيد علم على امرأة وسعائد، وقد استعيرت الأبصار للبصائر مجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز، وقد ظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز وانكسر التجنيس فيها، وهو بغير محله لما ذكرنا أن الساعة عبارة عن قطعة من الزمن وكلاهما حقيقة فيه، تأمل. قال تعالى «فَيَوْمَئِذٍ» يوم قيام الساعة «لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ» ولا احتجاجهم لأن قبول العذر والتوبة محلّهما الدنيا، وقد انقضت «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» 57 يسترضون لربهم فلا تطلب منهم العتبى وهي الاسترضاء لفوات محلها، وبعد أن حق عليهم العذاب فلا مناص لهم منه. وقال بعضهم: إن العتبى من الإعتاب بمعنى إزالة البعث كالعطاء والاستعطاء أن لا يطلب منهم إزالة عتب الله أي غضبه لا بالتوبة ولا بالطاعة ولا غيرهما «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليعتبروا فيه فلم يعتبروا، وهذا إشارة إلى عدم قبول الاعتذار في الآخرة «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ» من الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل، أو مما نزل على من قبلك «لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ» أيها الرسل «إِلَّا مُبْطِلُونَ» 58 فيما جئتم به، فكان شأنهم معك كشأنهم مع الرسل قبلك، لأنهم كلوا يأتونهم بالحق ويكذبونهم ويرمونهم بالباطل من القول، ويصمونهم بالافتراء فلم ينتفعوا بما نضرب لهم من الأمثال ونقص عليهم من القصص ونذكرهم به من الأخبار السالفة «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع البليغ المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» 59 الجهلة الذين علم الله اختيارهم الضلال على الهدى والكفر على الإيمان، ولذلك وصموا مرشديهم بما لا يليق بهم لشدة توغلهم بالكفر. واعلم أن الكفر أربعة أنواع: الأول أن يقر بالإيمان بلسانه ولا يعتقد صحته بقلبه وهذا كفر النفاق. الثاني أن لا يتعرف على الله أصلا ككفر فرعون إذ يقول (ما علمت لكم من إله غيري) وهذا كفر إنكار. الثالث أن يعرف الله بقلبه ولا يقره بلسانه كإبليس، وهذا كفر جحود. الرابع أن يعرف الله يقلبه

ويقر به بلسانه ولا يدين به كأمية بن الصلت وهذا كفر عناد. ومنه كفر أبي طالب قبل إيمانه في آخر رمق من حياته على قول ابن عباس أو بعد مماته على ما جاء بأن الله أحيا له أبوبه وعمه أبا طالب فآمنوا به إكراما لحضرته المقدسة ولما لأبي طالب عليه من الأيادي البيضاء، والقول بما ذكره ابن عباس أولى لأن الإيمان بعد الموت لا عبرة به إلا أن يكون خاصة له وإكراما لحفيده، وما عام إلا وقد خصص، وما ذكرنا من أقواله في الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1 والآية 26 من سورة الأنعام المارة تدل على أنه عارف بربه معتقد صحة رسالة ابن أخيه وأن الذي منعه من التصريح بالإسلام مخافة مذمة قريش. والجهل اثنان بسيط وهو من لا يعرف صاحبه ما هو للعلم، ومركب وهو مثل الأول إلا أن صاحبه لا يعرف نفسه أنه لا يعرف، وهذا هو الذي يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب الحق، ولهذا قالوا هو شر من البسيط، وما الطف ما قيل في هذا: قال حمار الحكيم يوما ... لو أنصفوني لكنت أركب لأني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب وقيل فيه أيضا: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... ولو كنت أعلم ما تقول عذلتكا ولكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا وقال الآخر: فبايعا هذا ببخس معجل ... غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم فإن قلت لا أدري فتلك مصيبة ... وإن قلت أدري فالمصيبة أعظم وأمثال هذا كثير. قال تعالى «فَاصْبِرْ» يا خاتم الرسل على أذاهم فقد أظلك ما وعدناك به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» في نصرك وإعلاء كلمتك ثابت في أزلنا إنجازه فدم على ما أنت عليه «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» 60 أي لا يحملونك على العجلة بما تعدهم به فإنهم لا يصدقونك ولا يؤمنون بوعدك الذي وعدك به ربك مع أنه واقع لا محالة، ولكن له أجل لا يسبقه. هذا ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير

تفسير سورة العنكبوت عدد 35 و 85 و 29

وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه في سنته عن علي كرم الله وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 65 من الزمر المارة، فأجابه عليه السلام وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون) وهذا ليس بكثير على باب مدينة العلم وسيف الله ومن هو بمنزلة هرون من موسى بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد سماه رسول الله حينما خرج إلى ابن ود العامري الإسلام كله. وفي هذه الآية إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يصدقون بأحوالهم ولا يعتقدون صحتها، ولذلك يستخفون بهم ويرمونهم بما ليس فيهم وما هم منه براء، عفا الله عنهم وأعادهم إلى الرشد. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة العنكبوت عدد 35 و 85 و 29 نزلت بمكة بعد سورة الروم عدا الآيات من 1 إلى 11 فإنها نزلت بالمدينة وهي تسع وستون آية، وتسعمئة وثمانون كلمة، وأربعة آلاف ومئة وخمسة وستون حرفا. لا يوجد مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» 1 تقدم معناه وما فيه أول سورة الأعراف فما بعدها من أمثاله مفصلا «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» في هذه الدنيا بلا بلاء وهي داره، ولا امتحان واختبار وهي محلهما، بمجرد «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» بالله ورسوله وكتابه وملائكته والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله «وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» 2 فيها بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، كلا ثم كلا. مطلب لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح: لا يكفي الإيمان المجرد، بل لا بد من اقترانه بالعمل الصالح والصبر على البلاء. نزلت هذه الآية وما بعدها إلى 11 في المدينة المنورة في أناس كانوا في مكة بعد

هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم مسلمين فكتب إليهم أصحاب الرسول أن لا يقبل الله منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا من محل الكفر إلى الإيمان، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون فمنهم من قتل ومنهم من نجا، قال بعضهم لو أثاب الله المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا، لقال الكافر المعذب ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي، فإيمانه الذي تثبيه عليه مما لا يستحق الثواب له، وبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض من خير الآخرة ونعيمها الذي لا يكيف، وان نعيم رجل أو امرأة من أهل الجنة لو قسم على أهل الأرض لزاد عليهم بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت، وقال ابن عباس أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد ابن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم من المسلمين، وقيل في عمار كان يعذب في الله، وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين في بدر فسماء صلّى الله عليه وسلم سيد الشهداء وقال إنه أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة، فجزع أبوه وأمه فأنزل الله هذه الآية. قال تعالى «وَلَقَدْ فَتَنَّا» اختبرنا وامتحنا «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل أولئك المسلمين الممتحنين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم بأنواع البلاء فمنهم من قتل ومنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من مشّط بأمشاط الحديد المحماة ومنهم من أحرق بالنار، ومنهم من صبر على أنواع التعذيب، فثبتوا على دينهم ولم ينصرفوا عنه «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» بهذا الافتتان، وهو عالم قبل ولكن ليظهر ذلك من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ليطلع عليه خلقه «الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم وحافظوا عليه ولم يثنهم عنه ما أصابهم من البلاء رغبة به وطلبا لما عند الله من الثواب «وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» 3 في إيمانهم الذين ذمهم الله تعالى بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية 12 من سورة الحج في ج 3، أي ليميز الصادق من الكاذب فيما بين الناس، أما هو جلّ علمه فهما معلومان عنده من يوم قالوا بلى كعلمه بجميع مكوناته، وان ما يطهره من أقوالهم ليعلم به الناس، وانه سيكافىء الصادق على صدقه، ويجازي الكاذب على كذبه. قال تعالى «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا» يفوتوننا،

كلا لا يقدرون على الهرب منا، ولا يفلتون من قبضتنا، أو يظنون أنا لا نعاقبهم، بلى سننتقم منهم لا محالة، وإذا كان هذا ظنهم فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» 4 به فقد خاب ظنهم وبئس ما حكموا به. واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ» في الآخرة فعليه أن يحسن إيمانه ويشفعه بالعمل الصالح، ويعتقد بالبعث بعد الموت «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ» المضروب للقائه الذي فيه عقاب الكافر وإثابة المؤمن «لَآتٍ» لا محاله، فليستعد له ويستمر على صالح العمل كي يصدق رجاؤه ويحقق أمله. وإتيانه كناية عن إتيان ما فيه من الخير العظيم لأهل الخير، والشر الجسيم لأهل الشر، ألا فلينتظر المحسنون ثواب أعمالهم والمسيئون عقابها «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده سرّها وجهرها «الْعَلِيمُ» 5 بنياتهم طيبها وخبيثها، ثم طفق جل شأنه يعرض بالجهاد ويرغب فيه لقرب أوانه، لأنه تعالى سيأذن لحبيبه في هذه السورة بالهجرة التي هي مقدماته، فقال عز قوله «وَمَنْ جاهَدَ» منكم أيها الناس أعداء الله الكافرين أعداءكم لإعلاء كلمة الله وتخليص عباده من الذل ومن رق الكفار، وأنقذهم من أذاهم المرعق، وصبر نفسه على قتالهم، وصدق ربه بما آتاه من قوة بدنية ومالية «فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ» لأنها هي التي تحظى بعظيم ثوابه لتلك الغايات الشريفة، فمن زهد بنفسه لأجل الله فيكون جزاؤه ومكادنه عليه، وناهيك به مجاز يعطي على القليل الكثير، وعلى العظيم أعظم منه «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» 6 وإيمانهم وجهادهم ولو شاء لما أحاجهم إلى الجهاد، ولكن أمرهم به لمنفعة أنفسهم وليظهر لخلقه من منهم الطائع له أزلا والعاصي كما هو مدون في لوحه ولما يعود عليهم بسببه من الخير العميم والفضل الجسيم، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي أعظمها الجهاد في سبيل الله في زمنه ووقت الحاجة الماسة إليه، وإلا فتوحيد الله أعظم منه وسد عرز المحتاج الذي لا يقوم به أحد أفضل أيضا «لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» في الآخرة ولنبدلنها حسنات بسبب ما ضحوه من الأعمال الطيبة لإيمانهم «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» 7 مر مثلها في الآية 97 من سورة النحل المارة.

مطلب بر الوالدين وما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وأبي بكر مع ولده، وعياش وأخويه أولاد أسماء بنت محرمة:

مطلب برّ الوالدين وما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وأبي بكر مع ولده، وعياش وأخويه أولاد أسماء بنت محرمة: قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» أمرناه أن يتعهدهما ويراعي حقوقهما ويحسن إليهما «وَإِنْ جاهَداكَ» ألحّا عليك أيها الإنسان «لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» بإلهيته، ولا يصح أن يكون إلها إذ لا إله غيري، أنا الملك صاحب الأمر والنهي «فَلا تُطِعْهُما» في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وان الإشراك لا أعظم منه ولا أجلب لغضب الله من معتنقه، «إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» لا إلى غيري بررتم بوالديكم أو عقفتم أو آمنتم أو كفرتم وحينذاك «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 8 في الدنيا، فأجازيكم على الخير خيرا منه، وعلى الشر مثله. وقدمنا ما يتعلق في بر الوالدين في الآية 24 من الإسراء في ج 1 وفي الآية 14 من سورة لقمان المارة فراجعهما. وتفسير الجملة الأولى من هذه الآية في الآية 15 من سورة الأحقاف المارة، وذكرنا في آية لقمان ما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وفي آية الأحقاف ما وقع لأبي بكر أيضا فراجعها. وقيل إن هذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة المخزومي لما هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء أبو جهل والحارث بن هشام ونزلا عنده في المدينة وقالا له إن من دين محمد صلة الرحم وبر الوالدين، وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك، وهي أشد لك حبا (وذلك لأنهما أخواه لأمه) ، فاستشار عمر فقال يخدعانك، ولئن بقيت لأقسم مالي بيني وبينك، فلم يزالا به حتى أطاعهما، فقال له عمر أما إذ عصيتني فخذ ناقتي، وإن رابك أمرهما فارجع فإنها لا تدرك. رضي الله عنه وأرضاه، إنه لينظر بنور الله، كيف وقد جاء التنزيل يحمل من أقواله، وقد قال فيه صلّى الله عليه وسلم لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدّثون فإن يك من أمتي منهم أحد فإنه عمر. وفي رواية: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن بك في أمتي أحد فإنه عمر. وكلمة محدّثون بالتشديد، وفي رواية: ملهمون. وهذا مما يؤيد أن أن الله تعالى لم يترك هذه الأمة من معنى الوحي وآثار الرسالة، كيف وقد

قال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدّد لها أمر دينها. ولله الحمد، هذا، ولما لم يقنع بقوله ليقضي الله أمرا كان مفعولا وليطلعهم عليه ليصدقوا أن من عباده ممن هو ملهم بما يقع من قضائه، فلما انتهوا به إلى البيداء قال أبو جهل كلتت نافتي فاحملني معك، فنزل، فأخذاه وشدا وثاقه، وجلده كل منهما مئة جلدة، وذهبا به إلى أمه، فقالت له لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد. هذا وقد جعل بعض المفسرين الآيات الثلاث في حق سعد رضي الله عنه، وان ما جرينا عليه أولى، على أن كلا منها عامة اللفظ والمعنى لا يخصصها عن عمومها هذه الأسباب ولا يقيدها عن إطلاقها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولأن الآية الواحدة قد يكون نزولها لعدة حوادث بسبب انطباق مآلها عليها، ولم نعهد أن ثلاث آيات نزلت في حادثة واحدة أو آيتين، وعليه فالقول بنزول الآيات الثلاث المذكورة في حق سعد رضي الله عنه لم يثبت، والله أعلم. ومرت بقية القصة في الآية 11 من سورة لقمان، وقيل إنها نزلت في سعد بن مالك الزّهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس، لما أسلم قالت له لا آكل ولا أشرب ولا استظل حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعيّر بي، فلم يفعل، وبقيت أياما، ولما أيست منه أكلت وشربت واستظلت، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» 9 من عبادنا مع الأنبياء والأولياء والشهداء والعارفين. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ» إيمانا مطلقا «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ» لأجله أو من أجله «جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ» به من أذية أو إهانة «كَعَذابِ اللَّهِ» أي نزل ما يصيبه منهم منزلة عذاب الله في الآخرة وجزع كما يجزع من عذابه لو حل به، مع أنه لا يعد كل عذاب الدنيا شيئا بالنسبة لجزء من عذاب الآخرة، فلم يصبروا على ما وقع عليهم من عذاب الدنيا، ورجعوا عن دينهم وكفروا بربهم، مع أنه يجب عليهم أن يصبروا عليه مهما كان شديدا، لأنه فان رغبة بما عند الله للصابرين من نعيمه الدائم. وهذه سمة المنافق فإنه إذا أوذي في الله رجع عن دينه، كالذي يعبد الله على حرف، راجع الآية 12 من سورة الحج المشار إليها آنفا، أما المؤمن فإنه يصبر على ما أصابه

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 11 إلى 20]

طلبا لما عند الله من الثواب «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ» وغنيمة للمؤمنين من أعدائهم «لَيَقُولُنَّ» لهم أولئك المنافقون «إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» على عدوكم وكنا مسلمين مثلكم، وإنما أكرهنا على ما وقع منا، فأكذبهم الله بقوله «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» 10 من الإيمان الصادق والنفاق المحض وغيره، بلى هو أعلم منهم بأنفسهم، وهذا استفهام تقريري بمعنى القسم، أي بلى والله هو عالم بذلك، ولهذا أردفه بالقسم. فقال «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» وثبتوا على إيمانهم حالة البلاء «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» 11 الذين تخلوا عنه عند الشدة، أي والله إنه عالم بالفريقين حق العلم لأن اللام في الفعلين موطئة للقسم. نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا مؤمنين بألسنتهم فإذا أصابهم أذى من الكفار واتقوهم على ما يريدونه، فنضحهم الله تعالى، وهذه آخر الآيات المدنيات. قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» أي إذا كان الصارف لكم عنا خوفكم عقاب الله الذي يهددكم به محمد فارجعوا عن دينه إلى دينكم ونحن نتحمل عنكم ما يهددكم به، فأكذبهم الله بقوله «وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ» هذا نفي مؤكد بالباء الواقعة في خبر ما التي هي بمعنى ليس جيء بها لتاكيد نفي الاستمرار وبمن الداخلة على شيء لتأكيد الاستغراق ثم قرر ذلك بقوله «إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 12 بأنّ المقيدة للتحقيق والتأكيد واللام الموكدة لها، ونظير هذه الآية في المعنى الآية 25 من سورة النحل المارة، كما أن نظير الآيتين 10/ 11 المارتين الآية 166 فما بعدها من سورة آل عمران في ج 3، قال تعالى «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ» أوزارهم الباهظة «وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» أيضا، لأن هؤلاء المضلين عليهم عقابان، عقابا لافترافهم الكفر، وعقابا لحمل غيرهم عليه، راجع الآية 25 من سورة النحل المارة «وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» سؤال توبيخ وتبكيت «عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» 13 من الأكاذيب والأباطيل ويغرون غيرهم بها كقولهم هذا، روى مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: من سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن

ينقص من أوزارهم شيء. والسنة السيئة هي المبتدعة التي لم يرد عن النهي عنها حديث صحيح، كما أن السنة الحسنة الواردة في الحديث الآخر الذي ذكرناه في آية النحل المذكورة هي غير التي منها حضرة الرسول، وتنطبق على هذين الحديثين البدع، فما كان منها سيئا دخل في السنة السيئة، وما كان منها حسنا دخل في السنة الحسنة. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ» يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان «أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً» لم يقل تسعمئة وخمسين عاما، لأن الاستثناء يدل على التحقيق، وغيره يدل على التقريب، ولأن التعبير بها أقل كلمات من غيرها، ولأن عقد الألف يدل على التكثير وهو أعظم للكلام. قال ابن عباس بعث على رأس الأربعين، ودعا قومه ألفا إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان ستين، فعمره ألف وخمسون سنة. وقال وهب عاش ألفا وأربعمائة سنة. وجاء في التوراة آخر الإصحاح التاسع أنه عاش مع قومه ستمئة سنة، وبعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، والله أعلم. وهذه الآية كتسلية لحضرة الرسول يعلمه فيها أن من الأنبياء قبلك صبروا على البلاء كثيرا وإنك أولى بالصبر لأنك من أولي العزم، وإن أمتك مهما قابلتك به، فإنها أحسن من غيرها من حيث النتيجة، لأنا جعلناك خير نبي أرسل، فأرسلناك إلى خير أمة، فاصبر عليهم فإنك مهما جاملتهم وتحملت منهم لا يكون مثل صبر نوح على قومه في طول مدته، وإنا بعد صبره هذا أعلمناه بأنهم لم يؤمنوا، وألقمناه الدعاء عليهم، فدعا «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ» إجابة لدعوته التي صادقت الوقت المقدر لعذابهم «وَهُمْ ظالِمُونَ» 14 لأنفسهم لعدم إجابتهم دعوة نبيهم للإيمان وإصرارهم على الكفر، أما نوح «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ» الذين آمنوا معه من الغرق «وَجَعَلْناها» تلك الفعلة التي فعلناها بهم أو السفينة التي أنجينا بها المؤمنين «آيَةً لِلْعالَمِينَ» 15 أجمع إذ يتناقلون أخبارها جيلا بعد جيل منذ زمنها إلى يوم القيامة. راجع تفصيل القصة في الآية 44 من نورة هود المارة. وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» وحده وذروا الكواكب والأصنام التي هي من مخلوقاته وصنع أيديكم «ذلِكُمْ» الذي أرشدكم إليه وأنصحكم به «خَيْرٌ لَكُمْ» من الإشراك

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 21 إلى 30]

بالله وعبادة غيره «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» 16 الخير من الشر والنفع من الضر، وقال لهم يا قوم «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» يدخل فيها كل معبود بغير حق حيوانا أو جمادا ملكا أو إنسا، أما الأصنام فتختص بما يعمله البشر من فضة وذهب وحديد وغيرها «وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً» كذبا محضا تصنعونه وتسمّونه إلها افتراء على الله وبهتا منكم، يا قوم «إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً» ولا يستطيعون أن يدفعوا عنكم ضرا ولا يجلبوا لكم نفعا، فاتركوها «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ» فهو القادر على رزقكم ورزق جميع خلقه الحسّاسة والنامية، لاحتياج كل إلى الماء والهواء وهما رزق ليعجز البشر عن إطلاقه إذا أمسكه الله «وَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا فإنه لا يقبل الشركة «وَاشْكُرُوا لَهُ» ما خولكم به من النعم العظيمة لأنكم «إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 17 في الآخرة لا إلى أوثانكم وهو الذي يجازي المحسن ويعاقب المسيء، هذا ما أصدقكم به لخيركم «وَإِنْ تُكَذِّبُوا» ما أقوله لكم «فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ» رسلهم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فأهلكهم الله بتكذيبهم، وإني أخاف عليكم إن أصررتم على تكذبي أن يصيبكم ما أصابهم «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» 18 الواضح إلى قومه وعلى الله الهداية ومنه التوفيق وله الإهلاك والانتقام قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء الناس «كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ» من النطفة ومن لا شيء ثم يميته ويفنيه «ثُمَّ يُعِيدُهُ» في الآخرة كما بدأه دون كلفة أو إعياء «إِنَّ ذلِكَ» الإبداء والإعادة والإماتة والإحياء «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 19 لأنه ما بين الكاف والنون من قوله كن، راجع الآية 27 من سورة الروم المارة «قُلْ» يا أكرم الرسل لهؤلاء المنكرين قدرتنا الجاحدين كتابنا المكذبين لك «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ» يوم القيامة على نمط الأولى إذ لم يتعذر عليه الأحداث إبداء حتى تنعذر عليه الإعادة أخيرا «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 20 وذلك من جملة مقدوراته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد «يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» بسبب وبلا سبب إذا شاء «وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ» كذلك لا يسأل عما يفعل «وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» 21 جميعكم أولكم

وآخركم فله مصير الخلائق وإليه الأمر كله فيهم «وَما أَنْتُمْ» أيها الناس له بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا» يعجزه أيضا من «فِي السَّماءِ» لأن الكل بقبضته لا يستطيع أن يفلت منهم أحد، وفي هذا حذف الموصول مع بقاء الصلة وهو غير جائز عند البصريين، وقد أجازه غيرهم واستشهد له في الشعر على المذهبين بقول حسان رضي الله عنه وهو: أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء فقد حذف من عجز البيت وأبقيت صلته، إذا فلا محل للاعتراض على هذا على أن الاعتراض قد يكون إذا كان القرآن مستقى من العربية لا إذا كانت العربية متشربة من القرآن، ويكون المعنى على التفسير الذي جرينا عليه في هذه الآية لا يعجز الله أحد في الأرض من الإنس أو الجن ولا يعجزه أحد في السماء من الملائكة عوامهم وخواصهم، ومن رأى أن حذف الموصول غير جائز قال ولا في السماء لو كنتم أيها الناس فيها على فرض المحال أي الاستبعاد، إذ لا محال على الله بل بالنسبة إلينا محال هو كما ترى، قال تعالى «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» 22 يتولى أمركم أو يمنعكم من عذابه «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسله «وَلِقائِهِ» جحدوا البعث بعد الموت الذي فيه لقاء الله وماتوا على ذلك «أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي» فلا تنالهم البتة ولا يشموا ريحها «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 23 لا تستطيعه قواهم ولو كانت حديدا. واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى أو لم يروا هنا، جاءت معترضة بين قصة ابراهيم عليه السلام في تذكيره أهل مكة بمناسبة ختام ما ينزل عليهم من القرآن، إذ ينتهي المكي بانتهاء هذه السورة والتي بعدها فقط، لأن الخطاب فيها لسيد المخاطبين الذين أعمه أمرهم وأزعجه تماديهم في الطغيان وآسفه عدم تأثرهم من الآيات التي تذوب لها صم الحجارة وآساه اهانتهم له ولأصحابه واذاهم المترادف، ولم يبق له بعد هذا إلا هجرهم. قال تعالى فيما يقصه عن سيدنا ابراهيم «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه نعمه لهم وإرشاده إياهم وتحذيرهم بطش ربهم «إِلَّا أَنْ قالُوا» بعضهم لبعض عند ختام مذاكرتهم بشأنه كما تقدم في الآية 65 من سورة الأنبياء

مطلب تعويض الهجرة لسيدنا محمد وهجرة ابراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام وسببها

«اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ» ليذيع خبره في الآفاق فيرتدع من تحدثه نفسه بمثل فعله مع قومه وآلهته، ولهذا اختاروا الإحراق لأنه أكثر سمعة من القتل «فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ» التي القوه فيها على الصورة المقدمة في الآية 71 من الأنبياء المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الفعل الذي فعلوه بإبراهيم وتخليصنا إياه «لَآياتٍ» عظيمات باهرات «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 24 فيعتبرون ويتعظون «وَقالَ» ابراهيم بعد خروجه من النار سالما وأمته نمروذ كما تقدم في القصة يا قوم «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» لأن تكون «مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فقط ثم تنقطع في الآخرة لأنها ليست على تقوى وستكون عليكم وبالا، وهكذا كل صداقة من هذا القبيل راجع الآية 67 من سورة الزخرف المارة «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» وذلك لأن الأوثان تنبرا من عابديها وتنكر أنها كانت معبودة لهم وان رؤساءهم الذين أضلوهم يتبرءون منهم أيضا فيقع التشاحن بينهم فتلعن القادة الاتباع، والأتباع القادة، والأوثان عابديها، والعابدون الأوثان، ويكثر اللجاج والخصام بينهم، راجع الآية 31 من سورة سبأ والآية 31 من سورة ابراهيم والآية 47 من سورة المؤمن والآية 20 من سورة السجدة المارات والآية 165 من البقرة فما بعدها ج 3 العابدين والمعبودين، ويقال لهم حينذاك اخسؤوا لا تكلموا فما لكم من مجيب وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» 25 يحولون دون تعذيبكم البتة. قال تعالى «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» فقط بعد ظهور المعجزة العظيمة في النار، وإلا فهو مؤمن من قبل لأن الأنبياء يولدون مؤمنين فلا يتصور فيهم غير الإيمان من بدايتهم حتى نهايتهم «وَقالَ» ابراهيم بعد ذلك كله وقد أيس من إيمان قومه «إِنِّي مُهاجِرٌ» من هذه البلدة «إِلى» حيث أمرني «رَبِّي» لعدم قدرتي على إقامة الدين بين هؤلاء الكفرة، ولم أجد من ينصرني عليهم لتنفيذ أوامر ربي عز وجل. مطلب تعويض الهجرة لسيدنا محمد وهجرة ابراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام وسببها . وهو أول من سنّ الهجرة من دار الكفر صيانة لدينه، وآخرهم حفيده

محمد صلّى الله عليه وسلم الذي عرض الله تعالى له هجرة جده إيذانا بهجرته من مكة «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أمره «الْحَكِيمُ» 26 الذي لا يأمر إلا بما يكون فيه المصلحة ولا يرد هنا مسألة الأصلح لأن الأمر غير الإرادة والاختيار غير الوجوب، تأمل، وراجع ان شئت الآية 149 من الأنعام المارة وما ترشدك اليه. قال تعالى «وَوَهَبْنا لَهُ» بعد الهجرة «إِسْحاقَ» من زوجته سارة بنت عمه وكان وهب له قبله إسماعيل من جاريته هاجر «وَ» وهبنا لإسحق «يَعْقُوبَ» في حياته «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ» أي ابراهيم ولم يصرح باسمه لشهوته وعلو قدره «النُّبُوَّةَ» إذ لم يرسل الله نبيا من بعده إلا من ذريته «وَالْكِتابَ» جنسه المشتمل على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن إذ أنزلت كلها على ذريته، ولم ينزل بعدها شيء أبدا «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ» وهو دوام الثناء عليه ومحبته من جميع الأمم على اختلاف مللها ونحلها «فِي الدُّنْيا» فلا تجد أحدا إلا ويثني عليه، وبسبب بقاء ذريته يستمر ذكره الحسن الى آخر الدوران «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» 27 للقاء الله عز وجل، فقد جمع الله له خير الدارين، وهو أحق من يكرم بذلك. قالوا ولما نجى الله ابراهيم على الصورة المذكورة في الآية 57 من سورة الأنعام فما بعدها وأذن الله له بالهجرة هاجر من أرض بابل إلى الأرض المقدسة هو وزوجته سارة وابن أخيه لوط، فمروا على حران فأقاموا بها زمانا ثم خرجوا إلى الأردن فدفعوا إلى مدينة فيها جبار من القبط اسمه صارولي، وهو الذي تعرض له في ساره، فمنعها الله منه ومتعها بهاجر القبطية، وليس المراد أنها تدبن بالقبطية إذ لم تكن الديانة القبطية مشروعة إذ ذاك، ويرجع تاريخ تسهية القبط الى سبعمئة سنة بعد الطوفان، وإنما سموا قبطا لأنهم نسبوا الى قبطيم بن مطريم، قالوا وخرج ذلك الجبار من تلك المدينة فورثها ابراهيم وأ ترى بها، وأعطى نصفها الى لوط، ثم تزوج هاجر بأمر سارة فولدت له إسماعيل وهو ابن ست وثمانين سنة وقيل تسع وتسعين أما إسحق فقد ولدته سارة على طريق المعجزة كما مر في الآية 40 من سورة هود المارة، وكان ابراهيم ابن مئة سنة، وقيل وسبع وعشرة سنة كما في الآية 39 من سورة ابراهيم المارة. ثم أمر الله ابراهيم

بالذهاب الى مكة بإسماعيل وامه، واعلمه بأنه قد بوأه حرمه وأنه يبنى من قبله، فأخذهما ووضعهما عند البيت ورجع لأهله كما مر في القصة. روى البخاري عن ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطقة من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتخفي أثرها على ساره، ثم جاء بها ابراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، فوضعها هناك ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قضى ابراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا ابراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له الله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق ابراهيم فدعا بالدعوات المذكورة في الآية 40 فما بعدها من سورته عليه السلام، ثم دعا بالآيات 125 فما بعدها من سورة البقرة في ج 3 وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر اليه يتلوى أو قالت يتلبط فانطلقت كراهية ان ترى حالة ولدها، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم ترى أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما (وصار من شعائر الحج) ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت صوتا وقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غراث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فيحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، وفي رواية قدر ما تعرف، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلم يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم علينا معينا، قال فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه،

(وستأتي كيفية بنائه في تفسير الآية المذكورة آنفا من البقرة ج 3) وان الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا في الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، (أي ولا تناله بشيء) فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا (العائف المتردد حول الماء) فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريّا أو جريين (بالتشديد الرسول) فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا نعم، قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلم فالفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم ونشب الغلام وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ليطالع تركته. أخرجه البخاري بأطول من هذا، وسنأتي على تمام القصة في سورة البقرة إن شاء الله. قال تعالى «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» اللواطة المتناهية في الفحش والقبح والخبث التي ابتدعتموها وحدكم «ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» 28 فهم أول من سنها في الأرض، قاتلهم الله «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ» في أدبارهم «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» الطريق على المارين وتقتلون وتسلبون وتجرون معهم المنكر «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ» مجسكم الذي هو محل مذاكرات أموركم المهمة فيما يتعلق ببعضكم وجيرانكم وغيرهم «الْمُنْكَرَ» اللواطة فينكح بعضكم بعضا فيه، وتتضارطون، وتصفرون، ويحذف بعضكم بعضا بالحصى، وتفرقعون أصابعكم، وتعلكون، وتتبادلون الألفاظ المنكرة البذيئة، وتتهامزون بالخبث والفحش فيها، وهي لم تتخذ إلا للاجتماعات والمداولات بالأمور النافعة كالحرب وصادرات البلاد ووارداتها وحسن الجوار مع الناس والمعاهدات وغيرها، فتوبوا إلى ربكم وارجعوا عن فيكم، واتعظوا بمن سلف منكم، كي لا يحل عليكم عذاب الله. «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» بمقابلة نصحه وتحذيره وإرشاده لما فيه خيرهم «إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 إلى 40]

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» 29 أن ما نحن عليه قبيح مستوجب للعذاب والآية 82 من الأعراف وهي (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم) إلخ، وآية النمل (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) إلخ في ج 1، وكلها تدل على الاستخفاف به والاستهزاء بقوله والسخرية به وتهديده، وكان عليه السلام غريبا عنهم، ولم يأت فيما قص الله عنه أنه دعاهم إلى عبادة الله كما جاء في قصة إبراهيم وشعيب وغيرهما لأنه كان في زمن إبراهيم ومن قومه، وقد سبقه في دعوة التوحيد لله وعبادته ورفض ما سواه، واشتهر أمره عند أهل زمنه، لذلك كانت دعوة لوط لقومه فيما يختص بالنهي عن الفاحشة والأفعال الأخر الخبيثة المار ذكرها فقط، أما إبراهيم وشعيب كغيرهما من الأنبياء فقد جاء إلى قومهما بعد انقراض من كان يعبد الله حال عكوف الناس على عبادة الأوثان، ولم يكن في زمنهما من يدعو إلى الله ولذلك انصرفا إلى دعوة التوحيد والاعتراف بالنبوة والمعاد، فلما أيس منهم على النحر الذي تقدم في الآية 80 من سورة هود والآية 132 من سورة الصافات المارتين والآية 81 من سورة الأعراف في ج 1، دعا عليهم «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ» 30 وحقق «ولي فيهم، فأجاب الله دعاءه. قال تعالى «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى» بإسحاق ويعقوب «قالُوا» أولئك الرسل وهم الملائكة لإبراهيم «إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ» التي فيها لوط «إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» 31 أنفسهم بأعمالهم الخبيثة وإهانتهم رسولهم وتعديهم على الناس، وإنما أخبروه دون أن يسألهم لأنهم يعرفون أن أمر لوط يهمه لقرابته، ولكونه غريبا عمن أرسل إليهم، ولهذا «قالَ» إبراهيم «إِنَّ فِيها لُوطاً» وهو نبي فكيف تهلكونهما «قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» بإعلام الله إيانا «لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لأنها ليست على دينه إنها «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» 32 الباقين مع المعذبين من قومها «وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً» على صفة رجال حسنى الصورة «سِيءَ بِهِمْ» لوط واغتم خوفا من أن يتعدوا عليهم «وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» طاقة، تقول ضاق ذرعي وضاقت يدي إذا عجزت عن تدبير ما تريده، ويقابله رحب ذراعي ويدي إذا كان ما تريده

مطلب تحريم اللواطة وجزاء فاهلها ومخازي قوم لوط والهجرة الشريفة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

مطبقا عليه، وإذا فقد الطاقة قال ضاق ذرعي وذراعي ويدي، لأن الأصل في هذا إذا كانت يد الرجل طائلة نال ما لا يناله قصير اليد أي الذراع فصار مثلا بالعجز كما كان لفظ رحب مثلا للقدرة. فلما عرفت الملائكة ذلك منه لما غشى وجهه من الحزن والكآبة عرفوه بأنفسهم كما مر في الآية 80 من سورة هود المارة «وَقالُوا لا تَخَفْ» علينا منهم «وَلا تَحْزَنْ» على ما نفعله بهم «إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» 33 لأنها منهم وراضية بفعلهم، فانزاح عن وجهه الاكفهرار وقال ماذا تفعلون بهؤلاء الفسقة العتاة؟ قالوا «إِنَّا مُنْزِلُونَ» بامر ربنا «عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً» عذابا عظيما لم يحلموا به «مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» 34 ويتجاوزون حدود الله ويخرجون عن طاعة رسوله ويتعدون ما أحل إليهم لما حرم عليهم، فخسف الله بهم وبقراهم ورجموا بالحجارة، كما سبق بيانه في القصة. واعلم ان الضمائر في هذه الآيات وإن كانت مضافة للملائكة فهي في الحقيقة الى الله لأنهم جاءوا بأمره، وفعلوا بأمره، وهو الفاعل الحقيقي كل شيء قال تعالى «وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها» في قراهم بعد تدميرها «آيَةً بَيِّنَةً» يراها من يمر بها لتكون عظة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 35 إن خرابها كان بسبب فسق أهلها، وذلك بعد أن أمروا لوطا وأهله بالهجرة عنها. مطلب تحريم اللواطة وجزاء فاهلها ومخازي قوم لوط والهجرة الشريفة لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم. واعلم أن في هذه الآيات من ذم اللواطة ما لا يخفى فهي كبيرة إجماعا، وقد نصوا على انها أشد من الزنا حرمة، وجاء في شرح المشارق للأكمل أنها محرمة شرعا وعقلا وطبا، وإن عدم وجود الحد عليها تغليظا لأن الحد مطهر، وهي لخبثها لا يطهرها الحد، إذ لو كان لجعل لها الشارع حدا كالزنى والسرقة والشرب وغيره، ولذلك فإنها مستقبحة مستقذرة، وقد طهر الله الجنة من وجودها بل ورودها على خواطر أهلها المطهرين، وذلك ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعنها ولعن فاعلها وشريكه فيها، والله استبعدها بقوله (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) الآية 80

من الأعراف في جزء 1 وسماها خبيثة بقوله (كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) الآية 75 من الأنبياء المارة وسماها هنا فاحشة، فالجنة منزهة عنها، وأهلها مبرءون منها، ولا يرد على هذا خبث الخمر في الدنيا ووجودها في الآخرة، لأن خبثها في الدنيا ناشيء عن إزالتها العقل الذي هو عقال عن كل خبث، وخمر الآخرة لا يزيله، قال تعالى (لا فِيها غَوْلٌ) الآية 49 من الصافات المارة، وجاء في الفتوحات المكية أن أهل الجنة لا أدبار لهم، لأن الدبر إنما خلق لخروج الفضلات منه في الدنيا، ولا فضلات في الجنة. وعلى هذا فعدم وجودها في الجنة ظاهر طبعا، ولا أظن أن ذا غيرة ومروءة تسمح نفسه أن يلاط فيه في الدنيا وهي دار فسق فكيف تتصوره نفسه في الجنة؟ وقدمنا في الآية 84 من سورة الأعراف في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث، وفي الآية 73 من الزخرف المارة بيان مضار هذه الفعلة القبيحة وما يستحقه فاعلها وما جاء في حقه من الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء فراجعها. قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» أي اذكر لقومك يا محمد بعد هذه القصص الثلاث قصته إذ أرسلناه كما أرسلنا من قبله ومن بعده «فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده واتركوا الأوثان «وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ» اعتقدوا صحته وتوقعوا حلوله «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» 36 حال مؤكدة لأن العثو هو الفساد «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» الحاصلة من هول صيحة الملك «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» 37 على ركبهم باركين خامدين، أجساد بلا أرواح. راجع الآية 93 من الأعراف ج 1 تقف على قصتهم «وَعاداً وَثَمُودَ» أهلكناهم أيضا لتكذيبهم أنبياءهم هودا وصالحا «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ» يا قوم محمد «مِنْ مَساكِنِهِمْ» في الحجر واليمن تشاهدونها بأسفاركم، ففيهما مزدجر وعبرة وعظة لمن يعقل. ثم أشار تعالى إلى سبب إهلاكهم بقوله «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» الرديئة وعدم إنصاف ذوي الحقوق «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» الحق بانخداعهم لوساوسه «وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» 38 ذوي بصر وبصيرة لما عملوه في الدنيا من البناء والجنان والصنايع وغيرها ولكن لم ينتفعوا ببصيرتهم وأبصارهم، لأنهم صرفوها للدنيا فقط لذلك لم يصغوا لنصح أنبيائهم، راجع قصتهما في الآيتين 72/ 84

من الأعراف في ج 1 أيضا «وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ» أهلكناهم أيضا لإصرارهم على بغيهم وعتوهم «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ» 39 أمرنا ولا منفلتين منه، بل أدركهم وأهلهم جميعا، راجع قصصهم في الآية 84/ 63 من سورة القصص والشعراء في ج 1، «فَكُلًّا» من هؤلاء الأقوام «أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً» كقوم لوط بعد الخسف «وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ» كقوم صالح «وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ» كقارون ورفيقه «وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» كقوم نوح وهامان وفرعون وقومه «وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بما أوقعه فيهم حاشاه «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 40 لعدم طاعتهم رسلهم واستعمال عقولهم فيما لم تخلق له. هذا، واعلم أن الله تعالى قصّ على نبيه في هذه الآيات ما لقيه الأنبياء من أقوامهم وما قابلوهم به إعلاما بأن شأنه شأنهم وشأن أقوامهم، وإيذانا بأن النبي يصاحب قومه إذا آمنوا به ويهجرهم إذا كذبوه لينزل بهم عذاب الله، لأن قدرة الله ورحمته أبتا أن تعذب قوما ونبيهم بينهم، وقد أخبر الله جل شأنه حبيبه محمدا كيفية مهاجرة إبراهيم ولوط وغيرهما بسبب ما لقيا من أقوامهما وذكر له ما وقع لسائر الأنبياء من أقوامهم اشارة لحضرته بأن يهاجر هو أيضا وبترك قومه ووطنه أسوة بهم، وقد أشار تعالى إلى السبب المفضي إلى الهجرة في الآيتين 6/ 36 من الأنفال الآتية في ج 3، حتى إذا هاجر ونزلت عليه يزداد طمأنينة، وبما أن هجرته صلّى الله عليه وسلم وقعت بعد نزول هذه السورة بقليل بناء على أمره له بها فتذكر خلاصتها على أصح ما جاء فيها بصورة مختصرة، وذلك أن قريشا لما رأت حزم النبي صلّى الله عليه وسلم وعزمه يشتد كلما زادوا بأذاهم له ولأصحابه خافت من أن يعظم أمره إذا تركوه وشأنه ولا يستطيعون رده (وقد حقق الله خوفهم) فاجتمع رؤساء قريش في دار الندوة دار قصي بن كلاب إذ كانت قريش لا تبت بأمر إلا فيها ليتشاوروا في أمر محمد، إذ علموا أن فريقا من أصحابه هاجر إلى المدينة بعد أن هاجر فريق منهم إلى الحبشة وصار لهم شيعة من غيرهم وأصابوا من أهلها منعة مما زاد في حذرهم، وقد أطلقوا على اليوم الذي اجتمعوا فيه لهذا

(يوم الرّحمة) وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأبو سفيان وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ومنبهة ومندة ابنا الحجاج وأمية بن خلف، وقد تمثل لهم إبليس في صورة شيخ فتغلغل بينهم، قالوا من أنت؟ قال من نجد سمعت باجتماعكم فأحببت حضوره ولن تعدموا مني نصحا، فتركوه نظرا لشيخوخته لعنه الله، وكانوا لا يحضرون مذاكراتهم إلا من تجاوز الأربعين، ثم بدأوا المشاورة في كيفية التخلص منه صلّى الله عليه وسلم (وقد جاءهم رحمة) فأدلى كل منهم برأيه، فكان رأي أبو البحتري حبسه حتى يموت، فرد عليه النجدي بأنكم إذا حبستموه يخرج أسره من وراء الباب ويخلص منكم بواسطة أصحابه، ورأى هشام أن يحمل على بعير ويطرد من البلاد، فقال النجدي إنه يفسد غيركم كما أفسدكم ويستميل قلوب من يحل بهم بحلاوة كلامه وطلاوة لسانه وحسن خلقه وكمال أدبه فيغزوكم بغيركم ويخرجكم من دياركم، وقال أبو جهل نأخذ من كل بطن من قريش شابا وتسلطهم عليه فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في العشائر كلها ولا أظن أن بني هاشم يقدرون على حرب كل القبائل فيصار إلى الدية فنوديه كلنا، قصاح الملعون هذا هو والله الرأي الصائب الذي ما بعده رأي، ولله در صاحبه، فأجمعوا على ذلك وتفرقوا. كان الشيخ محمد الراوي العاني والد الشيخ إبراهيم نزيل بغداد قدس الله سرهم من العارفين الكاملين، وكان أحد مريدي ابن عمه الشيخ أحمد الراوي دفين دير الزور والد الشيخ عبد الوهاب المقيم بدير الزور يسمى (وردي) وكان يرى ما يرى ويذكر ما يراه للناس مما هو غير معقول، فأحضرة عند حضوره إلى دير الزور وحذره أن يذكر ما يراه فلعله أن يكون من تسويلات إبليس عليه اللعنة، ثم أرسل له بعد ذهابه أبياتا من جملتها: قولوا لملاوردي ... سرّ الوجود عندي فليكن على بصيرة ... من الشويخ النجدي (لقبه بالنجدي أخذا من هذه القصة) . ثم انهم انتخبوا شبابا من فرقهم وأخبروهم بما قر رأيهم عليه وأرسلوهم ليحيطوا بدار محمد، حتى إذا خرج فتكوا به كلهم بالاشتراك، فنزل جبريل عليه السلام بالوحي على حضرة الرسول وأخبره بما بيته له قومه وأن

الله تعالى أذن له بالهجرة إلى المدينة وحذره من أن يبيت في مكانه، فألهمه الله أن يأخذ قبضة من تراب عند خروجه، فأخذها وخرج من بيته متوكلا على ربه، ومر من بينهم فلم يره أحد منهم، إذ أخذ الله أبصارهم، فنثر على رءوسهم التراب وكان يقرأ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الآيتين 8/ 9 من سورة يس ج 1، وكان أرسل إلى علي كرم الله وجهه وأخبره الخبر وخلفه بمكانه وعلى مكة كي يؤدي الأمانات والودائع لأهلها، لأن الناس كانت تأمنه على ما عندها لصدقه وأمانته وتسميه الأمين، وذهب إلى بيت أبي بكر وأخبره الخبر، فقال الرفقة يا رسول الله، قال نعم، فأخذه وذهب إلى الغار غار ثور واختبأ به، وبات شبان قريش ينتظرون خروجه من الدار ليقتلوه، لأنهم لم يتجاسروا على الدخول عليه في بيته لهيبته، ولأن البيوت كانت محترمة عندهم، ومن هنا أخذت قاعدة عدم الدخول على البيوت لإخراج من يختبىء فيها من المجرمين حرمة لأهلها وجواز الإحاطة بها من قبل الشرطة والدرك، ولم يعلموا أنهم باتوا يحرسون عليا عليه السلام الذي فادى رسول الله بنفسه، فلما أصبحوا خرج علي فثاروا عليه ثورة رجل واحد ليقتلوه كما أوصاهم رؤساهم، فإذا هو علي، فقالوا له أين صاحبك؟ قال لا أدري وأنشد كرم الله وجهه يشير إلى ما منّ الله به عليه، فقال لا فضّ قوه: وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر وبات رسول الله في الغار آمنا ... وقد سار في حفظ الإله وفي ستر وبت أداعبهم وما يتهمونني ... وقد وطنت نفسي على القتل والأصر ولما سقط في أيديهم وتيقنوا أنهم خابوا فيما بيّتوه له ولم يعلموا كيف أفلت منهم وزاد أساهم حينما رأوا التراب على رءوسهم وعرفوا أنه هو الذي حثاه عليهم وأنه لم يعبأ بهم ولم يكترث بمكرهم اقتفوا أثره فلم يجدوه ولم يقعوا على خبره، وأرسلوا الرسل في طلبه يمينا وشمالا فلم يعثروا عليه، ثم قصدوا الغار فرأوا العنكبوت معشعشا عليه فقالوا لو دخله لتمزق نسيج العنكبوت. وسنأتي على بقية هذه القصة

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 إلى 50]

الشريفة بعد تفسير سورة المطففين الآتية لأن محلها هناك، وإنما سبقنا بذكرها هنا لمناسة ذكر الهجرة من إخوانه الأنبياء المار ذكرهم. قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» ينصرونهم في الدنيا ويشفعون لهم في الآخرة «كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً» لتأوي إليه وهو في غاية الضعف والوهاء لا يدفع حرا ولا بردا، وإنما اتخذتها شركا لصيد الذباب وشبهه «وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 41 ماهيته، لأن الرياح تمزقه واللمس يخرقه، وكذلك هؤلاء الذين اتخذوا الأصنام آلهة فإنها لا تغنيهم شيئا ولا تجلب لهم في الدنيا خيرا ولا تدفع عنهم في الآخرة ضرا، لأنها أو هى شيء يعبد، وأوهن شيء يقصد، وفي هذه إشارة إلى أن هذه الدنيا فانية ويكفي فيها لا هلها ما يكفي العنكبوت، وإيذان بأن من أصحابه من يلافي في هجرته شدة وعلة وأذى وهوانا، وهذا مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد الوثن بالقياس الى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت يتخذ بيتا من جلده ولعابه بالإضافة الى رجل يبني بيتا من حجر أو حديد أو اسمنت، وكما انك إذا استقريت بيوت الحيوانات والحشرات كافة تجد أوهنها من غير شك بيت العنكبوت فكذلك إذا استقريت عامة الأديان تجد بلا مراء أضعفها عبادة الأوثان. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» هذا توكيد للمثل أي أن الذين يدعونهم ليسوا بشيء «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على كل شيء «الْحَكِيمُ» 42 بكل شيء. وفي هذه الجملة تجهيل لهم إذ عبدوا الأحجار التي لا علم لها ولا قدرة وتركوا عبادة القادر العالم، وتضليل لعقولهم على ترك عبادة الخالق الرازق وعبادة المخلوقين ومخلوقيهم الذي هو لا شيء «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ» التي ضربناها بتشبيه أحوال الكفرة الموجودين بالكفرة السابقين ومعبوديهم في بيت العنكبوت بينها و «نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» الحاضرين ليتدبروها ويتصفوا بها «وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» 43 العارفون لأنهم أهل النظر والتدبر راجع الآية 42 من سورة الروم المارة روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه.

مطلب في العنكبوت وأنواع العبادة والصلاة وفوائدها والذكر

مطلب في العنكبوت وأنواع العبادة والصلاة وفوائدها والذكر . قالوا والمراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء لصيد الذباب وغيره، لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج بالليل كسائر الهوام وهي من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك، لما أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلّى الله عليه وسلم: العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى، فمن وجدها فليقتلها. فإنه حديث ضعيف كما أشار إليه الدميري وهو ليس بحجة، وكذلك ما خرجه الخطيب عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخلت أنا وأبو بكر العار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن. كما ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور لا يحتج به أيضا، إذ لم تعلم صحته، وكل ما لم تتحقق صحته لا يصلح للاحتجاج لاشتراط القطع بصحة ما يحتج به في الأحكام القولية والعقلية، وعلى فرض صحته فإنه خاص بذلك العنكبوت الذي فعل ما فعل بإلهام من الله عز وجل لا مطلق عنكبوت، وقد نص العلماء على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها، والأصل في الأشياء الطهارة على أن الدميري ذكر أنها تخرجه من خارج جلدها لا من جوفها، والله أعلم بحقيقة الحال. ومثله النحل إذ لم يعرف على الضبط أن العسل هل هو من فمه أو من دبره، راجع الآية 69 من سورته المارة، وذكروا أنه يحسن إزالة بيتها من البيوت لما أسنده الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر، فإن صح هذا عنه فذاك وإلا فإزالته حسنة لما فيها من النظافة المندوبة شرعا في كل شيء. وتاء عنكبوت مثل تاء طالوت وهاروت للمبالغة ويقع على الواحد والجمع والمؤنث والمذكر، راجع الآية 75 من سورة الأنعام المارة ولها بحث في الآيتين 147/ 122 من سورة البقرة في ج 3. قال تعالى «خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لا باطلا ولا عبثا ولا لعبا بل لحكمة مراعيا بها مصالح خلقه لا شتمالها على ما يتعلق بمعاشهم وشواهد دالة على شؤونه عز وجل التعلقة بذاته وصفاته ومساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم بدليل قوله «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق البديع والصنع العجيب «لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» 44 وعظة للموقنين، وإنما خص

المؤمنين مع أن عموم الهداية والإرشاد في خلقهما يتحقق للكل، لأنهم هم المنتفعون بعبرها وغير المؤمن يقتصر نفعه فيهما على ظاهر الدنيا وقد يزداد كفرا إذا نسب إليهما التأثير الفعلي الذاتي، أما المؤمن فيزداد إيمانا بنسبة كل ما في الكون إلى خالقه فينتفع في الدنيا والآخرة. قال تعالى «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» واستمر على تبليغه وداوم على تلاوته لتزداد تقربا من الله، وذلك أن الكامل يقبل الكمال وهو صلّى الله عليه وسلم يترقى في الكمالات إلى يوم القيامة، بل إلى يوم يلاقي ربه في الجنة المعدة لحضرته، فلا يقال إنه غير محتاج إلى دعاء أمته لمخالفته قوله تعالى (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآية 57 من الأحزاب في ج 3، وأما أمره بدوام تلاوة القرآن لأن في تلاوته تذكرا لما في تضاعيفه من المعاني، وحملا للأمة على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن. الأخلاق ومكارم الآداب، وتذكيرهم بما لهم وعليهم «وَأَقِمِ الصَّلاةَ» أدأب على إقامتها، وجاء هذا الأمر متضمنا أمر أمته بها لأنهم تبع له، وقد خصّها بالذكر لأن ما يختص بالعبد من العبادة ثلاث: الأولى عبادة قلبية وهي الاعتقاد الحق، وعبادة لسانية وهي الذكر الحسن، وبدنية وهي العمل الصالح، فالاعتقاد لا يتكرر لأن من اعتقد شيئا لا يعتقده مرة أخرى بل يستمر اعتقاده، والذكر الحسن والعبادة البدنية يتكرران، وكلها توجد في الصلاة، فمن أقامها فقد أقام العبادات بأنواعها إلى ربه عز وجل. وانظر إلى ما علل به هذه العبادة بقوله الجليل «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» راجع الآية 32 من الأعراف في ج 1 تجد معنى الفواحش كلها وما يتعلق بها أما المنكر فهو ما لا يعرف في الشرع وينكره العقل، وإنما كانت الصلاة الحقيقية ناهية عن ذلك لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والتهليل والقراءة والوقوف بين يدي الإله العظيم والركوع لهيبته والسجود لجلاله والخشوع لمجده والخضوع لكبريائه، فمن كان مراعيا لها محافظا على شروطها وأركانها جرته إلى طرق الخير ونهته عن كل فاحشة ومنكر، وصارت كأنها تنادي فاعلها: لا تعص ربا هو أهل لما أتيت به، وهو المستحق لأن يعبد ويشكر. روي عن أنس قال: كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم لم يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه،

فذكر ذلك لرسول الله، فقال إن صلاته ستنهاه يوما، فلم يلبث أن تاب وحسنت توبته واستقام حاله. وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعدا. وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه. وروي عن جابر: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق، قال ستنهاه قراءته، وفي رواية: انه قيل يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال إن صلاته لتردعه على كل حال. وعليه فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها. وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو إنا نرى كثيرا من المرتكبين الفحشاء والمنكر يصلّون ولا ينتهون لأن منهم من هو غافل عما يراد منه حال قيامه بين يدي ربه لاه عن ذلك، فيكون بالمعنى المار ذكره، ألا ترى أن الله تعالى قال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الآية 90 من سورة النحل المارة والناس لم يتمثلوا ولم ينتهوا، وليس نهي الصلاة بأعظم من نهي الله، تدبر. وقيل إن الأمر والنهي لا يستلزمان الائتمار والانتهاء. وقيل إن النهي لا يستلزم الانتهاء، وهذا توهم باطل وتخيل عاطل، لا يشهد له العقل، ولا يؤيده النقل، وما قيل إن نهي الصلاة عبارة عن الزمن الذي يشغله المصلي فيها لما ورد ان في الصلاة لشغلا ليس بشيء أيضا، وما جاء بالخبر ان في الصلاة لشغلا عن كل ما يلهي عنها وعن كل ما في الدنيا بالنسبة لحالة المصلي لأن منهم من إذا دخل في الصلاة تمخضت ذاته لخالفها بحيث لو ضربته بالسيف لما أحسّ، ومنهم من لا تحسبه في الصلاة، كما جاء عنه صلّى الله عليه وسلم أن الرجل إذا لم يتم سجودها ولا ركوعها تلف صلاته كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها، فتقول له ضيعك الله كما ضيعتني. والقول الفصل ان الصلاة المقبولة عند الله تعالى هي التي تنهى صاحبها، والانتهاء علامة القبولة، وان من يأتي بها ولا ينتهي فلو لم يكن يصلي لكان أشدّ إتيانا للفحشاء وأكثر فعلا للمنكر، والمراد بالصلاة هنا المكتوبة، راجع الآية 5 من سورة المؤمنين المارة، «وَلَذِكْرُ اللَّهِ

أَكْبَرُ» من جميع الطاعات، وأفضل وأعظم ثوابا وأكثر أجرا، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبق المفردون (بتشديد الراء وتخفيفها) يقال فرد الرجل إذا تفقه واعتزل الناس وحده. وقرىء بالتخفيف والتشديد أبلغ وأتم، قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. وروى البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده. وروي أن أعرابيا قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى (ولذكر الله أكبر) ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه. وروي مرفوعا عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم وهذا مما لا شبهة فيه لأن الله يذكر من ذكره قال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) الآية 152 من البقرة في ج 3، وقال صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: من ذكرني ذكرته في ملا خير من ملائه. وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له، لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم لا يبقى، ولن تبقى مع ذكر الله معصية. وقال سلمان ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل، فقد قال عليه الصلاة والسلام ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها لكم عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال ذكر الله. وأخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء بلفظه ومعناه. وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل، قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع. لأن الله تعالى يقول (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) ، وهذا لأنه لو لم يذكر الله لم يعرف فضل الجهاد، فذكر الله هو السائق للجهاد ولكل عمل صالح. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عزة قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما أي العمل أفضل؟ قال ذكر الله أكبر، وما قعد قوم في

بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره، وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهل الله تعالى له طريقا إلى الجنة. وما قيل إن المراد بذكر الله هنا الصلاة، وأن المراد بذكر الله أكبر ذكره في الصلاة ليس بشىء، وهو عدول عن الظاهر عبثا. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» 45 فيما بينكم وبينه، وبينكم وبين أنفسكم، وبين الخلق في صركم وجهركم مما هو خالص لوجهه وما هو مشوب بغيره، لا يخفى عليه شيء، فيثيبكم على الخير ويعاقبكم على الشر إن شاء هذا ولما أمره تعالى بالهجرة عند نزول هذه السورة وعلم أنه سيواجه في هجرته أهل الكتاب وأنهم يجادلونه في كتابه وأصول دينه لأنهم قوم معاندون، شرع يعلمه كيف يكون معهم، فقال تعالى جل قوله «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ» من اليهود والنصارى إذ لا يوجد غيرهما أهل كتاب، وما عداهما وثنيون مشركون كافرون بأصول الأديان، لأن ذوي الأدبان التي كانت عند بعثة الرسول ستة: الإسلام والنصرانية واليهودية والصابئة والمجوس والمشركون، راجع الآية 16 من سورة الحج في ج 3، الخطاب لحضرة الرسول وأصحابه تبعا له أي أنكم قادمون بهجرتكم هذه إلى بلدة فيها أهل كتاب مجبولون على حب الجدال لما وقر عندهم مما في الكتب المنزلة على أنبيائهم، ويزعمون أنهم أدرى من غيرهم فيها، فإذا جاءوك ليجادلوك فقابل خشونتهم بلينك، وغلاظتهم بلطفك، وجفاهم بعطفك، وأمسك بادرة الغضب بجبال الكظم، واجعل إقبالك عليهم بدل صدهم عنك، ووصلك بمقابل هجرهم إياك، وعطاءك تجاه منعهم لك، وتقرب منهم كلما تباعدوا عنك. وهذا معنى قوله تعالى «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» قال تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية 34 من سورة فصلت المارة، أي لا تجادلهم إلا في هذه الصورة، وادفع مشاغبتهم بالنصح، وسورتهم بالإناءة، ولغطهم بالإرشاد راجع الآية 125 من سورة النحل المارة، واعمل بما بيناه هناك وعضّ عليه بالنواجذ ثم استثنى من المجادلين نوعا خاصا وهم المذكورون بقوله «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» وهم المجاوزون الحدّ في العناد والاعتداء الذين لم يلتفتوا إلى النصح، ولم ينفع

فيهم الرفق، فاستعمل معهم الفلسفة. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية 30 من سورة التوبة في ج 3، ولا مجادلة أشد من السيف، فهو قيل لا يعتد به ولا ينظر إليه، إذ لا يتجه على ما نحن فيه، لأن المراد بالجدال المناظرة وكونها على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره في مبادئ الدعوة للرشد، قال في مجمع البيان الصحيح إنها غير منسوخة. وقال بعض الأجلة إن المجادلة بالحسنى أوائل الدعوة مطلوبة، لأنها تتقدم المجادلة بالعنف، والمجادلة بالشدة تتقدم القتال، فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية. وأما كون النهي المستفاد من لا في (ولا تجادلوا) المحتج به صاحب هذا القيل من كونه يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكره من السبب، ويدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى، فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال في مكة ليس بصحيح، لأنه مسكوت عنه، تأمل. وقرأ ابن عباس الا بالتخفيف على أنه حرف تنبيه وأداة عرض دالة على الطلب بلين ورفق، أي جادلوهم بالتي هي أحسن. وعلى هذه القراءة لا يرد ما أورده مدعي النسخ البتة «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» وآمنا بما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل والزبور من قبل الله لا التي بأيديكم كلها، لأنكم حرّفتم وبدلتم بعضها قصدا، وبعضها قد غيرت معناها الترجمة، وهذا القول نوع من المجادلة بالأحسن، أخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون كتبهم بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية 136 من البقرة ج 3، زاد في رواية: فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم، ولأن التصديق والتكذيب ليسا نقيضين، إذ يجوز ارتفاعهما بالشك. وليعلم أن هذا الحديث الشريف صدر من النبي صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية لا مقارنا لها، لأنها نزلت بمكة، وهذا القول بالمدينة، وقدمنا في الآية 17 من سورة السجدة المارة أن الأحاديث قد تذكر لمناسبة بعض الآيات سواء كان بعد نزولها أو قبله، مما يدل على معناها، وقولوا لهم أيضا «وَإِلهُنا

مطلب هل تعلم النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة والقراءة أم لا، والنهي عن قراءة الكتب القديمة:

وَإِلهُكُمْ واحِدٌ» فرد صمد لا شريك له ولا مثيل ولا ضد ولا ند ولا نظير «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» 46 مطيعون منقادون له وحده، وفي هذه الجملة تعريض لهم باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله «وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا على غيرك من الأنبياء كتبا «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» القرآن الذي منه هذه الآية الناطقة بما ذكر «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» قبلك من الطائفتين المذكورتين العالمين العاملين المصدقين فيهما كما أنزلناهما «يُؤْمِنُونَ بِهِ» بالقرآن المنزل عليك لأنه جاء مصدقا لما فيهما، وهذا خاص بخواصهم الحريّين بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه المنصفين، ولا يقال على هذا التفسير تكون الآية مدنية، لأن عبد الله بن سلام أسلم بعد الهجرة بكثير، بل الآية مكية على ما سمعت، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن إيمانهم به ترتب على إنزاله على الوجه المذكور، وفيها إعلام من الله تعالى بإسلامهم في المستقبل، لقوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِهِ) ولم يقل آمنوا ليتحمل ذلك القول ويحتج به قائله، تدبر. «وَمِنْ هؤُلاءِ» قومك أهل مكة ومن حولها الذين رغبوا بإخراجك وعنك وأحبوا قتلك «مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أيضا فكن مطمئنا بذلك يا سيد الرسل، إذ ترى ما تقرّ به عينك «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا» هذه المنزلة عليك في هذا الكتاب «إِلَّا الْكافِرُونَ» 47 بجميع الكتب لأن الجحود لا يكون إلا بعد المعرفة ولهذا شنع عليهم وسماهم كافرين لتوغلهم بالكفر وإصرارهم عليه وتصميمهم على تكذيبك، قال الراغب صاحب السفينة: الجحد نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه، وما قيل إنها في حق كعب بن الأشرف وأصحابه لا يصح، لأن الآية مكية، وأولئك بالمدينة، على أنهم يدخلون في مضمونها. مطلب هل تعلم النبي صلّى الله عليه وسلم الكتابة والقراءة أم لا، والنهي عن قراءة الكتب القديمة: قال تعالى «وَما كُنْتَ تَتْلُوا» يا محمد «مِنْ قَبْلِهِ» أي الكتاب المنزل عليك «مِنْ كِتابٍ» أصلا لأنك لم تقرأ «وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ»

لأنك أمي لا تكتب، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفي عنه صلّى الله عليه وسلم من الخط، فهو مثل العين في قولك نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز «إِذاً» لو كنت تقرأ وتكتب «لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» 48 من قومك وغيرهم ولا تهموك بأنك تنقل من كتب الأقدمين وتتلو عليهم ما تحفظه منها، وإلا لاحتج أهل الكتابين عليك بأنك لست نبي آخر الزمان، لأنه موصوف بكتبهم أنه أمي، وإذا ثبت أنك أمي فليس لهم أن يشكو برسالتك وختمك للأنبياء، ولا يرتابوا بالكتاب الذي أنزل إليك، لأن هذا كله مذكور في التوراة والإنجيل المنزلين من قبلنا على أنبيائهم، تقدم الله تعالى إلى رسوله في هذه الآية ليعلمه أنه قادم في هجرته على أناس مذكور في كتبهم نعته على ما هو عليه، وأخبره فيها بأنهم إذا قالوا لك في جملة مجادلتهم أنك لست نبي فقل لهم كيف، وقد أنزل الله علي كتابا، وإذا قالوا لك لعلك تعلمته فقل إني أمي، وأهل مكة ومن حولهم يعلمون ذلك لأني لم أبرحهم ولم أتعلم الكتابة من أحد، ولم أكن قارئا، ووصفي موجود لديكم بما يثبت أني خاتم الأنبياء، وهذا مما يزيل الشبهة فيّ، ولو كنت أقرأ وأكتب لشك فيّ مشركو العرب الذين لم يتركوا شبهة إلا وألصقوها فيّ، ولا خصلة تنافي نبوتي إلا وصموني بها، إلا أنهم لم يتهموني بالقراءة والكتابة لتحقق عدمهما فيّ لديهم، وقد وصف أهل مكة بالبطلان باعتبار ارتيابهم بنبوّته ووصفهم له بالسحر والكهانة والتلقي من الغير، وكفرهم به وبكتابه، ومن المعلوم المحقق أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم أمي كما هو الواقع، ومن قال بخلاف هذا فقد خالف كلام الله المصرح بأميته في الآية 157 من الأعراف في ج 1 صراحة لا تقبل التأويل، وان أهل مكة الذين كانوا يلتقطون الزلات عليه لو علموا منه ذلك لما سكتوا، بل لأداعوا عنه ذلك، كيف وأنه لما كان يجتمع مع الأغيلمة والعبيد اتهموه بأنه يتعلم منهم مع أنهم عجم لا يفقهون العربية المطلقة، فكيف بالفصحى؟ وقد رد الله عليهم في الآية 101 من النحل المارة كذبهم هذا لهذه العلة، فراجعها، فلهذا إن القول بأني غير أمي مخالف لصراحة القرآن، ومخالفته كفر محض لأن كل من ينكر حرفا منه دون تأويل يكفر، وتعليم مثل هذا القرآن ودراسته تحتاج إلى زمن طويل لما فيه من تفصيل الأحكام

وبلاغة الكلام وفصاحة الألفاظ، ولا يمكن تلقيه بحالة لم يطلع عليها أهل مكة لأني بين أظهرهم صباح مساء وليل نهار، وهذا قبل النبوة لم يختلف فيه اثنان، أما بعدها فقد وقع اختلاف في تعليمه القراءة فقط، وهذا العلم بالقراءة على طريق المعجزة، ولهذا فإن ما جاء عن مجاهد والشعبي أنه عليه الصلاة والسلام ما مات حتى كتب وقرأ، وروى هذا ابن أبي شيبة أيضا، وإن حجتهم ما رواه ابن ماجه عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، الحديث. والقدرة على القراءة فرع عن الكتابة، وما جاء في صحيح البخاري وغيره عند كتابة صلح الحديبية ما لفظه فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث المشهور، وقال بهذا أبو ذر وعبد بن أحمد الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمّاني وصنف فيه كتابا، وسبقه إليه ابن منّه، هذا وإن معرفته الكتابة بعد أمّيّته ونبوته صلّى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، لهذا قال بعضهم صار صلّى الله عليه وسلم يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها، وعدم معرفتها قبل بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ، وذلك بإقدار الله تعالى إياه بدون تعلم من أحد، وهذا معجزة له أيضا وأول ذلك قراءة ما هو مكتوب على باب الجنة المار ذكرها، وقوله هذا قد يتجه في القراءة ، أما في الكتابة فلا، لما جاء في الحديث الصحيح: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وعليه إن كل ما ورد من أنه كتب يكون معناه أمر بالكتابة، كما يقال كتب السلطان بكذا لفلان، ومن المعلوم أن للسلطان كتبة يكتبون له ذلك بأمره، لا هو نفسه، وقد جاء في الآيتين 94/ 105 (وإنا له لكاتبون) (ولقد كتبنا في الزبور) من سورة الأنبياء المارة، فالمراد بالأولى والله أعلم حفظته الموكلون بتسطير أعمال الخلق، وفي الثانية أمره للقلم بكتابة ما كان وما يكون الذي من جملته ما كتب في الزبور كما بيناه أول سورة القلم في ج 1. هذا، وتقدم قوله تعالى (من قبله) على قوله (ولا تخطه) كالصريح في أنه عليه الصلاة لم يكتب مطلقا.

أما كون القيد المتوسط راجعا إلى ما بعده فغير مطّرد، إذ لا يجوز رجوع الضمير إلى ما بعده، وإذا كان لا يجوز لعدم اطراده فلم يسلم رجوعه إلى ما بعده. وقد ظن بعض الأجلّة رجوعه لما قبله ولما بعد فقال يفهم من الآية أنه صلّى الله عليه وسلم كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة، إلا أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجيّة المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيّته، ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ليس نصا في نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وكذا أكثر من بعث إليهم، وهو بين ظهرانيهم من العرب أمّيّون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وتأويل كتب أمر بالكتابة خلاف الظاهر كما لا يخفى. وجاء في شرح صحيح مسلم إلى النواوي رحمه الله نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية المذكورة أعلاه (وليس يحسن يكتب فكتب) كالنص في أنه صلّى الله عليه وسلم كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه، إذ لا صارف عن الحقيقة، ومن المعلوم أنه لا يجوز ترك الحقيقة إلا إذا تعذرت. هذا غاية ما أحتج به، وخلاصة القول أن كتابته صلّى الله عليه وسلم وقراءته على فرض صحتها فهي من معجزاته كما علمته مما ذكرناه قبلا، لا عن تعليم من أحد ولما لم يصح عنه أنه كتب كتابا ما في جملته مكاتباته الملوك وغيرهم ومعاهداته معهم، ولم يثبت شيء من ذلك البتة، فما وقع منه عند كتابته صحيفة صلح الحديبية يكون أيضا من قبيل المعجزة ليس إلا، فإن الحديث الوارد من أنه صلّى الله عليه وسلم لم يمت حتى تعلم الكتابة ضعيف، بل لا أصل له، وما زعمه القاضي وأبو الوليد الباجي ومن تابعهما من أنه تعلم الكتابة أو كان يعلم الكتابة أخذا مما رواه البخاري في حادثة الحديبة هو زعم فاسد، وكذلك من قوله صلّى الله عليه وسلم (رأيت مكتوبا على باب الجنة) إلخ، لأن ذلك كله من باب المعجزة له صلّى الله عليه وسلم كما سبق لك تفصيله، وكذلك يؤوّل قوله صلّى الله عليه وسلم إخبارا عن الدجال بأنه مكتوب بين عينيه كافر، تأمل، ثم تدبر، وإياك أن يلحقك شك أو يخامرك ريب أو تطرأ عليك مرية. قال تعالى «بَلْ هُوَ»

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 إلى 60]

القرآن لا يرتاب فيه لوضوح أمره ولأنه «آياتٌ بَيِّناتٌ» لا تحتاج للروية ثابتات «فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه، وبسبب رسوخه في الصدور لا يقدر أحد على تحريف أو تغيير أو تبديل شيء منه البتة، لأن الله تعالى تعهد بحفظه من ذاك، راجع الآية 42 من سورة السجدة والآية 9 من سورة الحجر المارتين، وقد جاء في وصف هذه الأمة المحمدية: صدورهم أناجيلهم. والمراد بالذين أوتوا العلم، علماء أصحابه كما رواه الحسن، وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وسلم. «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا» هذه مع وضوحها «إِلَّا الظَّالِمُونَ» 49 أنفسهم مكابرة وعنادا «وَقالُوا» أولئك الظالمون «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ» كما نزل على من قبله من الأنبياء كموسى وعيسى وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم من قلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى وإظهار الناقة وعدم إحراق النار لآمنا به، وإذ لم يأت بشيء من ذلك ولا مما يشابه آيات من قبله فلا نؤمن به، لأنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتوا به. «قُلْ» يا سيد الرسل «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» ما عندي منها شيء ولا أستطيع إظهار شيء إلا بإذن الله، فهو الذي يعطيها من يشاء من عباده وينزلها بحسب مقتضيات حكمته، لا دخل لي ولا للأنبياء قبلي بها البتة «وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» 50 ما يوحى إلي إليكم، وكذلك الأنبياء من قبلي، وليس من شأني ولا من شأنهم إنزال الآيات أو قسر الأمم على الإيمان إلا بمشيئته. ونظير هذه الآية الآية 38 من سورة الأنعام، ومثلها في المعنى في يونس وهود المارات، وفي الآية 134 من سورة طه في ج 1 والآية 7 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها كثير. قال تعالى ردا عليهم «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ» يا محمد «الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» على مر العصور والدهور تتلوه عليهم وأنت أمي معلوم عندهم، ويتلوه من منّ عليه بتعليمه منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة، فإن كانت لهم عقول فهذه آية كافية لمن يريد أن يهديه الله، ومن يضله الله لا تنفعه الآيات، وناهيك بالقرآن أنه آية دائمة باقية، وأن آيات الرسل كلّها انقرضت ولم يبق إلا خبرها «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إنزال القرآن وبقاؤه الآخر الدوران لأكبر

آية أتى بها الوسل، ولهذا يقول الله «لَرَحْمَةً» عظمى «وَذِكْرى» بالغة وعظة باهرة «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» 51 بالله الذي أرسلك إليهم وبكتابه الذي أنزله عليك إليهم تغنيهم عن كل آية، أما المعنتون فلو أتيتهم بكل آية لا يتعظون ولا يؤمنون ولا يتذكرون، راجع الآية 115 من سورة البقرة في ج 3 تجد ما يتعلق بهذا إن شاء الله. أخرج أبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها ما سمعوه من اليهود، فقال صلّى الله عليه وسلم كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية. وهذا يتجه إذا كانت الحادثة بمكة، أما في المدينة فلا تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية، وإنما على سبيل تلاوة ما نزل قبل والاستشهاد به عند وقوع الحادثة المتأخرة فجائز، وهو طريق ضعيف مشى عليه بعض المفسرين، والحق هنا عدم جوازه، ولأن هذه الآية نزلت جوابا لقولهم (لولا أنزل عليه آية من ربه) فجعل ذلك أي الذي ذكر في الخبر المار ذكره سببا للنزول بغير محله، وهو خروج على الظاهر الواقع، وفي هذه الآية والحديث إشارة إلى منع تتبع الكتب القديمة لغير متبحر في القرآن العظيم، فقد أخرج ابن عساكر عن أبي ملكية قال: أهدى عبد الله بن عامر بن بركن إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمرو فردتها وقالت يتتبع الكتب القديمة وقد قال الله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) الآية، فقيل إنه عبد الله بن عامر فقبلتها. وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي صلّى الله عليه وسلم يتلوّن وجهه، فقال والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النّبيين وأنتم حظي من الأمم. أي ليس لكم أن تتخطوا ما جئتكم به إلى غيره، لأنه لا يخلو من حشو، والقرآن براء من كل عيب، لا يتطرق إليه ما ليس منه أبدا كما هو ثابت بكفالة الله تعالى القائل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من الحجرة المارة. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه

ساعة فاستحسنه، فقال للرجل اكتب من هذا الكتاب؟ قال نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه، وجعل وجه رسول الله يتلون، فضرب رجل من الأنصار الكتاب، وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم عند ذلك إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصار فلا يهلكفكم المتهوكون. - أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة وقيل المتحيرون، وقدمنا في الآية 43 من سورة القصص في ج 1 ما يتعلق بهذا وإن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين ولا سيما بصدر الإسلام فراجعه ففيه ما يكفيك ويثلج صدرك وتقر عينك «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً» بأني رسوله والقرآن كلامه وانكم كاذبون مبطلون، والله عالم بأني بلغت وأنذرت ونصحت، وانكم صددتم وأنكرتم وكذبتم، وشهادة الله لي بإنزال الكتاب علي وإثبات المعجزة لي، وانه سيجازي كلا بفعله، لأنه «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجميع ما يقع فيهما وما بينهما، ومن جملتها شأني وشأنكم سرهما وجهرهما، وهذه تقرير لصدر الآية من كفاية شهادة الله تعالى على ذلك. وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما قال كعب بن الأشرف وأصحابه لمحمد صلّى الله عليه وسلم من يشهد أنك رسول الله لا صحة له في سبب النزول، لأن الآية مكية بالاتفاق، وسباقها مع كفرة قريش لا ذكر لأهل الكتاب فيهما «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ» وهو غير ما جاءت به الرسل من عند الله «وَكَفَرُوا بِاللَّهِ» وما جاء عنه. واعلم أن الإيمان بالباطل كفر بلا شك، وإنما ذكرت الجملة الأخيرة تأكيدا ولبيان قبح ما جاء في الجملة الأولى فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق؟ لبيان أن الباطل قبيح في ذاته «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» 52 المغبونون في صفقتهم، إذ اشتروا الكفر بالإيمان، وهذه الآية وردت مورد الإنصاف في المكالمة على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية 35 من سورة سبأ المارة، وكقول حسان: فخيركما لشركما الفداء. قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» على طريق

مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار وهي تسعة أنواع:

الاستهزاء والسخرية كقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية 30 من سورة سبأ أيضا، وهي مكررة كثيرا في القرآن، وذلك لعدم تصديقهم أن هناك بعثا وحسابا وجزاء، ولهذا يقولون (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) الآية 32 من سورة الأنفال ج 3، وقد تكرر منهم هذا القول، كما تكررت هذه الآية معنى في كثير من سور القرآن. قال تعالى «وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى» ضربناه لعذابهم غير قابل التقديم والتأخير، وعزّتي وجلالي يا سيد الرسل لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» الذي يريدون سرعة نزوله قبل أن يتشدقوا بما تفوهوا به «وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» أي يباغتهم ويفاجئهم به من حيث لا يتوقعونه، وهذا العذاب قيل هو في الدنيا فيما يقع عليهم من الأمر والجلاء والقتل أو الموت، وقيل هو عذاب الآخرة. والآية صالحة للمعنيين، وكلا العذابين واقع بهم لا محالة، ومما يرجح كون المراد منه عذاب الآخرة قوله تعالى «يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ» إذ كرره بالظاهر لشدة هوله، كيف وقد قرنه بقوله «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» 54 جميعهم لا يفلت منهم أحد والجملة حالية أي يستعجلونك بالعذاب والحال محل العذاب الذي هو جهنم لا عذاب فوقه محيط بهم «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» فيجللهم من أطرافهم كلها، وهذا معنى إحاطة جهنم بهم «ونقول» نحن إله الكل مالك الدنيا والآخرة. وقرىء بالياء أي يقول لهم الرب العظيم في ذلك اليوم «ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 55 من القبح في دنياكم، ويضاهي هذه الآية الآية 16 من سورة الزمر المارة والآية 41 من الأعراف في ج 1. مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار وهي تسعة أنواع: قال تعالى «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» فاتركوا الأرض التي أنتم فيها مضطهدون وفروا بدينكم إلى غيرها، فإن الأرض غير ضيقة عليكم، «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» 56 أخلصوا عبادتكم لي في أرضي لا يمنعكم فيها أحد من إقامة شعائرها، نزلت هذه الآية في إباحة الهجرة صيانة للدين، ولا تختص بزمنه

صلّى الله عليه وسلم احتجاجا بخبر لا هجرة بعد الفتح، بل هي عامة مطلقة، حكمها باق إلى الأبد، فبمقتضاها يجب على كل من كان في بلدة يتجاهر فيها بالمعاصي ولا يقدر على المنع ولا على إقامة دينه وإظهار شعائره كما ينبغي، أن يهاجر إلى غيرها من البلاد التي يتهيأ له فيها ذلك كله، لأنه إذا لم يكن آمنا على دينه لا يتمكن من إقامته فهو آثم، لذلك عليه أن يهاجر إلى بلد يكون فيه أسلم قلبا وأصحّ دينا وأكثر عبادة وأحسن رفاقة. هذا وقد حث الله على الهجرة في الآية 99 من سورة النساء الآتية في ج 3، بما يدل على أنها غير خاصة بزمن كما سنبينها هناك بصورة مفصلة إن شاء الله. قال صلّى الله عليه وسلم: من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة. وفي قوله تعالى (واسِعَةٌ) عدّة ووعد لعباده المهاجرين بسعة الرزق، أي لا تخافوا الضيق إذا تركتم دياركم من أجلي فإني أوسع عليكم «وكان ذلك. وأعلم أن البقاع تتفاوت تفاوتا عظيما، وقال العارفون لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها الله تعالى. قال سهل إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. راجع الآية 9 من سورة الروم المارة. قال تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ذكر الله تعالى هذه الآية بعد الآية المشيرة إلى الهجرة ليستعدوا له قبل مفاجاته، لأنهم لا يدرون متى يفاجئهم، لذلك خوفهم بالموت فيها ليهون عليهم أمر الهجرة، إذ لا أصعب من ترك الوطن على النفس إلا الموت كي لا يبقوا بدار الشرك فيموتوا فيها، وإذا سهل على الإنسان الموت سهل عليه ترك الوطن وحث نفسه على الهجرة منه لإخلاص العبادة لربه والمحافظة على دينه اللذين يذهب بهما إليه دون وطنه وأهله وعشيرته، قال عليه الصلاة والسلام: يتبع الميت ثلاث، أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله. «ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» 57 بعد الموت حتما، وإذا كان كذلك فاجنحوا في دنياكم إلى ما يصلح دينكم واتركوا غيره. ويضاهي صدر هذه الآية الآية 35 من سورة الأنبياء المارة والآية 185 من آل عمران في ج 3، وهي مكررة في القرآن. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا

وتركوا أوطانهم وأهلهم وعشيرتهم رغبة فيما عند الله من الثواب «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً» علالي عالية نسكنهم فيها ونوطنهم بها، ولا حول لهم عنها، وهذه لا تشبه غرف الدنيا ولا تقاس بها فضلا عن أنها فانية وتلك باقية، وأنها من صنع البشر وهي من صنع الله وإبداعه الذي أتقن كل شيء، فلا يقدر أن يصفها واصف، ومن بعض محاسنها أنها «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» ويكون أهلها «خالِدِينَ فِيها» أبدا والدنيا مهما طال أمدها فمصيرها الزوال ف «نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» 88 في الدنيا تلك الغرف الباقية في الجنة، وهذه أيضا مكررة في الآية 20 من سورة الزمر المارة وفي غيرها، قال ابن عباس: هي من الدرّ والزبرجد والياقوت، أما المستحقون لهذه العرف وتلك الكرامة فهم «الَّذِينَ صَبَرُوا» على مشاق الدّين ومرارة الهجرة وفراق الوطن والبعد عن الأهل والأقارب والأحباب والالتجاء إلى أناس لا يعرفونهم، وتحمل ما يلحقهم من الذل فرارا بدينهم وصيانة له وحفظا على شعائره، كما صبروا على أذى المشركين وإهانتهم من أجله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 59 بكل أمورهم لا على غيره، ولما أمر صلّى الله عليه وسلم بالهجرة وحث عليها خلص عباده ليقتدي بهم الآخرون خاف بعضهم الفقر وضيعة الحسب في المدينة، لأنهم لا يعرفون أحدا ولا يعرفهم أهلها، وليس لهم مال ولا عقار ولا بساتين، ولا يقدرون على أخذ ما عندهم في مكة إلى المدينة لبعد الشقة والمشقة، وخوفا من الكافرين أن يستحلوا أموالهم وأنعامهم لأن خروجهم سيكون خلسة عنهم، لئلا يطلعوا عليهم فيمنعوهم ويوقعوا بهم الأذى ويهينوهم أنزل الله قوله عز قوله «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» لضعفها ووهنها، أو لا تقدر على ادخاره ليوم حاجتها، أو لتوكلها على خالقها، فتصبح وتمسي ولا شيء عندها «اللَّهُ يَرْزُقُها» من فضله، ويسوقها إلى ما قدر لها، أو يسوق الرزق إليها بأن يسخّر من يقدمه لها دون طلب أو كلفة. قال صلّى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. ورحم الله القائل: وأرزاق لنا متفرقات ... فمن لم تأته منها أتاها «وَإِيَّاكُمْ» يرزق، لأنكم أفضل من كثير من الطير والدواب والحيتان

والحشرات، فإذا كانت مع ضعفها وعدم معرفتها يرزقها الله لتوكلها عليه وتفويض أمرها إليه، فإنكم مع قوتكم واجتهادكم وفضلكم فإنه يرزقكم من باب أولى إذا توكلتم عليه. قالوا لا يدخر إلا الإنسان والنملة والفأرة والعقق، وعند البعض البلبل، وقال آخر كل كوامن الطيور تدخر. هذا، وإذا كان الرزق من الله، وجعل لكل سببا لتناوله وأمر بالسعي إليه، والمسبب له هو وحده، فلا تخافوا أيها المؤمنون على معاشكم حال هجرتكم، ولا تأسفوا على ما تتركونه في مكة، فإن الله يخلفه لكم. ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم عما يلحقهم بسبب الهجرة على أبلغ وجه، قال (يرزقها وإياكم) دون يرزقكم وإياها، «وَهُوَ السَّمِيعُ» البالغ منتهى السمع بسمع قولكم، ويعلم ما تحوكه قلوبكم ويتردد في صدوركم «الْعَلِيمُ» 60 البالغ في العلم بما انطوت عليه ضمائركم، ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه- رواه البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- واعلم أن اسم الهجرة يطلق على تسعة امور كل منها بسمى هجرة بنسبته: الأول هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى الحبشة سنة خمس من البعثة سنة نزول سورة والنجم وذلك بسبب ما لحقهم من أذى المشركين مالا وبدنا، ولهذا قال ذو النون من هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر مولاه استحق المزيد من الفضل والعناية، ومن نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه. الثانية الهجرة التي نحن بصددها من مكة إلى المدينة الكائنة سنة ثلاث عشرة منها أيضا، أما الخروج هربا وطلبا فيقسم إلى تسعة أقسام: الأول الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهذه باقية إلى يوم القيامة كما أشرنا إليه في الآية 50 المارة. الثاني الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسبّ فيها السلف. الثالث الخروج من أرض يغلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم. الرابع الخروج من الأذية في البدن، وهو فضل من الله رخص لعباده فيه إذا خافوا على أنفسهم في مكان، فقد أذن

الله لهم بالفرار منه إلى غيره، ولا يحل لهم البقاء إذا تحققت خشيتهم، لأن محافظة النفس واجبة، وأول من فعلها إبراهيم عليه السلام حين خاف قومه وأمنه النمروذ، لأن الكافرين لا عهد لهم ولا ذمة، وكذلك موسى بعد أن قتل القبطي وعلم أنهم يريدون قتله به. الخامس الخروج خوف المرض من البلاد الوخمة المشتملة على المستنقعات والأوساخ وغيرها. وقد أذن صلّى الله عليه وسلم للعرنيّين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج. السادس الخروج خوفا من سلب المال فله ذلك أيضا، لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، هذا إذا كان الداعي للهجرة الهرب من أحد هذه الأمور، أما إذا كان الداعي طلب الشيء فيقسم جوار الخروج الذي هو بمعنى الهجرة إلى تسعة أقسام. هذا وما قيل إن الهجرة انقطعت بالفتح يعنى فتح مكة، فالمراد بها خصوص القصد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ كان بقطن فيها إذ بعد وفاته ينعدم ذلك القصد، فذلك القيل من هذه الحيثية ليس إلا، أما زيارته بعد وفاته فسيأتي لها بحث أيضا. الأول سفر العبرة، وهو مطلوب للمستطيع، قال تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية 9 من سورة الروم المارة، وقد طاف ذو القرنين ليرى عجائبها، الثاني سفر الحج وهو واجب على المستطيع ومن فروض العين. الثالث سفر الجهاد وهو واجب أيضا مادام العدو خارجا عن ثغور بلاد المسلمين فمتى وطئها لا سمح الله صار فرض عين على كل مستطيع، وتفصيله في كتب الفقه، وستلمع له في محله إن شاء الله. الرابع سفر المعاش، وهو جائز إذا أراد التوسع بأكثر مما هو فيه، وواجب إذا كان محتاجا له لنفسه أو لمن يعوله. الخامس سفر التجارة والكسب الزائد على الحاجة وهو جائز أيضا لقوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) الآية 198 من البقرة ج 3. السادس طلب العلم لأنه فريضة على كل مسلم ومسلمة، حتى إنه يجوز للمرأة الذهاب بلا إذن زوجها إليه إذا كان لا يقدر على تعليمها علم الحال ولا يسأل لها العلماء. السابع قصد البقاع الشريفة وهو مطلوب لثلاث، قال صلّى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى. الثامن قصد الثغور للرباط فيها حفظا لكيان بلاد المسلمين، وهو مندوب قال صلّى الله عليه وسلم:

رباط ساعة خير من عبادة سنة. لأن العبادة نفعها قاصر على العابد فقط، وهذا فيه نفع عام لجميع المسلمين وفيه إظهار لشوكتهم. التاسع زيارة الأخوان لله تعالى ومن أجله روى مسلم وغيره عنه صلّى الله عليه وسلم زار رجل أخا له في قرية فأرسل الله ملكا على مدرجته، فقال أبن تريد؟ قال أريد أخا لي في هذه القرية، فقال هل له من نعمة تؤديها؟ قال لا إلا أني أحبه في الله تعالى، قال فإني رسول الله إليك بأن الله أحبك كما أحببته الثالث هجرة بعض القبائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليتعلموا شرائع الدين ويعلموا قومهم، وهي مطلوبة، قال تعالى (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) الآية 133 من التوبة في ج 3، وحكمها باق إلى الأبد، فيجب على كل أهل قرية إذا لم يوجد عندهم من يعلمهم أمر دينهم أن يوفدوا جماعة منهم هذه الغاية. وتشير هذه الآية إلى استثناء طلبة العلم من الجهاد، ولذلك فإن الحكومة العثمانية استثلت جميع طلاب العلم من الخدمة، فسبتوا كثرة العلماء، ولولا ذلك القل أن تجد عالما الآن في بلاد العرب، لأن الحكومة العثمانية كانت مسيطرة على البلاد وقد فرضت اللغة الرسمية التركية في البلاد وكانت رغبة الناس منصرفة إلى الدنيا وإلى تقليد الغالب، ولذلك قلّ في هذا الزمن وبالأسف طلب العلم ورغبت الناس عنه، لأن همهم الدنيا، ومن كان همه الدنيا فهو إلى الهلاك أقرب وإن هذه تعد منقبة للأتراك إذ رغبوا الناس في العلم، ومنقبة أخرى وهي استثناء آل البيت من الخدمة أيضا، احتراما لصاحب الرسالة جدهم الذي نور العالم، ومنقبة ثالثة وهي احترامهم العلم والعلماء والسادة والمشايخ والمواقع المقدسة والمحترمة، وان آثارهم تدل على ذلك. الرابعة هجرة من أسم من أهل مكة ليأتي النبي صلّى الله عليه وسلم فيقر بإسلامه أمامه، ثم يرجع إلى قومه لأن الله يسلم لنبي من صلّى الله عليه وسلم، ولم يره لا يعد صحابيا. الخامسة الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وهي واجبة عند القدرة، إذ لا يحل لمسلم أن يقيم بدار الكفر لعدم تمكنه من إقامة دينه، كما ينبغي ولأنه يكثر سوادهم، وهو لا يجوز، وإذا كانت الهجرة من بلاد البدعة مطلوبة، فمن باب أولى وأحق أن تكون مطلوبة من بلاد الكفر لما فيها من المذلة على المسلم كما سيأتي في الآية 93

من سورة النساء ج 3، قال الماوردي فإن صار له فيها أهل وعشيرة وأمكنه إظهار شعاثر دينه لم يجز له أن يهاجر، لأن المكان الذي هو فيه صار دارا للإسلام ولأن بقاءه فيها قد يجر لتكثير المسلمين فيها، قال صلّى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم. السادس هجرة المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام بغير سبب شرعي مكروهة، وما زاد على الثلاثة فحرام إلا لضرورة، قال الباجوري في حاشية علي بن قاسم، وهذا مأخوذ من قولهم يجوز هجر المبتدع لزجره عن بدعته والفاسق، من فسقه، وكذا يجوز الهجر إذا رجا صلاح المهجور كأن كان يحصل عند عدم اهجر خلل بفعل معصية من الهاجر أو المهجور فهجره لإصلاح دينه ولو جميع الدهر، وعليه يحمل هجره صلّى الله عليه وسلم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ونهيه الصحابة عن كلامهم، إذ تخلفوا عن غزوة تبوك وهجر السلف والخلف بعضهم بعضا، فقد جاء بالإحياء أن سعد بن وقاص هجر عمار بن ياسر إلى أن مات، وعثمان بن عفان هجر عبد الرحمن بن عوف إلى أن مات، وهجر طاوس وهب ابن منبه إلى أن مات، وهجر سفيان الثوري شيخه ابن أبي ليلى إلى أن مات، ولم يشهد جنازته اهـ ص 127 ج 2 من فصل احكام القسم بين النساء، هذا وحكي أن رجلا هجر أخاه فوق ثلاثة أيام فكتب له: يا سيدي عندك لي مظلمة ... فاستفت فيها ابن أبي خيثمة فإنه يرويه عن جده ... ما قد روى الضحاك عن عكرمة عن ابن عباس عن المصطفى ... نبينا المبعوث بالمرحمة أن صدود الإلف عن إلفه ... فوق ثلاث ربنا حرمه السابعة هجرة الزوج زوجته إذا تحقق نشوزها، قال تعالى (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) الآية 33 من سورة النساء ج 3، ويجوز هجرها زيادة على ثلاثة أيام بقصد زجرها عن المعصية، وإذا كان لعذر شرعي، أما بدون معذرة فلا، وبها يجوز في المضجع. والكلام أيضا حتى ترجع وتتوب. الثامنة هجرة أهل المعاصي فهي مطلوبة في المكان، والكلام والسلام ردا وابتداء إهانة لهم، ولا يجوز بوجه من الوجوه إكرامهم، راجع الآية 112 من سورة هود المارة، تجد ما يكفيك وما ليس

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 إلى 69]

لك غنى عنه. التاسعة هجرة كل ما نهى الله عنه، فلا يحل لمسلم أن يقرب شيئا حرمه الله أو ينهى عن شيء أحلّه، لما جاء في الحديث الشريف المار آنفا من أن الهجرة إذا كانت لله ورسوله يثاب عليها، وفيها الأجر العظيم والخير الجزيل والرضاء من الله ورسوله، وإذا كانت على العكس فلا ثواب فيها، ولا تسمى هجرة شرعية، كمن ذهب للحج بقصد التجارة فقط، وكذلك من جاهد لأجل الغنيمة، ومن تزوج بقصد الولد، أي من قصد الحج والتجارة معا وإعلاء كلمة الله والغنيمة وكسر شهوة النفس وحفظها من الحرام مع الولد، فالله أكرم من أن لا يثيبه، قال صلّى الله عليه وسلم ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا، وإنما خيركم من أخذ من هذه وهذه. وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: أيها الناس ليس من شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به، وليس من شيء يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي [بضم الراء القلب والعقل، وبفتحها الخوف، قال تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الآية 75 من سورة هود المارة، والمراد هنا الأول] أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته. وروى الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. أي تذهب أول النهار صباحا ضامرة البطون وترجع آخره شباعا ممتلئتها، ولا تدخر شيئا لغد. هذا ما جاء في أمر الهجرة، وسنتم قصّتها بعد تفسير المطففين الآتية إن شاء الله، لأنها وقعت بعدها. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافع خلقه وهي حركتها بانتظام بديع «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لأنهم يعلمون أن آلهتهم عاجزة عن حفظ نفسها، فضلا عن الخلق والتسخير، ولكنهم عنادا وعتوا يعبدونها تقليدا لفعل آبائهم الضالين، فقل لهم يا سيد الرسل بعد اعترافهم بذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» 61 وينصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان التي لم تخلق ولم ترزق، وقد أشار جل شأنه

مطلب حقارة الدنيا والتعريض للجهاد:

بخلق السموات والأرض إلى اتحاد الذات، وبتسخير الشمس والقمر إلى اتحاد الصفات، ولما كان كمال الخلق ببقائه وبقاؤه بالرزق، والله تعالى هو المتفضل به. قال «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» فيوسعه عليهم إحسانا منه وكرما عليهم ولطفا بهم، وهو ذو الطول والامتنان والعطف «وَيَقْدِرُ لَهُ» يضيق على من يشاء بمقتضى حكمته وسابق تقديره، ولما كان هذا موجبا لاعتراض بعض الجهلة بين العلة لهم بقوله «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 62 فيوسع لمن يعلم أن صالحه بالرزق، ولو لم يرزقه لكفر، ويضيق على من يعلم أن صالحه في الضيق، ولو أغناه لبغى، وان يفعل كلّا لكل بوقته حسب حكمته، فقد جاء بالحديث القدسي: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، راجع الآية 25 من سورة لقمان والآية 27 من سورة الشورى المارتين، والأخرى ان الله تعالى لا يسأل مما يفعل. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» فعل ذلك كله «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» يا خاتم الرسل على إظهار الحجة عليهم باعترافهم. ثم نعى عليهم جهلهم بقوله «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» 63 ما يقولون ولا يفهمون ما يفعلون ولا يفقهون ما يريدون، وفي هذه الآية دلالة على بطلان الشرك وإثبات التوحيد، وفي الإضراب ببل إيذان بالإعراض عن جهلهم الخاص بالإتيان بما هو حجة عليهم باعترافهم، لأنهم مسلوبو العقل، فلا يبعد عنهم مثله. مطلب حقارة الدنيا والتعريض للجهاد: قال تعالى «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» اللهو الاستماع الذات والاشتغال بما لا يعني، واللعب العبث، أي أنها عبارة عن لعب ساعة بين الأولاد، ثم ينصرفون عنها لدورهم، وهكذا الدنيا يلهون بها أهلها مدة ويتركونها بالموت، والآية تشير إلى تصغيرها والازدراء بها، لأنها عبارة عن قضاء نهمتهم فيها مدة قصيرة وهي بما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، والآية جاءت كضرب المثل في سرعة زوالها، وتقلّبهم فيها وفراقهم لها. أخرج الترمذي عن سهل بن سعد

قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء. وقال بعض العارفين الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب بيد مجذوم. وإذا كانت هي حقيرة لهذه الدرجة فليعلم حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» الحياة الحقيقية المشمرة الدائمة المنعم أهلها التي لا يعرض لها كدر ولا موت ولا فناء وهي في ذاتها حياة طيبه والحيوان مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل وأصله حييّان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس، فلامه ياء كما قال سيبويه، وقيل إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى أن حياة علم رجل ولا حجة على كونه ياء في حيىّ، لأن الواو في مثله يبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة، وهو أبلغ من الحياة، لذلك جاءت بلفظ المبالغة، لأن بناء فعلان يكون بمعنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة، ولهذا المعنى أطلق عليها، مع أنه علم للنّام المدرك، ولأن الآخرة فيها الزيادة والنمو، قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 27 من سورة هود المارة، وهي محل الإدراك التام أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك، ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة، وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة الدار الآخرة، والمراد بها هنا الخلود والسكون ويوقف على كلمة الحيوان لأن التقدير «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 64 حقيقة الدارين لما اختاروا دار اللهو واللعب الفانية على دار العزّة والكرامة الباقية. ولا توصل هذه الجملة بالأولى لأنه يصير وصف الحيوان معلق بشرط علمهم ذلك وليس كذلك، تدبر. وما قاله بعضهم أن لو هنا للتمني فقيل غير سديد، وعن مرمى الحقيقة بعيد، ومن أخذ بالأولى فهو السعيد. ونظير هذه الآية 32 من سورة الأنعام المارة، إلا أن المذكور فيها من قبل الآخرة، والمذكور هنا من قبل الدنيا، وكذلك المذكور قبل تلك. قال تعالى «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ» السفينة بقصد التجارة أو الزيارة وتارت عليهم العواصف «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وتركوا ذكر أوثانهم كأنهم من خلص عباد الله الذين لا يذكرون غيره ولا يدعون معه إلها آخر، ولجئوا إليه بكليتهم كأنهم لم ينصرفوا إلى غيره، ولم يذهلوا عن الحياة الأبدية،

وذلك لعلهم أنه لا يكشف الشدائد غيره، وفي هذه الآية تهكّم بالكفرة المشركين أهل البغي والفساد، وتقريع بهم، لأنهم لا يستمرون على حالتهم هذه «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا من الغرق «إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» 65 بالله غيره كعادتهم الأولى، ونسوا الضيق الذي حل بهم والذي نجاهم منه، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ركبوا البحر استصحبوا أصنامهم، فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا ربنا يا ربنا، قال تعالى قوله «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من نعمة الإجابة والإنجاء «وَلِيَتَمَتَّعُوا» في دنياهم هذه، وليغفلوا عن الآخرة دار البقاء «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» 66 عاقبة ذلك حين يعاقون إذ يتدمون من حيث لات مندم. واللام في الموضعين لام كي، أي يشركون بالله ليكونوا كافرين نعمته، فليتمتعوا في هذه الدنيا قليلا فإن مرجعهم إلينا، راجع الآية 68 من الإسراء ج 1، وهذه الجملة الأخيرة مؤذنة بالتهديد والوعيد لأولئك الكفرة سبب جحودهم نعمة انجائهم ورجوعهم إلى شركهم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا» بلدهم مكة دون سائر البلاد «حَرَماً آمِناً» أهله مما يخاف الناس من السلب والسبي والقتل، وقد حرم فيه ما لم يحرم بغيره من البلدان، حتى شمل منه الطير والوحش والدواب. أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: إن أهل مكة قالوا يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا وكثرة العرب، فمنى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفتنا فكلنا أكلة رأس، فأنزل الله هذه الآية تطمنّهم بالأمن مما يخافون دون غيرهم إكراما لرسولهم محمد وإجابة لدعوة جده إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، كما سيأتي في الآية 136 من البقرة ج 3، وقد مر شيء منه في الآية 36 من سورة إبراهيم فراجعها «وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» يختلسون اختلاسا أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأزواجهم وأنعامهم ودوابهم، لأن النفار كان متحكما بينهم، فقل لهم يا سيد الرسل «أَفَبِالْباطِلِ» من الأصنام وغيرها «يُؤْمِنُونَ» بعد ظهور نعمة الحق الذي لا ريب فيه «وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ» التي أنعمها عليهم في هذا الدين الصحيح والرسول الصادق والكتاب المبين لكل شيء «يَكْفُرُونَ» 67 مع أن ذلك مستوجب

للشكر ما بالهم عموا عن الرشد والهدى، وجنحوا إلى الضلال والردى. وتقديم الصلة في الموضعين في هذه الآية للاهتمام بها، لأنها مصبّ الأفكار، أو للاختصاص على طريق المبالغة، لأن الإيمان إذا لم يكن خالصا لا يعتد به، ولأن كفران غير نعمة الله عز وجل بجنب كفران نعمته لا يعد شيئا. وقرىء الفعلان بالتاء على الخطاب، كما قرىء بالغيبة. قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فزعم أن له شريكا «أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ» القران المنزل من لدنه «لَمَّا جاءَهُ» على يد رسوله صلّى الله عليه وسلم، أي لا أظلم من هذا أحد البتة، ولهذا عقبه بقوله «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» 68 أمثال هؤلاء بل فيها منازل كثيرة تنتظرهم وتتميّز عليهم غيظا وحنقا. تشير هذه الآية إلى تقرير مثواهم وإقامتهم، فيها، لأن الاستفهام فيه معنى النفي وهو داخل على المنفي ونفي النفي إثبات، وعليه قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح والمعنى ألا يستوجبون هذا الثواء، وقد افتروا ذلك الافتراء على الله تعالى، وكذبوا بالحق مثل ذلك التكذيب، بلى والله هم أهل له ولا شرّ منه. قال تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا» في شأننا ومن أجلنا وخالصا لوجهنا «لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» الدالة على الخير والبر الموصلة إلى الرشد والهدى في الدنيا المؤدية إلى الجنة في الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» 69 بالنصر والمعونة والظفر في الدنيا والثواب والمغفرة والرحمة في الآخرة. وقد ختمت سورة النحل فقط بما ختمت به هذه السورة. وتشير هذه الآية إلى أن الله تعالى يريد أن يأمر رسوله بمجاهدة الكفار الذين لم ينزعوا عن شركهم وتكذيبه وجحد كتابه، لأنه إنما أمره بالهجرة عن دارهم لعدم تأثير العطف عليهم بهم، وان الرحمة التي عاملهم بها واللين والعطف لم يزدهم إلا عتوا وعنادا، ولم يزدهم التهديد والوعيد إلا استهزاء وسخرية ومكابرة في البغي والطغيان والعدوان، ولهذا قدم في هذه الآية الجليلة التمهيدات اللازمة لإنزال العقاب فيهم وتعجيل ما استبطئوه من العذاب الذي يطالبون به، وكانوا يوقنون عدم وجود عقاب أو عذاب كما يتيقنون عدم وجود بعث ولا حساب ولا جزاء، فاستحقوا جزاء معاملتهم بالقسوة والشدة، وآن وقت قسرهم على الإيمان

تفسير سورة المطففين عدد 36 - 86 - 83

ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم فيوقع فيهم عذابه الذي لا مرد له. قال بعض العارفين إن الآية صالحة للمجاهدة الظاهرة والباطنة، فالذين جاهدوا أنفسهم في رضاء الله تعالى لنهدينهم إلى محل الرضاء. واعلم أن من عرف الله تعالى عرف كل شيء، ومن وصل إليه هان عنده كل شيء، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، قال عبد الله ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألته فليسأل أهل الثغور، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية، لأن الجهاد هداية أو مرتب على الهداية، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) الآية 18 من سورة محمد ج 3، وجاء في الحديث من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. وقال بعض الكمل والذين يشغلون ظواهرهم بالوظائف ليوصلن أسرارهم إلى اللطائف. وقال سفيان ابن عينيه إذا أختلف الناس فانظروا ما عليه أهل التقوى فإن الله تعالى يقول (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية. والتقوى هي المخرج من الشدائد، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 3 من سورة الطلاق ج 3 هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة المطففين عدد 36- 86- 83 نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها. لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» 1 الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (ويل) واد في جهنم

مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:

يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، وفي صحيح ابن حبان والحاكم واد بين جبلين يهوي فيه الكافر إلخ. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قيح. مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها: ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» 2 الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» 3 ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله: لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر واعلم أن هذه السورة آخر ما نزل بمكة قبل الهجرة، وقد ذم الله فيها التطفيف وحذر منه، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم قادم إلى المدينة، وعادة أكثر أهلها التطفيف ليتلوها عليهم أول قدومه كي ينزجروا عن هذه الخصلة القبيحة المستوجبة العذاب الأكبر في الآخرة، والذم الكثير في الدنيا، وهذه أول رحمة من الله نالت أهل المدينة بقدومه صلّى الله عليه وسلم، وكان كذلك، لأنه عند دخوله استفتحهم فيها فظن من سمعها أنها نزلت بالمدينة حتى قال بعضهم إنه كان رجل في المدينة يدعى أبا جهينة يشتري بصاع ويبيع بصاع دونه، وأنها نزلت فيه. ومنهم من قال إنها نزلت بالطريق بين مكة والمدينة، والصحيح أنها نزلت في مكة كما ذكرنا وهو أرجح الأقوال الواردة فيها، والله اعلم. وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع لغيره ناقصا، ويتناول القليل والكثير، وإنما شدد الله تعالى في هذا لأن عامة خلقه

محتاجون إلى معاملات الناس وهي مبنية على الكيل والوزن والذراع، والبايع أمين فيما يكيل ويزين ويذرع، والناس يتبايعون ويتعاقدون بالأمانة التي هي ملاك الأمر بينهم أنفسهم وبينهم وبين ربهم، والخيانة مذمومة ملعونة ملعون مرتكبها، لهذا بدأ صلّى الله عليه وسلم دعوته في المدينة بها ليرتدعوا عما هم عليه من التطفيف، وليصدقوا في معاملاتهم، ويتناهوا فيما بينهم فتحسن معاملاتهم بعضهم مع بعض، وينجرّ عملهم إلى الإحسان مع خلق الله قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق. وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب ان يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وقال الفضيل بخس الميزان سوء يوم القيامة. قال تعالى «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ» المطففون «أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ» 4 من قبورهم محشورون مساقون «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» 5 ألا يتحققون نشرهم من قبورهم فيه ألا يعلمون عظم ذلك اليوم وهوله، وأدخلت هزة الاستفهام على لا النافية للتوبيخ، لأنها ليست للتنبيه بل للإنكار والتعجب من سوء حالهم وجرأتهم على التطفيف الذميم وعدم خوفهم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» في الموقف للحساب ويعرضون «لِرَبِّ الْعالَمِينَ» 6 فيتمثلون أمامه فيحاسبهم على النقير والفتيل والقطمير. روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر أنه تلا هذه قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه. وروى البغوي عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل. زاد الترمذي أو ميلين. قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو ما يكتحل به العين. قال يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق الجاما، وأشار صلّى الله عليه وسلم إلى فيه. وروى الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خمس بخمس قيل يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، وما طفقوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا

بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. ورواه غيره مرفوعا. وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له إن ابنك كيال ووزان، فقال أشهد أنه في النار وكأنه رحمه الله أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف، ومن هذا ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه لا تلتمسوا الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسنة الموازين. وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وليس بشيء، لأن هذا القيام خاص للمرء بين يدي ربه، وأما القيام للشخص إذا قدم عليه فلا بأس به، كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم. إذ في القيام زيادة احترام للمسلم وإظهار للمودة والمحبة ومدعاة للتآلف والتراحم. وفي عدمه احتقار له، وقد يؤدي إلى التقاطع والتباغض، وربما أدى إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية 27 من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية 14 من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية 22 الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» 7 وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال

[سورة المطففين (83) : الآيات 11 إلى 20]

تهويلا بكتاب الفجار وقبحه «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «ما سِجِّينٌ» 8 هو شيء عظيم لا تدركه دراية دار فهو «كِتابٌ مَرْقُومٌ» 9 مكتوب فيه بخط غليظ لأن الرقم الخط الغليظ بحيث يعلم ما فيه من اطلع عليه عن بعد لأول نظرة بلا تفكر ولا إمعان، قال الشاعر: سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم وهذا الكتاب علامة على شقاوة صاحبه وكونه من أهل النار وفي لفظة سجين إشارة إلى سجن صاحبه في جهنم ومبالغة في شؤم ذلك السجن، بفتح السين ولقب به الكتاب لأنه سبب الحبس، وهو شر موضع في جهنم في مكان موحش مظلم في مسكن إبليس وذريته، كما وردت الآثار بذلك، وقيل إن سجين اسم الموضع لما أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: إن الفلق جب من جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح، وهذا أولى، إذ يكون الكتاب وسجين على ظاهرهما لولا قوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) إذ أبدل الكتاب منه، وقد أجاب الإمام النسفي عن هذا في تفسيره بأن سجين كتاب جامع هو ديوان أهل الشر دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الإنس والجن، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلوم بحيث يعلم من رآه أنه لا خير فيه، وعليه يكون المعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان بخط غليظ مميز عن غيره، وقال بعضهم إن نون سجين بدل من لام، وأصله سجيل مثل جبرين في جبريل، ومرقوم من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه، ويطلق الرقم على العدد عند أهل الحساب، وليس بمراد هنا. هذا والله أعلم. «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ» يوم يخرج ذلك الكتاب في ذلك اليوم العصيب «لِلْمُكَذِّبِينَ» 10 بذلك اليوم الفظيع لما ينالهم من وبال وحقارة على رءوس الأشهاد، وذل ومهانة وعذاب لا تطيقه الأوتاد، اللهم إنا نتبرأ إليك مما يوجب فضيحتنا يوم التناد ثم وصفهم بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» 11 يوم الجزاء صفة كاشفة موضحة لحالهم. قال تعالى متعجبا من جرأتهم على التكذيب في ذلك اليوم المهول «وَما يُكَذِّبُ بِهِ» أحد «إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» 12 كثير الإثم منهمك في الشهوات القبيحة متجاوز

الحد فيها غال في التقليد، لأنه جعل قدرة الله قاصرة عن الإعادة وعلمه تعالى قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد منها في الإعادة، وجعل علة الإعادة محالة عليه، وهو تعالى ليس عليه شيء محال البتة «إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا» الدالة على البعث والجزاء «قالَ» ذلك الأثيم لفرط جهله وقلة عقله وكثرة طيشه وشدة إعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه لو كان فيه لمحة من حلم أو لمعة من علم لما قال «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» 13 خرافاتهم المتناقلة وأباطيلهم التي ألفوها على الآباء من قبل، ولم يظهر لها أثر حتى الآن. قيل نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث أو الوليد بن المغيرة، وأيا كان فالآية عامة، والكلام مطلق يدخل فيه كل من اتصف بصفات الذّم المارة هما وغيرهما «كَلَّا» ليس الأمر كذلك، أي مثل ما قال ذلك الأثيم وأضرابه من الباطل والتكذيب «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» 14 من الآثام الخبيثة، وهذه الجملة بيان لما أدى بهم إلى التقوه بذلك الكلام الفظيع، أي ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة، ولكن أغشيت قلوبهم وغطبت بأوساخ الذنوب وصداها حتى غلب عليها السوء وحال بينهم وبين معرفة الحق كثافة الحجب الحاصلة من طبقات الرين عليها، فلم تقدر أن تعي شيئا أو يوقر فيها شيء من الحق، فقالوا ما قالوا. أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا أخطأ بكت في قلبه نكتة، فإذا نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلق قلبه، وهو الران الذي قال الله (بل ران) إلخ. وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه والسنائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عنه بلفظ: من أذنب ذنبا وبزيادة سوداء صفة لنكتة، وقد يأتي الرّين بمعنى الطبع، أخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم؟ قال كل غني قد أبطره غناه.

مطلب القراءات السبع، ورؤية الله في الآخرة، والقيام للزائر:

مطلب القراءات السبع، ورؤية الله في الآخرة، والقيام للزائر: هذا، وقد وقف حفص على/ بل/ وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار، وهذا الانفصال باللفظ تباعدا بين التنوين والنون الساكنة وأحد حروف الإظهار الخمسة عشر، وقرأ غيره بإدغام اللام في الراء ولم يقف، وقرىء/ ران/ بالإمالة وهي إحدى القراءات السبع الجائز تداولها إذ لا نقص ولا زيادة فيها، وقد ذكرنا قبلا أن المد والإشباع وتخفيف الحرف بالسكون عند توالي الحركات والوصل والقطع والتفخيم والترقيق والإمالة والإتباع ونقل الحركة وحذفها كله جائز لا حرج فيه، وإن الممنوع هو ما يخالف رسم القرآن من دون ذلك، وان ما قيل إن ابن عباس قرأ كذا وابن مسعود قرأ كذا وغيرهما بما فيه زيادة أو نقص أو تبديل لبعض الكلمات فهو عبارة عن كلمات تفسيرية لبعض كلم القرآن كتبوها على هامش أو بين سطور مصاحفهم لا غير، فلا يجوز عدها من القرآن، لأن تفسير الكلمات أو تأويلها لا يكون من القرآن، ولا يجوز أن ينطق بها أو يقرأها على أنها من القرآن، بل يتكلم بها في غير القراءة على أنها معان لبعض كلماته تدبر، قال تعالى «كَلَّا» حقا وصدقا «إِنَّهُمْ» الذين اعتراهم الرين بسبب كثرة الذنوب حتى أعمى قلوبهم «عَنْ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَوْمَئِذٍ» في يوم الدين «لَمَحْجُوبُونَ» 15 عنه لا يرونه في الآخرة والحجاب عن رؤيته فيها عذاب أليم لهم غير العذاب الذي يستحقونه على كسبهم القبيح. هذا، وان الله تعالى حاضر في ذلك الموقف الذي هو حاكمه وناظر فيه جميع خلقه، ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإن الحرمان من رؤيته عذاب عظيم لا بضاهيه عذاب. وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة، ولأن الله ذكر الحجاب في معرض التهديد للكافرين، فلا يجوز حصوله للمؤمنين، ولأنه كما حجب قوما بسخطه دل على أن قوما يرونه برضاه، لأن الكفار كما حجبوا في الدنيا عن التوحيد حجبوا في الآخرة عن الرؤية، قال مالك بن أنس رحمه الله لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، ومن أنكر رؤيته كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم والإهانة لهم، لأنه لا يؤذن بالدخول على الملوك إلا

للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم، قال: إذا اعتروا باب ذي عبيّة رجبوا ... والناس من بين مرجوب ومحبوب ومعنى اعتروا غشوا، والعبيّة بضم العين وتشديد الباء والياء الملك المتكبر، ورجبوا هابوا وفزعوا لعظمة ودهشة مقابلته، راجع بحث الرؤية في الآية 23 من سورة القيامة في ج 1 وما ترشدك إليه من المواضع. ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفرة بأنهم مع كونهم محجوبين يحرقون في النار أيضا بقوله جل قوله «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ» 16 يقاسون حرقها عند ما يزجون فيها، وهذا عندهم أشد بلاء من الحجاب، أما عند المؤمنين فالحجاب عندهم أعظم أنواع العذاب، قال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا «ثُمَّ يُقالُ» لهم من قبل خزنة جهنم تقريعا وتوبيخا «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» 17 في الدنيا فذوقوه الآن جزاء تكذيبكم «كَلَّا» ليس الأمر كما يتوهم المتوهمون ويزعم الزاعمون من إنكار البعث، فهو حاصل لا محالة. ثم طفق يذكر مقام المؤمنين الموقنين القائمين بالعدل بالكيل والميزان الموقين للناس حقوقهم المؤدين حق الله المصدقين بكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء بقوله عزّ قوله «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» 18 وهذا بمقابلة كتاب الفجار، ومقرّه بالسماء السابعة تحت العرش، ولهذا قال منوها بعلوه ومعظما لشأنه «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ» 19 أيها الإنسان هو في الحسن والعلو والكرامة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، معناه بما يريده الله، وإن ما جاء في تفسيره وتأويله فبحسب ما يحتمله اللفظ بالنسبة العقول البشر كالحالة في سجين في القبح والمذمة، وهو أيها السائل عنه «كِتابٌ مَرْقُومٌ» مكتوب بخط غليظ يعلم ما فيه من يطلع عليه عن بعد الأول نظرة دون دقة ورويّة، وهو علامة على سعادة صاحبه وكونه من أهل الجنة، وفيه إشارة إلى علو درجات صاحبه فيها، ومبالغة في بركة ذلك العلو وشرفه، لأنه وصف من العلو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولقب به لأنه سبب لارتفاع صاحبه إلى أعالي درجات الجنة، وهو في أحسن موضع بالجنة موضوع في مكان مؤنس منير تحت العرش، وهو عبارة

[سورة المطففين (83) : الآيات 21 إلى 30]

عن كتاب جامع هو علم لديوان أهل الخير دون الله به أعمال الأنبياء والشهداء والملائكة والعارفين وصلحاء الأمة من الأولين والآخرين، وعليون على ما ظهر لك من التفسير هو كتاب مرقوم مسطور فيه كل عمل صالح ظاهر الكتابة، معلم بعلامة يعلم منها من رآه لأول لمحة أنه جامع لكل خير فيما كتب من أعمال الأبرار، مدون فيه بخط واضح مميز عن غيره، ومنه رقم الثوب أي نقشه لظهوره للرائي عن بعد وتمييزه عن الثوب «يَشْهَدُهُ» من الملائكة «الْمُقَرَّبُونَ» 21 لكرامة أهله وشرفهم عند ربهم، أخرج ابن المبارك عن قمرة بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الملائكة يرفعون اعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي في عمله فاجعلوه في عليين. مطلب مقام الأبرار والفجار، وشراب كل منهما، والجنة والنار: قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» 22 جمع بار وهم المتصفون بطاعة الله المنتهون عن مخالفته، المؤمنون بالبعث، الموفون الكيل والميزان، وهذا بمقابلة قوله تعالى (إِنَّ الْفُجَّارَ) بما يدل على أن المراد بهم الكفار لا غير، فهؤلاء الكرام مقرهم عند الله في نعيم الجنة الدائم، وهذا بيان الله تعالى بحسن أحوالهم في الآخرة جزاء أعمالهم الطاهرة، كأنه قيل قد علمنا كتابهم فما هو حالهم، فيقال نعيم الجنان تراهم «عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة في الحجال «يَنْظُرُونَ» 23 إلى عظمة ربهم جل جلاله وإلى ما أعده إليهم في داره الباقية، وإلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة، وهم في محلهم لا يحجب أبصارهم الحجال التي هم فيها ولا غيرها، وفي قوله تعالى ينظرون إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة، كما وردت بذلك الأخبار، لما في النوم من زوال الشعور وغفلة الحواس، وهذا لا يناسب ذلك المقام. قال تعالى «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» الباهية الحسنة اللامعة النضرة «نَضْرَةَ النَّعِيمِ» 24 بهجته

ورونقه لما ترى من النور الساطع عليها الحاصل من سرور قلوبهم، وفيها أيضا رمز لعدم النوم لأنه يسلب نور الوجه ويغير بهجته كما هو مشاهد في الدنيا، والخطاب لكل من له حظ من الخطاب إيذانا بأن ما لهم من آثار النعمة واضحة لا يختصّ بها راء دون راء «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ» 25 لم تمسه يد البتة، والرحيق اسم نوع من أشربة الجنة أبيض اللون طيب الطعم كريم الرائحة لا غول فيها ولا إثم، وقد ختم عليها لشرفها وبفاستها بكلمة كن فكانت، كما أنها تفتح عند شربها بالإرادة، ولذلك فلا يفض ختمها لمن يشربها إلا عند إرادة الشرب، قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل وهذه الخمرة غير الأنهار الجارية في الجنة، ولها أناس مخصوصون، فكما أن أهل الجنة درجات متفاوتون في السكنى والمقام والنزهة، فكذلك هم درجات في المأكل والمشرب والملبس، متفاوتون متفاضلون بنسبة تفاضلهم في الأعمال، والفرق بينهما لا يقاس بالفرق بين تفاضل أهل الدنيا، كما لا تقاس الدنيا بالآخرة، وهذا الشراب «خِتامُهُ مِسْكٌ» خالص لا بضاهيه مسك الدنيا باللون والرائحة والطعم، وانك أيها الشارب له تجد طعمه فيها عند شربها من غير طوح الشدادة لأنها ليست من خشب أو شمع أو غيره مما يفعله أهل الدنيا لخمرتهم الخبيثة، بل هي بحيث عند ما تضعها بين الشفتين تصمحل في الشراب كأنها لم تكن، ولهذا بقول الله تعالى لأهل الدنيا «وَفِي ذلِكَ» الشراب المختص للأبرار والكرام «فَلْيَتَنافَسِ» وليرغب فيه لا في خمرة الدنيا الدنسة المزيلة للعقل، ولا في شهواتها المنافية للعزة والمهابة والكرامة، «الْمُتَنافِسُونَ» 26 الراغبون، ويتباهى به المتباهون، فعلى العاقل أن يبادر لطاعة الله في دنياه ليتوصل إلى هذا النعيم المقيم، لأنه مما يحرص عليه ويطمع فيه ويريده كل أحد لنفسه، وينفس به أي يعز عليه ويبخل به ويفضله على غيره، ويستأثر به، وأصل التنافس التغالب في الشيء، والنفيس مأخوذ من النفس لعزّتها، كأن كلّا من الشخصين يريد أن يختص به لنفسه، وقال البغوي: أصله من النفيس الذي تحرص عليه النفوس وتشح به على غيرها «وَمِزاجُهُ» مخلوط

ذلك الشراب المسمى بالرحيق ليس ماء عاديا مثل ما يخلط أهل الدنيا شرابهم البدي ليخفف نتنه وحدته، بل يشاب «مِنْ تَسْنِيمٍ» 27 علم لماء عين بالجنة على غاية من الصفاء والحلاوة والبهاء والرقة، خلقه الله تعالى خاصة لمزج شراب أهل الجنة الذي هو من ذلك النوع. روي عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة بن اليمان أنها عين من عيون إحدى الجنان العالية. وهو مصدر مأخوذ من سنم إذا ارتفع ومنه سنام البعير. وهذه العين هي ارفع شراب أهل الجنة، ومن خواصها أنها تأتي أهلها الذين يشربون منها أو يمزجون شرابهم منها من جهة الفوق، لأنها تجري بالهواء بلا أخدود، ماؤها كريم لكونه «عَيْناً» حال من تسنيم، وضح يجيء الحال منه مع أنه جامد، لتأويله بمشتق، كجارية مثلا، أو لأنه وصف بقوله تعالى «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» 28 من الله تعالى الدانون عنده بتفضله عليهم لما أسلفوه من أعمال طيبة، وهذه هي المدامة التي تواصى بها أهل الذوق من أهل الحقيقة الكاملين، وقد أطنبوا في مدحها ووصفها، ولم أقف على أفضل من أقوال ابن الفارض رحمه الله فيها بقصيدته الرنانة التي لم يسبق بمثلها والله أعلم وأولها: شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم وآخرها: على نفسه قليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم وأحسن بيت فيها قوله فيها: صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم تهذب أخلاق الندامى فيهتدي ... بها لطريق العزم من لا له عزم وكل بيت فيها أحسن من الآخر وأبلغ وأفصح، وفيها من أنواع البديع ما لا يستغني عنه البديع. هذا وقدمنا في الآية 46 من الصافات ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من عامة الخلق وخاصة الرؤساء منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشباههم في كل عصر «كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» كعمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وشبههم من فقراء المسلمين الصادقين المخلصين في الدنيا «يَضْحَكُونَ» 29 منهم لمّا يرونهم

[سورة المطففين (83) : الآيات 31 إلى 36]

استهزاء بهم وسخرية «وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» 30 أيضا بأن يشير بعضهم إلى بعض بأعينهم وجوارحهم وشفاههم إشارات وحركات تدل على استحقارهم وإهانتهم والطعن بهم، والسب والشتم والتغيير بما هم عليه من الفقر والكآبة، فنزلت هذه الآية بهم. وجاء في البحر أن عليا كرم الله وجهه وجماعة من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فصاروا يضحكون منهم ويستخفون بهم فنزلت قبل أن يصل علي وجماعته لحضرة الرسول ليخبروه بذلك، وعند وصولهم إليه تلاها عليهم، وهي صالحة للوجهين وعامة في كل من يفعل فعلهم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وهنا الآية واقعة حال من أولئك الكفرة قبل نزول هذه الآية بدليل قوله تعالى (كانُوا) وجيء بها هنا تمهيدا لذكر بعض أحوال أولئك الأشرار مع هؤلاء الأبرار. قال تعالى «وَإِذَا انْقَلَبُوا» في مجالسهم ورجعوا «إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» 31 متلذذين فرحين مستبشرين بما فعلوه من الاستخفاف بأولئك الكرام، معجبين بما ذكروهم فيه في غيبتهم عن أهلهم ويتفكهون به لما له من الوقع في قلوبهم الخبيثة «وَإِذا رَأَوْهُمْ» رأى الكافرون المؤمنين «قالُوا» بعضهم لبعض على مسمع منهم «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» 32 في انتسابهم إلى محمد وإيمانهم به، يريدون جنس المؤمنين لا الذين مروا بهم فقط، وجاء التأكيد بأن واللام لمزيد الاعتناء بسبهم فيقولون إنه خدعهم بقوله وتركوا هذه اللذائذ المحسوسة لما يرجيهم به من شهوات الآخرة الموهومة، فهم قوم تركوا الحقيقة أملا بالخيال، وهذا هو عين الضلال لأنهم يظنون أنهم على شيء والحال ليس هم على شيء أصلا، قاتلهم الله أتى يؤفكون، ألم يعلموا أنهم هم الظالمون الضالون، ولكن السيء لا يرى إلا السيء، فالمؤمن مرآة أخيه، والكافر مرآة نفسه، والدن ينضح بما فيه، فلماذا يقولون هذا، والله تعالى يقول «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» 33 لهم يراقبون أعمالهم، ولم يتوكلوا عليهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم وتهذيبها مما يضرها، وتطهيرها مما يدنسها، فاشتغالهم بها أولى من تتبع أحوال غيرهم وتسفيه أحلامهم وترك أنفسهم تمرح في هواها وتحارب مولاها، ألا يحملون أنفسهم على قبول الحق، وينهونها عن الضلال؟ قال تعالى «فَالْيَوْمَ» أي يوم القيامة

مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم:

يوم البعث والحساب والجزاء ترى «الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» 34 بمقابلة ضحكهم عليهم بالدنيا حين كانوا يرونهم أذلاء مهانين بأعينهم بسبب تسلطهم عليهم وإيقاع الهوان بهم بعد العزة والرفاه، وإرهاقهم بأنواع العذاب بعد التنعم والترف إذ انقلب الأمر بالعكس عند ما أفضى المؤمنون إلى الآخرة، فصاروا يسخرون من الكفار كما كانوا يستهزئون بهم في الدنيا حالة عزّهم وكبريائهم، إذ غاب عنهم ما كانوا فيه، وتباعد عنهم ما كانوا يأملون، وزجوا في العذاب، ولاقوا من الأسى ما لم يكن بالحسبان، وذلك سبب ضحك المؤمنين منهم، لأن ما لا قوه في الدنيا من الوبال قد زال وانقلبوا إلى رضاء ربهم ورحمته، كما أن أولئك زال عنهم نعيم الدنيا، وغشيهم عذاب الآخرة الدائم، فاستوجبوا الضحك عليهم لما هم فيه من البلاء، والمؤمنون في السرور والهناءة، وهناك الضحك لا هنا: هذى الجمال لا جمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأظهر قال تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية 33 من تبارك المارة، فأولئك في الجحيم وهؤلاء «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» 35 هذه الجملة حال من فاعل يضحكون أي يضحكون منهم حالة كونهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان وهم متكئون على سررهم، وأرائك الجنة من الدر والياقوت، قال أبو صالح: تفتح للكافرين أبواب النار وهم فيها ويقال لهم أخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم، فيفعل فيهم ذلك مرارا، والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم. مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم: قال تعالى «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ» بعمل الله هذا بهم في الموقف وفي الجحيم، وهل جوزوا في الآخرة جزاء «ما كانُوا يَفْعَلُونَ» 36 بالمؤمنين في الدنيا من الأذى والاستهتار والضحك وغيره، وهذا الاستفهام استفهام تقرير، أي بل إنهم جوزوا حق جزائهم على إجرامهم في الدنيا، وحق لهم أن يفعل بهم هذا لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابا. واعلم أن ثوّب وأثيب بمعنى واحد، قال أوس: سأجزيك أو يجزيك عني مثوب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي

ومثاله في الشر قول أبى عبده: ألا أبلغ أبا حسن رسولا ... فمالك لا تجيء إلى الثواب وقال المبرّد هو فعل من الثواب يثوب إلى من علم جزاء عمله خيرا أو شرا، ويعرف بالقرينة، والثواب والتثويب والإثابة سواء، وفعل ثوب يطلق على المجازات بالخير والشر، ولكن اشتهر بالخير وجاء هنا مرادا به الشر على طريق التهكم كقوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية 31 من آل عمران في ج 3، وقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية 49 من سورة الدخان المارة، فكأنه تعالى شأنه يقول للمؤمنين هل كافيناكم على عملكم الدنيوي وأثبناكم جزاءه خيرا، وهل جازينا الكفرة على أفعالهم وعاقبناهم عليها، أم لا، فيكون هذا القول من الله للمؤمنين زائدا في سرورهم وحبورهم لما فيه من تعظيمهم وإكرامهم، وزائدا للكافرين في أسفهم وحزنهم لما فيه من هوانهم وشقائهم، وما حل بهم هذا إلا بسبب تكبرهم على الفقراء وإهانتهم لهم مع كفرهم وجحودهم، وما كان استخفافهم بفقراء المؤمنين إلا بسبب غناهم وكثرة اتباعهم التي هي من نعم الله عليهم، فبدلا من أن يشكروها ويخبتوا للذي خصّهم بها، طغوا وبغوا، قال تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) الآية 7 من سورة العلق، وقد سئل أبو حنيفة رحمه الله عن الغنى والفقر، فقال وهل طعى من طغى من خلق الله إلا بالغنى، وتلا هذه الآية. وإن المحققين يرون الغنى والفقر من قبل النفس لا من كثرة الأموال والأولاد والعشيرة، ولهذا كان الأصحاب رضوان الله عليهم يرون الفقر فضيلة، وقد حدث الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما، فقال جليس الحسن أمن الأغنياء أنا أم من الفقراء؟ فقال تغديت اليوم؟ قال نعم، قال فهل عندك ما تتعشى به؟ قال نعم، قال فإذا أنت من الأغنياء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يبيت طاريا ليالي ماله ولا لأهله عشاء، وكان عامة طعامه الشعير، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وكان يأكل خبز الشعير غير منخول، وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها، وكان صلّى الله عليه وسلم يقول اللهم توفني فقيرا ولا تتوفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين.

وقال جابر رضي الله عنه: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم على ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل، فبكى وقال تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة. قال تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) الآية 3 من سورة والضحى في ج 1، وقال صلّى الله عليه وسلم الفقر موهبة من مواهب الآخرة وهبها الله تعالى لمن اختاره ولا يختاره إلا أولياء الله. وقال صلّى الله عليه وسلم هل تنصرون إلا بفقرائكم وضعفائكم، والذي نفسي بيده ليدخلن فقراء أمتي الجنة قبل اغنيائها بخمسمائة عام والأغنياء يحاسبون على زكاتهم. وقال صلّى الله عليه وسلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به (أي ثوبين خلقين أو كساءين باليبن من غير الصوف) لو أقسم على الله لأبرّه. أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه إياها، ولم يعطه من الدنيا شيئا، ولو أقسم على الله تعالى بإعطائه لأعطاه إياها، ولكنه لا يفعل. وقال صلّى الله عليه وسلم إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به (ثم بين صفة الذين لا يؤبه بهم بقوله) الذين إذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تلجلج في صدره، لو قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم. هؤلاء الفقراء الذين كانوا ولا يزالون أهل الدنيا يسخرون منهم، وهم خير منهم عند الله تعالى. وقال صلّى الله عليه وسلم اتخذوا عند الفقراء أيادي (في الدنيا) فإن لهم دولة يوم القيامة، أي يحتاج إليهم الأغنياء والأمراء، فإذا أكرموهم بالدنيا فإنهم يشفعون لهم في الآخرة، اللهم وفقنا لرضاك، ومتعنا بالعافية، واسبل علينا سترك، واجعلنا أهلا لعفوك، واجعل رزقنا كفافا، ولا تحوجنا إلى شرار خلقك، واغرس في قلوبنا حب الفقراء والمساكين من عبادك الصالحين، ووفقنا للتصدّق عليهم من كرمك وفضلك وجودك المسبل علينا برحمتك يا أرحم الراحمين. هذا أيها الناس حال الفقراء في الآخرة الدائمة، فما هو حال الأغنياء فيها لأن حالهم في الدنيا ليس بشىء مهما كان إذا لم يكن لهم عند الله مقام في الآخرة، لأن هذه الدنيا مهما بلغ العبد فيها من الثراء في المال والجاه فمصيرها الزوال، فاسعوا رحمكم الله لما يبقى، وأكرموا الفقراء لأنهم سيسخرون من الأغنياء يوم القيامة كما كان الأغنياء يسخرون منهم في الدنيا. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا

مطلب بقية قصة الهجرة وفضل أبي بكر الصديق وجوار ابن الدغنة له:

قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. وهذا آخر ما نزل في مكة المكرمة من سور القرآن الكريم ولم يبق من القسم المكي إلا آيات أثبتناها ضمن سورها المدنية كما سنأتي على ذكرها في محلها إن شاء الله، وسنشير إليها كما أشرنا في القسم المكي إلى الآيات المدنيات المثبتة ضمن سورها المكية، وقد ذكرنا شيئا من هجرة الرسول بعد نزول سورة المطففين واجتماع قريش على الصورة المبينة في الآية 40 من سورة العنكبوت المارة، وقد وعدنا بإكمال قصة الهجرة بعد تفسير الآية 60 منها، وهانذا أوفي بذلك فأقول ومن الله التوفيق: مطلب بقية قصة الهجرة وفضل أبي بكر الصديق وجوار ابن الدغنة له: إن حضرة الرسول وأبا بكر لما ذهبا إلى الغار، وجاء المشركون إليه، فلم يدخلوه لما رأوا عليه من نسج العنكبوت الدال على عدم دخوله من قبل أحد رجعوا يتحرونة خارج مكة، لأنهم يعلمون أن أحدا لا يدخله داره بعد أن تحالفوا وتواثقوا على قتله، وبقي صلّى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار ثلاثة أيام. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟. قال الشيخ محي الدين النووي: معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) الآية من آخر سورة النحل المارة، ويشير قوله هذا إلى عظيم توكله صلّى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام، وتؤذن بفضل أبي بكر واختصاصه برفقته هذه لحضرة الرسول التي أشار الله إليها في قوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) ، وقوله في صدر هذه الآية 42 من سورة التوبة ج 3 (إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) وتعد هذه من أجل مناقبه رضي الله عنه في هذه الحادثة من أوجه كثيرة، منها اللفظ الدال على أن الله تعالى ثالثهما كما مر في الحديث، ومنها التنويه في الآية المذكورة بصحبته،

ومنها بذله نفسه لحضرة الرسول ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، ومنها ملازمة النبي صلّى الله عليه وسلم ومعاداة الناس من أجله، ومنها أنه جعل نفسه وقاية لحضرة الرسول، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ذكر عنده أبو بكر، فقال وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه، وليلة واحدة من لياليه. أما الليلة فليلة سار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الغار، فلما انتهيا إليه قال والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخله وكنسه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدّه به، ووجد ثقبين آخرين فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله أدخل، فدخل ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الثقب، فلم يتحرك مخافة أن ينتبه حضرة الرسول، فسقطت دموعه على وجهه الشريف، فقال صلّى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر؟ قال لدغت فداك أبي وأمي، فتقل على محل اللدغة فذهب ما يجده من ألم ببركته صلّى الله عليه وسلم. وما قيل إنه انتقض عليه وكان سبب موته بعيد عن الصحة، لأن ما بين اللدغة وبين موته ما يزيد على إحدى عشرة سنة، فلا يعقل بقاء أثر اللدغة تلك المدة، على أن السم إذا برىء منه صاحبه نفع وجوده كما هو معلوم طبا ومشاهدة، وأما يومه فلما قبض صلّى الله عليه وسلم ارتدت العرب، وقالوا لا نؤدي الزكاة فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، فقلت يا خليفة رسول الله تألّف الناس وارفق بهم، فقال لي: أجبار في الجاهلية حوار في الإسلام، إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟ - أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد- قال البغوي: وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى العار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلقه فقال له رسول الله مالك يا أبا بكر؟ فقال أذكر الطلب فأمشي خلقك، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأه، ثم قال انزل يا رسول الله، فنزل وقال له إن أقتل وأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قتلت هلكت الأمة. قال الزهري لما دخل رسول الله الغار وأبو بكر أرسل الله سبحانه وتعالى زوجا من حمام حتى باضت أسفل النقب، ونسجت العنكبوت بيتا، وقيل أتت يمامة على فم الغار وقال صلّى الله عليه وسلم

اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت. هذا وقد وجدت في بعض التفاسير هذه الأبيات منسوبة لأبي بكر رضي الله عنه، فأثبتها وهي: قال النبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدف في ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد تكفل لي منه بإظهار وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين قد كادت لكفار والله مهلكهم طرّا بما صنعوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النار ومنها أنه صلّى الله عليه وسلم لما اختفى في الغار كان مطلعا على باطن أبي بكر في سرّه وإعلانه بأنه من المؤمنين الموقنين المخلصين، ولذلك اختار صحبته في ذلك الوقت الرهيب والمكان المخوف، ومنها أن هذه الهجرة كانت بإذن الله تعالى فخص بصحبته فيها الصديق دون غيره من أهله وعشيرته، وهذا التخصيص يدل على فضل أبي بكر وشرفه على غيره، ومنها أن الله تعالى عاتب أهل الأرض كلهم بقوله عز قوله (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) الآية المارة من التوبة سوى أبي بكر، وهذا دليل كاف على فضله على أهل الأرض كلهم عدا صاحبه، ومنها أنه رضي الله عنه لم يتخلف عن رسول الله في سفر ولا حضر بل كان ملازما له في الشدة والرخاء وهذا مما يدل على صدق محبته له وكثرة مودته بحيث لا تستطيع نفسه الكريمة مفارقة حضرة الرسول في اليسر والعسر، ومنها مؤالسته للنبي صلّى الله عليه وسلم في الغار وبذل نفسه له وفداء زوجه أمامه كما تقدم ذكره حال المشي وحال الدخول وحال الاستقرار في الغار مما يحقق تمحضه فيه، ولهذا جعله الله تعالى ثاني رسوله بقوله عز قوله (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) الآية المارة من التوبة، وفي هذا نهاية الفضيلة وغاية الكرامة له. وقال بعض العلماء: إن أبا بكر ثاني رسول الله في أكثر الأحوال، ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا الخلق إلى الإيمان بالله وبكتابه فكان أبو بكر أول من أجاب دعوته، وهو أول من دعا إلى الإيمان بعد رسول الله فاستجاب له عثمان وطلحة والزبير، فآمنوا على يديه وحملهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأقروا له بالإيمان، ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقف في موقف من غزواته إلا وأبو بكر

معه لشدة حرصه عليه، ومنها أنه لما مرض صلّى الله عليه وسلم قام مقامه في الإمامة بأمره صلّى الله عليه وسلم مما يدل على تفضيله على سائر الأصحاب، ومنها أنه ثانيه في تربته صلّى الله عليه وسلم لأنه دفن بجانبه وفي هذا دليل على فضله أيضا، ومنها أن الله تعالى نص على صحبته دون غيره بقوله جل قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) الآية الآنفة الذكر من التوبة، ومنها أن الله تعالى كان ثالثهما، ومن كان الله معه فهو كاف على فضله وشرفه على غيره، ومنها إنزال السكينة على أبي بكر واختصاصه بقوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الآية المذكورة أيضا، قال ابن عباس المراد أبو بكر لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ذلك. هذه نبذة قليلة من فضائله رضي الله عنه قال الأبوصيري: وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمي فالصدق في الغار والصديق لم يرما ... وهم يقولون ما في الغار من أرم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم هذا وبعد أن بقي النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاثة أيام بلياليها لا حامي لهما إلا الله ولم تترك قريش محلا إلا دخلته تفتش عليه، وكان أبو بكر منذ أخبره حضرة الرسول بإذن الله بالهجرة ووافق على استصحابه معه استحضر راحلتين ليركبا عليهما وصار يعلفهما، وقيل أن يذهبا إلى العار استدعيا رجلا من بني عدي وسلماهما إليه وأمراه بإكرامهما، وواعداه أن يحضرهما إليهما بعد صبيحة ثلاث إلى الغار، وفي الوقت المذكور أتى بهما إليهما فخرجا من الغار والناس نيام بعد والعيون منقطعة، فركب كل منهما واحدة واستصحبا الديلى دليلا ومشيا على بركة الله قاصدين المدينة، كما جاء في الحديث الصحيح الذي هو من إفراد البخاري المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين الإسلامي، ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (بفتح الراء وكسر الغين موضع بينه وبين مكة خمس ليالي مما يلي البحر لأن طريقهما كان على الساحل)

لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، تخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق. - ولو قال كما قال مؤمن آل فرعون (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) الآية 28 من سورة المؤمن المارة لأن الجلاء أخر القتل عندهم بل أشد، ولكنه لا يدين بدين الله حتى يقول ذلك بتوفيق الله، وإنما وصفه بأوصافه الكريمة وهو لها أهل-. فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وفي رواية: فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها ويقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا، فقال ذلك ابن الدغنه لأبي بكر، فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذّف عليه نساء المشركين وأنباؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلا لا يكاد يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك اشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال له قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإمّا أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر إني أردّ إليك جوارك وأرضى

بجوار الله، والنبي صلّى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم للمسلمين إني أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له صلّى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر وهو الخبط أربعة، أشهر. قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت فجاء رسول الله فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك، فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال فإني قد أذن لي في الخروج، قال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعم، قال أبو بكر فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالثمن، قالت عائشة فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها (التي تشد به وسطها) فربطت به فم الجراب، فبذاك سميت ذات النطاقين، قالت ثم لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن (صادق فطن مرن سريع الفهم سريع الانتقال) ، فيدلج (الإدلاج بالتخفيف السير أول الليل وبالتشديد آخره) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كباثت فيها، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة (المنحة الشاة ذات اللين) من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل (بكسر الراء وسكون السين اللين) حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عدي هاديا خرّيتا

مطلب قصة سراقة بن مالك الجشعمي حين الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(الخرّيت الماهر في الدلالة) قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي (أي أخذ نصيبا من حلفهم وعهدهم) وهو على دين كفار قريش، فآمناه ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما صبح ثلاث، فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بهم طريق الساحل، وفي هذا قال الأبو صيري ينعى حال قريش وقبح صنيعهم مع حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم: ويح قوم جفوا نبيا بأرض ... ألفته ضبابها والضباء أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء وجفوه وحن جذع إليه ... وقلوه ووده الغرباء وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء واختفى منهم على قرب مرآ ... هـ من شدة الظهور الخفاء الأبيات من قصيدته التي قل أن توجد قصيدة مدح يبلاغتها وجمعها للمعاني، ولهذا قالوا ما مدح خير البرية بأحسن من البراءة والهمزية، وكلاهما له رحمه الله. مطلب قصة سراقة بن مالك الجشعمي حين الحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جشعم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جشعم يقول: جاءنا رسول كفار قريش لما هاجر رسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه صديقه رضي الله عنه، يخبرنا أنهم أرسلوا في أثرهما الرسل، وبئوا العيون، ونصوا الأشراك، وأقاموا الأرصاد ليحولوا دون هجرته، فلم يظفروا به، وأنهم جعلوا جائزة قدرها مئة ناقة لمن يقتل أحدهما أو يأسره، ومئتان لمن يقتلهما أو يأتي بهما، قال سراقة فيلنا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال يا سراقة إني قد رأيت أسودة بالساحل (أي أشخاصا) أراهما محمدا وأصحابه، قال سراقة فعرفت أنهم هم، فقلت له إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، ثم لبنت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج الفرس وراء الأكمة (هي التل المرتفع) فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت من ظهر البيت كي لا يراني أحد، لأختص

بتلك الجائزة دون قسيم أو شريك، قال فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تضرب بي (تعدو عدوا دون الإسراع) ، ثم صرت أشتد في أثرهم حتى دنوت منهم، فعثرت فرسي، فخررت عنها، فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي (الجعبة التي فيها السهام) فاستخرجت منها الأزلام (الأقداح التي كانوا يتفاءلون بها) فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، فلا زالت تضرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات يمينا وشمالا، وإذ ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فلم تكد تخرج يديها فنهضت، فلما استوت قائمة إذا الأثر بين يديها غثان (غبار) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام ثانيا فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم ان سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد رأيت أن الخوف دخل أبا بكر، ولكن الرسول ثابت فؤاده، ولما تاديت بالأمان ترجلت خشية أن يصيب فرسي ما أصابها قبل، حتى إني خشيت على نفسي أن يصيبها ما أصاب فرسي، فقلت له يا رسول الله إن قومك قد جعلوا فيك وفي صاحبك الدية، وإنهم يريدون قتلكما وإني راجع رادهم عنك، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزأني (لم يأخذا مني شيئا) ولم يسألاني إلا أن قالا أخف عنا ما استطعت، فقلت يا رسول الله أدع الله أن يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع وأردّ عنك، واكتب لي كتاب أمن بأنك إذا أظهرك الله وملكت رقاب الناس وجئتك أن تكرمني، فقال صلّى الله عليه وسلم اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده، وأمر عامر بن فهيرة أن يكتب لي العهد، فأبيت إلا أن يكون الكاتب أبا بكر، فأمره، فكتب له رقعة من أديم ما أراد من العهد، أمانا له عند ظهور أمره. وهذا مما يؤيد عدم معرفته صلّى الله عليه وسلم الكتابة كما ذكرنا في الآية 48 من سورة العنكبوت المارة، قال ثم عرضت عليه ثانيا أن يتزود من مالي ما شاء فقال يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك، فقلت مرني بما شئت، فقال لا تترك أحدا يلحتنا، وقال كيف بك يا سرافة إذا

تسورت بسواري كسرى؟ فقلت متعجبا كسرى بن هرمز؟ قال نعم، فرجعت ومضى رسول الله ومن معه لجهة المدينة، قال سراقة ولما عدت إلى مكة اجتمع إليّ الناس يسألونني عما حدث لي مع رسول الله، فأنكرت أولا رؤيته بتاتا، ولكنهم عادوا علي واستخبروني فأخبرت أبا جهل بما حدث فلامني على ما كان مني، فأنشدته معتذرا بما ألقى الله على قلبي ولساني فقلت: أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه قالوا ولما كان عام الفتح وكان رسول الله عائدا من غزوة حنين بالجعرانة، إذا بصائح يصيح يا رسول الله، حتى أنخرط في كتيبة الأنصار وهو ينادي يا رسول أنا سراقة بن مالك، وهذا كتاب عهدي منك، فقال صلّى الله عليه وسلم أدنوه، فهذا اليوم يرى وفاء، وقال له إن وعد الحرّ دين، فأسلم وحسن إسلامه وحظي بسواري كسرى زمن خلافة ابن الخطاب، وأخبر بأن هذا مما أخبره محمد صلّى الله عليه وسلم بهما عام الهجرة. فهي من معجزاته صلّى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة (أرض ذات حجارة خارج المدينة فينتظرونه حتى يردّهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ظهر أطم من آطامهم (أشرف على بناء مرتفع من أبنيتهم) لأمر ينظر إليه، فبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي نفسه أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه، قال فثار المسلمون إلى السلاح وظهروا يتلقون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين غرة ربيع الأول سنة 54 أربع وخمسين من ميلاده الشريف، الثالث عشر من البعثة المقدسة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقام أبو بكر للناس يتلقاهم ويصرفهم والتي صامت، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يعرف رسول

الله يحيي أبا بكر لأنه هو الذي يتلقاهم ويصافحهم ويجلسهم مجالسهم، ويقصد بذلك عدم تكليف حضرة الرسول واحتراما وتكريما لمقامه، فظنوا أنه هو الرسول، ولما قربت الشمس من مجلسهما ورأى أبو بكر أن الشمس أصابت حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم قام فظلل عليه بردائه، فعرف الناس كلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذاك، فلبث صلّى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أخبر الله عنه بأنه أسس على التقوى في الآية 110 من سورة التوبة في ج 3، وصلى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم ركب راحلته فسار والناس تمشي خلفه حتى بركت عند مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم الآن بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مريدا للتمر (بيدر التمر) وهو ملك لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمريد ليتخذه مسجدا، فقالا بل نهيه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة، حتى ابتاعه منهما بما أرضاهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله ينقل مع أصحابه اللين والتراب ويعين أصحابه في بنائه، وكان يقول أثناء شغله معهم: هذي الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر يعني بذلك أن الحجارة التي تحملها لبناء المسجد أفضل عند الله تعالى مما يحمل من خيبر من المال والميرة وغيرها من أنواع التجارة، وفي رواية بالجيم من التجميل أو من الجمال وعليه يكون المعنى أن ما تحمله الجمال من خيبر مما هو جميل بنفسه أو أن الجمال فقط وهي الإبل ليست بشيء بالنسبة لما هم فيه من بناء المسجد الشريف والرواية الأولى أشهر، قالوا وكان يقول صلّى الله عليه وسلم: اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة وقيل إنه تمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسمّه، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله تمثل بيت شعر تام غير هذا البيت، وهو من الرجز ولا يسمى الرجز شعرا، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا في الآية 68 من سورة الشعراء والآية 70 من سورة يس في ج 1، أخرجه البخاري، وقد أخرج الدارقطني وابن

شاهين وابن مردويه وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه أنت صاحبي في الغار وأنت رفيقي على الحوض. وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأبي هريرة مثله، وأخرج هود ابن عدي عن طريق الزهري عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لحسان هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال قل، فقال رضي الله عنه من جملة ما قال في حقه: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صاعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال صدقت يا حسان هو كما قلت، وقال بعضهم إن شبان قريش ذهبوا نحو الغار بأسلحتهم حتى كانوا عنه قدر أربعين ذراعا فتقدم أحدهم وهو أمية بن خلف فقال إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد، فانصرفوا، وزاد البيهقي في الدلائل أن أبا بكر صار يمشي مرة عن يساره، ومرة عن يمينه، وانه قال لحضرة الرسول لا آمن عليك وان محمدا صلّى الله عليه وسلم صار يمشي على أطراف أصابعه حتى حقيت رجلاه، فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى فم الغار، قالوا وجرح صبع أبي بكر أثناء كله الغار، فجعل يمسح الدم ويقول: ما أنت إلا أصبح دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وذهب الذين كانوا في طلبه صفر الأكف سود الوجوه، وصار له بعض من كان عليه، وهذا أول خير من فضائل الهجرة، إذ صاروا يتلاومون على فعلهم الذي سبب هجرته عنهم فقد أخرج ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضي الله عنه قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر التفت أبو بكر، فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال يا نبي الله هذا فارس قد لحق ربنا، فقال صلّى الله عليه وسلم اللهم اصرعه، فصرع عن فرسه، فقال يا رسول الله مرني بما شئت، قال تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا، فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة له، وكان هذا الفارس سراقة المار ذكره في الحديث الأول الذي رواه البخاري. وصح من حديث الشيخين وغيرهما أن القوم طلبوا رسول

الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر، وقال أبو بكر ولم يدركنا إلا سراقة على فرس له، فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال لا تحزن إن الله معنا كما أشار الله بهذا في الآية 42 من سورة التوبة في ج 3، حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة، قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال لم تبك؟ قلت أما والله ما أبكي على نفسي ولكن أبكي عليك، فدعا عليه الصلاة والسلام، وقال اللهم اكفناه بما شئت، فساخت فرسه إلى بطنها في أرض جلدة (قوية) ووثب عنها، وفي رواية: قال اللهم اكفناه بما شئت وكيف شئت، فساخت قوائم فرسه في الأرض ولم تقو على مغادرتها فهال الأمر سرافة وانخلع قلبه فزعا وهلعا، فترجل خشية أن يصيبه ما أصاب فرسه، ونادى الأمان يا محمد أنظرني أكلمك، أنا لك نافع غير ضار، وقال يا محمد إن هذا عملك فادع ربك أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب، واني راجع رادهم عنك، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي رغنمي في موقع كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا حاجة لي فيها، ودعا له، فانطلق راجعا إلى مكة وقال ما قال كما مر آنفا، ورجع إلى أصحابه من بقية الطلب، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة. الحديث. قالوا وكان في استقبال الرسول جماعة من أهل المدينة غير المهاجرين، وكان معهم الفتيات يفتين فرحا باستقباله صلّى الله عليه وسلم، ومن جملة ما نقل عن أناشيدهن: أقبل البدر علينا من ثبات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعى لله داع ومنهن من قلن: نحن بنات من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار ويضربن بالدف ويظهرن معالم الفرح والسرور بقدومه بما جرت عليه عادتهم رضي الله عنهن وأرضاهن، فيظهر من هذه المعجزات التي أظهرها الله على يدي رسوله في مكة وآخرها قضية سرافة أن حضرة الرسول لم يهجر بلده مكة وقومه وعشيرته فيها عن ضعف أو خوف، كيف وقد أخبره الله تعالى في إنزال العذاب فيهم مرارا فلم يفعل لشدة حرصه على إسلامهم، وكان يجابه ربه بقوله اللهم اهد

قومي فإنهم لا يعلمون، وإنما كانت هجرته هذه اتباعا لأمر الله تعالى وتقديره الأزلي في ذلك، وكان فيها الخير والبركة وعلو الكلمة وشرف السمعة، وان قومه بعد رجوعهم من طلبه وسماعهم قول سراقة وما جرى له معه، راجعوا أنفسهم ورأوا أنهم مقصرون تجاهه، وانشقوا في الرأي وأوقعوا اللوم على الذين قرورا قتله في دار الندوة حتى نشأ عنه تركه إياهم وصاروا يمحصون أقواله ويفندون أفعاله، فلم يروا منها ما يوجب النقد أو النفع الخاص أو الضرر لأحد، أو أن ذلك لطلب الرياسة أو المال أو غيره، وإنما يدعو لتوحيد الله، وهذا شيء لم يألفوه من قبل ولم يتلقوا شيئا منه عن آبائهم فخالقوه، ويدعو للاعتراف بالبعث بعد الموت وهو لا تقبله عقولهم، وان هذين الأمرين ما كان أحد منهم يقسر على الاعتراف بهما، وإنما على طريق النصح والإرشاد وليس إلا، لذلك تيقنوا ان سقط في أيديهم وندموا على ما فعلوا وعنقوا غيرهم عليه، وقالوا إنه سيجد في المدينة أنصارا وأعوانا ربما أنّهم سيهاجموكم في عقر داركم هذه، وقد أوقع الله الرعب في قلوبهم وصاروا يترقبون خوف الكرة عليهم بمن دان بدينه، وكان ذلك، إذ أظهره الله عليهم وأتم أمره فيهم، كما سيأتي في قصة الفتح إن شاء الله تعالى عند تفسير الآية الأولى من سورة الفتح في ج 3، هذا وما ذكرناه من الأحاديث هو خلاصة ما جاء في الهجرة وسببها وكيفيتها، ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية، ففيهما الكفاية. ومما تقدم تبين لك أيها القارئ عظيم فضل سيدنا علي كرم الله وجهه، لأنه هادى بنفسه الكريمة في طاعة ابن عمه محمد صلّى الله عليه وسلم حينما دعاه حالة إحاطة شبان قريش بداره وأخبره بما قصدوه من قتله، وقال له أنت تنام في مكاني في بيتي وتبقى لتؤدي الأمانات وغيرها كما مر آنفا، فلم يتلكأ وقبل عن طيب نفس ورضى قلب، فتركه صلّى الله عليه وسلم على فراشه وخرج على الصورة المارة، وحثا على رءوس شبان قريش التراب ولم يحسوا به. هذا وان ما قاله بعض المتنطعين من ان رسول الله هاجر مكرها وخشية من القتل قول لا قيمة له، كيف وقد تعهد الله له بالنصر وحماه من مواقف الكفر كلها طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة، وقد خيره الله في إهلاك أهلها فأبى عليهم وسأل ربه هدايتهم، وانه خرج من

بين شبان قريش الذين كانوا سالين سيوفهم ليقتلوه عند خروجه فلم يتعرض له أحد منهم لأنه بحجاب من الله تعالى الذي معه في كل أحواله، ولكن ما كانت الهجرة إلا تنفيذا لما هو في علم الله ولأن خير الإسلام وأهل مكة متوقف عليها، راجع الآية 103 من آل عمران ج 3، كما أن ما قاله بعض من لا خلاق له في الدنيا ولا نصيب في الآخرة ولا حظ له عند الله تعالى من أن حضرة الرسول إنما استخلف عينا على فراشه ليقتله شبان قريش المحيطون بداره ويتخلص منه، وان سبب مصاحبة أبي بكر له ليكيده به، ما هو إلا قول زور وكذب وافتراء وبهت غني عن الرد، إذ لا يصدقه عاقل ولا يقول به جاهل كيف وهو ابن عمه ووزيره ووصيه وصهره وسيفه وعدته للنوازل، وهو منه بمنزلة هرون من موسى، قاتل الله صاحب هذا القيل ومن يصغي إليه، وما هو إلا ناشىء عن محض عداء وخالص فتنه من قلب ضال ولسان مضل، أبعده الله في الدنيا عن الصواب، وشدد له في الآخرة العذاب، وأهانه بالهوان يوم المعاد (ومن يضلل الله فماله من هاد) . هذا والله أعلم وأستغفر الله العظيم. ثم الجزء الثاني من هذا التفسير المبارك، وهو يحتوي على ست وثلاثين سورة من القرآن العظيم، أو لها يونس وآخرها المطففين، وقد أثبتناها بحسب نزولها الذي استفرق ثلاث سنين وسبعة أشهر وثلاثة عشر يوما، وذلك من 27 رجب سنة 10 من البعثة إلى ربيع الأول سنة 13 منها، فيكون مدة نزول القسم المكي من القرآن العظيم عدا الآيات المدنيات منه اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، وثلاثة أيام، باعتبار أول النزول في 17 رمضان سنة 41 من ميلاده الشريف والأظهر في 22 منه. ويليه القسم المدني أوله سورة البقرة، وآخره سورة النصر. والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا. وقد وقع الفراغ منه يوم السبت 1 رجب سنة 1357 الموافق 25 آب سنة 1938 وبهذا التاريخ نفسه صار البدء بالجزء الثالث، ومن الله العناية والتوفيق، والهداية إلى أقوم طريق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. الفقير إليه عبد القادر ملا حويش الغازي

[الجزء الخامس]

[الجزء الخامس] [خطبة الكتاب] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المستحق الحمد لذاته، المحمود بأفعاله وصفاته. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أكمل النبيين وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأنصاره أجمعين، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد فإني بعد أن ختمت القسم المكي من هذا السفر الجليل- كل في قسمين حسب طباعتهما- شرعت وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق في القسم المدني منه كما وعدت في المقدمة، فأسأله تعالى وهو خير مسئول التيسير والتسهيل والعون على إتمامه والسلوك به إلى أحسن سبيل. وقد ذكرت أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وصل إلى المدينة واستقر به الحال ورأى أن منهم من يطفف الكيل والميزان، تلا عليهم سورة المطففين المارة آخر الجزء الثاني، ثم أنزل الله تعالى عليه سورة البقرة، ولهذا شرعت في 1 رجب سنة 1358 الموافق 16/ 2/ 1929 بتفسيرها سائلا الحضرة الإلهية ومتوسلا بسيد البرية أن يمنّ عليّ بإكماله كما تفضل علي بإكمال ما قبله، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. تفسير سورة البقرة عدد 1- 87 و 2 قد ذكرت في الجزأين المكيّين أن العدد الأول للسورة المفسرة بحسب النزول، والذي يليه بالنسبة لما قبله، والأخير بحسب ترتيب القرآن. نزلت هذه السورة الكريمة في المدينة المنورة عدا الآية 281 فإنها نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع السنة العاشرة من الهجرة، وتسمى سورة الزهراء، وسنام القرآن، وهي أول خير بدأ به أهل المدينة بعد تلاوة المطففين. وما قيل إن المطففين نزلت بالمدينة لا صحة له وإنما قال من قال به بسبب تلاوتها من حضرة الرسول عند قدومه. وسميت بالبقرة لورود ذكرها فيها، والزهراء لما روى مسلم عن أبي أمامه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه،

[سورة البقرة (2) : الآيات 1 إلى 10]

اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران لأنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان (كل ما يظل الإنسان من سماء وغيرها) أو كأنهما فرقان من طير (الجماعة من الطير) صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (السحرة) . وتسمى سنام القرآن لأن سنام كل شيء أعلاه وكأن هذه التسمية كانت بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أي القرآن أفضل؟ فقالوا الله ورسوله أعلم، قال سورة البقرة، ثم قال أي آيها أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال آية الكرسي. ومن منع تسميتها بالبقرة لا دليل له، لأن أغلب سور القرآن سميت بما جاء فيها كما بيناه في المقدمة. وهي مئنان وست وثمانون آية، وستة آلاف ومئة وإحدى وثمانون كلمة، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرفا. لا نظير لها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «الم» (1) تقدم الكلام فيه مفصلا أول سورة الأعراف وما بعدها من السور المبدوءة بالحروف المقطعة من بيان المعنى المراد منه، ومن كونه اسما للسورة، ومن أنه فواتح بعض أسماء الله الحسنى، وأنها سرّ من أسرار الله ورمز بينه وبين حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم، وغير ذلك فراجعه في ج 1 و 2. قال الشعبي هي سر الله فلا تطلبوه. وقيل في المعنى: بين المحبين سر ليس يغشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه وقد استأنس بعض الشيعة فاستنبط جملة من أوائل هذه السور تدل على خلافة علي كرم الله وجهه بعد حذف المكرّر منها وهي (صراط علي حق نمسكه) وهي من الظرائف. واستنبط الآلوسي رحمه الله صاحب تفسير روح المعاني جملتين تنضمن الأولى الرد على صاحب الجملة المذكورة، وهي (صح طريقك مع السنة) والثانية تشير لما ورد في حق الأصحاب وهي (طرق سمعك النصيحه) إلماءا إليه، وقد ذكرت أنه لا يعلم ماهيتها وما تشير إليه على الحقيقة إلا الله تعالى والمنزلة عليه والراسخون في العلم على أحد القولين بالوقف كما سيأتي في الآية 7 من آل عمران الآتية، لأنها من المتشابه، وكل الأقوال الواردة فيها مجرد اجتهاد ليس إلا: وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك

«ذلِكَ الْكِتابُ» الذي وعدناك به يا سيد الرسل (أي في الآية 6 من سورة المزمل في ج 1 وهي: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الترادد، ولا يسأم منه تاليه الذي «لا رَيْبَ فِيهِ» ولا شك ولا شبهة بأنه من عند الله، وانه في نفسه حق وإن قال الجاحدون ما قالوا، وهو «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (2) لأنّهم هم المنتفعون به، فطوبى لأهل التقوى التي هي جماع كل بر، وملاك كل خير، فلو لم يكن لهم فضل غير ما في هذه الآية لكفاهم، وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» الذي أنبأهم به رسولهم من البعث والحشر والحساب والجزاء والجنة والنار وغيرها «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» المفروضة فيؤدونها كاملة من الخشوع والخضوع المشار إليهما في الآية الأولى من سورة المؤمنين في ج 2، ومن كما لها أن تكون بجماعة «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (3) عن رغبة وطيب نفس طاعة لله تعالى على عياله وشكرا لآلائه عليهم وعلى الأصناف الثمانية الآتي دكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية، ومن رغّب القرآن بالإنفاق عليهم «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» من الوحي الجليل «وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» منه على الأنبياء السالفين من كتب وصحف، لأن من لا يؤمن بجميع الكتب وجميع الرسل ليس بمؤمن «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» (4) أنها آتية لا محالة، لأن من لم يوقن بوقوعها وبما فيها فليس بمؤمن أيضا ولو آمن بالكتب والرسل «أُولئِكَ» الموقنون بما ذكر القائمون به حق القيام إيقانا خالصا وإيمانا محضا «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (5) الفائزون الناجحون يوم القيامة. ونظير هذه الآية الآية 3 من سورة لقمان في ج 2. وقد يأتي الفلاح بمعنى البقاء كما قيل: لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح (الأسنّة) وأصله الشق، كما قيل: إن الحديد بالحديد يفلح. واعلم أن الله تعالى صدر هذه السورة بهذه الآيات الأربع (عدا الم) لأن بعض القراء عدها مع ما بعدها آية واحدة. في حق المؤمنين، والآيتين بعدها بحق الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدهما بحق المنافقين، والبقية في الأحكام والأخبار وغيرها.

مطلب الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحتهم وأفعالهم:

مطلب الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحتهم وأفعالهم: اعلم أن الإيمان إذا فسر بمقتضى اللغة بمعنى التصديق فلا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، وإذا فسر بلسان الشرع بأنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، فانه يزيد وينقص، وهذا ما ذهبت إليه مع أني حنفي المذهب، والحنفية لا يقولون بذلك، لأنه مذهب أهل السنة من أهل الحديث المؤيد بقوله تعالى (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الآية 124 من سورة التوبة الآتية، وقوله صلّى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. إذ أثبت الزيادة بالآية، ونفى الإيمان أو كماله بالحديث، لأنه وإن كان التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص إلا أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، وعلى هذا فإن من آمن بلسانه ولم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك فلا يسمى مؤمنا بل مسلما، قال تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الآية 15 من الحجرات الآتية، على أن إيمانه هذا المجرد عن العمل قد يدخله الجنة، راجع الآية 82 من سورة الأنعام ج 2، والآيتين 47/ 117 من سورة النساء الآتية، وما ترسدك إليه لتعلم أن مجرد الإيمان كاف لدخول الجنة إذا شاء الله، وهذا معنى جامع بين ظواهر جميع النصوص الواردة بزيادة الإيمان ونقصه، لأنه لا يعقل أن أقول إن إيماني مثل إيمان أبي بكر رضي الله عنه، وان إيمان العارفين كإيمان أحاد الناس الذي تزلزله الشبهة وتعتريه الشكوك عند المناظرة. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وهذا يدل أيضا على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، وقدمنا أول سورة فاطر في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» تخوفهم وتحذرهم عاقبة أمرهم يا سيد الرسل فهم «لا يُؤْمِنُونَ» (6) وهذه الآية الكريمة في الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وذلك لأنه «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلا يعقلون بها «وَعَلى سَمْعِهِمْ» فلا يسمعون بها سماع قبول، وإذا حرموا من هاتين الحاستين فلا يفقهون شيئا، والختم والطبع خلق الظلمة والضيق

في الصدر وجعلهما حائلين عن سماع الدعوة النبوية وفهم منافعها ورؤية حقيقتها ما دام مختوما عليها فلا يعونها «وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» لئلا يروا داعي الحق ولا يلتفتوا لقوله ولا يصغوا لرشده ونصحه لسابق سقائهم «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ 7» لصرفهم هذه الجوارح لغير ما خلقت لها اختيارا ورغبة، فلذلك حرموا منافعها. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ» أي بألسنتهم نفاقا ليبينوا لحضرة الرسول وأصحابه أنهم معهم وقد أبطنوا الكفر بذلك والجحود له. نزلت هذه الآية وما بعدها في المنافقين من المشركين واليهود كعبد الله بن أبي بن سلول ومعقب بن قشير وعبد بن قيس وأضرابهم، ولذلك وصفهم الله تعالى بالنفاق لأن من يقول بلسانه ما ليس في قلبه فهو منافق، ولهذا أكذبهم الله بقوله عز قوله «وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 8» حقيقة، لأن العبرة للتصديق القلبي لا القول اللساني عند الله تعالى ولهذا كذبهم، أما عندنا فإن من آمن بلسانه عاملناه معاملة المسلمين لأنا لم نطّلع على ما في قلبه، وليس لنا أن نقول هذا مؤمن بلسانه فقط، ومن كفر بلسانه عاملناه معاملة الكفرة ولو كان مؤمنا في قلبه، لأن علم القلب غير منوط بنا، والناس هنا جمع إنسان، وسمي آدم إنسانا لنسيانه عهد ربه، راجع الآية 116 من سورة طه المارة في ج 1، قال: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه ينقلب وقال: وسميت إنسانا لأنك أول الناس ... وأول ناس أول الناس وقيل لأنه يستأنس به وجميع الناس أناس، قال تعالى (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) الآية 49 من الفرقان في ج 1، ويقال للأثى إنسانة، قال: إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل وقال بعض اللغويين لا مفرد له من لفظه مثل خيل وفلك ورهط وشبهها. وهؤلاء المنافقون «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا» يخادعونهم بإظهار ضد ما يضرون فيمكرون بحضرة الرسول وأصحابه «وَما يَخْدَعُونَ» بأقوالهم تلك أحدا «إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لأن الله تعالى يفضح خداعهم ومكرهم وحيلهم بإخبار رسوله به،

[سورة البقرة (2) : الآيات 11 إلى 20]

إذ يطلعه على ما في قلوبهم «وَما يَشْعُرُونَ 9» أن الله تعالى يوحي لرسوله حقيقة حالهم وما يسرون من أقوالهم ويعلنون منها، ولا يعلمون أن وبال عملهم هذا راجع عليهم بالفضيحة بالدنيا والعذاب بالآخرة، والذين هذه صفتهم يكون «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وشبهة. وأصل المرض الضعف والخروج عن حد الاعتدال الخاص بالناس، ولهذا فإن أكثر أهالي دمشق يعبرون عن المريض بالضعيف، وسمي الشك في الدين والنفاق مرضا لأنه يضعف الدين، كما أن المرض يضعف البدن، وكذلك الفكر لما قيل فكر ساعة يهضم عافية سنة، فهذا الذي يحصل لهم يضعف دينهم وأبدانهم، أجارنا الله تعالى من ذلك «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» أشغل قلوبهم به لأنهم كلما كفروا بآية ازداد كفرهم وكثر بلاؤهم وضاق صدرهم «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» زيادة على مرضهم الذي يحرك في صدورهم ويحز قلوبهم من شدة الحسد للمؤمنين فتشتعل أفئدتهم غيظا «بِما كانُوا يَكْذِبُونَ 10» في أقوالهم الصدرية المذكورة، ثم بين نوعا آخر من أفعالهم القبيحة فقال جل قوله «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بتهيج الفتن وإثارة كوامن القلوب من الأحقاد القديمة بين الناس مما يؤدي لقتالهم بعضهم مع بعض، وذلك أنهم يذكرون ما وقع بين أجدادهم من الأحداث ليغتاظ أحقادهم، فيتكلمون بما معناه الانتقام، فتثير ثائرة المظلومين على الظالمين بما يؤدي لوقوع القتال بينهم بسبب إثارة الضغائن القديمة. والإفساد خروج الشيء عن استقامته والانتفاع به، وضده الإصلاح «قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11» بعملنا لأنا نداري به المؤمنين والكافرين معا، فكذبهم الله بقوله عز قوله «أَلا» تنبيه ليتيقظ المخاطب «إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ» لأنهم يجالسون الكفرة ويفشون لهم أسرار المؤمنين ويغرونهم عليهم. والمدارة ليس كما زعموا لأنها جائزة إذا كانت لمنفعة مشروعة كالإصلاح بين الناس، على أن لا تضر بالدين، أما إذا كانت غير جالبة لمنفعة ولا دافعة لمضرة فتكون من قبيل بيع الدين بالدنيا، وذلك حرام، لأنها تكون مداهنة راجع الآية 9 من سورة نون في ج 1، وان عملهم ذلك ليس من هذين القسمين وإنما هو بقصد إثارة الفتن ونقض الجروح القديمة وتهيبج الخواطر بين الناس مما قد يؤدي إلى القتل،

لذلك حقق الله فيهم الإفساد بدليل قوله (ألا) المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق. ثم أكده بأن المفيدة للتأكيد أيضا، فظهر (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) حقا بفعلهم ذلك «وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ 12» بأن فعلهم هذا يوجب تعذيبهم عند الله لما يترتب عليه من المفاسد بين المؤمنين وانهم قد يستخفون بذلك كاستخفاف الذين أشاعوا الفاحشة وصاروا يتشدقون بها حتى أنزل الله فيهم (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) الآية 15 من سورة النور الآتية، وما قاله بعض المفسرين من أنهم لا يشعرون أن عملهم ذلك إفساد، لا يناسب المقام، ويدفعه كلمة الاستدراك التي جيء بها هنا، بخلاف الآية الأولى في المخادعة، إذ لم يدخل عليها الاستدارك، لاحتمال أنهم يظنون أن مخادعتهم وإبطانهم الكفر وإظهار الإيمان تخفى على رسول الله وعلى المؤمنين، ولا يعلمون أن الله تعالى يخبر رسوله بها، وهو يخبر أصحابه، فبين الآيتين فرق عظيم في اللفظ، وبون شاسع في المعنى، ولأن الذي يتكلم بالفساد ولا يعلم أنه فساد لا يؤاخذ مؤاخذة العالم بذلك، قال: وللزنبور والبازي جمعا ... لدى الطيران أجنحة وخفق ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده لزنبور فرق وهذا إما ناشىء عن جهل مركب اعتقدوا بسببه الإفساد إصلاحا لما تكاثف على قلوبهم من رين المعاصي فوقعوا في محنة الجهل، كما جاء في قوله: يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وأما ما جاء على حسب عادتهم في الكذب والبهت الذي سبب لهم بيع الآخرة بالدنيا فيقال لأمثالهم: أيا بايعا هذا ببخس معجّل ... غبنت ولا تدري إذا كنت تعلم فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم راجع الآية 59 من سورة الروم في ج 2. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ» من المهاجرين والأنصار الذين بينكم، إيمانا صادقا مخلصا صرا وعلانية «قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الرويّة، وهذا مما يقولونه فيما بينهم عقد ما يتذاكرون فيما يأمرهم به حضرة

الرسول، أما بين المؤمنين فإنهم يسمون أنفسهم بالإيمان، ولهذا أخبر الله عنهم بقوله جل قوله «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ» لا المؤمنون «وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ 13» ما أعده الله تعالى لهم من العذاب على وصمهم المؤمنين بالجهل والخفة، مع أن السفاهة متحققة فيهم كالإفساد، ويقال هنا ما قلناه هناك من التعليل، وسماهم الله سفهاء وهم عند أنفسهم وقومهم عقلاء ورؤساء لإبطال زعمهم واعتقادهم بأن ما هم عليه حق وغيره باطل، وقلب الكلام عليه لركوبهم طريق الباطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها، سخيف العقل، خفيف الحلم، وقد فضحهم الله تعالى إذا وصمهم بعدهم الإيمان والإفساد، وعليهم بعدم العلم وثبوت السفاهة ليتركوا الكذب وليعترفوا أن الله تعالى مطلع على خوافيهم، وأنه أطلع رسوله عليها، ورسوله أخبر أصحابه حتى فشا ما يكتمونه لدى العامة. ولما لم ينجع بهم شهر بهم رابعا بقوله عز قوله «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا» بالله ورسوله وكتابه مثلكم وصرنا سواسية بالإيمان والتصديق «وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ» كهنتهم وقادتهم ككعب بن الأشرف المدني وأبو بردة الأسلمي وعبد الدار الجهني وعوف ابن عامر الأسدي وعبد الله بن السواد الشامي «قالُوا» لهم لا تصدقوا ما بلغكم عنا من الإسلام «إِنَّا مَعَكُمْ» ولا زلنا على دينكم «إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14» بمحمد وأصحابه، لأنا نظهر لهم الإيمان سخرية بهم لنقف على سرائرهم ونخبركم بما يحدثونا عن دينهم ونبيّهم «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» فيجازيهم على فعلهم هذا، وما يصدر منهم من الخداع والاستهزاء، وقد سمى الله الجزاء استهزاء بالمقابلة، قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه وهموا أن يدخلوه عمدت الخزنة فسدته عنهم وردوا إلى النار، وذلك ليسخروا بهم في الآخرة جزاء سخريتهم بالمؤمنين في الدنيا، وهذا مثل ما جاء عن ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ومقابلتهم في الآخرة المار ذكره في الآية 29 من سورة المطففين في ج 1، «وَيَمُدُّهُمْ» يزيدهم لأن المدّ أصله الزيادة في الشرّ غالبا والإمداد مثله إلا أنه يأتي غالبا في الخير أي يمهلهم ويتركهم «فِي طُغْيانِهِمْ» ليزدادوا إثما وبغيا، والطغيان مجاوزة الحد «يَعْمَهُونَ 15» يترددون في الحيرة والضلال، والعمه عمى القلب، وهو

مطلب في المثل لماذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله:

أسد من عمى العين لأن فاقد البصر ينتفع ببصيرته، وعادم البصيرة لا يفيده بصره «أُولئِكَ» الموصوفون بالمثالب الأربع المذكورة هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى» واستبدلوا الكفر بالإيمان والحيرة بالرشد والغش بالنصح «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» بل خسرت وخابت صفقتهم خسرانا وخيبة عظيمتين، فضلوا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 16» في أقوالهم وأفعالهم، لأنهم أضاعوا رأس ما لهم وهو الإيمان، ومن أضاع رأس ماله فهو للربح أضيع. ولا يقال إنهم لم يكونوا على هدى لأنهم كانوا متمكنين منه، كأنه في أيديهم، لكنهم رغبوا عنه وتركوه باختيارهم، ومالوا إلى الضلال رغبة فيه، وفعلوه طوعا، ومالوا إليه، فكأنهم عطلوه قصدا واستبدلوا به ضدّه، ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» لينتفع بها «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» جمع الضمير مع أن ما قبله مفرد على حد قوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الآية 69 من سورة التوبة الآتية، إذ يجوز وضع الذي موضع الذين «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ» متكاثفة ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب، لأن من كان في نور وتركه أو أو كان في محل مضيء وخرج منه إلى مظلم اشتدت الظلمة في عينيه أكثر مما لو لم يكن قبل في النور، ولهذا قال تعالى «لا يُبْصِرُونَ 17» شيئا لما يجلهونه من الظلمة بعد ذلك النور، فيصيرون لا يرون. مطلب في المثل لماذا يضرب وما هو الرعد والبرق وضمير مثله: والمثل تشبيه الشيء الخفي بالشيء الجلي لمناسبة وجامع، ليتأكد الوقوف على ماهية ذلك المشبه نهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون فيه غرابة من بعض الوجوه وقد ضرب الله تعالى هذا المثل بالنار لثلاث حكم: الأولى أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره، فإذا ذهب بقي هو في الظلمة، وكذلك هؤلاء لأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد في قلوبهم كان إيمانهم مستعار فلم ينتفعوا به، لأن العارية مستردة. الثانية احتياج النار دائما إلى مادة الوقود، فإذا انقطع طفئت، وكذلك الإيمان محتاج أبدا إلى مادة الاعتقاد والعمل ليدوم، وإلا فينقطع ولم تبق فائدة فيه الثالثة احداث الظلمة بعد النور أشد من الظلمة التي لم يسبقها نور، ووجه

تشبيه الإيمان بالنور أنه أبلغ شيء بالهداية إلى المحجّة القصوى والطريق المستقيم وإزالة الحيرة، وكذلك الإيمان فهو الطريق الواضح إلى الله، ووجه تشبيه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق فيها لا يزداد إلا حيرة إذ لا يرى كوكبا يستهدي به، ولا جبلا يستقبله، ولا علامة يركن إليها، وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه بالآخرة إلا حيرة إذ لا دين يعتمد عليه، ولا عمل صالح يرجو ثوابه، ولا شافع يأمل شفاعته، فيزداد ندمه كما تزداد الظلمات بمجيئها بعد النور. وهؤلاء المضروب بهم هذا المثل «صُمٌّ» عن سماع الحق «بُكْمٌ» عن النطق به «عُمْيٌ» عن رؤيته، قد تقطعت قلوبهم وذهب إدراكها لأنهم لما كانوا في الدنيا يصدق عليهم قول القائل: صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء كلهم أذن وهؤلاء كذلك كتّامون للخير، مذيعون للشر، سماعون للإثم، نطاقون به، بصيرون فيه «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ 18» عن نفاقهم واخلاقهم وكفرهم، لأن الشيطان زيّنه لهم، وان رؤساءهم حبّذوه إليهم ورغبوهم فيه. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الصّاد، هذه والآية 124 الآتية والسادسة من الفاتحة والأولى من ص و 19 من الأعلى ج 1 و 152 من الشورى ج 2. ثم مثل لهما مثلا آخر أبلغ من الأول، فقال عز قوله «أَوْ كَصَيِّبٍ» هو كل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل، والمراد به هنا المطر، أي أو مثلهم مثل مطر نازل «مِنَ السَّماءِ» وهذا لا ينافي القول بأن المطر ينعقد من أبخرة الأرض والمياه، لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء «فِيهِ ظُلُماتٌ» تقدم معناها في الآية 17، «وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ» الذي يسمع من اصطدام السحاب، فهو الرعد والبرق هو الشعلة النارية التي تخرج منه بسبب الاصطدام أو أمر آخر يحدثه الله تعالى عند تراكم الغيوم واصطكاكها بعضها ببعض «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ» أي أطرافها من إطلاق الكل وإرادة الجزء «فِي آذانِهِمْ» خوفا وفزعا «مِنَ» سماع «الصَّواعِقِ» اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، وعلى الأكثر أنها هنا قصفة رعد عبارة عن قطعة نارية، وقد ينقض معها قطعة حديد نارية لا تصيب شيئا إلا أهلكته لشدة

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 30]

صوتها أو نارها أو قوة صدمتها أو حدة ما انفصل منها، وهي سريعة الخمود، ولهذا البحث صلة في الآيتين 12/ 13 من سورة الرعد الآتية «حَذَرَ الْمَوْتِ» مفعول لأجله أي خشية أن يموتوا من صوتها أو مما ينفصل منها «وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ 19» عذابه محيق بهم لا يفلت منه أحد، لأن الإحاطة تكون من الجهات الأربع، وقد تكون من الشر أيضا «يَكادُ الْبَرْقُ» من شدة ضيائه «يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» يختلسها بسرعة لشدة نوره وقوته، وتراهم «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» بهداية نوره «وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ» غاب عنهم نور البرق وفقدوا ضياءه «قامُوا» وقفوا متحيّرين لعدم اهتدائهم إلى الطريق من تكاثف الظلمات «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» لشدة صيحة الصواعق وقوة نور البرق عند وميضه «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 20» لا يعجزه شيء، شبه الله تعالى الكافرين والمنافقين بقوم ماشين في مفازة صعبة في ليلة مظلمة ممطرة مرعدة مبرقة، لا يتمكنون من متابعة المشي فيها، ووجه الشبه هو أن المطر كالقرآن، لأن فيه حياة القلوب كما أن في المطر حياة الأرض، والظلمات ما جاء فيه من ذكر الكفر والنفاق والشرك، والرعد ما خوفوا فيه من الوعيد والتهديد، والبرق هو ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة، فالكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم برءوس أصابعهم لئلا يسمعوه فتميل إليه قلوبهم، وإن فعلهم هذا أوجب بخط الله تعالى عليهم، ولذلك فإنه سيحيط بهم عذابه في الآخرة كإحاطة الظلمة المذكورة التي صيّرتهم متحيّرين في الدنيا، فيأتيهم العذاب من كل مكان يترددون فيه متحيرين. انتهت الآيات الواردة في حق المنافقين. ثم أنزل الله الآيات المتضمنة أحكاما وأخبارا متنوّعة، فقال جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ» المكلفون «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» وحده، واعلم أن جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) كررت في القرآن 14 مرة في البقرة، و 3 في النساء، و 2 في يونس، و 3 في الحج، و 2 في فاطر، وواحدة في لقمان، وواحدة في الحجرات، وان غالب ما يأتي في القرآن العظيم من لفظ العبادة يراد به التوحيد، لأن العبودية التذلل والعبادة غايته، ولا يستحقها إلا الله تعالى «الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ» خلق «الَّذِينَ

مِنْ قَبْلِكُمْ» من الأمم البائدة والموجودة «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21» عذابه وتنجون من عقابه، وهو الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» وطاء تستقرون عليها «وَالسَّماءَ بِناءً» لتستظلوا بها كالسقف المرفوع والبيت المعمور الذي فيه ما يحتاجه البشر والطير والحيوان «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ» المتنوعة المختلفة في اللون والطعم والشكل والرائحة وجعلها «رِزْقاً لَكُمْ» تقتانون به «فَلا تَجْعَلُوا» أيها الناس لهذا الرب الكبير الذي تفضل عليكم بتلك الأشياء وغيرها لتشكروه عليها أداء الحقّ إنعامه بها عليكم، وأنتم على العكس تكفرون به وتختلفون «لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشباها من صنع أيديكم، وخلق ربكم القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من الصافات ج 2، أي كيف تعبدونها وتتخذونها أربابا من دونه «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 22» أنها لا تستحق العبادة لأنها لا تخلق ولا ترزق ولا تضر ولا تنفع، فلا يليق بكم أن تشبهوها بإلهكم الفاعل لذلك كله، الرحيم بكم وبما ملكت أيمانكم، الذي لا مثيل له ولا نظير «وَإِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب من القرآن الذي هو كلامنا الأزلي بواسطة أميننا جبريل «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» وهذا من باب التعجيز وإلقامهم الحجر على حد قوله تعالى (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) الآية 257 من سورة الأنعام المارة في ج 2، أي إذا شككتم به فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الذي يتلوه عليكم رسولنا بفصاحتها وبلاغتها وإعجازها ودلالتها على المعاني الكثيرة من رجل منكم مثل محمد الذي لا يحسن الكتابة والقراءة ولم يتعلم من أحد لأنكم عرب مثله وتدعون المعرفة. وأنى لهم ذلك إذ لا يستطيعون الإتيان بمثل شيء من القرآن ولو اجتمعوا واستعانوا بمن شاءوا، هذا على أن الضمير (مِنْ مِثْلِهِ) عائد على محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى قول من أعاده من المفسرين على القرآن، لأن مجرى الكلام فيه، لأن الله تعالى يقول (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ولم يقل في عبدنا ليعود الضمير إليه، ولقوله في سورة يونس (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية 38، أي بالإعجاز والاشتمال على طرفي الإيجاز والإطالة في الفصاحة والبلاغة، من أنه تارة يأتي بالقصة

باللفظ الطويل ولا يمكن للبشر أن يسقط منه حرفا واحدا لأنه قد يخل في المعنى، ثم يعيدها باللفظ الوجيز، ولا يستطيع البشر أن يزيد حرفا واحدا فيه ولا يخل بالمعنى الأول، وهكذا جميع القرآن لا يقبل زيادة حرف ولا نقصه، وان أساليبه تفارق أساليب الكلام، وأوزانه تخالف أوزان الشعر، ونظمه يباين نظم الخطب والرسائل، فقد جاء على أسلوب بديع ونظم عجيب، ولهذا تحدثوا فيه وعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله، وهم معدن البلاغة ومنبع الفصاحة وفرسان البيان. ولا يقال إن من في هذه الآية زائدة إذ لا يستقيم المعنى إلا بها إذا أعدت الضمير على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم على الوجه الأول، وإذا أعدته على المنزل على محمد كان حرف الجر مؤكدا، وقد أشرنا أول سورة البلد، وفي الآية 12 من سورة الأعراف ج 1، إلى أنه لا يجوز القول بزيادة شيء في القرآن، كما لا يجوز نقص شيء منه حتى حرف/ ما/ التي بعد إذا مثل (إِذا ما جاؤُها) وغيره لا تعد زائدة، إذا أنها تبقى في الإثبات ثم النفي لأنهم لم يأتوها باختيارهم بل سبقوا إليها فسرا، راجع الآية 27 من سورة فصلت في ج 2، والآية 97 من سورة المائدة، والآيتين من آخر سورة التوبة الآتيتين، فهي وإن كانت للثبوت فقد أتى بالنفي فيها ليبقى ثم أيضا، أي أنهم جنحوا عن اليقين إلى التقوى، وذلك شأن المؤمن الورع «وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ» من جحافل العرب وأولياء أصنامكم الذين تستشهدون بهم على أنها آلهة «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ليشهدوا بأنكم تأتون بمثله «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 23» في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو بتعليم من غيره من البشر، والمراد من هذا إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت، كأنه قيل قد تركنا إلزامكم بشهداء الحق وملنا إلى شهدائكم المعروفين بالذبّ عنكم، فإنهم أيضا لا يشهدون لكم على ذلك حذرا من اللائمة، وأنفة من الشهادة الباطلة، وخوفا من أن يصموهم بالكذب، لأن أمر إعجازه ظاهر، وعجز طوق البشر عن الإتيان بمثله واضح، «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» بأن تأتوا بسورة مثل هذا القرآن أو بسورة من مثل محمد وقد عجزتم عن ذلك قبلا إذ تحديناكم بسورة واحدة أو بعشر صور منه كما في الآية 39 من سورة يونس والآية 11 من سورة هود المارتين في ج 2، وتحدينا الخلق كافة

مطلب في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها الله على خلقه:

بالإتيان بمثله في الآية 89 من الإسراء ج 1، أو بحديث مثله كما في الآية 34 من سورة الطور في ج 2، ولم يستطع أحد أن يأتي بشيء من ذلك، ولهذا فإنكم عاجزون أن تفعلوا «وَلَنْ تَفْعَلُوا» أبدا في الحال ولا في الاستقبال ولن تقدروا على الإتيان بشيء مثله البتة، وإذا كان كذلك فتحققوا أنكم مبطلون في دعواكم أن محمدا يأتي بالقرآن من نفسه أو من جهة الغير، وان ما تعبدون من الأوثان ليسوا بآلهة «فَاتَّقُوا النَّارَ» أيها الناس مصير المبطلين «الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» ومن جملتها أصنامكم وهذه نار مخصوصة والله أعلم، لأنه كما أن الجنة أنواع فالنار كذلك. واعلموا أن لا وقاية لكم من هذه النار إلا أن تؤمنوا بالله وحده وتصدقوا رسوله وتذعنوا لما جاءكم به، وإن أصررتم على كفركم فمأواكم تلك النار، لأنها «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ 24» الذين يموتون كفارا، هذا ولا بد لك أيها القارئ من مراجعة الآيات الأنفة الذكر من يونس وهود والإسراء والطور، لتعلم أن لا ناسخ ولا منسوخ بينها وبين الآية المارة، وتعلم التوفيق بينهما خلافا لما قاله بعض المفسرين. قال تعالى «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» مع إيمانهم ورجاء ثواب ما عملوه من الخير واعتقادهم أن الله مجازيهم عليه بأحسن منه إذا أخلصوا لله وصبروا على ما أصابهم في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة، وهذه الأنهار تجري بلا أخدود بخلاف أنهار الدنيا الجارية في الأودية، وأصحاب هذه الجنات «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً» وطلبوها ثانيا. مطلب في ثمار الجنة ونسائها وأهلها وضرب المثل والعهود التي أخذها الله على خلقه: واعلم أن الطلب في الجنة عبارة عن خطرة في القلب، لأن الله تعالى لا يحيجهم إلى التكلم كرامة لهم «قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فيظنونها هي نفسها لكمال التشابه في اللون والشكل والحجم والرائحة والطعم «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» كأثمار الدنيا من حيث الاسم فقط والكنى ليس إلا ولكنها مختلفة في الطعم والحجم واللون والشكل والرائحة، فالفرق بين ثمار الدنيا والآخرة عظيم كالفرق بين الدنيا

والآخرة، وفضلا عن هذا فإن أثمار الآخرة لا فضلات لها ولا تفل فيها ولا قشور ولا بزر، وكذلك سائر مأكولات الآخرة ومشروباتها «وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأوساخ والأرجاس المادية والمعنوية من كل ما يقع عليه النظر والشم واللمس وما يصل إلى السمع، فلا يحضن ولا يبلن ولا ينفسن ولا يتغوطن ولا يعصين أزواجهن، وأمثال هذا مما هو عند نساء الدنيا، مبرآت عن كل خلق سيء، متحليات بكل شيء حسن «وَهُمْ فِيها خالِدُونَ 25» لا يحولون عنها أبدا، حياة سعيدة لا موت فيها ولا بعدها. روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس، طعامهم جشاء (أي يخرج فضوله في تنفس المعدة) ورشح كرشح المسك، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة (العود الذي يتبخر به) ، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم عليه السّلام، ستون ذراعا في السماء. وفي رواية لكل واحد منهم زوجتان يرى مخّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لاخلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، ويسبحون الله بكرة وعشية. ورويا عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن للمؤمن في الجنة الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله مم خلق الله الخلق؟ قال من الماء (راجع الآية 45 من سورة النور الآتية فيما يتعلق في الخلق) قلت الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وبلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد

ازدادوا حسنا وجمالا، فيقولون لهم أهلوهم والله لقد ازددتم حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم حسنا وجمالا. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فرقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. وقد مر ما يتعلق بوصف أهل الجنة في الآية 13 من سورة المطففين في ج 2 فراجعها. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما» مطلق مثل «بَعُوضَةً» بقة صغيرة جدا «فَما فَوْقَها» من الحشرات، لأن القصد منه الاعتبار والاتعاظ والاتباه لا الكبر في ضرب المثل وصغره. واعلم أن كلمة بعوضة لم تكرر في القرآن، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا ما يريد الله يذكر هذه الأشياء، الخسيسة كالنمل والنحل والعنكبوت والذباب حتى يضرب أيّها الأمثال، فقال تعالى ردا عليهم إن الله لا يترك ضرب المثل بذلك، ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها استحياء [الحياء تغير وانكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به أو يعزم عليه، وهذا لا يجوز على الله تعالى] ولكن لما كان الترك من لوازمه عبر عنه به وجاء بلفظ الاستحياء على سبيل المقابلة، لأن الكفرة على ما قيل إنهم هم القائلون ذلك، وانهم قالوا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء، وأنهم قالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بها، وأطباق الجواب على السؤال فنّ من فنون البديع المستحب استعماله في الكلام، والبعوض خلق عجيب له خرطوم مجوف يغوص في جلد الفيل والجاموس، وقالوا إن الجمل قد يموت من قرصه، فلا غرو أن يضرب الله به المثل في الصغر، كما يضرب المثل في الجمل في الكبر، راجع الآية 18 من سورة الغاشية في ج 2. وقد أهلك الله تعالى بها من الجبابرة العظام كنمروذ وغيره، وقد ضرب صلّى الله عليه وسلم المثل للدنيا بجناحها بقوله لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء والجناح دونها، والعرب تضرب الأمثال بالمحقرات فيقولون هذا أحقر من ذرة، وأجمع من نملة، وأطيش وألح من ذبابة، والقرآن نزل بلغتهم فلا معنى لاستبعادهم ذلك. ولم يقل تعالى

فما دونها اكتفاء بأحد الشيئين عن الآخر على حد قوله «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» الآية 82 من سورة النحل في ج 2، وهذا عبارة عن مثل ضربه الله تعالى الدنيا وأهلها، فإن البعوضة لا تزال حية ما بقيت جائعة، فمتى شبعت ماتت، وكذلك أهل الدنيا إذا امتلئوا منها هلكوا، وتنطبق على أعمال العباد إذ لا يمتنع أن يذكر منها ما قل وكثر وليجازوا عليه ثوابا وعقابا، راجع الآيتين الأخيرتين من سورة الزلزلة الآتية. وليعلم أن الحياء غير الخجل ومعناه كما مرّ وهو مركب من الجبن والعفّة والخجل حيرة النفس لفرط الحياء، ولا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح، فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» ضرب المثل بتلك الحيوانات الحقيرة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لا يجوز إنكاره، لأنه من الأمور المستحسنة عقلا المتعارفة عندهم، ولا مناقشة فيما يذكره الله تعالى «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» والمنافقون وأمثالهم «فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» وهذا من قبل الاعتراض على الله تعالى، وليس لمخلوق أن يعترض على خالقه، لهذا فإنه تعالى وتقدس «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» من المكذبين فيزدادون كفرا «وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً» من المؤمنين فيزدادون به إيمانا «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ 26» الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المستغربين ما ضرب الله به مثلا من تلك الحشرات من حيث لا محل للاستغراب والإمكان، لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وادناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك، وإن كان حقيرا كان المتمثل به حقيرا أيضا، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا مثل له بالضياء والنور، وان الباطل لما كان غامضا مثل له بالظلمة، ولما كان حال الآلهة المتخذة للعبادة لا أحقر منها مثل لها ببيت العنكبوت الذي لا أومن منه، تأمل. ثمّ وصف الله تعالى هؤلاء الفاسقين بقوله عز قوله «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ» الذي أخذه عليهم في عالم الذر، وهو الإقرار بربوبيته كما مرّ في الآية 170 من الأعراف في ج 1، وهو غير العهد الذي أخذه على الأنبياء بتصديق محمد صلّى الله عليه وسلم في الآية 7 من سورة الأحزاب الآتية،

وغير العهد الذي خص به العلماء في الآية 187 من آل عمران الآتية، راجع هذه الآيات والآية 81 من آل عمران أيضا تقف على تمام هذا البحث «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» عقده وإبرامه، وتؤكده عليهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقوله في حق الرسول (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وفي هذه الآية إشارة إلى أن الكفرة واليهود بعد أن يتعاهدوا مع حضرة الرسول ينقضون عهدهم معه، وقد كان ذلك كما سيأتي في محله، وهذا من قبيل الإخبار بالغيب، وفيها تحذير من نقض العهد وتقبيح لناقضه، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في الآية 91 من سورة النحل المارة في ج 2، والآية 34 من سورة الإسراء في ج 1، فراجعهما «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ» من الإيمان بالرسل السالفين جميعهم «أَنْ يُوصَلَ» ذلك الإيمان المتتابع بمحمد صلّى الله عليه وسلم لأن الله تعالى أخذ العهد على خلقه أن يؤمنوا برسله إيمانا متصلا واحدا بعد واحد، فلم يمتثلوا أمر الله ولم يؤمنوا بجميع رسله، ومن أهل زمانه من اليهود، ولم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بعيسى قبله، وكذلك النصارى لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، مع أنه أخذ العهد على كل ملّة من قبل نبيها أن تؤمن بالرسول الذي يخلفه، راجع الآية 173 من الأعراف في ج 1 تقف على هذا أيضا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على نقضهم عهد الله وعهد رسولهم وقطعهم ما أمر الله بوصله، لأنهم يقطعون السبيل ويسلبون الناس ويعملون المعاصي ويمنعون غيرهم من الإيمان بالله ورسوله «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْخاسِرُونَ 27» المغبونون لاستبداهم النقص بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالإصلاح، والعقاب بالثواب. قال تعالى «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» نطفا جامدة ميتة في أصلاب آبائكم «فَأَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم عند قذف النطفة فيها، فكونتم وصورتم، حتى إذا أكمل خلقكم وانتهى أمد وجودكم في الرحم ولدتم وترعرعتم وكبرتم «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بعد استيفاء آجال مكثكم في الدنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا بعد انتهاء أجل لبثكم في البرزخ من قبر وغيره «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 28» فتحضرون إلى الموقف في محل الحشر إذ تحاسبون على ما كان منكم وتجاوزون عليه الخير بأحسن منه، والشر بمثله، وهذا الاستفهام استفهام تعجب من حالهم وإنكار

مطلب في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجن ومغزى اعتراضهم:

لأحوالهم، أي كيف تكفرون بالله بعد نصب هذه الدلائل، ووضوح هذه البراهين، وسطوح تلك الحجج على وحدانيته جل شأنه، ثم تشركون به غيره، وتعبدون معه أوثانا لا تستحق العبادة؟ وان هذه الأشياء التي خصكم الله بها لا بد أن تدعوا إلى الإيمان لا إلى الكفر، وقيل في المعنى: أكفر بعد ردّ الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا مطلب في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجنّ ومغزى اعتراضهم: قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من حيواناتها ونباتها ومائها ومعدنها. تشير هذه الآية إلى أنه ينبغي للإنسان أن لا يقف عند شيء دون شيء مما في هذه الأرض لأن من تتبع ما فيها قد يعثر على ما لا يحلم به البشر، مصداقا لقوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 9 من سورة النحل في ج 2، وان معظم الأشياء المبتكرة قامت وظهرت من حين العدم إلى الوجود بالعثور، لأن هذه السيارات والطيارات والراد والاسلكي وغيرها لم يتصورها عقل البشر رأسا، وإنما كانت بسبب صنع أشياء دونها، وعند ما يرى شأنه توفق لعملها طمحت نفسه إلى فعل ما هو أحسن، فيعثر عليه زريجا، فيظهر له ما هو أحسن، ثم يشتغل بتحسينه فيطلع على ما هو أحسن، وهكذا تدرجوا في الصنائع حتى نوصوا إلى صناعات بديعة وأعمال عجيبة، فاخترعوا البنادق سنة 1646 م والمدافع سنة 1886، واكتشف الفحم الحجري في انكلترا سنة 1924 م، وزيت الكاز للتنوير سنة 1826، والمكرسكوب في جرمانيا سنة 1621، وأول من صنع الأوراق المالية في أمريكا سنة 1740 م واكتشفوا ملعبا بناه الرومان سنة 69 قبل الميلاد، وسيكتشفون ويخترعون ما هو لحبس بالحسبان، ولا يخطر على العقل، راجع الآية من سورة الحجر والآية 38 من سورة النحل في ج 2. هذا وفي هذه الآية إعلام بأن الأصل في الأشياء الحل، وعليه فإن جميع ما في هذه الأرض هو حلال للبشر، لأن الله تعالى قال (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) إلخ، وإذا كان ما خلق فيها هو للبشر فلا يحرم عليهم منها شيء إلا ما ورد النص بتحريمه، فيكون تناوله حراما، وإلا فحلال

كله، وعليه فإن التبغ والتنباك وما شابهها مما لم يرد نص بتحريمه حلال، وما جاء من أقوال العلماء بتحريمه فمجرد اجتهاد بداعي أنه مضر، وإلا فلا مستند لهم بذلك، ومن المعلوم أن لا اجتهاد في مورد النص، أما إذا تحقق ضررهما لبعض الأشخاص فهو من هذه الحيثية قد يكون تناولهما حراما، وأحسن ما قيل فيهما إنه تعتريهما الأحكام الخمسة، على أن تقيد الحرمة بالمضرة المحققة فقط، لأن كل ما يضر هذه البنية التي أمرنا الله بمحافظتها للقيام بأمور دينه والذب عنه حرام تناوله مهما كان، حتى الخبز والماء والظل على شرط تحقق المضرة بإخبار طبيب أمين حاذق موقن، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، لأن العلماء ليس لهم أن يحرّموا أو يحللوا شيئا إلّا بدليل قطعي، لأن التحليل والتحريم من خصائص الشارع والشارع عندنا هو الله تعالى ورسوله فقط، لا دخل للعلماء والربانيون بذلك. قال تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» بعد خلق الأرض وقبل دحرها وقد ذكرنا ما يتعلق في بحث الاستواء في الاية 5 من سورة طه وفي الآية 45 من سورة الأعراف في ج 1 والآية 4 من سورة يونس فراجعها «فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» ثم دحا الأرض كما بيناه في الآية 30 من سورة النازعات ج 2، وضمير سواهن يعود على السماء باعتبار الجنسية أو أنها جمع سماة، والأحسن أن يكون مبهما يفسره قوله تعالى سبع سموات «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (29) بخلقه، ولماذا خلقه، ولمن خلقه، ومن المعلوم أن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، فلا يقال إن هذه الآية تقضي بخلق الأرض ودحوها قبل السماء، تدبر. ثم طفق جل شأنه يقص على رسوله ما هو غيب عليه فقال عز قوله «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» بدلا منكم ورافعكم إليّ وذلك لما ظهر الفساد والإفساد بقتل بعضهم في الأرض من الجن بعضهم على بعض حينما كانوا يسكنونها وعاشوا فيها فسادا بقتل بعضهم بعضا، بعث الله فريقا من الملائكة وعلى رأسهم إبليس الذي لجأ إلى الله بذلك متبرئا من بغيهم وطغيان بعضهم على بعض، وقد تظاهر بالصلاح والإصلاح فطرد الجنّ إلى الجزائر والبحار والجبال والشعاب وأهلكوا ثمّ حلّ محلهم ذرية إبليس لأنه أبو الجن الثاني، كما أن نوح عليه السّلام أبو البشر الثاني، وهم موجودون الآن في

كل مكان، ولكن لم ترهم العيون، ولذلك سموا جنا، ومنه الجنين لعدم رؤيته أيضا، ولولا لطف الله على بني آدم بإخفائهم عنا لرأيت العجب العجاب من أفعالهم ولنغّصوا علينا عيشنا في هذه الدنيا. وقد مرّ في الآية 27 من الأعراف في ج 1 أنهم يروننا ولا نراهم، وبمقابلة هذا أنا نراهم في الآخرة ولا يروننا، راجع هذه الآية أول سورة الجن والآيات من النمل والقصص في ج 1 والكهف والصّافات في ج 2 كي تطمئن بوجودهم وأعمالهم وأفعالهم، وإن إنكار وجودهم كفر لمخالفة نص الآيات والأحاديث الصريحة وإن من ينكر وجودهم فبسبب الصدأ المتراكم على قلبه، أجارنا الله من أمثالهم. ثم ان الله تعالى أعطى إبليس ملك الأرض وسماء الدنيا وخزانة الجنة، وهو جلّ شأنه يعلم مصيره ولكن ليظهر للناس أن النفس الخبيثة لا يؤثر فيها شيء ولا يصلحها شيء البتة، فأعجب بنفسه وغبطته الملائكة، وأول شر ظهر منه الإعجاب بنفسه لأنه؟؟ من المهلكات، قال صلّى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. «قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» كالجن الذين أسكنتهم فيها قبل وفعلوا ما فعلوا، وكان الحكمة من مخاطبتهم بذلك وهو غني عن المشورة ليسألوا هذا السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا الحكمة من استخلافهم قبل كونهم، وقالوا كيف تفعل ذلك وتفصينا «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» فيها ولا نعصيك طرفة عين ولا نفسد فيها أبدا كالجن الذين أسكنتهم فيها «قالَ» تعالى مجيبا لهم عن ظنهم بالخليفة الذي أريد وضعه في الأرض بدلا من الجن الذين أفسدوا فيها وشهدت الملائكة عليهم بالإفساد، كلا لا تظنوا يا ملائكتي هذا الظن «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (30) من المصلحة والحكمة. ولا يقال من أين علموا أن من يستخلفهم الله في أرضه يفسدون فيها إذ لا يعلم الغيب إلا الله، لأنهم لما رأوا إفساد الجن وقتل بعضهم بعضا في الأرض وان الله تعالى يريد استخلافهم بهذا الخليفة ظنوا أنهم يقتفون أثرهم، لأن الله تعالى ألهمهم ذلك كما هو ثابت في علمه الأزلي، الاستفهام على طريق التعجب لا الاعتراض، فلا دليل فيه على عدم عصمة الملائكة، لأن الاعتراض على الله من أعظم الذنوب، والمراد بالخليفة هنا هو آدم عليه السّلام،

قالوا لما أراد الله تعالى خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليفة، منهم من يطيعني فأدخله الجنة، ومنهم من يعصيني فأدخله النار وبعث جبريل عليه السّلام ليقبض قبضة من أنواعها ويأتيه بها ليكون الخلق منها كلها، فلما أراد أن يأخذ منها قالت أعوذ بعزّة الله منك، فترك ورجع، وقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها، فأرسل ميكائيل فكان ما كان من جبريل، فأرسل عزرائيل فاستعاذت منه فقال لها إني أعوذ بعزّته أن أعصي له أمرا، فقبض من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها وأبيضها وأحمرها وأسودها وما بين ذلك، وصعد بما قبضه، فسأله ربه وهو أعلم بما فعل فأخبره بما قالت وقال لها. وإنما استعاذت الأرض لأن الله تعالى قال لها منهم من يعصيني فأدخله النار خشية ورهبة، ولمّا أجابه عزرائيل بما أجابه قال وعزّتي وجلالي لأخلقن خلقا أسلطنّك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك، فجعل نصفها في الجنة ونصفها في النار ما شاء، ثم أخرجها فسواها طينا مدة، ثم حمأة مدة، ثم صلصالا مدة، ثم جدا، وألقاه على باب الجنة، فصارت الملائكة تعجب من صورته، وقال إبليس لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه فإذا هو أجوف، فقال هذا خلق لا يتمالك، أي انه يخدع، وقال للملائكة إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون؟ قالوا نطع ربنا فيه، فقال في نفسه لئن فضل علي لأعصيته، ولئن فضلت عليه لأهلكنه، فلما أراد الله تعالى نفخ الروح فيه قالت الروح يا رب كيف أدخل؟ فقال كرها تدخلين وستخرجين منه كرها، فدخلت يافوخه حتى وصلت إلى عينيه فنظر إلى سائر جسده طينا فلما وصلت منخريه عطس، فعند ما وصلت لسانه قال الحمد لله رب العالمين، فقال الله رحمك الله ربك لهذا خلقتك، وقد صارت سنة في الخلق على كل من يعطس، وعلى كل من يسمعه التشميت بأن يقول له يرحمك الله ويرد عليه يرحمنا ويرحمكم اللَّه، فلما بلغت ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر، قال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) الآية 27 من سورة الأنبياء في ج 2، وهذا مما يدل على قدم كلام الله تعالى المنزل على حضرة الرسول قبل خلق آدم وغيره، فلما انتهت إلى قدميه استوى بشرا سويا من لحم ودم وعظام وعروق وأعصاب وأحشاء وأمعاء ، وكسي لباسا من الجنة من ظفر

[سورة البقرة (2) : الآيات 31 إلى 40]

فزاد جسده حسنا وجمالا، وجعل في جسده تسعة أبواب وعدها السيوطي أحد عشر بعد الثديين في صدره اثنين، وفي أسفله اثنين القبل والدبر ليخرج منهما فضلات طعامه وشرابه، وسبعة في رأسه الأذنين يسمع بهما، والعينين ينظر بهما، والمنخرين يشم بهما والفم فيه اللسان يتكلم فيه، والأسنان ليطحن بها طعامه فيجد لذة المطعومات والأنف ليتنفس منه، وجعل عقله في دماغه، وفكره وجرأته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه وحزنه في وجهه، فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم وينطق بلحم، ويعرف بدم، وركب فيه الشهوة وحجزه بالحياء. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: خلق الله تعالى آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة، فاستمع ما يحبونك به، فإنها تحينك وتحية ذريتك، فقال السلام عليكم، فقالوا عليك السلام ورحمة الله، فزادوا ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن. وروى مسلم عن أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم لمّا صوّر الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به وينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك. وأخرج الترمذي. وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب. قال تعالى «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وسبب تعليمه أسماء جميع المسميات بإلهام من الله تعالى إياه أن الملائكة قالت ليخلق ربنا ما شاء فلن يكون أحد أكرم عليه منا، وإن كان فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، ومن هنا قيل (أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة) فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالامتحان «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» عرض أسماء تلك المسميات على الملائكة من كل نام وحساس وجماد وماء، وجاء الضمير بلفظ العقلاء تغليبا لأن القاعدة عند إرادة جمع من يعقل ومن لا يعقل بلفظ واحد يعبر بضمير من يعقل تغليبا له على ما لا يعقل «فَقالَ أَنْبِئُونِي

مطلب تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة:

بِأَسْماءِ هؤُلاءِ» الأشخاص قالوا خلق الله تعالى كل شيء من الحيوان والطير والحوت والجمادات والمياه وغيرها، وعلمها آدم، فقال هذا بعير، وهذه فرس، وهذا طير، وهذه سمكة، وهذا حجر، وهذا مدر، حتى أتى على آخرها، أي سموا لي هذه الأشياء كلّا باسمه «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (31) بقولكم اني لم أخلق أفضل منكم وأعلم «قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا» بشيء من هذه الأشياء ولا نعلم «إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» إياه التسبيح والتقديس لأن علمنا مقصور على ما علمتنا فقط «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» بخلفك وأسمائه وأوصافه المميزة له عن غيره «الْحَكِيمُ» (32) فيما تخلق وتقضي وتأمر وتنهى «قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» سم كل شيء من هذه المخلوقات باسمه، فذكر أسماءها كلها حتى القصعة «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» أمام الملائكة دون تلكؤ أو تلعثم بهتت مما قرأت؟؟ وسمت «قالَ» عز قوله مخبرا ملائكته عن الحكمة التي خلق آدم لها «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» عما كان فيهما قبل خلقكم وزمنه وما سيكون بعد «وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من قولكم الذي ذكرتموه فيما بينكم بشأن خلق آدم «وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (33) من قولكم لن يخلق الله أفضل منا ولا أعلم. مطلب تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة: وفي هذه الآية والتي قبلها دليل أهل السنة والجماعة بأن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للزمخشري وأشباهه، القائلين بتفضيل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، وقد خرق الإجماع بقوله هذا، وقد قيل بعد أن حجّ:؟؟ وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق وقد منا ما يتعلق في هذا البحث بالآية الأولى من الإسراء في ج 1 «وَ» اذكر يا سيد الرسل هذه القصة لقومك، وقصة أخرى وهي «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» وهذا الأمر لعموم الملائكة الذين هم في السماء والأرض، كما يدل عليه قوله في الآية 20 من سورة الحجر المارة في ج 2 (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وما في هذه الآية من قوله عز قوله «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد لأنه من

الجن، وليس من الملائكة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية 52 من سورة الكهف ج 2، ومعنى إبليس مأخوذ من إبليس أي يئس من رحمة الله، قال تعالى (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الآية 79 من سورة المؤمنين ج 2 أي آيسون، وان اسمه الحقيقي بالعربية الحارث، وبالسريانية عزازيل، وهذا الاستثناء كان بسبب وجوده مع الملائكة وشموله الأمر بالسجود معهم، لا لكونه منهم، ومن قال إن الاستثناء بعد إدخاله بالخطاب للملائكة دليل على أنه منهم لم ينظر إلى آية الكهف المشار إليها أعلاه، لأن دلالتها على أنه من الجن وليس من الملائكة صريحة لا تقبل التأويل، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما كان منه في تفسير بعضه بعضا مقدم على ما ليس منه في تفسيره، ثم ما كان من بيان حضرة الرسول، ثم ما كان من إيضاح الأصحاب، ثم التابعين والعلماء، وهكذا، ومتى وجد قول للأقدم لم يطعن فيه لا يؤخذ بالذي دونه، قال تعالى في ذم ذلك الملعون بأنه «أَبى» عن السجود ولم يمتثل أمر ربه الذي أنعم عليه بإلحاقه بالملائكة بعد طرد قومه وإهلاكهم «وَاسْتَكْبَرَ» على آدم وعد نفسه خيرا منه باحتجاج واه «وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» (34) بسبب فعلته هذه تجاه الملائكة كما هو في علم الله كافر، ولكن الملائكة وآدم لا يعلمون كفره المنطوي عليه قبلا، فأظهره الله لهم بامتناعه هذا، فعلموا أن شقاءه سابق في علم الله، وأن النفس الخبيثة لا يبدلها المعروف، راجع الآية 12 من سورة الأعراف ج 1 فيما يتعلق به لعنه الله وأخسا مقايبسه الباطلة. وهذه قصة ثالثة ذكرها الله بقوله جل قوله «وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» لم يقل جل قوله اسكنتك الجنة لأنه يدل على الاستقرار وهو إنما خلق لعمارة الأرض لا ليبقى في الجنة، قالوا لما خلق الله تعالى آدم على الصورة والكيفية المارتين لم يكن معه من جنسه من يستأنس به، فألقى الله عليه النوم وأمر بأخذ أقصر ضلع من أضلاع جنبه الأيسر فخلق منه زوجته حواء بقوله جل قوله كن امرأة من جنس آدم فكان، وخلق مكانه لحما من غير أن يحسّ بذلك ولو أحس ووجد ألما ما حن رجل على امرأة قط، وسميت حواء لأنها خلقت من حيّ فاستيقظ فرآها جنبه كأحسن ما خلق الله،

قال من أنت؟ فألهمها الله بأن قالت زوجتك خلقت لتسكن إليّ وأسكن إليك وأوانسك، ولهذا قيل: وما سمي الإنسان إلا لأنه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب وفي رواية إلا لنسيه، كما مرّ في الآية الثامنة، ولهذا قالوا إن للتسمية نسبة بالمسمى غالبا، وقلّ أن تجد اسما لا نصيب له من مسماه، ومن هذا قوله: قد سمي القلب قلبا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل وقيل سمي قلبا لأنه لبّ كما سمي العقل لبا، وقيل لتقلبه، كما مرّ آنفا وفي الآية 8 المارة. وما قيل إن الجنة التي أدخلها آدم هي بستان كان في اليمن استدلالا بأن الجنة المعروفة من يدخلها لا يخرج منها، فقيل ضعيف لا يؤبه به، والصحيح انها الجنة المعهودة، لأن- أل- فيها للعهد ولا جنة معهودة غيرها ولا يراد عند الإطلاق غيرها وهي التي أعدها الله للمتقين، وما استدلوا به يقال في الداخل فيها جزاء عمله الحسن بعد أن مات وبعث وأحيي كالسيد إدريس عليه السلام، لأنه ذاق طعم الموت، راجع قصته في الآية 57 من سورة مريم في ج 1، وقد ثبت أن سيدنا محمد دخلها ليلة المعراج راجع حديثه أول سورة الإسراء ج 1، أما البستان التي في اليمن فلم تكن إذ ذاك، وقيل إنه هو إرم ذات العماد المذكور بحثها في الآية 5 من سورة الفجر ج 1، فراجعها. «وَكُلا مِنْها رَغَداً» صفة للمصدر المؤكد، أي أكلا واسعا رافها مريئا حسبما تريدان وترغبان، كما يفيده قوله «حَيْثُ شِئْتُما» من أي مكان أردتما وأي زمان، وهذا يفيد الإطلاق لكل ما فيها، ثم خصص بقوله عز قوله «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» عينها الله لهما بالإشارة إليها، ولم يسمها، لذلك اختلفت فيها أقوال المفسرين، فمنهم من قال إنها السنبلة، ومنهم من قال إنها التين أو الكرم، ولا طائل تحت معرفتها إذ القصد عدم قربانها امتثالا لأمر الله تعالى، ولهذا قال «فَتَكُونا» إذا تناولتما منها شيئا «مِنَ الظَّالِمِينَ» (35) أنفسكما لفعلكما ما لا ينبغي فعله «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها» عن الجنّة بسبب غروره لهما وإغرائهما بالأكل منها «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» من النعيم.

مطلب إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة وإسكانهما الأرض:

مطلب إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة وإسكانهما الأرض: قالوا إن إبليس بعد أن طرد من الجنة أراد دخولها لإغواء آدم وزوجته فلم يمكنه خزنتها من ذلك، فأتى صديقته الحية فأدخلته في فيها، وفي أثناء تعرضه لآدم سمعه يقول لو أن خلودا، فاغتنم الملعون هذه الكلمة وعدها فرصة لإغوائهما، وتمثل باكيا، فقال له آدم ما يبكيك؟ قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان هذا النعيم، فاغتما لذلك، ثم قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد؟ قالا بلى، قال هي التي نهاكما الله عنها، فأبيا قربانها، ثم حلف لهما بأنه ناصح لهما وأن الله لم ينهكما عن مثلها، فصدقا لأنهما يتحققان أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، ولا يجرؤ أحد أن يكذب على الله، فأكلت حواء من مثل تلك الشجرة، وناولت آدم، فأكل منها فتهافتت عنهما ثيابهما، وبدت لهما سوءاتهما، وقال الله يا آدم ما حملك على ما فعلت؟ قال يا رب غرّني عدوك ولم أظن أنه سيحلف بك كاذبا، وان حواء هي التي بدأت بالأكل مما نهيتنا عنها، قال وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض فلا تنال عيشك فيها إلا نكدا. راجع القصة مفصلة في الآية 16 من سورة الأعراف في ج 1، «وَقُلْنَا اهْبِطُوا» الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 36» انقضاء آجالكم فيها، فأهبط آدم على جبل (نود) في سرنديب من أرض الهند، وحواء في جدّة من أرض الحجاز، وإبليس في نجد، والحيّة بأصبهان من أرض العجم، وقيل إن إبليس أهبط بالأيلة من أرض البصرة، فحرث آدم وزرع وسقى وحصد وداس وذرّى وطحن وعجن وخبز بمعاونة زوجته حواء التي اجتمع بها بعد الهبوط وبإلهام من الله تعالى حتى بلغ منه الجهد، وأكل هو وزوجته من كدهما، وقال إن حواء لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرما ولتدمي مرتين في الشهر، فرنت حواء عند ما سمعت كلام الله أي نظرت وتأملت عاقبته وحزنت، فقيل لها عليك وعلى بناتك الرنة. واعلم أن هذا واقع من آدم عليه السلام قبل تشرفه بالنبوة كما وضحناه في الآية 12 من سورة طه ج 1 فراجعه، وما قيل بعدم قتل الحيات خوفا من ثأرهنّ أو تأثما لا صحة له، بل ينبغي قتلها لأنها من المؤذيات، وقد

جاء في الخبر أن في قتلها عشر حسنات. أخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمناهنّ منذ حاربناهن. وله عن ابن مسعود قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف من ثأرهن فليس مني. وفي رواية اقتلوا الكبار كلها إلا الجانّ الأبيض الذي كأنه قضيب فضة. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان. وفي رواية ان في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فخرجوا عليه ثلاثا، فإذا ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر. ومما يدل على أن ما وقع من آدم قبل النبوة قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» كانت سببا لقبول توبته، والتلقي قبول الكلام عن فهم وفطنة، والكلمات هي قوله تعالى (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية 23 من الأعراف ج 1، وتدل فاء التعقيب على أن توبته كانت عقب هبوطه بلا مهلة، وهذا ما ينافي القول بأن الله تعالى ألهمه أركان الحج وأمره أن يحج ويقول اللهم اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي. وما قيل إنه بقي ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه، ينفيه قوله تعالى «فَتابَ عَلَيْهِ» عقب دعائه هذا الذي لقّنه له ربه «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع على عباده بقولهم إذا تابوا وأنابوا «الرَّحِيمُ 37» كثير الرحمة بهم لرأفته عليهم. قال تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» الأمر للأربعة المذكورين آنفا، وهو تأكيد للأمر الأول لما فيها من زيادة كلمة (مِنْها) لبيان أن الهبوط من الجنة، وزيادة لفظ (جَمِيعاً) للتوكيد على أن المراد الأربعة كلهم لا بعضهم ولما نيط به من زيادة قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» يؤدي بكم إلى الجنة التي أخرجتما منها. وما قيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا، والأخير من سماء الدنيا إلى الأرض يرده قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) الآية، وفي هذه الجملة الأخيرة دلالة على جواز الجمع فيما زاد على الواحد، راجع الآية 78 من الأنبياء ج 2،

لأن الهدى لآدم وزوجته خاصة ولا يتصور دخول إبليس والحية فيه، لأن إبليس محتم دخوله في جهنم على طريق التأبيد، والحية قطعا تكون ترابا كسائر الحيوانات كما مر آخر سورة النبأ ج 2، والقول بخلاف هذا يعارض النص، وكل ما خالف النص لا عبرة به، وما قيل إن المراد هما وذريتهما فيه بعد أيضا إذ لم يكن لديهما ذرية إذ ذاك ولم يتصورانها «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» المنزل إليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من الشدائد والأهوال في الدنيا والآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (38) على ما فاتهم من نعيم الدنيا. وفي هذه الآية دليل أيضا على أن آدم حينما أخرج من الجنة لم يكن نبيّا، وإلا لم يقل له ما جاء أول هذه الآية، راجع الآية 114 فما بعدها من سورة طه ج 1، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» بألوهيتنا وجحدوا وحدانيتنا «وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا في هذه الدنيا وماتوا على ذلك «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» في الآخرة عقابا لتكذيبهم «هُمْ فِيها خالِدُونَ» (39) أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وهذه أول وصية ذكرها الله تعالى لبني إسرائيل في القسم المدني. قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» لمّا كان المخاطب بالآيات الثلاث عشرة، بعد الست الأولى في هذه السورة هم المنافقون وأكثرهم من اليهود ذرية يعقوب عليه السلام إسرائيل الله، جاء على ذكرهم ثانيا يذكرهم النعم التي أنعم بها على أسلافهم، وكلمة (إسرا) هي صفوة أو عبد و (إيل) معناها الله جل جلاله أي يا أولاد صفوة الله أو عبده تذكروا نعمة إنجائكم من آل فرعون، وإحلالكم أرضهم وديارهم، ونعما أخرى ستأتي تباعا. واعلم أن النعم من الله على عبده قد تنحصر في ثلاثة أنواع: نعمة تفرد الله تعالى بها وهي إيجاد الإنسان ورزقه، ونعمة وصلت إليه بواسطة الغير ومكنه منها بتسخيرهم إليه فيها، ونعمة جعلت له بواسطة الطاعة وهي أيضا من الله الذي وفقه إليها، فتكون كلها منه تعالى إلى عبده وهو يقول أعطاني فلان وخلّصني فلان «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي» المشار إليه في الآية 27 المارة كما وفّى به بعض آبائكم الأقدمين الذين تنعموا بتلك النعم بعد الذلّ والرق والقتل، نجعلناهم قادة وملوكا وأنبياء «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» الذي وعدتكم به من حسن

[سورة البقرة (2) : الآيات 41 إلى 50]

الثواب ورفع الدرجات بالجنة «وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» (40) لا ترهبوا سواي، فأنا المنقذ لكم من الضر الذي أوقعه فيكم القبط، وأنا الذي نجيتكم من الغرق وأغرقت عدوكم، وأنا الذي حميتكم في التيه فأطعمتكم وأسقيتكم وظللت عليكم الغمام لا أحد غيري «وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ» من القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم لكونه جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من التوراة المشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد والإشارة إلى بعثة محمد بن عبد الله وإلى أنه خاتم النبيين ونبي آخر الزمان وأن من آمن به فقد آمن بالتوراة، ومن كذبه فقد كذبها «وَلا تَكُونُوا» أيها الإسرائيليون «أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» أي القرآن فتسنون الكفر لمن بعدكم ويقتدي بكم غيركم، يجب عليكم وأنتم أهل كتاب أن تكونوا أوّل مؤمن به، لأنكم تعلمون من كتابكم أني منزل هذا القرآن على هذا النبي الذي جاء نعته فيه «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي» المسطورة في التوراة المبينة لذلك «ثَمَناً قَلِيلًا» فتكتمون ما فيها من وصف هذا النبي وكتابه لقاء ذلك الثمن اليسير البخس من حطام الدنيا الذي تأخذونه من قومكم وتضيعون ما لكم عند الله إذا صدقتم وآمنتم من الخير العظيم، وأنتم تعلمون أن الدنيا وما فيها بالنسبة للآخرة لا يعدّ ان شيئا «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ 41» لا تتقوا غيري، فلا ينجيكم أحد مما تكرهون سواي. وتقديم المفعول يفيد الحصر، أي احذروا عدم اتقائي لئلا تقعوا في الشقاء، وتيقنوا أن لا مخلص لكم غيري «وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» بأن تكتبوا في التوراة ما ليس منها فتغشوا حقها بباطلكم «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» الذي هو فيها لقاء ذلك الثمن الزهيد «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 42» أن ما تكتمون منها حق وما تبدونه باطل. وهذا الخطاب وإن كان خاصا برؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا ينالون مالا من سفلتهم وجهلتهم لقاء ما يخلطون عليهم مما لم ينزل الله، إلا أنه عام في كل من يخلط الحق بالباطل، أو يخفي الحق ويظهر الباطل، وتؤذن هذه الآية العظيمة بوجوب إظهار الحق على كل أحد، وحرمة كتمانه وتبديله ومزجه بغيره مما هو ليس من كلام الله. وكان سبب إقدامهم على ذلك لأمرين: الأول لأجل ما يأخذونه من حطام الدنيا، والثاني الخوف من أنهم إذا بينوا لهم الواقع مما هو مبين في التوراة عن صفات

مطلب في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل:

الرسول ولزوم اتباعه عند ظهوره، يؤمنون به فتذهب الرياسة منهم لأنهم يتبعونه ويتركونهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» مع المسلمين كما أمرتهم بالقرآن بإقامتها «وَآتُوا الزَّكاةَ» المفروضة عليكم لأنها لم تفرض بعد على المسلمين، وقد تكرر أن ذكرنا أن الصلاة والزكاة لم تخل أمة منهما من لدن آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهما ومن بينهما من الأنبياء «وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ 43» من المسلمين وصلوا مثل صلاتهم جماعة بركوع وسجود، وذلك أن صلاتهم لا ركوع فيها أي آمنوا وأقيموا شعائر المؤمنين مع النبي محمد وأصحابه. وأنزل الله في رؤسائهم قوله جل قوله «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ» البر كلمة جامعة لكل خير وطاعة «وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» فلا تعملون به، وذلك أن منهم من كان يأمر أقرباءه وحلفاءه وأصدقاءه باتباع محمد صلّى الله عليه وسلم، والثبات معه على دينه سرا، ويقولون لهم إنه نبي آخر الزمان حقا، وان التوراة تأمر باتباعه، وهم يعدلون عن الإيمان به حرصا على بقاء الرياسة بأيديهم، وما يأخذونه منهم من حطام الدنيا، أي كيف تفعلون هذا «وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» التوراة وتعلمون بما فيها من الحق والأمر باتباعه ومجانبة الباطل «أَفَلا تَعْقِلُونَ 44» أيها الأحبار والرؤساء والقادة، أن ذلك منقصة في دينكم ودنياكم، إذ لا يليق بالإنسان أن يأمر بما لا يفعل وينهى عما يفعل. قال تعالى (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) الآية 88 من سورة هود في ج 2، وقال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وفي هذه الآية تقريع وتوبيخ لهم عنى ما هم عليه. ويؤذن الاستفهام فيها بالتعجب من حالهم والإنكار لأفعالهم. مطلب في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل: واعلم أن العقل لغة الإمساك، وهو مأخوذ من عقال الدابة ليمنعمها من الشراد، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والأفعال القبيحة. واصطلاحا قوة تهيء قبول العلم فتصير لصاحبها ملكة بميز فيها الخير من الشر. وهو قسمان وهي وكسبي،

والكسبي أفضل من الوهبي، لأنه يزداد تدريجا بسبب اتباع ما يستحسنه من أعمال الناس واجتناب ما يستقبحه من أفعالهم، والوهبي هو هو، إذ لا يستعمله صاحبه في الاتباع والاجتناب. قال سيدنا علي كرم الله وجهه: إن العقل عقلان ... فمطبوع ومسموع ولا ينفع مطبوع ... إذا لم يك مسموع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه. وروى البغوي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون. وهذا مما يؤيد أن هذه الآية عامة في كل من هذه صفته، وان خصوصها في علماء بني إسرائيل لا يمنع عمومها وشمولها لغيرهم، وقيدها بهم لا يحول دون إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فعلى العاقل إذا أراد أن يسمع قوله ويقتدى بفعله أن لا يخالفها، إذ يصير محلا للانتقاد في الدنيا والعذاب بالآخرة، ولا يعمل لأجل الناس أو لإرضائهم، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن تحمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. وعلى الإنسان أن يحسّن ما يخرج من لسانه ويلين جانبه، ويحلم عند الغضب، ويجتنب الحدّة مهما استطاع، فمن أكبر الشوائب وأفحش المصائب أن يكون المرء بذيء اللسان، شرس الطباع، خشن الجانب، سيء الآداب، تأخذه ثورة الغضب لأقل إساءة، والغضب يقبح صورة الغضبان، ويثلم دينه، ويعجل ندمه، وتبدو منه بوادر الحدّة لأدنى إهالة،

وعلى الإنسان أن لا يغتر بحسنه وجماله وكمال هيئته دون أن يكون متحليا بعقل سليم وخلق مستقيم وعمل صالح، وينظر إلى قول القائل: إلا يكن عظمي طويلا فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلوا وأما وجهه فجميل قال تعالى «وَاسْتَعِينُوا» أيها الناس على تقوية إيمانكم بالله ورسوله وعلى ما يصيبكم من مصائب الدنيا وعلى مشاق ما كلفتم به من العبادة وما نابكم من قسوة الفقر «بِالصَّبْرِ» فإن الجزع والضجر يزيدان في المصيبة ويمحقان الأجر «وَالصَّلاةِ» الدعاء إلى الله تعالى فيها، فإن ذكر الله مع الصبر يذوب معهما كل ضر، وانهما يهوّنان عليكم حب الدنيا بما فيها من رياسة ومال وسلطة وجاه «وَإِنَّها» أي هذه الأمور التي أمرتكم بها ونهيتكم عنها من بداية الخطاب إلى هنا «لَكَبِيرَةٌ» ثقيل الأخذ بها على الناس، ويشق عليهم القيام بها، كما نريد «إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ 45» منهم، فإنها خفيفة عليهم، لأن قوة إيمانهم وصحة عقيدتهم وواسع يقينهم يسهل عليهم ما يقربهم إلى الله، ويكرههم بما يباعدهم عنه. ثم وصف هؤلاء الخاشعين بأنهم «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» يتيقنون «أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» بالآخرة فيعترفون بالبعث بعد الموت وبالحساب والعقاب والثواب «وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ 46» يوم القيامة، ومن اعتقد هذا هانت عليه الدنيا وما فيها، وأقبل بكليته إلى ربه. قال بعض المفسرين إن الخطاب في هاتين الآيتين الأخيرتين للمؤمنين خاصة، وهو قول غير سديد، لأنّه يوجب تفكك النظم الجليل ويقطع المناسبة بينهما وبين ما قبلهما من الآيات، والأولى هو ما جرينا عليه من جعل الخطاب فيهما لليهود والمؤمنين معا لأن اليهود لا ينكرون أصل الصلاة والزكاة والصبر على المكاره في أمور الدين وانهم يعتقدون باليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار، وكذلك النصارى، لأن الشرائع، كلها منزلة من الله تعالى، وقد ذكرنا في سورة المؤمنين في الآية 52 ج 1 أن أصول الأديان كلها واحدة، وقلنا آنفا إن التخصيص والتقييد لا يمنع عموم والإطلاق، فيدخل فيهما جميع الأمة، ثم أكد التحذير والتخويف عليهم وتفطنهم لنعمه على آبائهم، فقال عز قوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي

أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 47» من أهل زمانكم، فاحتفظوا أيها الخلف الحاضر بشرف أسلافكم المفضّلين، وكرر صدر هذه الآية بمثل الآية 40 المارة وستكرر أيضا في الآية 123 الآتية، وهذه الوصية الثانية «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي» فيه «نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» لزمها في الدنيا، بل لا بد ان تجازى هي نفسها على عملها. واعلم أن التقوى كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وهي كلمة وجيزة جامعة لكل خير، ومعناها امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وعبر بعضهم عما ذكر بقوله ان لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك، وقال آخر إذا أردت أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك أو اخرج من داره وكل غير رزقه. وتقوى الله تتضمن ما تضمنه حديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء، وكذا ما تضمنه حديث جبريل الذي يسأل فيه حضرة الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي، فإذا اتقى الله الشخص بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فقد أتى بجميع وظائف التكليف. والأصل في ذلك قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ... ) الآية 178 الآتية، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الآيتين 62 و 63 من سورة يونس في ج 1، فمن اتقى الله حسبما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متق، والمتقي ولي الله، ومن اتقى مثلما في الآية الثانية فهو ولي، فصار معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث اتق الله حيثما كنت تكون ولي الله بتقواك إياه، ويحصل لك لوامح وصف الحمد والثناء في كل مكان وزمان اتقيته فيه، لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الآية 187 من آل عمران الآتية، ويحصل لك أيضا الحفظ والحراسة من الأعداء لقوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الآية 121 من آل عمران الآتية أيضا، ويحصل لك التأييد والنصر بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية 4 من سورة الطلاق الآتية، ويجعل لك أيها المتقي أيضا إصلاح العمل وغفران الذنوب لقوله تعالى

(وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) الآية 72 من سورة الأحزاب الآتية، ويجعل فيك النور لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) الآية 28 من سورة الحديد الآتية. والتقوى تورثكم المحبة لقوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الآية 77 من آل عمران أيضا، وتورثكم الإكرام لقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 14 من سورة الحجرات الآتية، وتورثكم البشارة عند الموت بما يوجب لكم المسرة لقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) الآية 10 من سورة يونس ج 2، وتورثكم النجاة من النار لقوله تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية 72 من سورة مريم في ج 1، ولقوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الآية 28 من سورة الليل في ج 1، وتورثكم الخلود بالجنة لقوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الآية 123 من سورة آل عمران الآتية. والتقوى التي تسمى تقوى هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات والتباعد عن المحظورات، وقد وصّى الله بها عباده فقال عز قوله (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) الآية 130 من سورة النساء، ولهذا عرفها بعض العلماء بأنها اسم جامع للحذر من جميع ما أمر الله به أن يحذر منه، لأن العبد تارة بحذر من تضييع الواجبات، وطورا من المندوبات فيتقيه، وتارة يحدر فوات أعالي الدرجات فيتقيه بأن لا يشتغل بما دونها، ومرة يحذر ارتكاب المحرمات، وأخرى المكروهات فينقيه لئلا يقع فيها، وقال بعض العلماء المراد بالتقوى أن يتقي العبد ما سوى الله فيجتنب كلّ ما يشغله عنه، وفي هذا المعنى قيل: من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشقي ما يصنع العبد بعز الغني ... والعز كل العز للمتقي وقال أبو الدرداء: يريد العبد أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا يقول العبد فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا

واعلم أن التقوى ظاهرا وباطنا، فالظاهر ما يحل بظاهر البدن، وهو المحافظة على حدود الله تعالى، فلا يتجاوز شيئا منها ما استطاع، وإذا أكره يبادر حالا للاستغفار والرجوع، والباطن ما يحل بباطنه من الإخلاص في العمل وحسن النية، وقد اتفقت الأمة على فضلها ولزوم التحلي بها وعدم مرافقة غير أهلها، ولهذا قال: ولا تمش إلا مع رجال قلوبهم ... تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر لأن الذي يريد أن يعيش عيشة طيبة توصله إلى الراحة الدائمة في الآخرة، عليه أن يقضي حياته مع المتقين كي يكون حي القلب دائم اليقظة بعيدا عن الغفلة، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة (التقوى هاهنا) يشير إلى صدره الشريف مكررا لفظها ثلاثا لأنه محل القلب الذي هو بمنزلة الملك للجسد، فإذا صلح صلح كله، وإذا فسد فسد كله، كما جاء في الحديث الآخر الصحيح أيضا، وذلك لأن التقرى تورث خشية الله، وخشية الله تمنع صاحبها من كل سوء، قالوا أمر الرشيد بحبس رجل ثمّ سأل السجان عنه فقال إنه كثير الصلاة والدعاء في سجنه، فقال خله يسألني إطلاقه، فعرض له بذلك، فقال قل لأسير المؤمنين كل يوم يفي من نعمته ينقضي من محنتي، والأمر قريب، والوعد الصراط، والحاكم هو الله. فلما بلغه الرشيد ذلك خرّ مغشيا عليه، ولما أفاق أمر بإطلاقه. لهذا على العاقل أن يخشى الله فيما يقول ويفعل ويعمل بالتقوى، وقال الغزالي: التقوى كنز عظيم فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر ورزق كريم وملك عظيم، لأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فيها. ومن علامة التحقق بالنقرى أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يشعر، ومن جهة لا تخطر بباله، لأن من يتقي الله يقف عند حدوده ويجتنب معاصيه، فيخرجه من طرق الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة، ويرزقه من حيث لا يرجوه. وقال ابن عباس: يخرج الله المتقي من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة. راجع الآية الثانية من سورة الطلاق الآتية. وعنه أيضا قال من اتقى الله وقاه كل شيء، أي حفظه مما يخافه، وقال داود بن نصر الطائي: ما خرج عبد من ذل

المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه الله تعالى بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. وقال ابن الوردي: واتق الله فتقوى الله ما ... جادرت قلب امرئ إلا وصل ليس من يقطع طرقا بطلا ... إنما من يتق الله البطل هذا وإن الرجل إذا وفق لنقوى الله على ما ذكرنا لازمته الاستقامة، وهي كلمة جامعة لأنواع التكاليف. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جميع القرآن أشد من قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الآية 114 من سورة هود في ج 2 ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم شيبتني سورة هود. قال القشيري الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها تحصل الخيرات ويكمل نظامها، لأن من لم يكن مستقيما في حاله ضاع سعيه وخاب جده. ودرجة الاستقامة هذه لا يطيقها إلا الأكابر الربانيون لما فيها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات، لأنها تقتضي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: استقيموا ولن تحصوا. أي لن تقدروا على إحصاء لوازم الاستقامة كلها، وهذا لا يمنعكم من العكوف على الاستقامة، لأن ما يحصل منها يكفي عن غيرها، ولهذا قال العارفون ذرة استقامة خير من ألف كرامة. وقال الكاملون ما الكرامة إلا الاستقامة. وعلى المنقي طالب الاستقامة أن يحفظ الله تعالى بطاعته وعدم التعدي على عباده ليحفظه برعايته ويجده أمامه فيما ينزل به من الشدائد، وأن يكل أمره إليه، فلا يسأل غيره في قضاء حوائجه، لأن خزائن الوجود كلها بيد الله تعالى، وأزمّتها إليه، ومفاتحها منوطة به، فلا معطي ولا مانع سواه، وعليه أن لا يطلب الإغاثة إلا منه وحده، كما أنه لا يخص بالعبادة غيره، راجع الآية 5 من سورة الفاتحة في ج 1، والآية 70 من سورة الأنبياء وما ترشدك إليه تجد ما يثلج صدرك. وليتحقق هذا المتقي المستقيم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه لو أرادوا أن ينفعوه بشيء لم يقدره الله له لا يقدرون، كما أنهم لو أرادوا أن يضروه بشىء لم يقدره الله عليه لن يقدروا، راجع الآية 13 من سورة الأنعام في ج 2 وما ترشدك إليه من الآيات. فإذا اتقيت أيها الإنسان واستقمت هان عليك أمر الدنيا والآخرة،

مطلب خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول:

ووجدت الله تعالى أمامك في جميع أمورك. فعليك أن تتعرف إليه حالة الرخاء والصحة لتجده حالة الشدة والمرض، كما وقع لأهل الغار في الكهف حينما وقع حجر أمامهم وسد عليهم باب الخروج. راجع الآية 26 من سورة الكهف في ج 2. هذا وقد أوردنا ما يتعلق في بحث الاستقامة في آية هود المذكورة آنفا فراجعها مع ما أوردناه في حق التقوى هنا ففيه كفاية. ولنرجع إلى تفسير الآية التي نحن بصددها بعد أن شطح بنا القلم فيما استطردناه، وهي أن كل نفس لا بد وأن تجازى بما عملت هي نفسها عليه، فلا يكون بحالة من الأحوال مجازاة غيرها عنها، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية 19 من سورة فاطر في ج 1، «وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» إذا كانت كافرة مطلقا، وإذا كانت مؤمنة إلا بإذن الله، ولمن يرتضيه، راجع الآية 28 من سورة الأنبياء ج 2، «وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» عنها أي فدية تقيها من عذاب الله «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 48» فيه من العذاب، وهذه الآية بمعرض الرد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم أصحاب موسى عليه السلام يشفعون لهم في الآخرة. قال تعالى معددا بعض نعمه عليهم بقوله عز قوله في قصة ثالثة ضمنها قصصا أخر متتابعة من أعمال اليهود وهي «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» وهؤلاء المخاطبون لم يشهدوا عهد فرعون وإذاقتهم عذابه بالعسف، إلا أنهم يعلمون ذلك بالاستقراء وبذكره بالتوراة «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» أي قتل الذكور وإبقاء الإناث للخدمة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ 49» راجع الآية 8 من سورة القصص في ج 1 وما ترشدك إليه في هذا البحث «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» وجعلنا فيه مسالك لتقطعوه وتتخلصوا من فرعون وقومه. مطلب خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول: قالوا لما دخل بنو إسرائيل مصر زمن يوسف عليه السّلام كانوا اثنتين وسبعين نسمة، ولما خرجوا منها زمن موسى عليه السّلام كانوا ستمئة ألف وعشرين ألفا،

[سورة البقرة (2) : الآيات 51 إلى 60]

عدا الذين دون العشرين وفوق الستين، قالوا وأخرج الله كل ولد كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وكل ولد كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، ولما أمره الله بإخراجهم أمرهم أن يستعيروا حلي القبط وأن يتركوا أصرجتهم مضيئة في دورهم لئلا يرتاب القبط ببقائهم، وليعلموا أن استعارة الحلي ليتزينوا بها في عيدهم، ففعلوا وخرجوا إلى باب البلد فأضلوه، فقال مشايخهم إنما أضللنا الباب بسبب العهد الذي أخذه يوسف علينا بأن لا نخرج من مصر حتى نأخذ ضريحه معنا، فتحروا قبره فلم يجدوه، فأخبرتهم عجوز أنه في النيل، فدعا موسى ربه، فانحسر النيل وظهر تابوته، فأخرجوه ووضعوه ضمن تابوت من رخام ونقلوه معهم، وداوموا سيرهم طيلة الليل، ولما بلغ فرعون خروجهم تبعهم بألف ألف وسبعمئة ألف، وعند طلوع الشمس دخلوا شاطىء البحر، فنظروا فإذا فرعون وقومه بأثرهم، فأوحى الله إلى موسى فضرب البحر ودخله وقومه، فدخلوه، فأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، راجع تفصيل هذه القصة في الآية 63 من سورة الشعراء في ج 1. قال تعالى «فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 50» فعلنا بكم وبهم بأم عيونكم كيفية الإنجاء والإغراق بآن واحد، «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة، ولم يقل نهارا لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر، وهذا هو الميقات الأول إذ يوجد آخر سنأتي على ذكره بعد. قالوا إن بني إسرائيل لم يكن لديهم شريعة ولا كتاب، وقد وعد الله موسى بإنزال التوراة ووقت له هذا الميقات، فاستخلف عليهم هارون وذهب لميقات ربه، وكان السامري يرى جبريل حين يأتيه ويرى فرسه لا تطأ شيئا إلا حيي وكان منافقا، فقبض قبضة من أثرها إذ عرف أنه إذا ألقاها على شيء يحيا، فقال لبني إسرائيل إن الحلي الذي أخذتموه من القبط لا يحل لكم فضعوه في هذه الحفرة، فوضعوه، فعمد إليه وصاغه عجلا وألقى التراب فيه، فصار يخور، فقال لبني إسرائيل هذا إلهكم الذي ذهب إليه موسى نسيه هنا. راجع تفصيل هذه القصة في الآية 148 من سورة الأعراف في ج 1، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» إلها فعبدتموه «مِنْ بَعْدِهِ»

مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني:

بعد ذهاب موسى إذ كان وعدهم أولا ثلاثين ليلة، ولم يعلموا بزيادة العشر، فلما مضت ظنوا أنه مات، لأن العقيدة الدينية في قوم موسى لم ترسخ في قلوبهم بعد، مع ما أظهره الله على يديه من الآيات الباهرات، ولهذا بادىء الرأي أذعنوا وسمعوا قول السامري وعكفوا على عبادة العجل، قاتلهم الله، إن موسى دعاهم إلى الله سنين، وأظهر لهم المعجزات الباهرة، فلم تثبت دعوته إلى الله الفاعل المختار في قلوبهم، وبكلمة بسيطة من السامري أذعنوا حالا لعبادة العجل الذي هو من صنع يده، وانقادوا له، ولهذا قال تعالى «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ 51» في ذلك، لأن العجل عبارة عن صنم، فكيف تصدقون إلهيته بلا تأمل، ولا تدبر وبأنه إله موسى، وأن موسى نسيه «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الفعل القبيح، وقبلنا تربتكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 52» حسن صنيعنا بكم من قبولكم بعد الإعراض وما أسلفناه لكم من النعم التي لا تقدر ولا يقدر أحد أن يعملها معكم، فضلا عن نعمة خلقكم وتمعكم بجوارحكم وحواسكم وإدرار الرزق عليكم وإيوانكم. مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني: واعلم أن الشكر ثلاثة أنواع: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على مؤتي النعمة، وشكر بالجوارح وهو مكافأة المنعم على النعمة. وقيل في ذلك: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا قال موسى عليه السّلام: إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر، وإنما شكري إيّاك نعمة منك، فأوحى الله تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني. وقال داود عليه السّلام: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة. قال تعالى «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «وَالْفُرْقانَ» عطف بيان على الكتاب، أو معرفة الفارق ما بين الحق والباطل لأول نظرة دون تأمل، بأن يلقي الله تعالى في قلبه عند مشاهدة الشيء أو سماع القول، هذا حق وهذا باطل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 53» بهديه

فتعلمون منه ما أحل لكم وما حرم عليكم فتأتون الخير وتذرون الشر على علم لأن الفعل والترك إذا كان عن جهل فهو جهل وإن كان حقا، قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» الذين عبدوا العجل بعده بإغرار السامري «يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ» إلها زمن غيابي وعبادتكم له من دون الله وخرجتم عن العهد الذي أخذته عليكم وفاقا لعهد الله الأزلي بعدم عبادة غيره، فقالوا له ما نفعل حتى يغفر لنا، لأن الله الذي أمرتنا بعبادته يقبل الرجوع إليه قال «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ» خالقكم قالوا وكيف هذه التوبة التي تمحو ذنبنا ويقبلنا بها إلهك قال «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» وكان في شريعة موسى عليه السّلام أن من اقترف ذنبا كبيرا كالكفر فتوبته قتل نفسه، ولا يقبل الله توبتكم إلا بذلك، وبما أنكم ولا بد ميتون فقتلكم أنفسكم لرضاء الله عنكم أربح لكم، «ذلِكُمْ» القتل والتخلص من هذه الدنيا الفانية التي غررتم بها فتلاقوا ربكم تائبين خاضعين «خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» من أن تموتوا حتف أنفسكم كفارا فتلقوه في دار البقاء على كفركم فتخلدوا في النار. وهذا بيان بأن توبتهم لا تقبل إلا بالقتل، وليس القتل هنا تفسيرا للتوبة، لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل والعزم على عدم العودة عليه، ولكن الله تعالى أوحى إن موسى عليه السلام أن توبة المرتد قتله، ولذلك قضى عليهم بالقتل، ولما وقع في قلوبهم ما هددهم به موسى من الخلود بالنار في الآخرة وتيقفوا ان قوله حق لما عرفوا منه، وأنهم لا بد ميتون، اختاروا قتل أنفسهم حذرا من عذاب الله، فقالوا نسلم لأمرة إلى الله، ونصبر على القتل، وجلسوا مختبين (الاحتباء ضم الساقين إلى البطن بثوب) وقيل لهم من حل حبوته أو اتقى بيديه أو بشيء آخر أو نظر لقاتله فهو ملعون، فصار الابن يقتل أباه، والأب ابنه، والأخ أخاه، والزوج زوجته، والزوجة زوجها، وقد أظلهم الله بسحابة حتى لا ترق قلوب بعضهم على بعض، وصار موسى وهرون يبكيان، ويتضرعان إلى ربهما، ويقولان يا ربنا (البقا البقا) أي اعف عن البقية، فأجاب الله دعاءهم وكشف عنهم السحابة وأمرهم بالكف عن القتل، فتفقد موسى وهرون القتلى فوجداهما سبعين ألفا، فحزنا عليهم، فأوحى الله تعالى

إلى موسى ألم ترض أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، ومن بقي مكفرا عنه؟ قال بلى يا رب، فأخبر قومه وأمر بدفن الموتى، وقال للباقين «فتاب عليكم» ربكم بامتثالكم أمره «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 54» بالعفو عن الباقين وإدخال القاتل والمقتول الجنة. قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» علانية مثل ما نراك وترانا، وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يأتي بأناس من بني إسرائيل يعتذرون عن عبادة العجل من الذين لم يعبدوه ولم ينهوا العابدين له عن عبادته. فاختار سبعين رجلا من خيارهم وأمرهم بالصوم والطهارة، وخرج معهم إلى طور سيناء، وهذا الميقات الثاني، فلما وصلوا قالوا لموسى أسمعنا كلام الله، فقال لهم أدنوا مني، فدخل الغمام، ودخلوا وراءه فسجدوا وسمعوه يكلم ربه وسمعوا كلام الله جل شأنه يقول له أنا الله ذو بكة لا إله إلّا أنا، أخرجتكم من مصر بيد شديدة، فاعبدوني لا تعبدوا غيري، ثم قالوا يا موسى أما وقد أسمعتنا صوته فأرناه عيانا، فإنا لا نؤمن لك حتى نشاهده عيانا «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» حال مقالتكم هذه لجرأتكم على ربكم بطلب رؤيته، والصاعقة صوت صيحة عظيمة هائلة راجع الآية 19 المارة «وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 55» كيف متّم بسببها. ولا دلالة في هذه الآية على عدم استحالة جواز الرؤية في الآخرة، لأن بني إسرائيل عوقبوا بسؤالها وكان عقابهم بعدم إيمانهم بقول رسولهم بعد ظهور معجزته، ولأن سؤالهم كان تعنتا وعنادا، فلما رأى موسى ما حلّ بهم صار يبكي ويتضرع إلى الله ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم، فلو شئت أهلكتهم وإياي قبل أن نأتيك، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ ولم يزل يتضرع حتى أحياهم الله تعالى كما أماتهم وهم ينظرون بعضهم إلى بعض كيف يحيون، كما نظر بعضهم إلى بعض كيف يموتون، وذلك قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 56» نعمة الإحياء بعد الموت زيادة على النعم الأولى. وتقدم بحث هذا الميقات الثاني في الآية 155 من سورة الأعراف ج 1 بأوضح من هذا، فراجعه.

مطلب في التيه والمن والسلوى ومخالفتهم أمر الله ثانيا:

مطلب في التيه والمنّ والسلوى ومخالفتهم أمر الله ثانيا: قال تعالى «وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» في التيه ليقيكم من حر الشمس، إذ ليس لديكم ما تستظلون فيه رأفة بكم «وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» غذاء وفاكهة لكم، إذ ليس لديكم ما تأكلون رحمة بكم. المنّ شيء أبيض كالثلج حلو ينزل على أوراق الأشجار ليلا بقدر ما يكفيهم كلهم، فيتناولونه نهارا. والسلوى طير يشبه السّمان، قد سخره الله تعالى إليهم وذلله، فيأخذون منه ما يكفيهم أيضا كل يوم، فإذا كان يوم الجمعة يأخذون كفاية يومين وليلتين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت وهم لا يحل لهم تناوله فيه. روى البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين. أي أن الكمأة شيء أنبته الله تعالى لخلقه من الأرض من غير سعيهم ولا مونة منهم، فهي منّ منّ الله تعالى علينا مثل المنّ لذي أنزل على بني إسرائيل لا هو نفسه، وماؤها شفاء للعين يعرفه ذو الخبرة به، لا لكل أمراض العيون، كالعسل نافع لبعض الأمراض لا كلها، وقد قال الله تعالى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية 77 من سورة النحل ج 2، والضار والنافع هو الله تعالى. راجع الآية 17 من سورة الأنعام ج 2، وقلنا لهم: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بلا تعب ولا كلفة «وَما ظَلَمُونا» حينما كفروا نعمتها وقالوا لن نصبر لك على طعام واحد، كما سيأتي قريبا «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 57» ببخسهم حقنا وجحوده وعدم شكره، لأن وباله يعود عليهم. قال تعالى «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» أريحا قرية الجبارين الآتي ذكرهم في الآية 24 من سورة المائدة الآتية، أو بيت المقدس على قول، وقد أمروا أن يدخلوها بعد انقضاء أربعين سنة عليهم للبقاء فيه «فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» بسعة بال وطيب حال وهناءة ورفاه «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» أي باب حطة من البيت المقدس إذا كان المراد بالقرية هو، وإنما سمي حطة لأن من دخله حطت عنه الذنوب، وإن كان المراد أريحا فيكون المعني أي باب شئتم، إذ لها سبعة أبواب «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا، فإذا فعلتم هذا أيها الإسرائيليون «نَغْفِرْ لَكُمْ

خَطاياكُمْ» لأن امتثالكم لأمرنا هذا عبارة عن طلب الاستغفار «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ 58» منكم ثوابا زيادة على المغفرة التي طلبتموها. وسنأتي على سبب التيه ومدته وما وقع في الآية المذكورة من المائدة إن شاء الله تعالى القائل. «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فقالوا حنطة بدل حطة، ودخلوا زحفا على أستاههم بدل أن يدخلوه قائمين مستقيمين. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحقون على أستاههم، وقالوا حبة شعيرة. ورويا عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخثر اللحم (أي لم ينتن ولم يتغير) ، يشير في هذا إلى ادخار بني إسرائيل المنّ والسلوى يوما وليلة، مع أنه كان كل يوم يأتيهم عدا السبت، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر. ويشير بهذه الفقرة الأخيرة إلى منازلة حراء آدم من الشجرة وأكلها منها قبله حتى أغرته «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» وضع الظاهر موضع المضمر إظهارا في قبح أمرهم «رِجْزاً» عذابا مميتا «مِنَ السَّماءِ» من جهتها، وأوقعنا بهم ذلك العذاب المميت «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 59» يخرجون عن طاعة الله ويخالفون أمر رسوله فيتجاوزون ما حده لهم. ونظير هذه الآيات الآيات 160 فما بعدها من سورة الأعراف ج 1. قال تعالى «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» في التيه لما أرهقهم العطش ولم يكن لهم ما يشربون منه البتة «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» لحجر معين بدليل التعريف فضربه امتثالا لأمر ربه «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» على عدد الأسباط لكل سبط عين بدليل قوله تعالى «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» فلا يتعدى سبط على شرب غيره، وقلنا لهم «كُلُوا» من المنّ والسلوى حلوا ودسما «وَاشْرَبُوا» من الماء العذب الذي جاءكم «مِنْ رِزْقِ اللَّهِ» بلا مشقة ولا مؤنة «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 60» وفي هذه الآية معجزة عظيمة لسيدنا موسى عليه السّلام، إذ انفجر له من الصخرة ماء بضربة واحدة من يده في عصاه، وكونه اثنتي عشرة عينا أكبر من نبع الماء على أن معجزة محمد صلّى الله عليه وسلم أعظم، إذ فجر الله له الماء لأصحابه من بين

[سورة البقرة (2) : الآيات 61 إلى 70]

أصابعه، لأن انفجار الماء من اللحم والدم لم يسبق له نظير لا من طريق المعجزة ولا من غيرها، لذلك فإنه أعظم من انفجاره من الصخرة التي ينفجر الماء منها عادة كما هو مشاهد، قال تعالى «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ» وذلك لأنهم صئموا من أكل المنّ والسلوى وشرب الماء بلا تعب ولا عمل، وسمّوها واحدا مع أنهما اثنين، لأنه لا يتبدل، فكان بمنزلة الواحد «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها» البقل يشمل كل الخضراوات المأكولة «وَقِثَّائِها» يدخل فيه الخيار والبطيخ وأنواعهما «وَقَوْمَها» الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز فهو كالجنس لمثلها، ولا وجه لتأويله بالثوم المعروف، لأنه داخل في قوله تعالى (وَبَصَلِها) الذي هو كالجنس أيضا يدخل فيه الثوم والكراث والبصيل وغيرها، وكذلك يقال فيما قبله وبعده، لأن الله تعالى ذكر أمهات الأشياء استغناء عما تفرع عنها «وَعَدَسِها» يعم كافة الحبوب التي تطبخ كالماش والهرطمان والرز وغيرها «وَبَصَلِها» يدخل فيه كل ذي رائحة كريهة كالبراصية والكرنب وشبهها «قالَ» لهم موسى عليه السّلام «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى» أخس وأحقر مما لم يمكن الحصول عليه إلا بكدّ وكدح «بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أحسن وأطيب، وتتناولونه عفوا بلا تعب، وإذا كنتم تصرون على هذا «اهْبِطُوا مِصْراً» من الأمصار، وهذا الفرق بين مصر بلا تنوين علم على المدينة المعلومة والقطر المخصوص، وعلى مطلق بلدة بالتنوين، فإذا أردت الأول منعت من الصرف، وإذا أردت الثاني صرفت «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» من ذلك في أي بلدة تقصدونها «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الفاقة أحاطت بهم من كل جانب، لأنهم بمجرد دخولهم البلدان احتاجوا إلى الكد والجهد، وتذللوا لغيرهم لتحصيل معاشهم، وتمسكنوا لينالوا ما يقوتهم. ولا وجه لمن فسّرها بالجزية، لأنها لم تضرب عليهم، إلا أن اليهود كانوا ولا يزالون شديدي الحرص على المال، ولذلك تراهم أذلاء يتكالبون على جمعه يأتي طريق كان ولو كانوا أغنياء «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ» رجوعهم بالغضب وانطباعهم على الذل وحب المال لسوء عقيدتهم وفساد نيّتهم وتكالبهم على الدنيا

مطلب رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير:

وعدم طاعتهم لرسلهم، والسبب في ذلك «بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» عدوانا «ذلِكَ» الكفر والقتل «بِما عَصَوْا» أوامر الله «وَكانُوا يَعْتَدُونَ 61» حدوده من قبل ويتجاوزونها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون «وَالَّذِينَ هادُوا» سموا يهودا لقولهم (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) راجع الآية 155 من الأعراف في ج 1 «وَالنَّصارى» قوم عيسى عليه السلام سموا نصارى لأنهم من قرية الناصرة في فلسطين «وَالصَّابِئِينَ» الخارجين عن دين إلى غيره، لأنهم عدلوا عن اليهودية والنّصرانية وعبدوا الكواكب لزعمهم أن الله تعالى خلقها مدبرة لأمر هذا العالم، ولذلك يعظمونها، فهؤلاء «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» منهم إيمانا خالصا قلبا ولسانا، وآمنوا برسوله وكتابه كذلك إيمانا حقيقا «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت، والعقاب والثواب، والجنة والنار بعد الحساب «وَعَمِلَ صالِحاً» مع إيمانه بما تقدم «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة يثيبهم عليها من فضله «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أهوالهما وعذابها «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 62» على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم عرضوا خيرا منها. ونظير هذه الآية الآية 69 من سورة المائدة الآتية. مطلب رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير: قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ» يا معشر اليهود وأعطيتمونا العهد على العمل بالتوراة، فنكثتم ونقضتم، ولما لم تمثلوا أمر رسولكم باتباع ما فيها وهددناكم بالعذاب الأخروي ولم تفعلوا، ولهذا فإنا سننزل بكم العذاب الدنيوي العاجل «وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» حتى إذا لم تفعلوا بها أطبقناه عليكم، وها هو ذا فوقكم كالظلة «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ» فيها واعملوا به «بِقُوَّةٍ» جد وعزيمة انقيادا لقوتنا البالغة «وَاذْكُرُوا» اقرأوا وادرسوا واحفظوا «ما فِيهِ» من الأحكام والحدود والأوامر والنواهي، ولا تنسوا شيئا منها «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 63» سقوط جبل الطور عليكم. فلما رأوه لا محالة واقعا بهم سجدوا وقبلوا الأخذ بما فيها، وصاروا يرمقون الجبل من طرف أعينهم وهم سجود خشية

هبوطه عليهم، ولذلك يسجدون حتى الآن على أنصاف وجوههم، زاعمين أنه إنما رفع عنهم هبوط الجبل بمثله. قال تعالى «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الميثاق الذي أخذ منكم قهرا على القبول بأحكام التوراة وحدودها أعرضتم عن قبول ما فيها وأدبرتم وتركتم العمل بها، ولم تخشوا أن بوقع بكم ما رفعه عنكم أو ينزل بكم ما هو أعظم «فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» بكم بتأخير العذاب وإمهالكم للتوبة «لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (64) بذهاب دينكم ودنياكم لأنكم غبنتم بضياع دنياكم سدى وسببتم لأنفسكم عذاب الآخرة اختيارا ورضاء. قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ» إذ جاوزوا حدود الله فيه لإقدامهم على ما نهوا عنه فيه احتيالا على الله وخلافا لأمره «فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (65) مبعدين مطرودين من رحمة الله، فكانوا، وحولت صورهم البديعة الإنسانية إلى صور قبيحة حيوانية، «فَجَعَلْناها» أي الفعلة التي أوقعناها بهم «نَكالًا» عقوبة عظيمة وعبرة مؤثرة وعظمة بليغة «لِما بَيْنَ يَدَيْها» الذين حضروها منهم «وَما خَلْفَها» الذين يأتون بعدها من الأمم بتكرر السنين، إذ ينقلها السلف بصورة مستمرة إلى الخلف جيلا بعد جيل «وَمَوْعِظَةً» جعلناها «لِلْمُتَّقِينَ» (66) يتذكرون بها لأنها من أيام الله في عباده ومواقعه في بلاده، ويذكرون غيرهم بها ليعلموا كيفية فعلنا بهم. وخلاصة هذه القصة أن الله حرم على اليهود صيد السمك يوم السبت، وقد ابتلاهم بأن ألهم السمك ذلك فصاروا يظهرون فيه عاثمين على وجه الماء، كما أخبر الله عنهم في الآية 162 من الأعراف في ج 1، فسؤلت لهم أنفسهم أن حفروا حياضا كبارا قرب الشاطى، وشرعوا لها من البحر جداول يجري فيها الماء إليها فيفتحونها يوم الجمعة، ويبقونها حتى صباح الأحد، فيتسرب السمك إليها فيسدونها عليه من جهة البحر، فيبقى السمك عاثما فيها لا يستطيع الرجوع إلى البحر، وإذا هرب إلى البرّ مات، فيضطر للبقاء في الحياض، فيأتون ويأخذونه دون كلفة، وبهذه الصورة احتالوا على صيده، وذلك في زمن داود عليه السّلام، واستمروا على ذلك مدة، ولما رأوا أن الله لم يعاقبهم قالوا قد أحل لنا العمل في السبت،

مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت:

فصاروا يفعلون فيه كل شيء، وانقسم الناس ثلاثة أقسام قسم صاد واستحل السبت، وقسم امتنع وسكت، وقسم امتنع ونهى، ولكنه لم يؤثر فيهم، فغضب الله عليهم ولعنهم وفصل بينهم وبين الآخرين بجدار حتى لا يرونهم، فقصدوهم وتسوروا الجدار لينظروهم، فإذا هم ممسوخون قردة وخنازير يتعاوون، وبقوا ثلاثة أيام ثم هلكوا عن آخرهم، قالوا ولم يمكث مسخ بعد ثلاث، ولم يتوالد البتة، وكان زعمهم هذا بتأويل الجواز، ولم يعلموا أن الله تعالى لا تخفى عليه حالتهم ونيتهم، ولهذا البحث صلة في الآية 73 الآتية إن شاء الله، ولهذا حذرهم الله تعالى سوء صنيع أسلافهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم بأن يجعلوا هذه الحادثة نصب أعينهم يتذكرون فيها. مطلب ما قاله الإمام المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت: هذا والعجب كل العجب من أن سماحة الأستاذ المراغي بمصر العظيمة اعتبر هذا المسخ عند تفسير الآية 65 من سورة البقرة معنويا، مستدلا بما رواه ابن جرير عن مجاهد بأنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، وهو يعلم بأن ابن جرير ينقل الأقوال ثمّ يعلّق عليها، وقد بسط الموضوع بصورة لم تبق شكا في أن المسخ كان حقيقيا، على أن الله تعالى كرر هذه الحادثة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وأشار إليها في الآية 162 من الأعراف ج 1 بصورة صريحة لا مجال للتأويل فيها، وعلى قوله يقال أيضا بأن رفع الجبل كان معنويا، وموت السبعين المختارين في الآية 155 من سورة الأعراف كان صوريا، وما ذكره الله عن موسى والخضر وقصة البقرة كان صوريا، فما أدري أستكثر على الله ذلك، كلا وحاشا، ولكن قد يكبو الجواد، وزلة الكبير كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» وذلك أن رجلا فقيرا ذبح ابن عمه الغني ليستولي على ماله وألقاه في قرية أخرى وادعى لدى موسى عليه السلام بدمه عليهم ودفعوا دعواه ببراءتهم منه ولا بينة لديه سوى وجود جثته في قريتهم، فسأل موسى ربه فأمره أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها فإنه يحيا ويخبر بقاتله «قالوا» أي المتهمون بالقتل

[سورة البقرة (2) : الآيات 71 إلى 80]

يا موسى ما جوابك بموافق للسؤال «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً» نحن ندفع عن أنفسنا دعوى القتل وأنت تأمرنا بذبح بقرة؟ وذلك لعدم علمهم الحكمة من ذلك لما بين الأمرين من التفاوت «قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» (67) الساخرين بكم وإني مثلكم في هذا ولكن الله أمرني به لإظهار أمر القتل الذي اتهمتم به، وهؤلاء كان عليهم أن يأتوا حالا بمطلق بقرة فيذبحوها، لأن موسى لم يعين لهم بقرة مخصوصة ولم يأمره الله بذلك ولكن شدّدوا فشدد الله عليهم، «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» حقيقتها وكم سنها «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ» الفارض المسنة التي لم تلد أي لا كبيرة «وَلا بِكْرٌ» البكر الفتية التي لم تكن أهلا للولادة أي صغيرة «عَوانٌ» العوان النصف والوسط والتي نتجت بعد بطنها البكر من الخيل والبقر ومن النساء التي كان لها زوج ثمّ بين المراد بقوله عوان «بَيْنَ ذلِكَ» بين المسنة والبكر «فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ 68» ولا تكثروا السؤال عما لا يعني، فلم يكتفوا بذلك «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ» شديد الصفرة كما تقول أسود حالك وأبيض أنق وأزرق صاف وأخضر أدهم أي «لَوْنُها» اصفر جدا «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» (69) رؤيتها لحسنها وتعجبهم بهجتها فيظهر على وجه ناظرها السرور «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» أسائمة أم عامله «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» (70) لما تأمرنا به «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ» ليست مذالة بالعمل «تُثِيرُ الْأَرْضَ» تحرثها للزراعة «وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ» ليست بساقية يستقى عليها الماء من البئر وغيره «مُسَلَّمَةٌ» من كل عيب «لا شِيَةَ فِيها» لا علامة ولون آخر من أبيض أو أسود أو غيره «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» البيان الشافي الذي لا إشكال فيه فصاروا يطلبون بقرة متصفة بما ذكر فلم يجدوا إلا واحدة عند غلام يتيم فكان هذا السؤال منهم لحكمة أرادها الله تعالى أيضا وهي أن رجلا صالحا عنده غلام صغير وعجلة صغيرة فتركها في غيضة وقال استودعنك يا رب هذه العجلة لا بني ثمّ مات، ونشأ الغلام

صالحا مرضيا لأمه فقالت له يا بني إن أباك استودع ربك عجلة في الغيضة (الحرج) فاذهب وأت بها وعلامتها أنك إذا رأيتها يتخيل لك شعاع الشمس يخرج من جلدها فذهب فرآها فقال أعزم عليك برب إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلا أقبلت إلي فأقبلت فأخذها، وكان الناس عند ما يرونها يسمونها المذهبة فلما أتى بها إلى أمه قالت اذهب وبعها بثلاثة دنانير ولا تطلق بيعها إلا برأيي فأخذها إلى السوق فأرسل الله ملكا بصورة إنسان وأعطاه بها ثلاثة دنانير فباعها له على رضاء أمه، فقال له الملك أعطك ستة دنانير وبعينها دون مشورة أمك، قال لو وزنتها بالذهب لا أبيعها إلا برضاء أمي، فرجع فأخبر أمه، فقالت بعها بستة على رأيي، فرجع بها إلى السوق فجاءه الملك فقال بعتها لك بستة على رأي أمي، فقال أعطيك اثني عشر ولا تستأذن أمك، فقال مقالته الأولى، ورجع فأخبر أمه، فقالت بعها باثني عشر برأيي، ثم انثنت وقالت قد وقع في روعي أنّ الذي يأتيك ملك، فقل له أتأمرني أبيعها أم لا؟ فذهب وأخبره بما قالت أمه، فقال قل لأمك أمسكيها فإن موسى ابن عمران سيشتر بها بملء مسكها (جلدها) ذهبا، فرجع وأخبر أمه بما قال، واحتفظت بها ولما لم يجد أهل القرية بقرة موصوفة بما ذكر موسى إلا هذه أخذوها منه بوزن جلدها ذهبا، وأحضروها لموسى «فَذَبَحُوها» بأمره بقصد براءة ذمتهم من جرم القتل «وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» (71) شراءها وذبحها لغلاء ثمنها ولكنهم اضطروا لذلك لبراءتهم، قال تعالى خطابا للمتخاصمين «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها» اختلفتم وتدافعتم بسببها، لأن رب القتيل يسن قتل قريبه إليهم وهم ينكرون، وبعد أن قمتم بما أمرتم فاتركوا المخاصمة الآن «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (72) من أمر القتل لأنه سيفضح الأمر، قال تعالى «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها» فأخذوا لسانها فضربوا به القتيل فحيي وقال قتلني ابن عمي المدعي المذكور، فظهرت براءة أهل القرية وكذب المدعي فحرمه موسى من إرثه كله وأوقع عليه القصاص. وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة، وهذا مما هو موافق لشرعنا الذي جاء به خاتم الرسل من حرمان القاتل ميراث مقتوله «كَذلِكَ» كما أحيا الله هذا الميت

«يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى» يوم القيامة فلا تستبعدوا على الله شيئا أيها المنكرون البعث «وَيُرِيكُمْ آياتِهِ» هذه وأشباهها «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (73) معانيها فتدبرونها وتستدلون بها على غيرها، هذا وإنما لم يقدم قصة القتيل على قصة البقرة لئلا تكون واحدة ويذهب الغرض من تقريعهم على قتل النفس المحرمة وعلى ترك المسارعة إلى امتثال الأمر بذبح البقرة. وفائدة الضرب المأمور به في هذه الآية الكريمة مع أن الله تعالى قادر على إحيائه دون ضربه ودون ذبح البقرة، لئلا يتوهموا بأن موسى أحياء بضرب من السحر الذي اتهموه به أو بالحيلة التي يزعمونها. وإنما كانت بقرة ولم تكن شاة لأنها أعظم القرابين عندهم، وقد جرت عادتهم أن يتقربوا إلى الله بمثلها، ولحصول المال العظيم لصاحبها ابن الرجل الصالح، ولأنها كانت وديعة الله. هذا وهل يستطيع الأستاذ المراغي أن يقول ان هذه القصة معنوية، وهل قصة عزيز وقصة إبراهيم الآتيتين في الآية 258 فما بعدها وغيرهما مما لا يعد، صورية، رحمه الله لا نعلم ماذا أراد بجرأته هذه؟ تجاوز الله عنه. الحكم الشرعي في مثل هذه الحادثة إذا وجد قتيل في قرية أو محلة ولم يعرف القاتل ولا بينة على القتل ولم يعلم الذي رماه فيها، فإن الإمام يختار خمسين رجلا من صلحاء القرية أو المحلة برأيه أو برأي ولي المقتول ويحلف كل منهم فيقول والله ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، فإن حلفوا لا يقتصّ منهم ولكن تؤخذ دية القتيل من أهل القرية أو المحلة كافة، وإن كان في الطريق العام كانت ديته على بيت المال، لأن السلطان مكلف بأمن الطريق. قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» البرهان العظيم وهو إحياء الميت وإخباره عن قاتله وانتزعت منكم لرحمة وتلطختم بأدران الذنوب، فغلفّت وتكاثف صدأها «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ» في صابتها «أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» منها، لم قل كالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنه يلين بالنار لكل أحد، وقد لان لداود عليه السّلام بغيرها، والحجارة غير قابلة للتلبين وقد تصير ترابا بالحرق لكنها لا تلين أبدا «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» فهي أفضل إذا من القلب القاسي ويرجى منها الفائدة بخلافه «وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ» كالعيون التي هي

مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده:

دون الأنهار «وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أي ينزل بسرعة من قمة الجبل إلى أسفله انقيادا لأمر الله تعالى وهو قادر علي إفهامها. روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن. أي وان قلوبكم يا بني إسرائيل لا تخشى ولا تلين ولا تعقل قول المرسلين، فاعملوا ما شئتم «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (74) في الدنيا من الشرور. مطلب مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام الله ونقضهم عهوده: وفي هذه الآية توبيخ على أفعالهم القبيحة الماضية وتهديد ليكف عنها أهل زمنه ولا يقدم على مثلها في المستقبل أبناؤهم. قال تعالى «أَفَتَطْمَعُونَ» يا سيد الرسل وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له وتكريما لشائة لأنه هو الداعي للإيمان بالله وحده «أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» هؤلاء اليهود وقد سمعتم ما وقع منهم تجاه نبيّهم «وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي من آبائهم مع موسى عليه السّلام يوم الميقات «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» معه وبعده كانوا يسمعون التوراة التي هي كلام الله من موسى عليه السّلام نفسه «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ» يغيرونه ويبدلونه «مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» وعوه وفهموه إذ قالوا لموسى سمعنا الله يقول إن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فخالفوه عمدا «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75) أن الله تعالى لم يقل ذلك ويعلمون أنهم اختلفوه من أنفسهم فإذا حرفوا نعتك الموجود في التوراة الذي سمعه أسلافهم من موسى عليه السّلام فقالوا غير الواقع فليس بشيء عندهم أن يكذبوا عليك بعد أن كذبوا على الله تعالى «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بك «قالُوا آمَنَّا» بما آمنتم به يا أصحاب محمد وقد علمنا أن صاحبكم صادق ونعته موجود عندنا في التوراة كما هو عليه الآن، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بحق المنافقين، وهذه بحق اليهود فقط، «وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا» أي رؤساؤهم الذين نزلت بحقهم هذه الآيات وهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وأضرابهم إلى منافقيهم «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» كيف تحدثونهم «بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في كتابكم من وصف محمد وتخبرون أصحابه

بأنه حق «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» بما تحدثونهم «عِنْدَ رَبِّكُمْ» في الآخرة كما يخاصمونكم به في الدنيا «أَفَلا تَعْقِلُونَ» (71) أن تصديقكم لهم يكون حجة عليكم فيحق عليكم القول باعترافكم، فيا سيد الرسل قل لهم «أَوَلا يَعْلَمُونَ» هؤلاء «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» (77) من أقوالهم وأفعالهم وأنه يخبر نبيه بها أفلا ينتهون عن مثل هذه الأعمال وهم يعلمون أن الله يفضحهم كما فضحهم في مواقع كثيرة. ثم طفق يعده مثالبهم فقال «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» جمع أمنية أي تلاوة مجردة، وكلمة تمنى تأتي بمعنى تلا كما في قوله: تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل وهي في الأصل بمعنى الأكاذيب «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (78) لا يدرون ما هو الكتاب «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ» قال بأيديهم مع أن الكتابة لا تكون بغيرها تأكيدا لنفي احتمال أمرهم غيرهم بها ولعلمه أن ستكون الكتابة بالآلة، وهذا ما يؤيد ما ذكرناه في الآية 48 من سورة العنكبوت في ج 2، على أنه صلّى الله عليه وسلم لا يكتب «ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» بلا خجل ولا حياء افتراء على الله، وذلك أنهم حرفوا صفة الرسول فكتبوا أنه طوال أزرق العينين سبط الشعر، بدل ما هو مكتوب في الأصل بأنه ربعة أكحل العينين حسن الشعر حسن الوجه، وصاروا إذا سئلوا عن صفته تلوا على السائل ما كتبوه وكتموا ما هو الواقع عند الله ومثبت في التوراة، وذلك ليس إلا «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من جهلتهم وسفلتهم «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (79) من الجعل الذي يأخذونه من عوامهم على تبديلهم كلام الله وافترائهم عليهم «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» بقدر مدة عبادتهم العجل وهي عشرة أيام على ما قيل «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» على هذا وتمسكتم به «فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ» حتى قلتم هذا من حيث لم تأخذوا به عهدا من الله «أَمْ تَقُولُونَ» كذبا من عند أنفسكم «عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (80) بهتا وافتراء عليه ورجما بالغيب

[سورة البقرة (2) : الآيات 81 إلى 90]

«بَلى» تمسكم النار حتما إن بقيتم على كفركم، لأن «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» بأن مات مصرا عليها وهي لعظمها محيقة به من كل أطرافه «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (81) لا يخرجون منها أبدا. وأعلم أنه يوجد في القرآن ثماني آيات مبدوءة بلفظ بلى هذه والآية 111 الآتية والآيتين 75/ 125 من آل عمران الآتية والآية 81 من سورة يس و 14 من سورة القيامة في ج 1 و 59 من الزمر و 15 من الانشقاق ج 2، أما الآيات المبدوءة بالباء فهي 55 آية. «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (82) قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» في التوراة «لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» وحده «وَبِالْوالِدَيْنِ» أحسنوا «إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» أحسنوا إليهم لخلوهم عمن يقوم بمعاشهم ومصالحهم وأخر المساكين لأنهم دون اليتامى القاصرين عن درجة البلوغ لأنهم يقدرون على أن ينتفعوا بأنفسهم في الجملة ويقدرون على نفع غيرهم بالخدمة كما قدم ذا القربى لأنهم أقدم والشفقة عليهم أعظم أجرا منها على غيرهم «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» عاملوهم بالمعروف وعاشروهم باللطف وألينوا لهم القول واخفضوا لهم الجانب وأحسنوا أخلاقكم معهم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقد عدل في هذه الأوامر الثلاثة الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وهي تتمة التكاليف الثمانية التي أمروا بها بالتوراة إيذانا بأمرهم بها، لأن الأول قوام الأخلاق، والأخير ملاك الدين وإعلاما بعدم قيامهم بها بدليل قوله «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» عن القيام بهذه العهود وأعرضتم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» أخذوا بها ولم يعرضوا عنها «وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ 83» حتى الآن أيها المخاطبون كإعراض الأكثر من آبائكم، وذكرنا في الآية 151 من الأعراف والآية 15 من الإسراء في ج 1 ما يتعلق بآيات بني إسرائيل والوصايا التي أنزلت عليهم ليعلموا بها بصورة مفصلة في الآية 151 من الأنعام في ج 2 فراجعها، «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ» أيها الإسرائيليون «دِماءَكُمْ» بأن يقتل بعضكم بعضا «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» أي لا يخرج أحدكم الآخر من داره وبلده «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ» بهذا العهد وتعهدتم بإنقاذه

«وَأَنْتُمْ» أيها الحاضرون الآن «تَشْهَدُونَ 84» على أحقية ذلك ووجوب الوفاء به كما شهد من قبلكم به لأنه مدون في كتابكم ولكنكم تفعلون بخلافه كالذين من قبلكم لقوله تعالى «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ» المخاطبون «تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ» الآن كأن هذا العهد لم يؤخذ عليكم ولم تتعهدوا به وها انكم «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» وتتعاونون على ظلمهم «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ» بمالكم وتنقذونهم من أيدي أعدائهم «وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» كما هو محرم عليكم قتلهم وعدم معاونتهم فهذه أربعة عهود نقضتموها باختياركم جرأة على الله وهي ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة ولك الأسرى وتمسكتم بغيرها «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» فتوقنون ببعض ما عاهدتم الله عليه وهو فداء الأسرى «وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وهو القتل والإخراج وعدم التعاون «فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» أيها اليهود على هذه المخالفات «إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وهوان وذلة ومسكنة فيها «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ» الذي لا تطيقه الرواسي ولا مخلص لكم منه «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 85» بل محصيه عليكم ومجازيكم به لا محالة «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وتلك حالتهم هم «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» بمقابل ثمن بخس فان «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» يوم القيامة «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 86» فيها. وسبب نزول هذه الآيات هو أن بني قريظة حلفاء الأوس وبني النضير حلفاء الخزرج كان بينهما عداوة قديمة وكانا يحاربان مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وكانوا إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا وفدوه به، فعيرتهم العرب كيف يقتلونهم ثم يفدونهم، فيقولون أمرنا الله بأن نفديهم، فقال لهم العرب كيف إذا تقاتلونهم، قالوا نستحي أن تذل حلفاؤنا، فعيرهم الله تعالى فيما أنزله على رسوله في هذه الآيات، وأخزى بني قريظة بالقتل والأسر والسبي، وبني النضير بالإجلاء عن منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر الآتية. قال تعالى

«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا» اتبعنا «مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ» واحدا تلو الآخر، فبعد موسى يوشع، لأن هرون توفي قبله، ثم شمويل، فداود، فسليمان، فأرميا، فحزقيل، فالياس، فاليسع، فزكريا، فيحيى، وكل هؤلاء وما بينهم ممن لم يقص الله علينا أسماءهم وأقوامهم شريعتهم التوراة، ولما بعث عيسى بن مريم وأنزل الله عليه الإنجيل عدل بعض أحكامها وصار عمل عيسى ومن بعده بالتوراة والإنجيل معا، ولهذا قال تعالى «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» الموضحة لأحكام التوراة والمعجزات الظاهرات التي لا تقبل التأويل كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام، وقد أمر أن يكون معه من حين ولادته إلى وقت رفعه، وهذا هو معنى التأييد، وما قاله بعض المفسرين إن المزاد به الإنجيل لأن فيه حياة الأرواح كالقرآن بعيد عن المراد، وإن كان الإنجيل كذلك، لمخالفته للظاهر الذي هو الحقيقة، فالعدول عنها إلى المجاز دون صارف لا وجه له، وقد صرح الله تعالى بإتيانه بالإنجيل بآيات كثيرة عدا هذه كما صرح بالتوراة لموسى ثمّ ذكر آياته كاليد والعصا وبعض معجزاته الأخرى، وروح القدس أطلق على سيدنا جبريل بمواقع متعددة حتى صار كأنه علما له، أما لفظ الروح فقط فيطلق على القرآن وعلى التوراة وعلى الإنجيل بذلك المعنى وعلى نوع خاص من الملائكة كما مر في الآية 38 من سورة الأنبياء في ج 2 «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ» أيها اليهود «بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ» من الأمور «اسْتَكْبَرْتُمْ» عنه وخالفتموه تبعا لهواكم «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» مثل عيسى قبلا ومحمد الآن «وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87) كزكريا ويحيى ومن تقدمهما «وَقالُوا» هؤلاء اليهود «قُلُوبُنا غُلْفٌ» خلقة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد فأكذبهم الله بقوله ليست كذلك «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» طردهم وأقصاهم من رحمته بسبب كفرهم «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» (88) منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، والأكثر الذين يكفرون به «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ» قبل نزوله وبعثة محمد «يَسْتَفْتِحُونَ»

[سورة البقرة (2) : الآيات 91 إلى 100]

يستنصرون به «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» من مشركي العرب وغيرهم، إذ كانوا يقولون عند الشدة اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي وصفته لنا في التوراة فكان يستجاب لهم وينصرون على أعدائهم، وكانوا يقولون للمشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما نحن عليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فأكذبهم الله تعالى إذ لم يوفوا بقولهم هذا لقوله تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم «كَفَرُوا بِهِ» بغيا وحسدا لأنه ليس منهم «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ 89» بما في كتب الله الجاحدين لرسله «بِئْسَمَا» قبح شيء «اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» على رسوله من القرآن بأن استبدلوا الباطل بالحق «بَغْياً» وعدوانا وإنكارا من «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» كمحمد مثلا حسدا وطلبا لما ليس لهم، ولأنه ليس منهم «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» لأنهم ضيعوا التوراة إذ لم يأخذوا بما فيها، وكفروا بمحمد والقرآن أيضا، أي أنهم رجعوا بغضب كثير، لأن المراد به الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وعلى هذا قوله: ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث أي رماح كثيرة «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (90) عند الله في الآخرة، وهذه الآية بلفظها هذا لم تكرر في القرآن. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» القرآن فما قبله «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد «وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد «وَهُوَ الْحَقُّ» لأن كلا جاء «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» من الكتاب العظيم الصحيح «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم «فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (91) بالتوراة، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا، فضلا عن القتل، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم.

هذا، وقد أضاف الله تعالى ما فعله آباؤهم إليهم لرضاهم به، والراضي بالشيء كفاعله، ولأنهم أنفسهم مصرون على ما فعله أسلافهم بيحيى وعيسى ومحبذون له. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» حينما ذهب لميقات ربه ليأتيكم بالتوراة «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» (92) كرره تأكيدا لإيقاع الحجة عليهم وتبكيتا بهم وتقريعا «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» وقلنا لكم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» كرره أيضا لتلك الغاية بزيادة قوله «وَاسْمَعُوا» سماع قبول وطاعة لما تؤمرون به. ونظير هاتين الآيتين الآيتان المارتين 51 و 67. قال تعالى حاكيا عنادهم «قالُوا سَمِعْنا» قولك «وَعَصَيْنا» أمرك ولولا مخافة هبوط الجبل علينا لما سجدنا «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» بأن تداخل حبه وتغلغل في قلوبهم فاندمج فيها، والأصل حب العجل وقد حذف إيجازا والحذف في مثله كثير في القرآن لأنه من أنواع البديع، وعبر بالشرب لأن من أراد حصر الحب أو البغض استعار له اسم الشراب لأنه أبلغ مساغا في البدن، ولهذا قال الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية. وكان شدة حبهم العجل «بِكُفْرِهِمْ» بسببه حرصا على عبادته «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وعبادة العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (93) لأن حرف (إِنْ) يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من الله بدعواهم الإيمان، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ» كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) في الآية 111 الآتية، ولقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية 21 من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (94) لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا

مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:

من هذه الدار الكدرة النكدة الفانية وتوصلا إلى السعادة الأبدية الهنية، قال تعالى «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» لعلمهم كذب ادعائهم بذلك «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من القبائح، وخص اليد دون بقية الجوارح لأن مبدأ أكبر جنايات الإنسان من يده «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (95) حال إيقاعهم الظلم وقبله، وصفهم بالظلم لأنه أعم من الكفر فكل كافر ظالم ولا عكس. مطلب حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ» يا سيد الرسل «أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» أي لا أحرص منهم عليها «وَ» حتى أنهم أحرص «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» على الحياة مع أنهم لا كتاب لهم يعلمون منه أن هناك دارا أخرى ينعم بها المؤمن ويعذب فيها الكافر فلا لوم عليهم إذا حرصوا على البقاء في الدنيا، وفي هذه الآية زيادة توبيخ لليهود لأنهم يقرون بالمعاد ويتأهبون له، ويحرصون على الدنيا أكثر من المشركين الذين لا يعترفون به. ثم بين شدة حرصهم بقوله جل قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» يا حسرهم وأسفهم لأنه لا ينفعهم تعميرهم مهما كان «وَما هُوَ» تعميرهم تلك المدة لو كان واقعا فإنه ليس «بِمُزَحْزِحِهِ» ومباعده أو محركه «مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» تلك المدة أو أكثر منها، لأن مرجعه الآخرة ليبصر نتيجة أعماله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (96) في دنياهم لا يخفى عليه شيء منه ومجازيهم عليها في الآخرة، ولما قال عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود إلى محمد صلّى الله عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل، قال هو عدونا فلو جاءك ميكائيل لآمنا بك، جبريل ينزل بالعذاب، ولأن الله تعالى أخبر نبينا أن بختنصر يخرب بيت المقدس ويهلكنا قتلا وتدميرا، وقد بعثنا رجلا ليقتله ببابل فدافع عنه جبريل قائلا له إن كان الله أمره بهلاككم فلن تسلطوا عليه، وإن لم يكن هو فعلى أي شيء تقتله، وكان بختنصر وهو الذي دافع عنه حتى بقي حيا وفعل ما فعل فينا، فأنزل الله تعالى «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» بسبب إتيانه بالقرآن لك وإنزاله من لدنا عليك يا سيد الرسل «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ»

أي القرآن كناية عن مذكور وإضمار ما لم يسبق ذكره يكون للتفخيم إذ يجعله لفرط شهرته دالا على نفسه. راجع الآية الأولى من سورة القدر والآية 33 من سورة ص في ج 1، وهذا شائع في كل مشهور متعارف، أي ان الذي يكره جبريل من أجل إنزال القرآن «عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل «بِإِذْنِ اللَّهِ» الذي أمره بذلك ولم يفعله من تلقاء نفسه، وكان ذلك القرآن «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَهُدىً وَبُشْرى» من الله «لِلْمُؤْمِنِينَ» (97) بحسن العاقبة، قل لهم يا سيد الرسل «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» كان عدوا لله، ومن كان عدوا لله فهو كافر، ولهذا قال تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» (98) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع قول عدو الله بن صوريا من كان عدوا لأحدهما أي جبريل وميكايل فهو عدو للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله، فلما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم لعمر قد وافقك ربك يا عمر، فقال والله لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر. أي أنه لم يغتر بذلك كما وقع لعبد الله بن أبي سرح المار ذكره في الآية 14 من المؤمنين ج 2، وذلك أن القرآن العظيم كما ذكرنا في الآية 44 من سورة فصلت المارة في ج 2 نور لأناس ضلال لآخرين بآن واحد، لأن سيدنا عمر زادته إيمانا موافقته لربه في هذه الآية، وعبد الله بن أبي سرح لما رأى ما خطر بباله من إكمال الآية المذكورة وهي جملة (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ونزلت الآية بها ارتد والعياذ بالله وقال ما قال فأنزل الله فيه (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) الآية 193 من الأنعام في ج 2 فراجعها، ولما قال عدو الله المذكور ما جئتنا بشيء يا محمد ولم ينزل الله عليك آية أنزل الله تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» لا تحتاج إلى نظر أو تدبر «وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ» (99) الخارجون عن الطاعة، لأن آيات القرآن واضحة كافية لمن يريد الإيمان بها والاعتراف بمنزلها والتصديق لمن أنزلت عليه، ومن لم يرد لو ملأت له الدنيا آيات ينتفع بها أبدا. ولما قال مالك بن الصيف والله ما عهد الله إلينا في محمد عهدا أي في لزوم الإيمان به أنزل الله تعالى «أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً

[سورة البقرة (2) : الآيات 101 إلى 110]

نَبَذَهُ» أي طرحه وقذفه «فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (100) أن نقض الميثاق وجحود الحق ذنب يؤاخذ عليه وإلا لما فعلوه ولاعترفوا بعهد الله الذي أخذه عليهم بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم «وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو محمد صلّى الله عليه وسلم بدليل قوله «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» من التوراة «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» التوراة «كِتابَ اللَّهِ» الذي أنزل عليه وهو القرآن بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول. وقال بعض المفسرين إن المراد بكتاب الله في هذه الآية هو الإنجيل، لأنه نزل بعد التوراة وليس بشيء، لعدم سبق ذكره، لأن المكالمة هذه كلها مع اليهود. وقال أكثرهم إن المراد به التوراة، لأن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى، ولأن النبذ لا يكون إلا بعد التمسك، والأول الذي جرينا عليه الأولى، لأن الكلام مع حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لا مع عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أن الرسول محمد يصدق ما بأيديهم من التوراة وهم بالعكس يكذبون ما جاءهم به من القرآن، ويتركونه ولا يؤمنون به مع أنه مصدق لكتابهم، فكأنهم نبذوه «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» لعدم التقيد به والنظر إليه «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (101) شيئا مما جاء فيه حسدا وعداوة بمحمد، مع أنهم مأمورون باتباعه في كتابهم. قال تعالى «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» من السحر والشعوذة «عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» في زمانه وعهده، وذلك أنه فشى في بني إسرائيل أن الشياطين يعلمون الغيب، فلما بعث سليمان عليه السلام جمع ما دونته الكهنة من أخبار الشياطين ودفنه تحت كرسيه، وقال لا أسمع بعد الآن أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فانتهوا، فلما مات سليمان تمثل الشيطان بصورة إنسان. وقال لبني إسرائيل هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا، قالوا نعم، قال احفروا تحت هذا الكرسي وأراهم مكانه وتباعد، فقالوا له أدن قال لا، وإنما قال لا لأن الشيطان إذا دنا من كرسيه احترق بأمر الله، وقال لهم إذا لم تجدوا ما ذكرته لكم فاقتلوني، فحفروا فرأوا تلك الكتب فأخرجوها، فقال لهم إن سليمان كان يحكم الجنّ والإنس والطير بهذه الكتب، فدونكم إياها واحرصوا عليها فهي الكنز الذي لا ينفد، ثم غاب عنهم، وفشا

مطلب في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به:

في الناس أن سليمان كان ساحرا، ولذلك فإن أكثر السحر يوجد عند اليهود، فأنزل الله تعالى براءته بقوله عز قوله «وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» لأنهم «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» ويأمرونهم به، ولم يكن سليمان ساحرا وإنما كان نبيا، وصاروا يدونون السحر ويعلمونه للناس لإغوائهم «وَ» يعلمون الناس أيضا «ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ» بلدة قديمة بأرض الكوفة من العراق، سميت بذلك على ما قيل، لأن تبلبل الألسن وقع فيها، ويفهم من قوله تعالى (وَما كَفَرَ) أن تعلم السحر كفر، وقدمنا ما يتعلق به في الآية 52 من سورة الشعراء المارة في ج 1، وهذا ما يدل على وجود الشياطين واختلاطهم مع البشر وأنهم كانوا قبل خلق آدم يسكنون الأرض بصورة ظاهرة كما بيناه في الآية 30 المارة وما ترشدك إليه من المواقع. مطلب في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به: هذا وسبب إنزال الملكين على ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره أن الحكمة من ذلك هو أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما يسمعون بين الخلق، فيشتبه بالوحي النازل على الأنبياء، فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض ليعلما الناس السحر فيظهر بذلك الفرق بين كلام الله تعالى وكلام السحرة. وقال ابن جرير الطبري إن الله عرّف عباده جميع ما أمرهم ونهاهم ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم بما أمروا به ونهوا عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده عنه من بني آدم، فغير منكر أن يكون الله تعالى علّمه الملكين اللذين سماهما «هارُوتَ وَمارُوتَ» اسمين أعجميين سريانيين وجعلهما فتنة لعباده كما أخبر عنهما بقوله «وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» ابتلاء ومحنة «فَلا تَكْفُرْ» أي لا تتعلم السحر فتكفر إذا عملت به عملا يخالف شريعتك التي أمرك الله بها على لسان رسله باتباعها، حذار حذار أيها الإنسان، ومقاربة ما يؤدي إلى الكفر، وإنما يقولان ذلك ليختبر الله عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق الملمع به إليهما بقوله جل قوله

«فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ» فيمتحض المؤمن بتركه ويجترىء الكافر على تعلمه والعمل به، وعلى هذا فيكون الملكان في هذا التعليم مطيعين لله تعالى إذ كان بإذنه، ولا يضرهما سحر من سحر بعد نهيهما إياه عنه، لأنهما أديا ما أمرا به، ومما يدل على أن السحر لا تأثير له بنفسه، قوله تعالى «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وهذا نص قاطع في عدم تأثيره، فلا عبرة بقول من يقول إن له تأثيرا ويخشى عليه الكفر إلا إذا تأول، وإلا فهو كافر بلا خلاف لمخالفته كلام الله تعالى «وَيَتَعَلَّمُونَ» هؤلاء السحرة «ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا» أولئك اليهود، لأن الكلام مرتبط بقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) الآية 24 المارة. وقصة السحر مستطردة حتى لو حذفتها على سبيل الفرض إذ لا يجوز حذف حرف واحد من القرآن على القطع ويكفر فاعله، فوصلت ما بعدها بما قبلها لا ستقام المعنى مع استقامته معها، وهذا شأن جميع الآيات المعترضات في القرآن العظيم وهو من خصوصيات بلاغته، وقوة سبكه، وحسن نظمه، ومتانة معناه، وفصاحة مبناه، ومن جملة إعجازه، جل منزله والخيبة «لَمَنِ اشْتَراهُ» استبدل ما تتلوا الشياطين بما في كتاب الله تعالى واختاره عليه، ومن كان هذا شأنه «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» حظ ولا نصيب فيها «وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» أي الذين باعوها به «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 102» أن السحر والكفر سبب حرمانهم من الجنة «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا» بمحمد وما جاءهم به «وَاتَّقَوْا» الكفر والسحر «لَمَثُوبَةٌ» لهم «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» لهم مما يتقاضونه من الثمن البخس بغضب الله «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 103» أن ثواب الله تعالى خير لهم من ذلك، وإن النجاة باتباع الدين الحق ليس بالشعوذة. هذا، واعلم أن السحر له وجود وحقيقة، والعمل به كفر إذا اعتقد بتأثيره بنفسه، أما إذا اعتقد أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى، فلا، وهو قد يؤثر بتأثير الله تعالى في الأبدان بالأمراض والجنون، وربما أدى إلى الموت، لأن للكلام تأثيرا في الطباع، فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمّ له، وقد مات رجال من كلام سمعوه بتقدير الله تعالى

موتهم عليه، منهم عبد الواحد بن زيد وغيره كثيرون، راجع كتاب الخوف ص 123 فما بعدها من الجزء الرابع من كتاب إحياء العلوم للغزالي رحمه الله، وقال الأحنف بن قيس والله إني لأسمع الكلام أحمّ له ثلاثة أيام. الحكم الشرعي: السحر من الكبائر التي نهى الله عنها، وتعلمه للعمل به حرام، وقد عده رسول الله صلّى الله عليه وسلم من السبع الموبقات في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان في الصحيحين، وقد أمرتا باجتنابه، ولا يسعنا إلا الامتثال، وهو من حيث تعلمه على قسمين الأول يكفر صاحبه إذا اعتقد أن القدرة الحاصلة من التأثير نفسه حينما يفعله وهو المؤثر فيه كما إذا اعتقد المنجم أن الكواكب هي المؤثرة للفعالة فيما يقع من العوارض الكونية، وفي هذه الحالة يجب قتله شرعا بدليل ما رواه جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: حد الساحر (أي الذي هذه صفته) ضربه بالسيف- أخرجه الترمذي-. والثاني التخييل والتمويه بما يشاكل النيرجيّات والشعبذة التي لا يعتقد صاحبها قدرة لنفسه فيها، كمثل من يعتقد تأثير الكواكب بقدرة الله تعالى، ففي هذه الحالة تكون معصيته من الكبائر التي يحرم فعلها ولا تستوجب القتل كفرا. هذا، وما ذكروا من قصة هاروت وماروت من أن الملائكة قالت يا ربنا إن الذين اخترتهم لعمارة أرضك يعصونك، وإن الله قال لهم لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثلهم، وإنهم قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك، وانهم اختاروا من خيارهم عزا وعزاليا أي هاروت وماروت، فأهبطهما الله إلى الأرض وأمرهما أن يحكما فيها بالعدل، وبقيا شهرا على استقامتهما حتى اختصم إليهما امرأة تسمى الزهراء، وهنا حذف تاء التأنيث من فعل اختصم لوقوع الفعل بين الفعل والفاعل كقولهم جاء القاضي بنت الواقف، وهكذا كلما فعل بين الفعل الذي فاعله مؤنث وبعضهم أجازه مطلقا سواء كان الفاعل مؤنثا أم لا، واستدل بقول لبيد: تمنّ ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فإن يأت يوم يموت أبوكما ... فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر وقولا هو المرء الذي لا حليفه ... أضاع ولا خان الصديق ولا غدر

إلى الحول ثمّ امم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر لكن ما جاء في الشعر لا يصلح غالبا للاستدلال، إذ يجوز فيه ما لا يجوز في النثر. قالوا وكانت من أجمل الناس، فراوداها عن نفسها فأبت، إلا أن يقضيا لها على خصمها ففعلا، وبعد أن قضيا لها قالت لهما إلا أن تشربا الخمر، فأجاباها وشربا، فقالت لهما إلا أن تسجدا للصنم وتقتلا الرجل الذي قضيتما لي عليه، ففعلا ذلك أيضا، ثم قالت لهما إلا أن تعلماني الاسم الأعظم الذي به ترتفعان إلى السماء، فعلماها إياه فمكتبهما من نفسها، ثم طارت إلى السماء فمسخها الله كوكبا، فلما أفاقا من سكرهما، وأرادا الصعود إلى السماء كعادتهما فلم يقدرا وعلما ما حل بهما من غضب الله تعالى، فذهبا إلى إدريس عليه السلام إذ كانت هذه الحادثة المزعومة في زمنه عليه السلام ليستشفعاه بأمرهما، ففعل، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لعلمها أنه فان كالدنيا، فخسف بهما، فهما يعذبان حتى الآن، قالوا وإن رجلا قصدهما ليتعلم منهما السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، فقال لا إله إلا الله، فقالا مثله وسألاه، فقال أنا رجل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، قال ففرحا بقرب خلاص عذابهما، لأنهما يعلمان أنه نبي آخر الزمان. فقصة باطلة لا أصل لها، وذلك لأن قولهم سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك ردّ على الله تعالى الذي قال لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتموني، وهذا كفر لم اثبت لأنهم معصومون قبل ذلك، فلا يجوز التصديق بوقوع هذا منهم، وقد اجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاء، واتفقت ائمة المسلمين على أن حكم الرسول من الملائكة حكم الأنبياء في البلاغ عن الله تعالى والعصمة من الذنوب، ولأن الله تعالى لا يخير المشرك فكيف يخيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة، وما خلق عذاب الآخرة إلا للمشركين والعاصين، وعلى القول بتوبتهما فإن صح فلا عقوبة عليهما، لأن باب التوبة مفتوح ولم يكونا بحالة يأس أو بأس، أما المرأة فلا يعقل أن تصعد إلى السماء بعد أن فجرت، وكيف بصيرها الله كوكبا وقد عظم الله الكواكب وأقسم بها، تدبر هذا تعلم أنها قصة لا حقيقة لها، كما أن من قال إن الملكين هما رجلان صالحان وقرأ بكسر اللام فهي قراءة لا صحة لها ولا توجد

في السبعة، وان الذي أنزل على الملكين قد لا يكون سحرا، إذ لم يذكر في الآية حقيقة ما أنزل عليهما، وقد يكون والله أعلم شيء من الرقى والأدعية والتعاويذ التي يجوز تعليمها وتعلمها، والتي هي أشبه بالسحر لدى الناس، ولهذا فإن الملكين قالا ما يبرىء ساحتهما من السحر بلفظ فلا تكفر أيها الإنسان أي فتعلم الناس السحر بدل الرقيا، فإن تعليمه حرام قد بوصل إلى الكفر. وما ذكرناه موافق لظاهر القرآن وكل ما جاء على خلافه مما ذكره الغير قول لا يعضده شيء من السنة فلا يركن إليه من له إلمام بفقه معاني التنزيل، والله أعلم. وقدمنا ما يتعلق بالسحر والشعوذة آخر سورة الناس والآية 42 من سورة النجم والآية 45 من سورة الشعراء في ج 1، فراجعها ففيها ما يغنيك عن مراجعة غيرها. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا» وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانظرنا حتى نحفظ عنك ونفهم قولك، ولا يعلمون أن هذه اللفظة بلغة اليهود بالسريانية كلمة سب بمعنى أحمق، فقالت اليهود كنا نسبّه سرا فالآن نسبه علانية، وصاروا يأتون رسول الله ويقولون راعنا يا محمد، وقد تفطن لها سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقال لئن سمعتها من أحد لأضربن عنقه، فقالت اليهود ألستم تقولونها؟ فقال إنا نريد بها أمهلنا لا تعجل علينا، وأنتم تريدون غير ذلك قاتلكم الله ما ألعنكم وأخبثكم، فنهاهم الله تعالى عن قولها صيانة لكرامة حبيبه من الخبثاء «وَاسْمَعُوا» أيها الناس نهي الله تعالى عن هذه الكلمة لا تقولوها أبدا «وَلِلْكافِرِينَ» الذين يقولونها قصدا ولا يمتثلون نهي الله «عَذابٌ أَلِيمٌ 104» في الآخرة وخزي عظيم في الدنيا، قال تعالى «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الذين لم يتقيدوا بكتابهم وكذبوا الرسل «وَلَا الْمُشْرِكِينَ» من عبدة الأوثان «أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم كرهوا نزول الوحي على الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم حسدا وبغيا، وذلك أن اليهود قالوا لحلفائهم المؤمنين حين كلفوهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه، ولوددنا لو كان خيرا لاتبعناه، فأكذبهم الله تعالى في هذه الآية كما أكذب المشركين

مطلب في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه:

في الآية 125 من سورة الأنعام المارة في ج 2، وقطع قلوبهم بقوله عز قوله «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده، وهذه الجملة رد لقولهم إن النبوة فيهم وليست في العرب، وإن محمدا من العرب ليس منهم، أي لا تحديد لإرادة الله فإنه يختص نبوته من يريد تفضلا منه عليه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 105» ولهذا اختص بها محمدا صلّى الله عليه وسلم. مطلب في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه: قال تعالى «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها» نفعا وأسهل عملا وأيسر فعلا وأكثر أجرا وأعظم ثوابا، لا أن آية خير من آية، لأن كلام الله كله خير وكلمه واحد، راجع الآية 101 من سورة النحل في ج 2، وقال بعض المفسرين نذهب بحفظها من القلوب ومحوها من الكتب، فلم نبق لها أثرا، وقرىء ننسئها أي نؤخرها لوقت آخر «أَوْ» ننزل «مِثْلِها» في النفع واليسر والسهولة والثواب والأجر كالصرف عن استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في الصلاة، لأن المصلي عليه أن يتوجه حيث أمره الله تعالى، فلا فرق عنده بين البيت المقدس والبيت الحرام «أَلَمْ تَعْلَمْ» يا سيد الرسل «أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 106» من نسخ وتبديل وتغيير «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يتصرف فيه كيف يشاء ويريد «وَما لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أنزل عليكم عذابه بسبب مخالفتكم «مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أموركم أو يتولى عليكم فيحفظكم من عذابه «وَلا نَصِيرٍ 107» يمنعكم من حلوله بكم، أو يشفع لكم عنده. وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بغيره، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فما هذا إلا من تلقاء نفسه، فلو كان من عند الله كما يقول لما فعل ذلك. وقيل إن اليهود هم القائلون لهذا القول لا المشركون، لأن حضرة الرسول في بداية أمره كان يتعبد على ما ألهمه الله من شريعة جده إبراهيم عليه السلام والأنبياء بعده، فكلما نزل عليه مما هو معدل لشريعة من قبله يفعله ويترك ما كان يفعله قبلا، ويأمر أصحابه بفعله ويخبرهم بأمر

الله به، لأن شريعته جاءت خاتمة للشرائع كلها ناسخة لما قبلها، فبين الله تعالى في هذه الآية حكمة النسخ، وأنه من عنده لا من عند محمد قطعا كما تكلم به اليهود أو المشركون. ونزولها في اليهود أولى، لأن هذه الآية مدنية، والغالب على سكانها اليهود، وهم الذين يجادلون حضرة الرسول بما نزل إليه من ربه مخالف لكتابهم، وإن ما نزل في المشركين هو آية الأنعام المذكورة آنفا رد لقولهم «لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» . واعلم أن النسخ في اللغة النقل والتحويل، ومنه نسخ الكتاب بأن ينقل من كتاب لآخر، وهذا لا يقضي بإزالة الصورة الأولى بل بإثبات مثله في كتاب آخر، فعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، لأنه نسخ من اللوح المحفوظ وأنزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة، وهذا ليس مرادا هنا. وقد يكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة، وهو إزالة شيء بشيء يعقبه، كنسخ الشمس للظل، والشبب للشباب، وعلى هذا يكون بعض القرآن منسوخا وبعضه ناسخا، أي إزالة حكم بحكم آخر. وفي اصطلاح العلماء رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، ومنه يعلم أنه كما أن شريعة موسى عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة عليها كأنه قامت مقامها، وكما أن إنجيل عيسى عليه السلام عدل شيئا من أحكام التوراة بدليل قوله تعالى في الآية 50 من آل عمران الآتية «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» فكان القسم المعدل بفتح الدال من التوراة منسوخا بالمعدّل بكسر الدال من الإنجيل، أما الزبور المنزل بينهما إذ لا يوجد فيه أحكام ولا حدود فلم يتعرض له، لأن مصلحة البشر المحتاجة للتعديل بحسب الزمان، والحاجة تتعلق بالأحكام والحدود فقط، أما الأدعية والاستغاثات الواردة في الزبور وغيره من الكتب والصحف القديمة فلا علاقة لها في هذا البحث. فكذلك القرآن العظيم عدل جميع الشرائع المتقدمة عليه فكل حكم مناف لما فيه فهو منسوخ به، وما لا فهو باق على حكمه لموافقته أحكام القرآن، والسبب في ذلك أنه هو الكتاب الإلهي الأخير الذي جاء صالحا لأمور الدنيا والدين إلى آخر الزمان، ولأن مشروعية النسخ إنما تكون للحاجة والمصلحة، فقد كان في عهد آدم عليه السلام مساغ لأن يتزوج الأخ أخته لاقتضاء

المصلحة وكثرة التناسل وحاجة الزوج للزوجة وبالعكس، فلما تكاثر النسل وصاروا في غنى عن ذلك حرمت الأخت، وأبيحت ابنة العم والخال وما بعدها، وكان في عهد نوح عليه السلام مساغ لأكل جميع الحيوانات، ثم اقتضت المصلحة بتحريم بعضها لما فيه من الضرر لوجود الإنسان، وبعضها لما فيه الحاجة للإنسان، وفي الأيام أيضا فقد حرم السبت على بني إسرائيل إلى زمن عيسى، فأبيح وحرم الأحد إلى مبعث محمد فأبيح وخصّت الجمعة بالتفضيل على غيرها، ولم يحرم العمل فيها إلا وقت الصلاة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 10 من سورة الجمعة الآتية. وفي الجماد أيضا فقد كان البيت المقدس قبلة لمن قبلنا فأبدل بالكعبة، والنسخ في الأيام والجماد لحكمة لا نعلمها، لأن الظاهر أنه لا لحاجة البشر ولا لمصلحتهم وليس علينا أن نعرف العلة لكل ما حرم الله وحلل أو نهى وأمر، بل علينا الامتثال والقبول، لأن أفعال الله هو سبحانه أعلم بعللها، كما أنه لا يسأل عما يفعل، وعليه فإن النسخ فيما ذكرنا جائز عقلا وشرعا لا ينكره عاقل، وان القرآن العظيم ناسخ لجميع ما يخالفه من الكتب والصحف السماوية المتقدمة عليه بلا خلاف، وبعض آيه ناسخ لبعض عند كثير من المفسرين، والأقل قالوا بعدم النسخ وهو الأصح على المعنى المراد به إزالة الحكم من جميع جهاته، أما من بعضها فلا ينكر، لأنه عبارة عن تخصيص العام وقيد المطلق، وقد جرينا على ما جرى عليه القليل، والقليلون هم الممدحون في كتاب الله وكلام رسوله، ونسأل الله أن يجعلنا منهم. وقد أجمعت العلماء على أن ثلاثا وأربعين سورة من القرآن لم يدخلها ناسخ، ولم يكن فيها منسوخ وهي: الفاتحة ويوسف والحجرات والرحمن والحديد والصف والجمعة والتحريم والملك والحاقة ونوح والجن والمرسلات والنبأ والنازعات والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والفجر والبلد والشمس والليل والضحى والانشراح والتين والقلم والقدر والبينة والزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة وقريش والماعون والكوثر والنصر والمسد والمعوذات الثلاث. ويوجد فيه ست سور فيها ناسخ ولا منسوخ فيها وهي: الفتح والحشر والمنافقين والتغابن والطلاق والأعلى. وأربعون سورة فيها منسوخ ولا ناسخ فيها وهي: الأنعام والأعراف ويونس وهود

والرعد والحجر والنحل والإسراء والكهف وطه والمؤمنون والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والمضاجع والملائكة والصافات وص والزمر وفصلت والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف ومحمد وق والنجم والقمر والامتحان والمعارج والقيامة والإنسان وعبس والطلاق والغاشية والتين والكافرون. وما بقي وهو سبع وعشرون سورة فيها ناسخ ومنسوخ، وقد أشرنا إلى كل في محله فيما سبق، وسنبينه كذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى، وما ذكرنا في المقدمة في باب الناسخ لتفنيد القول بأن السنة لا تنسخ القرآن، كان استنباطا من هذه الآية وأقوال جهابذة العلماء، لأن السنة مهما كانت متواترة وصحيحة فلا تكون خيرا من القرآن ولا مثله أيضا من كل وجه، والله تعالى يقول «بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» وحديث لا وصية لوارث المتمسكين به قوال النسخ ليس ناسخا لآية لوصية الواردة في الآية 181 من هذه السورة، بل هي على قول القائلين بالنسخ منسوخة بآية المواريث 11/ 12 من سورة النساء الآتية، لأن كون الميراث حقا يمنع من صرفه إلى الوصية وهي مانعة من الوصية لذكر أصحاب الاستحقاق فيها، أما على القول بعدم النسخ فسنأتي على ذكره عند تفسير الآيتين المذكورتين وسنتعرض لبحث النسخ عند كل آية قيل إنها منسوخة كما فعلنا في القسم المكي، وتبين أن النسخ على رأي القائلين به عبارة عن رفع حكم بعض الآيات بآية تأتي بعدها تخصص عمومها أو تقيد إطلاقها مثل آية عدة الوفاة بالحول التي نزلت بعدها الآية بأربعة أشهر وعشرة أيام، كما ستقف عليه، وكالآيات الست لمتقابلات التي ذكرناها في المقدمة في بحث النسخ، لأن في الثلاث الأول نوع تشديد ومشقة كقيام الليل كله، ومقابلة الواحد بالعشرة في الجهاد، وتقديم الصدقة عند مخاطبة الرسول، وفي الثلاث الأخر نوع تخفيف ويسر كقيام بعض الليل ومقابلة الاثنين بالواحد، وعدم تقديم الصدقة وفي بعض الآيات كثرة الثواب عن بعض، كصيام رمضان عن الأيام المعلومات والمعدودات لأنه أكمل، وهكذا، فيثبت لك من هذا أن القرآن لا منسوخ فيه البتة، وان جميع ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم ثابت فيه لم يغير ولم يبدل ولم يترك منه شيء كما أوضحناه في المقدمة، وأن الحديث الذي رواه البغوي بغير سند عن أبي أمامه

مطلب الاختلاف في سبب نزول الآية 108 وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل:

بأن قوما أرادوا أن يقرأوا سورة من القرآن فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وأن الرسول قال لهم رفعت تلاوتها وحكمها، فهو حديث غير صحيح، وهو ورواته من الضعف بمكان لا يصح الركون إليه، لأن القوم مجهولون والحديث بلا سند، ومثل هذا لا يرد على تعهد الله تعالى في حفظ القرآن الذي ألمعنا إليه في الآية 10 من سورة الحجر والآية 42 من سورة فصلت المارتين في ج 2. ثم وصى الله تعالى المؤمنين بالثقة برسولهم وترك اقتراح الآيات ورد طعن المشركين واليهود بالنسخ، إذ جرّد الخطاب عنه وخصه بهم، فكأنه قال إياكم أن تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان بقوله جل قوله «أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» إذ سأله جماعة من أمته بعد أن أسمعهم كلام الله أن يريهم إيّاه عيانا، كما مر في الآية 56، فأهلكهم الله، أي من شأن العاقل أن لا يتصور ذلك وفي هذه الوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها، ولا يتوقف مضمون هذه الآية على تقدم سؤال أو سابقية وقوع حال، لأنها عبارة عن توصية، والتوصية لا تقتضي شيئا من ذلك، كيف وهو كفر كما أشار إليه الإله عزت إشارته بقوله «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ 108» وهو مما لا يكاد يقع من المؤمن. مطلب الاختلاف في سبب نزول الآية 108 وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل: واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية مع أن مثلها لا يحتاج إلى سبب كما ذكرنا، وهكذا الحال في الوصايا فقال بعضهم إن المسلمين اقترحوا على رسول الله في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات النواط كما كان للمشركين، فقال صلّى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى لموسى «اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا. وإضافة الرسول إليهم إضافة إلى ما في نفس الأمر، وهذا بعيد، لأن غزوة خيبر وقعت في السنة السابعة من الهجرة وسورة البقرة هذه من أول ما نزل بالمدينة. وقال بعضهم إن اليهود

قالوا يا محمد سل ربك أن ينزل عليك كتابا من السماء جملة واحدة كما أنزل التوراة على موسى، واختار هذا القول الفخر الرازي، وقال إنه الأصح، لأن المخاطب به في هذه السورة هم اليهود، والإضافة إلى ما في نفس الأمر دون الإقرار، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون مستبدلا به الكفر بالإيمان، وهو وجيه، لأن النبي أول وصوله المدينة أراد منهم الإيمان به، فجدير أن يطلبوا منه آية، إلا أنه سبق قبلها الخطاب للمؤمنين إذ صدر الآية المارة بقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا» إلخ ولم يأت بعدها ذكر لليهود، وقال بعضهم وهو قول ابن عباس إن أهل مكة سألوا محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن بوسع عليهم أرض مكة ويفجر فيها الأنهار فنزلت، وهذا قد فات محله في سورة الفرقان في الآيتين 60 فما بعدها من سورة الإسراء في ج 1، لأن الحادثة مكية، وقد نزلت فيها الآيات بمكة، وهذه السورة مدنية، فلا يتجه شيء من هذه الأسباب لنزول هذه الآية، وقد ذكرنا في بحث النزول في المقدمة أن من القرآن ما ينزل بسبب ومنه ما ينزل بلا سبب، ولعل هذه الآية من القسم الثاني وهو الأوجه والله أعلم. على أن كلا من هذه الحالات الثلاث قد تكون الآية جوابا للسؤال عنها، لكن لا أنها سبب لنزولها، تدبر. ولم يقل جل قوله كما سأل أمة موسى إشارة إلى أن من سأل عن ذلك يصان اللسان عن ذكره وهذا أحد أسباب مجهولية الفاعل السبعة وهي الجهالة والخوف منه وعليه وتعظيمه وتحقيره والعلم به وصون اللسان عن ذكره. هذا، واعلم- والله أعلم- أن القصد من ذكر هذه الآية بعد آية النسخ تثبيت المسلمين على الأخذ بآيات الله وتنبيههم بعدم الإقدام على أسئلة كأسئلة اليهود وتحذيرهم منها وتوصيتهم بالثقة بها. قال تعالى «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ» أيها المؤمنون «كُفَّاراً» لتكونوا مثلهم «حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» لا لأمر آخر وذلك «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» في التوراة والآيات المنزلة على نبيكم الموافقة لها المؤيدة لحكمها «فَاعْفُوا» عنهم لا تجادلوهم «وَاصْفَحُوا» عن إساءتهم لا تخاصموهم واصبروا عليهم «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» في جواز قتالهم «إِنَّ اللَّهَ عَلى

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 109» لا يعجزه شيء، وفي هذه الجملة إشارة إلى التهديد بالانتقام منهم ووعد للمؤمنين بالنصر عليهم. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا يستقيم، لأن الأمر فيها موقت بالغاية الدالة عليه «حَتَّى» وإذ كانت الغاية غير معلومة فتكون آية السيف بيانا لها، وما قاله الطيّبي بأن النسخ بما جاء في التوراة والإنجيل من ذكر محمد فيكون انتهاء المدة بإرساله لقوله تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية 107 من سورة الأعراف في ج 1 لا يتجه أيضا، لأن غاية ما فيها البشارة بشرع محمد صلّى الله عليه وسلم وإيجاب الرجوع إليه، وهذا لا يوجب توقيت الأحكام ولا يقتضي النسخ. وهذه الآية حاكية حال أهل الكتاب منبهة على التحذير من الإصغاء إليهم والأمر بعدم عقوبتهم على ذلك القول الذي هو من أعظم الذنوب، لأن الرضاء بالكفر كفر، فكيف بمحاولة ردّ المؤمن إلى الكفر، لأن معنى العفو ترك العقوبة على الذنب وعدم تثريبهم عليه أيضا، ولأن معنى الصفح ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو، لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح. وما قيل إنها نزلت في أحبار اليهود أو نفر منهم حينما قالوا للمسلمين أو لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار وكيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت، قالت اليهود أما هذا فقد صبا، وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم إنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبراه بذلك، فقال قد أصبتما الخير وأفلحتما وما استدل به صاحب هذا القيل بما رواه الواحدي عن ابن عباس فليس بشيء، ولم يوقف على صحته ولا على سنده، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث. قال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» أيها المؤمنون ولا تلتفتوا لأقوالهم فهو أقوى لكم ولا بأفعالهم فهي أفعى لكم «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» ولو بكلمة طيبة أو إماطة أذى ما عن الطريق أو إسقاء الماء على الماء، وفي هذا تأكيد للعفو والصفح

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 120]

المذكورين آنفا وترغيب للقيام بهما، لأنهما من أعظم أنواع الخير، أما ما قاله بعضهم بأنه خاص بالصلاة والزكاة فهو خلاف الظاهر، لأنه مطلق خير، فإن عملتموه أيها المؤمنون «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» تروا ثوابه في الآخرة «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 110» لا يخفى عليه شيء منه وأنه ينظر في كل شيء من أعمالكم ويجازيكم عليها «وَقالُوا» أهل الكتابين «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» فرد الله عليهم بقوله جل قوله «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» أي ذلك ما يتمنعونه على الله من الأباطيل، وهو قول لا حقيقة له، لأنه لا بد وأن يصدر من الله الذي بيده إدخال الجنة من يشاء من عباده، ثم كلف حبيبه بطلب الحجة منهم على قولهم بقوله عز قوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على دعواكم هذه مما أنزل الله عليكم في كتابكم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 111» في ذلك، نزلت هذه الآية عند ما تناظر نصارى نجران مع يهود المدينة، وسيأتي بيان هذه المناظرة في أوائل سورة آل عمران الآتية بما يدل على أن هذه الآيات نزلت بعد سورة البقرة ووضعت هنا تبعا لسورتها كما هو الشأن في أمثالها، تأمل. مطلب مناظرة اليهود والنصارى، ولغز في ذلك: فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية ولن يدخل الجنة إلا اليهود، وكفروا بعيسى عليه السلام، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية ولا يدخل الجنة إلا النصارى وكفروا بموسى عليه السلام وقد كذب بعضهم بعضا، فأكذبهم الله جميعا وبين لهم الدين الحق وأهل الجنة بقوله «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ» في عمله مع الله وخلقه فهم أهل الحق ومن كان كذلك «فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» في الآخرة ويدخل الجنة «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 112» على ما فاتهم من الدنيا لأنهم وجدوا خيرا منها وهم في أمن من أهوال الآخرة. «وَقالَتِ الْيَهُودُ» في مناظرتهم تلك «لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ» من الدين «وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ» منه أيضا، وقد صدقوا جميعا إذ لا دين بعد البعثة المحمدية إلا دين الإسلام،

كما كذبوا في الآية السابقة. وقد ألغز في هذا فقالوا: قوم صدقوا ودخلوا النار أي إذا ماتوا على ما عاشوا عليه من عقيدتهم الواهية كما يقال في اخوة يوسف عليهم السلام قوم كذبوا ودخلوا الجنة، لأن فعلتهم مع أخيهم أعقبتها التوبة منهم، والتشرف بالنبوة، قال تعالى مبكتا أولئك بأنهم يقولون هذا «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ» وليسوا بأميين وليس في كتابهم شيء من ذلك، لأن التوراة بشرت بعيسى ابن مريم، والإنجيل بشر بمحمد وحقق ما في التوراة من وصفه ونبوة موسى «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ» مشركو العرب عبدة الأوثان «الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» لأنهم أمّيّون ولا كتاب لهم «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا من قبل بأن محمدا ليس على شيء وأن كتابه ليس بشيء «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 113» فيظهر المحق من المبطل ويجازى كلا بعمله. قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها» هذا ما نعاه الله عليهم بما أوقعوه في معالم الدين، كما نعى عليهم فيما تقدم الإيقاع في نفس الدين وهو عام في كل مسجد، أي لا أحد أظلم من هذا فعله. نزلت هذه الآية في المشركين الذين منعوا رسول الله وأصحابه من الصلاة في المسجد الحرام حينما كان في مكة، وإنما قيل مساجد والمنع من مسجد واحد لأن الحكم ورد عاما وإن كان السبب خاصا، لقوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) الآيات في ج 1، وهي قد نزلت في الأخنس بن شريق. وقال الحسن وقتادة إنها نزلت في بختنصر حينما خرب بيت المقدس، وهذا كان قبل المسيح، فلا محل لذكره هنا وقد أشرنا إليه أول سورة الإسراء في ج 1 فراجعه. وقال بعض المفسرين نقلا عن ابن عباس إنها نزلت في طيطوس الرومي الذي غزا بني إسرائيل فقتلهم وسباهم وخرب بيت المقدس وأحرق التوراة ومنع إقامة ذكر الله فيه، وبقي خرابا إلى أن عمره المسلمون زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقي في أيديهم إلى حرب الصليبيين إذ استحله النصارى أكثر من مئة سنة، ثم استخلصه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 585 من الهجرة، وعلى هذا تكون من قبيل عطف القصة على القصة قبلها، وأتى بها هنا تقريرا لقبائحم

وجرأتهم على شعائر الله، ولهذا يقول الله تعالى «أُولئِكَ» الذين تلك مثالبهم «ما كانَ» ينبغي «لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها» دخولا مطلقا «إِلَّا خائِفِينَ» ربها بخشية وخضوع وإخبات، احتراما لربها فضلا عن الجرأة على تخريبها، وهؤلاء المتجاسرون «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» فظيع وذم قبيح كلما ذكروا بفعلهم المشين يتبعه سبي وضرب جزية وقتل وكل ما هو من أسباب الذل يقع عليهم في الدنيا «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» لا تطيقه أجسامهم، وهذا ليس بسديد أيضا، لأن الآيات قبلها بحق اليهود، وكذلك لا يصح نزولها بحق المشركين، إذ لم يسبق لهم ذكر، ولم يسبق ذكر المسجد الحرام في هذه الآيات. ومما يبعد صحة القول بأنها في حق المشركين هو أن القائل به قال إنها كانت عام الحديبية، وحادثتها وقعت في السنة السادسة من الهجرة، وهذه السورة من أول ما نزل في المدينة كما علمت فلا تنفق مع قوله، وهناك قول آخر بأنها نزلت في المشركين الذين ألجئوا حضرة الرسول وأصحابه إلى الهجرة ومنعوهم بسببها من أن يذكروا الله في المسجد من صلاة وغيرها، وكأنهم بذلك سعوا في خرابها، لأنها أنشئت لإقامة الصلاة والذكر، فإذا انقطعت عنها فكأنها خربت، وفي هذا التأويل صرف الحقيقة إلى المجاز، والعدول إلى خلاف الظاهر وهو وجيه، إلا أن سياق الآية ينافيه، وعدم سبق الذكر يبعده، لأن هذه الحادثة في مكة، ولم يقل أحد بمكية هذه الآية، على أن كلا من الحوادث الثلاث صالحة لسبب النزول لو كانت منطبقة عليها، وقد ذكرنا غير مرة أن تعدد الأسباب جائز، أي بأن تكون آية واحدة لعدة حوادث وأسباب كثيرة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) ، إذ لا مانع من تعدد أسباب النزول، ولكن الأولى أن يكون في حق اليهود خاصة، وذلك لما حولت القبلة إلى الكعبة شق عليهم فصاروا يمنعون الناس من التوجه إليها ويحملونهم على تخريب الكعبة وسعوا في تخريب مسجد الرسول في المدينة، فعابهم الله تعالى وبين سوء طريقتهم التي سلكوها في ذلك، لأن الآيات السابقة جاء سياقها بالتشنيع على أفعالهم، والآية الآتية كذلك، فكونها فيهم أولى، لأن المشركين لا بحث فيهم قبلها ولا بعدها. قال تعالى «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ

فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ 15» نزلت هذه الآية في جماعة لم تتبين لهم القبلة فصلوا جهة تحريهم، ثم بان خطؤهم، فأخبروا حضرة الرسول فنزلت. وهذه الآية كالإرهاص في تبدل القبلة، لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومىء وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية لمسلم كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت دابته فيه، وفيه نزلت الآية، وفيها إيماء أيضا إلى اليهود بأنهم مهما سعوا في خراب المسجد فلن يستطيعوا أن يسعوا في تعطيل عبادة الله تعالى، لأنها لا تتوقف على المسجد بل يمكن تأديتها في أي مكان كان، وإلى أي جهة كانت. قال تعالى «وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» وهذه نزلت في يهود المدينة أيضا لقولهم عزير بن الله، ويدخل فيها النصارى القائلون المسيح بن الله، والعرب القائلون الملائكة بنات الله، لأنها صالحة للكل، فنزه نفسه الكريمة بقوله «سُبْحانَهُ» عما يقولون «بَلْ» هو إله الوالدين والمولودين، لم يتخذ منهم ولدا ولا صاحبة له «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا فكيف أن يتخذ منهم ولدا وهم «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ 116» خاشعون طائعون مخبتون منقادون، وكلمة كل تقتضي الشمول والإحاطة، لأنه كلي يعم كل من فيهما وما بينهما، وبعض المفسرين خص الآية بالطائعين ولا دليل على التخصيص إلا القول بنفي الشمول عنها أحيانا، بدليل قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 24 من سورة النمل في ج 1، لأن بلقيس لم تؤت مثل ملك سليمان حتى يصح أن يقال إنها أوتيت من كل شيء بمعنى الشمول، وصاحب هذا القول يقول بأن (من) في الآية صلة أي زائدة وليس بشيء، إذ لا زائد في القرآن، ولا يوجد فيه حرف إلا وله معنى خاص أو عام. واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الذي يخضع الكون بما فيه لهيبة جلاله هو «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» على غير مثال سابق كما أبدع الإنسان والحيوان والطير والجماد كذلك، لأن الشيء إذا كان له مثال أو صورة وأنشئ على صورته أو مثله لا يسمى بديعا ولا فاعله مبدعا، لأن المبدع الذي يعمل الشيء

أولا، والذي يعمل بعده يسمى مقلدا، والتقليد بشيء يحمد أو يمدح عليه، لأن كل من له إلمام يقدر على عمل مثله. ولا يوجد في القرآن نظير هذه الآية إلا الآية 100 من سورة الأنعام في ج 2 «وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 117» حالا دون كلفة أو بمعونة شيء آخر فتراه موجودا بين الكاف والنون، كما أنك ترى الرمية تصيب الهدف بين سحب الزناد وصوتها، هذا تقريب للفهم، وإلا فهو غير ذلك «وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» من جهلة قريش المشركين «لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ» مشافهة فيخبرنا بأنك رسوله «أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» على صدق ما تقوله لنا يا محمد لا تبعناك توا «كَذلِكَ» مثل هذا القول الباطل «قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام الله، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام الله، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» في الضلال، فوافق سؤالهم سؤالهم «قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ» الدالة على نبوتك وصدقك يا سيد الرسل بيانا شافيا كافيا «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 118» بها، أما غير الموقنين فلو نزلنا عليهم ما طلبوه وأمثاله معه لم يؤمنوا، وأنت يا خاتم الرسل ما عليك أن لا يؤمنوا «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً» للمصدقين الموقنين «وَنَذِيراً» للمكذبين الشاكين «وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ 119» الذين يموتون على كفرهم وتكذيبهم لله ورسوله «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ» يا سيد الرسل «الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» التي هم عليها، وليس فليس، وإذا كان كذلك «قُلْ» لهم يا خاتم الرسل «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» الموصل إلى المطلوب وهو الدين الحق دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» يا حبيبي وركنت لسلوك طريقتهم طلبا لرضائهم «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنك على الحق المبين، وهذا قسم من الله تعالى وجوابه قوله عزّ قوله «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ 120» بدلالة اللام الموطئة للقسم في (وَلَئِنِ) وقد ذكرنا في الآية 65 من سورة الزمر في ج 2 وفيما قبلها أن أمثال هذا الخطاب يراد به أمته

[سورة البقرة (2) : الآيات 121 إلى 130]

عليه الصلاة والسلام، لأنه محال عليه أن يميل إلى أهوائهم، فراجعها ففيها ما يلذ السمع ويهج القلب. قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» التوراة منهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» دون تحريف أو تبديل في معانيه أو مبانيه، وينقلونه للناس كذلك «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» حق إيمانه ويقودهم إيمانهم بكتابهم إلى الإيمان بك وبكتابك، لأن من جملة ما يؤمنون به في كتابهم نبوتك وكتابك. وفي هذه الآية إشارة إلى أن منهم من يؤمن كعبد الله بن سلام وأصحابه، أما المحرفون الجاحدون فهم المخصوصون بقوله تعالى «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ» فيسيء تلاوته ويغير كلمه وينقلونه على غير ما هو عليه بحسب أهوائهم ويغرون الناس بذلك «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ 121» في الدارين، أما الدنيا فقد خسروها وزال عنهم نعيمها بالموت مهما كان نعيمهم وطال أجلهم، لأن مصيرها الفناء، وأما الآخرة فلم يعملوا لها شيئا يؤهلهم لنيل نعيمها الدائم، وذلك هو الخسران المبين. قال تعالى «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 122» تقدم تفسيرها في نظيرتها الآيتين 40/ 47 المارتين وكررت تأكيدا وتذكيرا لنعمه المتكررة عليهم «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 123» وما في هذه الآية بالنسبة للآيتين المارتين مثلهما إلا نوع تفنن في التعبير من نظم العليم الخبير، ولا يقال إن المعنى فيها واحد من حيث الاستفادة، بل فيها زيادة التذكير في المحافظة على وصايا الإله القدير ولزوم التقوى في كل حال والتيقظ ليوم القيامة والخشية مما يقع فيه من الأهوال، والتيقن بأن الإنسان لا ينفعه إلا عمله الحسن. وأعلم أن مجيئها بعد الآية المتقدمة إيذان بتخويف المبدلين لكلام الله، وترهيب من نزول العذاب فيهم لعلهم يرجعون عن باطلهم، وأنى لهم أن يرجعوا وقد أعماهم حب الرياسة عن اتباع الحق، وأوردتهم أنفتهم إلى الهوان: وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام ت (6)

مطلب فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها:

مطلب فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها: قال تعالى «وَ» اذكر يا أكمل الرسل لأمتك قصة أخرى «إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» اختبره فيها قبل نبوته، وهي ما قصه الله تعالى في الآيات 76 فما بعدها من سورة الأنعام في ج 2 من أمر الكوكب والقمر والشمس وإصراره على عبادة الله وتوحيده حتى أدى به الحال إلى أن ألقوه في النار، وبعد أن أنجاه الله منها على الصورة المبينة في الآية 50 فما بعدها من سورة الأنبياء في ج 2 أيضا هاجر إلى الشام وشرقي الأردن فالقدس، ثم ابتلاه بذبح ابنه على الصورة المارة في الآية 100 فما بعدها من سورة الصافات في ج 2 أيضا وقيل إن الذي اختبره بها في مناسك الحج أو أوامره ونواهيه التي قام أو اختصر بها بإلهام من الله تعالى، وقال ابن عباس هي ثلاثون شيئا سماهن شرائع الإسلام وهي عشرة في سورة براءة في قوله تعالى (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) الآية 14 الآتية منها، وعشرة في سورة الأحزاب وهي (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية 36 الآتية أيضا، مثلها وعشرة في الآية الأولى فما بعدها من سورة المؤمنين، وعشرة في الآية 22 فما بعدها من سورة المعارج في ج 2، وفي رواية عشرة أشياء وهي من الفطرة خمسة في الرأس وخمسة في اليدين. روى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك والاستنشاق بالماء والمضمض وغسل البراجم (ما بين طبقات الأصابع) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (الاستنجاء) وقص الأظفار، فهذه كانت فرضا على إبراهيم عليه السلام وهي علينا سنة، وقد أتى بها جميعها، ولذلك مدحه الله تعالى بقوله (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى الآية 38 من سورة والنجم في ج 1، وهو أول من قص شاربه وأول من اختتن وأول من ضيّف الضيف، وأول من رأى الشيب فقال يا رب ما هذا؟ قال وقار قال ربّ زدني وقارا، وسمي التكليف بلاء، لأنه يشق على الأبدان فعله وقيل إن آية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) في قضية ذبح ابنه لا في هذه الكلمات وهو عليه السلام قد وفى بها وبغيرها من كل ما أراد منه ربه، تدبر قوله تعالى «فَأَتَمَّهُنَّ» قام بهن كلهن قياما كاملا، ولهذا «قالَ» تعالى «إِنِّي جاعِلُكَ

لِلنَّاسِ إِماماً» ليقتدوا بك بما تسنه لهم «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» يا ربّ اجعل إماما للناس ليستنوا بسنتهم أيضا «قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124» من ذريتك وغيرهم، أي لا يصل إليهم ولا يناط بهم ذلك، ولا يكون منهم، لأن الإمامة والنبوة لإرشاد الخلق، ولا تكون إلا للصالحين منهم، والظالمون ليسوا بأهل لنصح الناس «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً» مرجعا وملجأ ومأوى «لِلنَّاسِ وَأَمْناً» لهم من تعدي الغير «وَ» قلنا لهم «اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» موقفا يصلّى فيه وقد اتخذ من ذلك اليوم وحتى الآن وإلى الأبد إن شاء الله تدوم صلاة الناس فيه وهي مقابل باب الكعبة في الحرم الشريف وهو حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة وكان فيه أثر أصابعه فاندرس من كثرة لمس الناس له وفوقه قبة بديعة وكان له عليه السلام بمثابة السلم المتحرك إذا أراد ارتفع وإذا أراد انخفض معجزة له عليه السلام كما هو الحال في سفينة نوح عليه السلام حيث كان إذا أراد سيرها قال بسم الله، وإذا أراد إيقافها قال بسم الله معجزة له، راجع الآية 41 من سورة هود ج 2، «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ» عند ما أمرنا هما ببناء الكعبة «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» حوله بعد إكماله «وَالْعاكِفِينَ» المقيمين فيه المجاورين له الدائبين على الطوف به «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 125» فيه، وفي هذه الآية دلالة على وجوب المحافظة على طهارة المساجد كلها لأن المعنى المراد من المسجد الحرام مراد في غيره من حيث إقامة الشعائر الدينية، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم إن البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. وهذا إذا كانت أرضه ترابا فقد يخرج البازق من إثمها بدفنها كفأفا، أما إذا كانت أرضه مفروشه، كما هي الحال في مساجدنا الآن، فيتعين إزالتها بالمسح بمنديل ونحوه، وإن لم يزل أثرها به فيتعين غسلها بالماء وإلا فلا يخرج من الإثم، هذا إذا كان بزاقا خالصا، أما إذا كان مشوبا بدم فيتعين على سبيل الفرض إزالته حتما لما فيه من التلويث بالنجس الموجب لبطلان صلاة من يصلي عليه ولو بعد يبسه كيف وقد رغب الشارع في تنظيفها حتى قال: (إن إخراج القمامة منها مهور الحور العين) وقالوا إن ما يؤذي العين يؤذي المسجد وإن تعظيمها واجب

وامتهانها حرام لأنها محل ذكر الله ولا يصح الاعتكاف إلا بها وإن حضرة الرسول حينما خرج للجبانة وقيل له إن هذا قبر فلانة قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم فصف الناس وصلّى عليها وهي في قبرها، وذلك مما يدل على زيادة احترام المساجد ومحترميها، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 37 من سورة النور الآتية ولبعض ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة الحج الآتية إن شاء الله «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا» البلد المحتوي على الكعبة «بَلَداً آمِناً» يأوي إليه الناس بسبب أمنهم فيه على مالهم وأنفسهم، لأنه لا زرع ولا ضرع فيه ولا شجر ولا كسب ليرغب الناس بسكناه فإذا لم يوجد فيه أمن لا يقصد ولا يجلب إليه شيء لتعذر المقام فيه «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» على اختلاف أنواعها، وقد أبدل من أهله «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ليخص بدعوته المؤمنين منهم فقط تأدبا مع الله عز وجل لأنه لما سأله أن يجعل النبوة في ذريته على الإطلاق قال له تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فكان بمثابة النهي له عن تعميم الدعاء ولذلك لم يجب دعوته لأن النبوة لا تكون إلا لخواص عباده، وهنا أجاب دعوته فيمن طلب ومن لم يطلب «قالَ وَمَنْ كَفَرَ» أرزقه أيضا لأنهم من جملة خلقي الذي تكفلت بإرزاقهم إذ لا يليق بي أن أخلق ولم أرزق، لأن الرزق يستوي فيه المؤمن والكافر ولكن من أصر على كفره «فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا» في هذه الدنيا «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» ألجئه وأرجه كرها «إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126» النار في الآخرة لإهلها. قال تعالى «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» أسس بنائه التي يرتكز عليها ودعائمه التي يقوم عليها «وَإِسْماعِيلُ» معه يعاونه على بنائه، فلما أكملاه قالا «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائنا «الْعَلِيمُ 127» بنيتنا «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» فيما نستقبله من أعمارنا كما مننت علينا من قبل «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» مؤمنة بك يا ربنا، منقادة لأوامرك. وقد أدخلا في دعائهما (من) التبعيضية للحكمة المارة في الآية قبلها «وَأَرِنا مَناسِكَنا» شرائع ديننا واعلام حجنا لهذا البيت «وَتُبْ عَلَيْنا» عما هفا منا وزلت به ألسنتنا

وأقدامنا «إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ» كثير الرجوع بالمغفرة على عبادك «الرَّحِيمُ 128» بهم، ولا حجة في هذه الآية لمن جوز صدور الذنب من الأنبياء، لأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه لا ينفك عن التقصير أحيانا بسهو أو غفلة أو بترك ما هو خلاف الأولى والأفضل، ولهذا قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) لا أنه من ذنب كذنوبنا، بل هو على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد بينا في سورة طه في الآية 121 ج 1 ما يتعلق في هذا البحث مفصلا فراجعه. قال تعالى «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ» في تلك الأمة المسلمة والجماعة المؤمنة المخلصة في إيمانها «رَسُولًا مِنْهُمْ» الضمير يعود إلى قوله (أَهْلَهُ) في الآية المتقدمة، وقد أجيبت دعوتهما، إذ بعث الله من ذرية ابنه إسماعيل محمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» يبلغهم كلامك الذي توحيه إليه «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» يبين لهم معانيه وحقائقه ودلائل التوحيد والنبوة والأحكام، وقد ذكر أولا التلاوة لأجل التلقي والدراسة والحفظ ليبقى مصونا عن التبديل والتحريف، ثم ذكر التعليم الموقوف على أسراره ومراميه «وَالْحِكْمَةَ» الإصابة بالقول والعمل للوقوف على مغازيه، إذ لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا اجتمع له الأمران لأنه إذا قال ولم يصب كان جاهلا، وإذا عمل ولم يصب كان أحمق، وإذا أخطأ فيهما كان أخرق، راجع الآية 269 الآتية «وَيُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب بما يتلوه عليهم، ويعلمهم أحكام دينه وشرائع سنته مما وافق سنة وشرع من قبله أو خالفهما، لأنهما الموافقان لعصره بإرادة الله تعالى وتشريعه لهم في الأزل، «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب القادر «الْحَكِيمُ 129» فيما تشرع لعبادك من الأوامر والنواهي الموافقة لحكمتك. وقد أجاب الله دعاءهما هذا كله، وأجمع المفسرون على أن المراد بهذا الرسول هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن هذا الدعاء وقع بمكة وإسماعيل عاش وتزوج ومات بمكة، وزوجته من عرب جرهم الذين أقاموا فيها كما مرت الإشارة لهذا في الآية 33 من سورة العنكبوت في ج 2، ولم يبعث من ذرية إبراهيم في مكة نبي بعد إسماعيل إلا محمد صلّى الله عليه وسلم. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لجندل في طينته (مطروح

[سورة البقرة (2) : الآيات 131 إلى 140]

فيها على وجه الأرض صورة لم تجر فيها الروح) ، وسأخبركم بأول أمري انها دعوة ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور بصرى الشام قال تعالى «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أعملها ولم يفكر في مصيرها وجهل ماهيّتها ولم يتدبر ما هي فأهلكها وخسرها وصدر هذه الآية يفيد التعجب أي كيف يرغب عنها ولاملّة تضاهيها، وهي مما يرغب فيها ويركن إليها لأن صاحبها خليل الله وخيرته من خلقه لقوله تعالى «وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا» على جميع أهلها الموجودين في زمنه وشرفناه بالرسالة لإرشادهم «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130» وفي هذه الآية تعريض لكل من يرغب عن الإيمان بمحمد، لأنه من ولد إبراهيم الذي تعظمه الشرائع والأمم أجمع، فالذي لا يرغب بدينه فقد رغب عن ملة إبراهيم التي جهّل الله تعالى كل من يصد عنها، وجعله سفيلا لا يعرف كرامة نفسه، ذليلا حقيرا سائرا في هوانه، وترغيب لمن يدخل في دينه الذي اصطفاه الله على سائر الأديان وجاءت هذه الآية ايضا بسياق ذكره عليه السلام في هذه الآيات دالّة على أن المقصود هو لا غير، وما قاله بعض المفسرين من أنها نزلت في عبد الله بن سلام حين دعا ولدي أخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام، وعرفهما ما جاء في حق محمد في التوراة (من أن الله تعالى يقول إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون) فآمن سلمة وأبى مهاجر، لا يصح لأن عبد الله نفسه لم يسلم بعد حتى يكلف ولدي أخيه، وهذه وقعت منه ولكن بعد إسلامه، راجع الآية 10 من سورة الأحقاف ج 2. وبعد نزول هذه الآية، ولا علاقة لهذه الآية فيهم كما سيأتي في الآية 47 من النساء الآتية «إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» أثبت على إسلامك الذي نشأت عليه وذلك أن الأنبياء كلهم ولدوا مسلمين، وهذا كان في حال صغره حين خروجه من السرب واجتماعه بقومه واستدلاله عليهم بالكواكب، كما مرّ في الآية 75 فما بعدها من سورة الأنعام ج 2 «قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ 131» وحده لا للكواكب والأصنام، إذ تبين لي أن الخالق لهم ولكل شيء هو الله الذي لا رب غيره وهو رب الكون أجمع.

مطلب وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام:

مطلب وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام: قال تعالى «وَوَصَّى بِها» بكلمة الإسلام هذه التي أمره بها ربه «إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» أيضا وصّى بها بنيه، والوصية آكد من الأمر لأنها تكون عند الخوف من الموت فيحتاط بها الإنسان الى ما هو أحوج، وقال كل منهما في وصيته لمن بعده «يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ» الحق الذي هو عبادته وحده والاعتراف والعمل بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه فتمسكوا به وأمروا به غيركم «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132» لله مخلصون له مصدقون بما آتاكم، واحذروا كل الحذر من المخالفة والتقصير بنصح الخلق فإنكم مسؤولون عنهم كما أنكم مسؤولون عن أنفسكم، ولما قال اليهود لحضرة الرسول إن يعقوب أوصى عند موته باليهودية فكذبهم الله تعالى بقوله «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ» حتى تقولوا أوصى بذلك كلا لم تكونوا ولم يوص، ثم بيّن لهم لفظ وصيته بقوله «إِذْ قالَ لِبَنِيهِ» الإثني عشر لما ذكرهم في الآية 7 من سورة يوسف فى ج 2 عند وفاته على طريق الاستفهام والاستخبار «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي» إذا أنا مت قبلكم «قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133» الآن وبعد وحتى نلقاه مخلصون له وحده، ثم توفي عليه السلام بعد أن أخذ عليهم هذا العهد بإقرارهم فمن أين تقولون أنه أوصى باليهودية يا أعداء الله وهو قد توفي على هذه الوصية، ولم تكن إذ ذاك يهودية، إذ كانت على عهد موسى، راجع الآية 156 من الأعراف في ج 1 فأعرض عنهم يا سيد الرسل وقل لهم «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ» من الخير في أقوالها وأفعالها، ونواياها «وَلَكُمْ» معشر أهل الكتاب «ما كَسَبْتُمْ» من العمل والقول والنية أيضا «وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 134» كما نحن لم نسأل عن عملهم لأن كلا يسأل عن عمله فقط، وقدمنا في الآية 26 من سورة العنكبوت في ج 2 مبدأ هجرة إبراهيم وإسكان ابنه إسماعيل في مكة شرفها الله، ونذكر الآن منها من آخر ما ذكرناه هناك كما وعدنا. قال فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل عليه السلام ليطالع تركته فلم

يجده، فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا، وفي رواية ذهب ليصيد لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئنهم، فقالت نحن بشرّ، نحن في ضيق وشدّة، وشكت إليه، فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، وذهب، فلمّا جاء إسماعيل ألقي فى روعه أن يسأل أهله كأنه آنس شيئا، فقال جاءكم أحد؟ قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، فقال هل أوصاك بشيء؟ قالت نعم، أمرني أن أقرئك السلام وأنه يقول لك غير عتبة بابك، قال ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى وكان الطلاق عندهم متعارفا، إلا أنه لم يحدد كما هو الآن، وسنأتي على ذكره في الآية 222 الآتية إن شاء الله، فلبث ما شاء الله أن يلبث ثمّ أتاهم فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه فقالت خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله بما هو أهله، فقال وما طعامكم؟ قالت اللحم، قال وما شرابكم؟ قالت الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه، قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وفي رواية فجاء فقال أين إسماعيل، فقالت امرأته قد ذهب يصيد ألا تنزل عندنا فتطعم وتشرب؟ قال ما طعامكم وشرابكم؟ قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم (قالوا فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم) قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال أتاكم من أحد؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، قال فأوصاك بشيء؟ قالت نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، فقال ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت درجته قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بالوالد (من المصافحة والتقبيل) .

مطلب بناء البيت وحدوده من جهاته وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه:

مطلب بناء البيت وحدوده من جهاته وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه: ثم قال يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال فأسمع ما أمرك به ربك، قال وتعينني؟ قال وأعينك، قال فإن الله أمرني أن أبني بيتا هاهنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة أي على ما حولها، فتحزبا على ذلك بكل حزم وعزم، وحضرا الأساس وطمخاه، وباشرا برفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) . وقيل إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم انزل اغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب. وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: قال عمر وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) الحديث. ورويا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى الى يوم القيامة، وانه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمته تعالى الى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه، فقال العباس يا رسول الله إلا الأذفر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال إلا الأذفر. ومن حرمة هذا البيت أنه لم يأته جبار يقصد خرابه إلا قصمه الله مثل صاحب القيل ومن قبله، أما الحجاج فإنه لم يأت بقصد خرابه بل لخلع ابن الزبير، ولم يتمكن من ذلك إلا برمي البيت بالمنجنيق، ولما حصل قصده

أعاد بناءه وشيده وعظم حرمته وأحسن الى أهله. ومكة هذه محرمة قبل إبراهيم عليه السلام بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض. وقوله تعالى (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله قبل إبراهيم عليه السلام، وكان الله تعالى ولم يزل يمنعها ممن أرادها بسوء ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات حتى بوأها إبراهيم وأسكن بها أهله، وسأل ربه ما سأل من إظهار تحريمها لعباده وفرض على الخلق ذلك. وحدود الحرم فيها من جهة طيبة طيب الله ثرى ساكنها ثلاثة أميال، ومن جهة الطائف سبعة أميال، ومن العراق عشرة، ومن جدة تسعة من قبل الجعرانة، وسبعة من اليمن، وسيأتي ما يتلعق بالحرم وما على المحرم إذا دخله في الآية 26 من سورة الحج الآتية وما على غير المحرم أيضا، وتفصيله على ما ينبغى في كتب الفقه فليرجع إليها من أراد الاستقصاء في ذلك. ومبدأ قصة بنائه على ما قالوا هو أن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء وعلى وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله آدم عليه السلام استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو من ياقوتة من بواقيت الجنة له بابان من زبرجد، ويقال زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي، وأنزل الله عليه الحجر الأسود وكان أبيض واسود من مس الحيّض في الجاهلية، فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكا يدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له يرحمك الله يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وقيل إن آدم عليه السلام هو الذي بناه على طراز البيت المعمور، وقد نظم الشيخ أحمد الكمسخاني أسماء من بنى الكعبة بقوله: بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم ... ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقة ملائكة الرحمن ثم آدم وابنه ... كذاك خليل الله ثم العمالقة

وجرهم يتلو قصي قريشهم ... كذا ابن زبير ثم حجاج لاحقه وخاتمهم من آل عثمان بدرهم ... مراد المعالي أسعد الله شارقه وقال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة. وهذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه. وبعث الله جبريل عليه السلام حتى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام فبناه على الصورة المار ذكرها. وقيل إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول، وذلك قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) الآية 27 من سورة الحج الآتية. قال ابن عباس بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودي، وقواعده من حراء، فلما بلغ موضع الحجر أراد حجرة تكون علما فيه فصاح جبل أبي قبيس إن لك عندي وديعة يا إبراهيم، وقذف بالحجر الأسود فوضعه بمكانه الآن. وسيبقى إن شاء الله معظما محترما يتبرك به الناس إلى اليوم الذي قدره الله لخراب الكون، لما ورد أنه يسلط عليه قوما من الحبشة ينقضونه حجرا حجرا ويطرحونه في البحر، وهذا أيضا من جملة حرمته حتى لا تمسه أيدي الكفرة النجسة. هذا، ويوجد سبع عشرة آية في القرآن مبدوءة بلفظ (تِلْكَ) أي بمثل هذه الآية قال تعالى «وَقالُوا» اليهود والنصارى يا أيها الناس «كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى» أي قالت اليهود كونوا أيها الناس يهودا، وقالت النصارى كونوا أيها الناس نصارى «تَهْتَدُوا» لأن كلا منهم يزعم أن دينه الحق وما سواه باطل ولم يعلموا أن دين اليهود عدل بما أنزل على النصارى ودين النصارى أبطل بما أنزل على المسلمين، ولم يبق على وجه الأرض دين حق إلا دين الإسلام، كما كان الحال في زمن إبراهيم، لهذا يقول الله لنبيه «قُلْ» لا تكونوا أيها الناس هودا ولا نصارى «بَلْ» تعالوا كلنا نتبع «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» المرضية عند كل الأمم التي جددها حفيده محمد عليه الصلاة والسلام وإن إبراهيم كان «حَنِيفاً» مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا كما يزعم اليهود والنصارى «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 135» كما

مطلب كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنها وتحويل القبلة وأن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة:

يزعم بعض كفرة العرب، وهذا هو الذي يرتضيه الله تعالى لا غيره، ومعنى حنيفا مائلا عن كل الأديان إلى دين الإسلام وعليه قوله: ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل دين مطلب كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنها وتحويل القبلة وأن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة: قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «قُولُوا آمَنَّا» كلنا أنا وأنتم ومن على وجه الأرض «بِاللَّهِ» وحده «وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الإثني عشر من الأحكام «وَما أُوتِيَ مُوسى» من التوراة «وَعِيسى» من الإنجيل «وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ» قبلهم من الوصايا «مِنْ رَبِّهِمْ» كزبور داود عليه السلام لأنهم كلهم على هدى منه يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه، وقولوا أيضا «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» كاليهود والنصارى وغيرهم بل نؤمن بهم كلهم ونصدق بما جاءوا به كله «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136» له بالعبودية مذعنون مخبتون خاضعون له بالعبادة «فَإِنْ آمَنُوا» هؤلاء المخاطبون «بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ» يا محمد أي بجميع الرسل والكتب «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الدين الحق مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن هذا الإيمان وأعرضوا عنه أو عن شيء منه «فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» خلاف عظيم وجدال كبير عداء بكم، وعنادا لكم، وحسدا بما أوتيتم، ومحاربة لله ورسوله، ونزاعا مع المؤمنين، وإذا تولوا ورضوا بما عندهم ولم يصغوا لإرشادكم، فاتركهم «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» بالقهر والغلبة عليهم والعزة والظفر لكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لما تريدونه منهم من الخير «الْعَلِيمُ 137» بمن يقبله منكم أو يرده عليكم. وهذه الآية ضمان من الله تعالى لرسوله بالنصر، وإظهار لكلمته عليهم، وهي من الإخبار بالغيب لتحققه بعد نزول هذه الآية بثلاث سنين، إذ غزا بني النضير بالسنة الرابعة من الهجرة. ونزول هذه السورة كان في السنة الأولى منها، وأجلاهم عن بلادهم، ثم غزا بني قريظة وسباهم وضرب

الجزية عليهم. واعلم أيها القارئ أن الإيمان على الوجه المذكور الجامع هو «صِبْغَةَ اللَّهِ» يظهره ويلبسه من يشاء من عباده فيعرف به كما يظهر أثر الصبغ على الثياب لأنه يتداخل في قلوبهم ويتغلغل فيها فيسطع نوره على وجوههم، قال تعالى (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) الآية الأخيرة من سورة الفتح الآتية، وتلك السيما (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) لعظمة الله تعالى نصبغته هي الصبغة المثلى، وقد جاء في الحديث الصحيح إن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في القلب فيظهر على الوجه «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» لا أحد البتة «وَنَحْنُ لَهُ» لذاته المقدسة وحضرته الكريمة مع الإيمان والإسلام على الصفة المارة الذكر «عابِدُونَ 138» طائعون مخلصون. وجاء الإيمان المحقق في صاحبه بلفظ الصبغة للمشاكلة، لأن النصارى كانوا ولا يزالون يعمدون أولادهم أي يغسلونهم بماء يسمونه ماء المعمودية يضعون فيه شيئا من الصفرة يزعمون أن عيسى عليه السلام تعمد بمثله، أو مطلق ماء يقدسونه بما يتلون عليه من آي الإنجيل الشريف، وقد يأمرون الحامل فتغتسل فيه ويعتقدون أنه طهرة المولود كالختان، ولا يغتسلون من الجنابة بعد ذلك ولا يختتنون أيضا، لزعمهم أن الاغتسال بماء المعمودية كافيهم عنها والحال أن الأمر ليس كذلك، فإن المعمودية أول من سنتها سيدنا يحيى عليه السلام، ولذلك يسمونه في كتبهم يوحنا المعمدان الذي ألمعنا لذكره في الآية 7 من سورة الإسراء والآية 7 من سورة مريم المارتين في ج 1، وهي عبارة عن أنه عليه السلام كان يدعو الناس إلى توحيد الله، وكلما دخل أحد في دينه أمره بالغسل ويأمره أن يأمر أهله وأولاده به، وهو الذي عمّد عيسى عليهما السلام لأنه قام بالدعوة إلى الله قبله وهو أكبر منه بستة أشهر، وابن خالته، وهذا الغسل هو سنة من سنن الإسلام، لأن كل من يدخل فيه ينبغي له أن يغتسل إشعارا بطهارته عما كان عليه من الرجس، لأن الإسلام يجب ما قبله من الذنوب مهما كانت، فإذا دخل فيه كان كيوم ولدته أمه، فهذا هو معنى المعمودية لا غير، وليس الذنب على المعمّدين بفتح الميم بل على المعمّدين بكسرها الذين يبينون لهم الأمر على خلاف ما هو عليه في الأصل، قال: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

[سورة البقرة (2) : الآيات 141 إلى 150]

قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يريدون أن يهوّدوا الناس أو ينصروهم زاعمين أن ما هم عليه من الدين بعد بعثتك هو الحق «أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ» وتجادلوننا فيه وتخاصموننا من أجله «وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» فنحن وأنتم فيه سواء، لأننا كلنا مربوبون له «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا أحد يستفيد من الآخر شيئا، ولا يثاب على عمله، ولا يعاقب، بل كل مسؤول عما يفعل، فله ثوابه وعليه عقابه «وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ 139» بالقول والعمل إسلاما وإيمانا، وقد نسبتم إليه يا أهل الكتاب الولد، وأنتم أيها المشركون عبدتم غيره، ومنكم من جعل الملائكة بناته، تعالى عن ذلك وتقدس، وقد علمتم أن الدين المرضي هو الذي يأمركم به أنبياؤكم قبلا، الذي منه متابعة محمد عند بعثته. نزلت هذه الآية عند ما قال أهل الكتاب لحضرة الرسول إن ديننا أقدم من دينكم والأنبياء كلهم منا ونحن أولى بالله منكم، قال تعالى «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى» في زعمكم كلا لم يكونوا كذلك، وزعمكم هذا باطل لا يستند إلى كتاب أو كلام رسول، فإن لم يذعنوا لقولك «قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ» أعلم بما كانوا يدينون به كيف وقد أخبر بأنهم كانوا مسلمين، فلما قال لهم ذلك وعلموا أنه الحق لما عرفوه من كتابيهم سكتوا وخرسوا، «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ» وذلك أنهم يعلمون مما في كتبهم أن إبراهيم وولده كانوا مسلمين، وأن محمدا من ذريته، وأنهم وإن عملوا ما عملوا من الكتم والإخفاء، فإنه لا يؤثر في الحقيقة الواقعة، «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 140» إن أنتم أغفلتم هذا وكتمتموه، فالله تعالى مطلع رقيب ناظر على جميع أعمالنا وأعمالكم، وهي محصية عنده وسيجازينا عليها الخير بأحسن منه والشر بمثله. قال تعالى «تِلْكَ أُمَّةٌ» أمة إبراهيم وولده «قَدْ خَلَتْ» ومضت وقد أحصي عملها «لَها ما كَسَبَتْ» من الثواب «وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ» من العقاب «وَلا تُسْئَلُونَ» أنتم «عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 141» تقدم مثلها حرفيا وكررت لاختلاف مواطن المجادلة التي يحسن فيها التكرار للتذكير والتأكيد.

قال تعالى «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ» الجهلة خفيفو العقول قليلو الروية «مِنَ النَّاسِ» بعد نزول آية تحويل القبلة «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» عند مجيئهم إلى المدينة، وأي شيء صرفهم عنها وهي قبلة جميع الأنبياء؟ «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المعترضين «لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» وما بينهما فما كان منها قبلة كان بجعل الله تعالى، وهو الذي «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 142» ومن هذه الهداية التوجه إلى الكعبة بعد البيت المقدس لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام. وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) إلى آخر الآيات. وفي رواية أبي اسحق وعبد بن حميد وأبي حاتم عنه بزيادة، فأنزل الله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) إلخ الآيات، وهذا أليق بالمقام، وفيه ردّ لقول القائل إن قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن قوله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) إلخ، على أنه لا مانع من القول بنزولها قبلها لأنها جاءت بلفظ الاستقبال، فهي من قبيل الإخبار بالشيء قبل وقوعه كسائر المغيبات التي أخبر الله تعالى بها رسوله قبل نزولها، وإنما غاظ اليهود تحويل القبلة وأزعجهم جدا لأنهم يرون ذلك قصدا لمخالفتهم، حتى أنهم عمدوا إلى تخريب مسجد الرسول وحرضوا بعض الناس على تخريب الكعبة الشريفة، كما ألمعنا إليه في الآية 114 المارة، إذ كان نزولها وقت الأمر بتحويل الكعبة، وقد أخبر الله تعالى في هذه الآية عما صاروا يقولونه بينهم من أجل ذلك، وقد ذكرنا بعض هذا في الآية 115 المارة، لأن حضرة الرسول منذ دخل المدينة كان يحب التوجه إلى الكعبة، ولكنه لم يستبد بشيء يريده، إلا أن يقترن بأمر الله وإرادته، وكان في استقباله لبيت المقدس قرب لاستمالة اليهود إلى الإيمان به وتصديقه، لأن وصفه مذكور في كتابهم وعضّده التوجه لقبلتهم، ولكنه لم يزدهم ذلك إلا إنكارا وتعنّتا وحسدا وعنادا، فلما أمره الله بالتوجه للكعبة صاروا يتقولون بما تسوّله لهم أنفسهم الخبيثة من أن محمدا ما ترك

قبلتهم إلا حسدا لعلمه أنهم على الحق وأن دينهم أعدل الأديان. قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما جعلنا شريعتكم وسطا بين شريعة موسى وعيسى، لأن الأولى في غاية من الشدة والثانية في نهاية اليسر، فكانت بين الصعوبة والسهولة جعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب أي بين قبلتي اليهود والنصارى، لهذا «جَعَلْناكُمْ» يا أمة محمد «أُمَّةً وَسَطاً» لأنكم خير الأمم. وجاء في الخبر: خير الأمور أوساطها. قال زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وإنما جعلناكم أمة وسطا يا أمة محمد «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» يوم القيامة في المشهد العظيم بأن الرسل بلغوا أممهم ما أرسلهم الله به «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» بأنكم آمنتم به وصدقتموه. ونظير هذه الآية الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية. قال بعض المفسرين شهيدا بمعنى رضيّا، إذ لو كان القصد الشهادة لقال لكم، لأن الشهادة لهم لا عليهم والشهادة للنفع تتعدى بإلى وبالضر بعلى، وهو وجيه من حيث اللغة، ولكن الأول أولى لمناسبة المقام، فإن الرسل تشهد على أممها بالخير والشر لا بالخير فقط ليحسن القول بذلك فضلا عن أن حروف الجر تخلف بعضها، تدبر. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟ فيقول نعم أي وربي، فيسأل أمته هل بلّغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ الآية، زاد الترمذي وسطا عدولا. واعلم أن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الوقف والموت وغيرهما مما هو مبين في كتب الفقه، ولما كانت هذه الأمة سمعت من رسولها الصادق ما قصه عليها من أخبار الأمم وهو حقّ لا مرية فيه جاز لهم أن يشهدوا على الأمم بالتبليغ من قبل رسلهم، وهذا أقوى من المشاهدة لأن البصر قد يخطىء، وحضرة الرسول لا يخطىء وهو منزه عن الخطأ بالتبليغ، ومن هذا شهادة خزيمة رضي الله عنه التي عدها الرسول بشهادتين، لأنه كان جازما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، فشهد على ما أخبره به وسمي ذا الشهادتين.

«وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها» وهي صخرة بيت المقدس متروكة وأمرناك باستقبال الكعبة «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» اتباعا جازما سالما من الشك والشبهة، فيراه الناس ويميزونه عن الغير، وإلا فهو عالم بذلك قبل وقوعه مما هو موافق لما عنده في الأزل لا عبثا ولا لعبا، أي ليعلمه الناس كما هو معلوم لدينا «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» ويظهر مخالفته لنا ولك علنا ويجاهر بمخالفتك «وَإِنْ كانَتْ» تولية القبلة «لَكَبِيرَةً» ثقيلة شاقة على الناس، لأن كل شيء خالف المألوف تستصعبه النفوس «إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» فإنهم لا يرون فيها كافة بل يرونها يسرة سهلة لما فيها من اتباع رسولهم وأمر ربهم، فيتلقون كل ما كان كذلك بطيب نفس ورغادة بال ورغبة واشتياق وسرور. وهذه الجملة نظير الجملة المارة في الآية 45 بشأن الأوامر المارة فيها لقوله فيها (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ولما قال حبي بن أخطب وأصحابه من اليهود إلى المؤمنين إن كانت صلاتكم إلى بيت المقدس هدى فقد تحولنم عنها وإن كانت ضلالة فكيف بمن مات منكم عليها، فأنزل الله «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» صلاتكم باستقبالكم القبلة السابقة لأنكم إنما استقبلتموها بأمر الله طاعة له ولرسوله، فإن صلاتكم إليها مقبولة مأجور عليها، كما أن استقبالكم البيت الحرام بأمر الله طاعة له ولرسوله مقبولة ومأجور عليها، وإنما سميت الصلاة إيمانا لاشتمالها عليه «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ 143» كثير الرحمة والرأفة بهم، لا يضيع عملا عملوه بأمره وإرادته، ولا يهدر ثوابه، كما أن من كان يتعبد على شريعة موسى، ولما بعث عيسى تبعه، ومن كان يتعبد على شريعة موسى وعيسى وعند بعثة محمد تبعه فتعبد على شريعته، فهو مأجور بكل منهما يثاب على الأخيرة كما يثاب على الأولى، فكل ما كان الإقدام عليه بأمر الله تعالى والانصراف عنه بأمره مثاب عليه، لأن القصد الامتثال. واعلم أن الفرق بين الرأفة والرحمة هو أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، ولذلك حسن ورودها هنا، لأن الكلام فيمن مات وهو يستقبل في صلاته بيت المقدس، والرحمة اسم جامع لذلك المعنى وغيره في جميع الأقوال والأفعال من الإنسان والأنعام وغيرها. ثم بين جل شأنه العلة

في إنزال الأمر بتحويل القبلة كما هو ثابت في سابق علمه، فقال «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» تحبّها يا سيد الرسل وتميل إليها لأنها قبلة أبيك إبراهيم، وكان صلّى الله عليه وسلم يتشوق إليها ويقول لجبريل وددت لو أن الله حولني إلى الكعبة، فيرد عليه بأني عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فاسأله ذلك، ولكنه لا يسأله تأدبا، لأن علمه بما في قلبه كاف عن سؤاله، وكان صلّى الله عليه وسلم يتأذى من قول اليهود أن محمدا يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، وهذه الجملة حكاية حال حضرة الرسول قبل تحويل القبلة، إذ كان يود بقلبه ويرمق بطرفه إلى السماء رجاء نزول الوحي إليه بذلك، وقد كان في مكة يستقبلها، ولهذا خاطبه ربه بقوله «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» جهته في مكة المكرمة «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ» أيها المؤمنون «فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» نحوه وتجاهه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من هؤلاء الذين يعترضون وينتقدون «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ» التوجه إلى الكعبة هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» لما هو مدون في كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين، ولعلهم أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم عليه السلام، ثم هددهم بقوله «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 144» من إنكاركم فيما يتعلق بأمر القبلة ومعارضتكم إلى محمد وأصحابه فيما هو حق ثابت عندكم، وانه لا بد مجازيكم على عنادكم وتعنتكم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة، ثم قالت اليهود يا محمد ما هذا إلا شيء ابتدعته من نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة، فلو ثبت على قبلتك لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي تنتظره، فأنزل الله «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» كعبة البيت الحرام ولا طريقتك التي أنت عليها «وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ» مهما قالوا لك ومنّوك به من اتباع وسلوك طريقتك، لأنهم يكذبون

في قولهم كله سواء باتباعك القبلة وغيره، لأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، فضلا عن الكلام «وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ» فلا اليهود تتبع النصارى في قبلتهم، ولا النصارى تتبع اليهود في قبلتهم أبدا، كما أن كلا منهم لا يتبع قبلتك هذه ما داموا على يهوديتهم ونصرانيتهم «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» الفاسدة، وهذا على طريق الإرهاب والتهيج ليزداد تثبيتا في حقه وتحذير للسامعين من متابعة الهوى كما أشرنا إليه أواخر سورة القصص فى ج 1 والآية 64 من سورة الزمر ج 2، «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» في بطلان أهرئهم «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ 145» وهذا محال عليه صلّى الله عليه وسلم، لأنه مقطوع له بأنه لا يتبع أهواءهم وهو معصوم من كل مخالفة، ولكن هذا مراد به غيره على حد (إياك أعني واسمعي يا جاره) كما أشرنا إليه في الآيات من القصص والزمر وغيرها. قال تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» تقدم تفسيرها في الآية 20 من سورة الأنعام ج 2، وأوردنا عليه ما قاله عمر ابن الخطاب إلى عبد الله بن سلام وما رد عليه فراجعه، وأشرنا إلى عبد الله هذا في الآية 10 من سورة الأحقاف ج 2 أيضا، «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 146» أنه حق لا جهلا بل عنادا وحسدا. واعلم يا محمد أن الذي أنت عليه وأصحابك هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فاثبت عليه وامر من اتبعك بالثبات عليه، فإنه هو الثابت عند الله «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 147» فيه أبدا وهذه أيضا من قبيل تلك الآيات لأنه لا يمتري ولا يشك في شيء جاء من ربه. قال تعالىَ لِكُلٍّ» من عباده ومخلوقاتهِ جْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها» لهم وموجههم إليهاَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» أيها المؤمنون وبادروا بفعلها. واعلموا أنكمَ يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» أنتم وأهل الكتاب والمشركون والمجوس والصابئون مؤمنكم وكافركمِ نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 148» لا يصعب عليه شيء وأهون عليه جمع ما تفتت من أجزائكم واضمحل من أسلافكم في البرّ والبحر أو الهواء. وفي هذه حث على التسابق لأعمال الخير والأولوية والأفضلية في الطاعات، وتحذير لمنكري البعث والمعترضين على أعمال الله

تعالى القائل «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ» التوجه إليه «لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 149» كرر هذه الجملة تأكيدا للتهديد وتشديدا للتحذير ليكفوا عما يقولون في شأن القبلة وغيرها مما أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلم «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» سواء كنتم في بر أو بحر بعيدا أو قريبا. واعلم أن قائدة هذا التكرار هو أن الحادثة جاءت على خلاف ما يعهده اهل الكتاب في الرسول بعد مجيئه إلى المدينة وهو أول أمر وقع في تبديل القبلة لئلا يخطر بمال أحد أن الأمر بالتوجه هو لأهل المدينة خاصة أو لأهل مكة خاصة فاحتاج الأمر للتأكيد بالتكرار تقريرا له وإيضاحا لبيانه وإزالة لكل شبهة فيه وردا لاعتراض كل معترض وهو في الواقع رجوع إلى ما كان يستقبله حضرة الرسول من بداية أمره إلى وصوله إلى المدينة، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وأن قريشا مع كفرهم وإشراكهم يستقبلونها عند ما يدعون الله ويتضرعون له في النوازل، وكان استقباله بيت المقدس عند وصوله المدينة بأمر الله تعالى اتباعا لأمره الأزلي في لوحه المحفوظ بأن نبي آخر الزمان يستقبل إليه بعد استقباله الكعبة ثم يعود إليها ليكون أقرب الى تصديق اليهود وأجلب لميلهم، كما أشرنا إليه آنفا. واعلم أن هذا التحويل لا يسمى نسخا بالمعنى المراد بالنسخ، إذ لا يوجد في القرآن ما يدل على أن النبي وأصحابه كلفوا أن يستقبلوا الكعبة. والنسخ الذي يريدونه هو رفع حكم ثابت في القرآن مقدم بنص لا حق ضده متأخر عنه، ولا يوجد في القرآن نص مقدم باستقبال الكعبة فلا معنى إدا للقول بالنسخ ولا قيمة لقول من قال إن تغير القبلة أول واقعة ظهر النسخ فيها في شرعنا، تأمل «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» يحتجون بها بأن هذا مخالف لما في التوراة على ما يزعمه اليهود، لأنك صليت إلى قبلتهم، ولئلا تحتج قريش بأنك كيف تدعي دين إبراهيم وتصلي إلى غير قبلته، أما ما تقوله قريش بأن محمدا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا لما علم أنها الحق، لأنها قبلة أبيه إسماعيل عليه السلام، فذلك قولهم بأفواههم، ولا يقوله إلا ذو العناد منهم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 151 إلى 160]

وقد أطلق على قول المعاندين الجاهلين لفظ حجة لأنهم يسوقونها مساق الحجة اشتقاقا من حجه إذا غلبه، ولا يعلمون أن الحجة كما تكون صحيحة تكون فاسدة، وقد تسمى حجة وهي باطلة. «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» استثناء متصل، أي لا حجة لأحد عليكم في استقبال الكعبة إلا حجة المتوغلين في اليهودية لكونها مخالفة لما في التوراة مع أنها موافقة لها وهم يكتمون ما فيها من الحق، وقد نص فيها على تحويل القبلة كما نص فيها على صفات الرسول. وحجة قريش من الرجوع إلى قبلتهم واهية لأنها قبلة حضرة الرسول بطريق الإرث لا قبلتهم، فظهر أن كلا منهم مبطل في دعواه ويحاول بالباطل ظلما وعدوانا «فَلا تَخْشَوْهُمْ» فيما يطعنون بكم من الأكاذيب المختلفة «وَاخْشَوْنِي» وحدي أنا الله الذي أحق بأن يخشى منه لأظهركم عليهم، «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ» بهدايتكم لما فيه خيركم وصلاحكم «وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 150» لكل ما فيه نفعكم وإكمال نعمكم. نزل أمر تحويل القبلة يوم الإثنين في منصف شهر رجب الحرام السنة الثانية من الهجرة. أو النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي الظهر في مسجد بني سلمة وكان قد صلّى ركعتين فتحول في الثالثة إلى جهة الكعبة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وقبل كان التحويل بعد الصلاة إذ يفهم من هذا الحديث أن الوحي نزل عليه بتبديل القبلة وهو في الصلاة، تدبر. ووصل الخبر إلى أعل قباء في صلاة الصبح، وقدمنا نص الحديث فيه في الآية 147 ونوهنا بالآية 115 المارتين ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. الحكم لشرعي وجوب استقبال عين القبلة لتمسكي الشاهد، لها ولجهتها لغيره، ورخص المراكب النقل على ظهر دابته متجها تلقاء سمته، وتقدم الحديث في هذا أيضا في الآية 115 المرة أيضا، ويسنّ استقبالها في الوضوء والدعاء والقعود، ويكره حال لأخبثين وعند كشف العورة، ويكره لولي الصغير أن يقبله نحوها حال التغوط أو البول كما يحرم إلباسه الحرير وتحليه بالذهب والفضة. هذا، ولما كان هذا من إتمام نعم الله على المؤمنين أردفها بكاف التشبيه فقال «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ

مطلب آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد:

ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ 151» كما أتممت عليكم النعمة بالإسلام والقبلة أتممتها عليكم بأن جعلت رسولكم منكم لأن خير الأمم من كان أميرها منها لأنها لا تذل بحكمه بخلاف المتسلط عليها من غيرها فقيه الهوان والصغار «فَاذْكُرُونِي» أيها الناس «أَذْكُرْكُمْ» عند مهماتكم وإفزاعكم ولا تغقلوا عن ذكري ومجدّوني دائما وعظموني لذاتي أحفظكم وأزدكم. مطلب آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. وهذا من أحاديث الصفات التي جعل السلف الصالح تأويلها ظاهر لفظها، وأوله الخلف بأن المراد بالقرب القرب من رحمته وألطافه وبره وكرمه بإحسانه ومواهبه، وكلما ازداد العبد بما يقربه منه من أعمال الخير زاده الله تعالى من ذلك، لأن القصد من الشبر والباع والذراع والهرولة والمشي والقرب استعارة ومجاز، إذ يستحيل إرادة ظاهرها على الله تعالى، لأنه منزه عما هو من شأن خلقه. وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 30 من سورة ق والآية 4 من سورة طه في ج 1 والآية 178 من سورة الأنعام والآية 65 من سورة الزمر في ج 2 فراجعها وما ترشدك إليه من المواقع. ورويا عنه: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه. ورويا عن أبي موسى الأشعري: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، كمثل الحي والميت. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سبق المفردون، قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. أي الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا فيه وحدهم، أو الهرمى الذين ذهب أقرانهم من الناس وبقوا وحدهم يذكرون الله تعالى. ولهذا جاء في تأويل المفرّدين بأنهم هم الذين اهتزّوا في ذكر الله والذين تفقهوا واعتزلوا الناس والذين اختلوا بمراعاة الأمر والنهي. ثم أردف الذكر بطلب الشكر

فقال جل قوله «وَاشْكُرُوا لِي» أيها الناس على ما غمرتكم به من النعم «وَلا تَكْفُرُونِ 152» بجحود شيء من نعمي عليكم فتحرموها. قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية 7 من سورة إبراهيم في ج 2، وقال صلّى الله عليه وسلم: اشكروا النعم لا تكفروها فإنها إن زالت فهيهات أن تعود. فاحفظوها عباد الله بدوام شكرها لئلا تسلب منكم وتقطع عنكم ولا أشد على المرء من زوال النعم بعد أن اعتادها، حفظنا الله ووقانا وإلى شكره هدانا، ومن زوال نعمه حمانا. واعلم أيها العاقل أنه كما يجب شكر الله على نعمه يجب شكر خلقه على نعمهم عليك، قال صلّى الله عليه وسلم: أشكركم للناس أشكركم لله. وأن تخص بالشكر والديك على نعمة التربية، قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 13 من سورة لقمان ج 2 وقال تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) الآية 23 من سورة الإسراء ج 1، وقد أسهبنا البحث في هاتين الآيتين في بحث الشكر فراجعهما. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ 153» بالمعونة والثبات والنصر والأعمال والمطالب والنيّات وكل ما تعذرت به الحقيقة من آيات الصفات وأحاديثها وشبهها يصار فيها حتما إلى المجاز لأن هذه المعية لا يعلمها غيره تعالى، ونؤوّلها بالمعونة منه على عباده ومساعدتهم على أمورهم والقيام بحقوقهم، ولما صارت واقعة بدر في 27 رمضان السنة الثانية من الهجرة واستشهد فيها ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار قال المنافقون ماتوا وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذّتها، فأنزل الله جل جلاله «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ» قولوا «أَحْياءٌ» حياة طيبة أحسن من حياتكم أيها الناس، لأنهم لا يزالون وإلى الأبد يذكرون بأنهم استشهدوا في طاعة الله ورسوله لإعلاء كلمة الله والذب عن أوطانهم وأعراضهم وإظهارا لأمر رسولهم على أعدائهم، وإنما نهى الله تعالى عن القول بأنهم أموات لئلا يتساووا في هذا الاسم مع غيرهم الذين قتلوا في سبيل الشيطان وعداوة أهل الإيمان، لأنهم لا يذكرون إلا بالشر، فهؤلاء أموات مادة ومعنى وإن كانوا أحياء، وأولئك أحياء مادة ومعنى وإن كانوا أمواتا، وحياتهم بعد الاستشهاد كناية عن بقاء

مطلب في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة:

ذكرهم الحسن عند الناس وتنعم أرواحهم في الخير عند الله، ويطلق على من لم يزل ذكره جاريا بين الناس أنه حيّ مجازا، فهم أحياء عند الله بالمعنى الذي يريده، «وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ 154» أيها الناس بكيفية حياتهم عنده، وإنما هو وحده يعلمها. قال الحسن إن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليها الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون فيصل إليها الوجع والجزع. قال تعالى «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» أيها الناس «بِشَيْءٍ» نكره تعظيما لعظمه على حصول القوت خلقه ثم بينه بقوله «مِنَ الْخَوْفِ» من العدو وقلة الأمن «وَالْجُوعِ» بتعذر «وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ» بخسران التجارة وهلاك قسم من رؤس الأموال والزروع والضروع «وَالْأَنْفُسِ» بالموت أو القتل أو الغرق والحرق والتردي «وَالثَّمَراتِ» بعدم بلوغ الزروع وإدراك نضج الفواكه وتسليط الآفات الأرضية والسمائية عليها، فيحصل النقص في جميع الحبوب والخضر والفواكه والأموال والأولاد والحيوان. وتطلق الثمرات على الأولاد أيضا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات ولد العبد قال تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي، قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده، قالوا نعم، قال فماذا قال عبدي، قالوا حمدك واسترجع، قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. ويدخلون في معنى الكسب أيضا لما ورد وولد المرء من كسبه. مطلب في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة: ثم ذكر جل شأنه ما من شأنه أن يتسلى به المصاب فقال «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155» على تلك البلايا الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» من تلك المصائب أو غيرها «قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156» فلم يجزعوا منها ولم يفزعوا لغيره لأنهم عرفوا أنهم وما يملكون بتصرف الإله المتصرف بهم وبما يملكونه بما شاء، وليس لأحد أن يعارض المالك إذا تصرف بملكه «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157» يهدي الله، المسترشدون برشده. قال عمر الفاروق رضي الله عنه: نعم العدلان الصلاة والرحمة، ونعمت العلاوة الهداية. ويفيد عطف

الرحمة على الصلوات أن الصلاة من الله رحمة وزيادة، ولذلك عطف عليها من عطف العام على الخاص. وروى مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون الآية اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها. وقيل ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة. يعني الاسترجاع عند المصيبة، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ولم يقل يا أسفا على يوسف. والحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء أن العبد إذا علم أنه مبتلى وظنّ نفسه على الصبر فإذا نزل به البلاء لم يجزع ويكون أشد إخلاصا منه في حال الرخاء، فيداوم العبد على التضرع والابتهال إلى الله لينجيه ممّا يترقب نزوله. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه أي يبتليه بالمصائب ليثيبه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال صلّى الله عليه وسلم ما يصبب المؤمن من نصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله عنه بها خطاياه. ورويا عن عبد الله: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها. ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل المؤمن كمثل لزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصببه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجر الأرز لا تهتزّ حتى تحصد. وفي لفظ آخر حتى تنقعر. وهو شجر معروف في لبنان يعمّر كثيرا حتى قيل إنه يوجد منه من زمن المسيح عليه السلام، أما الرز المعروف فهو داخل في الزرع. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا إلا الجنة. فهذا كله وأمثاله عند الله تعالى للصابرين، وليس للجازع إلا الخيبة إذ تصير مصيبته اثنين هي وضياع أجرها، وليعلم العبد أن الله تعالى إذا أراد به خيرا عجل عقوبته في الدنيا بإحدى المصائب، وإذا أراد به شرا استدرجه فأملى له في الدنيا ليشدد عذابه في العقبى. قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 35 من سورة الأنعام في ج 2، فيظنون أن ما هم عليه حسن فيستزيدون منه حفظنا الله من غضب الله. وليعلم العبد أن عظيم الجزاء

مع عظيم البلاء، وإذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى وذلك الثواب، ومن سخط فله السخط والعذاب والعقاب، وحينما يرى الرجل يوم القيامة ما للمبتلين عند الله من الكرامة، يود لو قرضت أعضاؤه في الدنيا بالمقاريض رغبة فيما أعده الله لهم. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة. وقال سعد بن ابي وقاص: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (أي الأولياء والعلماء والصالحين) يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة- أخرجه الترمذي-. فهذه هي التسلية الشرعية الشريفة، وهذا هو العزاء الحسن، وبهذه الطريقة ينسى الحبيب حبيبه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. والصبر هو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى، وعلى تحمل المشاق في العبادات وسائر الطاعات، وتجنب الجزع والمحظورات عند المصيبة، وقدمنا في الآية 34 فما بعدها من سورة المؤمن في ج 2 والآية 35 من سورة فصلت ما يتعلق في هذا البحث فراجعهما، وقد جاء في الخبر عن سيد البشر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش- أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود-. وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك وأخرج مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا عنه ما بمعناه. وإذا علمت هذا وأيقنت به فاعلم أن الشهداء أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتا من جهة مفارقة الروح البدن، أو أنهم أحياء عند الله تعالى في عالم الغيب لأنهم صاروا إليه، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية 89 من سورة الإسراء ج 1 بصورة مفصلة فراجعها. ومن عرف قدرة الله لا يشك في ظاهر هذه الآية، لأنه تعالى قادر على أن يصير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكل ويشرب في الجنة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 170 من سورة آل عمران الآتية إن شاء الله. هذا، ولما أشار الله تعالى في الآية المتقدمة إلى الجهاد أعقبها ببيان بعض معالم الحج

مطلب في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم:

لما بينهما من المناسبة في مشقة النفس وتلف المال ولا سيما ذكر الصبر لأن كلّا من الجهاد والحج محتاج إليه لعلاقتهما في ذكر المناسك المتقدمة في دعوة إبراهيم عليه السلام. مطلب في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم: قال تعالى «إِنَّ الصَّفا» الحجر الأملس «وَالْمَرْوَةَ» الحجر الأبيض اللين وهما علمان لموضعين معروفين بمكة، وقيل إن صفي الله آدم عليه السلام جلس على الأول فسمي الصفا، وجلست امرأته على الثاني فسمي المروة وهما «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» وإعلام دينه وكل شيء معلم لقربان يتقرب به إلى الله من صلاة ودعاء وذبيحة، فهو شعيرة من شعائر الله ومشاعر الحج معالمه الظاهرة، فكل من المطاف والمنحر والموقف والمرمى من شعائر الله تعالى أي مناسكه في الحج، وقد جعلها الله أعلاما لطاعته «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ» بالعمرة وهي الزيارة إلى الكعبة في غير موسم الحج أو فيه معه أو دونه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» بسعى بين الصفا والمروة أي الجبلين الواقعين في طرفي المسعى تجاه البيت الحرام «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» فعل فعلا زائدا على ما أوجبه الله عليه من الصلاة والصدقة والصيام والحج والعمرة والطواف وسائر أنواع الطاعات والقربات «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ» لطاعته مثيبه عليها «عَلِيمٌ 158» بحقيقة نيته فيها وإنما قال تعالى من شعائر الله لأن للحج شعائر أخرى سنأتي على ذكرها عند قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) في الآية 196 الآتية إن شاء الله. وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري ومسلم عن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة، زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنيين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله هذه الآية. وهذا هو سبب الكراهة الواردة في

الحديث، وعلى هذا وما جاء في سبب نزول الآية الأولى يفهم أن هاتين الآيتين نزلنا قبل فرض الجهاد وفرض الحج، لأن غزوة بدر بعد الأمر بالقتال وتكسير الأصنام بعد فتح مكة، وكلاهما لم يقع بعد. الحكم الشرعي وجوب الطواف بين الصفا والمروة، ويجب بتركه دم، وهو ليس من أركان الحج، وان قوله تعالى لا جناح عليه وإن كان يصدق على أن لا إثم على فعله فيدخل تحته الواجب والمباح والمندوب، وظاهر الآية لا يدل على الوجوب وعدمه، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين هذه الأقسام الثلاثة لا يدل على خصوصية أحدها، بل لا بد من دليل خارج بدل على النص هل هو واجب أم لا. وهاك الأدلة على وجوبه، فقد روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شبية قالت: أخبرتني حبيبة بنت أبي نخراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى ومئرزه ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبته، أي أنها لم تر ركبته، وإنما أرادت المبالغة من شدة سعيه ودوران إزاره بسببه، قالت وسمعته يقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي، وصححه الدارقطني وإذا صح فهو المذهب الحق. وروى مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع من حديث طويل قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أبدا بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا الحديث. وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم أرأيت قول الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة، وكان مناة اسم صنم حذو (قديد) [موضع معروف على طريق المدينة مر به صلّى الله عليه وسلم عند هجرته ورأى فيه أم معبد وأظهر على يده معجزة حلب النعجة التي لا حليب فيها] وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة (للسبب المتقدم وهو وجود الصنمين عليهما) فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فثبت من هذا كله وجوب السعي بينهما في قول الرسول وفعله وأمره.

وقد قال تعالى (وَاتَّبِعُوهُ) الآية 158 من سورة الأعراف ج 1، وقال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم: خذوا عني مناسككم. والأمر للوجوب ولقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 113 من سورة التغابن الآتية، وما بعد هذه الأدلة القاطعة من دليل، وليعلم أن التمسك بقوله تعالى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) ضعيف لعدم اقتضاء المراد من هذا التطوع أنه هو الطواف كما تقدم. ولما سئل علماء اليهود وأحبارهم عن آية الرحيم كتموها وأنكروا وجودها في التوراة كما أنكروا نعت الرسول أنزل الله تعالى قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ» المنزل قبل القرآن على اليهود وهو التوراة المقدسة «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ 159» من جميع خلقه ويستمروا على لعنهم ما داموا كاتمين لذلك «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» وطهّروا أنفسهم بالصدق والتصديق «وَبَيَّنُوا» ما كتموه واعترفوا به «فَأُولئِكَ» القائمون بهذه الشروط الثلاث «أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» وأقبلهم وأغفر لهم ذنوبهم السابقة وأكفر خطاياهم كلها «وَأَنَا التَّوَّابُ» لمن رجع إليّ كثير الرأفة به «الرَّحِيمُ 160» به فلا أعاقبه على ما سلف منه مهما كان، وهذه الآية وإن كان نزولها بمن ذكر فهي عامة في كل من يحذو حذوهم إذ لا مانع من شمول معناها لكل من يكتم شيئا مما أنزل الله سواء في التوراة أو إنجيل أو القرآن من أمر الدين والدنيا من مبدأ الكون إلى نهايته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: هذه الآية وآية (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ. الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) الآية 188 من آل عمران الآتية. الحكم الشرعي: يجب على العالم بشيء من أمور الدين الإجابة عند السؤال عنه وهو وجوب عيني، ويجب عليه وجوبا كفائيا إظهار علوم الدين للعامة والخاصة بأن يتصدر لها ويبثها بينهم إذا كان لا يوجد في المحل الذي هو فيه عالم غيره وإذا وجد فعلى أحدهم، فإن قام بذلك سقط الإثم عن الكل، وإلا فكلهم آثم. وهكذا حكم كل وجوب كفائي كغسل الميت والصلاة عليه ودفنه. قال تعالى

[سورة البقرة (2) : الآيات 161 إلى 170]

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 161» في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى «خالِدِينَ فِيها» أي النار المستفادة من اللعن الذي هو طرد من رحمة الله «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» فيها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ 162» يمهلون ليعتذروا ولا يؤجلون لوقت آخر. الحكم الشرعي: أجمعت العلماء على عدم جواز لعن كافر بعينه، وكذلك العاصي المعين والفاسق لعدم علم حاله عند الوفاة، فلعله يموت على الإيمان بسبب توبة يحدثها، وقدمنا في الآية 39 من سورة الأعراف ج 1 أن العبرة لآخر العمر وخاتمته لا لأوله ووسطه، راجع هذه الآية والآية 103 من سورة الأنبياء في ج 2، ويجوز لعن الكفار والظلمة والفسقة والعصاة على العموم. قال تعالى (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية 44 من سورة الأعراف ج 1، وقال صلّى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها، إذ كان مطلقا لم يخصّ به أحدا معينا، فتقع على من يستحقها. هذا وما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده ولعن الله الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ومن غير منار الأرض ومن انتسب لغير أبيه، فكله مطلق، لأن المحلى والمضاف لا يتقيد بل يعم الأفراد كافة، فمن هذا الوجه جاز لعنهم، لأن كلا منهم يدخل في عموم الآية المارة والحديث، تأمل. «وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» أيها الناس هذه الجملة معطوفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) من عطف القصة على القصة، لأن الأولى مسوقة لإثبات النبوة وهذه لإثبات الوحدانية، وفيها انتقال عن زجرهم عما يعاملون به رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم، إذ يكتمون وحدانيته ويقولون عزيز والمسيح ابنا الله كما يقول فريق من العرب الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ 163» قال ابن عباس: قال المشركون يا محمد صف لنا ربك وانسبه وذلك لتوغلهم في شرف الأنساب ظنوا أن الرب له نسب مع أنه تعالى ذم المفاخرة بالنسب كما مر في الآية 101 من سورة المؤمنين ج 2، وقيل في هذا المعنى:

مطلب الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 من هذه السورة:

وليس بنافع نسب زكي ... تدنسه صنايعك القباح وقيل: لا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله فأنزل الله هذه الآية. وعنه أيضا: قالوا ليأتنا محمد بآية تدل على ما يدعيه، فأنزل الله تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» من ركوب وحمل وبلوغ بلد بعيد أو محل نزهة «وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات لحاجة الإنسان والحيوان والطير والحوت «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» لمنافع الخلق أيضا من ركوب وحمل ورزق ومنها ما هو رزق لبعضها لأن الحيوان والحيتان والطير منها يأكل بعضه بعضا، ومنها ما يأكل جنسه بحسب التغلب، قال في المعنى: ظلم القوي للضعيف جاري ... في الأرض والهواء والبحار «وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ» في مهابها يمينا وشمالا وشرقا وغربا وجنوبا قبولا ودبورا، ونكباء وهي التي لا يعرف مهبها، وما فيها من المنافع لأناس ومضارّ لآخرين «وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» للنزول على من يشاء من عباده للشرب والسقي «لَآياتٍ» عظيمات كافية عن كل آية «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 164» أن جميع ذلك جعله الله للنفع والاعتبار فيستدلون بها على الخالق القادر المدبر لها ويتفكرون في تكوينها وتقلباتها ويقفون على عجائبها وغرائبها وبدائع صنعها وإتقان تكوينها، وأن كلا منها بقدر ومحور خاص لا يتغير ولا يتبدل ولا ينضب، وأن كلا منها دال على الفاعل المختار ومنوه على وجوب التفكر والتذكر بآلاء الله وعظمته ورأفته بعباده. مطلب الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 من هذه السورة: واعلم أن في هذه الآية عشرة أنواع من البراهين النيرة القاطعة الدالة على الإلهية والوحدانية: النوع الأول آية السماء وهو سمكها وإتقانها وارتفاعها بغير عمد أو بعمد لا ترى لقوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الآية 10 من سورة لقمان ج 2، ومثلها في الآية الثانية من سورة الرعد الآتية، لأنهما يحتملان المعنيين لأن السماء

بناء والبناء الذي على هيأتها قد يكون بعمد ويكون بلا عمد، قال تعالى (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) الآية 12 من سورة عم في ج 2، وقال تعالى (أَمِ السَّماءُ بَناها) الآية 27 من سورة النازعات، وقوله تعالى (وَالسَّماءِ وَما بَناها) الآية 5 من سورة والشمس ج 1، وقال تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) الآية 27 من سورة الذاريات المارتين في ج 2، وقال تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الآية 3 من سورة تبارك الملك في ج 2. النوع الثاني آية الأرض وهو مدها وبسطها وتمهيدها وتثقيلها بالجبال لئلا تضطرب ولم تجمع الأرض لثقل جمعها ومخالفته للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه كالأرض، وجمع لم يوجد في القرآن مفرده كالألباب للقلة أيضا، وفي هذين النوعين من المبدعات ما لا يدخل تحت حصر. والأرضين سبعة كالسماء بلا شبهة لقوله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية الأخيرة من سورة الطلاق الآتية فهي دليل قاطع على أن الأرضين سبع كالسموات، فلا حجة لمن ادعى أنها واحدة لعدم جمعها بالقرآن العظيم. النوع الثالث: آية الليل والنهار وهي اختلافهما وتعاقبهما بانتظام بديع لا يختلف ولا يدرك أحدهما الآخر، وقدمنا ما يتعلق بهما في الآية 12 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها. والنوع الرابع آية الفلك وهو تسخيرها وجريانها على ظهر الماء موقرة بالأثقال وتسيرها الريح مقبلة ومدبرة. النوع الخامس: آية نفع الناس وهو ركوبهم لنزهة والتجارة ووضع القوة في القلب على ركوبها وإلا لم يتم الغرض من نفعها وكذلك الدواب. السادس: آية تسخير البحر وهو حمل تلك الأفلاك العظيمة مع قوة سلطانه وهيجانه واستخراج اللآلئ منه للزينة والحيتان للأكل مع أنه مالح لا يستفاد منه ولكن كلمة الله أبت أن تبقي شيئا بلا فائدة. السابع: آية المطر وإحياء الأرض الميتة به وإخراج أنواع النبات منها مما ينفع جميع الحيوانات وإنزاله بمكان دون مكان وبقدر الحاجة وتزيين الأرض به، قال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الآية 6 من سورة الحج الآتية، وجاءت بلفظ خاشعة في الآية 40 من سورة فصلت في ج 2. الثامن: آية الرياح وهي آية عظيمة في القوة والنفع مع كونها جسم لطيف يحس به ولا يمسك ولا يرى وفيه حياة الوجود فلو أمسكه

الله تعالى برهة عن خلقه لمات كل حي وانتهت الأرض. التاسع: آية السحاب وهو كونه معلقا بين السماء والأرض مثقلا بالمياه تسوقه الرياح إلى حيث شاء الله فتارة تذهب ما فيه وتفرقه، ومرة تجمعه بعد الشتات، وطورا تسرع بإنزال الماء منه، وأخرى تؤخره إلى أجل مقدور وقد تسوقه إلى مكان آخر، كل ذلك بتقدير العزيز العليم القدير الحكيم. العاشر: آية بثّ الدواب وهي آية كبرى لاجتماعها بعد تكونها من الماء في أصل واحد وهو الدم كما سيأتي في الآية 46 من سورة النور والآية 4 من سورة الرعد الآتيتين كيفية اتفاقها في ذلك الأصل وتفرقها في اللون والشكل والصورة واللغة والأخلاق والآداب وغيرها، فسبحان الإله الواحد الذي أحسن كل شيء خلقه. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً» أمثالا وأشكالا وأشباها من الأصنام مع ما ظهر لهم من آيات الله الدالة على وحدانيته فيشركون به جل شأنه ما ليس بأهل للعبادة من صنع أيديهم وتصوير عقولهم مما هو محتاج للحراسة ويموهون بعضهم على بعض بأنها أنداد وليس في الوجود ندّ لله، تعالى عن ذلك، ولقلة عقولهم بل لكثرة جهلهم «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» بلا حياء ولا خجل «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» من حبهم لأوثانهم وأدوم وأثبت «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بنتيجة أعمالهم هذه ما هو مرتب عليها من العذاب «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» يوم القيامة على أفعالهم هذه ويعاينون بأم أعينهم «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» ليس لأندادهم منها شيء ويتحققون أنها لم تغن عنهم شيئا من الله لهوانها عليه وظهور ضعفها لديهم «وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ 165» لعرفوا مضرة شركهم وأيقنوا عدم نفع أندادهم، ولو أنهم شاهدوا «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» عند نزوله بهم جميعا فلم يبق بينهم تواصل «وَرَأَوُا الْعَذابَ» قد حاق بهم وخاب أملهم في متبوعيهم وندموا ولات حين مندم «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ 166» التي كانت بينهم في الدنيا من صحبة وخلة وقرابة ومحسوبية ومنسوبية، لأن الله تعالى نفى ذلك كله وأذن بالشفاعة لخواص خلقه لمن ارتضى منهم، كما مرّ في الآية 19 من الأنبياء ج 2، «وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» عودة أخرى إلى الدنيا ت (8)

«فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» في هذا اليوم الذي كنا نزعم نفعهم فيه «كَذلِكَ» كما أراهم مقاطعة رؤسائهم وقادتهم الذين كانوا يؤملونهم في الدنيا «يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» السيئة التي اقترفوها في الدنيا التابعون والمتبوعون لأن كلّا منهم يندم على ما وقع منه وتظهر الندامة «حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ» يتحسرون المرة تلو الأخرى ندما وأسفا على عملها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ 167» إذ لا يفيدهم تحسرهم شيئا لوقوعه بغير محله وتفريطهم في الدنيا فلو كان ندمهم فيها لنفعهم أما وقد فات محله، فلا فائدة فيه إلا زيادة الأسف والأسى والتحسر. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت هذه الآية في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيا والحام الآتي بيانها في الآية 4 من المائدة الآتية، وقيل إن عبد الله بن سلام وأصحابه الذين حرموا على أنفسهم أكل لحوم الإبل لأنه محرم عند اليهود، وقيل في قوم من ثقيف وبني عامر وخزاعة وبني مدلج إذ حرموا على أنفسهم التمر والأقط، وكلها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولا مانع من تعداد أسبابه إلا في عبد الله لأنه لم يسلم بعد «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» طرقه وزلاته ووساوسه وإغراءه وإغواءه وآثاره، جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطر «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 168» عداوته من زمن أبيكم آدم لم يخفها قط ولذلك في كل فرصة يريد تأثمكم انتقاما، وإنه «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 169» من تحليل وتحريم واتخاذ الأنداد واتباع الشبه والتشكيك بالحق قصدا لإظهار عداوته والتجاهر بها لإيقاعكم بالإثم ويمنّي لكم أقوال المذاهب الفاسدة التي لم تستند لكتاب أو سنة صحيحة للغاية نفسها وان أمره إليكم أيها الناس هو عبارة عن وسوسة يدسّها ويلقيها في قلوبكم فتكون خواطر تجدونها تحوك في صدوركم بحروف وأصوات منتظمة خفيفة تشبه الكلا في الخارج ليجركم لما يسيئكم ويشوش عليكم، وليس له سلطة يقسركم بها على الأخر بتسويلاته، كما اعترف بذلك في الآية 22 من سورة إبراهيم في ج 2. واعلموا أيها الناس أن الذي قدر إبليس وأعوانه على إيقاع الوسوسة في قلوبكم هو الله تعالى

[سورة البقرة (2) : الآيات 171 إلى 180]

راجع تفسير سورة الناس والآيتين 11/ 17 من سورة الأعراف في ج 1، والآية 12 من سورة يونس، و 39 من الحجر، و 17 من الأنعام في ج 2، ومما يؤيد هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإنما أقدره الله تعالى على إيصال هذه الخواطر إلى قلوب البشر ليميزوا ويعلموا بعقولهم التي منحها الله تعالى إليهم الخير من الشر ويزنوا بميزان الشرع تلك الوساوس، فما كان موافقا أخذوه، وما كان مخالفا نبذوه، لأن الله تعالى إنما أعطاهم العقل ليفرقوا به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح، والطيب والرديء، إذ قد يلقي الخبيث في الصدور ما هو حسن أيضا ليستجر به العبد إلى ضده، على أن الخاطر الحسن قد يكون من الملك الموكل بالقلب، فعلى الرشيد أن يتذكر ويعلم هل هو من الملك أم من الشيطان، وطريق معرفة هذا الميزان هو التمسك بالشرع، وطريق التمسك بالشرع هو التقوى المار تفصيلها في الآية 48 وقال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ) الآية 212 الآتية. «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» وذلك أن حضرة الرسول دعا اليهود وأمرهم باتباع دين الإسلام ونصحهم وأرشدهم، فقال بعض رؤسائهم رافع بن خارجة ومالك بن النصيص ما قاله المشركون وهو ما قصه الله «قالُوا» لا نتبع ما جئتنا به «بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من دين اليهودية كما قال المشركون، بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأوثان، قال تعالى مؤنبا لهم كما قال لأولئك «وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» من أمور دين الحق «شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ 170» إلى طريقه الذي يوصلهم إليه ولا يحكمون عقولهم فيما هو أرجح، أيتبعونهم على ضلالهم؟ فقالوا له مثل قول المشركين أيضا هم أعلم منا بذلك، ثم ضرب الله مثلا لهم فقال «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من المشركين وأهل الكتاب القائلين باتخاذ الولد «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» النعيق صوت الراعي الذي ينادي غنمه «بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً» لأنها لا تعي منه إلا هذا، وهؤلاء كذلك لا يعون من النصح والإرشاد إلا الصوت، وذلك لأنهم «صُمٌّ» عن سماع الحق سماع قبول «بُكْمٌ» عن النطق به بعد أن عرفوه «عُمْيٌ» عن رؤيته، لأنهم لا ينظرون إليه نظر

مطلب في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات:

اعتبار فلا يألفونه عمه قلوبهم أيضا، لأنهم لا يفقهونه ولا يريدون أن يتدبروه، «فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ 171» شيئا ينفعهم من أمر الدين وقد شبه الله تعالى في هذه الآية الداعي إلى ربه وسلوك طريقه بالراعي، والكفرة بالغنم، ووجه الشبه هو أنه كما أن الغنم لا تعي من الراعي إلا الصوت ولا تفهم المراد منه لأنه قد يؤدي اتباعها صوته إلى الذبح كما هو الواقع عند أخذها إلى المذبح، فكذلك الكفار لا يسمعون من مرشدهم إلا صوته، فلا ينتفعون به ولا يهتدون لهديه، وقد يؤدي إعراضهم عنه إلى ضلالهم المؤدي إلى قذفهم في النار بجامع عدم الفطنة في كل منهما. مطلب في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ولا تلتفتوا إلى هؤلاء فيما يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ» لنعمته عليكم في الأكل منها ومن غيرها، لأن به قوام أبدانكم، وملاك قوتكم على طاعة الله «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ 172» بإخلاص لا تقصدون وجه غيره بها، وهذا الأمر بالأكل واجب لحفظ النفس ودفع ضرر الجوع عنها لأنه داء دواءه الأكل، ومندوب للأكل مع الضيف لئلا يستحي فلا يشبع، ومباح في سائر الأوقات، وحرام بعد الشبع، ومكروه الشبع نفسه، إذ ينبغي أن يرفع يده ونفسه تشتهي الطعام ليجد له لذة وينتفع به، لأن من الشبع ما يؤدي إلى التخمة وإلى نفرة النفس من الطعام وإلى توسع المعدة ويسبب أمراضا كثيرة قد تؤدي إلى الموت. قال تعالى «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» حتف أنفها عدا السمك والجراد لاستثنائهما بالحديث، والدابة الفارة التي لم يقدر على مسكها وأمكن إراقة شيء من دمها من أي موضع كان جاز أكلها ولا تدخل في حكم الميتة لإخراج دمها يفعل فاعل قصدا، والسمك لا دم له، إذ من شأن الدم أن يسودّ إذا يبس، ودم السمك إذا يبس ابيض، والجراد لا دم له أصلا «وَالدَّمَ» الجاري من الحيوان بحياته وعند ذبحه الذي يتجمد في الإناء والمصارين ويشوى، والدم الذي يمصّ من الحيوان الطيب يحرم تناوله أيضا وأكله بعد تجميده حرام، وكذلك الدم الخارج من الآدمي بقصد عرقه أو غيره كما كانت العرب تفعله في

الجاهلية، فتشربه أو تجمده لتأكله، لأن المفصول من الحي كالميتة، اما الذي يبقى في العروق واللحم والقلب بعد الذبح فجائز أكله، لأنه غير جار، وكذلك الكبد والطحال لأنهما متجمدان خلقه، فضلا عن استثنائهما بالحديث كما سيأتي في آية المائدة إن شاء الله بصورة واضحة «وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» المعروف، وحرمة هذه الأشياء الثلاثة لأمر طبي علمه تعالى قبل أن يطلع البشر عليه، وقد أظهر أخيرا بعض الأطباء الحاذقين بعض ما فيها من الضرر للإنسان وسيظهر الباقي إن شاء الله، لأن الكون لم يكمل بعد ولو كمل لخرب، إذ ما بعد التمام إلا النقصان، راجع الآية 25 من سورة يونس ج 2، وقد يكون هذا التحريم لأمر آخر في علم الله ليس لنا أن نسأل عن علته، لأن أفعال الله لا تعلل، وسواء كان التحريم من الله أو من حضرة الرسول فهو على حد سواء، قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية «وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» بأن ذبح للصنم أو على اسمه، وحرمة هذا والمعنى الآخر في حرمة الثلاث الأول تعبدي تعبدنا الشارع به فما علينا إلا الامتثال والاعتقاد بأنه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا، لأنه أحل لنا خيرا منها، وليست هذه المحرمات بعزيزة عليه بل هي خبيثة أراد تعالى تطهرنا منها إلا عند الضرورة لحفظ قوام هذا الوجود، فقد أباح لنا تناول ما يسد الرمق منها، لأن الضرورات تبيح المحظورات، هذا قال تعالى «فَمَنِ اضْطُرَّ» في غير حالتين الأولى أن يكون «غَيْرَ باغٍ» هو الذي يجد غير هذه المحرمات فيعدل عنها إليها شهوة وتلذذا، الثانية بينها بقوله «وَلا عادٍ» متعد بأكله منها زيادة على قدر الحاجة لسد الرمق أو يتزود منه لأن الضرورة تقدر بقدرها «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» إذا أخذ بقدر ما يسد رمقه عند عدم شيء من الحلال فهو مسموح له فيه «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للمضطرين «رَحِيمٌ 173» بهم إذا لم يبغوا أو يعتدوا، وإنما عتبر عن الرخصة بالمغفرة إيماء إلى لزوم التحري في ذلك، بحيث لا يأكل إلا بعد تحقق الضرورة، وبعد التحقق يأكل بقدرها كما مرّ، وهذا من الرخص التي من الله بها على عباده، ولا يجوز للمؤمن تركها تأثما والأخذ بالعزيمة، لأنها من حقه الخالص، بخلاف الزنى والقتل لما فيهما من

حق الغير والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وحقوق الله مبنية على التسامح، وحقوق خلقه مبنية على التشاحح، وهذا ما اتفق عليه الأئمة من الحكم الشرعي في هذه الأشياء. ومما جاء من الأدلة على هذه المستثنيات ما قاله ابن أبي أوفى: غزونا مع رسول صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستا، وكنا نأكل الجراد ونحن معه، وقد سأل الرسول جماعة من ركاب البحر فقال لهم هو الطهور ماؤه، الحل ميتته. وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الحم عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد والكبد والطحال. واتفقت الأئمة على حل الدم الذي بين اللحم والعروق، وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا سمعتم النصارى واليهود يهلّون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، واتفقت على حل ذبائح أهل الكتاب الأئمة، فلا عبرة بمن خالف إجماعهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ» ولا يبينونه للناس «وَيَشْتَرُونَ بِهِ» أي الكتمان «ثَمَناً قَلِيلًا» من حطام الدنيا ليتمتعوا به للمحافظة على مناصبهم «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم، وقد تقدم بأن المراد بهم علماء اليهود وأحبارهم «ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ» ، لأن الرشوة تؤدي إليها إذا كانت في ضياع حقوق الناس فلئن تكون موصلة إليها، ومدخلة فيها إذا كانت في ضياع حقوق الله ورسله من باب أولى، «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لاشتداد غضبه عليهم، أما السؤال فيتولاه ملائكته، وقيل لا يكلمهم كلاما يسرّون به، بل بما يوبخهم ويقرعهم، وهو خلاف الظاهر «وَلا يُزَكِّيهِمْ» من دنس الذنوب ودرن العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 174» جزاء جرأتهم تلك «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» أي بطوعهم واختيارهم «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ 175» أي شيء صبّرهم عليها، وهي لا يصبر عليها أحد برضائه، وإذا كان كذلك فلم يجرءون على عمل يؤدي إليها والصبر على عذابها؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتعجب من اتباعهم الباطل وتركهم الحق من غير مبالات منهم بما يترتب عليهم من العقاب، فكانت ملابستهم هذه

مطلب أنواع البر والقصاص وما يتعلق بهما:

الحالة الهائلة عين النار لأنها توجب العذاب فيها قطعا، ثم بين سبب إيجابه لهم بقوله عز قوله «ذلِكَ» العذاب المساق إليهم «بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» ليؤمنوا به وهم على العكس كفروا به واختلفوا فيه «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ 176» عن الحق يؤدي بهم إلى عذاب سحيق في أعماق جهنم يتسرون على الصبر عليه فيها. مطلب أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما: وبعد استدارة القبلة زعم اليهود والنصارى أن الإحسان كله في الجهة التي يستقبلونها فأنزل الله ردا عليهم «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أيها النصارى واليهود «وَلكِنَّ الْبِرَّ» كل البر وهو لفظ جامع لأنواع الطاعات المالية والبدنية هو «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» وحده «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» البعث بعد الموت «وَالْمَلائِكَةِ» كلهم فمن بغض واحدا منهم كاليهود ولم يؤمن بهم كلهم كما تقدم في الآيتين 96/ 97 فليس بمؤمن بأحد منهم «وَالْكِتابِ» كله أيضا بما فيه صحف الأنبياء الأقدمين، فمن أنكر شيئا مما أنزل الله عليهم أو على بعضهم فليس بمؤمن بل هو كافر بالجميع «وَالنَّبِيِّينَ» كلهم أيضا، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع، أما عزير ولقمان وذو القرنين فمن جحد نبوتهم أو نبوة واحد منهم فلا يكفر للاختلاف الوارد في نبوتهم وولايتهم، وقد سئل حضرة الرسول عنهم فقال لا أدري كما روي عن الحاكم وأبي ذر. أما إنكار وجودهم أو وجود أحد منهم فهو كفر بلا خلاف لذكرهم في القرآن، وإن إنكار شيء مما جاء فيه كفر بلا خلاف «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» أي النفقة على حب الله مع حبه المال عن طيب نفس ورضاء خاطر فأعطاه «ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» تقدم مثلها كثير وسيأتي في الآية 195 ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة في الآية 30 من سورة التوبة الآتية «وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ» لفك العبيد المكاتبين وفداء الأسرى «وَأَقامَ الصَّلاةَ» المفروضة محافظا على شروطها وأركانها، إذ لا يعد مقيما لها إذا ترك شيئا من ذلك «وَآتَى الزَّكاةَ» من فضل ماله صدقة واجبة، وقد كرر الله تعالى الحث على الزكاة

في مواضع كثيرة قبل أن تفرض حثا على فعلها وترغيبا به وإعلاما بأنها ستفرض على هذه الأمة، وقد أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرض الزكاة عقيب نزول هذه الآية قبل رمضان في السنة الثانية من الهجرة، لأن هذه الآية جامعة لأركان الإسلام الخمسة والزكاة من أركانه، ولأنه عبّر عنها مرتين فقال أولا (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ثم قال (وَآتَى الزَّكاةَ) تدبر. أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول صلّى الله عليه وسلم في المال حق سوى الزكاة. وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. وآية الزكاة غير ناسخة للصدقة لقوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الآية 25 من سورة المعارج ج 2، ومثلها آية الذاريات بدون كلمة (معلوم) وكلاهما في الصدقة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه. وللإجماع، على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، وإذا امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم سرقة، وللإمام أن يأخذ من أغنيائهم ويعطى فقراءهم بقدر الحاجة. وأما ما روي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة، فهو غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك، ليس بالقوي عند أهل الحديث، وعلى فرض صحته فيكون المراد منه الصدقة المقدرة، ولا يقال الغريب لا يحتج به، لأن ذلك إذا لم يعارض ولم يطعن براويه ووجد ما يعضده أيضا، فإذا فقدت هذه الشروط أو أحدها فلا يحتج به، تأمل، وراجع الآية 58 من الإسراء في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث. «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» سواء فيه عهد الله أو عهد الرسول أو عهد الناس، لأن الوفاء بالعهد والوعد مطلوب «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» حال الشدة والفقر والفاقة «وَحِينَ الْبَأْسِ» القتال في سبيل الله وسمي القتال بأسا لما فيه من الشدة «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم «وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْمُتَّقُونَ 177» ما نهى الله عنه القائمون بما أمرهم به المستجمعون لأنواع البر والخير. روى البخاري ومسلم عن

أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان. ورويا أن ميمونة اعتقت وليدة (جارية) ولم تستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال (أو قد فعلت) ؟ قالت نعم، قال (أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) . وأخرج أبو داود عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: للسائل حق ولو جاء على فرس. وأخرج مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أعطوا السائل ولو جاء على فرس. وأخرج أبو داود والترمذي عن أم نجيد قالت: يا رسول الله إن المسكين يقوم على بابي ولم أجد شيئا أعطيه إياه، قال إن لم تجدي إلا ظلقا محرقا فادفعيه إليه في يده. وفي رواية مالك في الموطأ: ردّوا المساكين ولو بظلف محرق. وهذا مبالغة في قلة ما يعطى أي ردوه بشيء تعطونه إياه لا رد حرمان لأنه يؤذيه، فإن لم يوجد فبكلمة طيبة والأحسن أن يقال له اثنتا بوقت آخر. وقال صلّى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان. وعلامة المؤمن صدق الحديث ووفاء الوعد وأداء الأمانة. وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: كنا والله إذا احمرّ البأس- أي اشتد الحرب- نتقي به- يعني برسول الله صلّى الله عليه وسلم أي نجعله وقاية لنا من العدو أن ينالنا سلاحه- وان الشجاع منا الذي يحاذي به. هذا، ولما تحاكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعض أحياء العرب في دماء كانت بينهم في الجاهلية وجراحات، وكان أقسم ذو الطول منهم على الآخر ليقتلن الحر منهم بالعبد، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، أنزل الله جل جلاله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى» فرضوا بحكم الله وسلموا لقضائه، وأمر رسوله وأنزل الله تعالى لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث الرسول، وهي أن اليهود يوجبون القتل بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل، والعرب تارة توجب القتل وتارة تكتفي بالدية، ويقتلون من عثروا عليه من أقارب

القاتل، ويسلبون من وجدوا من أتباع السالب ويقتلون بالشريف عددا ويأخذون الدية مضاعفة، فأوجب الله تعالى رعاية العدل في هذه الآية، وأنزل في جواز العفو قوله عز قوله «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ» فصفح عنه بتانا أو قبل الدية في العمد «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» بشأن الدية، بأن لا يأخذ أكثر من حقه فيها ولا يعنفه على فعله «وَأَداءٌ» على القاتل «إِلَيْهِ» لولي المقتول تمام الدية «بِإِحْسانٍ» وطيب نفس دون مماطلة أو محاولة مقابلته لإحسانه بالعفو أو بقبول الدية، لأن العمد لا دية فيه قبل العفو، وهذا من أعظم أنواع الإحسان أن يتركه يقاد للقتل حتما، ولا يجوز له بعد العفو وأخذ الدية أن يتعرض للقاتل بشيء ما لأنه عدوان بحت، ولهذا قال تعالى «ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ» التخفيف فيقتل الجاني بعد العفو عنه أو بعد أخذ الدية منه «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ 178» في الدنيا بأن يقتل قصاصا لخيانته وغدره، وهكذا كل قاتل متعمد غادر يقتل صبرا قصاصا فلا يعفى عنه، ولا تقبل الدية منه لنقضه عهده وتصوره وتصميمه على القتل بعد أمن القاتل على نفسه بعفوه أو أخذ الدية منه، ويجب عليه أن يسلم نفسه للقتل، وإلا فيكون عذابه الأخروي أشد وأفظع من عذاب الدنيا وأدوم، قال تعالى «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» بقاء لأن من يقصد القتل إذا علم أنه يقتل يمتنع عنه فيكون فيه بقاؤه وبقاء من همّ بقتله، وإذا قتل القاتل قصاصا ارتدع غيره عن القتل والجارح كذلك إذا علم أنه يقتصّ منه امتنع عن الجرح، ثم امتدحهم على طريق التيقظ والتحذير بقوله «يا أُولِي الْأَلْبابِ» يا ذوي العقول السليمة الذين لا يريدون إتلاف أنفسهم ولا إتلاف غيرهم ويحرصون على محافظة أنفسهم وغيرهم، ويا أيها الموفون بعهدهم الصادقون بوعدهم حافظوا على أنفسكم بالكف عن قتل غيركم، وانتهوا عن ذلك «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 179» إفتاء بعضكم بعضا وتجتنبون مطلق التعدي الذي قد يقضى عليكم بمثله، وكثيرا ما تؤدي الجروح للموت، فاجتنبوها أيضا، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. وقد وقع اختلاف في كيفية القصاص، وهل هو مطلق القتل أم لا، فقال أبو حنيفة يقتل القاتل بالسيف، وقال الشافعي بما قتل

به، وقال به مالك أيضا، ولأحمد رواية مع أبي حنيفة وأخرى مع الشافعي. أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بولده. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يقتل المؤمن بالكافر، ولا الحر بالعبد، ولا الوالد بالولد، والذمي يقتل بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد، لأن الآية مفسرة لما أبهم من قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ويستدلون بما روى البخاري عن جحيفة قال: سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم عن النبي صلّى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ قال لا والذي برأ النسمة إلا أن يؤتى العبد فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل أي الدية، وسميت الدية عقلا لأنها تجمع من العاقلة أي جماعة القاتل من أوليائه وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر. وأخرج مسلم عنه كرم الله وجهه مثله. وقال بعضهم يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، لأن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ناسخة لحكم هذه الآية من حيث التكافؤ على أن آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) جاءت حكاية حال عما كان عليه بنو إسرائيل، إذ لم يميز الله بينهم لأنهم دون أمة محمد صلّى الله عليه وسلم التي خصها الله بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 111 من آل عمران الآتية، ولهذا جعل الله لهم ميزه على غيرهم فجعل القتل مكافأة كما جعلها الشارع في الزواج الذي هو من نوع الحياة ضد القتل، لأن الله تعالى قال (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها [أي التوراة] أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلخ، الآية 45 من سورة المائدة الآتية، فهي عبارة عن خبر من الأخبار التي لا تنسخ ولا تنسخ والمعول على ما جاء في هذه الآية، وهذا البحث صلة في الآية المذكورة في سورة المائدة فراجعه، وأجمعوا على أن القاتل المتعمد يقتل، والمخطئ تؤخذ منه الدية فقط، وأن تقتل الجماعة بالواحد. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة (خداعا ومكرا من حيث لا يعلم ما يراد به) فقال عمر لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. وإنما قال أهل صنعاء لكثرتهم، لأنها كانت أعمر بلاد العرب وأكثر سكنا ومبالغة في الكثرة. روى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال لو تمالأ (تعاون) عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وأن

مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي:

القاتل إذا استحل القتل كفر، ويقتل حدا، وإذا لم يستحله فلا، إلا أنه يكون مؤمنا فاسقا عاميّا، لأن من يقترف الكبائر دون استحلال يبقى على إيمانه بدليل تسميتهم مؤمنين، لأن الله تعالى صدر الآية بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وبدليل تسمية القاتل أخا لولي المقتول، فلولا أن الإيمان باق عليه لم تثبت له أخوة ولي المقتول، وبدليل ندب الله تعالى ولي المقتول للعفو عنه، والعفو من صفات المؤمن أما الآية 92 من سورة النساء الآتية محمولة على الاستحلال، هذا والله أعلم. مطلب في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي: قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بأن ظهرت آثاره عليه وكان قادرا على الإيصاء «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» مالا كثيرا «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» بر أي إذا لم يكونا أهلا لاستحقاق الإرث كما سيأتي «وَالْأَقْرَبِينَ» غير الوارثين أيضا وعلى المؤمن أن لا يخص بوصيته الأغنياء، لأن الفقراء أحق بالوصية إلا إذا كانوا فسقة وغلب على ظنه إنفاق ما يوصي به إليهم في طرق الشر، وهذه الوصية ينبغي أن تكون «بِالْمَعْرُوفِ» الذي لا وكس فيه ولا شطط بأن يعدل في ذلك عدلا «حَقًّا» لازما «عَلَى الْمُتَّقِينَ» (180) الإله الذي أمرهم بهذا، على أن لا يجنحوا بوصاياهم إلى غير العدل وإلى عدم الإيصاء إلا بالمعروف. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يوصون للأجانب طلبا للفخر والسمعة ورفع الصيت والشهرة، فأوجب الله في بداية الإسلام هذه الوصية لمن يترك مالا كثيرا بدليل تسميه خيرا، قال رجل لعائشة رضي الله عنها أريد أن أوصي، فقالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف درهم، قالت كم عيالك؟ قال أربعة، قالت إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا كثيرا، وهذا يسير، فاتركه لعيالك. قال تعالى «فَمَنْ بَدَّلَهُ» أي القول الواقع من المريض الموصي «بَعْدَ ما سَمِعَهُ» منه سواء كان وصيا أو وليا عند الكتابة أو القسمة أو الشهادة، وسواء وقع التبديل في قول الموصي أو فيما أوصى به «فَإِنَّما إِثْمُهُ» أي التبديل الواقع من أولئك «عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» خاصة، أما الموصي والموصى له فهما بريئان من هذا الإثم، فإذا أخبر الوصي أو الشهود أن الموصي

أوصى للموصى له بأكثر من الموصى به وأخذه الموصى له غير عالم فلا إثم عليه، وإذا أخبروا بأقل منه فأخذه وسكت لعدم علمه فالموصي أيضا لا إثم عليه لأنه أوصى وحمل غيره مؤنة التنفيذ، ويكون الإثم في الحالتين على الوصي والشهود لكتمهم حقيقة الحال، ولهذا ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لقول الميت الموصي والوصي والشهود وبما أوصى به وشهدوا عليه «عَلِيمٌ 181» بحقيقة الأمر ممن يبدل قول الموصي وبكتم الشهادة، وفي هذه الجملة من التهديد ما لا يخفى. قال تعالى «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً» جورا وميلا وعدولا عن الحق في الوصية «أَوْ إِثْماً» ظلما منه فيها يستوجب الإثم بأن أسرف الميت في وصيته أو أخطأ فيها «فَأَصْلَحَ» هذا السامع الحاضر «بَيْنَهُمْ» بين الوصي والموصي له في الموصى به، واعلم (أن خافَ هنا بمعنى ظن في الكلام الشائع) وكيفية هذا الإصلاح المخاطب به كل من سمعه هو إذا رأى الوصي إفراطا في وصية الموصي بأن أوصى بأكثر من اللازم وكان عنده عيال فله أن ينصحه بأن يقتصد في الوصية فإذا لم يقبل ينصح الموصى له بأن يترك لورثة الموصي المفرط شيئا مما أوصى له به، فالفاعل لهذا من كل من يسمع وصية الموصي والمتوسط لعمل هذا الخير «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» في عمله بل يؤجر إذا خلصت نيته، وهذا قد يقع من الذين يكرهون أولادهم بقصد حرمانهم من الإرث فيوصون بجميع مالهم أو بأكثره للغير ولو تركوها لأولادهم لكان أحسن حتى لا يكونوا عالة على الناس، ولعل الله أن يصلحهم بسبب كفايتهم، وإن كان في هذا الفعل من الميت الموصي فيه ما فيه من الإثم فقد ختم الله تعالى الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لمن فعل هذا وقبله «رَحِيمٌ 182» بالموصى له والورثة. وقد ذكرنا في الآية 44 من سورة النحل ج 2، وفي المقدمة ج 1 أن الآية لا تنسخ بالحديث، لأن الحديث لا ينسخ القرآن البتة، لأنه مهما كان صحيحا لا يساوي كلام الله فضلا عن أنه لا يكون خيرا منه، راجع الآية 107 المارة يظهر لك أن هذه الآية لم تنسخ بحديث (لا وصية لوارث) وإنما خصصت بآية المواريث الآتية في سورة النساء، وهذا الحديث لا يعارضها، لأن حضرة الرسول قال عند نزولها (إن الله قد أعطى كل

ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث) أي بعد أخذ حقه، فكان هذا الحديث مبينا لهذه الآية ومفيدا أن الله تعالى كتب عليكم أن تؤدوا للوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير انصبائهم، بل فوض ذلك إلى آرائكم إذ قال (بِالْمَعْرُوفِ) أي العدل، فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات، وأعطى كل ذي حق حقه منهم بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة، بأن يأخذ كل نصيبه المعين له في كلام الله إذ لم يبق مدخل للرأي في ذلك أصلا، وليس بعد بيان الله بيان، ومما يدل على عدم نسخ حكمها الذي قال به جمع من المفسرين ما ذهب إليه الحسن ومسروق وابن طاوس والضحاك ومسلم بن يسار بأن إطلاقها خصص بجواز الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين بسبب قتل أو رق خلاف دين، وبه قال ابن عباس وقتادة. ومن هنا تعلم أن لا نسخ في كتاب الله بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ، بل هو كما ذكرنا من حيث الإطلاق والتقييد والتخصيص والتعميم، تدبر. ولأن الوصية لمن لا يرث كالمذكورين أعلاه جائزة شرعا حتى الآن فضلا عن وقت نزول هذه الآية الكريمة، إذ كان كثير من الناس من أبوه أو أمه أو أبواه كفار وهو مسلم، وبالعكس، أو زوجته غير مسلمة، وبالعكس، تدبر. والآن كثير من المسلمين متزوجون بكتابيات. روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع السنة التاسعة من الهجرة من وجع اشتد بي، فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أما أتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قلت بالشطر؟ قال لا، قلت فالثلث يا رسول الله؟ قال الثلث والثلث كثير، أو قال والثلث كبير، إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. أي يسألونهم بأكفهم. ورويا عن ابن عباس قال في الوصية: لو أن الناس عفوا عن الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لسعد (والثلاث كثير) ، وقال علي كرم الله وجهه: لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.

مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية:

فمن أوصى بالثلث فلم يترك. هذا وانظر ما قالته عائشة رضي الله عنها آنفا. اعلم أن الحكم الشرعي في الوصايا جوازها عند كثرة المال المتروك وقلة العيال، وتستحب للفقراء وطرق الخير، وتكره إذا خصّ بها الأغنياء، وتحرم لمن يغلب ظنه أنه يصرفها في المعاصي لما فيها من إعانة العاصي على المعصية. فالصدقة على الأغنياء الأتقياء أي الوصية لهم أفضل، والأفضل والأكثر ثوابا على الفقراء الأتقياء لما ورد: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم. أي أن الرجل كما يختار زوجته من أهل الدين، فكذلك ينبغي للمتصدق أن يخص بصدقته أهل الدين لينفقها في طاعة الله، ألا فليتق الله المؤمنون الموصوفون، وليعلموا بما يعود عليهم بالخير. أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الرجل والمرأة (أي جنسهما) ليعملا بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران (أي يوصلا الضرر إلى آخر) في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الآية 12 من النساء الآتية، وذلك بأن لا يخص الوصية أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف الوصي أو الورثة فيها كما مرّ تفصيله. مطلب في الصوم وفرضيته والأعذار الموجبة للفطو والكفارة وإثبات الهلال وإنزال الكتب السماوية: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 183» الله فتعرضون عن شهواتكم الخسيسة إلى طاعة ربكم النفسية، لأن الصوم يعقم الشهوة، وقد فرض الله تعالى على هذه الأمة المحمدية الصوم، وأعلنه رسولها محمد صلّى الله عليه وسلم على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، قبل غزوة بدر الموافقة في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة، بشهر وبضعة أيام، أي في أوائل شعبان، وقد أخبر الله في هذه الآية أن الصوم ليس من خصائص هذه الأمة بل هو فرض قديم، تعبد الله تعالى به الأمم السابقة، قالوا إن النصارى كانوا يصومون رمضان فشق عليهم في الحر فأجمعت علماؤهم على جعله في فصل معتدل من السنة بزيادة عشرة أيام كفارة

لعملهم، ثم إن أحد ملوكهم مرض فنذر زيادة سبعة أيام إن شفاه الله، فشفي، ثم كان ملك آخر فأكمله ثلاثة أيام فصار خمسين يوما، ثم خففوه على أنفسهم بالاقتصار على عدم أكل كل ذي روح، وهم يصومونه الآن على هذه الصورة في موسم الربيع، وقد تواترت الآثار على أن الصيام متعبد فيه من لدن آدم عليه السلام ولم تخل أمة منه، فهو عبادة قديمة لم يخل زمن منها البتة. والعبادة إذا عمت سهلت، وإذا خصت شقّت. وكان قبل الإسلام من كل شهر ثلاثة أيام ويسمونها الليالي البيض الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، وسميت بيضا لكمال البدر فيها، وبالنظر لما ورد فيها من الأخبار فإن بعض الناس وخاصة النساء يصومونها الآن، وكذلك اليوم العاشر من المحرّم الحرام المسمى عاشوراء، روى البخاري ومسلم عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (أي النكاح) فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (أي خصاء) لأن الوجيء رخي الخصيتين ودقهما، ولما كان هذا الصيام الذي كتبه الله تعالى مبهما بينه بقوله عز قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» أي أنه أكثر ممّا كان قبل متعارفا من صيام أيام البيض وعاشوراء، ولما كانت هذه الأيام أيضا مهمة لأنها غير محصورة فإنها تحتاج إلى التوضيح والتحديد، لأن لفظ أياما يحتمل يومين فأكثر لأن الأمم الماضية كانت تصوم أياما معلومات من أشهر مخصوصة كالمحرم ورجب وذي الحجة، وصيام موسى عليه السلام كان إتمام شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة فقد بينه بالآية التالية لهذه وشرع يبين الرخصة فيه فقال «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ» يشق عليه فيها الصيام فاضطر لما رأى من الكلفة في حضر أو سفر إلى الفطر «فَعِدَّةٌ» أي عليه صوم مقدار عدة الأيام التي أفطرها «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» بعد شفائه من مرضه أو عودته من سفره «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» يكلفون بصومه فيرون فيه كلفة زائدة لكبر أو عجز ولا يتمكنون من القضاء، لأن كل أيامهم هكذا بخلاف المرض غير المزمن والسفر المنقطع إذ يتمكنون فيما بعدها من قضاء ما أفطروه بالشفاء والإقامة، أما الذين لا شفاء لهم كالزمنى والمرضى

الذين لا يرجى برؤهم والهرم العاجز، فمثل هؤلاء إذا كانوا أغنياء يكون عليهم «فِدْيَةٌ» بدل صيامهم لأنهم معذورون كل عمرهم، والفدية الواجبة عليهم هي «طَعامُ مِسْكِينٍ» واحد غداءه وعشاءه عن كل يوم «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» بإطعام أكثر من مسكين نظرا لسعة حاله وطلبا للثواب وتحللا مما يجد في قلبه من الأسف على عدم قيامه بهذا الفرض وحرمانه من أجره لتصلبه في دينه «فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» عند ربه وأعظم ثوابا له «وَأَنْ تَصُومُوا» أيها المسافرون والمرضى والعجزة مع تجشّمكم مشقة الصيام «خَيْرٌ لَكُمْ» عند ربكم واطمن لقلوبكم وأكثر أجرا من أخذكم بالرخصة «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (184) ما للصائم عند الله من الخير الذي هو خارج عن الحصر، فلو علمتم ذلك لتحملتم المشقة وصمتم براءة لذمتكم على أتم وجه وثلوجة لصدوركم بإزالة ما يحوك فيها من التأثم من الإفطار لأن الإثم حزاز القلوب وترقبا لحصول فرحة الإفطار وفرحة لقاء الملك الجبار. وليعلم أنه يجوز الأخذ بهذه الأخيرية إذا لم يضر الصوم بالمريض أو المسافر أو العاجز، فإن ضرّ حرم عليهم الصوم ووجب الإفطار أخذا بالرخصة لصيانة النفس، إذ لا يجوز الأخذ بالعزيمة على الصيام إلا إذا تحقق القدرة وعدم المضرة، وإلا بأن علم من نفسه أو من إخبار طبيب أن الصوم يضره تركه حالا، ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إذ صدر الجملة الذي ختم بها الآية (بإن) المفيدة للشك، أي إن كنتم تعلمون أن صيامكم خير من الإفطار بأن تقدروا عليه دون كلفة ضارة فصوموا، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا حرج في هذا الدين السمح، ويشير قوله تعالى عَلى سَفَرٍ) أنه لا يجوز الإفطار إلا لمن أدركه رمضان وهو متلبس بالسفر، لأن المراد بقوله الآتي (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضر رؤية الهلال وهو مقيم، ولهذا قال علي كرم الله وجهه وابن عباس رضي الله عنهما ذلك لمن أهل الهلال وهو مسافر. وأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر، أي إذا خرج من البلد وهو صائم فليس له أن يفطر هذا اليوم الذي أنشأ فيه السفر بعد تلبسه بالصيام، راجع كتاب الصوم الجزء الثالث ص 91 من مبسوط الإمام السرخسي وهو موافق لظاهر القرآن، لأن كلمة على سفر غير كلمة مسافر.

ثم بين تلك الأيام التي ذكرنا أنها تحتاج إلى التبيين بقوله جل قوله «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وهذا من التدريج أحد أنواع البديع إذ لم يذكر نزوله في هذه الآية ليلا أم نهارا، ثم أنزل قوله تعالى (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أول سورة حم الدخان في ج 2 ولم يذكر أي ليلة هي فأنزل الله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) هكذا ذكر الإمام الغزالي في إحيائه. على أن نزول سورة القدر قبل نزول حم الدخان، ونزولهما في مكة، والآية التي نحن بصددها نزلت في المدينة بعد سنين، فلا يتجه هذا بحسب النزول، أما على ترتيب القرآن فلا قول فيه، تأمل. ومن كرامة هذا الشهر على الله أنه أنزل فيه الكتب السماوية كلها، روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أنزلت صحف إبراهيم لثلاث ليال مضين من رمضان، وأنزلت توراة موسى لست ليال من رمضان، وأنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة مضين من رمضان، وأنزل زبور داود لاثنتي عشرة ليلة من رمضان، وأنزل القرآن في الرابعة والعشرين لست بقين من رمضان، وتقدم أنه أنزل في السابعة عشرة أو العشرين منه كما أو ضحناه في المقدمة في بحث نزول القرآن، فيكون المراد من إنزاله في الرابعة والعشرين هو إنزاله جملة واحدة إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم بدأ بإنزاله على حضرة الرسول في السابعة والعشرين، راجع المقدمة تقف على أصح ما جاء في هذا، «هُدىً لِلنَّاسِ» هو نفسه هدى على الإجمال «وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» على التفصيل للحلال والحرام والحدود والأحكام «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ» وكان حاضرا مقيما غير معذور «فَلْيَصُمْهُ» وجوبا «وَمَنْ كانَ» حين هل الشهر أو قبله «مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ» وجوبا «مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» يصومها بدلها حال إقامته وشفائه «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ» أيها الناس «الْيُسْرَ» فيرخص لكم الإفطار في المرض والسفر والعجز «وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فيشدد عليكم بما لا تقدرون عليه ولا تستطيعونه لأن الدين يسر «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» لأيام الشهر كله أداء وقضاء «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» لصيامه وإكماله، إذ قدركم عليه «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (185) ربكم الذي

لم يجعل عليكم حرجا في ما شرعه عليكم من الدين وتحمدونه على ما كتب عليكم من فرضه وما جعل لكم من الأجر على قيامكم بما كلفكم به، وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى صلاة عيد الفطر لأنها تعقب كمال الصيام، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء لقوم قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم معهم أيضا، فلما قدم إلى المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. وما قيل إن قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية منسوخ لا صحة له، بل هي محكمة بدليل ما روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) قال ابن عباس ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا، وقال هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ولكن يشق عليه، رخص له أن يفطره ويفتدي، وكذلك العجوز، وإنما جاز لها الفدية لعدم القدرة المستمرة، أما المريض والنفساء والمسافر فيجب عليهم القضاء عقب زوال عذرهم، فإن ماتوا ولم تمض مدة يتمكنون فيها من القضاء فلا فدية عليهم، وإلا فعليهم الفدية من مالهم. ووقت الصيام قد ذكره الله تعالى بأنه بعد رؤية الهلال من رمضان، وقال صلّى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وجاء في حديث آخر: الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين يوما. ومعنى أقدروا له أي احسبوا له حسابه، وفيه إشارة إلى جواز الأخذ بأقوال المنجمين الموقتين، وعليه قول ابن وهبان في منظومته: وقول أولي التوقيت ليس بموجب ... وقيل بل والبعض إن كان يكثر ومنه يعلم أن الشهر الفلكي غير الشهر الشرعي لأنه قد يولد ولا يرى، وقد يرى في مكان دون آخر، ولا خلاف في ذلك لاختلاف المطالع، ويشترط للصوم الرؤية في المكان الذي أنت فيه أو القريب منه لا الولادة، والمحل البعيد بالتعبير الشرعي وهو أن يكون غير القطر الذي أنت فيه، ويختلف القطر بثلاثين مرحلة أي مدة شهر كامل، ويشترط للرؤية في الصحو جماعة بنسبة أهل البلد، وفي الغيم

اثنان، ويجوز أن يصام برؤية عدل واحد، ولا يجوز الإفطار إلا بعدلين. هذا والمرض المبيح للفطر مطلق بإطلاق الله تعالى، فإن كان ما به لا يتكلف معه إذا صام صام، وإذا رأى تكلفا أو خاف زيادة المرض فليفطر، وكذلك المسافر، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ليس من امبر الصيام في امسفر حملا على ما يتوقاه الصائم من المشقة. والسفر المبيح للفطر المجمع عليه ثلاث مراحل مقدرة بثمانية عشرة ساعة، وهذا ما يطمئن إليه الضمير وتقنع به النفس وينشرح له الصدر ويتصور فيه المشقة، وهناك أقوال بأقل وأكثر لا يوثق بصحتها، والآية لا شك مطلقة وإبقاء المطلق على إطلاقه أولى، إلا أن السفر لا يطلق عادة على مسافة أو ساعة أو ساعتين مثلا من قصد الأمكنة القريبة، بل يطلق على الأمكنة البعيدة وأقلها ثلاثة أيام، وقد تعورف هذا، والعرف له دخل في الأحكام التي لا نص فيها، حتى ان الإيمان بني على العرف بإجماع الفقهاء وليعلم أن الثلاثة أيام يطرح منها أوقات الراحة والنوم، ولذلك تطلق المرحلة على اليوم، وأقل المراحل سفر بريد وهو أربعة فراسخ والفرسخ على أصح الأقوال فيه ساعة ونصف، لذلك قدرت بست ساعات، ومن قدره بساعة واحدة واعتبر البريد أربع ساعات واعتبر السفر اليومي على شطرين، قدّر قبل الظهر أربعة فراسخ وبعده أربعة وجعل مدة السفر مرحلتين أي ست عشرة ساعة، وعلى هذا مذهب الشافعي، وعلى الأول أبو حنيفة رحمهما الله، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 101 من سورة النساء الآتية عند بحث قصر الصلاة إن شاء الله تعالى، وكررت جملة (مَنْ كانَ مَرِيضاً) للتأكيد، وقال بعض المفسرين إنما كررت لئلا يتوهم نسخ الأولى بالثانية تبعا لجملة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) لأن ابن عباس أولها بالقادرين على الصوم دون عجز وكبر، وعليه فالمطيق يفطر ويفدي، وغير المطيق يفطر ولا يفدي، فينعدم الصيام ويتعطل ركن من أركان الإسلام وهو لا يجوز قطعا ويتحاشى ابن عباس عنه. على أن الحديث المار ذكره ينفي هذا التأويل كما علمت، أما من أوّلها بالعاجزين كما جرينا عليه فلا يقول بالنسخ وهو الأولى والله أعلم. وقدمنا في الآيتين 11/ 17 من سورة سبأ ج 2 والآية 17 من سورة النحل ج 1 ما يتعلق بمعنى البريد والفرسخ وما يتشعب عنهما فراجعها.

أما ما جاء في فضل رمضان فكثير نكتفي منه بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار. وروى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ورويا عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم. ورويا عن سهل ابن سعد قال: قال صلّى الله عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له الريّان يدخل منه الصائمون فيقدمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق لئلا يدخل منه أحد (يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف إلى أكثر (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وفضل الله ليس له حد فامثله فليعمل العاملون، وبه فليتنافس المتنافسون. وسمي رمضان لا شتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة بالشمس، ولما نقلوا أسماء الأشهر من السريانية إلى العربية سموها بالأسماء التي وقعت فيها من المواسم، وقد وافق رمضان أيام الحر فسمّوه به لذلك. واعلم أنه يجب على من أفطر بسبب مرض أو سفره أو عجز أو حيض أو نفاس أن يمسك عند زوال العذر، بأن شفي أو أقام أو طهرتا، وكذلك من فسد صومه بسبب ما وعليهم القضاء جميعا إلا العاجز المار ذكره، أما الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم أثناء اليوم فعليهما الإمساك لا القضاء، لأنه لم يكن واجبا عليهما قبل، والمجنون كذلك، ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ» منهم قرب مكانة لا قرب مكان، لأنه لا بعيد عليه «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء عباده ولا أو فى من الله أبدا البتة، وقد يكون التخلف من العبد لعدم قيامة بشروط الدعاء المطلوبة منه فيه، والله تعالى أهل للإعطاء، ولكن العبد ليس بأهل للإجابة بسبب عصيانه وطيشه «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»

مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة:

بالإيمان بي والتصديق لرسلي وكتبي والاعتراف بملائكتي واليوم الآخر إذا أرادوا أن أجيب دعاءهم «وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186) لمصالح دينهم ودنياهم. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا كيف يسمع ربنا دعاءنا، وتزهم يا محمد أن بيننا وبين كل سماء مسافة خمسمائة عام، وسمك كل سماء كذلك؟ وقال بعض الأصحاب يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ وقال بعضهم هل يجيب ربنا دعاءنا، وفي أي وقت ندعوه؟ فنزلت جوابا للكل. وقد ذكرنا غير مرة أن لا مانع من تعدد الأسباب. مطلب الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة: روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو قال توجه لخيبر أشرف على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيها الناس اربعوا (أرفقوا على أنفسكم) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم. ورويا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. واعلم أن هذه الآية وآية (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية 10 من سورة المؤمن المارة في ج 2 مطلقة وآية (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) الآية 42 من الأنعام المارة في ج 2 أيضا مقيدة، والمطلق بحمل على المقيد، فلا يقال دعوت فلم يستجب لي، لأن الله تعالى يجيب لمن يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، والإجابة غير الإعطاء، وهذا هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث، تدبر. ومن شروط الإجابة أكل الحلال، والإنابة إلى الله، والإخلاص له بالعمل، والاعتقاد بالإجابة، وعدم التردد، وأن يكون عند الدعاء خاشعا خاضعا، وأن يبدأه بحمد الله والصلاة على رسوله، ويختمه بهما، ويذكر حاجته في الوسط، فالله أكرم من أن يردها ويقبل طرفيها، وقل أن توجد هذه الشروط في الداعي، حتى ان بعض العلماء اشترط في الدعاء عدم اللحن، وقال إن الله لا يقبل دعاء ملحونا، ويفقد هذه الشروط يكون التخلف في الإجابة، لأن من

لا يتصف بها لا يستحقها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله دعوت فلم يستجب لي. ولمسلم: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل، قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر، أي يستنكف عند ذلك ويدع الدعاء. ورويا عن أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن يعزم المسألة، فإن الله لا مكره له. زاد البخاري ارزقني إن شئت يعزم المسألة فإن الله يفعل ما يشاء لا مكره له. وقال صلّى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه. - أخرجه الترمذي- وأخرج أبو داود عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا (أي خالية يقال بيت صفر أي ليس فيه شيء) خاليتين. وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال، الله أكثر. أي أكثر إجابة إذا أكثرتم السؤال. وله عن أبي هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس شيء أكرم على الله من الدعاء. وله عن أنس: الدعاء مخ العبادة. وله عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية، وان الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وله عن سلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر. وله عن أبي هريرة أنه قال: من لم يسأل الله يغضب عليه. وقيل في معناه: لا تسألن بنيّ آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب وله عن خفالة بن عبيد قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال النبي عجل هذا (أي لم يبدأ دعاءه بالحمد لله والصلاة على رسوله)

ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء. وقدمنا في الآيتين من الأنعام والمؤمن آنفا ما يتعلق بهذا أيضا فليراجع. قال تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ» ملامسة النساء ومباشرتهن، وهو كناية عن الجماع، لأن الله تعالى يكني عما يستقبح ذكره إشارة أو إيماء أو تعريضا بما يفهم منه المقصود تعليما لعباده ومراعاة للأدب في كل حال، وهذا الحل خاص «إِلى نِسائِكُمْ» اللاتي استحللتم مقاربتهن بكتاب الله تعالى «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» وذلك أن كلّا من الزوجين ستر للآخر عما لا يحل، كما جاء في الحديث: من تزوج فقد أحرز ثلثى دينه. ولهذا سمي كل منهما لباسا لصاحبه. وفي رواية: شطر دينة فليتق الله في الشطر الآخر. وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: لما ينزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تأتون أهلكم خفية وسمي العاصي هنا خائنا مع أن الخائن هو الذي لا يؤدي الأمانة لأنه لا يؤتمن على دينه، وقد كان في بداية الإسلام إذا أفطر الرجل حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها، ثم يحرم عليه كل ذلك إلى الليلة الأخرى، فوقع أن عمر الفاروق أتى أهله بعد هذا، فاغتسل وصار يبكي خشية من الله تعالى وهو لا تبكيه السيوف والأسنّة، فلم يقدر على كتم ما وقع منه في ذلك لصلابة دينه وعظيم يقينه، إلا أن ذكر ذلك لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بحضور جماعة من الأصحاب اعترفوا بعده مثل اعترافه، وكان بعضهم لا يقرب أهله رمضان كله تحاشيا من الوقوع فيما لا يحل، قال ابن عباس فكان ذلك أي فعل عمر مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر، فلما اعترفوا للرسول وتابوا تاب الله عليهم وختم الله رخصته لهم بقوله «فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» ما وقع منكم ورفع ذلك عنكم بفضله «فَالْآنَ» أيها المؤمنون جميعكم «بَاشِرُوهُنَّ» في ليالي الصوم وغيرها، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة الزوج بشرة زوجته «وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» في علمه من الولد، ولا تقتصروا في الجماع الى إخراج

الشهوة فقط وصيانة النفس من الوقوع في الحرام، بل اقصدوا الذرية أيضا، ثم أحل لهم الأكل والشرب الذي كانوا يعتقدون حرمته بعد العشاء أو النوم فقال جلّ قوله «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» أي بياض النهار من سواد الليل فنسخ الله ما كان متعارفا عندهم من أن الصيام من العشاء إلى العشاء لأنهما أكلتان الغداء سقط بالصوم وبقي العشاء فقط، ثم إن الله تعالى تصدق على أمة محمد فشرع لهم السحور بدل الغداء إلا أنه قدم عن وقته فهو من خصائص هذه الأمة. روى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وان قيس بن حرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى أهله فقال أعندك طعام؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عنه فجاءته امرأته (وهو نائم) فقالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت الآية فصاروا يأكلون ويشربون ويجامعون إلى أن يظهر بياض الفجر الصادق الذي هو كالخيط الأبيض الممتد في الأفق، أما الفجر الكاذب الذي يكون قبله مرتفعا مستطيلا في السماء لا معترضا بالأفق فليس بمانع من الأكل والشرب والجماع، فقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال صلّى الله عليه وسلم لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال (كان يؤذن بالسحر) ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وبه يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع. وروى البخاري ومسلم عن سهل ابن سعد قال: لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال (من عوام الصحابة) إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعده (مِنَ الْفَجْرِ) وقد أخرت من هذه الآية لهذا السبب. وليعلم أن ما ذكرنا من النسخ في هذا آنفا هو باعتبار ما كان عليه الناس في الجاهلية، وليس بالنسخ الذي يريده من قال به، لأن النسخ الذي يريده هو إبطال حكم سابق بنص لا حق، ومن المعلوم أن الله تعالى لم ينزل علينا في كتابه هذا حرمة الجماع والأكل والشرب على الصائمين بعد

العشاء أو في الليل حتى يقال إنه نسخ بهذه الآية، وعليه فلا معنى للنسخ ولا القول به هنا البتة كما هو الحال في الكعبة، لأن الله تعالى لم يأمرنا باستقبال البيت المقدس قبلا حتى يقال إنه نسخ استقباله بالأمر باستقبال الكعبة «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» أيها الصائمون بعد غياب الشمس من المحل الذي أنتم فيه لأنها قد تكون طالعة في غيره بسبب ارتفاع حدبة الأرض، فهي دائما طالعة عند أناس، غائبة عند آخرين، وما جاء أن الأرض مفروشة أو مبسوطة أو ممهدة أو ممدودة من كل ما يدل على استوائها من الآيات فهو بالنظر لما نراه لا بالنسبة لما هي عليه من التكوين الإلهي، فالنملة لا شك ترى البيضة مستوية مبسوطة بالنسبة لصغرها وعظم البيضة، فنحن أصغر من النملة بالنسبة للأرض بملايين الكرات. هذا، ومن قال إن المراد بالليل طلوع النجم قول غير وجيه ينافيه معنى الغاية، وما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، أي جاز له الفطر. والتصريح بقوله وغربت كاف في الدلالة على عدم صحة قول من فسر الليل بطلوع النجم، لأن السنة مفسرة لكلام الله تعالى، ولأن أول الشيء عينه، وغياب الشمس أول الليل، وعلى الصائم أن يحتاط لئلا يخطئ في الإفطار فيضيع صيامه، كما عليه أن يحفظ جوارحه من الآثام الظاهرة والباطنة كي ينال أجره تماما، قال أحمد عبيده: تصوم عن الطعام ولا تبالي ... بصوم الطرف واليد واللسان وان لكل جارحة صياما ... جزيل الأجر موصول الزمان «وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ» أي النساء «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» لا ليلا ولا نهارا سواء كان في رمضان أو غيره صيّاما كنتم أو مفطرين، وقد أنزل الله تعالى هذه الجملة لئلا يتوهم أن حكم الاعتكاف كحكم الصوم يحرم نهارا على الصائم، ويحل ليلا، بل يحرم الجماع في الاعتكاف ليلا ونهارا، وذلك أن المعتكفين يخرجون من المسجد ليأتوا أهلهم ثمّ يغتسلون ويرجعون إليه. والحكم الشرعي في الاعتكاف هو سنة مطلقا، وسنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان،

وهو الإقامة في المسجد على عبادة الله تعالى، فإذا جلس يذكر الله تعالى في المسجد فهو معتكف، ولا يصح خارج المسجد، ولا يشترط له الصوم إلا أن الأفضل أن يكون صائما، وليس له زمان محدود فيصح ولو دقيقة واحدة، ويفسده الجماع، ويكره فيه القبلة ونحوها، ولا بأس في خروجه من المسجد لحاجته. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. ولعمري لقد كان السلف الصالح يعتكفون فيه جماعات ووحدانا فلا تجد مسجدا إلا وفيه المعتكفون عاكفين على ذكر الله، ويا للأسف لا تجد الآن إلا ما ندر ممن بشار إليهم بالبنان، وإن من لا خلاق له في الآخرة قد ينتقدونهم على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله «تِلْكَ» الأحكام المبينة في الصوم والاعتكاف هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي حذر قربانها ومنع من مخالفتها «فَلا تَقْرَبُوها» يا عباد الله، وهذا مبالغة في النهي عن إتيانها، لأنه إذا كان قربانها ممنوعا فكيف بفعلها حذار حذار عباد الله من ذلك. قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) الآية 14 من سورة النساء الآتية، وهناك آيات أخر في هذا المعنى تحذر من قربان حدود الله والتعدي عليها فلا تعتدوها أيها الناس. واعلم أن التوفيق بين القربان والاعتداء هو أن الأحكام منها ما هو محظور ومنها ما هو مباح وأقربها لهذه الآية (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) ففيها تحريم الجماع في الاعتكاف مطلقا، وفي الآية قبلها (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) النص على تحريم الأكل والشرب والجماع في النهار، ولما كان الأقرب فيها جانب التحريم قال (فَلا تَقْرَبُوها) وإن من كان في طاعة الله فهو في حيز الحق فنهى أن يتعداه لئلا يقع في حيز الباطل فنهى عن أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يقع في الباطل فهو كقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور، إلى أن قال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فنهى صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن قربان الأمور المشتبهة حذرا من أن يقع في الحرام وحدود الله تعالى محارمه ومناهيه، فعليكم أيها الناس التباعد عنها لئلا تقعوا فيما ينهاكم عنه فتهلكوا «كَذلِكَ» مثل ما بين لكم تلك الأحكام «يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ» الدالة على معالم دينه وشعائر

مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:

شريعته وبراهين توحيده بيانا شافيا «لِلنَّاسِ» أجمع «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (187) ما حرم عليهم فيثابون بمجرد الامتثال. مطلب أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى: قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ» ظلما بشهادة زور أو حلف يمين كاذبة «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (188) أنكم مبطلون في ذلك، كان ادعى لدى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ربيعة بن عدوان الحضرمي في أرض على امرئ القيس بن عابس الكندي، فقال له ألك بينة؟ قال لا، قال فك يمينه، فانطلق ليحلف، فقال صلّى الله عليه وسلم أما إن حلف على ما له ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية تلا عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) الآية 75 من آل عمران الآتية، فارتدع عن اليمين وسلم الأرض له. ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة آنفا، والآية 28 من سورة النساء الآتية أيضا. الحكم الشرعي: يحرم قطعا أكل مال الغير بغير حله ويستوجب فاعله العقاب سواء أكله غصبا أو قمارا أو بثمن خمر أو خنزير أو أجرة مغبنة أو رشوة، أو بأن يشهد زورا، أو كان أمانة فكتمها، أو وديعة فجحدها، أو غير ذلك. روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع جلبة (صوتا عاليا) خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم منكم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض. وفي رواية ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها. فيفهم من هذا أن قضاء القاضي لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا لأنه يحكم بما يظهر له من الدعوى والشهادة لا بعلمه ولا بمجرد الدعوى، وكان القاضي شريح يفهم المحكوم له ويقول له إني لأظنك ظالما، ولكن لا يعني إلا أن أقضي بما حضرني من البينة، ألا فليحذر المدعون من ادعاء الباطل ومن إقامة شهود الزور لأخذ مال الغير ظلما بالقضاء، وليحذر المدعى عليهم من الإقدام على الحلف كاذبا

لهضم حق الغير الذي لا شاهد له إلا الله مع كونه عالما بأنه مدين له، فهي يمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهذا كلّه من معاني الإدلاء بالباطل إلى الحكام، أي النسبة إلى حكمهم، فهم لا يسألون عن أحكامهم إذا كانت موافقة لظاهر الشرع، وإنما يسأل المبطل، لأن الحاكم العدل ملزم بأن يحكم بالظاهر، والله تعالى يتولى السرائر، ولا تنطبق هذه الآية عليهم إلا في حال أخذ الرشوة، لأن فيها يكون الإدلاء إليهم، أجارنا الله ووقانا. روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها، فأبت فادعى عند علي كرم الله وجهه أنه زوجها وأقام البينة، فقالت المرأة لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح، فقال كرم الله وجهه قد زوجك الشاهدان وقد طلبت رحمها الله إجراء العقد بعد أن رأت الحكم عليها بالزوجية زورا لشدة تمسكها بدينها لتكون زوجة له بالوجه الشرعي، لأنها تزعم أن شهادة الزور لا تكفي، فأخبرها كرم الله وجهه أن شهادتهما بزوجيتها له كافية، وليس عليها إثم بمطاوعتها له، وإنما الإثم عليه وعلى الشهود، ولهذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ به من العقود فهو نافذ ظاهرا وباطنا، ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا. وذهب فيمن ادعى حقا في يد رجل وأقام بينة تقتضي أنه له، وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح أخذه له، وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه، وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه، لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع، وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه، لأن الإمام الأعظم رضي الله عنه وأرضاه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت، وإذا أردت تفصيل هذه القضية فارجع إلى كتاب أدب القاضي تر فيه ما تقنع به. قال تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» ما سبب زيادتها ونقصها وكبرها وصغرها «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» أي لصومهم وإفطارهم وآجال ديونهم وإجارتهم ونذورهم والحيض والنفاس ومدة العدة والحمل وزمن الحج ووقته وغير ذلك، وهذا خلاف السؤال وهو من أنواع البديع في المخاطبات، لأنه تلقي السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تبينها على أنه الأولى له

والأليق لحاله مما يتطلبه من اختلاف حال الهلال، وقد أفرد، تعالى الحج بالذكر مع أنه داخل في المواقيت، لأن العرب كانت تؤخر بعض الأشهر أحيانا كما أخبر الله عنهم بقوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية 39 من التوبة الآتية، كان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري سألا حضرة الرسول عن مبدأ الهلال يكون رفيعا ثم يزداد تدريجيا حتى يمتلىء نورا، ثم يتناقص كذلك حتى يعود كما بدأ، وقالوا له إن اليهود يسألوننا كثيرا عن هذا، وإن سؤال اليهود أصحاب الرسول بمثابة السؤال منه، لذلك جاء بضمير الجمع، فإن سؤالهم كان السبب والعلة، فأجابهم الله عن الغاية والحكمة لتعلقها بمعاملتهم، ومنه يفهم جواز إعطاء الجواب على خلاف السؤال نظرا للمصلحة، ويسمى أسلوب الحكيم، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك لتماسه بحاجتهم، لأن بيان سبب كبره وصغره وعلة ذلك بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس بعدا وقربا لا علاقة له بشيء من منافعهم، ولأن الأصحاب لا يعلمون علم الهيئة الموقوف معرفته على المكبرات والأرصاد والأدلة الفلسفية ولم يعتنوا به لعدم حاجتهم إليه في أمر الدين، ولو أن حضرة الرسول بين لهم ذلك فلعلهم لا يدركونه لا حتياجه لدقة فكر وبعد نظر في المعنى وتأمل بعيد، وعدم علمهم بذلك لا ينقص من قدرهم لأن علم الهيئة مبني على أمور لم تثبت بصورة جازمة، وما صنف بها من الكتب من قبل الفلاسفة وغيرهم، مبني على الظن والتخمين والحسبان، ولذلك تجد أكثر أقوالهم متضاربة سواء الأولون والآخرون منهم، على أنه لا بأس يأخذ أقوالهم مما لا يخالف صراحة القرآن والسنة بالتأويل والتوفيق. هذا، ولما بين الله تعالى لعباده ما يتعلق بالصيام وحل الأكل والجماع وتحريم أكل مال الغير بغير وجه شرعي مما كان معتادا في الجاهلية وفوائد تغير الأهلة بين لهم نوعا آخر كان متعارفا عندهم ويزعمون أن فيه قربة بأنه ليس بقربة لقوله عز قوله «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (189) روى البخاري ومسلم عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل من الأنصار فدخل

من قبل بابه فكأنه عيّر بذلك، فنزلت. وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها، فنزلت. أي أن هذه العادة المتخذة قديما قبل الإسلام ليست من البر في شيء، وأن البرّ هو تقوى الله التي فيها الفوز والنجاة والأجر والثواب. قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» أي يبدأونكم بالقتال ولا تبدأوهم أنتم بالقتال، ولهذا قال تعالى «وَلا تَعْتَدُوا» بأن تقاتلوهم توا أو تقاتلوا غيرهم أو أولادهم وشيوخهم ونساءهم ورهبانهم والمستسلمين منهم لما فيه من الاعتداء المبغوض «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190) على أنفسهم وعلى غيرهم، كان الرسول في بداية الإسلام وإلى حد نزول هذه الآية منهيا عن القتال ومأمورا بمعاملتهم بالرفق واللين ليؤمن مؤمنهم ويصرّ كافرهم، ولما اضطروه إلى الهجرة واستقر به الحال في المدينة واجتمع عليه أصحابه ومن آمن من غيرهم، أمره جل شأنه بقتال من بدأه بالقتال أو من تحدّاه به مقابلة لا عداء ولا انتقاما، بقصد إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار عزّة المؤمنين. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم من قاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. أي أن كل ذلك المسئول عنه غير مطلوب ولا هو في سبيل الله، بل هو لإظهار الشجاعة. وليقال إنه يقاتل ويناضل، وهذه الآية محكمة لأن معناها قاتلوا الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم لا غير ممن ذكر أولا ومما سيأتي ذكره في الحديث الثاني. وهذه أول آية نزلت في القتال بعد الآية 39 من سورة الحج الآتية، لأنها نزلت قبل هذه، فراجعها تعلم السبب في ذلك، وبعدها وقعت غزوة بدر الأولى في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة. روى مسلم عن بريدة قال: كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو صرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال له اغزوا بالله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا (لا تخفوا شيئا من الغنائم) ولا تعتدوا (أي لا تقتلوا الشيوخ والمرضى والعجزى لأنهم لا يقاتلون) ولا تمثلوا (بأن تقطعوا آذان القتلى أو مذاكيرهم أو أنوفهم أو تشقوا بطونهم أو غير ذلك

[سورة البقرة (2) : الآيات 191 إلى 200]

مما يعد مثلة بنظر الناس) ولا تقتلوا وليدا. أي لأنه لا يقاتل، وهكذا النساء إذا كن لا يقاتلن فلا يجوز قتلهن. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، وعلله بأن الأصحاب خافت أن لا تفي قريش بالمعاهدة وكرهوا أن يقاتلوهم إذا صدوهم عن المسجد الحرام أو الحرم ليرفع عنهم الحرج إذا بدءوهم بالقتال، لكنه بعيد، لأن صلح الحديبية وقع في السنة السادسة، وهذه في السنة الثانية، إلا أنه لا مانع من تطبيق حكمها عليها، إذ يجوز أن تكون آية واحدة لأسباب كثيرة كما مر غير مرة. قال تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي في أي مكان وجدتموهم وأدركتموهم، وذلك إذا لم ينجع معهم معاملة الرسول لهم باللطف وبدأوكم بالتعرض سواء قاتلوكم أم لا، لأن إقسارهم إياكم على الهجرة يعد تعرضا لقتالكم «وَأَخْرِجُوهُمْ» من ديارهم «مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ» من دياركم لأنهم كافرون مفتونون في دينهم «وَالْفِتْنَةُ» أي الشرك بالله، وإنما سمي فتنة لأن فيه فساد الأرض، ولأنه يؤدي إلى الظلم وجميع الشرور، لذلك عدّت «أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» أي أن قتلكم إياهم دون الكفر الذي هم عليه، لأنه مما يوجب التخليد بالنار، والقتل دون استحلال لا يوجب ذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، والقتل لا يخرجه، فثبت أن الفتنة التي هي الشرك بالله والكفر به أشد من القتل «وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» لما كان مبدأ هذه الآية عام استثنى الله تعالى منه المقاتلة في المسجد الحرام بشرط أن لا يبدءوهم بالقتال فيه «فَإِنْ قاتَلُوكُمْ» فيه فقد زال الحرج عنكم «فَاقْتُلُوهُمْ» فيه أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء «جَزاءُ الْكافِرِينَ» (191) لأن الجزاء من جنس العمل، ولأن الشر بالشر والبادي أظلم. وقال بعض المفسرين إن الفتنة هنا بمعنى الإخراج من الوطن لأنه أعظم المحن التي يفتتن بها الإنسان وهو أصعب من القتل على النفس لدوام تعبه وبقاء ألمه، وهو وجيه، لكن ما جرينا عليه أوجه، لأن الغربة مهما كانت شاقة على النفس فهي دون القتل الذي فيه عدم الإنسان فضلا عن بقاء أمل الرجوع إليه. وهذه الآية تشير إلى حادثة الحديبية وهي التي ثبطت عزم الرسول صلّى الله عليه وسلم وصمم على

قتالهم فيها، وبقي هو وأصحابه عازمين جازمين على القتال حتى وقع الصلح بينهم، وهي من قبيل الإخبار بالغيب لأنها نزلت قبل واقعة الحديبية بأربع سنين، ولولاها لما قال صلّى الله عليه وسلم ما قاله في قصة الحديبية الآتية في سورة الممتحنة، وحرض أصحابه على قتالهم عند منعهم لعلهم عدم جواز القتال في المسجد وحرمته في زمن الجاهلية، ولهذا قال بعضهم إنها نزلت في صلح الحديبية، وفي نقضهم هذا الصلح وتعرضهم لأصحاب الرسول. وهذه الآية محكمة أيضا، لأنها تأمر بعدم حل القتال في المسجد إلا لمن قاتل فيه، ولا سند لمن قال بنسخها ونسخ التي قبلها. قال تعالى «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن القتال وتركوا الشرك وآمنوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سلف منهم «رَحِيمٌ» (192) بعباده الذين تابوا وأتابوا إليه بعد عتوهم وعنادهم، ومن رحمته عدم تعجيل عقوبتهم لهذه الغاية. ولما رأى حضرة الرسول أن إمهال المشركين والعفو عنهم واللطف بهم لا يزيدهم إلا كفرا وبغيا وطغيانا طلب من غير طلب أن لا يرضى من مثلهم إلا الإسلام أو القتل، وكان هذا التمني الذي خطر على قلب الرسول مما هو ثابت في علم الله ومقدر نزوله عليه أنزل الله تعالى «وَقاتِلُوهُمْ» أي المشركين، لأن أهل الكتاب عصمهم دينهم وكتابهم الذي فيه شرائع وأحكام إلهية يرجعون إليها وان غيروا أو بدّلوا بعضه، فأمهلهم الله تعالى حرمة لكتابهم وما تمسكوا به من الدين، إلا أنه تعالى إذلالا لهم أمر أخيرا بأخذ الجزية منهم كما سيأتي بعد لعلهم يتدبرون ما في كتبهم من الحق فيتبعونه ويؤمنون بمحمد والقرآن «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي أديموا قتالهم واستمروا عليه إلى أن لا يبقى شرك على وجه الأرض، لأن المشركين كفرة لا كتاب لهم كي يؤمل فيهم الرجوع إليه، ولأن بقاءهم على الشرك يزيد في طغيانهم وبغيهم وضررهم على المؤمنين، لأنهم مهما تركوا لا يرجى منهم الرجوع إلى الحق، إذ لا دين لهم يسوقهم على سلوك سبل الرشد، لذلك عليكم بهم حتى يمحو نور الإيمان ظلمة الشرك «وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ» وحده فلا يعبد من دونه شيء «فَإِنِ انْتَهَوْا» عما هم عليه وأسلموا لله وآمنوا برسوله وكتابه «فَلا عُدْوانَ» عليهم

إذ لا يكون العدوان «إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (193) منهم المصرين على كفرهم والذين تابوا وآمنوا فلا سبيل لكم عليهم لأنهم صاروا مثلكم. وهذه الآية محكمة أيضا لأنها في حكم آخر أشمل من الأول كما أن الأول أشمل مما قبله، ولهذا قال بعض المفسرين إن الأولى منسوخة بالثانية، والثانية منسوخة بآية (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والثالثة هذه منسوخة بآية السيف الآتية، وهو قول ضعيف لا يعول عليه، لأن النسخ رفع الحكم، وهذه الآيات الثلاث حكمهن باق فلا معنى للقول بالنسخ، وغاية ما في الأمر أن يقال آية مطلقة وأخرى مقيدة، والقيد يخصص الشيء ولا يرفع حكمه، وإذا راجعت ما قدمناه في المقدمة والآية 107 المارة علمت أن لا ناسخ في كتاب الله هذا الناسخ لما قبله، ومن البعيد على الحكيم أن يتابع آيات تكون كل منها ناسخة الأخرى. قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ» لما كانت الجاهلية تحترم الأشهر الحرم فلا تقاتل فيها ولا تنتقم ممن قاتلها إذا وجدته فيها وقدرت على قتله أيضا تأثما، وبقيت هذه العادة مطردة عندهم إلى نزول هذه الآيات الثلاث دون أن يخرمها أحد، وقد أباح الله تعالى لهم قتال المشركين فيها خلافا لما كانوا عليه وآباؤهم من قبل، فلأجل أن لا يتأثموا من ذلك أنزل الله تعالى هذه الآية كالتفسير للآيات قبلها، أي إذا قاتلوكم بالشهر الحرام فلا تتأثموا من قتالهم فيه بل قاتلوهم فيه أيضا، لأن العداء يرد بمثله بأي مكان كان حرمة للنفس والمال. وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في عمرة القضاء لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم خرجوا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصدهم المشركون ووقع الصلح المشهور بالحديبية، ولما عاد في سنة سبع هو وأصحابه لقضاء تلك العمرة في شهر ذي القعدة أيضا أباح الله لهم في هذه الآية مقاتلتهم فيه إذا هم قاتلوهم كما قاتلوهم سنة ست وصدوهم عن البيت على أنه لم تقع مقاتلة بينهم، بل وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم الله تعالى في الآية الأولى بقوله (فقاتلوا الذين يقاتلونكم» لذلك فإن ما جرينا عليه أولى، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.

مطلب المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل الله والإحسان:

مطلب المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل الله والإحسان: ثم قال تعالى «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» مساواة ومماثلة كما فسر بقوله «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» بقتال أو غيره «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» قابلوه بالاعتداء سواسية على حد قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية 40 من الشورى في ج 2، ولهذا سماء اعتداء «بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فإن زدتم عليه فقد ظلمتم، وإن نقصتم فقد عفوتم وصفحتم، ولأن يخطىء الإنسان بالعفو أحسن من أن يخطىء في القصاص، لأنه إذا جاوز استيفاء حقه فقد ظلم كما أن الخطأ في التبرئة خير من الخطأ في الحكم لأنه مما يوجب التوفي منه والابتعاد عنه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس من مجاوزة حقوقكم إلى ظلم الغير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (194) الذين يراعون في أمورهم حدود الله وحقوق الناس، ولا يتعدون في الانتقام فهؤلاء يكونون في حراسة الله تعالى وهو يصلح شأنهم بالنصر والتمكين، وإنما جمع الحرمات لأن القتال قد يجتمع فيه حرمات ثلاث حرمة الشهر إذا كان من الأشهر الحرم وحرمة البلد إذا كان في مكة وحرمة المتقاتلين إذا كانوا محرمين، أي إذا قاتلوكم في إحدى هذه الحالات الثلاث، أو حال اجتماعها، فقاتلوهم أنتم أيضا، لأن مقاتلتكم قصاص لمقاتلتهم، ولا إثم عليكم في ذلك. هذا، ولما أمر الله تعالى بالجهاد وكان أهم لوازمه المال أنزل الله جل شأنه «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي الجهاد والإنفاق صرف المال في وجوه البر، وأحسن أنواعه الجهاد ولا سيما عند الحاجة مثل ذلك الوقت، والذي يخصص المراد بهذا الإنفاق للجهاد مجيء هذه الآية بعد ذكره، على أنه مطلوب في الجهاد وغيره، ولكنه في الجهاد وزمن الحاجة أفضل وأكثر أجرا. والمراد بقوله جل قوله «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» التي هي التمسك بالأموال وترك الغزو في سبيل الله وعدم معاونة الغزاة بالمال لأنه يسبب تسلط العدو عليكم وإهلاككم. روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات. وأخرج الترمذي والنسائي عن خزيم بن فانك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أنفق

نفقة في سبيل الله كتب له سبعمئة ضعف. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق وروى البخاري عن حذيفة قال: أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. قال نزلت في النفقة، أي لا تمسكوا عن الإنفاق خوف الفقر فتقولوا إن أنفقنا يذهب مالنا ونهلك، بل أنفقوا «وَأَحْسِنُوا» في الإنفاق والجهاد وغيره ولا تسرفوا بالنفقة ولا تبخلوا فتقتروا فيها على أنفسكم ومن تلزمكم نفقته الأقرب فالأقرب، لأنه صلة ونفقة وصدقة، ثم الأبعد فالأبعد عن طيب نفس وانشراح صدر، وهذا هو معنى الإحسان بالنفقة «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 195» ويزيدهم من فضله ويثيبهم على إحسانهم. روى سلمة عن أسلم بن عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس سبحان الله يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تؤولون هذه الاية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه هذه الآية يردّ علينا ما قلنا، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم في أصل صور قسطنطينة، فهم يتبركون في قبره فيزورونه احتراما، ويستشفعون به إلى الله في حوائجهم ويستسقون به حتى الآن، رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» بأن تأتوا بجميع أركانها وشروطها وواجباتها وسننها ومندوباتها وتجتنبوا مكروهاتها وتبدءوها بالمال الحلال والنيّة الخالصة، وتختموها بالعزم على اجتناب ما نهى الله عنه وتكملوها «لِلَّهِ» وحده لا لسمعة ولا لرياء ولا لتجارة محضة. واعلم أن أركان الحج خمسة: الإحرام من المحل المعروف كرابغ والجحفة مثلا، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة جزءا من النهار وجزءا

من ليلة النحر، والطواف بالبيت للزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو تقصيره. وأركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وبهذه يتم كل من الحج والعمرة إذا لم يعقكم عائق «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» ومنعتم من قبل عدو أو وحش أو حبس أو مرض أو عرضت لكم حاجة لا غنى لكم عنها تمنعكم من الحج أو من إكماله أو نفدت نفقتكم أو ضاعت ولم تجدوا من تستدينون منه فتحللتم من حجكم وعمرتكم «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليكم وهو شاة لأن أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة يذبحها في المحل الذي أحصر فيه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية فيها، ولما أخرج البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحلق رأسه هناك. وقال أبو حنيفة: يبعث بالهدي إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك على وقت مخصوص، حتى إذا غلب ظنه على وصوله يحل في ذلك استدلالا بقوله تعالى «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» الذي يجب أن يذبح فيه عادة. وقال الشافعي وأحمد ومالك: يذبحه حيث أحصر مستدلين بما تقدم. وهذا إرشاد من الله تعالى إلى عباده لتدارك ما قد يعتريهم من العوارض المتوقعة المخلة بالحج، ومنها ما جاء في قوله «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً» وهذا بيان حكم الإخلال بنوع آخر غير الإحصار كجراح وبالأخرى كل ما يتوجع منه بدليل قوله «أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ» كصداع ودوخة أو قمل وغيره واحتاج إلى الحلق حال الإحرام فحلق رأسه «فَفِدْيَةٌ» عليه جزاء ذلك «مِنْ صِيامٍ» أقله ثلاثة أيام «أَوْ صَدَقَةٍ» أقلها إطعام عشرة مساكين كل واحد نصف صاع «أَوْ نُسُكٍ» ذبيحة أقله شاة، وأو هنا للتخيير فيفعل أيها شاء وهو الفدية التي يريدها الله تعالى وكل هدي أو إطعام يلزم المحرم فهو لمساكين الحرم إلا هدي المحصر فلأهل المحل الذي أحصر فيه على أحد القولين المتقدمين، روى البخاري، ومسلم عن كعب بن عجرة قال: أتى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي، فقال أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم يا رسول الله، قال فاحلق وصم ثلاثة

أيام وأطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة، لا أدري بأي ذلك بدأ. وفي رواية قال فيّ نزلت هذه الآية «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم وبرئتم من مرضكم وزال مانعكم من الإحصار الذي عاقكم «فَمَنْ تَمَتَّعَ» انتفع بالتقرب إلى الله تعالى «بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ» أي قبل انتفاعه بتقربه بالحج في أشهره أو من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج مجددا. وهذا حكم آخر لغير المحصور إذا أراد التمتع وهو الإحرام أولا بالعمرة، وبعد أن يكملها يتحلل ثم يحرم بالحج «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» عليه أي شاة، ويسمى هذا الهدي هدي المتعة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» هديا يذبحه لضيق ذات يده «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» عليه «فِي الْحَجِّ» في وقته وأشهره بين إحرام العمرة وإحرام الحج، والأحب أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة، وإن شاء فرقها، ولا يصح صوم يوم النحر ولا أيام التشريق «وَسَبْعَةٍ» أيام عليه أيضا «إِذا رَجَعْتُمْ» نفرتم وفرغتم من أعمال الحج. ولما كان النفر أو الفراغ سببا للرجوع أطلق الرجوع عليها على طريق إطلاق المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ، وله أن يصوما بعد الرجوع إلى أهله «تِلْكَ» الثلاثة أيام والسبعة «عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» قائمة مقام الهدي الذي لزمكم ذبحه بسبب تحليلكم الإحرام بين العمرة والحج «ذلِكَ» الحكم الذي بيّن خاصّ «لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» لأن أهله وأهل مكة وما يشتمل عليها من المواقيت إذا تمتعوا أو قرنوا فلا هدي عليهم، لأنهم لا يجب عليهم الإحرام من الميقات كسائر أهل المدن الأخرى، لهذا فإن إقدامهم على التمتع لا يوجب خلال في حجهم، بل هذا على أهل الأرياف والبلاد الخارجة عن حدود الحرم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه في الحج وغيره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 196» على من تهاون بحدوده وخالف أوامره، ومن علم أنه كذلك صده علمه عن كل ما نهى الله عنه، وقد جاء لفظ الجلالة مع اكتفاء الإشارة إليه بالضمير لتقدم ذكره، لإدخال الروعة على من تحدثه نفسه بالمخالفة، ولتربية المهابة في قلب غيره، ولإلهاب قلوب الطائعين للإخلاص بطاعته. قال تعالى «الْحَجُّ

مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر الله تعالى:

أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» مبدؤها شوال وذو القعدة، ومنتهاها اليوم العاشر من ذي الحجة، وكماله الثالث عشر منه، وجمعت الأشهر، مع أن أقل الجمع ثلاث، وهنا شهران وبعض الثالث، لأن الشهر الذي أوله من أشهر الحج فآخره كذلك، لأن الحاج لا يرجع إلى أهله قبل نهايته غالبا لاشتغاله بالزيارة، أو لأن اسم الجمع يطلق على ما وراء الواحد، قال تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الآية 5 من سورة التحريم الآتية، وقال تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 46 من سورة النمل في ج 1 وفيهما ما يرشدك لمثله، على أن السفر سيكون بالطائرات المحدثة، وعليه قد يكون الحج والزيارة بأسبوع واحد، والله أعلم. وجاء في الآية الأولى (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي الأهلة بلفظ عام، وهذه الآية بلفظ خاص، والخاص مقدم ومفسر له، وتفيد هذه الجملة أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر المذكورة، لأن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح، فالخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها قائمة مقام الركعتين من الظهر حكما، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة قبل وقته أولى، ولأن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقته، فلأن لا ينعقد قبل الوقت أولى، لأن البقاء أسهل من الابتداء، ولا يرد قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) هنا، لأن هذه الآية أخصّ منها، تدبر. واعلم أن الله تعالى فرض الحج على هذه الأمة دون غيرها واختلف في زمن فرضه والصحيح أنه سنة ست من الهجرة كما ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح. مطلب في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر الله تعالى: هذا، وما قاله تعالى «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» بأن ألزم نفسه به بالنية والإحرام لزمه الحج، أما إذا فرض على نفسه الحج في غيرها بأن نوى أو أحرم فلا يلزمه، لأنه في غير وقته، ومن ألزم نفسه الحج فيها «فَلا رَفَثَ» أي يجب عليه أن لا يرفث، وهو هنا كناية عن ذكر الجماع ودواعيه في محضر النساء «وَلا فُسُوقَ» أي خروج عن طاعة الله فيدخل النهى في هذه الكلمة عن جميع المعاصي

«وَلا جِدالَ» مخاصمة مطلقة في قليل أو كثير بسبب وبلا سبب لإطلاق النهي عنها «فِي الْحَجِّ» في زمنه كله ومكانه جميعه، لأن الذنوب تضاعف هناك، كما أن الحسنات تضاعف أيضا لما ورد أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويثيبكم عليه وفي هذه الجملة حث الحاج على عمل الخير وتحذير شديد من فعل الشر، وفيها إرشاد إلى البر والوفاق والآداب الحسنة والأخلاق العالية، وإيماء بملاطفة الغير ولين الجانب، وإشارة إلى اجتناب جميع ما يعد شيئا، والإقدام على سائر ما يعد حسنا ورمز عن التباعد عن كل ما لا يرضى الله به، وفعل ما رغّب فيه، بدلالة قوله «وَتَزَوَّدُوا» عباد الله من أعمال الخير والأفعال الصالحة ومن النفقة أيضا لإطعام المحتاجين والبائسين والتصدق على الفقراء والمساكين، واحذروا أن تقصروا في حمل النفقة لأنفسكم على الأقل بما يكفيكم لذهابكم وإيابكم لئلا تكونوا عالة على غيركم، لأن الله لم يكلّف غير المستطيع إلى زيارة حرمه، وكما يطلب التزود من الحاج في الزاد يطلب منه التزود في عمل الخير «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» عن كل محظور، ومنه التثقيل على الناس بالاستطعام وخير الزاد الموصل إلى العبادة في الدنيا والآخرة. وبعد أن حث جل شأنه على البر الشامل إثر تحذيره عن الشر العام أرشد عباده بأن يكون قصدهم بحجهم وعملهم ونفقتهم رضاه فقال «وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (179) خصهم بالذكر لأنهم يعلمون حقائق الأمور، قال الأعشى في هذا المعنى: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا وقال الآخر: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن البذر قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» حرج ولا إثم أيها الحاج «أَنْ تَبْتَغُوا» بأن تتجروا فتبيعوا وتشتروا فتستفيدوا «فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» رزقا

وريحا في مواسم الحج، روى البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا أن يتجروا في المواسم كما كانوا قبلا فنزلت هذه الآية. الحكم الشرعي: تباع التجارة في موسم الحج إن لم تحدث نقصا في أعماله، والأولى تركها لغير المحتاج ليتجرّد للعبادة. فيا أيها المؤمنون إذا أحرمتم ودخلتم مكة شرفها الله وطفتم طواف القدوم وخرجتم إلى عرفات يقول الله تعالى لكم «فَإِذا أَفَضْتُمْ» دفعتم ونفرتم بعد إكمال وقوفكم «مِنْ عَرَفاتٍ» بأن وجدتم فيها في جزء من نهارها وجزء من ليلة العيد، لأن أول الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وآخره طلوع الفجر من يوم النحر، ووقت الإفاضة من المزدلفة من بعد غروب شمس يوم عرفه إلى طلوع فجر يوم النحر، ويؤخر صلاد المغرب بسبب الازدحام وقت النفر ليجمعها مع صلاة العشاء بالمزدلفة، كما أنه يقدم عصر يوم عرفه فيصله مع ظهره بسبب الانشغال بالخطّ والترحال، ولا يجوز الجمع في غير هذين الوقتين في مذهب أبي حنيفة، إذ لم يثبت عنده في غيرهما، خلافا للإمام الشافعي إذ يجوز عنده لجمع تقديما وتأخيرا، مطلقا في السفر وفي الحضر لمرض أو لحاجة ماسة كالخوف والمطر، ولكل وجهة، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب (بين مزدلفة وعرفات) نزل قبال ثم توضّأ (أي استنجى) ولم يسبغ الوضوء، فقلت الصلاة يا رسول الله، فقال الصلاة أمامك، ثم ركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلّى ولم يصل بينهما شيئا. وجواب إذا الشرطية «فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» في المزدلفة وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمى عرفة إلى وادي محسر، والمأزمان والوادي ليسا من المشعر الحرام، وسميت مزدلفة لأن الناس ينزلونها زلف الليل أي أوائله، وتسمى جمعا لأنهم يجمعون فيها المغرب والعشاء، وهذه التسمية الأخيرة بعد الإسلام إذ لا صلاة قبله تجمع فيه. والمأزمان هما المضيق بين جمع وعرفة، ويوجد مأزمان أيضا بين مكة ومنى، والمراد الأولان، وكل مضيق يطلق عليه مأزم. والمراد

بذكر الله تعالى دوام الدعاء بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. روى البخاري عن ابن عمرو بن ميمون قال: قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع أي المزدلفة حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون أشرق بثير (جبل بمكة تشرق عليه الشمس فيرونها عليه من المزدلفة ويقولون بعده حتى نغير أن ندفع إلى النحر) فخالفهم النبي صلّى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف النبي صلّى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وكلاهما قال لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة. وروى جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام (وهو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح) دعا فيه، كبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر الفجر «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» لدينه الحق وشرعه الصدق ومناسك حجه، وأكثروا من الدعاء والتكبير والتهليل «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدى الله لكم على يد رسوله «لَمِنَ الضَّالِّينَ» (981) عن طريق السداد تائهين في سبيل العناد، ثم ألمع إلى وجوب الوقوف بعرفات، فقال جل قوله «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» من عرفات، وقد أشار إلى الوقوف بمزدلفة أيضا، إلا أنه ليس على طريق الوجوب وجيء بثم لتفاوت ما بين الإفاضتين، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان بدينها يقعون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس (لتشددهم في دينهم) وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا) ، وروى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع، قال كان يسير العنق (نوع من السير أشد من المشي) فإذا وجد فجوة (فرجة) نصّ أي أسرع في مشيه بأقصى وسع ناقته. وروى البخاري عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلّى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع (السير السريع الشديد)

[سورة البقرة (2) : الآيات 201 إلى 210]

«وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» من جميع ذنوبكم ومما خلاف الأولى أيضا «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده «رَحِيمٌ 199» بهم يريد لهم الخير والنجاح في أمورهم كلها، وهذه بشارة من الله تعالى للحجاج بقبول حجهم وغفران ذنوبهم. قال تعالى «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» المارة كلها ورميتم جمرة العقبة وذبحتم نسككم واستقريتم في منى. وصدر هذه الآية شرط جوابه «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» بمثل ما تقدم عند التلبية فإنها تنتهي هناك، لأن الحاج لا يزال يلبي من حين يحرم حتى يذبح، ثم أرشدهم لأن يبالغوا في ذكره بقوله جل قوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» في الجاهلية «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» من ذكرهم لأن الله أحق أن يكثر من ذكره، وكان الجاهليون يقفون في منى بين المسجد والجبل فيذكرون آباءهم ومفاخرهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم وجميع مناقبهم كالكرم والشجاعة وإقراء الضيف ومحافظة الجار وسعة البيوت وكثرة العطاء نثرا وشعرا بما أوتوا من فصاحة وبلاغة، لرفع الصيت والشهرة وإظهار الرفعة بين الناس، فأمرهم الله تعالى في هذه الآية أن يبدلوا ذكر آبائهم بذكره، لأنه هو المنعم عليهم وعلى آبائهم، وهو أحق بالذكر والشكر من آبائهم. «فَمِنَ النَّاسِ» الحجاج المشركين «مَنْ يَقُولُ» في ذلك الموقف «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا» زدنا من حطامها «وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ 200» حظ ولا نصيب لأنهم ينكرون وجودها، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم تعس (دعاء بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار) عبد الدنيا عبد الدرهم عبد الخميصة (ثوب فمن خزّ معلّم) إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس (وقع على رأسه وخاب وخسر) وإذا شيك (أصابته شوكة) فلا انتقش (لا أخرجت منه شوكة لأن الانتقاش إخراج الشوكة بالنقاش) . «وَمِنْهُمْ» يعني الحجاج المؤمنين «مَنْ يَقُولُ» في دعائه «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن تزيدنا من خيرها «وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» بأن تزيدنا من ثوابها لعلمهم أنهم قادمون عليها «وَقِنا عَذابَ النَّارِ 201» في الآخرة لأنا موقنون بك وبرجوعنا إليها «أُولئِكَ» الطالبون خيري الدنيا والآخرة «لَهُمْ نَصِيبٌ» حظ وافر عظيم، لأن تنوين التنكير يدل على كبر ذلك النصيب «مِمَّا كَسَبُوا»

فيها من الخير، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فكلما ربحوا في الدنيا من البرّ ضوعف لهم أجره في الآخرة «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ 202» لا يعوقه محاسبة ناس عن أناس يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد. وتشير هذه الآية إلى قرب الآخرة، لأن كل آت قريب، وكل ماض بعيد فبادروا أيها الناس بالأعمال الصالحة وأكثروا من الدعاء فإنكم محاسبون على أعمالكم، لأنه لا يخفى عليه شيء منها، وأن ما كان وما سيكون مدون في علمه، وأن حسابه كلمح البصر لا يحتاج إلى عقد يد أو جرّة قلم أو روية فكر، ولا يشغله شأن عن شأن، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة. وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال نعم. كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال فدعا الله به فشفاه. ورويا عنه أيضا قال: كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وقد قسم الله تعالى الناس في هاتين الآيتين إلى قسمين، فعليك أيها العاقل أن تكون من الثاني فقيه الخير أجمع. قال تعالى «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» أي يوم النحر وأيام التشريق الأربعة، وسميت بذلك لأن الأول تنحر فيه الذبائح والتي بعده يشرقون فيها لحومها وينشرونها على مواقع الشمس لتيبس. روى مسلم عن نبيشه الهذلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. وأجمع العلماء على أن المراد التكبير عند رمي الجمرات في منى بأن يكبر مع كل حصاة يرميها في أيام التشريق، وأجمعوا على أن التكبير في عيد الأضحى وأيام التشريق سنة أدبار الصلوات وأوله من صبح يوم عرفة إلى عصر اليوم الخامس، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، ثم خيرهم الله تعالى بين التعجيل

والتأخير إذا كان الغرض صحيحا بقوله عز قوله «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ» لأن الواجب أن يبيت الحاج في منى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق فقط ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع، وبعد الرمي في اليوم الثاني إذا أراد أن ينفر من منى «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» وهذا يسمى النفر الأول «وَمَنْ تَأَخَّرَ» إلى النفر الثاني فبات الليلة الثالثة من أيام التشريق في منى وأكمل الرمي فيه «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ولا حرج، وإنما قال لا إثم عليه هنا مع أنه أكمل حالا من الصورة الأولى المرخص بها دفعا لما يخطر بباله أنه إذا لم يأخذ بالرخصة يأثم، فأزال الله تعالى تلك الشبهة بقوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) والذي تعجل لا إثم عليه لأنه أخذ بالرخصة، ومن يأخذ بالرخصة لا عتاب عليه لعدم أخذه بالعزيمة، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وهذا التخيير وففي الإثم «لِمَنِ اتَّقى» الله في حجه، وإنما يتقبل الله من المتقين، أما من كان ملوّثا بالمعاصي حين اشتغاله بالحج فلا ينفعه حجه تعجّل أو تأخر، لأن تأديته ظاهرا لا تكفي عند الله. وقيل إن أهل الجاهلية منهم من يقول يأثم المتعجل، ومنهم من يقول يأثم المتأخر، فجاء فضل الله بنفي الإثم عن الفريقين، ولذلك قال لمن اتقى، لأن الجاهليين لا يتقون الله. ثم حثّ على التقوى فقال «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في كل أقوالكم وأعمالكم وأحوالكم وأفعالكم قبل الحج وبعده لأنها الدليل الظاهر على قبول الأعمال، قالوا إن الحاج إذا لم تحسن حالته الدينية ومعاملته مع أهله والناس أجمعين بعد حجه فهو دليل على عدم قبوله حفظنا الله من ذلك، وحسن أحوالنا الظاهرة والباطنة. ثم هددهم بقوله جل قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 203» حتما فيجازيكم على أعمالكم كلها حتى نياتكم لأن من علم أنه يبعث ويعاقب ويحاسب ويثاب لا بد أن يلازم التقوى التي أكدها الله تعالى بعد ذكرها مرتين. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» لأنه يظهر لهم من المودة والصدق خلاف ما يبطن من البغض والكيد والكذب نفاقا «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ» من قوله للرسول وأصحابه أنه مؤمن يحب المؤمنين «وَهُوَ» والحال أنه «أَلَدُّ الْخِصامِ 204»

لهم في الباطل شديد المجادلة في النفاق. روى البخاري ومسلم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم «وَإِذا تَوَلَّى» هذا الصنف من المنافقين وأعرض عنك وعن أصحابك يا سيد الرسل ورأى نفسه بحالة لم يشاهده فيها أحد من المؤمنين «سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها» يقطع الطريق ويسلب المارة ويشهد الزور ويحرض على المؤمنين «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ» بالتسبب إلى إتلافه «وَالنَّسْلَ» بالقتل والتعطيل «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ 205» ولا يرضى به، وفي هذه الجملة إشارة إلى شدة عداوة هذا الصنف من المنافقين إلى المؤمنين وإلى الدين الحق وإيذان في كذبه في دعواه تلك، وقد استنبط بعض العلماء ومنهم الحنابلة من هذه الآية لزوم التحقيق على من يتولى القضاء والشهادة، وأن لا يغر بظاهر حالهما فلعلهما من هذا الصنف. واعلم أنه لا يقال من هنا إن المحبة هي الإرادة، لأن الإرادة غير المحبة، لأن الإنسان قد يريد الشيء ولا يحبه، بدليل تناول الدواء المر لا عن محبة له ولا رغبة فيه، وعليه فلا دليل في هذه الآية لمن ادعى أن المحبه عين الإرادة، تدبر. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُ» لذلك النوع من الناس على نهج العظة والنصيحة «اتَّقِ اللَّهَ» واترك ما أنت عليه من هذه الحال الخبيثة والعادة القبيحة «أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ» حملته المنعة والأنفة والتكبر والحمية الجاهلية والأنانية النفسية والعجب والتيه «بِالْإِثْمِ» على دوام فعله والزيادة منه لجاجا وعنادا وعتوا، ولم يلتفت إلى النهي الموجه إليه «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ 206» الفرش، قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنوب عند الله تعالى أن يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك، وقيل لعمر اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله تعالى. وسبب نزول هذه الآية أن الأخنس بن شريق خليف بني زهرة، وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال الكفرة مع حضرة الرسول وأشار عليهم بالرجوع قائلا لهم إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس بعد فقالوا نعم ما رأيت، وكان يظهر إلى الرسول المحبة ويبطن البغض وهو لين الكلام منافق قاسي القلب. وقد ذكرنا في الآية 198 المارة أن حادثة بدر وقعت في

مطلب مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب:

17 رمضان السنة الثانية من الهجرة إلا أن الله تعالى لم يشر إليها عند وقوعها، وإنما أشار إليها في سورة الأنفال عند قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) في الآية 5 منها وسنأتي على القصة هناك إن شاء الله، وهكذا فإنه تعالى تارة ينوه بالشيء قبل وقوعه وطورا عند حدوثه ومرة بعد وقوعه بقليل وأخرى بكثير. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ» يبيعها «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لشيء آخر بل ليستجلب لها رضاء الله ورأفته «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ 207» أمثال هؤلاء، وهذه الجملة تقرير لما تقدم لأنه كلفهم بالتقوى وعرضهم للثواب ليصب رحمته عليهم، وقد ذكرنا فى الآية 143 المارة أن الرأفة رحمة خاصة يلطف بها على خواص عباده عطفاء عليهم. مطلب مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب: وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش طلبوا من حضرة الرسول أن يبعث لهم من أصحابه من يعلمهم أمر دينهم بحجة أنهم أسلموا، فبعث لهم خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق ومرشد بن أبي مرشد الغنوي وخالد ابن بكر وعبيد الله بن طارق بن شهاب البلوي وثلاثة آخرين لم نتصل بأسمائهم، وأمرّ عليهم عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب حتى صاروا في الفدفد (موضع بين عسفان ومكة وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع) فتبعهم جماعة من بني لحيان بن هذيل، فلما أدركوهم أعطوهم العهد، ثم نكثوا بهم فقتلوهم إلا خبيبا وزيدا فقد أوصلوهما إلى مكة، فباعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر ابن نوفل لأنه كان قتل أباهم الحارث في حادثة بدر، وباعوا زيد بن الدثنة إلى صفوان بن أمية بن خلف ليقتله بأبيه أيضا، فأرسله مع مولاه إلى التنعيم ليقتله في الحل واجتمع حوله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له عند ما قدموه إلى القتل أنشدك الله أتحب أن محمدا عندنا الآن هنا بمكانك وأنت في أهلك فقال والله ما أحب أن يصيب محمدا شوكة وهو في مكانه والذي هو فيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب محمد من أصحابه،

ثم قتله فسطاط مولى صفوان المذكور، ولما قدم خبيب إلى الصلب استأذن فصلّى ركعتين قبل قتله وقال لولا أنكم تظنون أني جزعت من الموت لزدت في صلاتي، ثم قتله عقبة بن الحارث بيده، وهو أول من سن الصلاة عند القتل، وقال قبل قتله: اللهم لا أجد من يبلغ سلامي لرسولك فأبلغه سلامي، ثم قال: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شقّ كان في الله مضجعي وفي رواية: مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع أي مفرّق، والشلو العضو من الإنسان، قالت بنت الحارث: لما كان خبيبا موثقا في البيت استعار مني موسى ليستحد به (يزيل شعر عانته لئلا يعيروه بعد صلبه وكانت هذه عادة عندهم فكل من يعرف أنه يقتل صلبا يفعل ذلك) قالت فدرج إليه غلامي فوضعه على فخذه، ففزعت، فقال أتخشين أن أقتله لأني مقتول، لا إن شاء الله، فصارت تقول ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، ولقد رأيته يأكل من قطف وما بمكة يومئذ تمرة، وما هو إلّا رزق ساقه الله إليه. وهذا من نوع الكرامة التي أكرم الله بها مريم بنت عمران رضي الله عنهما، ولما بلغ محمدا صلّى الله عليه وسلم ذلك قال لأصحابه: أيكم ينزل خبيبا من خشبته وله الجنة؟ وذلك أنهم بعد أن قتلوه صلبوه تشهيرا، وكان ذلك من عادتهم، ولهذا فإن الحجاج لما قتل ابن الزبير صلبه وأبقاه حتى جاءت أمه وقالت أما آن لهذا الفارس أن يترجّل؟ لأن الحجاج عليه ما يستحق حلف لا ينزله من المصلبة حتى تشفع فيه أمه، وقد أبت أن تشفع به أو ترجو إنزاله، ولما نقل إليه قولها هذا قال أنزلوه فإن قولها ذلك بمنزلة الاستشفاع به. فقال الزبير بن العوام أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فطفقا يمشيان الليل ويركنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا فرأيا خبيبا معلقا وحوله أربعون من المشركين نيام سكارى، فأنزلاه، فإذا هو رطب يتثنى ويده على جراحته لم يتغير، فحمله الزبير على فرسه تنفّس جراحته دما كريح المسك، وسارا به نحو المدينة، فلما حس المشركون ولم يروه أخبروا قريشا، فلحق بهما سبعون فارسا فقذفه الزبير عن فرسه والتفت إليهم، فقال ما بالكم أنا الزبير بن صفية بنت

عبد المطلب، وهذا المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما، فإن شئتم ناضلناكم، وإن شئتم نازلناكم، وإن شئتم انصرفتم، فنظروا فلم يجدوا معهم خبيبا، فرجعوا ثم إنهما تحريا جثة خبيب فلم يجداها، فسمي البليع أي الذي ابتلعته الأرض، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبراه، قالا وكان عنده جبريل يقول له يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، وأنزل الله فيهما هذه الآية لأنهما باعا أنفسهما في طاعة رسول الله طلبا لرضاء الله، والحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة لا يختلف في المعنى عن هذا، غير أن المذكورين كان أرسلهما رسول الله عينا في سرّية الربيع بعد وقعة أحد، ثم ساق القصة بأطول من هذا وقال بعض المفسرين إنها نزلت في صهيب بن سنان بن النمر بن قاسط الرومي وسبب نسبته للروم مع أنه عربي الأصل أن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارتهم الروم وسبوه فيمن سبوا فنشأ عندهم وبعد أن كبر لحق بمكة، حينما هاجر من مكة وتبعه المشركون ليردّوه، فقال والله لن تصلوا إلي إلا أن أرمي بكل سهم معي رجلا ثم أضرب بسيفي ما بقي بيدي، وإن شئتم دللتكم على مال لي دفنته في مكة تأخذونه وتخلون سبيلي، فرضوا منه ودلهم على موضع المال، فرجعوا عنه، ولما وصل إلى المدينة أخبر حضرة الرسول بهذا فنزلت، وكناه صلّى الله عليه وسلم بأبي يحيى، إذ قال له ويح أبي يحيى. وكل من هذه القصص صالحة لأن تكون سببا للنزول، وأصحها أولها، ويليها الأخيرة، والله أعلم، لأن الآية عامة في كل من يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلّب، وكل من يأمر بمعروف وينهى عن المنكر فيعذب أو يهان من أجله، وكل من يبذل نفسه في طاعة الله ورسوله ويجهدها في العبادة. أخرج الترمذي عن أبي سعد قال: قال صلّى الله عليه وسلم من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر. لأن العادل يحب أن ينصح ويأخذ بالنصيحة ولا تهابه الناس أن ترشده، أما الجائر فإنه يخاف منه ولا يحرؤ أحد على نصحه، لذلك أخبر حضرة الرسول بعظيم ثواب من يقدم على نصحه، لأنه من قبيل الجهاد لما فيه من تعريض النفس للبلاء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» السلم بفتح السين وكسرها الاستسلام التام والطاعة العامة، أي ادخلوا

مطلب لا يصح نزول الآية في عبد الله بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو الله تعالى:

أيها المسلمون الموقنون في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وهذا كالتحذير من عدم القيام بما تقدم من أحكام الإسلام وتأكيدا لأمرهم بالتقوى فيها. ومن قال إن الخطاب فيها لكفار أهل الكتاب أو المنافقين يبعده تصوير الخطاب بتسميتهم مؤمنين. مطلب لا يصح نزول الآية في عبد الله بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو الله تعالى: وكذلك ما قيل إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أقاموا بعد إسلامهم على تعظيم البيت وكراهة لحوم الإبل وألبانها وقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا مباح في الإسلام وواجب في التوراة، وطلبوا أن يقيموا صلاتهم ليلا وانها إعلام بإبطال حكم التوراة وأمر بإقامة شرائع الإسلام كافة، لأن عبد الله لم يسلم بعد ولو فرض إسلامه ففيه من الطعن ما فيه، وهو رضي الله عنه براء من ذلك والآية عامة مطلقة لم تخصص ولم تقيد مبنى ولا معنى كما هو ظاهر من سياقها وسياق ما قبلها، وعليه فتكون مخاطبا بها كل مؤمن بأن يعمل بجميع أحكام الإسلام وشرائعه، ويؤيد هذا قوله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» ووساوسه ودسائسه لأنه يوقعكم في الخطأ فيحن لكم ما هو قبيح في الإسلام ويقبح لكم ما هو حسن، لأن كل إخلال بشيء مما تقدم يكون في متابعة الشيطان «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 208 ظاهر العداوة يزين لكم المعاصي ويلقي عليكم الشبهات ليؤثمكم وينتقم منكم بسائق عداوته مع أبيكم آدم عليه السلام، ثم هددهم وأوعدهم على الإخلال بما وصاهم بعد أن نصحهم وحذرهم من المخالفة بقوله عز قوله «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ» الواضحات المفصلات للأحكام والحدود «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» غالب لا يعجزه شيء «حَكِيمٌ 209» لا ينتقم إلا بحق وإلا بعد إقامة البراهين على المجرمين ممن كان في قلبه شك أو شبهة في شيء مما جاءهم فما ينتظرون بعد تلك الدلائل الناصعة الباهرة «هَلْ يَنْظُرُونَ» هؤلاء الذين لم يؤمنوا المصرون على متابعة خطوات الشياطين «إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ» السحاب الأبيض الرقيق وسمي

غماما لأنه يغم ويستر ما فوقه وما تحته «وَالْمَلائِكَةُ» بالرفع عطف على لفظة الجلالة، وقيل بالجر عطف على الغمام، وهذا على حد قوله (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) الآية 22 من سورة الفجر في ج 1، ولا يكون هذا إلا في يوم القيامة، أي ما ينظرون هؤلاء بعد ما قدمناه لهم من الهدى والإرشاد والآيات المخوّفات إلا ذلك اليوم بأن يموتوا وينقضي أجل برزخهم فيبعثوا ويحاسبوا على أعمالهم «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» بفصل القضاء وبيان أهل الجنة من أهل النار يوم يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 60 من سورة يس في ج 1، «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 210» لا إلى غيره فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار، وهذه الآية من آيات الصفات المنوه بها في الآية 158 من سورة الأنعام في ج 2، وإن مذهب السلف من أعلام السنه كالكلبي وسفيان بن عيينة والزهري والأوزاعي وسفيان الثوري وإسحق بن راهويه وابن المبارك والليث بن سعد ومالك وأحمد بن حنبل وجوب الإيمان بها على ظاهرها والتسليم لما جاء بها دون تأويل أو تفسير، وأن يوكل علمها الحقيقي إلى الله ورسوله مع الاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث من حركة أو سكون، وأن تقرأ على ما هي عليه، وبه قال أبو حنيفة مع نفي التشبيه والكيف، وقال قائلهم في معنى هذه الآيات: عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ... ولا ذاته شيء عقيدة صائب فسلم آيات الصّفات بأثرها ... وأخبارها للظاهر المتقارب ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ... وتأويلنا فعل اللبيب المغالب ونركب للتسليم سفنا فإنها ... لتسليم دين المرء خير المراكب وإن مذهب الخلف الذي ذهب إليه جمهور العلماء المتأخرين والمتكلمين وأصحاب النظر على تأويلها وتفسيرها بما يناسب المقام، لأن الله تعالى منزه عن الذهاب والإياب والمجيء والإتيان، وأن تكون له يد أو رجل أو وجه وغيرها مما يوافق سمات خلقه وصفات الحدوث، لأنها لا تنفك عن الحركة والسكون المستحيلة عليه، وهو المبرأ عنها، ولهذا جنحوا إلى تأويل اليد بالقوة والرحمة مثلا، والمجيء والإتيان نسبوه لملائكته وعلمه لاعتقادهم أن المراد بها غير ظاهرها، ويستدلون بما يناسب

[سورة البقرة (2) : الآيات 211 إلى 220]

هذا كقوله تعالىَ لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) الآية 34 من سورة النحل في ج 2، لأن فيها تفصيلا مفسرا لما أجمل في الآية المفسرة هذه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويقولون إن في مثل هذه الآيات حذفا، أي يأتيهم الله بما أوعدهم من العقاب على ما اقترفوه من الذنوب، وما وعد به من الثواب على ما قدموه من الخير، وسبب الحذف زيادة التهويل وبلاغته في الكلام زيادة في فصاحته، إذ لو ذكر لكان أسهل في باب الوعيد. وقال بعض المفسرين إن (فِي) هنا بمعنى الباء أي بظلل من الغمام، ويراد بالغمام العذاب، لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم دهشة وأشد وقعا وأنفع في العظة وأنفع في القلب، وفي هذا ما لا يخفى من التكلّف، ومذهب السلف أسلم، والله أعلم. وكما يقال في الآيات يقال في الأحاديث أيضا، راجع الآيتين المذكورتين من الأنعام والنحل في ج 2. قال تعالى «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين معك يا سيد الرسل في المدينة وغيرهم «كَمْ آتَيْناهُمْ» أي آتينا أسلافهم «مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» على صدق رسالة موسى عليه السلام فأنكروها وبدلوها «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ» آياته التي أنعم بها على عباده، وسميت الآيات نعما لأنها من أعظمها «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ» فلم يعمل بها ولم ينته عن غيه «فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 211» عليه يعذبه بما لا تطيقه قواه، وجاء اللفظ الكريم بالإظهار مع أن موقعه الإضمار بسبب تقدم ذكره لتربية الهيبة وإدخال الروعة في قلوب المتجاسرين على التبديل، لأن الآيات بعد أن وصلت إليهم وعرفوها بدلوها إذ لا يتصور التبديل قبل المجيء ثم ألمع إلى سبب إقدامهم عليه بقوله عز قوله «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا» فاغتروا بها ولهوا بزخارفها «وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لفقرهم وقلة ذات يدهم من حطامها وليس لديهم إلا تقوى الله «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والكفر واجتنبوا المعاصي والمناهي وآمنوا بالله ورسوله وكتابه «فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لأنهم يكونون في عليين وأولئك في سجين «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 212» رزقا كثيرا لا يحصى، باق لا ينفد ولا ينقص، لأن كل ما يدخل تحت الحساب قليل نافد، وخزائن

الله تعالى لا تنفد، ولا يقال لم أعطى هذا ومنع هذا، لأنه لا يسأل عما يفعل، وأفعاله لا تعلل. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ثلاث آيات مبدوءة بحرف الزاي: هذه والآية 13 من آل عمران الآتية والآية 7 من سورة التغابن الآتية أيضا، وقد نزلت هذه الآية والتي قبلها في المنافقين ورؤساء اليهود الذين يكتمون آيات الله لقاء ما يأخذونه من مال الدنيا الفاني، وفي أبي جهل وأضرابه الذين ينكرون البعث ويكذبون آيات الله ويتنعمون بما بسط لهم من نعيم الدنيا، وفي الحقيقة أن الله تعالى هو الذي زين لهم ذلك كما ألمعنا إليه في مواضع كثيرة، ويؤيد قراءة زين بالمعلوم أي بما أظهره لهم من زهرة الدنيا ابتلاء وامتحانا لهم، وبما ركب في أطباعهم من الميل والحب والرغبة إلى المجرمات، أي أن هذه الدنيا حسنت لهم الحياة فيها وتشربوا في محبتها حتى تغلغلت في قلوبهم، ولكن لا على سبيل الإلجاء والقسر بل على سبيل التحبب للنفس مع إمكان ردها، ولكن الناس نظروا إلى الدنيا بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ففتنوا بها وعكفوا على الإقبال إليها والانهماك فيها، فرموا بكليتهم عليها، وأن الله تعالى زاد في إمالهم وكثر عليهم نعمه ومتعهم بالصحة والمال والجاه لعلهم يرجعون فلم ينجع بهم، وكان هذا من جملة التزيين للدنيا في أعينهم وقلوبهم. وقيل إن المزين لهم شياطين الإنس والجن الغواة الذين يحببون لهم الدنيا وما فيها من المحرمات حتى تهالكوا عليها وتفانوا فيها ويغفلونهم عن ذكر الآخرة والاعتراف بوجودها، ويقولون لهم إن القول بذلك حديث خرافة لينصرفوا إليها الضمير يعود للدنيا ويضمحلوا في حبها، ولكنه من الضعف بمكان، لأن غواة الإنس والجن والشياطين داخلون في هذا التزيين، وكلهم مزيّين لهم، والمزين لا بد وأن يكون مغايرا للمزين له. روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل (فظ غليظ شديد لا ينقاد إلى الخير) جواظ (فاجر محتال قصير بطين) جغطريّ (متمدّح بما ليس فيه) مستكبر. ورويا عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد (الحظ والغنى)

مطلب الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم:

محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار فإذا عامة من دخلها النساء. ثم أعذر الله تعالى إليهم في إخلالهم بالأحكام فقال «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» متفقة على دين واحد زمن آدم عليه السلام، ولم يزل هو وذريته مسلمين لله حتى قتل قابيل هابيل فاختلفوا، ثم استمروا على شريعة واحدة شريعة شيث عليه السلام، ثم على شريعة إدريس إلى مبعث نوح عليه السلام، ثم اختلفوا فأقام نوحا ومن معه في السّفينة على دينه الحق وأهلك الآخرين، وهو أول رسول بعث لمن نجى معه من الغرق بعد الطوفان، ولهذا سمي أبا البشر الثاني. مطلب الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم: ثم اختلفوا بعد وفاته «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ» بعده لذرّيته «مُبَشِّرِينَ» المتقين برضوان الله «وَمُنْذِرِينَ» العاصين بسخطه إذا استمروا على طغيانهم، وقد جاء في الحديث: لا أحد أحب إليه العذر من الله. ولهذا أنزل الكتاب وأرسل الرسل، وجميع الأنبياء على ما قيل مئة ألف وأربعة وعشرون ألفا، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة عشر، جاء في القرآن العظيم ذكر خمسة وعشرين منهم المتفق على نبوتهم وهم: آدم إدريس نوح هود صالح شعيب إبراهيم إسحق يعقوب إسماعيل يوسف أيوب يونس موسى هرون لوط داود سليمان الياس اليسع ذو الكفل- على القول بأنه غير الياس وهو الصحيح راجع الآية 130 من الصافات ج 2- وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. أما عزير وذو القرنين فمختلف في نبوتهم، راجع الآية 177 المارة والآية 82 من الأنعام والآية 83 من سورة الكهف في ج 2، ولبحثهم صلة في الآية 163 من النساء الآتية. والنبي هو من أمره الله تعالى بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أمر بتبليغه. ومنهم من أرسل إلى أهل بيته خاصة، ومنهم إلى عشيرته، ومنهم إلى قومه، ولا رسالة عامة لجميع من على وجه الأرض من مبدئها لآخرها إلا لمحمد صلّى الله عليه وسلم، كما أن شفاعته عامة، لأنه خص بما لم يخص به غيره من إخوانه كما مرّ في الآية 79 من سورة الإسراء ج 1، وقد ذكرنا في الآية 26 من سورة هود في ج 2 أن

رسالة نوح عليه السلام مبدأها خاص وآخرها عام، فراجعها. «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ» يشمل الكتب المنزلة كلها لأن ال فيه للجنس وهي مئة وأربعة عشر فقط، أنزل منها على آدم عشرة، وعلى شبث ثلاثين، وعلى إدريس خمسين، وعلى إبراهيم عشرة، وعلى موسى عشر صحف والتوراة والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين. وذكرنا في الآية 184 المارة أنها كلها نزلت في رمضان إنزالا ملابسا «بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ» كل نبي بكتابه المنزل عليه بالعدل «بَيْنَ النَّاسِ» حسما لمادة الخلاف ليعملوا فيها هم أيضا من بعده «فِيمَا اخْتَلَفُوا» أي الناس المذكورين في صدر الآية «فِيهِ» من الحقوق الجارية بينهم «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ» في نفس الكتاب الذي يجب أن يتحاكموا إلى نصوصه فيما يقع بينهم من الخصومات «إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ» كاليهود والنصارى الذين في زمانك يا سيد الرسل، مع أنهم أهل لأن يتفقوا على أحكام كتبهم ولكنهم يا للأسف كفّر بعضهم بعضا، وتواطئوا على إنكار ما في كتبهم مما هو موافق لشريعتك وما هو مظهر نعتك وصفة كتابك وموجب للإيمان بك، ولم يزل الخلاف بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» المزيلة لهذا الاختلاف «بَغْياً بَيْنَهُمْ» وحسدا إذ لا عذر لهم في العدول عنك وعما جئت به لا حب بقاء الرياسة والحصول على حطام الدنيا «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» من أصحابك وأمتك «لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ» الذي هو رسالتك، واختلفوا في الجمعة فهداك الله وأمتك إليها، واختلفوا في الصيام وفي القبلة فهداكم إليهما، واختلفوا في إبراهيم وفي عيسى فهداكم الله للإيمان بهما كغيرهما من الأنبياء. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه، فغد لليهود، وبعد غد للنصارى. وفي رواية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له. زاد النسائي: يعني يوم الجمعة (ثم اتفقا) فالناس لنا تبع اليهود غد والنصارى بعد غد. وروى

مسلم عن حذيفة ما بمعناه «بِإِذْنِهِ» أمره وإرادته وفاقا لما هو في سابق علمه «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 213» ومن يشاء إلى الطريق المعوج لسابق شقائه أيضا. قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها الناس «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» بمجرد إيمانكم أو إسلامكم «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ» يصيبكم بلاء ومشقة «مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» من المحن والإحن والامتحان والاختبار إذ «مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ» وذاقوا من الفقر والفاقة والزمانة والخوف «وَزُلْزِلُوا» أزعجوا في حياتهم إزعاجا شديدا يشبه في عظمته الزلازل في الهول وبقوا على اضطرارهم «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ» أي لم يبق لهم صبر مع أنهم أثبت الناس على الأهوال، حتى إذا استبطؤا نصر الله لهم حثّوا قومهم على الصبر وصرحوا لهم بأن الإيمان وحده وإن كان كافيا لدخول الجنة إلا أنه لا يكفي لإعلاء كلمة الله وقهر أعدائه ما لم ينضم إليه بذل النفس والنفيس في سبيل الله، وذلك لشدة الضيق وكثرة دواعي الضنك، وهؤلاء الممتحنون إذا أخلصوا لله تعالى يجابون فيقول لهم الله «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ 214» فياتيهم ما وعدهم به حالا، لأن الأمر بلغ معهم غاية ما وراءها غاية في الشدة والضنك، قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) الآية 111 من سورة يوسف في ج 2، فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثلهم واستنصروا ربكم حالة كربكم، فإنه لا بد أن يأخذ بيدكم وينصركم بمقتضى عهده إليكم وهو لا يخلف الميعاد (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الآية 112 من التوبة الآتية، قال المفسرون رحمهم الله لما هاجر الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة اشتدت فاقتهم لأنهم تركوا أموالهم في مكة واستولى عليها المشركون، وأظهرت اليهود العداوة لحضرة الرسول وأصحابه وآثر قوم من أهل المدينة النفاق على الإيمان، وأثّرت عليهم غزوة أحد التي وقعت قبل نزول هذه الآية في السنة الثالثة التي أشار الله تعالى إليها بقوله (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 139 من آل عمران الآتية، وسنذكر القصة هناك إن شاء الله. فأنزل الله تعالى هذه الآية تطيببا لقلوبهم وتسلية لما وقر في صدورهم. روى البخاري

مطلب في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء:

ومسلم عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تنتصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. فاعتبروا أيها المؤمنون في هذا العصر كيف كان أسلافكم وكيف أعقب صبرهم الظفر، فهل لكم أن تتحملوا الأذى والمشقة الآن ولا تجبنوا ولا تيأسوا لتنالوا حقكم المغصوب، فهمّوا وجدوا وجاهدوا في القول والفعل والمال والنفس، ولا تستبطئوا نصر الله فإنه قريب منكم إذا اتقيتم وتوكلتم وآمنتم بما وعدكم ربكم من العز والظفر. مطلب في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء: هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى أحكام القصاص والوصية والصيام والحج والجهاد، وحذّر من الإخلال بشيء منها وحظر من اتباع وساوس الشيطان الذي يريد بكم الانتقام بسبب ما حل به من المخالفة لأمر الله لعدم سجوده لأبيكم آدم عليه السلام شرع يبين أحكام الإنفاق فقال تعالى قوله «يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» لما فرض الله تعالى الزكاة على عباده فرضت مطلقة لم تقدر بقدر، ولذلك سألوا حضرة الرسول عن القدر الذي يجب عليهم إنفاقه من أموالهم والصنف الذي يجب أن ينفقوا منه من أموالهم هل هو عن النقد فقط أو يشمل الأنعام والحبوب، وكان أول من سأل على ما قيل عمر بن الجموح وكان متمولا وطاعنا في السن، فأنزل الله هذه الآية جوابا للغاية التي هي مصرف المال، ولم يكن الجواب بالسبب الذي هو القدر المنفق أو النوع المنفق منه كما تقدم في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية 190 المارة، قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم من ذوي الأموال «ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ» هذا وإن كان يطلق على المال الكثير كما مرّ في الآية 180، إلا أنه هنا تعظيما للصدقة يطلق على مطلق المال قليلا كان أو كثيرا، من أي نوع كان «فَلِلْوالِدَيْنِ» أولا إذا كانا محتاجين أداء لواجب حقهما عليكم

لأنهما السبب الظاهري في وجودكم «وَالْأَقْرَبِينَ» منكم بعدهما لأنهم أولى بمعروفكم من غيرهم «وَالْيَتامى» الأولاد القاصرين ذكورا أو إناثا إذا لم يكن لهم مال متروك من أبيهم لعدم قدرتهم على الكسب وعدم وجود من يقوم بنفقتهم فهم بعد الأقربين أولى من غيرهم راجع الآية 177 المارة «وَالْمَساكِينِ» الذين لا يكفيهم كسبهم فهم أرجح من غيرهم «وَابْنِ السَّبِيلِ» أي الغريب المنقطع عن بلاده لفراغ ذات يده ولا يستطيع الاستدانة لعدم الوثوق به وإنما ذكر الله تعالى هؤلاء وخصهم بالنفقة لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح الفقراء كافة فعلمه أنه إذا لم يستطع أن يبذل الغني من ماله للكل فيقتصر على الأقرب والأولى والأحوج بترتيب بديع، وإذا كان عنده ما ينفق على غيرهم فيقول الله تعالى له «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» تطيب به أنفسكم طلبا لمرضاة الله لغير هؤلاء «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ 215» لا يخفى عليه ما تنفقونه وسيدخر لكم ثوابه ويجازيكم عليه ويزيدكم من فضله. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة قيل لا يلتفت إليه، إذ ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة حتى ينسخ به، ولأن الله تعالى ذكر في هذه الآية متى تجب عليه النفقة أي من تلزمه نفقته من الوالدين والأقربين ومن هم أولى بالصدقة من غيرهم. قال الشافعي رحمه الله: إن الصنيعة لا تعد صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» من تصور الطبع لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الموت، إلا أن من عرف ما أعده الله تعالى للمجاهدين من الفضل والكرامة والذكر الحسن هان عليه كل ذلك، ولا سيما إذا وعى قوله تعالى (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية 170 من آل عمران الآتية، وعرف مغزى قوله جل قوله (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ) الآية 95 من سورة النساء، تأمل مرمى قوله عز قوله (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) الآية 122 من سورة التوبة الآتية أيضا فضلا عن أنه إنما يكون فرضا على الأمة لإعلاء كلمة الله ونصرة رسوله وحفظ الأوطان وصيانة النفوس والأعراض، وإذلالا لأعداء الله ورسوله أعداء الإسلام، ولهذا يقول الله تعالى «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا

شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» كالجهاد، لأن فيه إحدى الحسنيين الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة، ويدخل في معنى هذه الآية الجليلة كل ما كان شاقا في الحال نافعا في المآل كشرب الدواء مثلا فإن النفس تكرهه، وإنما تقدم عليه لما تتوخاه فيه من حصول الشفاء وتمام العافية، وكذلك العبادات كالصوم والحج فإن النفس قد تكرههما مع أنه في عاقبتهما الخير والرضاء وكذلك سائر العبادات، لأن لفظ (شَيْئاً) في الآية يشمل كل ما تكرهه النفس، لأنه نكرة والنكرة تعم «وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» كترك الجهاد وسائر العبادات والإنفاق والتخلف عن الغزو، لأن العدو إذا رآكم جبنتم ومللتم وجنحتم إلى الكسل وملتم إلى الراحة، تحداكم وغزاكم في عقر داركم ونال من بلادكم وأموالكم وأعراضكم، وسيطر عليكم فأذلكم وأهانكم، وإذا علم صلابتكم وثباتكم ودوام مهاجمتكم عليه ورآى حزمكم وحبكم للموت في سبيل شرفكم جبن وكف عنكم، ووقع في قلبه الخوف، فيدين لكم، وكذلك كل ما نهى الشرع عنه، فإن النفس تحبه، وتطمع فيه وتطمح عليه فتميل لارتكابه لقضاء نهمتها الخبيثة وشهوتها الخسيسة ولذتها الفانية، مع أن عاقبتها وخيمة في الدنيا لما يلحقه من مذمة الناس وسوء ذكره بينهم، وفي الآخرة لما يترتب عليها من العقاب الأليم، لأن الدنيا بما فيها فانية والعاقبة المحمودة لأهل التقوى، فلينظر الإنسان الأمر الذي يريد الإقدام عليه قبل فعله، فإن كان يرجو فيه خيرا فليقدم عليه ولو فيه مشقة، لأن الجنة حفت بالمكاره، وإن كان شرا فليتباعد عنه ولا يغتر في لذاته وشهواته، فإن النار حفت بالشهوات، قال صلّى الله عليه وسلم: إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته- أي بحسب اجتهادك وعقلك واستشارة من تعتقد صلاحه ونصحه لك وأمانته ودينه ومودته لك- واستخر الله تعالى فما خاب من استشار ولا ندم من استخار. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» خوافي الأمور وبواطنها وعواقبها «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 216» إلا ظواهرها ولا تعلمون شيئا إلا بتعليم الله إياكم، فاتبعوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه. وقد ذكرنا أن لفظ عسى في القرآن إذا كانت من الله فهي لليقين، وإذا كانت من الغير فهي للتوهم والشك مثل لعل. واعلم أن الحكم الشرعي في الجهاد هو فرض عين على كل مسلم

إذا هاجم العدو بلاد الإسلام، وفرض كفاية إذا كانوا في بلادهم وتحدوكم قبل الوصول إليكم، وفي هذه الصورة إذا قام به البعض من المسلمين سقط الإثم على الباقين، أما في الصورة الأولى فكلهم آثمون، ومسنون في كل وقت، ومن السنة أن نبدأهم به. أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا. وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 190 المارة أولاد وجه لقول من قال أن المخاطب بهذه الآية هم أصحاب محمد الموجودون في زمانه فقط، لأن الخطاب فيها عام لا يقيد بهم، إذ لا مخصص لذلك، ولم يقصد به أناس دون آخرين ولا زمان ومكان لأن سياق الآية يدل على التعميم وهي مؤيدة بالأحاديث الصحيحة فيدخل في خطابها كل الأمة إلى يوم القيامة. وما قيل إنها منسوخة بآية التوبة 122 التي مطلعها (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلخ لا وجه له أيضا، لأن هذه الآية خاصة مقيدة نافية وجوب الجهاد على العموم والتي نحن في صددها عامة مطلقة، وقد ذكرنا غير مرة بأن المقيد مخصص لا ناسخ، وأن المقيد دائما يحمل على المطلق، والخاص على العام. وكذلك لا يتجه القول بأنها ناسخة للعفو عن المشركين، إذ لم تتعرض لشيء من ذلك، وإنما هي عبارة عن إخبار الله تعالى عباده بأن الجهاد الذي أمرناكم به مفروض عليكم، لأنه مكتوب في أزله كذلك، لئلا يقوهم الغير بأنه مندوب أو مباح بدليل قول (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) إلخ، تأمل قوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» إثمه، عظيم جرمه، وهذا على طريق إرخاء العنان بالاعتراف بعظم القتال فيه، ولكن الذي ارتكبوه فيه أكبر إثما وأعظم وزرا من القتال فيه، وهو المبين بقوله تعالى «وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ومنع المسلمين من سلوكه ومن التمسك بدين الإسلام الحنيف وتفرعاته «وَكُفْرٌ بِهِ» وجحود بالإله الكبير الذي شرعه لعباده «وَ» صدّ المؤمنين عن دخول «الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعهم من الطواف به «وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ» وإجلاؤهم عنه

وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك أوطانهم وأموالهم ونسائهم «أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ» إثما وأعظم وزرا من القتال في الشهر الحرام وقد سماهم الله تعالى أهله لأنهم كانوا قائمين به كما يريد الله تعالى، أي هذه الأمور التي اقترفتموها نواء لأهل الإسلام وعداء لرسولهم وجحودا لدينهم وربهم «وَالْفِتْنَةُ» التي هي الشرك الذي أنتم عليه لتفتنوا الناس به «أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» الذي يحتجون به وهو قتل الحضرمي الآتي ذكره لأن ذلك كان خطأ وظنا أن اليوم الذي قتلوه فيه آخر جمادى الآخرة المباح فيه، ذلك لا على أنه يقين بأنه أول رجب الحرام. ثم بين إصرارهم على الفتنة بقوله «وَلا يَزالُونَ» هؤلاء الكفرة «يُقاتِلُونَكُمْ» أيها المؤمنين «حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ» الحق إلى دينهم الباطل «إِنِ اسْتَطاعُوا» وهيهات ذلك، لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب الطاهرة لا يبتغي صاحبه به بديلا، وأن الله تعالى إنما حذر عنه تأكيدا لتشربه في قلوبهم وتعظيما لشأنه عندهم فقال «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» فيبقى مرتدا «فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ» ولم يتدارك نفسه بالتوبة قبل حالتي اليأس والبأس «فَأُولئِكَ» المرتدون المصرون على ارتدادهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» إذ تبين زوجة المرتد ويحرم ميراث أقاربه ويقتل حدا ويكون ماله فيئا للمسلمين لأن أقاربه يحرمون منه إذ لا توارث بين المؤمن والكافر إجماعا «وَالْآخِرَةِ» لأن الكفر يمحق ثوابها كما أن الإيمان يجب ما قبله «وَأُولئِكَ» المرتدون الخاسرون الدارين الممقوتون عند الله هم «أَصْحابُ النَّارِ» لأنهم عملوا في الدنيا لأجلها فقط وفعلوا ما يؤهلهم لها ولذلك «هُمْ فِيها خالِدُونَ 217» لا يخرجون منها أبدا. مطلب متعلقات الجهاد وقصة قتل الحضرمي وأمر النبي رسله بعدم فتح الكتاب إلا بعد يومين من استلامه: وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش أميرا على سرية في جمادى الآخرة السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر، مما يدل على أن هذه الآية متأخر نزولها عن سورتها. وهو جائز كما يتقدم النزول على الحادثة أو يقارنها. وكتب له كتابا وقال سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير

يومين، فإذا نزلت فافتح الكتاب فاقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك به ولا تستكره أحدا منهم على السير معك فسار يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أما بعد فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيرا لقريش لعلك تأتينا منها بخير) فقال سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك وقال لهم إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كان يكره فليرجع، ثم مضى وبقي أصحابه معه، وهم ثمانية رهط ولم يتخلف عنه أحد، حتى إذا كانوا بمعدن فوق الفرع بموقع في الحجاز يقال له نجران والفرع مجرى الماء إلى الشعب، وفرع كل شيء أعلاه، وفرع القوم شريفهم، والمعدن كمجلس منبت الجواهر من الذهب وغيره، فلا يختص بمكان دون آخر، ولا يختص بالذهب والفضة بل بكل شيء يخرج من الأرض كالنحاس والحديد والرصاص وغيرها. أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غروان بعيرا لهما كانا يتعاقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة موقع بين مكة والطائف، بينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ومن تجارة الطائف ومعها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ابن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هابوهم ونزلوا قريبا منهم، فقال عبد الله بن جحش وهو ابن عمة رسول الله لقومه: إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم، وليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن، ثم أشرف عليهم، فلما رأوه أمنوا، وقالوا قوم عمّار فلا بأس علينا، وكان ذلك آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرونه أول رجب، فتشاور القوم فيهم وقال بعضهم لبعض متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن رجب الحرام وليمتنعن منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرا الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين، وأسروا الحكم وعثمان، وهما أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم، واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء، وأخذ الحرائب أي المال،

مطلب في الخمر والميسر ومخالطة اليتامى والنظر إليهم وبحث في النفقة أيضا وحفظ بيت المال

وعيروا المسلمين الموجودين في مكة بذلك، فبلغ ذلك حضرة الرسول، فجاء بعبد الله وأصحابه، وقال ما أمرتكم أن تقاتلوا في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ شيئا منها، وعنفهم المسلمون على ذلك أيضا، فعظم هذا عليهم وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم، فقالوا يا رسول الله إنا قتلنا الحضرمي ثم أمسينا فرأينا الهلال فلا ندري أصبناه فيه أم في جمادى الآخرة، وأكثر الناس في ذلك أي في انتقاد واقد ورفقائه لإقدامهم على قتل الحضرمي في الشهر الحرام الذي لا يجوز فيه استعمال السلاح ولو على قاتل أحدهم، فأنزل الله هذه الآية وأخذ رسول الله الخمس من هذه الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام وقسم الباقي على أصحاب السرية، ثم بعث أهل مكة بفداء أسيريهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأتي سعد وعتبة الذين ذهبا بطلب بعيرهما حذرا من أن قريشا أصابتهما فلما جاءا فداهما فأسلم الحكم ثم استشهد في بئر معونة رحمه الله، ورجع عثمان إلى مكة فمات كافرا ثم أنزل الله تعالى في عبد الله بن جحش وأصحابه حينما قالوا لحضرة الرسول هل نؤجر على غزوتنا هذه ونطمع أن نعد غازين إذ يقول الناس إن لم يؤزروا لم يؤجروا قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 218» بهم يعفو عن هفوتهم ولا يؤاخذهم عليها أما الكفرة الذين يموتون على كفرهم فلهم الخيبة واللعنة وسوء العاقبة. مطلب في الخمر والميسر ومخالطة اليتامى والنظر إليهم وبحث في النفقة أيضا وحفظ بيت المال : قال تعالى و «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» القمار بجميع أنواعه وكافة أصنافه «قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ» ينتج عنهما مضار خطيرة ديفية ودنيوية «وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» من أرباحهما والاتجار بهما، لأن الخمر يحتاج إلى اعمال ينتفعون بما يأخذونه من الأجرة، وفي بيعه وشرائه ينتفع آخرون لكثرة تصريفه بسبب كثرة استعماله، لأنه كان يقدم للناس كما تقدم القهوة الآن والشاي للقادمين الزائرين. والميسر هو نيل المال دون تعب ولا كد ولا جهد وربما من يكسب يعطي منه كما هو المعتاد الآن عند من يتعاطاه، فينتفع

الغير منه ايضا، لأن المال الذي يأتي عن غير طريق التعب يهون على النفس إنفاقه. وقيل في هذا: ومن أخذ البلاد بغير حرب ... يهون عليه تسليم البلاد فالمنافع المذكورة في الآية عبارة عن هذا لا غير. وسبب حرمة القمار هو أكل أموال الناس بالباطل، وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الآية 189 المارة ومثلها الآية 29 من سورة النساء الآتية، وهو داخل في قوله صلّى الله عليه وسلم: إن رجالا يتخوضون في مال الغير بغير حق فلهم النار روى البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال: من قال لصاحبة تعال أقامرك فليتصدق. فإذا كان مطلق القول يقتضي الكفارة والصدقة تنبيء عن عظيم ما وجبت أو سنّت له، فما ظنك بالفعل مباشرة؟، ويدخل في الحديث الأول ما يسمونه الآن (يا نصيب) ألا فليحذره وليتجنّبه من يتق الله، لأنه تخوض في مال الغير وهو من الباطل المنصوص عليه بالآية المارة. قال عمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل: أفتنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل والمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقد أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات الأولى مكية وهي قوله تعالى (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) الآية 67 من سورة النحل في ج 2 فراجعها فقد بينا فيها ما يقتضي هذا البحث، والثانية هذه مدنية فتركها جماعة كراهية الدخول في الإثم المشار إليه فيها لوصفه بالعظم، واستمر عليها الباقون لعدم الأمر باجتنابها وعدم قدرتهم على منع أنفسهم وقمع شهواتها، وقد ذكرنا ما يتعلق فيها بالمقدمة وسنأتي على تمام البحث في الآيتين 43 من النساء و 90/ 91 من المائدة بصورة مفصلة إن شاء الله القائل «وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» ولهذا اجتنبها ذو والنفوس الطاهرة والإيمان القوي، لأنهم فهموا منها أن ما كثر إثمه كثر وزره وما عظم عقابه حرم فعله «وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ» من أموالهم إذ لم يبين لهم الله القدر اللازم إنفاقه ليعملوا به، وإنما كرروا السؤال لأن الجواب في السؤال الأول لم يأت على قصدهم بل كان للغاية من الإنفاق كما مر، وكذلك لم يبين حضرة الرسول لهم ذلك، ولكنه يكثر من ترغيبهم بالإنفاق «قُلْ» يا سيد الرسل أنفقوا «الْعَفْوَ»

أي الزائد على حوائجهم وذلك أنهم كانوا رضي الله عنهم لما سمعوا حضرة الرسول يكثر من الحث على الانفاق ويطنب في فضله صار منهم لشدة حرصه على ثواب النفقة ينفق جميع ما عنده، حتى إن منهم لا يبقي ما يحتاج إليه للأكل، فأمرهم في هذه بإنفاق الفاضل عن حاجتهم لكثرة ذوي الحاجة إذ ذاك من المهاجرين والأنصار في بداية الإسلام، وكان السؤال في الآية 210 السابقة عن المنفق والمصرف فوقع هنا عن المقدار والكيفية. وكلمة العفو يجوز فيها الضم والفتح. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وأخرج بن خزيمة مثله بزيادة تقول المرأة أنفق علي أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك إلى من تكلني. وأخرج بن سعيد عن جابر قال: قدم أبو حصين السّلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب، فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن (هو ما ذكر بيانه آنفا) فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه صلّى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. فاشترط حضرة الرسول العنى عن الحاجة للمتصدق، فصاروا يمسكون ما يكفيهم ويتصدقون بالفاضل إلى أن حدد لهم حضرة الرسول القدرة الواجب إنفاقه في الزكاة، فمنهم من اقتصر عليه، ومنهم من داوم على إنفاق ما يفضل عن حاجته لقوة إيمانه ورغبة فيما أعده الله تعالى للمتصدقين من الأجر. ومن عقل تفسير هذه الآية على نحو ما ذكرنا علم أن القول بالنسخ لا وجه له. «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» الموضحات لما تسألون عنه «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 219 فِي الدُّنْيا» فتعلمون أنها زائلة فتأخذون منها قدر ما يكفيكم وتنفقون الفاضل فتنتفعون بثوابه في الدنيا «وَالْآخِرَةِ» التي يجب أن تتفكروا فيها بعاقبة أمركم فتكثروا من الإنفاق مما تجود به نفوسكم من انعام الله عليكم وتزودوا لها من أعمال الخير رجاء ما أعده الله تعالى لأهل الخير،

قالوا حينما أراد الملك الظاهر وضع ضريبة لأجل نفقات الحرب، واستفتى الإمام النوري فقال لا تتحقق هذه الحاجة إلا بعد بيع ما في قصر الملك من المماليك والأواني الذهبية والفضية التي هي من بيت المال، فإذا لم تكف فله وضع الضريبة المذكورة. ومن هذا القبيل قدمت مذكرة إلى (سالاز) رئيس وزارة البرتقال بطلب اعتماد إعانة لفرقة المغنين العازمة على السفر، فوقع بما نصه: كيف أعطي مالا للمغنين في الوقت الذي لا أجد ما أعطيه للباكين !. فاعتبروا أيها الناس وقيسوا بين هذا ووضعنا الحاضر مما تصرفه الحكومة من بيت المال على ولائم لا علاقة لها بالحرب ولأناس لا يستحقونها وفيها ما فيها. ألا فليتقوا الله ولينفقوا مما أنعم الله عليهم في وجوه البر والخير وإن كانوا لأبد فاعلين فليكن من مال أنفسهم ويتركوا مال بيت المال لما خصص له ولحاجة الجيش عند الحاجة لحفظ ثغور المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم. قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى» قال ابن عباس لما أنزل الله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) الآية 34 من الإسراء في ج 1، صاروا يتحرجون حتى عن مخالطتهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» أي مخالطتكم لهم وإرشادكم إياهم لما فيه صلاحهم خير من مجانبتكم لهم وإعراضكم عنهم وأكثر أجرا لأن في ذلك النظر إلى أحوالهم ومناظرة أموالهم وتعليمهم كيفية استرباحها لهم لئلا تأكلها الزكاة، لأن ما لا يزيد ينقص فيسبب أضرارا لهم في المستقبل «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ» وتجالسوهم فيتعلموا طرق المعاش والمعاشرة مع الناس والتخلق بالأخلاق الحسنة واجتناب السيئة ويأنسوا بكم ويعرفوا ما يضرهم وينفعهم «فَإِخْوانُكُمْ» أولئك اليتامى ومن واجب الأخوة المخالطة والملازمة لا التقاطع والمباعدة «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ» لأحوالهم «مِنَ الْمُصْلِحِ» لها فكونوا مصلحين بتعليمهم الأخلاق العالية وأحوال البيع والشراء وسائر العقود التي من شأن البشر أن يتعلمها، وإن تركهم وشأنهم قد يوجب لهم الفساد والإفساد فتأثموا وتصيبكم منهم معرة، والله مطلع على نياتكم، فأحسنوا إليهم بما يفضي لخيرهم ومثوبتكم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» بأن شدد عليكم الأمر وضيقه في وجود المخالطة وتنية أموالهم وحرمكم من ربحها، بأن يجعلكم

[سورة البقرة (2) : الآيات 221 إلى 230]

كالخدم لهم، ولكن رحمة بكم وبحال اليتيم لم يشأ ذلك توسعة عليكم لاحتياج بعضكم إلى الربح بمال الغير لقلة ذات يده «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجزه شيء قادر على التضييق عليكم في ذلك «حَكِيمٌ 220» يأمر بالتوسعة على عباده بما فيه صلاحهم من احتياج بعضهم إلى بعض لأن التعاون في هذه الدنيا مطلوب فجعل للخلق رابطة فيما بينهم لا غنى لهم عنها. وبعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلق بالأيتام والإنفاق شرع يذكر ما يتعلق بالنكاح الذي هو من ضروريات البشر أيضا، لأن غالب ما ينزل في المدينة عبارة عن أحكام وحدود وغالب ما ينزل بمكة عقائد وأخبار مما هو بمنزلة التخلية والأحكام بمثابة التحلية ولا تكون التحلية إلا بعد التخلية تأمل قوله تعالى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ» حرة حسنة «وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» تلك الكافرة بما لها وجمالها ونسبها «وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ» حر قوي «وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» ما له ونسبه وجاهه وشجاعته «أُولئِكَ» المشركون والمشركات «يَدْعُونَ إِلَى» الشرك والكفر المؤديين إلى «النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى» الإيمان به ورسوله وكتابه المؤدية إلى «الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ» وإرادته وتوفيقه «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 22» بمعانيها فيعرفون معزاها ويتعظون بمرماها. فيتباعلون بمن مخافتها. كان صلّى الله عليه وسلم بعث أبا مرشد يسار بن حصين أبي مرشد الفنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من لمسلمين سرا، فلما قدمها سمعت به خليلته عناق فجاءته وكافته أن يواقعها كما كان في الجاهلية، فقال لها ويحك إن الإسلام حال دون هذا، فقالت له تزوجني، فقال لها حتى استأذن رسول الله، فقالت له أبي تتبرّم واستعانت عليه بزبائنها، فضربوه، فلما رجع أعلم حضرة الرسول بما وقع له معها واستأمره بزواجها، فأنزل الله هذه الآية في هذه الكافرة، أما المؤمنة فهي خنساء وليدة حذيفة بن اليمان أعتقها وتزوجها وقال لها لقد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك. وقيل نزلت في عبد الله بن رواحه لأنه كان أعتق أمة وتزوجها، فعاتبه العرب وعرضوا عليه حرة مشركة، فأبى ولا مانع من تعدد أسباب النزول واعلم أن الشق الأخير من الآية

خطاب إلى أولياء النساء عامة ينبئهم به أن لا يزوجوا المسلمات إلى المشركين، ولا يتزوجوا المشركات، لذلك السبب. الحكم الشرعي: يحرم على القطع زواج المسلم بالكافر والكافرة بالمسلم ولا ينعقد النكاح بإجماع الأمة، وحكم المجوس حكم المشركين لأنهم ليسوا بأهل كتاب، ويجوز أن يتزوج المسلم كتابية لأنه مؤمن بنبيا ونبيّها وكتابه وكتابها لا العكس، لأن الكتابي يجحد نبي المسلمة وكتابها ويوشك أن يحملها على الارتداد عن دينها، لأن الرجال قوامون على النساء وخاصة النصارى فلا طلاق عندهم إلا بالزنى ويوشك أن يضارها ولا سبيل للتخلص منه إذ لا مساغ للتفريق عندهم إلا بالزنى وهو محرم تأباه المسلمة، فيضطرها الحال على البقاء في الشقاء وتحمل الضيم والأذى والذل والهوان مما لا يلتئم وعزة المؤمنة وهذه الأشياء محتملة الوقوع مع الكتابية أيضا إلا أن حملها على الإسلام خير عند الله وعند زوجها، وإذا لم تعجبه يطلقها، وإذا ضارها فلها طلب التفريق، فاحتمال بقاء الضرر عليها معنى معدوم، لأن الشريعة الإسلامية كفلت لها حقها وساوتها بالمسلمة. وهذه الآية محكمة لأن اسم الشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان ولا وجه للقول بنسخها في حق الكتابيات لعدم دخولهن فيها، وما قيل إن اصحاب الشرك يتناولهن لأن اليهود تقول عزير بن الله والنصارى تقول المسيح بن الله لا يطرق على جميع أهل الكتاب بل هو مقتصر على من يقول ذلك بمعنى غير قابل للتأويل والتفسير، ولهذا قال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) الآية 20 من سورة المائدة وهي مكررة فيها لأن الله جلت قدرته هو الأب الأكبر لجميع البشر ولكن لا على المعنى المتحقق بالأبوة تعالى الله وتنزه عن ذلك، كما أن الخلق كلهم أولاده وعياله، ولكن لا على المعنى المتحقق في البنوة كما سنأتي على تفصيل هذا في الآية المذكورة في محلّها إن شاء الله القائل «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ» لهم يا حبيبي «هُوَ أَذىً» للذين يقربون زوجاتهم معه لقذارته «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ» أيها الناس إن أردتم المحافظة على صحتكم وطاعة ربكم «فِي الْمَحِيضِ» مدة وجوده، فإنه يسبب لكم الأذى، قيل هو الجذام ولا داء أقبح منه، فقد جاء بالأخبار من أتى حائضا وجذم فلا يلومن إلّا نفسه.

مطلب في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر:

فاحذروا أيها الناس قربان نسائكم معه «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ» مبالغة في عدم المجامعة، وإلا فالقربان بلا جماع غير ممنوع كما ستعلم فلا تجامعوهن «حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ» بانقضاء مدة الحيض واغتسلن منه «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» أي في القبل محل الحرث «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ» عما نهوا عنه بعد أن فعلوه جهلا أو عمدا ثمّ تابوا فتركوه، ولم يعودوا إليه امتثالا لأمره «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222» من الأقذار الظاهرة والباطنة والمعاصي الحسية والمعنوية. مطلب في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر: روى مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسألوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حفير وعباد بن بشير فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي لكراهة ما سمع منهما بعد نزول هذه الآية، فقال الحاضرون هذه الحادثة غضب رسول الله حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما أي لم يغضب، وإنما غضب من سؤالهما الأخير لمغايرته ما جاء في الآية الشريفة وهو لا يغضب إلا لله، لذلك أبان لهما بفعله هذا أنه لم يجد عليهما إلا أنه أفهمهما بأن سؤالا كهذا تجد قول الله يوجب غضبه، لينتهي الآخرون عن مثله، وليعلموا أن نهيه عن عدم قربان الحائض ليس لمخالفة اليهود وإنما هو اتباع لوحي الله الواجب إتباعه وافق شرع اليهود أم خالفه، لأن شرعنا ناسخ لما تقدمه من الشرائع كلها. الحكم الشرعي: أجمع المسلمون على تحريم الجماع زمن الحيض وعلى كفر من يستحله لمخالفته القرآن، فقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أتى حائضا أو امرأة في دبرها، أو كاهنا (أي أو جاء كاهنا يستشيره) فقد كفر بما أنزل على محمد. أي إذا استحل

ذلك ولم ير بأسا به. وأخرج الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض قال يتصدق بنصف دينار. وفي رواية إن كان دما أحمر (أي في أول الحيض) فدينار، وإن كان أصفر (أي في أواخره) فنصف دينار، وهذه كفارته إذا لم يستحل، أما إذا استحله فلا كفارة فيه، وإنما فيه الكفر والعياذ بالله وعليه التوبة والرجوع الى الله وإلا فيقتل. وأجمعوا على جواز الاستمتاع بالحائض بما فوق السرة ودون الركبة، وجواز مضاجعتها، فقد أخرج في الصحيحين عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، أي يستمتع بي. وأجمعوا على أن الحائض يحرم عليها الصوم والصلاة ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله، ووجوب قضاء الصوم لعدم تكرره، وعدم قضاء الصلاة لتكررها. وقد أخرج في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يأمرها بقضاء الصوم دون الصلاة، وأجمعوا على عدم ارتفاع شيء مما حرمه الحيض عنها حتى تغتسل أو تتيمم الا الصوم فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت صيام النهار صح. وقال أبو حنيفة يجوز جماعها بعد مضي أكثر مدة الحيض إذا فاتها وقت صلاة ولم تعتسل، وظاهر الآية يؤيد الإجماع وقراءة التشديد في يطهّرن يؤكده، وانما جعلت كفارة من يجامع زوجته وهي حائض دينارا أو نصف دينار، لأنه والله أعلم يقابله دفع البلاء المتوقع حدوثه الوارد بالحديث الشريف المار ذكره، لأن الصدقة تدفع البلاء. قال تعالى «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» مزرع ومنبت الولد كما أن الأرض مزرع ومنبت الحب شبه جل جلاله قبل المرأة بالأرض، والنطفة بالبذر، والولد بالنبات، تشبيها بليغا «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» من قيام وقعود واستلقاء وعلى طرف مقبلة أو مدبرة وعلى أي صورة وحالة ومكان وزمان شئتم، ولكن في القبل، لأنه محل الزرع المعبّر عنه بالحرث كالأرض الطيبة المنبتة، فإن الله تعالى أحل لكم ذلك كله كيف شئتم عدا أيام الصوم والحج والحيض والنفاس والأمكنة المحترمة. وتشير هذه الآية الى تحريم إتيان النساء في أدبارهن، ولهذا المغزى عبر عنه تعالى بالحرث ويؤيد هذا ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ملعون من أتى المرأة في دبرها

- أخرجه أبو داود- راجع الآية 26 فما بعدها من العنكبوت في ج 2 وما ترشدك إليه من المواضع. وقد أجمع العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن الله تعالى حرم الفرج حال الحيض للأذى العارض وهو الدم، فمن باب أولى أن يحرم الدبر الملازم للنجاسة دائما المولدة للأمراض التناسلية، أعاذنا الله من ذلك، وقاتل فاعليه ولأن الله تعالى نص على ذكر الحرث وهو محل النبات فلا يجوز العدول عنه الى غيره، ولا يجوز بل يحرم على القطع تأويل محل الحرث بالدبر، لأنه سباخ لا ينبت، ولقوله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية السابقة، والله قد أمر أن يكون بالفرج دائما إلا وقت الحيض والنفاس للأذى والقذارة، والدبر محل الأرجاس دائما والأذى متحقق فيه، فالإتيان بالدبر مخالف للقرآن والحديث ويكفر مستحله وهذا هو الحكم الشرعي فيه. وما قيل إن الإمام مالك استدل في هذه الآية على جواز إتيان النساء في أدبارهن مكذوب عليه، وحاشاه من ذلك وتنزهت ساحته رضي الله عنه عما هنالك، وكذلك ما حكاه زيد بن أسلم عن نافع ومحمد بن المنكدر لا حقيقة له لمخالفته إجماع الفقهاء الذين أجمعوا على أن الحرث لا يكون الا بحيث يكون النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل، راجع تفسير هذه الآية في الجزء الأول، ص 321 في تفسير مجمع البيان للطبري.. وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها فمن ورائها جاء الولد أحول، وفي رواية للترمذي: كانت اليهود تقول من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث، وما قيل إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن يرده ما رواه عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله بن عمر فقال له يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد الله أنه لم يكن ير بأسا في إتيان النساء في أدبارهن فقال كذب العبد وأخطأ وإنما قال عبد الله يؤتون في فروجهن من أدبارهن، وعلى هذا يؤول ما رواه ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم حينما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هلكت، قال وما أهلكك؟ قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه حتى أوحى الله لرسوله في هذه الآية والحديث هذا أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وحاشا عمر أن يصدر منه غير الإتيان في القبل، إذ لا يميل الى ذلك المحل الخبيث عاقل فكيف

بمعدن العقل والمروءة؟ هذا واعلم أن كل ما ورد من الأحاديث في هذا الشأن محمول على هذا ولا يقول بغيره إلا منافق خبيث، وما قاله بعض الإمامية فهو من هذا القبيل استنادا على تأويل الحديث بما ليس مطلوب في معناه فلا يلتفت إليه والأكثر منهم على خلافه، وكل من له مكة من علم أو لمعة من إدراك أو ذرة من إيمان يقول بحرمته ولا يتردد في تأويل هذه الآية وتفسير هذه الأحاديث إلا على ما ذكرنا فضلا من أن الطبع السليم والغيرة الإنسانية يمجّانه ويقبحانه ويلعنان فاعله «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» الأولاد الذين هم مظنة الانتفاع بهم في الدنيا والآخرة بإتيان النساء في فروجهن كما أمركم الله وإياكم أن تجعلوا نطفكم في غير محل الحرث فتهلكوا في الدنيا بالأمراض السارية الناشئة عن قذارة المحل، وفي الآخرة بالطرد من رحمة الله والتعرض لعذابه الأليم. ومما يؤكد قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن تتجاوزوا ما أمرتم به الى ما نهيتم عنه، وهذه الجملة مما تؤيد ما جرينا عليه في تفسير هذه الآية، إذ لا معنى للتقديم هنا غيره، لأنه معدوم في الأدبار. قال تعالى مهددا لمن خالف ذلك «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» أيها العصاة بعد الموت فيجازيكم على مجاوزة أوامره «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 223» الذين يمتثلون أوامر الله بالكرامة والرضوان. قال تعالى «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) وهذه الآية جاءت كالمعترضة بين أحكام النساء التي هي من تنمة معاملات النكاح، وذلك أنه كان بين عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف لا يدخل عليه ولا يكلمه، وكلما قيل له فيه يقول حلفت فلا أتداخل في أمره الا أن تبرّ يمني فأنزل الله هذه الآية له ولغيره الى قيام الساعة، أي لا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف سببا مانعا للبر والتقوى والإصلاح بين الناس وموجبا للقطيعة بينكم ولا تحلفوا على شيء من ذلك ومن حلف فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل ما هو الأحسن لقوله جلّ قوله «أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم كلها الموثقة بالإيمان وغيرها «عَلِيمٌ 224» بما هو الأصلح لكم، ولذلك ينهاكم عن الحلف وعن أن تجعلوه سببا حائلا لأعمال البر والخير. تشير هذه الآية الى النهي عن الإقدام على كثرة الحلف لما فيه من

مطلب في الأيمان وكفارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين:

الجرأة عليه. وقد ذم جلّ شأنه مكثره بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الآية 10 من سورة نون في ج 1 وقوله تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) الآية 92 من سورة المائدة الآتية. وترك الحلف والتباعد عنه محمود عند العرب حتى إنهم يصفون قليله بأقوالهم، قال كثير: قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الأليّة برّت أي كان لم يقصد الحلف، ولكن سبق لسانه به، ومع هذا فإنه يبر بها احترام لشأنها، ولهذا يقول الله تعالى إنما نهيتكم عن الحلف إرادة أن تبروا به لأن توقيه من البر والتباعد عنه من التقوى والرجوع الى ما هو الأحسن من الإصلاح. وقال بعض المفسرين إن الآية على حذف حرف الجر، أي من أن تبروا إلخ من حيث لا حاجة لتقدير من أوفى على قول الآخر أي في أن تبروا، أو تقدير أي أن لا تبروا لجواز حذفها في لغة العرب لمعلوميتها، قال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي أي لا أبرح تدبر. روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من حلف علي يمين فرأى خيرا منها فلياتها وليكفّر. مطلب في الأيمان وكفّارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين: وترمي هذه الآية إلى النهي عن الحلف بالله لما ذكرنا ما فيه من الجرأة عليه، ألا فليحذر المكثرون من الحلف وليعظموا أسماء الله لأن في الإكثار من الحلف تهاونا يؤاخذ عليه العبد، أما الذين لا يتهاونون بالأيمان وقد يقع منهم ذلك بمعرض الكلام مما هو غير مقصود فيقول لهم ربهم «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» أي مما لم يكن عن فكر وروية وما لا عقد له ولم يكن مقصودا كقول الرجل لا والله ما الأمر هكذا وبلى والله كان ذلك مما قد يكون من الإنسان بمعرض الكلام والمخاطبة من غير عقد اليمين ونيته، فلا كفارة عليه ولا إثم، أما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فيه ليرضي الناس أو ليعتذر لهم أو يقتطع بيمينه مال أحد فهو أعظم وأعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما

الكفارة على من حلف أن لا يفعل شيئا مباحا ثمّ فعله، أو أن يفعله ثمّ لا يفعله. قال مالك في موطأه: أحسن ما سمعت أن اللغو هو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذلك ثمّ يوجد بخلافه، فهذا لا كفارة عليه ولا إثم، وما عدا ذلك فقيه الكفارة والإثم، أما اليمين الغموس التي فيها هضم حقوق الناس فلا كفارة فيها لعظمها عند الله كالقتل العمد لا دية فيه لعظمه أيضا «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» أي ما وقع منكم عن قصد وعزم ونية وجزمتم على فعله وعقدتم عليه، وهذا هو معنى كسب القلب المراد بالآية. الحكم الشرعي: لا ينعقد اليمين إلا باسم الله تعالى أو بصفة من صفاته، فمن حلف باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته على نحو ما تقدم ولم يبر بيمينه فعليه الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام على التخيير كما سيأتي في الآية 93 من المائدة، ومن حلف بغير ذلك فهو آثم، لأنه عظم المخلوق به وهو غير معظّم تعظيم من يحلف به، ولهذا فلا كفارة عليه إهانة للمخلوق به. روى ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب ويحلف بأبيه فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. - أخرجاه في الصحيحين- «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للأغي ومن كان يمينه غير مقصود، ومن حلف على شيء سابق يتحققه «حَلِيمٌ 225» بقبول كفارة من يخطئ في حلفه لا يعامل فاعل هذين النوعين وما ألحق بهما بالشدة، ولا يعاجل من يكذب بيمينه المعقودة بالنية والقصد، كما لا يعاجل العصاة بالعقاب، فهو رءوف بعباده لا يستفزه الغضب، ولا يستخفه جهل الجاهلين قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية آخر سورة فاطر في ج 1 ومثلها الآية 11 من سورة النحل في ج 2. قال تعالى «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ» أي انتظار «أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ» رجعوا عن يمينهم وآتوا نسائهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» للزوج الحالف إذا تاب وأناب إلى ربه وآب عن إضرار زوجته «رَحِيمٌ» (226) بعباده إذ يقبل توبتهم وكفارتهم ما دامت روحهم في جسدهم غير حالتي اليأس والبأس «وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ» بأن أصروا على

إبلائهم وأرادوا إيقاع الطلاق على زوجاتهم فلم يقربوهم طيلة هذه المدة «فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لإيلائهم «عَلِيمٌ» (227) بنياتهم، وفي هذه الجملة وعيد على عدم الفيئة، وقد جاءت هذه الآية بمناسبة الأيمان. الحكم الشرعي: الإيلاء والحلف على ترك وطء الزوجة أربعة أشهر فأكثر، قال ابن عباس كانت الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فلم تفعله حلف لا يقربها السنة والسنتين، فيدعها لا أيما ولا ذات زوج، فلما جاء الإسلام جعله الله تعالى أربعة أشهر وأنزل هذه الآية، فإذا مضت ولم يطأها خلالها بانت منه بطلقة واحدة، لأنه عزم بذلك على طلاقها، وإن وطئها فيها بقيت في عصمته ووجبت عليه الكفارة وهي ما تقدم بيانها آنفا، وإذا حلف لأقل من أربعة أشهر فلا يعد موليا، فإن وطئها قبل هذه المدة المحلوف عليها فعليه الكفارة، وإلا فلا شيء عليه وتبقى في عصمته. قال تعالى «وَالْمُطَلَّقاتُ» سواء بالإيلاء أو بإيقاع الطلاق عليهن أو بتفريق الحاكم أو باليمين «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» أي حيضات لقوله صلّى الله عليه وسلم: دعي الصلاة أيام أقرائك، ولهذا صرف معناه إلى الحيض، وإطلاقه على الطهر غير مراد هنا، لأن نص الحديث يكون حقيقة على الحيض، ومن أراد المجاز وصرفه الى الطهر بعد هذا لا عبرة بقوله إذ لا محيد عن هذا وان كان يطلق على الطهر لأنه من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود والأبيض، والسدفة تطلق على الظلمة والضياء، والجلل على الكبير والصغير، والنبل على الصغار والكبار، والناهل على العطشان والريان والرهوة على الارتفاع والانحدار، والظن على الشك واليقين، والمفرع في الجبل على المصعد والمنحدر، وفعل مسر بمعنى أخفى وأعلن، وأخفى بمعنى أظهر وكتم، وباع بمعنى اشترى وشبع بمعنى جمع وفرق. الحكم الشرعي: إذا أوقع الرجل الطلاق على زوجته بعد الخلوة بها وقبل الدخول فعليها العدة، وإذا طلقها قبل الخلوة فلا عدة عليها ولا يحل لها الزواج قبل مضي العدة على اليقين في الحالة الأولى، ولهذا قال تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» من تكون الولد لما فيه من انقطاع نسبه لأبيه وتوريثه منه ما لا يستحق من غيره لأن كتمان عدم انقضاء الحيض فيه ابطال حق الزوج من الرجعة إذا كان الطلاق

رجعيا، إذ له مراجعتها ما دامت في لعدنى، وله تجديد النكاح عليها بعدها إذا كان الطلاق دون الثلاثة، أو بالإيلاء أو بالتفريق والفسخ «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا يكتمن ذلك لأنه يفضي الى زواجهن بالغير ويضيع نسب الولد. وهذه الآية تشير الى أن هذا من باب كتم الأمانة، فإن الصدق فيه من فعل المؤمنات، وكما لا يجوز لهن كتمان عدم انقضاء مدة الحيض الأخير، لأنه ثلاث حيضات لا يجوز لهن أن يكتمن الطهر لما فيه من المحاذير وهو الرجعة، فتكون بغير محلها وامتداد النفقة من حيث لا يجوز لها أخذها، وكل الزوجات في هذه الأحكام سواء المؤمنة والكتابية وحتى الكافرة قبل تحريم زواجها «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ» من أجل العدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بالفسخ أو التفريق أو بائنا دون الثلاث «إِنْ أَرادُوا» أي الرجال «إِصْلاحاً» مع مطلقاتهن وعزموا على حسن معاشرتهن «وَلَهُنَّ» أني النساء من الحق على الأزواج «مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ» من حقوق الزوج وكل ذلك يجب أن يكون «بِالْمَعْرُوفِ» من غير إضرار لأن الزوجية لا تتم إلا بمراعاة الحقوق بينهما، فيجب على الزوج أن يقوم بما تحتاجه زوجته حتى الزينة وأن يطعمها مما يطعم ويكسوها بنسبة أمثالها، وحاله ويقوم بمصالحها ويتزين لها ويسأل العلماء عما يتعلق بأمر دينها إن لم يعرف هو ذلك، وإلا فلها الذهاب بنفسها للعالم ليعرفها ما لها وعليها. - ويجب عليها طاعته والانقياد الى عصمته، وأن تحافظ على ما له وولده ونفسها، ولا تتزين إلا له ولا تبد زينتها لغيره، وتحفظه إذا غاب فلا تدخل أحدا ولا تجلس أحدا على فراشه، وتفعل كل ما يرضيه مما لا يكون فيه معصية لله وتتجنب كل ما يسوءه إلا فيما يرضي الله. روى مسلم عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانات الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون، أي لا يؤذن لأحد بالدخول ليتحدث معهن (وكان هذا عند الجاهلية لا بأس به، ولا يتصور فيه معنى آخر كالزنى مثلا، لأن فيه الحد والرجم) يؤيده قوله (فإن فعلن ذلك فاضربوهن) (وقد أجمع العلماء على أن

المراد بهذا الضرب) ضربا غير مبرح (فلو كان المراد به الزنى لقال عليهن الحد والرجم) تدبر. وكما لكم عليهن ذلك، فإن لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف «وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» منزلة عالية، لأنه أعقل منها وأكمل شهادة وأكثر حقا في الإرث والدية وأتم دينا، ولأنه صالح للقضاء دونها. قال صلّى الله عليه وسلم: ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ولجواز تزويجه وتسرّيه عليها، ولأن طلاقها بيده ويملك الرجعة بعد الطلاق الرجعي شاءت أم أبت، ولأنه المكلف بنفقتها فضلا عما يسوقه إليها من المهر «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب عليكم أيها الزوجين إن هضمتم حق بعضكم، فإنه ينتقم منكم «حَكِيمٌ 228» بتفضيله الرجال على النساء للأسباب المتقدمة وأسباب أخرى هو يعلمها، لأنه لا يأمر إلا لمنفعة الخلق ولا ينهى إلا عما يضرهم وإن كانوا لا يعقلون بعض المنافع المأمور بها والمضار المنهي عنها. قال تعالى «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ» بعدهما بالمراجعة قولا أو فعلا «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بأن تطلقوهن طلقة ثالثة وتتركوهن بمعروف مثل ما أخذتموهن، إذ لا يحل لكم إمساكهن قبل الطلاق إضرارا بهن ولا بعده، لأنهن حرمن عليكم. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يطلقون ما شاءوا ويرجعون على نسائهم دون عدد معلوم بالغ ما بلغ، إلا أنهم يتقيدون بالعدة فقط من حيث الرجوع، بحيث لو طلقها مرارا كثيرة له مراجعتها في العدة وهكذا، وكان هذا أيضا جاريا في بداية الإسلام إلى يوم نزول هذه الاية، حتى إن رجلا قال لامرأته والله لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدا، قالت كيف؟ قال أطلقك وكلّما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت وأخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فسكتت حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت حتى أنزل الله هذه الآية فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يطلق. الحكم الشرعي: يملك الحر على زوجته ثلاث تطليقات متفرقات ولو في مجلس واحد فإنها تبين منه بينونة كبرى (خلافا لما جرى عليه المصريون حديثا من اعتبار الطلقات المتعددات في مجلس واحد طلقة واحدة استنادا لما أن هذا كان متاعارفا في بداية الإسلام، على أن سيدنا عمر رضي الله عنه أقر الأول وعمل به وأمر به، ولكن الناس سائرون إلى

ما تستخفه نفوسهم ويحبذون ذلك، ولعل هذا ينجز وتعمد الحكومة على العمل به لأن الناس ميالون إلى كل ما فيه يسر ولو خالف عمل السلف الصالح، وفيه إشارة إلى قوله صلّى الله عليه وسلم: لتتبعن سبل من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، ولتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. كان صلّى الله عليه وسلم ناظر إلى ما تحدثة أمته من بعده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) وله مراجعتها بعد طلقة أو طلقتين في العدة دون رضاها، وله تجديد العقد عليها بمهر جديد ورضاها بعدها. ويملك على زوجته الأمة طلقتين فيراجعها بالعودة بعد الواحدة دون رضاها وبعدها برضاها وعقد ومهر جديدين. وفي الطلاق البائن دون الثلاث يجوز العقد عليها ضمن العدة وبعدها برضاها ومهر جديد. ثم حذر الله تعالى الرجال من أن يضارّوا النساء كي يأخذوا ما أعطوه لهنّ من المهر بقوله عز قوله «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ» أيها الرجال «أَنْ تَأْخُذُوا» على الطلاق «مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» أبدا من مهر أو غيره إذا طلقتموهن برضاكم، وهذا في غير المخالعة إذ يجوز أخذ شيء من المهر أو كله إذا كانت لا تريده، أما هو إذا كان لا يريدها فلا يحل له أخذ شيء أصلا «إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» من واجبات الزوجية المارة الذكر والمحبة والألفة والمودة القلبية، إذ النفرة فيها موجبة لعدم القيام بحقه كالنفرة منه «فَإِنْ خِفْتُمْ» يا أولياء الزوجين «أَلَّا يُقِيما» الزوجان منكم «حُدُودَ اللَّهِ» بينهما كما هما مكلفان بها وتحققتم أن كلا منهما لا يقوم بواجبه تجاه الآخر كما هو مطلوب منه دينا ومروءة «فَلا جُناحَ» لا إثم «عَلَيْهِما» إذا طلب كل منهما أو أحدهما فراق صاحبه ولا بأس على المرأة «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» نفسها من المال الذي تعطيه لزوجها بمقابل خلعها، ولا إثم على الزوج في أخذ ذلك، لأنه تكبّد مهرها أولا وفراقها ثانيا لأنها لم تألفه وقد أخذها على حب بها، وعلى الحكام أن يقوموا بذلك وأن يمكن الأولياء صلاحية التفريق بينهما إذا لم يمكن الإصلاح وبقاء الزوجية على ما يريد الله، إذ لا يجوز أن تبقى المرأة مضارة لزوجها، ولا الزوج مضارا لها، ولا أن يبقى مع امرأة لا تألفه، والدين يسر لا عسر فيه، والشريعة غراء سمحة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 35 و 128

من سورة النساء الآتية. «تِلْكَ» الأحكام المارة الذكر هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب عليكم أيها المؤمنون الوقوف عندها «فَلا تَعْتَدُوها» وتعرضوا أنفسكم للشقاق والخصومة في الدنيا والعقاب والعذاب في الآخرة، ولهذا يهددكم ربكم بقوله جل قوله «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» التي حدها لعباده «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 229» أنفسهم بما يحيق بهم من النزاع والنفرة في الدنيا، والجزاء في العقبى لتجاوزهم على الله ذاته بعدم اتباعهم أوامره، ومن أظلم ممن يتجاوز عليه. نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى أو في حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، فشكت لأبيها بأنه يضربها ويشتمها، فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره أن تشكو المرأة زوجها، قالت فرجعت المرة بعد الأخرى وأبوها لا يسمع لها، فذهبت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، وقالت يا رسول الله لا أنا ولا هو، فأرسل إليه وسأله، فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك، فقال لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب، فقالت صدق وهو أكرم الناس حبا لزوجته، وما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه، وإني أبغضه، فسأله فقال أعطيتها حديقة نخل، فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك؟ قالت نعم، فرضي وطلقها. وروى البخاري عن ابن عباس ما يؤيد هذا وإنما أمرها بإعادة المهر لأن القصور كله منها، وكان هذا متعارفا في الجاهلية، ومعمول به في الإسلام حتى الآن عند عرب البادية بلا نكير. وعليه العمل بالمحاكم الشرعية أيضا أما إذا كان القصور من الجهتين فلا ينبغي أن يعاذ كل المهر بل بعضه ولا يجوز أخذ الكل إلا إذا كان كلّه منها وبطلبها التفريق كما في هذه القضية، لأنه مغبون مظلوم، ولذلك قال لها صلّى الله عليه وسلم تردّين عليه حديقته، ولهذا فإذا كان هو الذي لا يريدها فلا يجوز له أخذ شيء منه أصلا كما سيأتي في الآية 21 من سورة النساء أيضا لما فيه من الوعيد والتهديد. ومع هذا إذا احتمل الزوج سوء خلق زوجته وهي كذلك فهو أولى وأثوب ولهما الأجر العظيم عند الله تعالى، لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داوود عن ابن عمر،

وكذلك إذا كان دميما وهي وسيمة، أو بالعكس فللصابر على صاحبه ثواب عظيم عند الله. وجاء أيضا أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة- أخرجه أبو داود والترمذي عن ثوبان- ولا يجدر بالمرأة العاقلة أن تكون كالمتاع والدابة تباع من واحد إلى آخر وإن كان حلالا، فلو تحملت زوجها على سوء خلقه ودمامته خير لها، من أن تطلقه وتأخذ غيره خلوقا وضيئا ولا تدري هل تنشرح عنده أم لا، وقد يهون عليها فراق الآخر أيضا، وقد تندم على الأول، ومهما كانت شريفة عليها أن تتواضع لزوجها مهما كان إذا تقيد بحقوقها وراعى شروط الإسلام معها، فقد روي عن معاذ في حديث ساقه عن النبي صلّى الله عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها. وما بعد هذا تحريض على طاعة الزوجة لزوجها وناهيك به «فَإِنْ طَلَّقَها» ثلاثا «فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ» هذا الطلاق البات «حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» نكاحا حقيقيا بالدخول الشرعي المنبئ عنه قوله صلّى الله عليه وسلم الآتي بعدا. نزلت هذه الآية في تميمة أو عائشة بنت عبد الرحمن القرضي لما روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت جاءت امرأة رفاعة القرضى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني بت الطلاق، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وانما معه مثل هدية الثوب فتبسم صلّى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته. أي أن العقد ووجود الخلوة لا يكفيان لحل الرجوع إلى الزوج الأول بل لا بد من الدخول حقيقة «فَإِنْ طَلَّقَها» الزوج الثاني بعد وطئها على الوجه المار ذكره «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» بعقد ومهر جديدين، وهذه الرجعة معلقة على الشرط المبين بقوله تعالى «إِنْ ظَنَّا» تيقنا «أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» بينهما من حقوق الزوجية المارة وإلا فلا إذ لا فائدة من المراجعة «وَتِلْكَ» الأحكام المبينة أعلاه هي «حُدُودَ اللَّهِ» الواجب مراعاتها على الزوجين والتقيد بها «يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (220) ماهيتها ويفهمون مغزاها ويفقهون مرماها فيعملون بها. الحكم الشرعي: يشترط للزوجة التي تريد الرجوع إلى مطلقها باتا أن تتزوج بغيره بعد انقضاء عدتها منه، ثم يشترط أن تمكن الزوج

كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث:

الثاني من الدخول بها حقيقة، وبعد طلاقها منه وانقضاء عدتها تعود لزوجها الأول بعقد ومهر جديدين، وإلا فلا تحل له إذا فقد أحد هذه الشروط. واعلم أنه لا يجوز أن تزوج نفسها لمدة معلومة، لأن هذا نكاح باطل وعقد فاسد، لأن النكاح إذا لحقه شرط كهذا أفسده، وعقد النكاح عندنا معشر أهل السنة والجماعة لا يكون موقتا كمن يذهب مذهب حل المتعة، والزواج لمطلق التحليل مشئوم مذموم فاعله. روى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. - أخرجه الترمذي- وورد أنه قال هو التبس المستعار. وقال نافع أتى رجل إلى ابن عمر فقال إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول، فقال لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله، وإنما قرن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا الفعل باللعن لأنه ليس من أخلاق المؤمن لمنافاته الشروط المطلوبة فيه والغيرة على نفسه، والمؤمن عزيز لا ينبغي أن يعمل ما فيه هو انه بين الناس. كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث: قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» طلاقا رجعيا أو بائنا دون الثلاث «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» شارهن على انقضاء العدة، والذي يؤيد أن معنى بلغن هنا قاربن قوله تعالى «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أرجعوهن لعصمتكم وأبقوهن عندكم وعاملوهن بالحسنى، ولو كان معناه قضين عدتهن وخلفها لما أمر الله تعالى بإمساكهنّ إذ لا يجوز لأن الطلاق يصير بائنا والبائن لا بد له من عقد ومهر جديدين. وجاء في القرآن بالألفاظ الصريحة للطلاق، وهناك ألفاظ تعورف عليها بوقوع الطلاق كالحرام وغيره مما عده بعض العلماء من الكناية عن الطلاق، وعده غيرهم من الصريح. ومن الكنايات المتفق عليها لفظ (تراكي طالق فقد جاء في فتاوى الخليلي من الشافعية ص 130 ما نصه لا ريب أن هذه الصيغة كناية طلاق. ولا بد في الكنايات من النيّة، فلو نوى الرجل إيقاع الطلاق على زوجته بما ذكره

وقع، وإن لم ينو فلا. وهناك كنايات اصطلح عليها مبينة في كتب الفقه مثل روحي وأنت خلية برية، فكلها تحتاج إلى النية، أما صريح الطلاق فلا يحتاج بل يقع بمجرد صدوره وهو من الثلاث التي جدهن جد وهزلهن جد، والطلاق الثلاث بلفظ واحد قد تعارفوا على وقوعه ثلاثا مع أنه لا يعتبر ظاهرا إلا طلاقا واحدا ولو تكرر في مجلس واحد يعتبر واحدا أيضا كما عليه الآن محاكم حكومة مصر اتباعا لما كان في بداية الإسلام، وإن إيقاعه ثلاثا كان بخلافة عمر رضي الله عنه زجرا للناس من أن يلوكوا بألسنتهم كلما تغالطوا أو تخالفوا على شيء حلقوا بالطلاق الثلاث أو أوقعوا الطلاق الثلاث على زوجاتهم بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة. ولكن مع الأسف لم يؤثر فيهم هذا، فتراهم كلما قاموا أو قعدوا حلفوا بالطلاق أو طلقوا، ولهذا فإن ما ذهبت إليه حكومة مصر فيه وسعة للعوام ورحمة بالنساء الغائلات، إذ يطلقن بلا سبب. وجاء في صحيح مسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان فيه إتاءة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. أي أوقعه ثلاثا زجرا لهم، وكان ذلك زمن الأصحاب والخلفاء الراشدين ومن بعدهم، واستمر عليه العمل حتى الآن، واعتبار الثلاث واحدة مأخوذ من قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) باعتبار أن ما يوقعه المطلق من الطلاق مهما كان متعددا يعتبر مرة واحدة، وعليه الفخر الرازي وجماعة من المفسرين. راجع الجزء السادس ص 5 من المبسوط للإمام السرخسي. هذا، وحكم الرجعة أن يشهد رجلين على قوله راجعت زوجتي فلانة لعصمة نكاحي ضمن العدة أو يعاملها معاملة الأزواج خلال العدة، فيكون راجعها فعلا «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» بأن تتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتهن، فيملكن أمرهن، وهذا مما يؤكد أن معنى بلغن قاربن كما مر «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» بهنّ لا رغبة «لِتَعْتَدُوا» عليهن فيضطررن لفداء أنفسهن بأن تراجعوهن لهذه الغاية لا للإمساك بالمعروف، ولهذا يقول الله تعالى «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» الإمساك بقصد الإضرار «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وعرضها لعذاب الله بمخالفته حدوده التي نهى عنها ومخالفة أمره

من الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان «وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ» التي بينها لكم في حق النساء وغيرهن «هُزُواً» لعبا وسخرية من غير مبالاة بها ولا تدبر لما يترتب على الإعراض عنها من العذاب. وهذه الجملة والتي قبلها جاءت بالتهديد والوعيد لمن يقدم على مخالفة ما حده الله في أمر النساء خاصة، لأن الإضرار بقصد أخذ الفداء عظيم عند الله، لا سيما إذا كانت المرأة فقيرة، فإنها تضطر للبقاء تحت ظلمه، والله تعالى لا بد أن يغتار للمظلوم في الدنيا والآخرة. وسبب نزول هذه الآية أن الجاهليين كانوا يكثرون من الطلاق والمراجعة بقصد إضرار الزوجة وإلجائها لرد ما دفعوه لها من المهر بعد قضاء شهوتهم منها، وإذا عوتوا على فعلهم هذا قالوا إنا لا عبون غير جادين بما نوقعه على أزواجنا، فمنعهم الله من ذلك وأوعدهم وهددهم لئلا يعودوا لمثله. أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة. وعن أبي الدرداء: ثلاث اللاعب فيهن كالجاد النكاح والطلاق والعتاق. وعن عمر رضي الله عنه: أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح. ومعنى مقفلات أنه متى نطق بهن الرجل وجين عليه إذا لم تعلق على شرط فإنهن لا يقعن إلا بوقوعه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فيما بين لكم مما لا بد لكم منه والزموا أنفسكم الأخذ بها لتظهر عليكم آثار هذه النعمة «وَ» اذكروا نعمة «ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ» واعملوا بها لأن الله «يَعِظُكُمْ بِهِ» لتنتفعوا بامتثال ما أمركم به وبانتهاء ما نهاكم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس خافوه واخشوا عقاب عدم امتثال أمره «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 231» لا يخفى عليه حالكم ونيتكم، فأحسنوا قلبا وقالبا وإلا فإنه سيصب عليكم بلائه من حيث لا تشعرون ولا مخلص لكم منه. نزلت هذه الآية في ثابت بن يسار الأنصاري لأنه طلق امرأته حتى إذا شارف أجل انقضاء عدتها راجعها بقصد إضرارها وإلجائها لإعادة ما أخذته من المهر. قال تعالى «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» أي انقضت عدتهن، ويدل على أن المراد هنا من (بلغن) قضين قوله جل قوله «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ» أيها الأولياء فتمنعوهن

من الزواج، لأن معنى العضل هو المنع والضيق والشدة، قال أوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمك إن ولّى ويرضيك مقبلا ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا أي لا تمنعوهن «أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ» الأول بعقد جديد إذا كان الطلاق دون الثلاث لأن الآية مصدرة بطلقتين والذي مر كله مفرع عنها، ومما يدل على أن المراد بالأزواج هم الأول قوله تعالى «إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» أي بعد ما وقع بينهم النفار والشقاق وحلوا الاختلاف فيما بينهم «ذلِكَ» الذي وعظكم الله به «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ويعلم أن الله سيعاقبه فيه، فمن لا يتعظ بموعظة الله لا يؤمن به ولا يؤمن باليوم الآخر، فيكون خارجا عن حدود الله مخالفا أوامره مقترفا نواهيه دون تأويل «ذلِكُمْ» الذي أمر، به من ترك العضل والإضرار والإمساك بالمعروف والإحسان «أَزْكى لَكُمْ» أيها الناس عند الناس، لئلا يقال فيكم ما يثلب كرامتكم من الانتقاد، ومظنة أخذ الفداء من النساء، أو زواجهن ثانيا لأخذ مهورهن في حالة العضل «وَأَطْهَرُ» لقلوبكم وقلوب الناس مما يحوك فيها من ذمكم وغيبتكم، وأجمع للمودة وأقرب للثناء الذي هو خير من الغنى، وأبعد من أن تمزّقوا أعراضكم بما تلوكه ألسنة الناس فيكم، وأزكى لكم عند الله تعالى لرضاه عليكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وزواجره رغبة لا رهبة، ومن هنا أخذ العلماء اشتراط رضى الولي بالنكاح قريبا كان أو بعيدا ثيبا كانت أو بكرا، ولهذا البحث صلة في الآية 25 من سورة النساء الآتية «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» بأن الذي حده لكم في هذه الآيات هو خير لكم في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 232» عواقب الأمور وما يترتب على الامتثال في الإصلاح بينكم وما ينجم عن الخلاف من عواقب سيئة، لأنكم تجهلون النتائج وما ينشأ عنها. وليعلم أن حكم هذه الآيات كلها عام مطلق، وأن نزولها بسبب خاص لا يخصص عمومها ولا يقيد إطلاقها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، والآية الأخيرة نزلت في معقل بن يسار المزني إذ منع أخته جميلة من الرجوع إلى زوجها عاصم بن عدي أبي القداح

مطلب في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات:

لأنه زوجها إليه رغم طلبها من الكثيرين، فطلقها وتركها عنده حتى انقضت عدتها وخطبت من قبل الغير، فكلفه أن يرجعها إليه فأبى لأنه تركها حتى خطبت وقال والله لا أنكحها لك أبدا وهي تريد الرجوع إلى زوجها الأول، فلما نزلت الآية كفر عن يمينه وأنكحها إياه لإرشاد الرسول له ولغيره بأن من حلف يمينا ورأى أن في حنثه خيرا فعل ما هو الخير وكفر عن يمينه كما مر، وقد أخرج هذا الحديث البخاري والنسائي وغيرهما في معقل المذكور، وقيل نزلت في جابر بن عبد الله لما طلق ابنة عمه زوجها وأراد إرجاعها فأبى عليه قائلا أتطلق ابنة عمي ثمّ تريد أن أرجعها إليك. كأنه أنف من ذلك تعظما عليه ولا مانع من تعدد الأسباب. مطلب في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات: قال تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ» من مطلقهن «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» أي يبلغ غايتها، لأن أقل الحمل ستة أشهر، فأكثر الرضاع سنتان لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) راجع الآية 15 من سورة الأحقاف في ج 2 تجد تفصيل هذا البحث وما يتعلق به، وهذا الأمر للندب لأن المطلقة لا تجبر على إرضاع ابن مطلقها إلا إذا لم يأخذ ثدي غيرها، وكذلك لا تجبر على الإرضاع حال قيام الزوجية، لأنه لو كان واجبا عليها لما استحقت الأجرة عليه المبينة بقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» بقدر حالة الطرفين قدر الاستطاعة لا ضرر فيه ولا إضرار بالنسبة لليسار والإعسار وأمثالهما «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» قدر طاقتها «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها» بأن ينزع منها إذا كانت تريد إرضاعه وتربيته، لأنها خير له وأسفق من يغرها مهما كانت قريبة له وهي أرفق به ولبنها أحسن له من لبن غيرها ومن اللبن المجمد أو الميبس لأن الله خلق لكل ما يليق به ويحسنه، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه، وفي أخذه منها إضرار بها لانشغال فكرها عليه وضيق صدرها من فراقه وَلا» يضار «مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بأن يكلف أن يعطيها أكثر من أجر مثلها أو خارجا عن وسعه وطاقته، وأن لا تلقيه عليه بعد أن ألف إرضاعها فيكلف على المراجعة بإرغامها على إرضاعه

لأن الولد يتضرر أيضا في هذه الحالة علاوة على ضرر أمه «وَعَلَى الْوارِثِ» لأبي ولي الصغير «مِثْلُ ذلِكَ» مثل ما على أبيه لو كان حيا، إذ يجب عليه أن يقوم مقام أبيه بحقه، وإذا كان للولد مال فنفقته من ماله لا على وليه ووارث أبيه، إلا أن الولي عليه أن يتولى ما له ويحافظ عليه وينميه له «فَإِنْ أَرادا» الوالدان أو الولي والأم «فِصالًا» فطاما قبل الحولين «عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ» بينهما ومع الغير وظهر لهما بعد التروي أن فطامه بالسن الذي بلغ إليه حين إرادة الفصال لا يضره وتحقق ذلك لديهما بإخبار العارفين بذلك، واتفقا عليه «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» في فطامه ولا حرج ولا إثم، ولوليه أخذه منها إذا أسقطت حقها في حضانته أو سقطت بوجه من الوجوه الشرعية كزواجها بأجنبي أو تحقق عدم أمنها عليه، لأن الولد له لا لأمه، وقيل في المعنى: لا تزدري بفتى من أن يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء وإن تبين أن فطامه يضرّه فلا يجوز وتحبر على إمساكه إذا كان لا يقبل ثدي غيرها حتى يستغني، وإلا فيرضعه غيرها، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ» غير أمهاتهم لعلة أو لغير علة وكان يقبل ثدي المرضعة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» في ذلك ولا إثم إذا كانت أمه راضية بذلك ولا مانع يمنعها من حضانته، لأن هذا جائز حتى حال قيام الزوجية فلأن يجوز بعدها أولى بشرط عدم تحقق الضرر بالولد وبما «إِذا سَلَّمْتُمْ» أمه ما تراكم عليكم من نفقة وأعطيتم «ما آتَيْتُمْ» الظئر الذي ترضعه ما تستحقه من الأجرة إذا لم تكن متبرعة حتى يأمنوا على الولد من الضرر، وليكن تسليمكم الأجرة لأمه أو لمرضعته «بِالْمَعْرُوفِ» عن طيب نفس وليطيب قلب المرضعة وتزداد رغبة في النظر إلى الولد والمحافظة عليه كابنها فلا تفرط فيه، ولا تعتذر من عدم إرضاعه، ولا تهمله، ولا تنصرف عنه لما يشغلها عنه، وتراعيه حق رعايته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الآباء والأولياء والمرضعات والأمهات في حقوق الأولاد، فإن في مخالفتها ضياع الولد وهضم حقوق والديه وأوليائه إذا كان القصور من أمه، وحقوق أمه إذا كان

القصور من أبيه أو وليه، وعلى المقصر الآثم «وَاعْلَمُوا» أيها الأولياء والأمهات والمرضعات «أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ» في الأولاد وغيرهم «بَصِيرٌ» (233) في ظواهر أعمالكم وبواطنها فاحذروه وأحسنوا نياتكم. وفي هذه الجملة من التهديد ما هو غني عن البيان، وهذا هو الحكم الشرعي في الرضاع والحضانة وقد علمتم مدة الرضاع. أما الحضانة فهي سبع سنين للولد، وتسع للبنت على أصح الأقوال، والأصل فيها الاستغناء عن الخدمة عرفا بأن يستغنيا عن خدمة الأم في نظافتهما ولباسهما وأكلهما وشربهما، وإلا فلا، ولهذا الأمر في هذا الشأن للقاضي النقي الأمين ويفهم من الآية أن كلا من الأب والولي مكلف بنفقة المرضعة وكسوتها علاوة على حوائج الولد الضرورية حتى نهاية مدة الرضاع، أما في الحضانة فيكلف الولي بنفقة كافية للولد كافلة بجميع لوازمه وأجرة الحاضنة بمثابة خادمة له، وتختلف النفقة والأجرة باختلاف الأشخاص والأمكنة، ويراعى فيها قوله تعالى آنفا (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقوله عزّ قوله (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية الآتية والأحسن أن يكون باتفاق الطرفين ليعطيها المعطي عن طيب نفس ويأخذ الآخذ كذلك، وهي أحسن من التقدير بمعرفة الخبراء، لأن كلا منهما يميل لطرف غالبا، وقد لا يرضى بتقديرهما أحدهما أو كلاهما، والنفقة تثبت ويلتزم بها بالتراضي أو بحكم القاضي، وتعتبر من يوم الطلب سواء كانت في ماله أو في مال وليه لئلا يتضرر بالتسويف والمماطلة التي قد تكون من الولي أو من الحاكم قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ» يتركون «أَزْواجاً» واحدة فأكثر أحرارا أو إماء «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» من الأيام. وجاء عشر بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى أن أحدهم يقول صمت عشرا من الشهر وذلك لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» بانقضاء هذه المدة «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الأولياء «فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ» من الزينة وغيرها حتى انقضت مدة حدادهن على أزواجهن أما في أثناء العدة فليس لهن التزيّن ولا الخضاب ولا غيره، وإذا فعلن أثمن وإذا لم ينههن أولياؤهن أثموا أيضا لما فيه من مخالفة أمر

الله وإغضاب أولياء أزواجهن المتوفين «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (234) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، قد أعلم الله تعالى عباده في هذه الآية أن عدة الوفاة غير عدة الطلاق، لأن الحزن فيها أشد منه، ولأن في الطلاق أمل المراجعة ولو بعد زوج آخر، وهذا الأمل منعدم في الوفاة، ولأن الطلاق قد يكون عن شقاق وعداوة ونفرة وهذه أيضا منعدمة في الوفاة غالبا، وجاءت عامة في كل من توفى عنها زوجها، إلا أن هذا العموم مخصوص فيما إذا كانت حاملة فإن عدتها تنقضي بوضع حملها حرة كانت أو أمة كما سيأتي في الآية 5 من سورة الطلاق، إذ جاءت مطلقة لم تقيد بقيد ما وعامة لما تخصص ومتأخرة في النزول عن غيرها إذ لم ينزل بعدها شيء في أمر العدة فيدخل في إطلاقها المعتدة عن طلاق أيضا فإنها بالوضع تنتهي عدتها كالمتوفى عنها زوجها. ويشترط لعدة الوفاة الإحداد وهو ترك الزينة حتى الكحل والطيب واللباس غير المعتاد للبيت والحلي وغيره، وعلى كل امرأة فقدت عزيزها أن تحد عليه على أن لا تزيد على ثلاثة أشهر إلا بالوفاة، فتكون أربعة أشهر وعشرة أيام. روى مسلم عن عائشة قالت: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا. وهذا إذا مات عندها، أما إذا مات في غير بلد فتحد من يوم بلوغها خبر وفاته، لأن الغائب عنها زوجها لا تتزين عادة إذ يحرم عليها الزينة لغير زوجها. وقال أكثر العلماء إن الإماء عدتهن نصف عدة الحرائر سواء في الوفاة والطلاق. قال تعالى «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ» أشرتم ولوحتم، لأن التعريض هو أن يضمن المتكلم كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده وغير مقصوده، ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأوضح، وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أي جانب منه، وكان يحول حوله ولا يظهره، كقول المحتاج جئت لأسلم عليك ويذكر حاجته تلويحا بما يريده، بخلاف الكتابة لأنها الدلالة على الشيء يذكر لوازمه وروادفة كقولك طويل النجاد لا طويل، وكثير الرماد للكريم، وعريض الوساد للبليد، وكقول المحتاج للغني أنا كالذي أي ان لفظ الذي يحتاج إلى الصلة كي يتم الكلام به، والفقير يحتاج للصلة ليسد عوزه فكل ما يوعز به «مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ» المتوفّى رجالهن بطريق

التعريض جائز، أما التصريح أثناء العدة فمحظور. هذا، وقد قال الشرنبلالي في حاشيته على الدرر هذا إذا كانت عن وفاة وكذلك إذا كانت عن طلاق فلا يجوز التعريض أيضا ولو كان بائنا كما في البيتين أي ضمن عدة الطلاق فقط وذلك والله أعلم حرمة لمطلقها الحي لأنه قد يتأذى والأذى معدوم في الميت، وحرمة الميت دون حرمة الحي، لأنه أفضل منه بما يصنع من عبادته لربه وخيره لخلقه وصلة لرحمه. والتعريض هو أن يقول فلانة صالحة جميلة فمن يرغب في نكاحها ويطلب تزويجها وأني محتاج للزواج إذا يسر الله لي مثلها، ويجوز أن يسمعها هذا القول بنفسه أو بالواسطة، فإذا كانت ترغب فيه حبست نفسها له وردت خطبة غيره. والخطبة بكسر الخاء كالجلسة من الخطيب بمعنى الشان أو من الخطاب بمعنى الاستلطاف بالقول. أما الخطبة بضم الخاء فهي خطبة الجمعة وشبهها. والتعريض بما ذكر مباح، وكذلك بما يتصوره في فكره أو يتخيله بقلبه لقوله تعالى «أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» بأن عزمتم على زواج من توفى عنها زوجها وأصررتم عليه، فلا حرج ولا إثم في ذلك الإضمار مهما كان نوعه، لأنه غير منهي عنه، وهو عبارة عن حديث النفس الذي لا يؤاخذ عليه العبد وإنما أباح الله تعالى لكم هاتين الطريقتين ولم يؤثمكم عليهما لأنه «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» بين للناس وبين أنفسكم وفي قلوبكم بسائق الشهوة والتمني الذين لا يخلو أحد منهما «وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» بأن تتصلوا بهن وتقولوا لهن صراحة بأنكم تريدون الزواج بهن أو تأخذوا منهن عهدا أو ميثاقا على التزوج بكم وإذا كان هذا في السر منهيا عنه ففي الجهر من باب أولى وقال أكثر المفسرين ان كلمة (سِرًّا) هنا بمعنى نكاحا وزواجا أو جماعا أو زنى وكله خلاف الظاهر لأن الله تعالى أذن أول الآية بالتعريض ونهى في آخرها عن التصريح يؤيده قوله جل قوله «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً» بما يشابه الألفاظ المتقدمة ويجوز أن تتذاكروا مع وليها بمثل تلك الألفاظ وتزيدوا عليه بأنكم تحبون الانتساب إليه وترغبون بمصاهرته في المتوفى عنها زوجها لكمالها وأدبها ونسبها وحسنها فكل هذا لا إثم فيه ولا حرج في فعله «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» في العدة أو تحقنوا إجراءه أو تصمموا عليه فيما بينكم إذ ترك العزم على العقد

واجب عليكم «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ» سمى الله العدة كتابا لأنها فرضت فيه وكتبت على البشر فإذا قضيت فلا محذور عليكم في الخطبة تصريحا وإجراء العقد علنا «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فضلا عما تتكلمون به شفاها «فَاحْذَرُوهُ» أيها الناس لا تخالفوا أمره أو تروغوا عن تعاليمه «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سبق منكم في هذا الشأن لأنكم لا تعلمون تحريمه ولم يسبق النهي عنه من قبل نبيكم لعدم تلقيه وحيا عنه «حَلِيمٌ» (235) يستر على عباده ما يقع منهم ولا يستفزه الغضب فيفضحهم حال ارتكابهم ما حرم عليهم بل يمهلهم ويؤخر عقوبتهم لعلهم يتوبون. قال تعالى «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ» تجامعوهن «أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» فلم تسموا لهن صداقا وهذه الجملة معطوفة على العقد المخفي وهذا التفسير أولى من جعل (أَوْ) بمعنى إلا لأنه خلاف الظاهر وأن هذا النوع من أنواع الطلاق آت في الآية التالية وهو فيما إذا كان العقد لم يسم فيه مهرا وقد نزلت في رجل من الأنصار تزوج من بني حنيفة امرأة ولم يسم لها مهرا ثمّ طلقها فقال صلّى الله عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوة، ووجه نفي الحرج مع أنه لا حرج بالطلاق قبل المس أو بعده لما فيه من سبب قطع الوصلة ولهذا قال تعالى «وَمَتِّعُوهُنَّ» تطييبا لخاطرهن بما تطيب به نفوسكم أيها المطلقون من أنواع المتاع لا تضييق عليكم فيما تعطونه لها «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ» بحسب إمكان الرجل ومكانته وإمكانه «مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ» من غير حيف ولا عنف بلين ورفق وطيب نفس. واعلموا أن تمتع المطلقات كان ولا يزال «حَقًّا» واجبا لازما لا ندبا ولا مباحا «عَلَى الْمُحْسِنِينَ» (236) معاملة النساء الذين يراعون حقوقهن ويرغبون فى إرضائهن إجابة لإرادة ربهم وهذه المتعة هي المسماة الآن بنفقة العدة ويجبر الزوج عليها في كل الأحوال إلا إذا لم يختل بها إذ لا عدة عليها ولا نفقة عليه لأنها شرعت بمقابل حبس المرأة نفسها عن الزواج خلالها، أما إذا طلقت على هذه الصورة فينبغي أن يعطيها المتعة سواء اختلى بها أم لا لإطلاق الآية ولأنها عبارة عن تطييب قلبها لأنها قد يلحقها حيف وتهمة بسوء خلقها أو خلقها أو نسبها هذا إذا لم يكن الطلاق على طلبها وإلا لا. قال تعالى «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ

مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ» أي يلزمكم نصف «ما فَرَضْتُمْ» على أنفسكم من المهر المسمى عند العقد لا مهر المثل لأنه لا يرجع إليه إلا عند عدم التسمية «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ» عنكم أو يسامحونكم به أنفسهن أو أولياؤهن برضائهن والنون في (يَعْفُونَ) ضمير جمع المؤنث ولهذا لم يسقطها الناصب إذ يستوي فيه الرفع والنصب، ومن قال إنه ضمير الرجال قال إن النون علامة الرفع ولم يسقطها الناصب لأن الفعل مبني لا يؤثر فيه الناصب كما لم تسقط الواو التي هي ضمير المذكر وإنما سقطت الواو التي هي لام الفعل وإسناده للنساء أولى بالمقام، يؤيده قوله تعالى «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» من أوليائهن إن كن قاصرات أو غير حائزات شروط التصرف لأن الولي هو القيّم عليها وقد يكون هو الذي زوجها وهو الذي ألزم الزوج مهرها ولذلك له أن يعفو عن المهر وغيره «وَأَنْ تَعْفُوا» أيها الأولياء والنساء البالغات الحائزات حق التصرف عن نصف المهر المذكور أو عن بعضه فتبرئوا ذمة الأزواج منه فهو «أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» من أن تأخذوه وفي حالة العفو ينبغي للزوج أن يمتعها بما تسمح به نفسه تطييبا لخاطرها، ثم بين سبب العفو بقوله عز قوله «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» لأنكم تقاربتم بسبب هذا الزواج فليدم بينكم الإحسان لأن في الأخذ قطيعة له وسبب للتخاصم وفيه حث الطرفين على كرم الأخلاق وإذا عفى الزوج وترك المهر كله فهو أولى والفضل لمن تسمح نفسه بما يستديم به مودة الآخر إذ قد يؤدي هذا التسامح إلى الرجعة فلا يبقى محل للحقد والبغضاء والمشاحنة وهذا هو المعروف والإحسان المطلوبين في التفريق «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (237) لا يضيع عمل عامل منكم فاعملوا خيرا لأنفسكم لتجدوا ثوابه عند ربكم القائل «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ» المكتوبات «وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» خاصة وهي صلاة الصبح على أصح الأقوال لمزيد الاعتناء بها ولزوم المحافظة عليها لأنها ثقيلة على من لم يوفقه الله لفضلها، لأن من الناس من يغفل عنها ويعرضها للضياع فيصليها قضاء وهيهات الأجر بين القضاء والأداء، وإنما رجح كونها الصبح لأنها تصلّى بمفردها سفرا وحضرا لا تقصر ولا تجمع مع غيرها ولأنها واقعة بين جمعين الظهر والعصر والمغرب والعشاء،

ولأنها في وقت يتكاسل فيه الناس للذة النوم ورطوبة الهواء في الصيف وشدة البرد بالشتاء وفتور الأعضاء وتمادي النعاس وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين المقدرين عظيم ثوابها فهي عليهم خفيفة سهلة يسرة يأتونها برغبة وطيب نفس، وهناك أقوال بأنها العصر أو الظهر وقد بيناها في الآية 79 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها. وحجة من قال إنها العصر وقوعها بين صلاتي نهار وليل: الصبح والظهر، والمغرب والعشاء. وحجة من قال إنها الظهر وقوعها وقت اشتغال الناس ولأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي محمد عليهما الصلاة والسلام ولأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين كما ذكره بعضهم، إلا أنه لا يتجه لأن الصلاتين اللتين قبلها وبعدها مختلفتان. وحجة من قال إنها المغرب لضيق وقتها وانشغال الناس عنها بالأعمال والطعام والنزهة. وحجة من قال إنها العشاء كراهية الحديث بعدها إلا بخير وسنيّة تأخيرها إلى ثلث الليل لما فيه من قطع السمر المنهي عنه. ولكل وجهة وأحسنها أو لها لقوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية المارة من الإسراء، أي يدونها ملائكة الليل والنهار لرؤيتهم لها بخلاف سائر الأوقات، وقال الشيخ محي الدين في فتوحاته إنها الوتر لقوله صلّى الله عليه وسلم: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر ألا فصلوها إلخ، وقوله: الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني وكرره، ولختمه تعالى الآية بقوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وفيها القنوت في بحث مطول فراجعه. ومن أراد أن يصيبها يقينا فعليه المحافظة على كل الصلوات لأن الحكمة من إخفائها هذا كساعة الإجابة من يوم الجمعة وليلة القدر من رمضان والاسم الأعظم من الأسماء الحسنى ليستغرق العبد أوقاته في الدعاء والذكر والصلاة وإحياء الليالي فيصيب الهدف. «وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» (238) خاشعين خاضعين لهيبته وعظمته في صلاتكم وصيامكم وذكركم وقيامكم ودعائكم مطيعين له في كل ما يأمر وينهى، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنها الصبح لأن القيام من النوم يكون فيها، والقنوت الذي أخذ به الإمام الشافعي فيها، والخشوع فيها أكثر من غيرها لأن الإنسان ينتبه من نومه صافي القلب لم يشغله شاغل عدا ذكر الله، وإنما ذكر الله تعالى الصلوات في تضاعيف أحكام الزواج والطلاق والنفقات والرضاع إيذان بشدة الاعتناء بها والمثابرة عليها

من غير اشتغال عنها بشأن أنفسهم وغيرهم، وتشير إلى لزوم المحافظة عليها. «فَإِنْ خِفْتُمْ» حال وقت أداء الصلوات من عدو أو غيره ولم تقدروا على الإتيان بها كاملة الأركان والشروط «فَرِجالًا» أي ائتوا بها قياما لأنه أبلغ في الجواز «أَوْ رُكْباناً» إذا لم تأمنوا على أنفسكم حالة القيام وفي فعلها حيثما توجهت به دوايكم ماغ لكم أيضا، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في الآية 101 من سورة النساء فراجعها «فَإِذا أَمِنْتُمْ» من خوفكم هذا «فَاذْكُرُوا اللَّهَ» صلوا كعادتكم وعبر بالذكر عن الصلاة لا شتمالها عليه ولأنه معظم أركانها «كَما عَلَّمَكُمْ» من إكمال ركوعها وسجودها وإتمام خشوعها وخضوعها «ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (239) شيئا قبل واحمدوا الله على ما علمكم، ويؤذن ذكر الصلاة وما يتعلق فيها بين تلك الآيات المتعلقة بالطلاق وتفرعاتها بالحث على العفو والنهي عن الترك وأخذ الفضل من المهور والإضرار بالنساء وغيره من جميع ما نهى عنه وأمر به، لأن الصلاة تهيء النفس لفضائل الأعمال كما يكمل بها فواضل الملكات لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد جيء بها هنا كالاعتراض بين البحثين ليجمع بين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه بالإعلام بأنها حقيقة هي معظم الدين المستعان بها على فروعه، وقد جاء في الحديث أنها عماد الدين ومعراج المؤمنين فمن قام بها حق القيام امتنع من الضرر والإضرار وأقدم على العفو والرفق والإحسان بخلق الله أجمع فضلا عمن كان بينه وبينهم صلة. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً» ويوصون «وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ» بأن يمتعن «مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» ويبقين في بيوتهن «غَيْرَ إِخْراجٍ» منها فهؤلاء تجب نفقتهن في ماله إذا أوفين بوصية أزواجهن طيلة تلك المدة «فَإِنْ خَرَجْنَ» من تلقاء أنفسهن إذ لا يجوز للورثة إخراجهن تنفيذا لوصية الميت المطلوب اتباعها «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» أيها الوارثون ولا إثم وإنما يكون عليكم الإثم إذا أخرجتموهن وخالفتم الوصية أو قطعتم عنهن النفقة في تلك المدة ولا حرج عليكم بعد خروجهن قبل إكمال الحول أو بعده «فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» كزينة معتادة ولباس طيب وغيره، لأن الحداد مطلوب في أربعة أشهر

وعشرة أيام فقط التي هي مدة العدة بالنص المتقدم فإذا قضين هذه المدة فلهن أن يفعلن ما يشأن مما هو متعارف من زينة وطيب وأن يتزوجن بعدها ولا يجبرن على تنفيذ هذه الوصية للسبب الآتي «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 240» فيما شرع من الأحكام لعباده وما بين لهم من شرائعه. نزلت هذه الآية في حكيم بن الحارث الطائفي لما هاجر إلى المدينة وأبواه وزوجته وأولاده فلما مات رفع أمرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأعطى ميراثه لأبويه وأولاده ولم يعط امرأته شيئا لأن آية الميراث لم تنزل بعد وكانوا لا يورثون الزوجة وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها سنة كاملة إذ كانت العادة مطردة بأن الزوج بوصي لزوجته بذلك إذا أحبت البقاء سنة أو إلى تاريخ خروجها بإرادتها من بيت زوجها، لأن قضية التمتع إلى الحول ليس واجبا عليها بصريح هذه الآية بل مندوبا ومتوقفا على وصية الميت به فإن لم يوص فلا، ومما يؤكد الندب قوله تعالى «فَإِنْ خَرَجْنَ» فلو كان واجبا لكان عليهن الإثم ولجاز منعهن من الخروج ولهذا فإنهن بالخيار من تنفيذ وصية زوجها ببقائها سنة أو خروجها بعد إكمال الأربعة أشهر وعشرة أيام إلا أن إكمال السنة أولى بحقها رعاية لحق زوجها. ومن قال إن هذه الآية منسوخة بالآية الأولى المبينة أن عدة الرفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لأن الأمر فيها للوجوب لا وجه له لأن المقدم لا ينسخ المؤخر إجماعا، وما احتج به القائل بالنسخ على ظن أن هذه الآية التي نحن يصددها متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن الآية الأولى عدد 235 كآية (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) فإنها متأخرة في النزول عن آية (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) المتقدمة في التلاوة يحتاج إلى دليل قطعي ولا شيء من ذلك، وغاية ما قاله المفسرون انها متقدمة في المعنى، وهذا لا يضر ولا ينطبق عليه ما نحن فيه، راجع الآية 142 المارة تعلم أنها متقدمة في النزول والتلاوة والمعنى كهذه أيضا، لأن القائل لا يستند إلى دليل يؤيد قوله ولا إلى نقل صحيح، ولو فرضنا جدلا وقلنا إنها متقدمة في المعنى لا نقول بالنسخ لعدم وجود شرطه وهو التقدم نزولا وتلاوة ورتبة. ولا يقال أيضا إن هذه الآية ناسخة للآية الأولى لأن الأولى جاءت بلفظ الأمر وهذه على الندب وهو أدنى حالا من الأمر والأدنى لا ينسخ الأعلى لأنه أضعف منه بدرجات

[سورة البقرة (2) : الآيات 241 إلى 250]

والضعيف لا ينسخ القوي كما أوضحناه في المقدمة في بحث النسخ. وغاية ما في هذه الآية الدلالة على أمر بن إعطائها النفقة والسكنى من مال زوجها حسب وصيته كما كان الأمر في الجاهلية وفي بداية الإسلام، وإبقائها في بيته سنة كاملة باختيارها تنفيذا لوصية زوجها، وهذا غير العدة الواجبة عليها لأنها على القطع وهذه على التخيير، فلو فرض أن أوصى الآن زوج زوجته بذلك ورضيت فلا مانع من تنفيذ وصيته شرعا كسائر وصاياه وعلى كل حال الأحسن أن تقضي الزوجة عدتها في بيت زوجها سواء كانت عدة طلاق أو عدة وفاة، ولكن الأمر الآن جار على خلافه فلا تجد مطلقة تبقى في بيت مطلقها يوما واحدا والقصور من الطرفين في هذا. قال تعالى: «وَلِلْمُطَلَّقاتِ» كلهن على اختلاف أنواع الطلاق «مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا» واجبا مفروضا «عَلَى الْمُتَّقِينَ 241» ما نهى الله عنه كلّا أو جزءا وعليهم أن يتسامحوا في هذه المتعة ما استطاعوا تطييبا لقلوبهن وجبرا لخاطرهن، وقد أمتع الحسن بن علي رضي الله عنهما احدى مطلقاته بثمانية آلاف درهم وكان جوابها له متاع قليل من حبيب مفارق «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الواضح «يُبَيِّنُ» اللَّهُ لَكُمْ «آياتِهِ» المتعلقة بينكم وبين أزواجكم في حالتي الطلاق والوفاة ويمتنّ عليكم بتوضيحه «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 242» معانيها فتعملوا فيها وتعلموا الغزي منها أيها المؤمنون. هذا وقد جاءت هذه الآية مبالغة في زيادة البيان لجميع ما تقدم. وخلاصة الحكم الشرعي في هذا أن الرجل إذا تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ولم يسم لها مهرا ولم يختل بها فعليه المتعة فقط وأقلها ثوب وإزار وخمار، ولا حد لأكثرها بحسب ما تسمح به نفسه إذ لا عدة له عليها توجب حبسها عن الزواج بغيره كي يجبر على النفقة ولها أن تتزوج يوم طلاقها وانما كانت المتعة تفضلا وكرما منه إذا كان الطلاق وقع بطلبها وان كان عفوا منه كان عليه تطييب خاطرها بما تسمح به نفسه. ثانيا إذا تزوجها وسمى لها مهرا وطلقها قبل الدخول والخلوة فلها نصف المهر المسمى فقط ولا عدة عليها ولا نفقة لها عليه وله أن يمتعها بما تجود به نفسه أيضا. ثالثا إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا وطلقها بعد الدخول والخلوة الشرعية فعليه مهر مثلها كأختها أو عمتها المشابهة لها بالحسن والبكارة والنسب والحسب

مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام:

وعليها العدة وعليه نفقتها وجوبا ما دامت في العدة. رابعا إذا تزوجها وسمى لها مهرا ودخل بها ثمّ طلقها فلها تمام المهر وعليه نفقة العدة وتسمى هذه المتعة في الحالات التي يجب على الزوجة فيها العدة نفقة عدة وفي الحالات التي لا تجب فيها العدة متعة. مطلب قصة ذي الكفل ونادرة السلطان سليم وقصة أشمويل عليه السلام: ثم طفق جل شأنه يقص علينا ما جرى على بعض أنبيائه فقال جلّ قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» وذلك أنه حلّ فيهم الطاعون فهربوا من بلدهم خوف إصابتهم به وهذا استفهام تعجب أي أرأيت يا سيد الرسل حالة هؤلاء أشاهدت مثلهم «فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا» بأن أمر ملائكته أن يصيحوا بهم صيحة هائلة فماتوا كلهم دفعة واحدة «ثُمَّ أَحْياهُمْ» بدعوة نبيهم ذي الكفل عليه السلام واسمه حز قيل ابن بوذي ثالث خلفاء بني إسرائيل وسمي ذا الكفل لأنه كفل سبعين نبيا وخلصهم من القتل ويسمى ابن العجوز لأنها كانت عقيما وسألت ربها بعد الكبر والهرم فأعطاها إياه وكانوا في قرية تسمى «ادواردان» وقد وقع بهم الطاعون فخرج قسم منهم وبقي الآخر ففتك بالباقين وعقب انقطاعه عاد النازحون فقال بقية المتخلفين منهم لو نزحنا معهم ما أصابنا ما أصابنا من فقد أولادنا وآبائنا ونسائنا وأقاربنا فإذا عاد الطاعون سنفعل مثلهم فعاد الطاعون الكرة عليهم فخرجوا جميعا من تلقاء أنفسهم دون رضاء نبيهم المشار اليه ونزلوا بواد (أفيح) فأرسل الله إليهم ملكين فصاحا بهم فماتوا عن آخرهم وقد فعل الله ذلك بهم ليعلموا هم والذين من بعدهم أن من قدر عليه الموت لا مناص له منه، فصار نبيهم يبكي ويقول يا رب كانوا يعبدونك معي وبقيت وحيدا وبقي يدعو ويتضرع الى ربه مدة أسبوع فأوحى الله إليه أني قد جعلت حياتهم بيدك فقال لهم أحيوا بإذن الله فحيوا كلهم معجزة له عليه السلام فقاموا وعاشوا معه دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، وكان موتهم هذا الذي استمر ثمانية أيام على ما قيل عقوبة لهم لما صدر منهم من القول المار ذكره فلا يقال كيف ماتوا مرة ثانية في الدنيا لأن إحياءهم كان لاستيفاء

آجالهم المقدرة عند الله تعالى ولذلك أحياهم، فلا يرد عليه ما جاء في قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الآية 57 من سورة الدخان في ج 2 لأن معجزات الأنبياء من خوارق العادات والآية عامة مخصصة بمعجزات الأنبياء كموت سيدنا عزير عليه السلام وإحيائه كما سيأتي في القصة الآتية بعد وفيها رد على منكري البعث، إذ ثبتت الحياة بعد الإماتة بصراحة هذه الآية بلا تعريض ولا تلويح، والذي يقدر على إحيائهم في الدنيا ألا يقدر على إحيائهم في الآخرة؟ بلى وهو على كل شيء قدير وهو أهون عليه وله المثل الأعلى. روى البخاري ومسلم عن عمر أنه خرج فلما جاء (سرع) بلغه أن الوباء قد وقع بها فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه، فحمد الله عمر ثمّ انصرف. «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» يبصرهم بما يعتبرون به كما بصر أولئك ليتعظوا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 243» أفضال الله عليهم فالكافر لا يشكر والمؤمن قليل شكره، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية 14 من سورة سبأ في ج 2. قال تعالى «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يا أيها الذين أحييناكم بعد الموت «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (244) بمن يتعلل منكم عن القتال قولا ونية وأن الله تعالى يعامل الإنسان بمقتضى طويته. وفي هذه الآية تمهيد للقتال الذي سيفرضه الله تعالى على رسوله وأمته وتشجيع عليه وإعلام بأنه لا مفرّ لأحد من الموت، وأحسن أنواعه أن يكون في سبيل الله، وقيل فيه: من لم يمت بالسيف مات بغيره ... توعت الأسباب والموت واحد وقيل أيضا: وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا ثم أكد جل شأنه الأمر في تضاعيف الترغيب بالعمل الصالح بالوعد بمضاعفة ثواب المجاهد على وجه يتضمن تسلية الإنسان في بذل نفسه في سبيل الله وبذل ماله لعيال الله فقال «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ» نفسه وماله «قَرْضاً حَسَناً» عن طيب نفس وحسن نية وإخلاص قلب «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً»

لا حساب لها لأن عطاء الله لا يدخل تحت الحساب فضلا عن وصفه بالكثرة لأنه يبارك له في نفسه وماله وولده «وَاللَّهُ يَقْبِضُ» الرزق فيقتره على من يشاء لا بسبب الإنفاق «وَيَبْصُطُ» يوسعه ويكثره على من يشاء لا بسبب البخل «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 245» فرادى كما بدأكم أول مرة وتتركون ما خولكم إياه من مال وولد وراءكم في الدنيا وتحاسبون عليهما في الآخرة، فقدموا لأنفسكم ما استطعتم من الخير تربحوا وتنجحوا. أمر الله تعالى قوم ذي الكفل المذكورين بالجهاد بعد أن أحياهم وأخبرهم بفضله تمهيدا لشكره على ما أنعم به عليهم وقد نسبها لهم مع أنها من جملة أفضاله تكريما، قال عطاء الله الاسكندري: ومن فضله عليك أنه خلق ونسب إليك وقد أخبرهم أن من جاهد فكأنما أقرض الله نفسه وماله وقد تعهد الله بمضاعفة هذا القرض ومن أوفى بعهده من الله ومن يتعهد له الله يغنيه ويكفيه عن غيره. ويطلق القرض على كل ما أسلفه الرجل من خير أو شر، قال أمية ابن الصلت: كل امرئ سوف يجزى فرضه حسنا ... أو سيئا أو مدينا كالذي دانا وإن القبض والبسط في الرزق لحكمة تقتضيها إرادة الله لا لكون الرجل تقيا أو شقيا، فمن عرف هذا وأيقن بأن الخير فيما يختاره الله لعبده لا فيما يتصوره هو هان عليه ذلك ورضي بما عنده واستراح، قال القائل: إذا ما تمنى الناس روحا وراحة ... تمنيت أن أشكو إليك وتسمع فمن يشكو إلى الله ما يلاقيه منه يسمع خيرا ويصرف النظر عن الدنيا وينكب للآخرة، وقيل في المعنى: تزود من الدنيا فإنك راحل ... وبادر فإن الموت لا شك نازل وإن امرأ قد عاش سبعين حجة ... ولم يتزود للمعاد لجاهل ودنياك ظل فاترك الحرص بعد ما ... علمت فإن الظل لا بد زائل وعليه فليثق الإنسان بربه، وليقنع بما أعطاه، وليتيقن أن الخير في الواقع، وليحذر أن يكثر على ربه الأماني، فالكيس من دان (حاسب) نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. وليعلم هذا وأمثاله أن:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن نادرة: - نزل السلطان سليم الأول العثماني سامحه الله في قارب يريد العبور من الآستانة إلى اسكدار، وكان معه أستاذه شيخ الإسلام العلامة شمس الدين أحمد چلبي الشهير بابن كمال فخاطبه السلطان أثناء جريان القارب فيها بقوله: فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصّة الوسل فأجابه فورا من بحر بيته بقوله: أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للملا قبلي فتعجب من حسن جوابه وأحسن إليه. ثم ذكر جل ذكره على طريق الاستفهام التقريري والتعجب التذكيرين بقصة أخرى من عجائب أفعاله البديعة وصنائعه الغريبة فقال تعالى يا سيد الرسل «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» من أشرافهم من أهل الحل والعقد في المملكة وهؤلاء المتعجب منهم كانوا «مِنْ بَعْدِ» موت «مُوسى» عليه السلام «إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ» هو على ما قيل شمعون ابن يوشع عليه السلام، ومقول القول «ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا» مع ذلك الملك الذي تريدون أن يبعثه الله إليكم لأني أتوقع أن لا توفوا بوعدكم «قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معه «وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا» من قبل الذين غلبونا ألا نريد أن نأخذ بثارنا منهم فلا بد لنا من قتالهم لننتقم منهم، فسأل نبيهم ربه عز وجل فبعث لهم ملكا وفرض عليهم القتال معه «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا» عنه وأعرضوا عن الجهاد معه وأخلفوا عهدهم وضيعوا أمر الله «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» ثبتوا على عهدهم مع الملك وظلم المخالفون أنفسهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 245» الذين ينكثون عهدهم ويخلفون وعدهم. وخلاصة القصة الثانية قالوا إن يوشع بن نون عليه السلام كان أقام في بني إسرائيل خليفة لسيدنا موسى وسيدنا هرون عليهما السلام ومن بعده كالب بن يوقنا ثم حز قيل المار ذكره آنفا بالقصة المبينة في الآية 242 المارة، فأقاموا أوامر الله تعالى فيهم بحكم التوراة بعد موت ذي الكفل حز قيل (وهذا

غير الياس المسمى ذا الكفل راجع الآية 213 المارة وما ترشدك إليه من المواضع) عظمت فيهم الأحداث وغيروا أوضاع الدين وبدلوا قسما من التوراة ونسوا عهد الله فيهم على ما فيها وعبدوا الأصنام، فبعث الله تعالى إليهم الياس ليجدد عهده فيهم ويأمرهم أن يطيعوا الله ويعملوا بأحكام التوراة، ومن بعده اليسع، فأقاموا فيهم ما شاء الله تعالى ومن بعدها عظمت الأحداث فيهم والخطايا فسلط الله عليهم العمالقة قوم جالوت ويسمون (الباشانا) يسكنون ساحل الروم بين مصر وفلسطين فغلبوهم على أراضيهم وسبوا ذراريهم وضربوا عليهم الجزية وأهلكوهم حتى لم يبق من سبط النبوة إلا امرأة حبلى فأمسكوا بها لئلا تبدل مولودها بذكر إن كان أنثى، فدعت الله تعالى فرزقها غلاما سمته شمعون ومعناه سمع الله دعائي، وكانوا ينطقون السين شيئا ومعناه بالعبرانية إسماعيل، فكبر وترعرع وتسلم التوراة بكفالة شيخ من كبارهم، فلما بلغ أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم جانب الشيخ لأنه كان لا يأمن عليه أحدا فيظل ملازما له فدعاه بلحن الشيخ يا اشمويل فقام فزعا إلى الشيخ وقال يا أبتاه رأيتك تدعوني إفكره أن يقول له لا خوفا عليه، فناداه ثانيا فقال يا أبتاه تدعوني فقال له نم ولا ترد علي إن دعوتك، فناداه الثالثة وظهر له وقال اذهب إلى قومك وبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه وقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل معه آية على نبوتك، ولهذا لم يقل لهم إن بعثت لكم ملكا لا تقاتلون معه كما التمسوا منه مع أنه أظهر مبالغة في إظهار تخلفهم عنه لأنهم إذا كانوا لا يقاتلون عند فرض القتال عليهم فلأن لا يقاتلون عند عدم فرضه من باب أولى. قالوا فدعا الله تعالى فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له ان الملك الذي يجب أن يقاتلوا معه يشترط أن يكون من بني إسرائيل وأن يكون بطول العصا وإذا أدخل عليك نش الدهن بالقرن، وكان طالوت بن قيس من سبط بنيامين بن يعقوب مستوفيا لهذين الشرطين بعد أن استعرض كثيرا منهم على مرأى من قومه ولما أدخل عليه نش الدهن بالقرن فاستجمعت فيه الشروط الثلاثة فقال لهم هذا هو ملككم، وكان دباغا وسمي طالوت مبالغة في طوله فملكه عليهم وكان قوام منك بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعتهم طاعة أنبيائهم وكانت الملوك تنقاد

مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام:

إلى الأنبياء فلا يعملون شيئا إلا بإرشادهم. قال تعالى «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» حسب طلبكم فتهيأوا للقتال معه «قالُوا أَنَّى» من أين «يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا» وكيف يستحقه «وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ» لأنه ليس من سبط الملوك وفينا من سبطه سبط يهوذا بن يعقوب كداود بن ميشا وغيره ولا هو من سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب الذي كان منه موسى وهرون وغير هما لهذا فانا لا نقبله ملكا علينا إذ يشترط أن يكون من أحد السبطين المذكورين فضلا عن أنه رجل دباغ فقير «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ» فكيف نملكه علينا لأن الملك يحتاج للمال أكثر من احتياجه للسطوة بالرجال ويجب أن يكون من سبط الملك أو النبوة، قاتلهم الله على عنادهم هذا، الله يخبر نبيهم بأن طالوت أهل للملك وهم يقولون نحن أحق به منه «قالَ» نبيهم عليه السلام لا تعترضوا «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ» وكان أعلم بني إسرائيل في زمنه «وَالْجِسْمِ» وهذه فضيلة أخرى ينشأ عنها شدة القوة وهي مع العلم ركنان عظيمان لحفظ الملك والمال وليدلهما «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» من عباده لم يخصه بسبط ولم يجعله إرثا ولم يشترط له الغنى إذ قد يمكنه الله منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» الرزق ويده أبوابه «عَلِيمٌ 247» بمن يؤهله للملك والرزق لأنهما من فضله وسعته يفيضهما على من يشاء من عباده. مطلب في التابوت ومسيرهم للجهاد ومخالفتهم توصية نبيهم بالشرب من النهر وقتل جالوت وتولية داود عليه السلام: ثم إنهم طلبوا من نبيهم علامة على ملكية طالوت من قبل الله تعالى بعد أن لم يقبل منهم ما طعنوه به فدعى الله ربه فأخبره بعلامته «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» الذي فقد منكم وآل فيه للعهد لأنه كان معروفا عند أسلافهم وعندهم بالاستقراء من أنبيائهم وهو على ما قالوا أنزل على آدم عليه السلام وكان فيه صور الأنبياء وهو من خشب الشمشام وكان طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعين ولم أقف على نوعه وماهيته بأكثر من هذا،

وورثه شيث عليه السلام وتداوله أولاده من بعده إلى أن صار إلى ابراهيم وإسماعيل فيعقوب ثمّ وصل إلى موسى عليه السلام وكان يضع فيه التوراة وبعض الأشياء المقدسة وورثه أنبياء بني إسرائيل وكانوا يستنصرون به على أعداءها ويستشفون به «فِيهِ سَكِينَةٌ» قالوا هي كناية عن روح من روحه تعالى تخبرهم بلسان نبيهم عما يختلفون فيه وطمأنينة يسكنون إليها عند خوفهم وجزعهم هي لكم يا بني إسرائيل أمن «مِنْ رَبِّكُمْ» يوقعه في قلوبكم عند الخوف فتأمنوا وتخبتوا وتطمئنوا عند الجزع والفزع وتتسع قلوبكم عند الضيق وتنشرح له «وَبَقِيَّةٌ» فيه أيضا «مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» من رضاض الواح التور والعصا وأشياء أخر محترمة عندهم تلقوها من الأنبياء الأقدمين، ويدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: أوتيت مزمارا من مزامير آل داود. أي داود نفسه، وهذه النساء جارية عند بعض العرب فيقولون آل فلان للشخص نفسه (وإن أهل قضاء الميادين من أعمال محافظة دير الزور تستعمل هذه النسبة حتى الآن) وهناك أقوال أخر في معنى التابوت والسكينة والبقية لا يركن إليها لعدم الوثوق بصحتها. قالوا وكانت العمالقة المار ذكرهم حينما غزوهم وسبوهم أخذوه منهم، وإنما سلطهم ان عليهم لتركهم تعاليم دينهم وإرشادات أنبيائهم وانشغالهم بشهواتهم واستحلالهم ظلم بعضهم ولما وضعوه في بيت أصنامهم رأوها تنكست فتشاءموا منه، ثم وضعوه في ناحية من مدينتهم فأصاب أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فطرحوه في قرية من قراهم فسلط الله على أهلها الفأر حتى صارت الفأرة تبيت مع أحدهم فيصبح ميتا ثم دفنوه في فناء البلد قصار كل من يتبرز هناك يصاب بالباسور، فتحيروا في أمره فقالت لهم امرأة من بنات الأنبياء لا يزال المكروه فيكم ما زال عندكم، قالوا نعمل؟ فأمرتهم أن يأتوا بعجلة فيضعوه فيها ويربطوه لئلا يقع ويعلقوا العجلة بثور ويضربو هما ضربا مبرحا حتى يخرجا من حدود مدينتهم، ويتركوهما على وجههما ففعلوا ذلك ورجعوا، فأرسل الله أربعة من ملائكته يسوقونهما حتى أو صلاهما أراض بني إسرائيل، فلما رأوه كسروا نير الثورين وقطعوا حبالهما وأخذوا التابوت وانصرف الثوران لأهلهما، وإنما قال تعالى «تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ» لأنهم هم الذين وجهوا

الثورين إلى جهة بني إسرائيل، قالوا فصار بنو إسرائيل يهللون ويكبرون ويحمدون الله تعالى ودانوا لملكهم بعد أن رأوا هذه العلامة التي أخبر عنها نبيهم، وهناك أقوال أخر بأنهم رأوه نازلا من السماء وأن الملائكة أتتهم به من أرض التيه حتى أوصلته إلى بيت طالوت فأراهم إياه، والله أعلم، لأن القصة معلومة والكيفية مجهولة. قالوا ولبث فيهم أشمويل عليه السلام أربعين سنة يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه إلى أن مات عليه السلام بعد قتل جالوت كما سيأتي «إِنَّ فِي ذلِكَ» أي إتيان التابوت بما فيه من السكينة والبقية بواسطة الملائكة «لَآيَةً لَكُمْ» عظيمة وبرهانا ساطعا على نبوة أشمويل وملكية طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 248» بربكم ورسالة نبيكم وتصديق ملككم، فلما رأوا الدليل القاطع أذعنوا وصدقوا، ثم أمرهم بالجهاد ليسترد لهم شرفهم من العمالقة فأجابوه ولم يتخلف منهم إلا العاجز والمعذور والصغير وساروا معه إلى العمالقة. قال تعالى «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ» لهم نبيهم أشمويل «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» تعبرونه لأن عدوكم وراءه وقد يلحقكم العطش عنده وإن الله تعالى يمتحنكم هناك فيعلم الطائع منكم من العاصي له وسيقول لكم لا تشربوا من هذا النهر «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» ولست منه لمخالفة أمر الله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ» يذقه بتاتا «فَإِنَّهُ مِنِّي» وأنا منه لا نقياده لأمر الله «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» فشربها منه فلا بأس عليه لأنها رخصة له فيبقي من أهل بيتي وداخلا في طاعتي وتظهر طاعته لله وإلا فقد بارزه بالمعصية، ولما دخلوا النهر المذكور وكان قد لحقهم العطش كما أخبرهم نبيهم «فَشَرِبُوا مِنْهُ» خلافا لتوصية نبيهم وأمر ملكهم «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» لم يشرب قالوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. روى البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن بضعة عشر رجلا وثلاثمائة- أخرجه البخاري-. قالوا وكان من اغترف منه بكفه كفته تلك الغرفة لنفسه ودابته وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما لأنها معجزة نبي، ومن شرب منه رأسا فعبّ عبّا غلبه العطش فلم يروه ما كرع منه واسودت شفتاه وجبن وبقي ملقى على الشاطئ، وقالوا إن الشرب بعد العطش

[سورة البقرة (2) : الآيات 251 إلى 260]

والتعب يورث الاستسقاء ولهذا منعهم نبيهم وتراهم لكثرة ما شربوا منه انتفخت بطونهم وعجزوا عن المشي والعبور مع رفاقهم، وهذا النهر بين الأردن وفلسطين «فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا» المتخلفون الذين خالفوا أمر ملكهم وتوصية نبيهم عند ما شاهدوا كثرة العدو من وراء النهر «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وذلك لما عرفوه من سطوتهم قبل وشدة بأسهم التي ذاقوها، ثم «قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» الذين عبروا النهر مع ملكهم طالوت واكتفوا بغرفة من النهر وتمسكوا بتعاليم نبيهم وقد ازداد يقينهم بالله لما نفث في روعهم من القوة والإيمان بعد أن رأوا المعجزة بغرفة الماء بلى إن لنا من شدة صبرنا وإيقاننا بتحقق وعد الله لنا بالنصر والغلبة عليهم فإنا نقابلهم ولا نبالي بكثرتهم، قال تعالى «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 249» بالنصر والمعونة والصبر ثمّ تأمروا بينهم على لقاء عدوهم وأقدموا على قتاله «وَلَمَّا بَرَزُوا» طالوت وجنوده «لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» وصار بحيث كل منهم يرى الآخر لأن الأرض التي فيها الطرفان واسعة بارزة «قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على لقاء عدونا واصرف الرعب عن قلوبنا بسبب كثرتهم وقلّتنا «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ 250» فأجاب الله دعاءهم بأن أزال الخوف عنهم وملأ قلوبهم بالإيمان وحبب إليهم الغلبة وألقى الرعب في قلوب أعدائهم ونصرهم عليهم «فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» حين التقى الجمعان وردوهم إلى الوراء فكسروهم «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ» ملك العمالقة على ما هو عليه من القوة والعظمة وما معه من العدة والعدد «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» أي النبوة والحكم بين الناس ولم يجتمعا لأحد قبله من بني إسرائيل لأن الملك كان في سبط والنبوة في سبط كما تقدم آنفا فهو أول عظيم تولى السلطتين الدينية والزمنية، راجع الآية 50 من سورة ص المارة في ج 1، «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» من صنعة الدروع وغيرها زيادة على علومه في الدين والحروب والسياسة وكان عليه السلام مع ما أوتي من الملك الكبير لا يقتات إلا من كد يده وأنزل عليه الزبور المشتمل على الأدعية والاستغاثات والحكم والأمثال

وخصّه بحسن الصوت والألحان حتى كانت الوحوش تدنو منه عند ما يتلو الزبور وتظلله الطيور حنانا لسماع صوته وتسكن الرياح وتركد المياه عند ذلك، وكان بارعا في سياسة الملك وضبط أموره بتعليم الله تعالى إياه لأنه ليس في بيت الملك ولم يتلق تعاليمه من أحد ولم يختلط مع الساسة لأنه كان راعيا حتى تولى الملك وهو ابن ميشا أصغر أخواته الثلاثة عشر ولم يظن به ما ظهر منه قالوا أوتي سلسلة متصلة بالمجرة تأتي له بالأخبار الهوائية من كل مكان وكان يحاكم بعض الناس إليها عند عدم وجود الأدلة الظاهرة وكان إذا لمسها ذو العاهة شفي ثمّ رفعت عند ما ظهر المكر والخداع بين الناس فتمسكوا بالحيل مما يغر الناس في ظاهر القول وإبطان ضده فمن ذلك أن رجلا أودع آخر جوهرة ليردها إليه عند حاجته إليها فلما استحسنها الوديع وعمد على إنكارها نقر عكازه وجعلها فيه وسده عليها ولما جاءه المودع وطلبها منه قال رددتها لك فتحا كما إلى داود ولما لم يكن بينة لديه كلف الوديع أن يمس السلسلة فقال لصاحب الجوهرة إذ كلفتني هذا فامسك عصاي هذه كي أتقدم إلى السلسلة فأمسكها وهو لا يعلم أن جوهرته فيها فتقدم إلى السلسلة وقال يا رب إن كنت تعلم أن الوديعة وصلت لصاحبها هذا فقرب مني السلسلة فتقربت ولمسها إذا وصلت حقيقة لصاحبها باعتبارها في يده ضمن العكاز ثمّ رفعت السلسلة لهذه الحيلة. ثم إن الله تعالى زاد سيدنا داود على ذلك كله بأن علمه كلام الطيور والدواب وكل شيء كما أشرنا إليه في الآية 17 من سورة النحل ج 1 والآية 10 من سورة سبأ ج 2 «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ» بدل من الناس المنصوب بالمصدر وقرىء دفاع مصدر دافع «بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» وبطلت منافعها من الحرث والنسل لأن هذه الأشياء لا تتم إلا بالأمن والأمن لا يكون إلا بالسلطان ولهذا ينصر الله الصالحين لعمارتها على المفسدين فيها وقضى يبقاء أهلها لأجل مسمى عنده. واعلم أن صدر هذه الآية يضاهي الآية 41 من سورة الحج الآتية فراجعها «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 251» بإرسال الرسل وتنصيب الملوك لإزالة الفساد ونشر الصلاح بين الناس ولو لم يكفّ بالصالحين طغيان المفسدين وبغي العابثين لأهلك القوي الضعيف ودمر الفجار الأبرار وأعدم السخفاء الشرفاء وهكذا لو لم يدفع الله تعالى بجنوده

المسلمين وأصحاب حضرة الرسول الأعظم عدوان الكفرة والمنافقين لتعطلت معالم الدين وفسد الكون بانتشار المعاصي وإعلان الملاهي والمناهي، وقد ذكر الله تعالى لنبيه هذه القصة وما قبلها تذكيرا لأصحابه وإعلاما بأنه تعالى ينصر المؤمنين ويدحض الكافرين، وإيذانا بأنهم إذا صبروا وأطاعوا تكون لهم الغلبة والعاقبة الحسنة في الدنيا كما كانت من قبلهم وهذه العاقبة تفضي إلى العاقبة الحسنى بالآخرة أيضا. هذا وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أنه لما خضع الإسرائيليون لطالوت وانتدبهم للقتال كان الوقت قيظا وسلكوا في طريقهم مفازة لحقهم على أثرها التعب والعطش، ولما طلبوا الماء من نبيهم قال لهم الماء أمامكم وان الله سيختبركم فيه على ما مر آنفا وكان من جملة الذين عبروا النهر سيدنا داود عليه السلام وكان يرمي بالقذافة (المقلاع) وكان يقول لأبيه لا أرمي شيئا إلا أصبته، فقال له قد جعل الله رزقك في قذافتك، ثم قال لأبيه يا أبت وجدت أسدا رابضا بين الجبال فأخذت بإذنه وركبته فقال هذا خير يريده الله بك، ثم قال يا أبت أرى الجبال تسبح معي إذا سبحت فقال هذا خير أعطاه الله. ثم نادى طالوت في معسكره من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فلم يجبه أحد هيبة منه فاستشار النبي شمعون فيمن يبرز له، وذلك أن جالوت قال لطالوت لا حاجة للقتال واهراق الدماء فليبرز لي واحد فإن قتلني أخذ ملكي وإن قتلته أخذت ملكه (ومن هنا قال عمرو بن العاص إلى معاوية لماذا تهريق دماء المسلمين فابرز إلى علي فإن قتلته كفيته وإن قتلك كان الملك له، فلم يفعل لعلمه أنه ليس من رجاله، ثم قال معاوية ابرز له أنت ولك ملك مصر إن قتلته فقبل وتقدم إلى البراز فخطفه علي ورض به الأرض ونزل ليقطع رأسه فكشف له عن سوءته لأنه يعرفه كرم الله وجهه لا ينظر حتى إلى سوأة نفسه فتركه، وفيه يقول أبو فراس الحمداني في معرض الذم لأمثاله: ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوما بسوءته عمرو) فأوحى الله إلى شمعون أن يأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد ثمّ يدخل الناس في التنور ويضع على رؤوسهم القرن فالذي يسيل دهنه على رأسه حتى يصير كهيئة الإكليل ويملأ التنور وجوده بحيث لا يتغلغل فيه هو الذي يقتل جالوت، فدعا

عامة بني إسرائيل فلم تظهر تلك العلامة على أحد منهم فسأل هل بقي أحد قالوا لم يبق إلا أولاد ميشا وهم ثلاثة عشر فأحضرهم واختبرهم فظهرت العلامة على داود عليه السلام، فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت؟ قال نعم، قال هل آنست من نفسك ما يدل على هذا؟ قال نعم إني أرى الغنم فيما بينها الأسد والنمر والذئب فيأخذ منها فألحقه فأفتح لحييه وأخرجها من قفاه واستخلص ما يأخذه، فقال أنت لها وكان رآه حينما سال الوادي يحمل شاتين شاتين ويخلصهما من السيل فقال الذي يرحم البهائم يكون بالناس أرحم فيجهد نفسه في تخليصهم من ضنك جالوت الغاشم، فأخذه إلى المعسكر وأمره بالبروز إلى جالوت فأخذ قذافته ووضع أحجارا في مخلاته، قالوا إنها كلمته بذلك بأن قالت له خذنا واحذف بنا جالوت فإنك تقتله ولهذا فإنه ترك السلاح الذي أعطاه له الملك طالوت قائلا إن لم ينصرني ربي لا ينصرني سلاح طالوت، فلما برز قال له جالوت أتيتني بأحجار كما يؤتى الكلب، قال نعم وأنت شر منه، فقال جالوت مهلا لأقسمنّك شطرين، وكان متأهبا بأعظم السلاح فضلا عن أنه مشهور بعظمته وجبروته وقوته وأن الملوك تخشاه وتهابه وتخاف لقاءه وتفزع منه الجيوش فلا تقابله أبطالها، فلما هجم عليه تلقاه داود بثلاثة أحجار متتابعة من قذافته أصابته كلها وخرقت دماغه وخرجت من قفاه وأصابت من وراءه فأماتته أيضا، فتقدم إليه وجره كالجيفة وألقاه بين يدي طالوت، ففرح وابتهج كل بني إسرائيل وهزم جيش جالوت واستسلم لطالوت فاستولى عليهم جميعا فقال داود لطالوت أنجز لي وعدك، قال هات الصداق، قال وما هو؟ قال لنا أعداه غلف (غير مطهرين) تقتل منهم مئتي واحد وتأتيني يقفهم، ففعل فزوجه ابنته وشاطره ملكه، فمال الناس إليه وأحبوه لما هو عليه من كريم السجايا والتقوى كيف وقد أهله الله تعالى الملك والنبوة، فلما رأى ذلك طالوت أحس بمفارقة الملك فصار يدبّر له المكائد ليمكر به فيقتله ليتخلص منه حرصا على ملكه وبقاء الرياسة في عقبه، فبلغ ذلك زوجته فقالت يا داود إنك لمقتول الليلة من قبل أبي وإني لا أقدر على ردّه، قال وما جرى؟ قالت لا علم لي إلا ميل الناس إليك، فملأ زقا من خمر ووضعه على تخته وسجاه ونام تحته، فجاء طالوت ليلا وقال لابنته

أين داود، قالت هو ذاك على التخت، فجرد سيفه وضربه تلقاء رقبته فانشق الزق وفاح ريح الخمر، فقال رحمه الله ما أكثر شربه للخمر وخرج، فلما أصبح عرف أنه لم يفعل شيئا فخاف منه أن يأخذ بثأره فأكثر حرسه وحجابه وأحكم غلق أبوابه، وتوارى داود عن الأنظار حتى سنحت له فرصة تمكن معها من الدخول على طالوت ليلا فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وخرج، فلما أفاق ورأى ما رأى هاله ذلك وعرف أنه لو أراد قتله لقتله فقال رحم الله داود هو أرحم مني ظفر بي فكف عني وظفرت به فأردت قتله فهو خير مني، ثم شدد على حجابه وحرسه وأحكم أبوابه، فدخل عليه ثانيا وأخذ كوزه الذي يشرب به وقطع شعرات من لحيته وشيئا من طرف ثوبه وتركه وخرج، فلما أفاق ورأى ذلك تحير من أمره وعرف أنه لا يقدر على الاحتراز منه فسلط العيون عليه وأمر شرطته بطلبه وصار يتعقبه بنفسه فأدركه يوما بالبرية يلحقه فدخل غارا فتبعه فلم يجده وصار هو وجنوده يتحرونه فلم يجده ورأى العنكبوت معشعشا على الغار الذي اختبأ به، وهذه معجزة له تضاهي معجزة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه أعطي معجزات الأنبياء كلهم فقالوا لو دخله لتخرق، ثم إن العلماء والعباد طعنوا على طالوت بملاحقة داود فقتل منهم خلقا كثيرا ليرتدع الباقون عن لومه فلم ينجع بهم ثمّ أتي بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها لأنها لم تعلمه به وقد تحقق أنها تعرف مكانه بسبب معرفتها الاسم الأعظم فرحمها الخباز ولم يقتلها وأمرها بالتواري عن الأنظار وقال في نفسه لعلنا نحتاج إليها، ثم. أوقع الله الندم في قلب طالوت على ما وقع منه فاختلى عن الناس وطفق يحاسب نفسه على ما فعل بداود والعلماء والعباد وصار يبكي حتى رحمه الناس من كثرة بكائه وصار يذهب إلى المقابر فيسمع منها صوتا لا تؤذينا أمواتا كما أذيتنا أحياء، فازداد همه وحزنه وبكاؤه وصار يصيح ويقول من يعلم لي توبة أتوبها فيسمح الله لي ما فعلته، فقال له خبازه إن دللتك على عالم يقبل توبتك قتلته؟ قال لا والله فدله على الامرأة فذهب إليها وكانت مرابطة على قبر أشمويل عليه السلام الذي مات بعد قتل جالوت، فقالت يا صاحب القبر قم باسم الله الأعظم وذكرته فقام من قبره ينفض عن رأسه التراب وخرج فقال ما فعلت من بعدي يا طالوت لا تقبل

مطلب التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات:

توبتك حتى تخرج من ملكك وتقاتل في سبيل الله أنت وولدك العشرة فتقتلوا جميعا ثم سقط ميتا وأعيد إلى حفرته وطم عليه التراب فقام طالوت أشد ما كان حزنا لعلمه أن أولاده لا يطاوعونه على ذلك فظل يبكي حتى سقطت أسفاره، فسأله أولاده فأخبرهم بما قال له النبي، فقالوا لا خير لنا بالحياة بعدك فتجهزوا وصاروا يقاتلون في سبيل الله حتى قتلوا عن آخرهم عليهم الرحمة والرضوان، فهذه والله أعلم حكمة قبول التوبة ظاهرا والحكمة الباطنة التي أرادها الله خلو الحكم لداود حتى لا يطالبه به أحد من أولاده بحسب الإرث الجاري عندهم بمقتضى العادة والتوارث، وكانت مدة ملكه أربعين سنة فملك بعده داود، وقد مرت قصته في الآية 82 من سورة سبأ في ج 2 فراجعها. مطلب التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات: قال تعالى «تِلْكَ» القصص العظيمة والأخبار الهامة هي «آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» الواقع الذي لا يشك به أهل الكتاب الذين في بلدك وغيرهم لثبوته في كتبهم «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 2، 2» حقا الفرد العلم الغنيّ عن التعيين وقد أمرناك بتلاوة هذه القصص والأخبار عليهم مع علمهم بأنك أمي ولم تتعلم من أحد ليعترفوا بصدقك لأن سماعها منك معجزة واضحة كافية على رسالتك «تِلْكَ» الجماعات الكرام الذين قصصنا عليك أخبارهم يا أكمل الرسل هم إخوانك «الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الرّتب والمعجزات وهذا ردّ لمن قال إنهم متساوون لأن التفاضل موجود بين عوام البشر فلأن يكون بين خواصهم من باب أولى، ثم بين الله تعالى هذا التفاضل بقوله عز قوله «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ» شفاها بلا سفير كموسى عليه السلام وقد خصّه به، لأن التكليم من أفضل معجزاته وأعظمها فلا تقاس باليد والعصا ورفع الجبل وفلق البحر وإخراج الماء من الصخر وغيرها لأنها دونها بكثير «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ» فوق بعض «دَرَجاتٍ» كثيرة وخص بعضهم بما لم يخص به الآخر وهذا ما عليه إجماع الأمة، وأو لو العزم أفضل من غيرهم ومحمد أفضل من الجميع لعموم رسالته

وشفاعته ولاحتواء كتابه على ما في كل الكتب والصحف المنزلة وعلى ما سيكون إلى يوم القيامة ولكونه خاتم الأنبياء ودوام حكمه لآخر هذا الكون ولإتيانه بمعجزات الأنبياء كافة وزاد عليهم بانشقاق القمر وحنين الجذع فضلا عن كلام الحجر والبهائم وغيرها مما لا يحصى، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 74 من سورة يونس والآية 28 من سورة سبأ في ج 2 والآية 158 من الأعراف في ج 1 وأشرنا إلى ذلك بمواضع أخرى منها ما مر وما سيمر عليك إن شاء الله فراجعها. واعلم أن الله تعالى رمز في هذه الآية له صلّى الله عليه وسلم من غير تصريح لأن في الإبهام والرمز تعظيما وتفخيما ولأن رفع الدرجات التي صارت له ليلة المعراج لم تكن لنبي قبله، راجع الآيتين 8/ 79 من سورة الإسراء في ج 1، وقد سئل الحطيئة من أشعر الناس قال زهير والنابغة. ثم قال لو شئت لذكرت الثالث يعني نفسه. وقد يقول القاضي في حكم قضى القاضي وحكم بكذا يريد نفسه. ويفعل الرجل من الجماعة الأمر ويقول فعله أحدكم وهو أبلغ من أن يقول أنا «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى علامة دالة على رسالته إليهم من قبلنا لما قضت إرادتنا بإرساله إلى بني إسرائيل ليجدد لهم العهد «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام فكان معه منذ ولد حتى رفع وهو نفسه معجزة لكونه من غير أب ولهذا خصه بالذكر، وقد أسند جل جلاله الضمير هنا لذاته الكريمة وفي صدر الآية لاسمه المبارك مع أن المقام كله فيها مقام خطاب لتربية المهابة العظمى، ولوح عن موسى بالتكليم لاختصاصه به، وصرح باسم عيسى لرد ما بين أهل الكتابين فيه من التفريط والإفراط وأشار بالرفع لمحمد الدال عليه قوله وإنك لمن المرسلين زيادة في تبجيله واحترامه «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» اجتماع أتباعهم على كلمة واحدة لفعل و «مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» وما اختلفوا فيما بينهم «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على أيدي رسلهم «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا» لأمر أراده الله تعالى تأييدا لمشيئته التي أرادها أول الخلق ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» وأوفى بعهده الذي عاهد الله عليه في عالم الذر ففاز بفضل ربه في جنته «وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» عمدا لنقض عهده بعد قيام الحجة عليه بسخط الله

فزج في جهنم «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا» ولا اختلفوا «وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ 253» بخلقه حسبما خلقهم عليه يوفق من يشاء ويخذل من يشاء ليردهم لسابق علمه فيهم، سأل رجل عليا كرم الله وجهه عن القدر قال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد عليه السؤال قال بحر عميق فلا تلجه، فأعاد عليه الثالثة، قال سر قد خفي عليك فلا تغشاه. فقد ظهر في هذه الآية أن الرسل متفاضلون واختلاف أممهم من بعدهم وتعدد أديانهم واختلافهم فيما بينهم عما أراده الله تعالى فيهم منذ خلقهم وأن اتحادهم على طريقة واحدة محال، وفيها تسلية لحضرة الرسول محمد مما يجده من الحزن والغم لعدم اهتداء قومه وقبولهم وحي الله وعدم التفاتهم إليه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ» أي لا تنفع فيه الصحبة والمودة والصداقة ولا تقبل فيه الفدية وقد سمي الفداء هنا بيعا لأنه شراء النفس من الهلاك «وَلا شَفاعَةٌ» لأحد تخلصه من عذاب الله إلا لمن ارتضى وأذن فهو عام مخصوص، راجع الآية 23 من سورة سبأ في ج 2 «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 254» لأنهم وضعوا الأشياء في غير محلها. واعلم بأن هذه الآية تشير إلى أن في الإنفاق في سبيل الله تأليف القلوب في الدنيا والنفع في الآخرة. وبعد أن ذكر جل شأنه الأحكام المتعلقة بخلقه أردفها بذكر ما تفرد به من الشؤون الجليلة الموجبة للعمل بأحكامه وتخصيصه بالعبادة بقوله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ» الدائم بعد كل حي كما هو قبل حي «الْقَيُّومُ» على كل شيء القائم بتدبير كل شيء «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» السنة الفتور الذي يتقدم النوم والوسنان الذي هو بين النائم واليقظان فيكون الوسن نوما خفيفا يسهو فيه الإنسان ويغفل، والنوم الحقيقي هو المزيل للشعور والقوة والحس، وهذا كله نقص وتغيير وآفة لأنها تفضي إلى عدم العلم بما يقع والله تعالى منزه عن النقص والآفات والتغيير، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية 43 من سورة فاطر ج 1 ومثلها الآية 66 من سورة الحج الآتية، فلو وقعت منه سنة تعالى عن ذلك لسقطت السموات على الأرض وخرب الكون لأنه قائم بقيومته. روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطيبا بخمس كلمات

مطلب عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين:

فقال إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط (الميزان) ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور- وفي رواية النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وهذا من أحاديث الصفات راجع بحثها في الآية 210 المارة «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا لا ينازعه فيهما وما فيهما أحد، وقد أجرى هنا لفظ ما تغليبا لمن لا يعقل على من يعقل لأن الغالب فيهما ما لا يعقل «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» استفهام بمعنى النفي أي لا يشفع أحد لأحد قط إلا بإذنه والاستفهام الإنكاري كهذا لا يجاب إلا بلا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» مما هو أمام خلقه في الدنيا «وَما خَلْفَهُمْ» ما وراء خلقه كافة بالآخرة «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» لا يعلم أحد البتة من هؤلاء المخلوقات كلها كنه شيء ما من معلوماته «إِلَّا بِما شاءَ» أن يحيط علمهم به بأن يعلم من شاء من خلقه الخواص الخلص كالأنبياء والعارفين بعض معلوماته مما فيه معجزة أو كرامة، قال تعالى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الآية 27 من سورة الجن في ج 1، قال الغزالي رحمه الله: إن الله عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء وليس شيء من العلى إلى الثرى إلا وقد أحاط به علمه لأن الأشياء بعلمه ظهرت وبقدرته انتشرت. مطلب عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين: قال تعالى «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» الكرسي هو ما يجلس عليه وسط العرش وهما أي الكرسي وللعرش اسمان للسرير لا يعرف كيفيتهما وعظمتهما إلا هو فكما أنه جل علاه لا مثل له فلا مثل لكرسيه وعرشه، راجع الآية 7 من سورة هود في ج 2 وما ترشدك إليه عن هذا البحث، ويدلك على عظمتهما ما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن السموات السبع والأرضين السبع لو بسطن ثمّ وصلن بعض ما كن في سعته (أي الكرسي) إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه

عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال: يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة. وفي رواية الدارقطني والخطيب عن ابن عباس قال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية قال كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره «وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» لا يثقل عليه ولا يشق ولا يجهده حفظ السموات والأرض وما فيهما وبينهما «وَهُوَ الْعَلِيُّ» الرفيع الذي لا يدانيه أحد ولا يقرب من رفعته شيء «الْعَظِيمُ» (255) الذي دل لهيبته كل عظيم وخضع لعظمته كل كبير، وقد أتت جمل هذه الآية بلا عطف لأنها على سبيل البيان كما ترى، وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ، فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن آية الكرسي. وأخرج أبو داود عن وائلة بن الأصقع أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إلخ. وذلك لجمعها بين أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيّومية والملك والقدرة والإرادة، لأن الله تعالى أعظم مذكور في القرآن فما كان ذكرا له توحيد وتمجيد كان أعظم الأذكار، فطهر لك من هذا أن هذه أعظم آيات القرآن. وأما أجمع آية فيه فهي الآية 90 من سورة النحل، وأرجى آية فيه الآية 54 من سورة الزمر في ج 2. واعلم أن هذه الآية توجب على العباد الإخلاص في العمل لله تعالى وحده وعدم الاعتماد على غيره لأن الشفاعة وإن كانت مرجوّة من الرسول ومن يؤهله الله لها فلا تكون إلا بإذنه كما علمت ولا بد أن تكون مصحوبة بالأعمال الصالحة لأن الذين يخلطون بأعمالهم الصالحة عملا سيئا يرجى لهم، راجع الآية 106 من سورة التوبة الآتية، مع لعلم بأن الله تعالى لا قيد عليه في شفاعة ولا غيرها قد يغفر لمن يشاء مع كثرة ذنوبه،

ويعذب من يشاء مع كثرة حسناته لا يسأل عما يفعل. قال تعالى «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» والحق من الباطل والهدى من الضلال والإيمان من الكفر، فيقال لمن أصاب ووفق رشد وفاز، ولمن خاب وخسر ضل وغوى، قال الشاعر: ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لم يعدم على الغي لائما تصرح هذه الآية الجليلة بأن الله تعالى لم يجر أمر الإيمان على الإجبار بل على الاختيار إذ من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الخير لنفسه بلا تردد أو تلعثم، قال تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية 30 من سورة الكهف في ج 2، إذ ترك فيها الخيار لخلقه بعد أن دلهم على الأحسن وأرسل إليهم من يرشدهم للأصلح، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الآية 100 من سورة يونس ج 2، فقد أشار في هذه الآية إلى رسله أن لا يقسروا أممهم على الإيمان وإنما عليهم أن يبينوا لهم طريقه ومنافعه في الدنيا والآخرة ويتركوهم وشأنهم إذ ليس عليهم إلا الإنذار كما نص عليه فى آيات كثيرة من القرآن العظيم، وهذه الآية نزلت في المجوس وأهل الكتاب إذ تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الإسلام بخلاف مشركي العرب إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) الآية 17 من سورة الفتح الآتية، وأو فيها بمعنى إلا، كما سيأتي في تفسيرها لأن المشركين لا دين لهم ولا يجوز أن يتركوا همجا هملا وهم من البشر وقد أعطاهم الله تعالى العقل ومن حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل هو نفسه بمقتضى عقله يختار الدين الحق لوضوح الحجة فيه، وبما أن أهل الكتاب يزعمون أن دينهم الحق ولم يوصلهم عقلهم إلى غيره فيتركون وشأنهم، قال تعالى (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) الآية 39 من سورة فاطر في ج 1، وهذه الآية محكمة غير منسوخة لأنها جارية مجرى الأخبار وهي لا يدخلها النسخ. قال ابن عباس: كانت الجاهلية إذا كانت امرأتهم لا يعيش لها ولد تنذر إذا عاش لتهودنه أو تنصرنه وجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء فلما جلت بنو النضير أرادت الأنصار استرداد أبنائهم الذين من هذا القبيل فأبوا،

قال لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم خيّروهم فإن اختاروكم فهم لكم وإلا فاجلوهم معهم، وقال ابن عباس إن هذه الآية نزلت في هؤلاء فعلى فرض صحة قوله هذا فلا تكون أيضا منسوخة. على أن الواقع ينفي صحة نزولها فيهم لأن حادثة بني النضير كانت بعد نزول هذه الآية بكثير لكونها في السنة الرابعة من الهجرة، وما قيل إنها نزلت في ولدي الحصين المتنصرين قبل بعثة الرسول حينما كلفهما أبوهما بالإسلام، وقال يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر، على فرض صحته أيضا لا تكون منسوخة لأن هؤلاء كلهم يعدون أهل الكتاب، فلا وجه لقول من قال بالنسخ البتة. قال زيد بن أسلم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا على الدين، وكذلك في المدينة لم يكره أحدا من أهل الكتابين على الإسلام وإنما أكره عليه مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا السيف أو الإيمان «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ» مبالغة الطغيان وهو كل ما يطغي الإنسان من شيطان وإنسان كالسحرة والكهنة وغيرهم وكل ما عبد من دون الله «وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» تأنيث الأوثق أي السبب الموصل إلى دين الإسلام المفضي إلى جنة الله فمن كان متمسكا بها فقد صح إيمانه واعتصم به وأوفى بالعهد الذي أخذه عليه في عالم الذر «لَا انْفِصامَ لَها» ولا انقطاع لأنه عقد نفسه مع ربه عقدا وثيقا لا تحله الشبهة، وهذا تمثيل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لإيمان المؤمن وكفر الكافر «عَلِيمٌ» (256) بنيتهما فيعلم الإيمان عن رغبة أو إكراه، ومن هو منافق في إيمانه أو مخلص فيه، كما يعلم المكره على الكفر من الراغب فيه. وهذه الآية ترشد إلى أن الإيمان لا يقبل إلا عن رغبة فيه وقناعة في صحته وأخيريته، لأن المكره على الإيمان لا يعمل بما يقتضيه له من الأعمال. والحكم الشرعي هو هذا. وما روي عن ابن مسعود أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) الآية 75 من سورة التوبة والآية 10 من سورة التحريم الآتيتين لا محل له لأن الدين عقيدة ذاتية عريقة في نفس الإنسان لا سلطان لأحد عليهما غير الله تعالى القائل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ولأن من آمن بلسانه قبل منه وعومل معاملة المسلمين ودفن في مقابرهم

مطلب محاججة النمروذ مع إبراهيم عليه السلام وقصة عزير عليه السلام وسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى وجوابه عليها:

وقد كف الشرع عما في القلب لعدم الاطلاع عليه إلا من قبل الله. قال تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» يتولى أمورهم ولا يكلهم إلى غيره ومن عنايته بهم أنه «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» أفرد لفظ النور لوحدة الحق وجمع الظلمات لتنوع فنون الباطل. وأعلم أن كل ما في القرآن من لفظ الظلمات من هذا القبيل يراد به الكفر ومن لفظ النور يراد به الإيمان، إلا في سورة الأنعام فإن المراد بهما اللّيل والنّهار كما بيناه أولها في ج 2، وسمي الكفر ظلمة لأنه يحجب القلب عن إدراك الحقيقة والإيمان نورا لوضوح طريقه وبيان أدلته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» إذ فوضوا أمورهم إليها واتكلوا عليها وتمادوا في طاعة أوثانهم ورؤسائهم الذين يميلون بهم إلى البغي والطغيان، وكل ما يؤدي إلى الشقاء الأخروي يسمى طاغوت وهؤلاء الأولياء «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ» الإيمان المؤدي إلى الجنة في الآخرة ويردونهم «إِلَى الظُّلُماتِ» الكفر الموصل إلى النار بسبب ما يسولونه لهم من طرق الإغواء والإغراء والصد عن طريق الهدى والرشد «أُولئِكَ» الكافرون وأولياؤهم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (257) إلى ما لا نهاية عقوبة لهم على كفرهم. مطلب محاججة النمروذ مع إبراهيم عليه السلام وقصة عزير عليه السلام وسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى وجوابه عليها: قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ» وهو النمروذ إذ جادل خليله إبراهيم بما يزعمه من القوة من «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» بأن جعله ملكا على طائفة من خلقه وانه بدل أن يشكر نعمته طغى وتجبر وبغى وتكبر حتى ادعى الربوبية، وهو أول من ادعاها ثمّ تبعه من بعده أخوه فرعون، وقيل أول من ادعى هذه الدعوى شداد بن عاد كما تقدم في الآية 70 من سورة الأنبياء ج 2 تطفلا عليه لعنه الله ومن اتبعه في كفره، وهو أول من لبس التاج أيضا، وهذه المحاججة بعد أن كسر الأصنام وقبل أن يلقى في النار إذ كان النمروذ أخرجه من السجن وقال له من هو ربك الذي تدعونا إليه؟ فأجابه بما ألهمه الله بقوله «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» وإذ هنا منصوبة بفعل مقدر أي أذكر يا محمد لقومك ما قاله الخليل

إلى النمروذ حينما سأله عن ربه فقال «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» أي ينشىء الحياة والموت، فلم ينتبه الطاغي إلى المعنى المراد من السيد إبراهيم عليه السلام بل انتبه وانتقل لمعنى آخر ليبرر حجته أمام قومه «قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» فقال إبراهيم هيا افعل، فأخرج رجلين من السجن حكم عليهما بالموت فقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فزعم ذلك الضال على قصر عقله وقلة فهمه أن الإحياء والإماتة هما ما فعله لأنه وأمثاله ينظرون إلى الظاهر أو أنه فعل ذلك تجاهلا كما مر، وكان على السيد إبراهيم أن يقول له أمام قومه أحي من قتلت ليعلموا أن المراد من قوله هذا لا ما فعله ولكنه عليه السلام لم يلتفت إلى حمقه فضرب صفحا عن مجادلته بالحقائق لأنه ليس من أهلها وانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى بالنسبة لنمروذ لا تقبل الالتواء وهي ما ألهمه الله أيضا «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ» وهو ربي «فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» إن كنت ربا لقومك كما تزعم، فدهش الخبيث من هذا وانقطعت حجته كما أشار بهذا قوله تعالى «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» إذ لم يقدر على ما يجاوب به لتمحضه بالكفر «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (258) إلى الصواب ويعميهم عما يدحضون به خصمهم إذ لو كان موفقا لقال له سل ربك يفعل ذلك أولا لأفعل ذلك بعده، ولكن الكافر ضعيف الرأي قد حجبت ظلمة كفره نور بصيرته وغشت أصداء الجهل رؤية بصره لذلك لا يهتدي إلى الرشد على أنه لو قال لفعل الله ذلك لإبراهيم خليله كما فعل لأنبيائه وأحبابه ما هو أكبر من هذا ولما لم يجد بدا وقد حنقه الغضب فأمر بزجه في النار فزج فيها ونجاه الله كما مر في الآية 71 من سورة الأنبياء في ج 2، وقد استشهد الخليل عليه السلام في هذه الآية على ولاية الله للمؤمنين وأن الكافرين أولياؤهم الشياطين على طريقة ذكر القصتين المارقين في الآيتين 241/ 246 وأشار في هذه أن الله تعالى إذا تولى عبدا ألهمه الصواب والرشد ودله على الفلاح والفوز في أقواله وأعماله وأن من يعدل عن معونة ربه يمنى بالإخفاق والخسار فى الدنيا ويكون مصيره الدمار في الآخرة، وترمي هذه الآية إلى جواز المحاججة في الدين لإظهار كلمة الله واستعمال الحجج العقلية والدلائل الكونية على

إثبات دعواه. وقد استشهد جل شأنه على ولايته للمؤمنين خاصة بقوله «أَوْ» هل رأيت يا سيد الرسل أحدا «كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» هي بيت المقدس بعد أن خرّبها بختنصر، راجع قصته في الآية 6 من الإسراء في ج 1 «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» في هذه الجملة حذفان أي خالية من السكان وساقطة حيطانها على سقوفها بأن تهدمت جدرانها بعد خرور سقوفها فصارت الجدران فوقها «قالَ» ذلك المار وهو عزير عليه السلام «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها» أي كيف يكون ذلك ومتى يكون على طريق الاستبعاد لا الإنكار بل لما كان فيها من البناء الرفيع المحكم استبعد إعادتها على ما كانت عليه «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» أحياه بعدها و «قالَ له كَمْ لَبِثْتَ» ميتا وكانت إماتته وقت الضحى «قالَ لَبِثْتُ يَوْماً» ثم لما رأى بقية من الشمس وكان إحياؤه آخر النهار قال «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» ظانا أنه أميت الضحى وأحيي العصر قبل المغرب «قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» ميتا وإذا أردت يا عبدي تحقيق ذلك لتقنع بحسب الظاهر «فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ» قالوا كان تينا «وَشَرابِكَ قالوا كان عصيرا تزود بهما وكان كل منهما «لَمْ يَتَسَنَّهْ» لم يتغير ولم ينتن مع أنه مما يتغير سريعا وليس من الأطعمة والأشربة التي تدخر فلا تتغير سريعا كمعمولان الحلويات في دمشق وحلب والأشربة الأوربية فإنها قد تبقى أشهرا إلا أنها مهما كانت ومهما وضع فيها من الأجزاء فلا تبقى معشار هذه المدة على حالها، وقد رآها عليه السلام كما تركها حين أميت لم يطرأ عليها شيء وقد مر عليها تلك المدة وهذه معجزة له عليه السلام على القول بنبوته وكرامة على القول بولايته «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ» إذ رآه عظاما بالية مفككة بعضها عن بعض وهذا الدليل الظاهري على قدم لبثه ميتا المدة التي ذكرها الله «وَلِنَجْعَلَكَ» أيها الإنسان الكامل ببقائك حيا «آيَةً لِلنَّاسِ» يستدلون بها على البعث بعد الموت لأن من يحي الميت في الدنيا بعد هذه المدة لا غرو يحييه في الآخرة «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ» من حمارك «كَيْفَ نُنْشِزُها» ترفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركبها بعضها مع بعض كما كانت «ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» كحالتها الأولى «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ» ذلك «قالَ

أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ» الذي أحياني وأحيا حماري على الصورة المارة وأبقى زادي وشرابي على حاله طيلة تلك المدة ليحيي بيت المقدس ويعيد بناءه كما كان وأحسن ويحيي الموتى في الآخرة ويجمع أجزاءهم المتفرقة ورفاتهم المبددة والمنمحقة ويعيدهم على ما كانوا عليه في الدنيا وهو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (259) مما يتصوره البشر وما لا يسعه عقله ولا يخطر على باله، ويعلم من هذا أنه تعالى لا يتقيد في الخلق والتكوين والحياة والموت بالأسباب الظاهرة والعادات المتعارفة والسنن المعقولة والتجارب المعمولة وأن كل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، وهذه قصة أخرى قصها الله تعالى على رسوله من عجائب قدرته. وما قيل إن المار ارميا بن حلفيا من سبط هرون ويعنون به الخضر عليه السلام، لا يصح لأن الخضر اسمه بليا ابن ملكان على أصح ما قيل فيه، وكذلك ما قيل إن القرية (دير سابرآباد) بفارس ليس بشيء، وأضعف من هذين القيل بأن المار رجل كافر شاك بالبعث لأن الله أجلّ من أن يخاطب كافرا مهانا كما لا يليق أن يجعل الله الكافر آية ليعتبر بها الناس لذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأليق والأصوب والأصح، وهذا الخلاف كالخلاف في ذي القرنين الذي نوهنا به في الآية 99 من سورة الكهف ج 2، فراجعه ففيه ما لا تجده في غيره. وليعلم أن ليس القصد معرفة المار أو معرفة القرية بل القصد تعريف منكري البعث قدرة الله تعالى، وفي هذه القصة دلالة على قول من قال بنبوته حيث أخبر اليهود بما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم من أحد، ومن هنا ادعت اليهود بأنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك وقاتلهم على بهتهم، وذلك لأن الله أحياه بعد موته ولأنه أملى عليهم التوراة عن صدر غيب بعد أن أحرقها بختنصر على مرأى منهم، فقالوا لو لم يكن ابن الله لما جعلها في قلبه وهو لم يعرفها، ولم يحيه بعد ما أماته ويحيي حماره كرامة له، ولم يجزم جمهور العلماء بنبوته كلقمان وذي القرنين والكل متفقون على ولايتهم. قالوا وبعد موت عزير بسبعين سنة أرسل الله ملكا إلى بوشك ملك الفرس وأمره أن يعمر بيت المقدس وايليا ويعيد هما كما كانا فانتدب الملك الف قهرمان مع كل واحد الف عامل فعمرو هما على ما كانا عليه وعادت بنو إسرائيل مع عزير إليهما كما هو مفصل بالقصة

المشار إليها في سورة الإسراء آنفا. قال تعالى «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك قصة أخرى «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ» تعالى «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» بذلك يا خليلي، وقد رأيت ما رأيت من عظمتي وكبريائي وبطشي وإنقاذي لك وأفعالي وصنايعي مع غيرك وآثار أعمالي في ملكوتي «قالَ بَلى» يا رب رأيت وصدقت وآمنت وعرفت كيف أهلكت أعداءك وأنجيت أولياءك وخاصّك «وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» بالمعاينة كي يصير عندي علم اليقين عين اليقين، راجع الفرق ما بينهما في الآية 95 من الواقعة في ج 1، وهذا الاستفهام للتقرير ولذلك أجابه ببلى قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى للعالمين بطون راح أي ألستم كذلك وتسمى هذه الهمزة همزة إثبات وإيجاب. وخلاصة هذه القصة أنه عليه السلام رأى رجلا ميتا بساحل طبريا (بحيرة ما بين فلسطين والأردن وسورية ينصب عليها نهرا الليطاني وبانياس إذ يجتمعان ببحيرة الحولة وينسابان إليها، عرضها عشرة أميال وطولها عشرون ميلا تقريبا بيضوية الشكل ويخرج منها نهر يلتقي مع نهر الأردن ونهر الشريعة الجاري بواد اليرموك ويختلطان معه فتمر هذه الأنهار تحت جسر يسمى جسر المجامع لذلك المعنى وينساب إلى بحيرة لوط المسماة بالبحر الميت حيث لا يعيش به حيوان) قد توزع لحمه ذئاب البر والبحر فإن مد البحر انتابه حيتانه، وان جزر نهشته السباع فإذا ذهبت عنه تناولته الطيور، فقال يا رب قد علمت أنك تجمعها، أي لحرم الأموات من بطون السباع وأجواف الحيتان وحواصل الطير فأرني كيف تحييها فأزداد يقينا، فعاتبه الله على ذلك، فقال يا رب ليس الخبر كالمعاينة، وهو عليه السلام لم يكن شاكا وحاشاه ولكنه أحب ذلك كحب المؤمنين رؤية ربهم في الآخرة، ونبيهم في الدنيا والآخرة، ويسألونها بدعائهم فكان عليه السلام طامعا بإجابة دعائه فسأله ذلك لأنه خليله، وقد وعده بإجابة دعائه وقيل في المعنى: ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المشاهدة الخليل ولما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك محمد صلّى الله عليهما وسلم

فقال نحن أحق بالشك من إبراهيم، أي أن الشك مستحيل في حق إبراهيم لأن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أحق به، وكيف يتصور الشك له وقد وقع لعيسى بن مريم وله ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، ومن المعلوم أنه لم يشك البتة ففيه أي في هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم نفي الشك عنهما، وقوله صلّى الله عليه وسلم (أنا أحق بالشك) إلخ على سبيل التواضع وهضم النفس، وكذلك ما وقع لسائر الأنبياء فليس بالشك الذي نعرفه نحن، وفي شرح هذا الحديث (بقية) ولفظه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) إلخ. ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي «قالَ» تعالى مجيبا طلب خليله بعد أن قال له من أي نوع تريد الإحياء وقال من نوع الطير، قال جل قوله «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ» أي أملهن واضممهن وقربهن «إِلَيْكَ» ثم قطعهن وفرقهن ومزقهن واخلطهن «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ» من هذه الجبال البعيدة بعضها عن بعض «مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ» إليك بعد ذلك فإنهن «يَأْتِينَكَ سَعْياً» مسرعات عائشات كما كانت، ولم يقل طيرانا لأنه أبلغ حكمة وأبعد للشبهة إذ لو جاءت طائرة لتوهم أنها غيرها أو أن أرجلها غير سليمة «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» منيع لا ينال ولا يغلب ولا يرضى لمناصريه الخذلان لأنه يؤيدهم بمختلف الوسائل ويلهمهم فصل الخطاب من حيث لا يشعرون من أين يأتهم النصر «حَكِيمٌ» (260) لم يجعل لغيره تأثيرا في الإحياء والإماتة بالغ الحكمة في جميع أموره متناء في مراميها غير متناهية مراميه فأخذ عليه السلام طاوسا إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه، ونسرا إعلاما بشدة شغفه في الأكل، وديكا إيذانا بكثرة ولعه بالنكاح، وغرابا تنبيها إلى تمكن حرصه في الدنيا، وإنما اختص الطيور من الحيوانات لأن همته عليه السلام في العلو إلى الملكوت والوصول إلى عالم الجبروت، لأنه عليه السلام سبّاح في مجال اللاهوتية سوّاح في ميدان الناسوتية فشاكلت معجزته همته وفي انتقاء هذه الأصناف من الطيور مشابهة إلى ما في الإنسان من أوصافها، وفيها إشارة إلى أن

مطلب في الصدقة الخالصة والتوبة وما يتعلق بهما وبيان أجرها وعكسه:

الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق بالعالم العلوي وارتقى أعلى الدرجات بنيل السعادة ومال إلى ما أمره به ربه وجانب ما نهاه عنه. قالوا ثم ذبحها عليه السلام وقسم كل طائر أربعة أجزاء ووضع كل جزء من الأربعة على جبل، قالوا وضع الأجزاء بعد أن خلطها بعضها ببعض، والجبال واحد بجهة الشرق، والآخر بالغرب، والثالث بالقبلة، والرابع بالشمال، بالنسبة للمكان الذي هو فيه، وتباعد عنها وأمسك رءوسها بيده ثم قال لها تعالين بإذن الله تعالى فصارت كل قطرة من دم وجزء من لحم وقطعة من عظم وملزم ريشة ومشعر أسر تنطاير إلى أصل طيرها وتلتصق به، وهو عليه السلام ينظر حتى إذا لقيت كل جثه بعضها وتكاملت أجزاؤها قامت وطارت في السماء بغير رأس، وهو جالس في مكانه ينظر عظمة فعل ربه وكبير قدرته وجليل عمله ونزلت إلى الأرض من قمم الجبال وأقبلت تمشي إليه متجهة نحو رءوسها حتى وصلت إليه فلاقت كل جثة رأسها الذي بيده واتصلت به فكان كل منها كما كان قبل الذبح، وطارت في السماء، فوقع ساجدا على الأرض إجلالا وتقديسا لربه جل وعلا، سبحان من حير في صنعه العقول، سبحان من أعجز بقدرته الفحول ومن هنا يعلم أنّ الله تعالى إذا تولى عبده بذاته وكان ذلك العبد قد فوض أمره إليه، فإنه لا يرد طلبه ويمنحه سلطة وإرادة تنقاد إليه بسببها العظماء بما يظهره على أيديهم من المعجزات التي يعجز عن مثلها البشر. وتؤذن هذه الآية أن سر الحياة وطريقة الإحياء والإماتة منحصرة به تعالى لا تكون أبدا إلا بإرادته وتومىء إلى أن قوة الإيمان بالله تعالى قد ينشأ منها العجائب، وانظر قوله صلّى الله عليه وسلم: رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره. مطلب في الصدقة الخالصة والتوبة وما يتعلق بهما وبيان أجرها وعكسه: وبعد أن ذكر الله تعالى لحبيبه أوائل هذه السورة وأواخرها من القصص الغريبة ليقصها على قومه وعلى أهل الكتابين ليعلموا أن ذلك كله بتعليم الله تعالى إياه، ولعلهم أن يؤمنوا به ويصدقوه شرع يحث على التصدق في سبيله على عياله والمجاهدين لإعلاء كلمة الله، فقال جل قوله «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ

فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ» قد لا توجد سنبلة فيها مائة حبة ولا حبة تنبت سبع سنابل غالبا وقد يكون ذلك نادرا لعدم الاستحالة ولذلك جاز ضرب المثل فيه على الدخن والذرة والسمسم وشبهها فقد تنبت الحبة أكثر من ذلك إذا حلت بركة الله «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» زيادة على هذا لأن رزقه بغير حساب وخزانته لا تنفد وهذا كله ترغيب للمتصدقين وعبرة للمقتصدين وتعليم للعالمين، فكما أن التاجر إذا علم أنه يربح بالحية إذا اشتراها أو زرعها ذلك الربح يقدم للشراء والزرع عن رغبة، فكذلك من يطلب الأجر عند الله تعالى في الدار الدائمة إذا علم تضاعف الواحد إلى عشرة أو إلى سبعمئة وإلى أن يشاء الله يسارع إلى النفقة بطيب نفس وانشراح صدر طلبا لنيل ثواب ربه المضاعف الموصل إلى الجنة الدائمة ذات النعيم الأبدي الذي هو أوثق من ما يتوخى التاجر لأن ثواب الله مكفول بوعده الصادق الذي لا شك فيه، بخلاف التاجر فإنه مظنون، وقد يعتريه آفات تحول دون ربحه وقد يضيع رأس ماله «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «وَاللَّهُ واسِعٌ» في قدرته على مجازاة عباده بأكثر مما يرجونه، كثير الفضل عليهم عظيم الجود «عَلِيمٌ (261) » بالقدر الذي يضاعفه لعباده يعلم من منهم من يتفق عن رغبة وطيب قلب ممن ينفق سمعة ورياء، فالصدقة إذا كانت عن رغبة فيما عند الله من مال حلال، كانت عند الله بمكان عظيم، يربيها له كما يربي أحدكم فلوه، وإذا كانت عن سمعة ورياء أو من مال حرام أو مما يكره أو من فيها أو عنف آخذها فقد يستوفي ثوابه عنها في الدنيا من مدح أو ذم وماله في الآخرة من نصيب كما ستعلم مما يأتي. واعلم أن هذه الآية ولآيات الثلاث عشرة الآتية نزلت كلها في الصدقة والمتصدقين ولم تجمع هكذا آيات إلا في هذه السورة المباركة وأن الأولى منها ترمي إلى ترغيب وتشويق الناس إلى الإقدام على الصدقات والخمس التي تليها فيمن يتصدق مخلصا بصدقته لوجه الله تعالى والتي بعدها في بيان المخلص في صدقته من غيره، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً» بأن تقول لمن تعطيه أعطيتك كذا أو تعيّره بحاجته وفقره وأخذه للصدقة

أو يجاهر بها أمامه على ملأ من الناس، والمنّ في اللغة الإنعام قال الأنباري: فمنّى علينا بالسلام فإنما ... كلامك يا قوت ودرّ منظم قال صلّى الله عليه وسلم: ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة. والمنة النعمة، ومن صفاته تعالى المنّان بمعنى المتفضل على عباده المحسن إليهم، وهو هنا بمعنى النقص والعيب وفيه قال بعضهم: طعم الآلاء أحلى من المنّ ... وهو أمر من الآلاء مع المن وقال بعضهم: صنوان من المن من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضن. وقيل في هذا المعنى: وإن امرأ أسدى إلي صنيعة ... وذكّرنيها مرة للئيم والمقصودون في هذه الآية «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) » قالوا إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه جهز غزاة المسلمين إلى تبوك الذي أطلق عليهم جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وجاء أيضا بألف دينار عداها فصبّها في حجر النبي صلّى الله عليه وسلم، قال عبد الرحمن بن سمرة: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم. وقال بعض المفسرين نزلت في عبد الرحمن بن عوف إذ أتى حضرة الرسول بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول الله عندي ثمانية أمسكت أربعة لنفسي وعيالي وهذه أربعة لربي، فقال له بارك الله لك فيما أمست وفيما أنفقت. وإن السيدين عثمان وعبد الرحمن لهما مآثر في النفقة والصدقة كثيرة لا ينكرها إلا معاند، كيف وهما من العشرة المبشرين في الجنة ولعثمان خاصة اليد البيضاء في شراء بئر رومة ووقفها على المسلمين ومساعدة المسلمين بماله ونفسه بمواقف جمة، والآية لا شك عامة يدخل فيها كل متصدق مخلص، وإن من يحمل على سيدنا عثمان على ما وقع منه إبان خلافته لا حق له بذلك لأنه مجرد اجتهاد وهو صاحب الأمر إذ ذاك فليس لأحد الخوض بما عزي إليه والأعمال بالنيات ولا عبرة بما يقوله الغلاة الذين يهرفون بما لا يعرفون ويتقولون بما يظنون. أخرج ابن ماجه وغيره عن علي كرم الله وجهه وأبي الدرداء وغيرهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من أرسل بنفقته في سبيل

الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمئة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية. أي أن له من الأجر بقدر ذلك. وعن معاذ بن جبل: أن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد. واعلم أن هذه الآيات تشير إلى إنفاق المال في وجوه البر ومصالح المسلمين تزيد في ثروة المنفق وسعة رزقه في الدنيا ويضاعف له الأجر في الآخرة إذا خلا من أمرين المنّ على المتصدق عليه وإلحاقه ما يؤذيه قولا أو فعلا، وتؤذن بتحريم المن على المنفق عليه والتشهير به، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. وبعد أن بين الله تعالى ثمرة الصدقة المخلصة من الشوائب حذّر تعالى مما يوجب الشحناء مع المتسئلين إذا لم يرد أن يعطيهم أو لم يكن لديه ما يعطيهم أن يعتذر لهم بما ذكره وهو «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ» للفقير ورد جميل وحسن اعتذار له «وَمَغْفِرَةٌ» بأن تستر عليه سؤاله ولا تفضح حاله والصفح عما يقابلك به والتغاضي عما يصدر منه إذا تأثر من خيبة طلبه «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» وكل كلام ثقيل على النفس أو ينكمش منه الوجه فهو أذى، ففظاظة الكلام والتعنيف من الأذى أيضا فليجتنبه المتصدق جهد استطاعته «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن عباده كلهم وقادر على رزق الفقراء ومن دونهم ولكنه يريد إثابة عباده بما أنعم عليهم وتحليتهم بالتصدق منه ولا سيما إذا كانت على المجاهدين فإنها أعظم أجرا وأدوم ذكرا «حَلِيمٌ (263) » لا يعجل عقوبة البخيل والمانّ بالصدقة والمؤذي المتصدّق عليه بكلامه واكفهرار وجهه بل يمهلهم ليتوبوا ويرجعوا ويقول لهم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى» وذلك لأن النفوس طبعت على حب الثناء وكثيرا ما ينكر الخلق الجميل فيما بينهم ويجحدون الإحسان عليهم وهذا مما يوغر بعض الصدور الضيقة فتنفجر بالمن والأذى على منكري المعروف، لهذا حذرهم الله تعالى من أن يقولوا ما يبطل أجر صدقاتهم وإنما رغبهم بالتجمل لهؤلاء الثقلاء كي لا يكونوا «كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ» فيبطل أجر نفقته بسبب حب السمعة والصيت فيها «وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الذي يثاب فيه المخلص ويعاقب المرائي، لأن هذه الآية تومىء

بأن التصدق رياء من سمات المنافقين لا المؤمنين ولهذا وصمهم بعدم الإيمان ثم وصفهم بقوله «فَمَثَلُهُ» أي المنفق المرائي «كَمَثَلِ صَفْوانٍ» حجر أملس «عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ» مطر شديد «فَتَرَكَهُ صَلْداً» لا تراب عليه ولا غبار وهؤلاء «لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ» من ثواب نفقاتهم «مِمَّا كَسَبُوا» في الدنيا لأنهم كفروا نعمة الله «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) » إلى سبيل الخير، وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المرائي المانّ بصدقته أو المقطب وجهه عند السؤال فالنفقة هي التراب والمن والأذى هو المطر إذ يذهب به ولا يبقى له أجرا فكذلك هؤلاء يعدمون ثواب صدقاتهم يوم القيامة ويعاقبون على فضول أموالهم وعدم إحسانهم على عيال الله والمجاهدين في سبيله فيندمون على ما كان منهم ولات حين مندم. قال تعالى «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ» على الإنفاق في طاعته تصديقا لثوابه ورغبة بوعده «كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ» مكان مرتفع عن الأرض إذ يكون ثمرها أزكى وزرعها أزهى من غيره قال الأبوصيري: كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى ... من شدة الجزم لا من شدة الحزم وهذه الربوة «أَصابَها وابِلٌ» غيث غزير نافع «فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ» مثلين عن غيرها «فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ» مطر خفيف أو ندى فإنه يكفيها ولا ينقص ثمرها ولا يخل بزهرتها «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) » لا يخفى عليه شيء من نفقاتكم ونياتكم، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفقة المخلص فكما أن هذه الجنة تزكوا في كل حال ولا تختلف قل مطرها أو كثر فكذلك نفقة المؤمن الخالصة ينميها الله تعالى له قلت أو كثرت، وقد جاء عنه صلّى الله عليه وسلم: إن الله ليربي صدقة أحدكم كما يربي أحدكم فلوه. وإنما قال فلوه ولم يقل ولده لأن من له ولع بتربية الخيل يصرف جهده على نسلها ويتعاهده بنفسه أكثر مما يتعاهد ولده وهو واقع مشاهد لا ينكره أحد. هذا وما نقلناه من سبب نزول الآية 262 المارة بما قام به عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما من تقديم المال في غزوة تبوك لا يوثق به لأن غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد نزول هذه الآية بسبع سنين تقريبا لأنها نزلت في السنة الثانية تقدمة لآية فرض

الزكاة التي تتعقبها، وما قيل إن الزكاة فرضت بآية براءة 103 فبعيد عن الصواب كما سنذكره في تفسير هذه الآية إن شاء الله، لذلك فإن ما ذكرناه من أن الآية 262 عامة في المومى إليهما وغيرهما أولى لأن سياقها ينافي ما ذكروه من الأسباب والله أعلم. واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن خير البر ما كان قصد به وجه الله طلبا لمرضاته وأن الخير الذي يرجى ثوابه في الآخرة، ما كان منبعثا عن طيب النفس وخلوص النية للذين هما ملاك سعادة الإنسان لأن الإخلاص لله تعالى في كل شيء واجب، وليتحقق هذا المخلص أنّ الله تعالى سيخلفه عليه وأن الإحسان للناس مطلوب، قال أحمد بن المتيم النحوي: إذا ما نلت في دنياك حظا ... فأحسن للغني وللفقير ولا تمسك يديك عن قليل ... فإن الله يأتي بالكثير قال تعالى «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» أي صاحب هذه الجنة وهو معطوف بالمعنى على أيود كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة «وَأَصابَهُ الْكِبَرُ» ولم يكن له غيرها ولا قدرة له على الكسب مع غاية احتياجه إليها «وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ» صغار عاجزون عن الكسب أيضا «فَأَصابَها إِعْصارٌ» ريح مستديرة مرتفعة إلى السماء كالعمود «فِيهِ نارٌ» عظيمة بدليل التنكير الدال على التهويل والتكبير «فَاحْتَرَقَتْ» تلك الجنة بسببها «كَذلِكَ» مثل البيان الواضح «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» على النفقة المقبولة وغير المقبولة «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) » فيهما فتعملون ما لا تندمون عليه يوم القيامة يوم لا ينفع الندم، وهذا مثل ثالث ضربه الله تعالى لعمل المنافق المرائي الذي يعدم ثواب نفقته في الآخرة، فالعمل في حسنة كالجنة المنتفع بها، واحتياجه لها في الدنيا كاحتياج الرجل يوم القيامة للثواب، وإحراقها وقت عجزه وهو بحالة يكون أحوج إليها من غيرها، كإبطال الثواب عند ما يكون أشد حاجة له يوم القيامة، فيلحقه من الغم والخسرة أكثر مما يلحق صاحب الجنة المحترقة لأنه قد يأمل إخلاصها بعد وفي الآخرة تنقطع الآمال. قال الحسن هذا مثل قلّ والله

مطلب أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر:

من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر عياله أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا، قال ابن عباس نزلت هذه الآية مثلا لرجل غني يعمل الحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. وترمي هذه الآية إلى أن الفرق بين المرائي والمنّان في النفقة من حيث وقع المصيبة وتأثيرها في النفس لأن المرائي لم يبرح ثوابا على نفقته فلا يحزن لحرمانه من ثوابها لأن قصده إظهارها للناس وحمده عليها وقد حصل على ذلك في الدنيا، والمنّان كان يرجو ثواب صدقته فحرمه الله بسبب منّه وأذاه. وتشير إلى أن كل ما يغضب الله تعالى بسبب زوال النعم وإلى عدم الاغترار بنعم الله لأنه يؤدي إلى سلبها وأن عدم وجود النعمة مبدئيا خير من وجودها وسلبها، فعلى العاقل أن يحذر من نقم الله أكثر مما يتطلب من نعمه وأن يتلبس بالطاعة كلما زاده الله خيرا لأن المعصية تسبب الزوال. مطلب أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر: هذا وبعد أن حذر الله جل شأنه المنفقين مما لا ينبغي فعله ليتنزهوا عنه بين ما ينبغي مراعاته في المنفق ليكون الإحسان متناسبا مع شرف الغاية التي أنفق المال من أجلها فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» من تجارة وصناعة أو جرايه وزراعة أي أنفقوا من أطيب ما تحرزون من ذلك وأحسنه وأكمله «وَ» أنفقوا أيضا «مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» من أنواع الحبوب والثمار والفواكه والخضار التي تدخر «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ» تقصدون الرديء «مِنْهُ تُنْفِقُونَ» على الفقراء وغيرهم «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ» أي ذلك الخبيث لو فرض إعطاؤه لكم من قبل الغير «إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» بأن تتسامحوا بأخذه وقت الحاجة فأولى لكم أن لا تأخذوه بغيرها لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يراه فيأخذه حياء أو غصبا أو عند اليأس من أخذ غيره إذا تركه فيأخذه مكرها عن غير رضا وطيب قلب «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ» عن صدقاتكم وقادر على رزق الفقراء من فضله دونكم بل واغنائهم عنكم ولكن إظهار فضلكم على الغير وتفاضلكم بينكم وبيان أثر نعمه عليكم

«حَمِيدٌ (267) » لما تتصدقون به وأنه يظهر حمدكم على لسان عباده فيثنون عليكم، ثم حذرهم خوف فقدان ذات اليد بسبب التصدق، فقال عز قوله «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ» يخوفكم به كي لا تتصدقوا ليحول دون ما أعده الله لكم من الثواب حسدا وليظهر على ألسنة الناس ذمكم «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» هذه الكلمة في جميع القرآن بمعنى ما يستقبح فعله ويفحش كالزنى واللواطة إلا هنا فإنها بمعنى البخل الذي هو منع الزكاة لأن هذه الآية من أوضح الآيات الدالة على فرض الزكاة على النقود والحبوب وغيرها لعموم لفظها وشموله، والعرب تسمي البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد «وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» خلفا لما تتصدقون به مع العفو عن ذنوبكم «وَاللَّهُ واسِعٌ» العطاء لا تنفذ خزائنه يعطي من يشاء بغير حساب وهو «عَلِيمٌ (268) » بمن يتصدق لوجهه ممن يتصدق لغيره. تنبه هذه الآية إلى أن ما يحصل في قلب المنفق من خوف الفقر هو من الشيطان فينبغي أن لا يلتفت إليه لأنه من جملة مكايده، وأن ما يقع في قلبه من رجاء توسعة الرزق بسبب النفقة هو من الله فليثق به فإنه لا بد أن يزيده من فضله، وتشير إلى أن الشيطان يغري البشر على البخل لئلا ينفق والله جل جلاله يغريكم على الكرم مع وعد الخلف، فعلى العاقل أن يكون حكيما فيميل إلى ما به النفع الدائم لأن الله تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ» من عباده ممن هو أهل لأن يتبصر بها لأنها لا تكون بالكسب ولا بالجهد ولا بالتعليم بل هي من الله الذي يبصر عبده بطرق الخير ويهديه لسلوكها، ويعرفه طرق الشر ويصرفه عنها، وهذا هو معنى الحكمة وهي أعظم ما يؤتى العبد بعد الإيمان «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ» الحقيقة التي هي النبوة «فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» لأنها ملاك خير الدنيا والآخرة «وَما يَذَّكَّرُ» بمواعظ الله وعبره وأمثاله «إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (269) » لأنهم هم المنتفعون بها العالمون بما ينتج عنها. قالوا إن الحكمة بمطلق معناها لا التي بمعنى النبوة بنيت على ثلاث: أيدي الصين وأدمغة اليونان وألسنة العرب. واعلم أن هذه الآية تشير إلى

أن من عرف حبائل الشيطان ولم يركن إليها وأيقن بوعد الله فهو من أهل الحكمة الجامعة كل خير المتيقن في قلوبهم صدق كل ما سمعوه عن الله ورسوله، قال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الآية 38 من سورة ق في ج 1، لأن القلب ملك الجوارح إذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت. واعلم أن مغزى هذه الآية وما قبلها جعل ما يتصدق به الإنسان لوجه الله وأن يكون خير ما له إذ لا يليق بالمحسن أن يعطي ما ينكف عن أخذه وتعافه نفسه، راجع قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) الآية 63 من سورة النحل في ج 2، وتحذير الأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث الفقر لأنه من وساوس الشيطان وخداعه وان يأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث توسع الرزق وتزيد في العمر وأن الكرم من صفات الله التي يجب على الغني الاتصاف بها، والبخل من صفات الشيطان الذي يجب الاجتناب عنه، وترمي إلى أن الحكمة هي من مواهب الله تعالى ولا طريق لها إلا الإلهام ومن يرد الله به خيرا يفقهه في معانيها وعواقبها ومراميها لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها. وقالوا القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى الغذاء. وقال بعض الحكماء ليهنه طعام من أكله ما حله وعاد على ذوي الحاجات من فضله. وقال آخر احذر مذلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. وقال ما أكلته وأنت مشتهيه فقد أكلته وما أكلت وأنت لا تشتهيه فقد أكلك وقال قصير ما الحيلة فيما أعي إلا الكفّ عنه ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه وقال الإسكندر لا توجد لذة الملك إلا بإسعاف الراغبين واغاثة الملهوفين ومكا المحسنين، وقال البغي ذميم العقبى، وهدم البيوت القديمة غير محمود، والحرب مأمون العاقبة، ودماء الملوك لا يجوز إراقتها، وسلطان العقل على باطن العاقل أشد من سلطان السيف على ظاهر الأحمق، والسعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه، والملوك إذا دبرت ملكها بمال رعيتها كانت بمنزلة من يعمر سطح بيته بما ينفقه من أساسه وقال رجل لكسرى ثلاث كلمات بألف دينار وهي: ليس في الناس كلهم خير ولا بد منهم، فالبسهم على قدر ذلك. وقال اردشير الدين أساس، والملك حارس وما لم يكن له أساس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، وقال لا شيء أضر

على الملك من معاشرة الوضيع ومداناة السفيه، وقال كما تصلح النفس بمعاشرة الشريف تفسد بمخالطة السخيف، وكتب له رجل ينصحه بأن قوما سبّوك، فقال إن كان سبهم بألسنة شتى فقد جمعت ما قالوه في ورقتك. فجرحك أعجب ولسانك أكذب. راجع الآية 17 من سورة النمل في ج 1 فيما يتعلق بالحكم والأمثال. ثم ذكر جل شأنه حكما آخر شاملا لكل أنواع النفقات فقال «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ» خالصة لله أو مشوبة بشيء مما ذكر «أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ» مطلق للخير والشر فاوجبتموه على أنفسكم «فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» ويجازيكم عليه بحسب نيتكم، فإما أن يخلف عليكم ما هو خير منه في الدنيا ويثيبكم عليه في الآخرة، وإما أن يكافيكم عليه بالدنيا بإشاعته على ألسن الناس، ويؤزركم عليه في الآخرة لأنكم لم تريدوا بها وجهه فتكونوا ظالمي أنفسكم «وَما لِلظَّالِمِينَ» المانعين رفدهم ولم يوفوا بنذورهم في الدنيا «مِنْ أَنْصارٍ (270) » يدفعون عنهم عذاب الله يوم الجزاء في الآخرة. وقد قرر الله تعالى الوعيد على البشر في هذه الآية لبيان فظاعة حال البخيل الذي لم يؤد حق الله من ماله إلى عياله، وقد أيأسه من المعين والخليل عند ما يكون أحوج إليهما، واعلم أن الأمر في هذه الآية للوجوب لأنها أدلّ وأعم وأشمل آية على فرض الزكاة، فيدخل فيها الذهب والفضة وأرباح النجارات وحاصلات الزروع والأشجار وغيرها من كل ما يقتات به ويدّخر وما يكتسب من هذا وغيره، أما الذي لا يدّخر كالبطيخ بأنواعه والخيار بأصنافه وبعض الفواكه والخضار فلا زكاة فيها، وتفصيل ما يجب زكاته وما لا، ونصاب كل منها في المال والعروض والحيوان والحبوب مفصل في كتب الفقه فراجعها. قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله إن المراد بهذه النفقة التي أمرنا الله باختيارها من الطيبات هي الزّكاة المفروضة، لأن الأمر فيها للوجوب. وقال مالك إن المراد بها مطلق الصدقة، والأول جرى عليه أكثر العلماء والمفسرين، إذ لا نهي في الآية عن التصدق بالرديء، وهو مخصوص بصدقة الفرض. قال عبيدة السلماني سألت عليا كرم الله وجهه عن هذه الآية فقال نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الرديء، فقال تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا

الْخَبِيثَ) إلخ، وقال بعض المفسرين نزلت في أناس من الأنصار كانوا يتصدقون بأردأ تمرهم على اهل الصفة فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم بأنهم لو كانوا هم الآخذين لم يأخذوه إلا عن إغماض وحياء فكيف يعطونه؟ وعليه فإن التصدق بالحرام لا يجوز لأنه أخبث من الرديء. روى الأثرم في سننه عن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله ابن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طليحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى ليس لك ذلك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة، وهذا الحديث من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله وهو دليل من قال إن هذه الآية نزلت في الزكاة المفروضة، ومن قال إنها في صدقة التطوع استدل بما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة. وهذا ليس بشيء وإن كان الحديث صحيحا لأنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت في صدقة التطوع، وتفيد الآية الأخيرة هذه وهي العاشرة من آيات الصدقة المشار إليها في الآية 261 إلى أن الله تعالى يعلم برّكم ونفقاتكم ونذوركم وأن من لم يوف بها فهو ظالم لنفسه التي أمر بتطهيرها وتزكيتها، وفيها وعيد وتحذير وتهديد لمن لم يوف بنذره لأنه هو الذي أوجبه على نفسه فصار من قبيل العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به كما مر في الآية 152 من سورة الأنعام في ج 2، وما أشير إليه فيها من المواضع. والحكم الشرعي: وجوب الزكاة على من ملك النصاب فاضلا عن حوائجه كلها المبين تفصيلها في كتب الفقه المشحونة بكل ما يخطر على بالك بشرط حول الحول على النقدين وأموال التجارة وكل ما يعد عروضا، أما الزروع والحبوب فبنمو اسمها وعلى ما يفضل من نصابها. والحكم الشرعي في النذر إذا كان خيرا وجب الوفاء به، وإن كان شرا كفر عنه. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه. وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين،

مطلب الهداية من الله، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه:

ومن نذر نذرا فأطاقه فليف به. وأخرج النسائي عن عمران بن حصين: لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم. وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير، وإنما يتخرج به من البخيل. وسبب النهي كون الناذر يلزم بنذره فيأتي به تكلفا من غير نشاط على سبيل المعاوضة. وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر. فخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج. مطلب الهداية من الله، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه: قال تعالى مبينا الحكم فيما تقدم من النفقات «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ» فتعطوها جهارا علنا «فَنِعِمَّا هِيَ» الخصلة الحميدة فيها «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ» سرا عن الناس «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» من الجهر لمظنة الإخلاص ودفع خواطر الرياء والسمعة، لما فيها من الستر على الفقير وخاصة المتعفّف، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإخفاء أفضل وإن كان الأمران جائزان إذ قد بوجد من هو محتاج للنفقة ولا يقبلها علنا خوف الفضيحة أو حياء من أن يطلع الغير على حاجته لها، فإعطاؤها له سرا فيه جبر لخاطره وسد لخلته وصيانة لماء وجهه، وفيها كرامة للمتصدق أيضا، وفضيلة له وبعدا عن شوائب المنّ والأذى، لأن من يتصف بهاتين المثلبتين لا يتصدق سرا. واعلم أن نفقة السر على الوجه المار ذكره فيها فضيلة أخرى بينها تعالى بقوله «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ» بمقابل إخفائكم صدقاتكم بقصد أخذها عن طيب نفس كإعطائها عن طيب نفس وأجرها عند الله أكبر من الصدقة العلنية «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) » لا يخفى عليه تصدقكم ونيتكم فيه. وتؤذن هذه الآية بأن النفقات يثاب عليها صاحبها أخفاها أم أعلنها إذا صلحت النية إلا أن الإسرار بها أحسن، وتشير إلى أن المرء في أعماله وأقوله وأفعاله مراقب من قبل ربه فليحرص على أن تكون حالاته كلها خالصة له، وإلى أن النية متى خلصت في العبادة فإظهارها وإخفاؤها سواء لا يحط

من قيمتها ولا ينقص من ثوابها. قال تعالى «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ» بأن تلزم أن تجعلهم كلهم مخلصين في نفقاتهم غير ماتين بها ولا مؤذين آخذيها ولا كونهم مراثين بها ولا أن لا ينقفوا من الرديء، وإنما عليك يا سيد الرسل تبليغهم ما نوحيه إليك وإرشادهم للعمل به فقط «وَلكِنَّ اللَّهَ» الذي أرسلك وجعلك هاديا بإرشادك إياهم «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ويوفقه لما يشاء من الطرق المخلوق إليها «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ» مطلق مال قل أو كثر حسنا أو ردينا خالصا أو مشوبا سرا أو علنا «فَلِأَنْفُسِكُمْ» ثوابه «وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ» أي لا تنفقوا إلا خالصا لوجه ربكم، وجاء النفي هنا بمعنى النهي مبالغة فيه، لأن ظاهر هذه الآية خبر ومعناها نهي «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» أجره في الآخرة وافيا ويخلفه عليكم في الدنيا مضاعفا. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا. ورويا عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أنفق ينفق عليك. ورويا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي (تشحّي) فيوعي الله عليك. وفي معناه ما قاله الشيخ حسير رمضان الخالدي مدرس الفرات في بعض قصائده: وكالدرهم الدينار صرفا وإن تكن ... دراهم نوعي أو دنانير تمنع فقد أشار فيه إلى المنع الشرعي والمنع النحوي أيضا. وأخرج الترمذي عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه، وربّ متخوض (الذي يأخذ المال من غير حله أو من غير وجهه) فيما شاءت له نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار يحث هذا الحديث على طلب الحلال من الكسب ويحذر على الابتعاد عن الحرام روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام. وروى البخاري أيضا عن المقداد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل

من عمل يده، وان نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. هذا وان الله تعالى يوف لكم أجور صدقاتكم «وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) » فلا تنقصون شيئا من ثوابها الذي وعدكم إياه بل يجزيكم جزاء وافيا ويضاعفه لكم إن شاء على حسب نياتكم فيها، والقصد من هذا تهيج المتصدقين إلى التصدق والعمل بأحكام هذه الآيات ليتم غرض المتصدق عليهم الموجب لفوز المتصدقين. قالوا إن أناسا كانوا يتصدقون على قراباتهم من أهل الكتاب ثم ان النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن التصدق على المشركين ليحملهم على الإسلام رأفة بهم، فصار بعضهم يتأثم من ذلك، فأنزل الله هذه الآية. أي ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في ذلك المنع، لأن الهداية من خصائص ربك وأجرها لمنفقها. وقد ذكر الله أنه لا يقبل إلا الخالص منها، فدعهم يا سيد الرسل وما يفعلون، فإنهم إذا تصدقوا على المسلمين لوجه الله لا لإعانتهم على الكفر فهو يثيبهم عليها، وإلا فيعاقبهم، لأن الجزاء من جنس العمل، والأعمال بالنيات، قال تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) الآية 60 من سورة الرحمن الآتية، وقال جل قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الآية 122 من سورة النساء الآتية، وقال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) آخر سورة الزلزلة الآتية أيضا، فعلى قدر العمل وبحسب النية يكون الثواب والعقاب. وليعلم أن القصد من النفقة صلة الرحم وسد خلّة المحتاج وليست للأغنياء ولا لغير المحتاجين الذين تودون إعطاءهم إياها وإنما هي خاصة «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي حبسوا أنفسهم للجهاد وبقصد إعلاء كلمة الله ثم الفقراء والمساكين الأحوج فالأحوج وبقية الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية، وإنما خص هؤلاء لأنهم «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» لأنهم غير مطلقين ليسلكوا سبل العمل والتجارة والزراعة والصيد وغيرها من طرق الرزق لتأمين معاشهم بسبب عجزهم مادة ومعنى، ومن هذا الصنف الذين يحبسون أنفسهم على عبادة الله ليل نهار لا يخرجون للأسواق والطرقات، والذين هم بعدم تصديهم للسؤال من هذا القبيل أيضا إذ «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ» أمرهم وشأنهم «أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» عن المسألة وعدم إظهار الذلة والمسكنة وظهورهم بالتجمل والعفة

«تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ» السيما والسمة والسميا بمعنى العلامة وهي ما يظهر على وجه الإنسان من الاصفرار بسبب الجوع، وما يرى من ثيابهم الخلقة، وتلبسهم بالخضوع والخشوع لله، كل هذا مما ينم عن شدة حاجتهم مما يغني اللبيب عن احتياجهم لسؤاله، بل يتفرس فيهم ويعطيهم كفايتهم، فهم أكثر أجرا من غيرهم «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» إلحاحا فيكررون الطلب المرة بعد المرة، ولا يبارحون المحل حتى يأخذوا منه، ومنهم من يغلظ القول عند عدم الإعطاء، كسؤال زماننا لهذا عليكم أن تفعلوا الخير ما استطعتم معهم «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) » تفيد هذه الآية عدم الميل إلى التصدق إلى المؤمن فقط، إذ يجوز أن يعطيها لذوي الحاجة من غير المؤمنين، لأن الخير للخيّر أن يتحرى بصدقته الأحوج إلا عند التساوي يرجح المؤمن، كما أنه يرجح الطائع على العاصي والقريب على البعيد. لما نزلت هذه الآية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة لأهل الصفة لأنها نزلت فيهم، وكانوا أربعمائة رجل لا مال لهم ولا مأوى ولا قرابة يأوون إليهم، وإنما ركنوا إلى المسجد يتلون القرآن ويخرجون مع كل سر للجهاد في سبيل الله، لذلك حث الله عباده للإنفاق عليهم ومواساتهم، لأنهم كانوا مع فقرهم لا يظهرون للناس بصفة المعدمين مع ظهور علامة الفقر عليهم، وهذا من غنى القلب. واعلم أن هذه الآية توعز بحرمة السؤال في غير الضرورة له قال صلّى الله عليه وسلم المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لأنه دم موجع. وقد بينا آنفا أن الصدقة تعطى للمسلم وغيره من ذوي الحاجة ونعني بها صدقة التطوع، أما صدقة الزكاة المفروضة فقد أجمع العلماء على صرفها للمسلمين من الأصناف الثمانية خاصة لقوله صلّى الله عليه وسلم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياء وأردها على فقرائكم، لأن تخصيص الأخذ في هذا الحديث من الأغنياء يخصصه الزكاة المفروضة، لأن غيرها تكون من الغني وغيره من كل من عنده فضل حوائجه ولو لم تجب عليه الزكاة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غنى النفس. ورويا الحسن: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين

الذي لا يجد غناء يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم لمسألته الناس. فأمثال هؤلاء يجب أن يتصدق عليهم لأنهم مع عوزهم لا يطلبون من الناس، لا سؤال زماننا الذين لولا قول الله تعالى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) وقوله صلّى الله عليه وسلم: لو صدق السائل ما أفلح من رده. لما أعطينا أحدا منهم لقمة، لأنا بعد اطلاعنا على أحوال بعضهم وتيقننا من غناهم ووجوب الزكاة عليهم صرنا نشك في كل سائل، ولكن قال صلّى الله عليه وسلم اعطوا السائل ولو جاء على فرس، وما علينا إلا الامتثال، وإلا لأفتينا بعدم جواز التصدق على من لم يتحقق فقره، لأن فيه إعانتهم على الكسل والمعصية، لأن من عنده وجبة يوم يحرم عليه السؤال، فكيف بمن عنده قوت سنة، ومن يسأل وببيع ما يحصله بالسؤال، ومن يتجر ويرابي، فقد اختلف علينا الأمر ولم نقدر نفرق بين المحتاج وغيره، ولم نتبين لنا من اتخذ السؤال حرفة ممن هو محتاج إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. سمع عمر رضي الله عنه سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه عش الرجل فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال ألم أقل لك عش الرجل؟ قال قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، قال له لست سائلا ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة. ولهذا صار بشك في أحوال السؤال وصاروا يعملون لهم محالا للأكل والشرب والنوم قطعا لمادة السؤال. هذا ومن أعمال الوليد الممدوحة أنه فرض للمجذومين نفقة خاصة كي لا يسألوا، وعين لكل أعمى قائدا، ولكل مقعد خادما، ونفقة لحفظة القرآن، وبنى دورا للضيافة. روى البخاري ومسلم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه (عن المسألة) جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش أو خموش أو كدوح، قيل يا رسول الله ما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب- أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي-. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: من سأل الناس تكثرا فإنما سأل جمرا فليستقل أو ليستكثر. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل وله قيمة اوقية (أربعون درهما) فقد ألحف. أخرجه أبو داود، وأخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف، قال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) » على ما فاتهم من الدنيا والله يخلف لهم ما أنفقوه فلا يخشون الفقر في الدنيا، وثواب نفقاتهم يقيهم أهوال يوم القيامة. هذه الآية خاتمة الآيات الأربع عشرة المشار إليها قبل، بأنها كلها في أنواع الصدقات وحال أهلها، وهذه الأخيرة نزلت في علي كرم الله وجهه، إذ بعث بوسق لأهل الصفة ليلا ومثله نهارا، وكان ذات يوم يملك أربعة دنانير فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبالثالث سرا وبالرابع علنا، وهي عامة جار حكمها في كل متصدق بمقتضاها، لأن أكثر آي القرآن العظيم عام، وهذه الآية تؤيد ما ذكر في الآية 271 المارة من أن نفقة السر أفضل من العلانية، لأن الله قدم فيها نفقة الليل على نفقة النهار، ونفقة السرّ على العلانية ضمنا، وتشير هذه الآية صراحة إلى الأفضلية. هذا وقد أجمع العلماء على أن إظهار صدقة الفرض أحسن، للاقتداء بفاعليها، وإخفاء صدقة التطوع أجمل لما فيها من جبر خاطر آخذها بحالة لا ذل فيها ولا انكسار قلب، بل بطيب نفس وقلب منشرح. أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه، إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجل قلبه معلق بالمجسد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تابا في الله تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 62 من سورة براءة إن شاء الله، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيتين 215/ 219 والآية 119 قبلهما أيضا فراجعها واعلم أن هذه الآية الأخيرة من آيات الصدقة تدل على أن أفضل أنواع الخير ما كان متتابعا متواصلا، وأن الأحسن أن لا يخصص الرجل صدقته بأناس دون

آخرين، ولا بوقت دون وقت، لأن صدقة التطوع لا وقت لها، أما صدقة الفرض فوقتها وقت وجوبها وهو حولان الحول وصدور المواسم، ولا يتحتم على من تجب عليه أن ينفقها حالا بل يتريث ليجد من ينفقها عليه ويختار الأحوج والأدين والأقرب والأتقى، لما جاء في الخبر اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطقكم. ولما رغب الله في الصدقة فرضها ونفلها التي هي بذل المال بلا عوض رجاء منّه عليهم طفق ينفر عن الربا وهو أخذ المال بلا عوض بقوله جل قوله «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا» ويعاملون الناس فيه ويأكلون فضله، لأن المال يحرز ويصرف ولا يؤكل وإنما ذكر الأكل دون اللباس والسكن الذين هما من المال أيضا لأنه معظم الأمر المقصود في المال، ولأنه لا يستغنى عنه استغناء اللباس والسكن، فهؤلاء المرابون «لا يَقُومُونَ» من قبورهم يوم يقوم الناس لرب العالمين عند الصيحة الثانية ليذهبوا إلى المحشر فيحاسبوا ويثابوا أو يعاقبوا «إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ» أي يصرعه ويخبطه بالأرض، لأن الخبط ضرب على غير استواء ومنه قولهم خبط عشواء مثلا للرجل الذي يتصرف في الأمور على غير هدى وروية وتدبر بسبب ما أصابه «مِنَ الْمَسِّ» الجنون يقال مس الرجل إذا كان به جنون، أي يبعثه مجنونا مخبلا مختلا، وهذه علامتهم في الموقف العظيم فيفضحون بين الناس كغيرهم من الزناة وشربة الخمر والمقامرين لأن ذلك اليوم يوم الفضيحة، أجارنا الله من ذلك، وقد مثلوا لحضرة الرسول ليلة الإسراء بكبر بطونهم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، لأن الربا ربا في قلوبهم والعياذ بالله فلا يستطيعون الإسراع يوم يحشر الناس سراعا كما بيناه أول سورة الإسراء في ج 1 «ذلِكَ» الذي يحل بهم يوم القيامة. «بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» أي أنه حلال، لأنه مبادلة مال بمال كالبيع وقد قاسوه بمقياس إبليس الذي ذكرناه في الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1 وهم من أتباعه لأنهم يسببون لهلاك الناس بإحراز أموالهم دون مقابل، وهو يسبب إهلاكهم بما يسول لهم «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» وليس الحلال كالحرام، وقد كذبوا بقياسهم هذا لأن الربا فيه زيادة نفس المال بمقابل

تأخير الأجل فقط، والبيع ليس كذلك، لأن البدل فيه من غير جنس المبدل منه، ولأن الريح في قيمة المال البيع لا بنفس المال ولا من جنسه، فإذا باع ثوبا قيمته عشرة بأحد عشر، فقد جعل ذات الثوب بمقابل الأحد عشر، وجعل التراضي عليه، فلم تكن هذه الزيادة بغير عوض، وفي الربا يكون الزائد بغير عوض، لأنه يعطيه عشره ويأخذ منه أحد عشر مثلا، فتكون هذه الزيادة بمقابل الإمهال فقط، والإمهال لا يكون عوضا مقابلا لهذه الزيادة لأنه ليس مالا ولا شيئا من جنس المال المعطى. وأعلم أن ما حرم بالنقدين حرم بغير هما من مكيل وموزون من الأشياء الستة المبينة بالأحاديث الآتية، لأن العبرة بالفضل، فكل ما كان متفاضلا لا يجوز كما سنيينه بعد «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى» وامتنع عما نهي عنه «فَلَهُ ما سَلَفَ» قبل النهي فلا يؤاخذ عليه البتة «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» فإنه يعفو عنه بامتثاله وامتناعه عن تعاطيه، فلا يطالبه بما تقدم عن زمن النهي «وَمَنْ عادَ» إلى فعل ما نهي عنه واستحل أخذ الزيادة عن رأس ماله وأمر على تعاطيه «فَأُولئِكَ» الذين تمادوا على الربا هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (275) لا يخرجون منها أبدا وهكذا كل مستحل ما حرم الله عليه، لأنه يكون كافرا بالاستحلال، فيستحق الخلود كالكافرين بالله المشركين به. واعلم أن آية الربا هذه من آخر آيات القرآن نزولا إذ لم ينزل بعدها إلا آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من سورة المائدة الآتية، وآية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) 284 الآتية. روى مسلم عن جابر قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء. وسبب تحريمه منع الناس من الاتجار بأموالهم بأنفسهم وبالواسطة، وانقطاع المعروف بين الناس، لأن المرائي لا تطيب نفسه أن يقرض أخاه دون فائدة تعود عليه، ويؤدي إلى حرمان الناس من أجر القرض الذي هو أفضل من الصدقة، ويسبب زيادة المال بلا تعب أو مشقة، ويأمن من خوف التلف والخطر في الأجل والسفر، فضلا عن هذه الأسباب فإن ما حرمه الله نصا وجب الانتهاء عنه اتباعا لأمر الله وامتثالا له توا دون الوقوف على سببه، لأن الله تعالى مالك الخلق، والمالك

المطلق له أن يتعبد خلقه بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، وليس للمخلوق إلا الانقياد لأمره والخضوع لحضرته، وسواء كان له سبب أم لا، وسواء علمت الحكمة منه أو لم تعلم، لأن أفعال الله لا تعلل، ولأن العلة لا تدور مع المعلول، راجع الآية 92 من سورة يونس ج 2، لذلك فإن الحكم الشرعي التحريم البات، وعلى الإمام حبس المصر عليه حتى يتوب عن تعاطيه، وإذا لم ينته لقوته وجب على المسلمين محاربته كالبغاة، فإذا قدروا عليه وأصر على تعاطيه ضربوا عنقه بسبب استحلاله ما حرم الله، وهو في أشياء مخصوصة بينها رسول صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبرّ بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى. وروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، فقد نص عليه السلام على هذه الأصناف الستة فقط، وعليه فإن ما عداها لا ربا فيه، فلو باع ثوبا بثوبين أو كتابا بكتابين، أو إناء بإناءين، فلا ربا ولا حرمة فيه. والقرض الذي فيه زيادة يعد من الربا المحرم لأن كل قرض جرّ نفعا فهو ربا، وكذلك لو أقرضه شيئا واشترط عليه أن يردّ له أحسن منه فهو ربا لوجود العلة وهي الفضل بلا مقابل، يدل على هذا ما روي عن مالك قال: بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله فذلك الربا- أخرجه مالك في الموطأ-. فإن لم يشترط جاز، لما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها، فأبى أن يأخذها لأنها خير من دراهمه، فقال ابن عمر قد علمت، ولكن نفي بذلك طيبة- أخرجه مالك في موطأه-. فمن استقرض مثلا ليرة حميدية ذهبا فأدى ليرة رشادية، جاز لأن وزنهما واحد وقيمتهما الأصلية واحدة،

ولكن يشترط عدم الشرط من المقرض وطيب النفس من المستقرض. والربا نوعان: ربا فضل أي زيادة وربا نسيئة أي تأخير بالأجل، فإذا باع جنسا من الأشياء الستة بجنسه نفسه اشترط فيه التماثل والمساواة إن كان موزونا أو مكيلا، واشترط التقايض بالمجلس، وإذا باع جنسا بآخر كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير جاز فيه التفاضل، واشترط أن يكون يدا بيد بالمجلس فإذا زاد في الأول وأخر في الثاني وقع الربا كما هو صريح الأحاديث المارة والآتية. قال تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» يذهب بركة مال المرابي ويعرض صاحبه للخسران والهلاك، وإن طال به الزمان فقل أن ينتقل لأحفاده، وكثر أن يكون الحق في زمنه وأولاده «وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» ينميها ويبارك في المتصدق منه ويضاعف الأجر لصاحبه إذا كان حلالا، قال تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية 92 من آل عمران الآتية، والتصدق بالحرام فضلا عن أنه لا ثواب فيه فقيل إن من يتصدق فيه طلبا للأجر يكفر لما فيه من معنى الاستحلال. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيده وإن كانت تمرة فتربوا في كنف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. ثم ألمع جل شأنه إلى أن أكل الربا بعد هذا النهي لا يكون إلا من الانهماك في الإثم المؤدي إلى الكفر بقوله جل قوله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) » مصر على كفره مستحل لأكل الربا وغيره من المحرمات متماديا في الإثم مستمرا عليه، وتشعر هذه الآية بأن من هذا شأنه يكون كثير الكفر عظيم الإثم يكرهه الله تعالى ومن كان كذلك فالنار أولى به. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» تقوية لإيمانهم وإشعارا بإخلاصهم «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم بشروطها وأركانها، وهذا هو معنى الإقامة «وَآتَوُا الزَّكاةَ» المفروضة عن طيب نفس لأهلها مع الكلام الطيب والإعطاء بالمعروف «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» واف كامل مضاعف «وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم من الذين لم يقوموا بذلك كله «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) » على ما فاتهم من حطام

الدنيا وزخارفها، لأن الله تعالى عوضهم خيرا منها في الآخرة. وبعد ما أباح لهم ما أكلوه من الربا قبل نزول هذه الاية بين لهم حكم ما عقدوه منه قبل النهي ولم يستوفوه بعد، فقال عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» على الذين أخذوا منكم مالا وهو ما فضل عن رءوس أموالكم فقط «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) » قولا وفعلا قلبا وقالبا فخذوا رءوس أموالكم واتركوا بقايا الربا حتى تقوا أنفسكم من عقابه، واعلم أن ذروا لا ماضي له، وكذلك ما تصرف منه مثل: تذر ويذر وتذررون إلخ وهما مكرران كثيرا في القرآن. «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به ولم تتركوا ما نهيتم عنه «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» لأن إصراركم على ما حرم عليكم وعدم انتهاءكم عما نهيتم عنه إعلام بطلب المبارزة والمحاربة مع الله ورسوله وهو مما لا قبل لكم به، وهذا كناية عن التشديد في الزجر والكف عن الربا في الدنيا، وعدم أخذ الفضل المعقود عليه قبل النهي والمبالغة في الوعد والتهديد في الآخرة. قال أهل المعاني حرب الله النار وحرب رسوله السيف. وقد بينا آنفا وجوب محاربة المصرّ عليه على الإمام، «فَإِنْ تُبْتُمْ» ورجعتم فإن الله تعالى يقبل إنابتكم ويعفو عما سلف منكم، وإذا فعلتم هذا وطابت نفوسكم بترك الفضل مما عقدتموه قبل النهي ولم تستوفوه، أما بعده فالعقد باطل من أساسه حرام ملاحقته لا يجوز تقاضيه، وفي كلا الحالتين «فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ» ، الغريم بأخذ الزيادة منه عنها «وَلا تُظْلَمُونَ (279) » بنقص شيء من رأس المال، بل تأخذونه كما أعطيتموه كاملا. وهذا البحث بحث بحت واسع في الآية 131 من سورة آل عمران الآتية فراجعها. كان العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان يتعاطيان الربا، فقال لهما بعض مدينهما إن أخذتم حقكما كله مني لم يبق لدي ما يكفي عيالي، فخذ النصف وأضعف لكما النصف الثاني إذا أخرتماه، وذلك قبل النهي، ففعلا فلما حلّ الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فقالا سمعا وطاعة، وأخذا رأس مالهما وهناك أقوال أخر في أن سبب نزولها في العباس وخالد بن الوليد أو في أربع اخوة من ثقيف كانوا يتعاطون الربا، ولا مانع من تعدد الأسباب، والمعنى واحد

مطلب فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه:

وان كلا منهم قال نتوب إلى الله، ولا قوة لنا على محاربة الله ورسوله، وصار كل من كان له دين مرابيا به يكلف دائنه بدفع رأسماله فقط قبل حلول الأجل، لأن الدين أصبح قرضا مستحقا، والقرض لا أجل له، إذ يحق للمقرض مطالبة المستقرض متى شاء، فشكا بعضهم الإعسار لأنهم كانوا يستدينون على المواسم ولم ينتهوا لإدائه قبل حلوله، فأنزل الله «وَإِنْ كانَ» المدين فاقد المال «ذُو عُسْرَةٍ» لا قدرة له على أداء ما عليه «فَنَظِرَةٌ» عليكم أيها الدائنون «إِلى مَيْسَرَةٍ» مدينكم بأن تمهلوهم إلى وقت وحالة يتمكنون من الأداء. مطلب فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه: وهذه الآية وإن كانت في حق الربا فيدخل في عمومها كل دين مستحق عجز عجز المدين عن أدائه لما فيه من الأجر العظيم، لأن هذه الآية جاءت مستأنفة بدليل قوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) إلخ إذ أثبت الفاعل ولم يضمره ليعود قطعا على المستدين ربا. وكان في الآية تامة بمعنى وجد إذ لو كانت خاصة بدين الربا لقال وإن كان ذا عسرة إلخ ليعود ضمير الفاعل الذي هو اسم كان على المستدين بالربا، ولكانت ناقصة، روى مسلم عن أبي قتادة أنه طالب غريما له فتوارى عنه ثم وجده، فقال إني معسر، قال آلله قال آلله، قال فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه الله من كروب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه. وروى مسلم عن أبي اليسر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم. ورويا عنه أيضا أنه صلّى الله عليه وسلم قال كان فيمن قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه. وأخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به

عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء. ورويا عن كعب بن مالك أنه تعاطى ابن أبي حدود دينا كان له في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى، فقال يا كعب قلت لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، فقال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال قم فاقضه. ورويا عن أبي هريرة أنه كان لرجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال أعطوه، فطلبوا سنا فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال أعطوه، فقال أوفيتني وفاك الله، فقال صلّى الله عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء. وفي رواية أنه أغلظ لرسول الله حتى همّ به بعض أصحابه، فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا. وأخرج النسائي عن محمد بن جحش قال كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته، ثم قال سبحان الله ماذا نزل من التشديد، فسكنا وفزعنا، فاما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه. ثم طفق جل جلاله يحتهم على ما هو خير لمن هو مستغن عن دينه بقوله «وَأَنْ تَصَدَّقُوا» بالفضل ورأس المال على المعسر «فهو خَيْرٌ لَكُمْ» عند الله من استيفائه من المعسر «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) » ما أعد الله تعالى في الآخرة من الخير الجزيل لمن يفعل هذا فصلا عما يناله من الثناء الجميل في الدنيا من الناس والدعاء الكثير من المتصدق عليه. واعلم أن آيات الربا هذه تثبت أن المرابين محكوم عليهم بالجنون مهما كانوا عليه من العقل لأنهم استحلوا ما حرم الله ولم يمتثلوا أمره بالكف عنه، ولأنهم آثروا البطالة على العمل واستعملوا ما أنعم الله به عليهم من المال لغير ما خلق له من طرق التجارة، وتومئ إلى أن الربا يوجب التقاطع والعداء بين الناس ويحملهم على التخاصم، ويولد القسوة في القلوب، وينزع منها الشفقة والرأفة، ويلقي بذور الحقد والحسد في نفوس الفقراء لما يروا من شدة الحرص والشح من الأغنياء، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم المخلة بالأمن، وقد يؤدي أيضا إلى الانتحار المنهي عنه في أصعب المواقف، وينذر بمحو

[سورة البقرة (2) : الآيات 281 إلى 286]

ثروة المرابين وحرمانهم لذة الكسب الحلال ونزع صفات الحمد والشكر منهم، وإنزال نعوت الذم والقدح فيهم. هذا ويشترط للتوبة عن الربا أربعة شروط: الإقلاع فورا، والندم على ما سلف، والعزم على عدم العودة إليه، ورد الفضل لأهله إذا كان بعد نزول النهي وبعد بلوغ الدعوة النبوية، فمن كان منه ذلك ونوى رد فضل الربا لأهله ثم عجز عنه أو تعذر عليه معرفة من أخذ منهم أو ورثتهم فالله تعالى أكرم بأن يعفو عنه ويرضي خصومه، أما الكافر إذا أسلم وكان يتعاطى الربا فلا يطالب بالردّ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، كما لا يطالب بالزكاة على ما قبل الإسلام، هذا هو الحكم الشرعي فيه. وإذا كان للمسلم حديثا ربا على الكفرة وكانوا محاربين جاز له استيفاؤه منهم، كما يجوز لغيره أخذ ما لهم بالربا والقمار والبيوع الفاسدة وشبهها. واعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن العظيم الربا في أربعة مواضع مرة في مكة وهو قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً إلخ 79 من سورة الروم، وثلاث مرات في المدينة في هذه الآيات المارات، وفي الآية 130 من آل عمران، وسنأتي على تمام البحث فيها إن شاء الله، والخمر كذلك نزلت فيه أربع آيات مرة في مكة وثلاث في المدينة، راجع الآية 217. قال تعالى «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 281» لأن العمل فيه جار على قانون العدل الحقيقي، وهذه الآية الجليلة نزلت بعد آية المائدة 4 التي نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع، وهي آخر آية نزلت في القرآن ووضعت في هذه السورة بمكانها هذا بإشارة من النبي صلّى الله عليه وسلم وإخبار من الأمين جبريل عليه السلام وعاش بعدها رسول الله واحدا وعشرين يوما، وما جاء من أن آخر آية نزلت هي آية الربا فيه تسامح، إذ المراد بها أنها من آخر ما نزل من العقود ويراد بهذه آخر ما نزل من آيات القرآن، أما آخر ما نزل من السور فهو سورة النصر متفق عليه. ولهذا البحث صلة في الآية 3 من سورة المائدة الآتية فراجعه، وعليه يكون انقطاع الوحي في 11 صفر سنة 11 من الهجرة، ومنهم من قال عاش بعدها تسع ليال، فيكون ختم الوحي 23 صفر سنة 11، ومنهم من قال سبع ليال، فيكون آخر الوحي في 25 صفر

مطلب في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه:

سنة 11، ومنهم من قال ثلاث ساعات، وسنوفي هذا البحث في الآية المذكورة آنفا من سورة المائدة إن شاء الله تعالى. مطلب في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» بيعا كان أو قرضا أو سلفا وغيره، وهذا الأمر للندب، لأن الله تعالى يقول بعد (الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهذا الشرط صرفه عن الوجوب «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ» ، من غير زيادة ولا نقص ولا تقديم ولا تأخير، وفي هذا حفظ لحق الطرفين، فيأمن المدين من طلب زيادة أو تقديم في الأجل، ويأمن الدائن من جحود الدين وتذرعه بزيادة المبلغ وظن الدائن بنقصه، ومن نسيان شهادة الشهود «وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» وتفضل به عليه في معرفة الكتابة وليكتب كما شرعه الله وأمره به من عدم الزيادة والنقص، وهذا الأمر للندب أيضا والصارف له عن الوجوب قوله تعالى (وَلا يُضَارَّ) إلخ، لأن الوجوب لا يقيد ولا يخصص ولا يعلق على شرط، ومتى وجد في الأمر أحد هذه انصرف من الوجوب إلى الندب، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الآية 18 من سورة القصص في ج 1، لأن من خصه الله تعالى بفضيلة علم أو مال أو جاه ينبغي أن ينفع بها عباده كما نفعه بها. وبعد أن نهاه الله عن الإباء أمره بقوله «فَلْيَكْتُبْ» هذا الكاتب الذي اختاره الطرفان وائتمنا به ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة، ويراعى حالة الطرفين ولا يخص أحدهما بالاحتياط ويهمل الآخر، بل يحافظ على حقهما معا، وعلى هذا الكاتب أن يجتنب الألفاظ التي لها معان تنصرف لضرر أحدهما والكلمات التي هي من الأضداد لئلا يقع النزاع من أجلها، لأن القصد من الكتابة رفع ما يتوقع من النزاع ودفع ما يتوهم من الخلاف وتأمين حق الطرفين، فكل كلمة يتوقع منها حصول شقاق بسبب تعدد معانيها يجب عليه اجتنابها. وينبغي لمن يتصدى لهذه الكتابة أن يكون عالما باللغة التي يكتب بها عربية

أو غيرها، وبالفقه وأصول المدانيات، والبيوع والسلم وغيرها، ليدمج الشروط المقتضية لكل منها فيما بكتبه «وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» أي المدين، لأن الكتاب يلزمه وحده، فهو الذي يعترف فيه ويبين قدره ونوعه وجنسه وصفته وأجله، ورب الدين يسمع ذلك، فإذا اختلفا فعليه أن يتوقف عن تدوينه حتى يتم الوفاق بينهما عليه، وأن لا يكتب شيئا لم يتفقا عليه صراحة لا ضمنا وتلويحا ولا تعريضا ولا سكوتا، وأن يكون عن رضى منهما واختيار وإيجاب وقبول لا غضبا ولا إكراها ولا تلعثما «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» في كل ما يكتبه، وقد جمع جل شأنه بين اسمه ووصفه الجليلين في هذه الجملة مبالغة في الحث على التقوى. وضمير الفاعل يعود إلى المملي أي يحذّره ربه من أن يزيد أو ينقص شيئا مما أراده الطرفان، وأكد هذا الأمر بقوله «وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» أي من ذلك الحق الذي اتفق عليه الطرفان، بأن يكتبه حرفيا وانتهي عن البعض يشمل الكل «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً» مبذرا لماله أو مجنونا أو معتوها أو جاهلا بالإملاء «أَوْ ضَعِيفاً» طفلا صغيرا أو شيخا هرما «أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ» بنفسه لمرض أو عمى أو كان محبوسا لا يمكنه الحضور أو غائبا يتعذر عليه المجيء أو لا يعرف ماله وما عليه، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم، ولذلك قال تعالى «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» الأمين عليه والمحافظ لماله أو وكيله أو وصيه المختار أو المنصوب من قبل القاضي أو المترجم إذا كان يحسن اللغة أو أخرس إملاء ملابسا «بِالْعَدْلِ» الواجب إجراؤه، أي الحق بين صاحب الحق والمولى عليه، فلا يزيد ولا ينقص، وعلى المترجم عن الذي لا يعرف اللغة وعن الأخرس أن يوقعا معهما «وَاسْتَشْهِدُوا» أيها المتعاقدان على عقودكم كلها «شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» أيها المؤمنون لا من غيركم، وقد يجوز أيضا استشهاد الغير في بعض الحالات كما سيأتي في الآية 106 من سورة المائدة الآتية «فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» وتأمنون بهم على حقكم وتطمئنون بهما، والسبب في عدم كفاية المرأة الواحدة نقصان عقلها ودينها وكثرة نسيانها المنبئ عنه قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما»

الشهادة وتنساها «فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» التي لم تنس بسبب التداول بينهما والمذاكرة فيها حتى يؤدياها معا لا على الانفراد ولا متعاقبتين «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» لتحمل الشهادة أو لأدائها عند الحاكم وهي واجبة على النصاب إذا لم يكن لإثبات الحق نصاب غيره «وَلا تَسْئَمُوا» أيها المتعاقدون من «أَنْ تَكْتُبُوهُ» أي الدين قليلا «صَغِيراً» كان «أَوْ كَبِيراً» كثيرا «إِلى أَجَلِهِ» أي لا تملّوا أو تضجروا من كتابته مهما كان فإنه يعود عليكم بالنفع، قال زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبالك يسأم أي يمل «ذلِكُمْ» إثبات الدين بالكتابة والشهود «أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ» أعدل واثبت وأعون «لِلشَّهادَةِ» لأن الشاهد إذا رأى خطه تذكر الحادثة وشهد بالحق عن يقين بلا تردد «وَأَدْنى» أقرب إلى «أَلَّا تَرْتابُوا» تشكوا بمقدار الدين والأجل وكيفية الشهادة بهما، وهذا واجب عليكم أو مندوب في كل العقود «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ» ولم يعين لعقدها أجل وهي بين أيديكم جميعا وتحت تصرفكم أيها المتعاقدون «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» إثم ولا حرج من أن «أَلَّا تَكْتُبُوها» بعد التجاحد في مثل هذه الحالة، لأن كلا منهم واضع يده عليها، وظاهر الحال يدل على كونها لهما معا، ولتمكن كل منهما من أخذ حقه منها أي وقت شاء. وعود الضمير إلى المداينات المذكورة سابقا المعبر عنها بالعقود كما جرينا عليه أولى من عودها إلى التجارة، وعليه يكون الاستثناء متصلا، وكذلك يكون متصلا إذا أعدت الضمير إلى الاستشهاد أي أشهدوا في كل المداينات والعقود إلا في عقد التجارة التي تتعاطونها معا. وقال بعض المفسرين يعود الضمير إلى التجارة وجعل الاستثناء منقطعا وفيه عود الضمير إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة وهو جائز في فصيح الكلام، ولكن الأول أولى. واعلم أن من كان عنده شهادة لأحد وقد مات رب الدين والورثة لا تعلم ذلك فيترتب عليه إعلام الورثة بذلك دون دعوة من الحاكم أو من أحد منهم لإظهار الحق، وما جاء في الآية من لزوم دعوة الشهود لأداء الشهادة في غير هذه القضية

وما شاكلها من معلومية الشهود عند المدعي، لأن الشاهد ترد شهادته إذا تبرح لأدائها دون تكليف، ولهذا فإن/ ما/ في قوله تعالى (إِذا ما دُعُوا لا تعالى زائدة لما فيها من ثم النفي لمثل هذه الحالة، راجع الآية 124 من سورة براء الآتية في بحث ما هذه. وكذلك من يتسرع بحلف اليمين قبل أن يكلف الحلف فلا عبرة بحلفه لمظنة التهمة في هاتين القضيتين وما شابههما، تدبر قوله تعالى «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» أيها الناس لتكون عقودكم صحيحة ظاهرا وباطنا فيما بينكم أنفسكم وفيما بينكم وبين الله سواء كان البيع ناجزا أو معلقا أو لأجل خوفا من وقوة التجاحد والاختلاف في البيع والثمن والشرط والأجل أو في الكل «وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ» بأن يقسر على الكتابة وهو لا يضار أيضا بإملائه بأن يزيد أو ينقص ويضع بعض كلمات متضادة أو لها معان قد تضر بأحدهما «وَلا شَهِيدٌ» يجبر على الشهادة أو يمتنع بعد تحملها عن أدائها أو يزيد أو ينقص فيها، هذا وجد غيرهما إذ الوجوب كفائيا، والأمر على الندب أو الاحتمال كون الكاتب والشاهد مشغولين بما يهمهما، وأن تكليف الكتابة أو الشهادة يضرّ بهما فيصار لغيرهم أما إذا لم يوجد غيرهما فيجب حينئذ عليهما وجوبا عينيا بأن يكتب الكاتب ويشهد الشاهد لما في الامتناع من الضرر بغيرهما، لأن وجوب العين يتأكد ويلزم الرحمن بعينه، والكفائي إذا أقام البعض به سقط عن الآخرين كغسل الميت وتكفينه وو حمله والصلاة عليه. ثم أكد النهي عن الإضرار الذي هو خروج عن الطاعة اللاحق أثره بهم غالبا بقوله «وَإِنْ تَفْعَلُوا» ما نهيتم عنه أو تمتنعوا عما أمرتم به «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» وخروج عن الطاعة التي ينتج عنها وقوع الشحناء بينكم ثم هذا التأكيد بقوله عن قوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فيما نهيتم عنه وأمرتم به وفي محق حقوق بعضكم كحقكم، فإن التقوى بهذا كغيره أزكى لكم وأطهر لقلوب «وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» إذا اتقيتموه أشياء كثيرة من أمور دينكم ودنياكم مما هو لكم فيها وعند ربكم «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) » لا تخفى عليه أموركم هذه الجملة تهديد ووعيد لمن يجحد شيئا من العقود أو يخالف فيها وللشهود أيضا لا يكتموا شيئا من الشهادة وتشير إلى أن تقوى الله تورث العلم بما لا يعلم،

أطول آية في القرآن العظيم وأقصر آية فيه آية (ثُمَّ نَظَرَ) 22 من سورة المدثر في ج 1. واعلم أن الأمر بالكتابة عند وجود الكاتب في حالة الحضر ولهذا يقول تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ» بعيدا أو قريبا «وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً» أو آلة الكتابة أو ما يكتب عليه ويكتب به وأردتم أن تتعاقدوا أو تتداينوا «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» لنثقوا على أموالكم وليس الغرض جواز الرهن في السفر، وإنما الفرض التوثق من الدين في حالة عدم وجود الكاتب والشهود، وإلا فالرهن جائز سفرا وحضرا، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه منه لأجل، وإنما أشار الله إليه مبالغة في تحفظ الناس على أموالها من أن يأخذها من لا يؤديها فتسبّب الأحقاد والأضغان بينهم، لأن المال عديل الروح وكثيرا ما يقتل الرجل عند ماله أو من أجله، وقد أباح الشارع الدفاع عنه فقال قاتل دون مالك. ولأجل شدة المحافظة على المال التي يتأتى من عدم إيفائه الشحناء ولهذا قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية 5 من سورة النساء الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم احترسوا على أموالكم بسوء الظن أي لا تؤتوها من يغلب على ظنكم عدم الوفاء بل توثقوا من حسن معاملة من تدينونه بالتحقيق عن أحواله من كل الجهات «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» لحسن ظن فيه أو تجربة أو كان قريبا أو صديقا متوغل الصداقة معكم ولم تجدوا كاتبا ولا شهودا وليس عنده رهن وأعطيتموه مالكم ثقة منكم به، فإن الله تعالى يأمره بقوله «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ» أي دينه وإنّما سمي أمانة لأنه صاحبه وقد أمن من جحوده فأعطاه إياه بلا سند ولا شهود ولا رهن، فصار كأنه أمانة، والأمانة لا يجب عليها الإشهاد ولا الكتابة ولا الرهن، لأن الأمين مصدق بردّها له في قوله. وتومئ هذه الآية إلى حث المدين أن يكون عند حسن ظن دائنه فيه، وحمله على أدائه عند حلول أجله دون مطل أو تعلل. ثم أكد الله تعالى على المدين لزومه التأدية بقوله «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» بعدم الجحود وأن يفيه له بالحسنى مقابلة لفعله معه بقضاء حاجته في حالة يمكنه الامتناع فيها عن أن يدينه بحجة عدم وجود كاتب أو شهود أو رهن. وبعد أن ندبه وحذره من المطل والتسويف ولزوم أداء الأمانة عند طلبها امتثالا

لأمره خاطب الشهود بقوله عز قوله «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ» إذا دعيتم إليها لأنها أمانة فى أعناقكم وفي كتمانها إبطال الحق وضياع المعروف، ولهذا بالغ في الوعيد والتهديد على كتمانها فقال «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» مخطئ فاجر، وأضاف الإثم إلى القلب لأن كل أمر أول ما يحدث يحدث في القلب ثم ينطق به اللسان أو تنفذه الجوارح إلا من عصم الله، لأن القلب رئيس الأعضاء إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله- كما في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير عن البخاري- ولذلك فإن إثمه أعظم الآثام، قال ابن عباس أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة. وقال لما حرم الله الربا أباح السلف وقال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى (أياما أو شهورا أو سنين) قد أحله الله تعالى في كتابه وأدن فيه، وهذا سبب نزول هذه الآية، وله شروط معلومة في كتب الفقه يجب التقيد بها لصحة عقده ولئلا يدخله الربا. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون من التمر العام والعامين، فقال لهم من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) » لا يعزب عنه شيء من أعمالكم. وتومئ هذه الآية إلى تحذير من يكتم الشهادة ولم يؤد ما ائتمن عليه، وان المراد بإثم القلب مسخه والعياذ بالله، ومن هنا قيل: ما أوعد الله على شيء كإبعاده على كتم الشهادة، فانظر رحمك الله ما أعجب نظم هذه الآيات في تنظيم الإدارة الإنسانية، لأن عدم المضارة المذكورة من الطرفين والكاتب والشهود جزء من أجزاء الإدارة اللازمة للبشر، ومع هذا فإن الله جل جلاله قد بالغ في التأكيد على القيام بها بالعدل والتشديد على من يخرم شيئا منها، وقد كرر لفظ التقوى فيها لأنها تقي الإنسان من الوقوع فيما لا يرضي الله، لأنه قد يفرط في أمور يظنها من التقوى وليست منها، وقد يتسامح في أمور يظنها من التقوى وليست منها أيضا، بل قد تؤدي لما يحذر منه كمن يعطي ماله لسفيه أو يدين غيره بلا سند ولا شهود مع القدرة عليها، إذ ليس من الدين تفريط المرء في حفظ ماله إذ يعرضه لضياعه ومن ترك أمرا من أمور الدين أحوجه الله إليه، ولهذا أوجب الشارع الحجر

على الإنسان في الأحوال المارة الذكر في الآية السابقة، لأن الدين يأمر باتخاذ الوسائل لصيانة المال كما يأمره باتخاذها لصيانة النفس، ولهذا وضع الله تعالى أسسا للتعامل لانتظام معاملة الناس فالتوثق بها خير ضمان لمصلحة العامة. والحكم الشرعي في المداينات ما ذكرناه في تضاعيف تفسير الآيتين المارتين، ويفهم منها أن تصرف السفيه والمجنون وغير كامل التمييز غير مقبول شرعا، وأن إقرار الولي والوصي والقيم يعتبر عمن هو تحت الولاية والوصاية، لأنه محجور شرعا عن التصرف بماله ولا تعتبر عقوده، لأنه بحكم القاصر، ويعلم قوله تعالى (مِنْ رِجالِكُمْ) اشتراط كون الشاهد في الحقوق مسلما على مثله والكافر على مثله، بخلاف الجنايات فإنها تقبل فيها شهادة غير المسلم على المسلم، وقد رجم صلّى الله عليه وسلم يهوديا بشهادة يهود عليه في الزنى، وأن يكون العاقد حرا لأن العبد لا يملك عقود المداينات، وترمي إلى أن لا يكتفى بشاهد واحد، أما ما جاء بالاكتفاء بشاهد ويمين فهو مما لم يذكره الله تعالى في كتابه، ولهذا قال (وَامْرَأَتانِ) أي في حال عدم وجود رجلين، وقال بالائتمان عند عدم وجود الشاهد والكاتب والرهن، وان قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي يثبت عند الشافعي رحمه الله ومالك وأحمد بشاهد ويمين، فهو من خصوصياته إذا تحقق ثبوته. قال تعالى «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا في تضاعيف ملكه بجميع الكائنات، وإذا علمتم ذلك فإن قوله جل قوله «وَإِنْ تُبْدُوا» أيها الملوان الذين فيهما «ما فِي أَنْفُسِكُمْ» فتظهروه ليطلع عليه بعضكم فيمدحوكم على الخير أو يذموكم على الشر علنا أو جهرا «أَوْ تُخْفُوهُ» لئلا يطلع عليه أحد، فهو معلوم ومدون عنده في لوحه قبل خلقكم، ولذلك فإنكم يوم تحشرون إليه «يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» أظهر الاسم الكريم مع تقدم ذكره لإدخال الروعة والمهابة في قلوب عباده، أي أنه يحاسبكم عليه خيرا كان أو شرا، وقد عنون عن العمل بقوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) لأن العمل مسبوق بالعزم وهو من النفس.

مطلب المحاسبة غير المعاقبة ومعنى الخطأ والنسيان والهم والطاقة والإصر وغيرهما:

مطلب المحاسبة غير المعاقبة ومعنى الخطأ والنسيان والهمّ والطاقة والإصر وغيرهما: ومن رحمته بكم لم يقل يعاقبكم أو يؤاخذكم، لأن المحاسبة عبارة عن المعاتبة وتعريف الشخص بأن الله تعالى مطلع على سره وخواطر نفسه وضمائر قلبه، فضلا عما يفعله جهارا ويقوله علنا، وبعد أن يطلع عبده على ذلك يغفره له بمقتضى فضله كما يعذب عبده على ما يبديه إن شاء يحكم عدله. يدل على هذا ما رواه صفوان ابن محرز المازني قال: بينما عمر يطوف إذ عرض له رجل، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النجوى، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول أعرف ربي أعرف مرتين، فيقول الله سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسابه، وأما الآخرون، وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين- أخرجاه في الصحيحين-. وان حديث اهمّ المقدم ذكره في الآية 84 من سورة القصص في ج 1 يؤيد هذا لأن إخفاء ما في النفس عبارة عما يحدث في القلب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت نفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا. ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة، لأنها خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما بيناه في بحث النسخ في المقدمة وعند كل بادرة، وحجة من قال بنسخها هو ما رواه أبو هريرة من أن هذه الآية لما نزلت على رسول اشتد ذلك على أصحابه وقالوا كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والصدقة، وقد أنزلت هذه الآية ولا نطيقها، فقال أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، فأنزل الله في أثرها «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) » كامل القدرة بالغ المغفرة يغفر للمؤمنين بفضله ويعذب الكافرين بعدله. قال تعالى «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» آمنوا بما آمن به رسولهم «كُلٌّ منهم «آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ» نحن معاشر

المؤمنين «بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» كما فعل من قبلنا إذ آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما أشرنا إليه في الآية 85 المارة، بل نؤمن بجميع الأنبياء والرسل وما أنزل الله عليهم من صحف وكتب وما ذكروه لنا عن ربهم وآمنوا به إيمانا خالصا «وَقالُوا» هؤلاء المؤمنون «سَمِعْنا» قول ربنا «وَأَطَعْنا» أمره نطلب «غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ» نعلم بأنه «إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) » في الآخرة فأحسن مآبنا إليك، ثم أنزل بعدها «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» قدرتها وطاقتها، فخرج هنا حديث النفس والوسوسة، لأنهما خارجان عن الوسع فهما خارجان عن التكليف، لأن دفعها فوق الطاقة، وفي المؤاخذة عليها حرج، وقد قال تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية 77 من سورة الحج الآتية، والله أكرم من أن يتعبدنا بما لا نطيق، وأجلّ من أن يضيق علينا في الدين، وهذا لا يكون حجة في دعوى النسخ لما ذكرنا، ولأن الله لم يرتب عليه عقابا ليخففه في هذه الآية، وعلى فرض صحة حديث أبي هريرة فإن الأصحاب الذين راجعوا حضرة الرسول هم من عوام الصحابة أمثاله، ولهذا خاطبهم صلّى الله عليه وسلم بقوله (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) أي الآية 93 المارة، ولأنهم ظنوا أن الله يعاقبهم على ما يخطر بقلوبهم، ولذلك قالوا «لَها» أي لكل نفس ثواب «ما كَسَبَتْ» من أعمال الخير «وَعَلَيْها» وزر «مَا اكْتَسَبَتْ» من أفعال الشر، ثم علّم الله تعالى عباده كيف يدعونه بقوله قولوا «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» أمرا من أمورك أو نهيا من نواهيك، لأنا لا تخلو من أحدهما فاغفر لنا تقصيرنا في هاتين الحالتين أيضا زيادة عما تحدثه نفوسنا، فإنك واسع المغفرة بالغ الرحمة. هذا وقد قال العلماء إن التصور إذا وصل حد التصميم والعزم يؤاخذ عليه الإنسان لقوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية 255 المارة لأن هذا من الكيفيّات النفسانية التي تلحق بالملكات بخلاف سائر ما يحدث بالنفس وعليه قوله: مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

واعلم أن هؤلاء لو كانوا من خواص الصحابة لما خطر لهم ذلك ولعرفوا المغزى من قوله تعالى (يُحاسِبْكُمْ) ولم يثقل عليهم ذلك هذا وليعلم أن النسيان ضد التذكر والخطأ ضد العمد ولما كان التحرز عنهما ممكنا وأنهما إنما ينشآن من التفريط وقلة المبالات ونحوهما مما يدخل تحت التكليف جازت المؤاخذة عليهما ولولا هذا لما كان لسؤال عدم المؤاخذة عنهما معنى إلا أنه تعالى خفف عن هذه الأمة فرفع عنها المؤاخذة بهما بما ألهمهما من هذا الدعاء، وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ولفظ رفع يشير إلى ذلك، ويفهم من هذه الآية والحديث أن الأمم السالفة كانت تؤاخذ بهما وأن عدم المؤاخذة بهما من خصائص هذه الأمة، يدل على هذا ما قيل إن بني إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا فيما نهوا عنه عجلت لهم العقوبة فيخرم الله عليهم بها شيئا مما كان حلالا لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم على شيء من ذلك، قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية 185 المارة، وعلى هذا فإن ما يصدر من التفريط وقلة المبالاة وسبق اللسان يدخل تحت العسر ويوشك أن لا يؤاخذنا الله عليه برحمته «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» فلم يقدروا على الوفاء به فعذبتهم عليه، والإصر هو العهد والميثاق الثقيلان الغليظان مثل قتل النفس لأجل قبول التوبة، وقطع العضو المخطئ وطرف الثوب للنجاسة وأداء ربع المال في الزكاة، والفضيحة بالذنب إذ يجدها المذنب مكتوبة على باب داره وغيرها من التكاليف الشاقة التي ابتلى الله بها اليهود لسوء أعمالهم، لأننا لا نستطيع تحملها لما ترى من ضعفنا «رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» من أمثال تلك الأشياء، «وَاعْفُ عَنَّا» ما سبق من كبائر ذنوبنا وامحها عنا بفضلك «وَاغْفِرْ لَنا» صغائرها وما وقع منا سهوا وخطأ ونسيانا وإكراها برأفتك، ولا تفضحنا بشيء فعلناه «وَارْحَمْنا» رحمة عامة شاملة تطهر قلوبنا بها من وساوس الشيطان وخطرات النفس وحديث القلب وما يحوك في الصدر، ونجنا من عقابك وعذابك وعتابك. وهذه الثلاثة بمقابل الثلاثة قبلها، وفي معناها قيل:

أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي ... هو راحم هو غافر هو عافي قابلتهن ثلاثة بثلاثة ... وستغلبن أوصافه أوصافي «أَنْتَ مَوْلانا» وناصرنا ومؤيدنا لا مولى لنا غيرك ولا عمدة لنا سواك «فَانْصُرْنا» بفضلك ولطفك وكرمك «عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) » أعدائك وأعدائنا المناوئين لرسولك الجاحدين كتابك. قال أبو هريرة قال ابن عباس في حديث طويل يرويه عنه مسلم في هذه الآية قال تعالى قد غفرت لكم ولا أؤاخذكم ولا أحمل عليكم ولا أحملكم إصرا، قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم. واعلم أيها العبد أن الله تعالى لو لم يرد إجابة الدعاء ما علمه عباده، وفيه قيل: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتني الطلبا فاغتنم هذا وتبتل إلى ربك صباح مساء، واسأله فإنه جواد كريم، لأن هذه الآية تدل صراحة على جواز غفران الذنوب لأصحاب الكبائر من المؤمنين، فكن عظيم الثقة بالله دائم الاستعانة به، كثير الرجاء، فإنه عند ظن عبده. روى البخاري ومسلم عن بن مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه، أي من كل ما يحذر منه ومن كل هامة وشيطان، فلا يقربه تلك الليلة شيء وقيل إذا قرئ على المصروع أربع آيات من أول البقرة إلى المفلحون وثلاث من وسطها آية الكرسي والآيتان بعدها وثلاث من آخرها من (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلى آخر السورة برىء بإذن الله تعالى، وهو من المجرب إذا صحت النية والعقيدة وطهرت النفس، لأن لآيات الله تعالى في مثل هذه الأمراض تأثيرا شديدا، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا في تفسير الآية 82 من سورة الإسراء ج 1. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها، قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال فراش من ذهب، قال فأعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثا، أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقتحمات أي الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار. وأصل الاقتحام الولوج. وروى مسلم

تفسير سورة الأنفال عدد 2 و 98 و 8

عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال هذا باب من السماء قد فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. وقدمنا أول هذه السورة من الأحاديث ما يؤكد فضلها ويؤيد نفعها، فلا بدع إن شفى الله ببركتها المصروع وغيره، وقد ختم الله هذه السورة الجليلة بمعنى ما بدأه بها من صفات المؤمنين الفاضلة، وجل صنوف الأحكام والشرائع والمواعظ والحكم في تضاعيفها حسبما قضته حكمته البالغة من سنن وقواعد تربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالغايات، وبين فيها ما يجعل النفس البشر قادرة على التصرف في كثير من مخلوقاته لتستفيد من القوى التي وهبها لها ومما سخر لها من الحيوان والمعادن لتتمكن من أداء مهمتها في الأرض وإعمارها. هذا ويوجد سورة المؤمن المارة في ج 2 مختومة بما ختمت به هذه السورة فقط. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الأنفال عدد 2 و 98 و 8 نزلت بالمدينة بعد سورة البقرة عدا الآيات من 30 إلى 36 فإنها نزلت بمكة. وهي خمس وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانون حرفا. لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به هذه السورة في القرآن العظيم، ويوجد سورتان مختومة بما ختمت به النساء والنور، ومثلها في عدد الآي سورة الزمر فقط. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى يا سيد الرسل إن قومك «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» هي غنائم الحرب «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» لا يحكم بتقسيمها أو تخصيصها أحد غيرهما «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها المؤمنون، ولا تختلفوا فيها أو تتخاصموا من أجلها، بل اتركوها لمن وهبها لكم وفوضوا الأمر فيها لله

والرسول «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» واتركوا الشقاق وكونوا متآخين مجتمعين على كلمة الحق بينكم أنفسكم وبينكم وبين ربكم ولا تستبدوا بشيء أبدا حتى يقضى لكم فيه «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 1» بهما إيمانا صحيحا كاملا في القول والفعل والنية. مطلب في الأنفال وكون الإيمان يزيد وينقص وقصة بدر ورؤيا عاتكة وتعهد الشيطان: واعلم أن سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، فأعجبني، فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت إن الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض (أي مجمع الغنائم المسماة بالأنفال جمع نفل) فطرحته وفي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وانه قد صار لي فاذهب فخذه- أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح- وأخرجه مسلم في حديث طويل قال: فأخذته وذهب ما كان يحوك في صدري، وعلمت أن حضرة الرسول لم يمنعه مني لأمر آخر، وإنما أراد قضاء الله في ذلك وغيره. ومن الطاعة أن لا يقول الرجل لولي أمره في شيء فعله لم فعلته، ولا في شيء لم يفعله لم لا تفعله أبدا. وليعلم بأنه أعم بما يفعل وبما لا يفعل، وما تؤول إليه العاقبة وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلّى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا، فأما الشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت الشيخة للشبان أشركونا معكم فإنا كنا رداءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت. واخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وغيرهم عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، فساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول

الله. وهذا أولى بأن يكون سببا للنزول، لأنه لو لم يكن اختلاف وتخاصم في النفل لما وقع السؤال عنه، ولما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) إذ لا حاجة إلى التحذير والأمر بالصلح بعد الجواب. وقد جاءت روايات متعددة بشأن السيف المذكور على خلاف ما جاء في حديث سعد، ولذلك قالوا إنه أي الحديث الذي رواه سعد المار ذكره مضطرب، لأن البخاري أخرج في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنقلان، فوجدا سيفا ملقى، فخرا عليه جميعا، فقال سعد هو لي، وقال الأنصاري هو لي، لا أسلمه حتى آتي رسول الله، فأتياه فقصّا عليه القصة، فقال عليه الصلاة والسلام ليس لك يا سعد، ولا للأنصاري، ولكنه لي، فنزلت. وأخرج عبد ابن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه وغيرهم عن سعد أنه قال أصاب رسول الله غنيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله فقلت نفلني هذا السيف، فأنا من علمت، فقال ردّه من حيث أخذته، فرجعت به حتى أردت أن ألقيه في القبض لا متني نفسي، فرجعت إليه فقلت أعطنيه، فشد لي صوته وقال ردّه من حيث أخذته، فأنزل الله هذه الآية. فالاختلاف في هذه الروايات ينفي الاعتماد على ذلك، وسياق الآية يوافق رواية ابن عباس والعمدة عليها لا على ما رواه سعد والحادثة وقعت بعد الرجوع من بدر ويؤكدها جمع الغنائم وجعلها في القبض ثم تقسيمها بمعرفة الرسول على المسلمين، ويدل عليها حديث عبادة بن الصامت المار ذكره. والنفل هو ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم، كان يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب من قتل قتيلا فله سلبه، أو يقول لسرية ما أصبتم فهو لكم أو نصفه أو ربعه، وهذا لا يخمس، إذ يلزم الإمام الوفاء بوعده وهو مما يزيد في عزم المجاهد وحزمه وتقدمه لكل سرية، لأنه إذا علم أن ما يصيبه يكون له يزداد رغبة في لقاء الأعداء وهمة ونشاطا في خوض الحرب زيادة على رغبته في إعلاء كلمة الله وطاعة رسوله والشهادة في الآخرة. واعلم أن استباحة الغنائم من خصائص هذه الأمة، لأنها كانت حراما على من قبلها فتكون شريعة هذه الأمة ناسخة لشرائع من قبلها من الأنبياء ومخصصة لآية الخمس الآتية، وهي محكمة غير منسوخة بها كما قال عبد الرحمن

ابن زيد قول لابن عباس، وعلى هذا فإن معناها أن الغنائم لله ورسوله يضعها حيث يشاء، وقد بين الله تعالى مصارف الغنائم في آية الخمس بدليل ما صح من حديث بن عمر: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سرية فغنمنا إبلا فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا وفضّلنا بعيرا. - أخرجاه في الصحيحين- وعليه فإن للإمام أن ينفل ما شاء بما يشاء ولمن شاء قبل التخميس، وإن حادثة بدر هذه أول حادثة وقعت بين حضرة الرسول نفسه وأصحابه وبين مشركي العرب من أهل مكة، وهي أول حرب شهدها حضرة الرسول. قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» خافت وضعفت هيبة لجلال ربهم واستعظاما لعزة سلطانه «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» ويقينا وطمأنينة تفيد هذه الآية أن الإيمان يزيد وينقص وهو ما اعتمدته قبلا وذكرت أن الخلاف فيه بين الأشاعرة والماتريدية لفظي، لأن الإيمان من حيث هو إيمان لا يزيد ولا ينقص، ومن حيث الأعمال فلا شك أنه يقبل الزيادة ويتعرض للنقصان، لأن ذا الأعمال الصالحة أكمل إيمانا من غيره، فإذا كان الإيمان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان واعتقادا بالجنان فمن هذه الحيثية لا يزيد ولا ينقص، وإذا كان مع ذلك عملا بالأركان وفعلا بالجوارح فإنه يزيد وينقص حتما، وإذا قبل الزيادة فإنه يقبل النقص، فلا وجه لقول من يقول إنه يقبل الزيادة فقط. ولهذا أجاز الشافعي للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وأوجب أبو حنيفة أن يقول: أنا مؤمن حقا وأن من وصل الاستثناء في هذه الجملة فهو مشرك في إيمانه، وقدمنا في الآية 5 من سورة البقرة المارة ما يتعلق في هذا البحث بصورة واضحة، وله صلة في الآية 125 من سورة التوبة الآتية فراجعها. ثم زاد في وصف أولئك المؤمنين فقال «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (2) في أمورهم فلا يخشون ولا يرهبون غيره، ولا يعتمدون إلا عليه. هذا، ولما كان الخوف والرجاء والخضوع والخشية عند ذكر الله تعالى وزيادة الإيمان واليقين عند تلاوة القرآن والتوكل على الله والتفويض إليه عند العزم على الأعمال والأفعال، وهذه كلها من أعمال القلوب، وهي من كنوز البر التي عدها الإمام الشافعي رحمه الله في قوله:

يا من تعزز بالدنيا وزينتها ... والدهر يأتي على المبنيّ والباني ومن يكن عزّه الدنيا وزينتها ... فعزّه عن قليل زائل فاني واعلم بأن كنوز الأرض من ذهب ... فاجعل كنوزك من برّ وإحسان ثم أتبعها بما هو من أعمال الجوارح فقال جل قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» بأوقاتها مكملين شروطها وأركانها «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) » في وجوه البر والقربات «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الخمس الحسيّة والمعنوية «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» وصدقا الكاملو الإيمان قولا فعلا «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في جنته العالية على حسب كمال إيمانهم وصلاح أعمالهم «وَمَغْفِرَةٌ» لذنوبهم بأن يبقيها مستورة في الدنيا فيما بينه وبينهم ولا يفضحهم عليها بالآخرة كرما منه، ولا يؤاخذهم بها «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) » لهم في مقعد صدق لا يكدره كد الكسب وهم المعيشة، ولا يشوبه خوف الحساب، ولا يعتريه توهم الفقر، ولا يتطرق إليه مظنة النفاد، الملازمات لرزق الدنيا. وان ما ذكر هو للمؤمنين بالآخرة حق لا مرية فيه «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ» من المدينة إلى بدر إخراجا «بِالْحَقِّ» الوحي إليك من لدنه. وهذه الآية هي المشيرة إلى غزوة بدر التي وعد الله بها رسوله النصر، وهي مرتبطة بالآية الأولى من هذه السورة، وما بينهما من الآيات معترضات فهي من باب المقدم والمؤخر «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بك وبربك وكتابك من أصحابك «لَكارِهُونَ (5) » خروجهم معك لقتال أعدائك الكافرين بسبب قلة عددهم وعددهم، ولم يعلموا أن الذي أخرجك من بيتك ما أخرجك إلا ليجعل النصر حليفك والظفر قرينك «يُجادِلُونَكَ» كراهية القتال، لأنهم لم يتمرنوا عليه، ويتصورون بأنفسهم أنك لم تدرب على القتال أيضا، لأنهم لم يعهدوك قاتلت قبل، وإن جدالهم لك «فِي الْحَقِّ» الذي أمرناك به «بَعْدَ ما تَبَيَّنَ» لهم أنك لا تعمل شيئا من نفسك لا يليق بهم بعد ما رأوا من صدقك وعدم استدراك شيء من عندك، وتراهم وهم سائرون معك «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) » الموت بأعينهم، شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يقدم للقتل وهو ينظر إلى دواعيه ويعلم أنه ميت، ولا أبلغ من هذا

التشبيه أبدا «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك نتيجة ما هم كارهون الذهاب إليه مقدما، ليطمئنوا ويسكن فزعهم، وقل لهم «إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ» في غزوتكم هذه التي أنتم كارهون الذهاب إليها «إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» طائفة أبي سفيان مع العير أو طائفة أبي جهل مع النفير «أَنَّها لَكُمْ» وان الله يعلمه أيهما تختارون «وَتَوَدُّونَ» أيها المؤمنون المتقاعون عن الذهاب مع رسولكم «أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ» أي طائفة أبي سفيان والعير «تَكُونُ لَكُمْ» إذ لا سلاح فيها ولا قتال، لأنكم تجنحون إلى سفساف الأمور طلبا للفائدة العاجلة «وَيُرِيدُ اللَّهُ» لكم طائفة أبي جهل والنفير لتقاتلوهم وتكسروا شوكنهم، لأن الله يختار لكم معالي الأمور من النصر وعلو الكلمة ليعلي شأنكم «أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» التي سبقت بوعد النصر إلى رسوله والظفر بأعدائه «وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» (7) ويهلكهم فلا يبقي لهم شأنا، ويريد أيضا «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ» فيمحقه ويدحضه فيمحو الكفر ويظهر الإسلام ويثبته «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) » ذلك وهو كائن لا محالة رغم أنوفهم. قال ابن عباس وغيره في سبب نزول هذه الآيات: إن أبا سفيان أقبل من الشام في أربعين راكبا من قريش ومعهم تجارة كبيرة، وقد أخبر الله بهم نبيه صلّى الله عليه وسلم، فانتدب لهم أصحابه، فخف بعضهم وثقل بعضهم لظنهم أنه لم يلق حربا بعد، ولم يعلموا أن الله تعالى علمه كل شيء، كما ظهر لهم بعد، فسمع أبو سفيان بمقدم الرسول وأصحابه، فأرسل قمقما بن غراز الغفاري ليستفز أهل مكة ويخبرهم الخبر، فرأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا قصتها على أخيها العباس وهي أنها رأت راكبا وقف بالأبطح وصرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا غدر إلى مصارعكم في ثلاث، وان الناس اجتمعت اليه ودخلوا المسجد ثم صرخ ذلك الصارخ من أعلى الكعبة وعلى رأس أبي قبيس بما صرخ به أولا، وأرسل صخرة أرفضت بأسفل الجبل لم يبق بيت إلا دخله فلقة منها، فقال اكتمها انها لفضيلة، وذكرها للوليد بن عتبة، واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه وفشت في قريش، وكل سرّ جاوز الاثنين شاع، أي خرج من الشفتين، إذ في كتمانه بقاؤه في القلب، وقيل جاوز الرجلين وليس بشيء لأنه إذا جاوز

صاحبه فشا فكيف بغيره، راجع الآية 7 من سورة الروم ج 2، قالوا ثم بينما العباس يطوف بالبيت استدعاه أبو جهل بن هشام فقال له يا بني عبد المطلب ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، سنتربص هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة في رؤياها، فإن كانت حقا فيكون، وإلا سنكتب كتابا بأنكم أكذب أهل بيت في العرب، ولما لم يرد عليه العباس جاءه نساء بن المطلب وقلن له أقررت لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء، ولم يكن عندك غيره، فذهب في اليوم الثالث وأقسم ليتعرضنّه، ودخل المسجد وأراد أن يمر عليه، فإذا هو يسمع صوت قمقم يصيح يا معشر قريش اللطيمة تعرض محمد لأموالكم، ولا أرى أنكم تدر كونها الغوث الغوث، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه، وهذه من شأن المستغيث المستهلك علامة عندهم على صدق أخباره، قال فشغل عني وتجهز أشراف قريش إلا أبا لهب أرسل عنه العاص بن هشام بن المغيرة، وقد اجتمعت للسير، ثم ذكرت بعضها ما بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحروب، وخافت أن تخلفهم على أموالهم ونسائهم، فتصوّر لهم الشيطان بصورة سراقة بن مالك بن خشعم من أشراف بني بكر، وقال لهم إني جار لكم من كنانة كما سيقصه الله بعد في الآية 47 من هذه السورة، وخرجوا مسرعين، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأصحابه لليال مضت من رمضان، وأتاه الخبر بمسير قريش، فأرسل العيون ثم نزل عليه جبريل في هذه الآية وما بعدها، فاستشار أصحابه إلى أيهما يمضي أللعير أم للنفير، فقال أبو بكر وعمرو المقداد، امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، ولا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغمار (مدينة بالحبشة) لجادلنا معك من دونه حتى نبلغه. فدعا لهم بخير، ثم قال أشيروا علي أيها الناس، فقال سعد بن معاذ كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل (وذلك أنه لم ير على الأنصار وجوب نصرته خارج بلادهم ولم يعاهدهم أو يعاهدونه على ذلك، فأحب أن يختبرهم، لأن مبايعته لهم كانت مختصرة على ما يقع عليه في ديارهم) ، قال امض لما أمرت به يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد، وإنا

لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء ولعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك، فسرّ بذلك وساروا على بركه الله. روى مسلم عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب حدثه عن أهل بدر، قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول الله لهم. قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا، فقال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا راجع الآية 22 من سورة فاطر في ج 1 والآية 46 من سورة المؤمن في ج 2 تجد ما يتعلق في هذا البحث. قال تعالى «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» في قتال بدر. وقد خاطبه الله تعالى بلفظ الجمع تعظيما لحضرته. روى مسلم عن ابن عباس، قال حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه يقول اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأتاه أبو بكر فأخذ بردائه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك إن شاء، فأنزل عليه «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) » غيرهم وراءهم مثلهم أو أكثر، لأن الردف أغلبه واحد، وقد يكون اثنين عند البشر، أما الملائكة فلا تحديد لردفهم. واعلموا أيها المؤمنون أن هذا الإمداد ما كان «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» لكم بالنصر والظفر «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» هيئه وأرسله إليكم «وَمَا النَّصْرُ» في الحقيقة لكم «إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لا من الملائكة ولا من غيرهم وإنه لو لم يرسلهم لنصركم بأمر من عنده

[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 إلى 20]

تحقيقا لوعده، وما كان إمدادكم بهم للنصر، وإنما هو للاطمئنان والبشارة فقط «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» منيع الجانب قوي غالب لا يقهره شيء «حَكِيمٌ (10) » في تدبيره ونصره لأوليائه على أعدائه. روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يوم بدر (بعد ما ناشد ربه) هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب. قال ابن عباس كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين عمائم خضر، ولم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا. واذكر يا محمد لقومك أيضا «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» من الله لكم من عدوكم طمأنينة لقلوبكم ورأفة لأنفسكم وإزالة لرعبكم إذ كنتم في سهر من خوف عدوكم، وهذه نعمة عظيمة، لأن وقوعه في الحرب أمر خارق للعادة، لأن زمن الحرب وقت رهبة وخشية لا يتصور فيه حدوث النوم «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» ويطفىء غبار الأرض ويلبدها، وذلك أن المشركين سبقوهم إلى بدر ونزلوا عليه، ونزل المسلمون على كثيب رمل ولا ماء عندهم، وأصبحوا لا يجدون ما يشربون ولا ما يتوضئون ويغتسلون به، فلما أرسل لهم المطر طابت نفوسهم واستدلوا بهذه النعمة الثانية على أن الله تعالى ناصرهم على عدوهم «وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ» ثقله الحاصل على أثر انتباهكم من النوم ووسوسته التي ألقاها في قلوب بعضكم من أنه لو كنتم أولياءه لما غلبكم المشركون على الماء. وقال بعض المفسرين انهم كانوا مجتبين بدليل التشديد في قوله (لِيُطَهِّرَكُمْ) إذ يطلق غالبا على المبالغة في الطهارة ويراد بها الجنب، ولكن التفسير الأول أولى لأنه يشمل الجنب وغيره «وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ» برباط الصبر حتى لا يدخلها الجزع، والربط هو الشد فكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه «وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) » لئلا تسوخ في الرمل فضلا عن تلبده وتقويته ومنع الغبار من الأرض، وأذكر أيضا «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ» بالنصر والمعونة والهيبة والهداية والروعة والدهشة في قلوب الأعداء «فَثَبِّتُوا» أيها الملائكة وقروا قلوب «الَّذِينَ آمَنُوا» بتكثير سوادهم وقتال أعدائهم، ولا ترعووا فإني «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» منكم والخوف

في قلوبهم، ولما لم تعرف الملائكة كيفية القتل علمهم الله تعالى بقوله «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ» أي رءوس المشركين «وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) » الأطراف والمفاصل، وأصل البنان رءوس الأصابع ولكنها تطلق على ما ذكر من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وخصت بالذكر لأن الفارس يمسك بها سلاحه ويقاتل بها، ومن قال إن الضمير في (فَاضْرِبُوا) يعود للمؤمنين فلا يكاد يصح لما فيه من البعد ومخالفتة سياق التنزيل ومغايرته للخطاب في سياق الآية وسياقها، ومما يؤيد هذا ما قاله ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يومئذ (يوم بدر) يشتد (يعدو من عدا إذا أسرع) في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم، إذا نظر إلى المشرك أمامه خرّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السيف، فأحصى ذلك أجمع، وجاء فحدث بذلك رسول الله، قال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة، فنصرهم الله نصرا مؤزرا، وقتلوا سبعين، وأسروا سبعين مثلهم من المشركين، وهذا القتل والأسر يعد كثيرا جدا بالنسبة لذلك الزمن وعدده وعدده، وانتهت المعركة بهذا وأعز الله جنده، وصدق وعده ونصر عبده. وما روي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن قد قتله غيري. وما روي عن سهل بن الأحنف قال: لقد رأيتنا يوم بدر وان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو ابن سلمة، وكان رجلا مجموعا، وكان العباس جسيما، فقال صلّى الله عليه وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم. لِكَ» الذي وقع لكم من النصر والظفر أيها المؤمنونِ أَنَّهُمْ» أي المشركينَ اقُّوا» خالفوا وجادلوا وخاصمواللَّهَ وَرَسُولَهُ» وجانبوهما وصاروا في شق عنهماَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ» القادر من إيقاع القهر والانتقامَ رَسُولَهُ» المؤيد من لدنه بالنصر والإحكامَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) » لهذا المخالف في الدنيا والآخرة وهو صعب الأخذ (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) راجع الآية 103 من سورة هود في ج 2. هذا، وليعلم

أن ما أصابهم من القتل والأمر والنهب والسبي ليس بشيء بالنسبة لما خبىء إليهم من العذاب «ذلِكُمْ» الذي أصابكم من الغلب والاندحار «فَذُوقُوهُ» معجلا لكم أيها المشركون «وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ» منكم الذين يموتون على كفرهم عذاب أشد وأقسى وأعظم وهو «عَذابَ النَّارِ» (14) في الآخرة التي لا تقواها القوى البشرية. ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم من حادثة بدر قيل له إذ وفقك الله على النفير فعليك بالبعير إذ تركت وليس دونها أحد، قال قتادة فناداه العباس من وثاقه لا يصلح لك، لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك، قال صدقت- أخرجه الترمذي-. وكانت هذه الحادثة يوم الجمعة في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً» قادمين عليكم، والزحف انبعاث مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي (وتقول العامة يحبو) وسمي به الجيش الدّهم المتوجه إلى العدو لتكاثفه، فيرى لكثرته كأنه يزحف زحفا إذ يكون كالجسم الواحد في تراصه، فيظن رائيه أنه بطيء الحركة مع أنه مسرع، انظر إلى فلكة المهواية ودواليب المحركات وصدور الرحى وكل متناه في السرعة تراه كأنه واقفا، قال تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الآية 88 من سورة النمل في ج 1، وقيل في المعنى: وأرعن مثل الطود تحسب أنه ... وقوف لجاج والركاب تهملج أي إذا رأيتم أيها المؤمنون أعداءكم مقبلين عليكم على هذه الصورة فاستقبلوهم بصدوركم «فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) » فتنهزمون أمامهم وتعطونهم ظهوركم فإنهم يستخفونكم ويلحقونكم فيدركونكم ويستأصلونكم، ثم هدد الله تعالى الهارب من عدوه على هذه الصفة بقوله «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» ظهره فرارا منهم يوم الزحف واشتداد المعركة «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» بأن يري عدوه الانهزام بقصد الكرة عليه أو يستدرجه فيطوقه من ورائه أو ينوي ضربا آخر من ضروب الحرب ومكايده وخدعه، لأن الحرب خدعة يجوز فيه ما لا يجوز في غيره، لأنه بعد أن استحل فيه سفك الدماء فلأن يحل فيه غيره من باب أولى.

ثم ذكر جل شأنه عذرا آخر في جواز الانسحاب إلى الوراء في اشتداد أزمة الحرب فقال «أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ» بقصد الانضمام إلى جماعة يريدون الهجوم على العدو من جهة أخرى، أو يريدون قتاله من مكان آخر، أو يريد أن يجابه العدو مع تلك الجماعة، أو بضرب آخر من فنون الحرب التي يراها، فهاتان الحالتان وما يتفرع عنهما جائز فيهما وفيما يراه من الطرق الأخرى التقهقر والهروب صنيعة بل هما مطلوبتان لما فيهما من النفع ومثاب عليهما فاعلهما، أما إذا كان انهزامه لمجرد الخوف والرهبة «فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» والعياذ بالله، فإنه يرجع بالذم في الدنيا والعقاب في الآخرة بدل المدح والسعادة في الدنيا والشهادة والرضاء في الآخرة، لأن فعله هذا يكسر معنويات الجيش ويقوي جنان العدو فيسبب الذل والهوان والخزي والعار في الدنيا «وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ» في الآخرة «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) » مصير أهلها ولما نصر الله عباده في واقعة بدر وكان ثابتا في علمه أنهم سيلاقون حروبا أخرى، وانها قد تكون سجالا بينهم (أي لهم وعليهم) فقد حثهم في هذه الآية على الثبات وحذرهم من الهزيمة، وهذه الآية محكمة وحكمها عام في كل منهزم إلى يوم القيامة لأنها مصدرة بخطاب المؤمنين ومطلقة باقية على إطلاقها لم تخصص ولم تقيد، وقد جاء في الحديث الصحيح أن الفرار من الزحف من السبع الموبقات التي أمر الرسول باجتنابها، وما قيل إنها منسوخة بآية (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) قيل لا صحة له، لأن هذه الآية مقيدة ومخصصة للتي قبلها كما سيأتي، ثم ان المؤمنين بعد أن عادوا من بدر واستقروا في المدينة صاروا يتفاخرون بينهم مثل عادة الكفرة، هذا يقول قتلت فلانا، وهذا يقول أسرت فلانا، وهذا يقول رميت فلانا، فأنزل الله ردّا لهم كلهم «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ» لا أنتم، لأنه هو الفاعل الحقيقي، وهو الذي أمدكم بملائكته وأمركم بقتالهم وتعهد لكم بالنصر، ولو ترككم وشأنكم لما قاتلتم ولا قتلتم وكان جبريل عليه السلام قال لحضرة الرسول أثناء اللقاء خذ قبضة من تراب وارم بها الكفرة ففعل وقال شاهت الوجوه (يعني قبحت) فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه من ذلك التراب وسبب انهزام المشركين فأنزل الله «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ»

المشركين بقبضة التراب «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» إذ أمر الريح بإيصاله لكل منهم، وهو الذي أمر جبريل أن يقول لك ذلك فهو المسبب الحقيقي لإصابة رميتك وجوه الكفار كافة حتى دخل أعينهم ومناخرهم، لأنك لا تقدر على ذلك، وإنما كنت سببا ظاهرا، وإذا كان الله تعالى يقول لحبيبه بأنه لم يرم وإنما الرامي هو جل جلاله، فلأن لا يفتخر أصحابه بما وقع منهم في هذه الحرب من قتل وأسر ونهب ورمي وسلب من باب أولى، لأن الله هو الذي أقدرهم على ذلك فنصرهم وخيب أعداءهم «وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ» فينعمه عليهم «بَلاءً حَسَناً» جميلا وقد فسر عامة المفسرين هذا البلاء بالنعمة، ويجوز تفسيره بالاختبار، أي أنه اختبرهم بهذه الحادثة اختبارا حسنا فكانوا عنده كما هم في علمه «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولون أيها المؤمنون «عَلِيمٌ (17) » بما تضرونه لا يخفى عليه حالكم «ذلِكُمْ» البلاء الذي اختبركم الله به هو منه وحده «وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ» مضعف وما حق «كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) » ومبطل مكرهم وحيلهم. قالوا لما خرج المشركون لقتال بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم إن كان محمد على الحق فانصره، وإن كنا على الحق فانصرنا، وقال أبو جهل لما صار اللقاء اللهم أنصر أهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين، اللهم من كان أفجر واقطع لرحمه فأحنه (ألوه واكسره) اليوم. فأنزل الله «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» ، وهذا خطاب لهم على سبيل التهكم بهم، وقد مر أن ذكرنا أن الفتح بمعنى القضاء والحكم، أي أن تستحكموا الله على ما قلتم فقد جاءكم حكمه، فعليكم أن تتيقنوا أن محمدا أحق منكم وأوصل الرحم وأهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين هو وأصحابه، ولذلك فقد أجبت دعاءه وخيبتكم ونصرته عليكم، فآمنوا به وأطيعوه «وَإِنْ تَنْتَهُوا» من الآن عن الكفر بالله وتكذيب رسوله ومقاتلته «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم «وَإِنْ تَعُودُوا» لقتال رسولكم وتصروا على تكذيبه بعد أن شاهدتم كيفية نصرته عليكم وتوفيقه وتأييده من عند ربه، ولم ترجعوا عن الكفر وتؤمنوا به «نَعُدْ» لأمره ثانيا بقتالكم وننصره عليكم أيضا، وهكذا حتى تؤمنوا أو

[سورة الأنفال (8) : الآيات 21 إلى 30]

تقتلوا «وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ» وجماعتكم مهما كانت من الله «شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ» فإن الله تعالى عنده أكثر وأكثر مما ترون ومما لا ترون «وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) » لا يتخلى عنهم لأنهم أولياؤه، والله نعم الولي عليهم ونعم النصير. قال تعالي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فيما يأمركم به من الجهاد وغيره، وابذلوا أموالكم وأنفسكم في سبيله «وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ» وتعرضوا عما يأمركم به وتفعلوا ما ينهاكم عنه «وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) » أي لا تنصرفوا عنه بوجه من الوجوه وحال من الأحوال ما دمتم سامعين هذه الآيات الناطقة بوجوب الطاعة والنهي عن المخالفة، والواو في (وَأَنْتُمْ) للحال، «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا» بألسنتهم «سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) » سماع قول إجابة، لأن هذا الصنف من المنافقين المار ذكرهم في الآية 8 فما بعدها من البقرة فإنهم يقولون آمنا بألسنتهم وهم غير مؤمنين في قلوبهم. ثم ندّد جل شأنه عمّن هذه صفته فقال «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) » ما يراد بهم ولا يفهمون ما يطلب منهم، لأن من أشر من يدب على الأرض البهائم لعدم معرفتها بما يضرها وينفعها ومن هو لها ومن هو عليها ومن أشرها الذين لا يسمعون الحق ولا ينطقون به ولا يفقهون المعنى ولا يعون المغزى مما يخاطبون به «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ» أي هؤلاء المنعوتين بتلك الصفات الذميمة «خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» سماع قبول سماع المصدقين المحبين المنتفعين بحواسهم، لكنه تعالى لم يعلم الخير فيهم من قبل، ولهذا قال «وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ» بواسطة رسوله بعد أن علم أن لا خير فيهم وأنهم لم ينتفعوا بما يسمعون لأنهم خلقوا أشرارا ولا يتوخى منهم إلا الشر، ولذلك لو فرض إسماعهم «لَتَوَلَّوْا» عنه ولم يلتفتوا إليه «وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) » كأنهم لم يسمعوا شيئا، نزلت هاتان الآيتان في نفر من عبد الدار بن قصى كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد، وكانوا يقولون يا محمد أحيي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك، فأخبر الله تعالى أنهم لا يؤمنون، ولو أحيينا لهم قصيا وأمرهم بالإيمان بمحمد.

مطلب وجوب الاستجابة لدعوة الله ورسوله وآيات الصفات وعموم البلاء عند سكوت أهل الحل والعقد: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» بالانقياد والطاعة «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» حياة أبدية وهي الجهاد في سبيل الله والإيمان به والتصديق برسله وكتبه لأن في هذه الحياة العزة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وفي ترك الجهاد الذل والموت المعنوي الذي هو شر من الموت الحقيقي «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» فلا يستطيع أحد أن يؤمن أو يجرؤ على الجهاد أو ينفق ماله في سبيل الله، إلا بإذنه، أي قاتلوا وآمنوا فإنه تعالى يبدل خوفكم أمنا، وجبنكم جرأة وكفركم إيمانا وبخلكم جودا، لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواعي، ولا بد من أن تتقدمها الإرادة، ولا بد للإرادة من فاعل مختار، والفاعل المختار المتصرف في القلوب المقلّب لها كيف يشاء هو الله وحده. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم يقول في دعائه: اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك. وهذا من أحاديث الصفات فيجب على المؤمن أن يعتقد فيه كما جاء مع تنزيه الله تعالى عما هو من سمات الآدميين، لأن الله جلت قدرته ليس له جوارح كجوارحنا، وليس كمثله شيء أبدا، راجع الآية 210 من سورة البقرة المارة، ونظير صدر هذه الآية الآية 10 فما بعدها، من سورة الصف الآتية. فاعلموا أيها الناس هذا «وَ» اعلموا «أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) » غدا لا لغيره فمصير الكل إليه وهناك يجازى العاصي ويكافيء الطائع. قال تعالى «وَاتَّقُوا فِتْنَةً» عذابا عظيما وذنبا كبيرا وعملا فظيعا وداهية كبرى «لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» فلا تقتصر على الظالمين بل تتعداهم إلى غيرهم، لأن البلاء يعم والخير يخص، وذلك إذا أصر المنكر على إنكاره والمداهن على مداهنته والمنافق على نفاقه، ولم يأمر العالمون والأبرار بالمعروف وينهوا عن المنكر وسكتوا على تفريق الكلمة، ولم يقمعوا البدع والمحدثات المخالفة للشرع، وكسلوا عن الجهاد،

فيكونون راضين بذلك كله، والراضي بالشيء كفاعله، ولهذا يعمهم الله بعذابه. أخرج أبو داود وذكر ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها. وأخرج ابن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا. لأن سكوتهم مع القدرة رضى منهم أو تهاون بحدود الله، ولذلك هددهم الله بقوله «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) » إذا عاقب فاتقوا عقابه أيها الناس ولا تسكتوا على انتهاك حرماته ما قدرتم وتعاونوا على البر والتقوى بالفعل وعدم الرضى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان بالسكوت والرضى على المخالفات مهما استطعتم. روي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. راجع الآية 165 من الأعراف في ج 1 والآية 87 من سورة المائدة الآتية. قال تعالى «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ» أيها المؤمنون «مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ» من قبل كفار مكة وغيرهم قبل أن تهاجروا إلى المدينة ومن قبل أنتم وغيركم مستضعفون من قبل فارس والروم وكنتم سواء في الكفر، وبسبب ضعفكم كنتم «تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ» فيقتلونكم ويسبونكم «فَآواكُمْ» الله أولا إلى حرمه ثم إلى المدينة وأعزكم بالإسلام «وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ» على عدوكم «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» من غنائم الحرب لما فيها من اللذة القلبية وعلو الكلمة والكرامة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) » نعم الله فيزيدكم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَ» لا «تَخُونُوا أَماناتِكُمْ» التي اؤتمنتم عليها من قبل الغير قليلة كانت أو كثيرة، وسواء كانت فيما بينكم أنفسكم أو بين الناس وبين الله ورسوله لعموم اللفظ. وسبب نزول هذه الآية على أقوال منها ما أخرجه أبو الشيخ عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان لما خرج من مكة وقد أخبر جبريل بمخرجه رسول الله فقال إن أبا سفيان بمكان

كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا، فكتب رجل من المنافقين إليه بذلك فنزلت. وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من الرسول فيفشونه فنهوا عن ذلك بهذه الآية. مطلب فيما عدّ خيانة على سفير رسول الله. والآيات المكية النازلة بالهجرة وعلى أي صورة نسخ القرآن العظيم: وذكر الزهري والكلبي أنه لما هاجر رسول الله يهود بني قريظة في غزوته السابقة الكائنة في السنة الخامسة من الهجرة التي أشار الله إليها في الآية 27 من سورة الأحزاب الآتية سألوه الصلح على ما صالح عليه بني النضير في غزوته الخامسة الواقعة في السنة الرابعة التي أشار إليها الله في الآية الثانية من سورة الحشر الآتية بأن يهاجروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، قالوا وطلبوا منه أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ليسترشدوا برأيه إذ كان وماله وعياله وولده عندهم، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسفير من قبله لعقد الصلح الذي طلبوه، فأتاهم فقالوا له أننزل على حكم سعد بن معاذ كما طلب رسولكم؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي لا تفعلوا فإنه الذبح، وكان عليه أن يقول لهم امتثلوا أمره أو أرجوه أن يختار لكم غيره، لا أن يخبرهم بما سيقع عليهم وهم أعداء الله ورسوله والمؤمنين. ولا يحتج هنا بقول الرسول المستشار مؤتمن، لأن الخدعة مطلوبة بالحروب كما مر آنفا في الآية 16، وبإشارته هذه يعتبر أنه قد خان الله ورسوله ورسالته التي أرسل بها، ولما عرف أبو لبابة ذلك وقال والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى علمت أني خنت رسالتي وخنت الله ورسوله، لذلك لم أرجع منهم إلى رسول الله بل انطلقت إلى المسجد رأسا وشددت نفسي على سارية وحلفت أن لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب علي الله، فلما بلغ ذلك حضرة الرسول قال أما لو جاء لا ستغفرت له، أما أن فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه، فبقي سبعة أيام، وأغشي عليه من الجوع والعطش، ثم تاب الله عليه فأخبر فقال إلا أن يأتي رسول الله فيحلني بيده، فجاء إليه وحلته، فقال يا رسول الله إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أذنبت فيها وأن أنخلع من مالي كله، فقال

لا، يجزيك أن تتصدق بثلثه، فنزلت هذه الآية وهي الأوفق بسبب النزول بالنسبة لسياقها، ولهذا ختمها الله بقوله «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) » أن عدم النصح لله ورسوله فيما تؤتمنون عليه خيانة عظيمة، وأنزل الله فيه أيضا «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» تسبب إيقاعكم فيها، لأن أبا لبابة ما حمله على تلك الخيانة إلا وجود أمواله وأولاده عند يهود قريظة «وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) » فبالأحرى أن تحرصوا على ما عند الله وتزهدوا فيما عندكم، ومن هنا يعلم أن هذه الآيات من 26- 28 نزلت بعد سورتها لما علمت من تاريخ الحادثة، وفيها تنبيه على أن سعادة الآخرة ثواب الله تعالى وأن في أداء الأمانة الأجر الجزيل عند الله وحسن الظن به عند الناس، وسنأتي على ما يتعلق بها في الآية 58 من سورة النساء بصورة مفصلة إن شاء الله تعالى، كما سنذكر قصة بني قريظة في سورة الأحزاب الآتية أيضا. وتشير هذه الآية إلى أن الكلام عند سامعه أمانة أيضا، فليحذر الأمين عليه عقاب الله المترتب على إفشائه، ولهذا قالوا لا فرق بين من يفشي سرا أؤتمن عليه ومن يخنلس مالا استودعه، راجع الآية الأخيرة من سورة الأحزاب الآتية. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ» وتخافوه في جمع أموركم «يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» فصلا بينكم وبين أعدائكم ويقيكم منهم ويخولكم نصرا عليهم وظفرا بهم وتوفيقا ونجاة في الدنيا «وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» بالآخرة «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم ويستر عيوبكم فيها فلا يفضحكم بكشف ما وقع منكم «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) » على عباده. واعلم أن الآيات المكيات التي نزلت قبل سورتها هذه أواخر صفر السنة الثالثة عشرة من البعثة وعلى أثرها هاجر حضرة الرسول من مكة إلى المدينة كما أشرنا إليها في قصة الهجرة بعد سورة المطففين آخر الجزء الثاني هي قوله تعالى «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من رؤساء قريش وغيرهم والشيخ النجدي مع أنك بعثت رحمة لهم، وقد أجمعت كلمتهم على التخلص منك «لِيُثْبِتُوكَ» يوثقوك ويحبسوك «أَوْ يَقْتُلُوكَ» وهو ما قرّ عليه رأيهم «أَوْ يُخْرِجُوكَ» من بلدك ينفوك ويبعدونك عنه «وَيَمْكُرُونَ» يحيكون

[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 إلى 40]

لك المكر ويدبرون المكايد بشأنك «وَيَمْكُرُ اللَّهُ» بما أعده لهم من العقاب لينزله عليهم ويريك الطريق الموجب لخلاصك منهم بما فيه الخير والمصلحة لك وللمؤمنين بك «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) » أقوى وأعظم تدبيرا. منهم. وأنفذ وأبلغ تدبيرا وتأثيرا فيهم، وسمي جزاء الله مكرا للمقابلة والمشاكلة، وقدمنا قسما من قصة الهجرة في الآية 40 من سورة العنكبوت، وكان فيها الخير والكرامة له ولأمته إذ كان ما وعده الله به من النصر وانتشار الدعوة متوقفا عليها، وإلا لما هاجر، لأن أكثر أهل مكة من أقاربه وبوسعهم حمايته ممن عاداه وناوأه منهم، فضلا عن أنه بحماية الله القادر على هلاك من يرومه بلحظة واحدة، ولو كانوا أهل الأرض كلهم، لهذا فلا يقال إنه هاجر خوفا من القتل أو غيره، تدبر هذا واقمع به قول من قال بخلافه وراجع ما ذكرناه في قصة الهجرة من سورتي العنكبوت والمطففين في ج 2. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا» كفار مكة عنادا ومكابرة «قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» الذي يتلوه محمد «إِنْ هذا» ما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) » خرافاتهم وأكاذيبهم، كان النضر ابن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار في بلاد فارس وكان أتى بنسخة من حديث رستم وإسفنديار وأحاديث العجم، وكان يخالط أهل الكتاب ويسمع منهم ويطلع على عادتهم وعبادتهم، فقال ما هذا الذي يقوله محمد ويزعم أنه من عند الله إلا من ذلك ولو أردت لقلت مثله، فقال له الرسول ويلك هذا كلام الله فكيف تقول مثله، وهو كقول ابن سرح الذي أشرنا إليه في الآية 93 من سورة الأنعام في ج 2، فنعى الله عليه كذبه في هذه الآية، وأنزل في أبي جهل وأضرابه قوله عزّ قوله «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا» الذي يتلوه محمد «هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) » ولم يقولوا لجهلهم اللهم اهدنا إليه. وقد نزل في هذا الخبيث بضع عشرة آية منها (سَأَلَ سائِلٌ) فحاق به العذاب، وقتله يوم بدر حضرة الرسول بيده هو ورفيقه طعيمة بن عدي وعقبة بن معيط، وشر الناس من يقتله خير الناس، ثم أشار جلّ شأنه لحضرة الرسول بأن هؤلاء مرصدون بالعذاب إذا هاجرت عنهم بقوله

«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» يا سيد الرسل، أي أن عذاب الاستئصال لا يحل بهم وأنت بين أظهرهم، لأنك بعثت رحمة لهم وللعالمين أجمع، وإن إيقاع عذاب الاستئصال على أمة حال وجود رسولهم خارج عن عادة الله التي سنها في خلقه. ويجوز أن يكون المعنى لو كنت فيهم لم يعذبوا بالقتل والأسر في الدنيا لأن منهم من سبقت له العناية بالإيمان كأبي سفيان وصفوان بن أمية وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن خزام وغيرهم، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم إن الله أنزل علي أمانين لأمتي (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة- أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن أبي موسى الأشعري-. «وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) » فلو استغفروا لم يعذبهم أيضا، وقد نزلت هذه الآية لأن كفار قريش قالوا عند نزولها إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره، ولا يعذب أمة ونبيها معها، فأصروا على ما هم عليه جهلا منهم، ولم يعدّوا ذلك نعمة عليهم فيرجعوا إلى الله، بل لازمهم الغرور فرد الله عليهم بقوله «وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ» أي شيء يمنعه من تعذيبهم بعد خروجك منهم وكيف لا يعذبهم «وَهُمْ يَصُدُّونَ» الناس وأنفسهم «عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» من هم أولى به منهم كالرسول وأصحابه «وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ» أي المسجد كما يزعمون. وهذه الآية من دلائل النبوة إذ آل أمر البيت بعد نزول هذه الآية بثماني سنين إلى الرسول وأصحابه وجاءت ردا لهم إذ يقولون إنا أولى به منهم «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ» الكفر والمعاصي لا المقيمون عليها «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) » ذلك جهلا منهم، وبعضهم يعلم ويقول ذلك عنادا. روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أبو جهل (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية فنزلت (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية، قال ولما خرج من بيته حين بعثوا عليه شبانهم ليقتلوه خرج خفية وترك عليا بمكانه وذهب إلى بيت أبي بكر ثم إلى الغار نزلت (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ) الآية. قال تعالى «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً» صفيرا «وَتَصْدِيَةً» تصفيقا ومن كانت هذه صلاتهم فليسوا بأهل لأن يكونوا أولياء له، ولهذا يقال

لهم في الآخرة «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) » في الدنيا وتكذبون الرسل والكتب. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» بين الله في الآية السابقة كيفية عبادتهم الدينية بأنها عبارة عن سخرية واستهزاء، وذكر في هذه الآية عبادتهم المالية بأنها في مناوأة الله ورسوله، ولهذا قال جل قوله «فَسَيُنْفِقُونَها» بهذا القصد عبثا وسدى في الدنيا «ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» وندامة يوم القيامة «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» فلا يظفرون بما يؤملون وتكون عليهم خسارة في الدارين، وأن صدّهم الموقت سيزول ويتولى البيت أهله، «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) » لا إلى غيرها، وإنما كان ذلك جزاءهم في الآخرة «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» فينجي الطيب «وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ» يجمعه ويضم بعضه إلى بعض «جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ» فريق الخبثاء «هُمُ الْخاسِرُونَ (37) » أنفسهم وأموالهم المغبونون في الدنيا والآخرة. وهذا آخر الآيات السبع التي نزلت في مكة قبل الهجرة، فلم ينزل بعدها شيء فيها، وهي ثماني آيات، وقد أمر رسول الله بوضعها هنا من هذه السورة بإشارة من الأمين جبريل عليه السلام، وهو طبق ما هو مدون في لوح الله المحفوظ. وبقية آي السورة هذه كلها مدنية، وتقديم نزول بعض الآيات على بعض كما هو الواقع بأكثر سور القرآن العظيم المدني منها، والمكي كان بسبب الحوادث والوقائع والسؤال، وترتيب الآيات والسور على ما هو ثابت في المصاحف هو الموافق لما في علم الله المطابق لما أنزله إلى بيت العزّة، وان عمل عثمان رضي الله عنه مقصور على نسخه في المصاحف وأمر الكتبة الأمناء بإثباته ونقله من الصحف التي كانت عند عائشة رضي الله عنها المرتبة يعلم وامر حضرة الرسول، وتحرير بعض حروف الكلمات على لغة قريش عند الاختلاف بالنطق بها من إمالة وإشباع ومد وقصر وقطع ووصل وهمز وتسهيل وفكّ وإدغام وتفخيم وترقيق وفصل وإيصال وتشديد وتخفيف وما أشبه ذلك مما لا يخالف رسم الكلمة بزيادة حرف أو نقصه، كما أوضحناه في المقدمة وتطرقنا له عند كل مناسبة كهذه.

قال الكلبي والضحاك ومقاتل: نزلت هاتان الآيتان الأخيرتان في المطعمين يوم بدر وهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البحتري والنضر وحكيم بن خزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر والعباس بن عبد المطلب، وكان كل منهم يذبح عشر جزر. قال ابن اسحق إنهما نزلتا في أصحاب العير، وذلك أنهم لما رجعوا من بدر طاف الذين فقدوا آباءهم على قريش وكلفوهم بالإنفاق عليهم كي يدركوا ثأرهم، ومعظمه العير كان لأبي سفيان، وبسببه وقعت حادثة بدر. وقال سعيد بن جبير ومجاهد نزلتا في أبي سفيان نفسه، لأنه جهز ألفين من الحبشة غير الذين استجاشهم لحرب أحد وأنفق عليهم أربعين أوقية من ذهب كل أوقية اثنان وأربعون درهما. واعلم أن هذه الحوادث الثلاث وإن كانت كل واحدة منها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولكن ثبوت كون الآيات نازلة بمكة قبل حادثة بدر بسنتين وحادثة أحد بثلاث سنين ينفي ذلك، وكون الآيتين مسوقتين على كيفية نفقاتهم بعد بيان كيفية صلاتهم ومشعرتين بالتوبيخ على نوع الاتفاق والإنكار عليه يبعد القول بسبب النزول وسياق الآية الأولى لبيان غرض الإنفاق والثانية لبيان عاقبته يؤذن بأن المراد هو العموم، وانطباق الحوادث على ما جريات الآيات لا يعني أنها سبب لنزولها، وعاية ما فيها التشنيع على أعمال الكفار والتباعد عن مثلها والتحذير عن الوقوع فيما يستوجب الذم في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» يا سيد الرسل «إِنْ يَنْتَهُوا» عن الشرك ودواعيه ويكفوا عن عداوة الرسول وأصحابه ويؤمنوا بالله إيمانا حقيقيا لا لعرض ولا لغرض عن طيب نفس وحسن نية «يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» من جميع أفعالهم مهما كانت «وَإِنْ يَعُودُوا» إلى حالتهم الأولى التي كانوا عليها قبل حادثة بدر ولم يتعظوا بها ويعتبروا بما حل بهم فيها، فلا مناص لهم من عذاب يصيبهم مثل ما أصاب قومهم في بدر، وهي عادة جرى فيها أمر الله بأمثالهم «فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (39) » الذين لم ينتهوا إلى ما يحل بهم بعد أن شاهدوا وسمعوا ما وقع بمن قبلهم، أي أنه لا بد وأن يجري عليهم من الهلاك والدمار مثل ما جرى على من قبلهم نصرة لنبيه وإعلاء لكلمته،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 إلى 50]

كما كان للأنبياء قبله، وقد أخذ من هذه الآية الكريمة الحكم الشرعي بأن الكافر إذا أسلم لا يلزمه شيء من قضاء العبادات الدينية والمالية، ويكون كيوم ولدته أمه، لأن الإسلام يحبّ ما قبله، كما أن الكفر يحبط ثواب الأعمال الصالحة قبله. قال تعالى «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي لا يبقى شرك يفتتن به قط «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» بأن يضمحل كل ما يتدين به ويمحى من وجه الأرض عدا دين الإسلام. راجع نظير هذه الآية الآية 149 من سورة البقرة المارة «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن الشرك ودواعيه وأسلموا لله وحده «فإنّ الله بما تعملون» صرا أو جهرا خالصا أو مشوبا. وقرئ الفعل بالياء والتاء على الغيبة والخطاب «بَصِيرٌ» بدقائق الأمور لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل وأعرضوا عن الإيمان وعادوا لقتالكم مرة ثانية بعد هذه التي استؤصل فيها كبارهم وصناديدهم وبقوا مصرين على الكفر «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» حافظكم منهم وناصركم عليهم وكافيكم شرهم وهو «نِعْمَ الْمَوْلى» لمن يتولاه ويكل أمره إليه «وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) » لمن ينصره، ألا فليأمن من كان الله مولاه وناصره. مطلب كيفية تقسيم الغنائم وصلاحية الأمر فيها، ولزوم ذكر الله عند اللقاء، والتمسك بأصول الدين ليتحقق لهم النصر من الله: قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ» توصل ما مع أنّ إذا كانت كافة عن العمل، وتفصل كما هنا إذا كانت عاملة، وجملة غنمتم صلة، والعائد محذوف، والتقدير أن الذي غنمتموه «مِنْ شَيْءٍ» مطلق شيء بدليل التنوين «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» أي يصرف إلى هؤلاء على هذا الترتيب، ومعنى الغنم الفوز والظفر، والغنيمة ما أصابه المسلمون من أموال الكفار عنوة في القتال، ويكون فيها الخمس لمن ذكر الله في هذه الآية، والأربعة أخماس لمن شهد الواقعة، أما ما صولح عليه من غير قتال فيكون جميعه لمن سمى الله تعالى فيتسلمه أمير المؤمنين ويقسمه بين أربابه، أما ما يأخذه الإمام من الأعشار والخراج والجزية والمكس ومال من لا وارث له

مسلما كان أو كافرا وبدل المهادنة وتعويض الحرب فيحفظة لديه ليصرفه في مصالح المسلمين وتقويتهم معنى ومادة، من عدد الحرب وإصلاح الطرق وعمارة القناطر والجسور ودور العجزة واليتامى والمجانين ودور العلم والذّكر وجميع المنافع العامة، وكيفية القسمة هي أن يقسم الخمس الذي هو لله خمسة أقسام: خمس لإمام المسلمين وخمس لأقارب الإمام غنيهم وفقيرهم سواء للذكر مثل حظ الأثنين كما كان في زمن الرسول والخلفاء من بعده وهو حق باق ثابت إلى الأبد لثبوته في هذه الآية ولما روي عن جبير بن مطعم قال جئت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلّى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب واحد. وفي رواية أعطيت بني المطلب من خمس الخمس وتركتنا، وفي رواية لم يقسم النبي صلّى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا- أخرجه البخاري- والدليل على أن غنيهم وفقيرهم سواء، إعطاء النبي صلّى الله عليه وسلم العباس وهو غني. وخمس لليتامى والفقراء. وخمس للمساكين والفقراء من غيرهم. وخمس لأبناء السبيل بفريضة الله تعالى. والأربعة أخماس يقسمها الإمام بين المجاهدين ثلاثة للفارس، واحد له واثنان لفرسه، وواحد الراجل. والدليل على هذا ما رواه ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قسم النفل للفرس سهمين، وللرجل واحدا. وفي رواية بإسقاط لفظ النفل، - أخرجه البخاري ومسلم- ويعطى للعبيد والنساء الذين حضروا الحروب وأعانوا المسلمين بالأكل والماء وحمل السلاح متيسر كما يعطى من حضر القسمة المبينة في الآية 8 من سورة النساء الآتية. أما الأرض والعقار فللامام أن يجعلها وقفا للمسلمين يتداولونها جيلا بعد جيل ينتفعون بربعها ويحتفظون برقبتها، وهو أولى من قسمتها بينهم لأنه إذا قسمها الإمام بينهم لم يبق الذين من بعدهم شيء يقيمون به معاشهم لا سيما وإن بيت المال يجب أن يكون دائما مترعا بالأموال لحفظ بيضة الإسلام، فاعملوا بهذا أيها المؤمنون «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» ورضيتم بحكمه «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا» المنزل عليه هذه الآيات في هذه «يَوْمَ الْفُرْقانِ» يوم نزوله وهو المسمى بأنه الفارق بين الحق والباطل وقال بعض المفسرين إن الفرقان هو يوم بدر، لأن الله فرق فيه وفصل بين الحق

والباطل، وكان يوم إنزال القرآن في 17 رمضان يوم الجمعة سنة 41 من الولادة الشريفة، ويوم بدر يوم الجمعة أيضا في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة، كما أشرنا إليه في المقدمة، ولهذا فإن التفسير الأول أولى، لأن الله تعالى القائل (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) لا يهمل يوم إنزال القرآن وهو أعظم من غيره، لهذا فقد قصده في هذه الآية والله أعلم. وقرن مع يوم بدر لعظمته أيضا، لأنه أول ظهور عظيم لشأن الإسلام ولمسلمين، ولذلك قال «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» جمع المسلمين وجمع الكافرين، وعليه يكون المعنى أن اليوم الذي أنزل فيه القرآن مثل اليوم الذي التقى فيه الجمعان برئاسة محمد صلّى الله عليه وسلم ورئاسة عتبة بن ربيعة خذله الله، لأن كلا منهما يوم جمعة ويوم رمضان، ولم يقع اختلاف في هذين اليومين من كونهما يومي جمعة وكونهما في رمضان، وانما اختلفوا هل كان إنزال القرآن في 17 أو 27 من رمضان فقط، ولولا تعيين اليوم لا حتمل أن يقال نزل جملة واحدة إلى بيت العزة في 27 رمضان ونجوما على المصطفى في 17 منه والله أعلم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 41» ومن قدرته نصر المؤمنين في ذلك اليوم مع قلة عددهم وعددهم على الكافرين مع كثرتهم عددا وعددا، وهذه الآية نزلت في الغنائم الحاصلة من غزوة بني قينقاع الواقعة بعد حادثة بدر بشهر وثلاثة أيام في النصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وقال بعض المفسرين نزلت في حادثة بدر وليس بشيء، وهي مخصّصة للآية التي نزلت في غنائم بدر ومقيدة لها، لا ناسخة كما ألمعنا إليه أول هذه السورة. ثم شرع بعدد نعمه التي أنعمها على المؤمنين في هذه الحادثة بقوله واذكروا أيها المؤمنين «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا» سفير الوادي الأدنى من المدينة «وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى» البعدى منها مما يلي مكة «وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» من المحل الذي به أبو سفيان وجماعته من قريش الذي خرجتم لأجله بعيد عنكم مما يلي البحر بثلاثة أميال «وَلَوْ تَواعَدْتُمْ» أنتم وإيّاهم على هذا الاجتماع في هذا المحل «لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ» ولما أمكنكم أن تجتمعوا به فيه، ولكنه كان صدفة من الصدف الغريبة وأمرا من الأمور العجيبة «وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً

كانَ مَفْعُولًا» في أزله ومقدرا في مقدرته بأن يكون هذا المكان وهذا الزمان وإنما كان كذلك أيها المؤمنون «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ» رآها وعبرة عاينها وعفة شاهدها وحجة قامت عليه «وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» كذلك «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ» لأقوالكم سرها وجهرها «عَلِيمٌ (42) » بنيّاتكم وبما يقع لكم من النصر وعليهم من القهر. واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا» لتقوى قلوب أصحابك فيجرءوا عليهم «وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ» بسبب ضعف همة قومك، ولجبنوا عن عدوهم وحدثتهم أنفسهم بالتراجع وتشتتت آراؤهم «وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» فيما بينكم فصار منكم من يحبذ الإقدام ويرغب فيه، ومنكم من يحبب الإحجام ويرغب عن اللقاء، فتتصادم الآراء ويحصل الشقاق وتفكك عرى التوثق بينكم «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» وعصم قلوبكم من ذلك بسبب ذلك التقليل وأنعم عليكم بعد وقوع الخلاف المؤدي للهزيمة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 44» يعلم ما يحصل فيها من الجرأة والجبن والصبر وا لجزع، ومن يميل إلى الإقدام ومن يجنح إلى الإحجام «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ» أيها المؤمنون «إِذِ الْتَقَيْتُمْ» معهم يقظة عند التحام وتراص الصفين «فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا» تأكيدا لرؤياك يا صفوة الخلق ليطمئنوا ويتحققوا أن ما تقوله لهم حق واقع لا محالة سواء عن رؤيا منامية أو مشاهدة عينية، وهذه من أكبر النعم المقوية للقلوب الموجبة للإقدام عن رغبة، إذ أراهم الجمع الكثير شرذمة قليلة. قال ابن مسعود قلت لرجل جني تراهم منه، فأسرنا منهم رجلا، وسألناه، فقال نحن ألف «وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» قبل اللقاء ليجرأوا على مهاجمتكم، ولا يتقاعسوا عنها حتى إذا قدموا عليكم رأوكم كثيرا فيبهتوا ويرعبوا وتنكسر شوكتهم وتختل معنوياتهم، فيغلبوا، وإنما فعل الله تعالى هذا معكم ومعهم «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» مقضيا بهلاكهم. ومن مغزى هذه الآية عدا ما ذكر تعليم العباد بابا من أبواب الحرب، وذلك بأن يجعل القائد غير المدافع قوته العظيمة من وراء، ثم يتقدم لعدوه بقوة يسيرة ليغريه على الإقدام والهجوم طمعا بالغلب، فيجابه هذه القوة اليسيرة بكل ما لديه

من قوة بقصد سرعة القضاء على خصمه، حتى إذا التحم الفريقان داهمهم بقوته الأخرى كلها فيستأصلهم عن آخرهم، لأنهم يرعبون من الكثرة التي طرأت عليهم غير حاسبين لها حسابها، وإنما قلنا غير المدافع لأن القائد المدافع يجب عليه أن يستعين بكل مالديه من قوة دفعة واحدة كي يستطيع صد المهاجم، وإلا إذا قدم ثلة ثلة فإن العدو يفنيهم أولا بأول، ويستهين بقوتهم القليلة ويطمع بالاستيلاء عليهم، فيكون الغلب له، والقتل والسبي والأسر بالمدافعين «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (45) فيحكم فيها بما يريد وفق ما هو في أزله. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً» كافرة لا عهد لها معكم ولا ذمة «فَاثْبُتُوا» لها ووطنوا أنفسكم على الصبر على الحرب والصدق عند اللقاء، ولا تتصوروا الفرار أو تتخيّلوه أبدا، لأنه متى وقع في قلوبكم جبنتم وكبر عدوكم في أعينكم وألقى الرعب في قلوبكم، فتهزمون، فيستضعفكم عدوكم ويعلو عليكم فتسلبون وتقتلون، فقووا قلوبكم واثبتوا على الصبر واستعينوا بالله ربكم، لا تتكلوا على كثرة أو قلة: من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» أثناء هجومكم عليهم بأن تقولوا الله أكبر الله أكبر منهم وأعظم من كل شيء وكل شيء دونه حقير ضعيف، فكبروه كثيرا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (46) فتفوزون بالنصر على عدوكم والظفر فيهم. واعلم أن هذه الآية ليست بناسخة للآية 16 المارة كما قاله بعض المفسرين، لأنها لا تقدح بالثبات بالحرب، لأن التحرف والتحيّز منه، وإنما كان المراد بالذكر هنا هو التكبير والله أعلم لما فيه من خذلان العدو، فينبغي الإكنار منه عند المهاجمة والدعاء بالنصر وتخطر وعد الله بالظفر في القلب لأنه أدعى للثبات، ولأن ذكر الله في أشد الأحوال موجب للإجابة إذ لا يكون فيها إلا عن نيّة صادقة واعتماد تام «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» لأنها من واجبات النصر أيضا. وتباعدوا عن معصية الله ورسوله لأنكم في حالة أشد احتياجا إلى رحمته من غيرها، وهذان العنصران طاعة الله وذكره من أقوى الأسباب الداعية للنصر والثبات وخذلان العدو. فليتكم أيها المسلمون ترجعون إلى ما يأمركم به ربكم فتعملون به وتنتهون عما

ينهاكم عنه فتتجنبونه وتعترفون بذنوبكم فتستغفرونه، فإنه تعالى يعينكم ويقويكم وينصركم. قال: فإن اعتراف المرء يمحو اقترافه ... كما ان انكار الذنوب ذنوب لأن المسلم المؤمن يلجأ إلى ربه فيأخذ بيده فلا يصر أحدكم على الذنب ولا يستصغره مهما كان، ويطلب النصرة من ربه عند الشدة، فالأحرى أن لا يرده الله ولهذا لما ترك المسلمون ما أمروا به وصاروا يستصحبون في الحروب الخمر والفتيات ويقولون عند الهجوم وطن وطن بدل أن يكبروا الله غلبوا وخسروا، لأن الوطن جزء من الإيمان وهم في حالة عارون فيها عنه، غافلون عن ربهم، فأنى يستجاب لهم؟ فالمسلمون لا ينصرهم الله إلا إذا تمسكوا بدينهم وعملوا ما أمروا به، وإذا خالفوا تركهم. قال صلّى الله عليه وسلم لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن فدعوى الإيمان وحب الوطن دعوى كاذبة، لذلك يكذبهم الله ولا يوفقهم ويسلط عليهم عدوهم، لأن الله تعالى قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 47 من سورة الروم في ج 2 وقوله الحق ووعده الصدق، ولكن هات المؤمنين وانظر إلى نصر الله المبين، لأن المؤمنين لا يقيمون على المعاصي ولا يحاربون الله بما ينعم عليهم، فادعاؤهم الإيمان عبارة عن اسم، ولا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا قام بأركان الإسلام الخمسة عن يقين واعتقاد وعمل. فإذا فقد واحدا من هذه الثلاثة لا يكون مؤمنا، وكيف إذا تركوا الجميع؟ فالله سبحانه يتركهم، لأنهم هم محتاجون إليه وهو الغني عنهم. قال تعالى «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» وتخسروا لأن الفشل جبن مع ضعف «وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» قوتكم وجرأتكم ودولتكم «وَاصْبِرُوا» على الشدائد في الحرب والمحنة فيه ولا تنهزموا «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» بعونه ونصره. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقى فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس قام فيهم فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا (راجع الآية 153 من سورة البقرة المارة) واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.

قال تعالى «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً» أشرا وطغيانا والبطر من تشغله نعمته عن الشكر «وَرِئاءَ النَّاسِ» ليقال أنهم غزوا وقاتلوا للشهرة والسمعة والصيت والحال أنهم يمنعون «وَيَصُدُّونَ» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (48) » لا يعزب عن علمه شيء لإحاطته بجميع خلقه. نزلت هذه الآية في كفار مكة الذين خرجوا لاستخلاص عير أبي سفيان، فلما رأوه قد نجا بها قال لهم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل والله ما نرجع حتى نرد بدرا فنقيم فيها ثلاثة أيام ننحر الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات، فتسمع بنا العرب فيهابوننا. فلما نزلوا سقاهم الله كأس الحمام بدل الخمور، وناحت عليهم النوائح بدل القينات، وسمعت بهم العرب فاستذلتهم. قال تعالى مخبرا عن حالهم عند خروجهم لما خافوا من بني بكر كما مر في الآية 8 «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» أي اذكروا أيها المؤمنون هذه النعمة أيضا لأنها من جملة ما حدث بقريش أعدائكم الألداء عند إرادتهم الخروج إلى قتالكم لتظفروا بهم «وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» فأمنوا على عيالهم وأموالهم وخرجوا. ثم تصور لهم إبليس مرة ثانية مع جند من جنوده وشجعهم على اللقاء في صورة سراقة المذكور في الآية الثانية المارة، وقال لهم ما قاله سابقا، فلما رأى جبريل والملائكة عليهم السلام وكانت يده بيد الحارث بن هشام فنفض يده وولى هو وجنده، فقال له الحارث أفرارا من قتال يا سراقة وتزعم أنك جار لنا؟ فأجابه بما قصه الله عز وجل بقوله «فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ» فئة جبريل وفئة إبليس «نَكَصَ» إبليس وجنده «عَلى عَقِبَيْهِ» ورجع القهقرى «وَقالَ» إلى الحارث وقومه حينما تركهم وولى «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى» من الملائكة «ما لا تَرَوْنَ» أنتم ما لا طاقة لي الوقوف معها. مطلب الأشياء الموجودة الغير مرئية وتصور الشيطان والمحبة الخالصة الصادقة: واعلم أن رؤية الشياطين للملائكة والأنس ثابتة لا نزاع فيها، قال تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) الآية 27 من سورة الأعراف في ج 1،

وتوجد أشياء كثيرة موجودة حسا غير مرئية كنسخ الظل الشمسي وأعمدة المهواية وشبهها عند سرعة دورانها، وكذلك الهواء موجود غير مرئي والقوى الكهربائية موجودة غير مرئية. ثم قال الخبيث «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» لأنه ظن عليه اللعنة أن القيامة قامت لعلمه أن جبريل ينزل فيها هو والملائكة، ولذلك أردف قوله بما ذكر الله «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (49) » وقد كذب أول الآية وصدق آخرها، ولهذا لما رجعت قريش إلى مكة قالوا هزم الناس سرافة، فجاءهم وقال لهم والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا له أما أتيتنا وقلت لنا ونحن بمكة أنا جار لكم ثم هربت؟ فقال والله ما جئتكم بالأولى ولا في الثانية. ولما أسلم من بقي منهم عرفوا أنه إبليس. أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبد الله ابن كرزان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة. أي يسوي صفوفهم ويصلحها فيأمر هذا أن يتقدم وهذا أن يتأخر. وسبق أن ذكرنا أنه كما تتصور الملائكة بصور البشر فكذلك الشياطين، وان النفس الباطنة لم تتغير ولا يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة. وليعلم أن ذكر الله تعالى في مواطن الشدة لا سيما في حالة الجهاد من أقوى الأدلة على محبته تعالى الصادقة التي لا يشوبها شيء، لأن فيه السكينة، قال تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية 31 من سورة الرعد الآتية، ومتى اطمأن القلب زال عنه دواعي الخوف فضلا عن أنه دليل المحبة لأن من أحب شيئا أكثر ذكره في كل حال ألا ترى قول عنترة: ولقد ذكرنك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمى فوددت تقبيل السيوف لأنها ... بوقت كبارق ثغرك المتبسم وهو أبلغ ما قيل في هذا المعنى بالنسبة لمقام القول، وفي مقام المحبة تراكضت أرواح العاشقين وتفانت في ميدان أشباح السالكين، حتى قال قائلهم: ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي

وقد عدوا الموت في الحب من الجهاد الأكبر، لأن الحياة الحقيقة التي فيها الوصال تعقبه، قال ابن الفارض أيضا: ومن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل وقد حسنوا التذلل في هذا الباب وعدوّه من أسباب الوصال مع أنهم لم يعرفوا التذلل إلا لله فقالوا: ويحسن إظهار التجلد للعدا ... ويقبح إلا العجز عند الحبائب وقالوا إن من صفات المحبين الخضوع وإنكار النفس حتى بالغ بعضهم فقال: مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل دون الخلائق وفي رواية بين المقابر، واختلفوا في وصفه ومحله من الجسد، وقيل في ذلك: يقولون إن الحب كالنار في الحشى ... ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد وما هو إلا جذوة مس عودها ... ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد وقالوا في ذم من لم يحب: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا وقدمنا في الآية 67 من سورة الزخرف ج 2 ما يتعلق بالمحبة فراجعها. واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ» من أهل المدينة «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة إذ لم يقو الإسلام في قلوبهم ولم تتشرب بشاشة الإيمان فيها لما رأوا قلتكم عند ذهابكم لقتال المشركين في بدر قال بعضهم لبعض «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» صدق إيمانهم بالله وحملهم على ما لا طاقة لهم به من لقاء عدوهم لأن عددهم وعددهم أكثر وأقوى، فقد هفوا ولم يعلموا أن توكلكم على ربكم لا على قوتكم وكثرتكم «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ويثق به «فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يغلب من يتوكل عليه «حَكِيمٌ (49) » لا يسوّي بين أحبابه وأعدائه فإنه ينصر أولياءه على قلتهم، ويخذل أعداءه مع كثرتهم مهما كان عددهم وعددهم، لأنهم طلبوا النصر منه وحسنوا ظنهم فيه وأيقنوا بالإجابة منه والله عند حسن ظن عبده به. قال تعالى معجبا رسوله صلّى الله عليه وسلم مما يقع على الكافرين عند الموت من البلاء والشدة «وَلَوْ تَرى» يا أكمل الرسل «إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ

[سورة الأنفال (8) : الآيات 51 إلى 60]

كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ» لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، لأنهم إذ ذاك «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ» عند الاقدام «وَأَدْبارَهُمْ» حال الانهزام والأفظع من هذين الأمرين أنهم يقولون لهم بعد الموت موتوا «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) » في جهنم فهي مثواكم في الآخرة «ذلِكَ» الذي حل بكم أيها الكفار في الدنيا من القتل وفي الآخرة من العذاب هو «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» من الشرك والمعاصي وظلمكم أنفسكم بذلك. ووصفت اليد لأنها آلة العمل المؤثرة، وإلا فالكفر محله القلب وعلامته اللسان «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) » إذ لا يعذب أحدا بلا ذنب، على أنه لو فعل فلا يعد ظلما لاستحالة نسبة الظلم إليه، لأنه المالك المطلق وللمالك التصرف بملكه كيف يشاء، ألا ترى أنك إذا هدمت دارك أو أخربت ما هو ملكك لا يعترضك فيه أحد؟ وإن عادة هؤلاء الكفار في كفرهم «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) » بحيث لا تطيقه الجبال الحديدية. وفي هذه الآية تهديد ووعيد لهؤلاء الكفار والمنافقين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وإعلام بأنه تعالى سيعذبهم في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالنار، كما عذب أولئك في الدنيا ويعذبه مفي الآخرة. والدأب إدامة العمل. وسميت العبادة دأبا لمداومة الإنسان عليها «ذلِكَ» العذاب والانتقام «بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» كي يكونوا هم السبب في ذلك ويندموا من حيث لا ينفعهم الندم، لأن ما يحدثه للخلق من بعض ما هو مدون في أزله قبل خلقهم، إذ لا يقع شيء إلا وهو مسجل في اللوح المحفوظ ثابت في علم الله «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما يقع من عبده سرا أو جهرا «عَلِيمٌ (53) » به قبل وقوعه. وليعلم كل إنسان أن يذكر مع كل نعمة زوالها كي يحافظ عليها بالشكر، ويذكر مع كل بلية كشفها ليحافظ على الرجاء من الله فإن ذلك أبقى للنعمة، وأسلم من البطر، وأقرب من الفرج، لأن الدنيا دار تجارة، فالويل لمن تزود منها الخسارة، ويكفيك أنها مزرعة الآخرة، وقيل في المعنى في هذا: إذا أنت لم تبذر وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن البذر

وتشير هذه الآية إلى أن الله تعالى أرسل محمدا نعمة عظمى لأهل مكة خاصة مكملة لنعمهم الأولى من جوارهم لحماه، وأمنهم مما يخافون، ومما يخافه غيرهم، وتخويلهم رحلة الشتاء والصيف، فلم يقدروها ولم يشكروها، بل قابلوها بالكفر والجحود، فنقله الله عنهم إلى الأنصار لأنه رحمة للعالمين أجمع، راجع الآية 29 من سورة إبراهيم في ج 2، والآية 43 من سورة الرعد الآتية. وديدنهم هذا «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» لما كفروا بموسى عليه السلام «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» وكفروا بأنبيائهم أيضا «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» بعضهم بالخسف وبعضهم بالصيحة ومنهم بالحجارة ومنهم بالمسخ والغرق، وحرم فرعون نعمة موسى إذ نقلت لبني إسرائيل الذين اتبعوه «وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ» وأنجينا موسى وقومه «وَكُلٌّ» من المعذبين والمهلكين «كانُوا ظالِمِينَ (54) » أنفسهم وغيرهم، فأخذناهم بظلمهم. وقد كررت ألفاظ هذه الآية تأكيدا لأنها جرت مجرى التفصيل للآية الأولى التي ذكر فيها أخذهم وكفرهم بآياته، وفي الثانية إعراضهم وتكذيبهم بآياته. قال تعالى «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) » لا يتوقع إيمانهم لتوغلهم بالكفر، وهؤلاء «الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ» يا سيد الرسل «ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) » (56) نقض العهد مع أنهم أهل كتاب ودين يجب عليهم الوفاء به وعدم النكث بمقتضى كتابهم ودينهم، وهم على العكس شأنهم شأن الذين لا دين لهم بل أضل. قد نزلت هذه الآية في بني قريظة المار ذكرهم في الآية 26 إذ عاهدهم الرسول أولا على أن لا يحاربوه ولا يعاونون عليه، فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي العرب عليه بسلاحهم، وقالوا نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم ثانيا فنكثوا أيضا ومالئوا عليه الكفار يوم الخندق، وذهب رئيسهم كعب بن الأشرف إلى مكة وحالف قريش وأهلها على حرب الرسول. وقال سعيد بن جبير: نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت كانوا عاهدوا ثم نقضوا. قال تعالى «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ» يا محمد فتجدنّهم وتصادفنهم «فِي الْحَرْبِ» فتظفر بهم «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» أي نكّل بهم غيرهم بأن تقتلهم قتلا ذريعا

فظيعا، تفرق به جمعهم وتكسر به شوكتهم ليعتبر بهم كل من تحدثه نفسه بنقض العهد. وأصل التشريد التفريق مع الاضطراب «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) » يتعظون فلا يجرؤ بعدهم أحد على نكثه. وهذه الآية من قبيل الإخبار بالغيب، إذ وقعت كما ذكر الله تعالى، لأن حضرة الرسول حكّم فيهم سعدا فحكم فيهم بحكم الله، كما سيأتي في الآية الثانية من سورة الحشر المشيرة إلى هذه الحادثة، وقد ألمعنا إليها في الآية 27 المارة. وفي هذه الآية وما بعدها فنون من فنون الحرب ودواعيه وما يتعلق به يعلمها الله إلى رسوله قبل وقوعها ليطبقها عند الحاجة. ولفظ الدواب يطلق على كل ما دبّ على وجه الأرض من إنسان وحيوان، وقد جعل الله الكافرين من صنف الدواب في هذه الآية لأنهم شرّ منهم، لأن الدواب الحقيقية لا تضر غالبا وهم يضرون الناس ويكفرون نعم الله. قال تعالى «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ» معاهدين فتتوقع منهم «خِيانَةً» غدرا أو نقضا للعهد مثل بني قريظة «فَانْبِذْ» اطرح وارم عهدهم «إِلَيْهِمْ» وأعلمهم بفسخ المعاهدة ليكونوا على بصيرة من أمرهم ولئلا يقولوا لم تخبرنا بنقض العهد قبل ويتهموك بالنكث والغدر، حتى تكون أنت وإياهم في علم نقض العهد «عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) » في كل شيء. الحكم الشرعي: إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن هادنهم الإمام بأمر ظاهر مستفيض فلا حاجة لنبذ العهد وإعلامهم بالحرب، وإن ظهرت الخيانة به بأمارات من غير أمر مستفيض فيجب على الإمام إعلامهم بفسخ المعاهدة كما ذكر الله وقاية من سمات الغدر ولعلهم يرجعون إلى عهدهم أو يستسلمون ويسلمون. روى مسلم عن جابر عن رجل من حمير قال: كان بين معاوية والروم معاهدة، وكان يسير نحو بلادهم ليتقرب منهم، حتى إذا نقض العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، فإذا هو عمرو بن عينية، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء. فرجع معاوية. - أخرجه أبو داود- وأخرج النسائي بمعناه. وقد أسهبنا البحث في هذا عند الآية 34 من سورة الإسراء

ج 1 والآية 91 فما بعدها من سورة النحل في ج 2 فراجعها. قال تعالى «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا» أفلتوا وانا لا نظفر بهم مرة ثانية، بلى لا بدّ من ذلك «إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» (59) لأن الطالب لهم غالب قوي قادر على الانتقام منهم في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء، وفي الآخرة عذاب شديد «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» مالا ورجالا وسلاحا وخدعا وغيرها من كل ما فيه معنى القوة «وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» أيضا قوة، لأن ما يدركه الراكب لا يدركه الراجل، فإنكم في هذه الأشياء «تُرْهِبُونَ بِهِ» ترعبون وتخدعون «عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» فعليكم أيها المؤمنون بالاستعداد لأعدائكم من كل ما يغيظهم ويرهبهم، لأنكم بذلك ترعبونهم «وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ» تخوفونهم أيضا كاليهود والمنافقين الموجودين في زمنك ومن بعدهم في زمن غيرك إلى آخر الدوران من أناس «لا تَعْلَمُونَهُمُ» أنتم ولكن «اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» وسيظهرهم لكم بعد «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مما يقوي جانب المؤمنين ويرهب أعداءهم، وفي إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وطاعة رسوله «يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» ثوابه كاملا مضاعفا في الآخرة ويخلف عليكم أوفر منه في الدنيا «وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) » شيئا من ثوابه وأنكم لا تعلمون كيف يكافئ الله عباده المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاته، لأنهم يعطيهم ما لا يتصورونه ولا تعقله أفهامهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي هذه الآية تعليم من الله لعباده فيما تكون به عظمتهم وتقوى به شكيمتهم وتعظم به شوكتهم. والعدة تطلق على الجند وعلى جميع الأسلحة والآلات والأطعمة التي هي من لوازم المحاربين في الحروب بالنسبة لما عند العدو وأقوى وأفخم، وكذلك الحصون والمعاقل وتعليم الجنود كيفة استعمال الأسلحة والرمي بها بحيث لا يقع سهم منها إلا في قلب عدو، وتعليمهم أيضا ماهية المحركات واستعمالها وركوبها برا وبحرا وهواء، والآلات الحديثة، والألغام والوقاية منها، والقاذفات وما يقذف بها، ومنها في الطائرات وغيرها وتعليم السير بها وتسييرها، وحثهم على المحافظة عليها ومناظرتها وتعليمهم الخدع والحيل والمكر، وجميع أبواب الحرب وتمرينهم عليها، وحثهم

على الطاعة للأوامر والاستعداد لتنفيذها عند الحاجة إليها. ويجب أن يكونوا يقظين نبهين، وأن يكون نصحهم بمواعظ حسنة تحبذ لهم بذل أنفسهم في سبيل الله إعلاء لكلمة الله وصيانة للبلاد والعباد ووقاية للأعراض والعجزى. واعلموا أيها الناس أن ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عقبة بن ثامر من أن القوة الرمي لا ينفي كون غير الرمي من القوة، بل قوة أيضا، وهو على حد قوله صلّى الله عليه وسلم: الحج عرفة والندم توبة والدين النصيحة. لأن غايته الدلالة على أنه من أفضل القوة، والقوة الرمي لأن معظم الحرب يكون به وهو كذلك. روى البخاري عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم بدر حين ضعفنا لقريش إذا كبتوكم (أي غشوكم) - وفي رواية: أكثروكم- فارموهم واستبقوا نبلكم. وفي رواية: إذا كبتوكم فعليكم بالنبل. وروى عقبة عن عامر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليدخلن بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنه: صانعه يحتسب في عمله الخير، والرامي به، والمحدد له. وفي رواية: ومنبله، فارموا، وان ترموا أحب إلي من أن تركبوا. كل لهو باطل ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه، أي بنبله، فإنهن من الحق، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو كفرها- أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا-. فهذا الحديث والذي بعده وغيرهما تحث على تعليم المسلمين ما يلاقون به أعداءهم عند الحرب من جميع أصناف آلاته ومعداته، وانه مما يثاب عليه عند الله تعالى ويستوجب محبة رسوله صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالقوس، فقال صلّى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال صلّى الله عليه وسلم مالكم لا ترمون؟ فقالوا كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم كلكم. صلّى الله عليه وسلم ما أرضاه لربه وأرضاه لصحبه وإرضاء لأهله وأرضاه لأمته. وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الجعد الباز حديثا بمعناه. ومثله عن ابن عمر وقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة. وروى البخاري عن ابي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا

[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 إلى 70]

بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة (يعني حسنات) . وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه. وإنما أمر الله تعالى وحث رسوله على التأهب والاستعداد للحرب لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين مستكملون جميع مهمات الحرب ومعداته ومتهيئون له وباذلون أموالهم وأنفسهم في سبيله، فإنهم يتباعدون عن دار الإسلام وثغورهم، لا سيما إذا كانت الثغور معبأة بأعظم قوة وأقرى عدة، وهذا هو الرباط الذي حرض الرسول أمته عليه ووعدهم عليه ثواب الله العظيم. وسنبين في الآية 176 من سورة آل عمران الآتية ما يتعلق في بحث الرباط وفضله بصورة مستفيضة واضحة. قال صلّى الله عليه وسلم: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وان من مات مرابطا أجري عليه عمله ورزقه، وأمن من الفتّان. وليعلم أن الاستعداد للحرب يسبب دخول الناس في الإسلام عفوا أو بذل الجزية للمسلمين دون إراقة الدماء توا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم. مطلب في جواز طلب الصلح من العدو. وفي النسخ وجواز أخذ الفدية. وعتاب الله الرسول على فداء الأسرى. قال تعالى «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ» أي أعداؤك يا سيد الرسل بأن طلبوا الصلح «فَاجْنَحْ لَها» لا تعرض عنها «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ولا تخف من أن يبطنوا لك غيره، فالله يكفيكهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) » بما يؤول إليه أمر الصلح من خير على الأمة ويكسب ميل الخلق ومودتهم وفيه قيل: لا تشد كل الشد فينفر عنك، ولا تلن كل اللّين فيطمع فيك. وقيل: لا تكن حلوا فتؤكل ولا مرا فتعاف. وفي هذه الآية إشارة إلى صلح الحديبية، إذ عاد على المسلمين بالنفع العام والخير الجزيل، ولذلك وافق رسول الله عليه مع ما فيه من الحيف تأسيا بوصية الله تعالى في هذه الآية. ثم خاطبه بما يوجب التيقظ بقوله «وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ» بطلب الصلح وميلهم إليه لتكف عنهم حال شدتهم ثم يكروا عليكم الكرة بعد استكمال قوتهم فلا يمنعك ذلك من قبول الصلح يا سيد الرسل، ولا تخش كيدا «فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ» هو كافيك عنهم وعن

مكرهم و «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ» فأعزك وقواك «بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) » باطنا وظاهرا وبالمهاجرين والأنصار «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» بعد ما كانوا عليه من الخلاف والعداء والبغضاء تأليفا بليغا بحيث «لَوْ أَنْفَقْتَ» لابتغائه كما كان وحصل «ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» مثل هذا التأليف الجامع «وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ» برحمته وجمع كلمتهم بقدرته وأماط تباغضهم وتماقنبهم بفضله «إِنَّهُ عَزِيزٌ» غالب على ما يريده قوي على أعدائه «حَكِيمٌ 63» بصنعه. وذلك أن بعثة الرسول فيهم قلبت الأنفة التي بينهم، وعظمة بعضهم، على بعض، وعصبية بعضهم مع بعض، وحسدهم، وأضغانهم في بعضهم لطما ولينا ورقة وسهولة وصفاء ومودة، كيف لا وهم صباح مساء يتمتعون بأنواره البهية، ويأخذون من أطواره المرضية، فتهذبوا وتلطفوا وتطهرت قلوبهم فتآخوا فيما بينهم وطابت قلوبهم. قالوا وكان إذا لطم رجل منهم آخر قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا آثارهم، وبعد ما جاءهم الرسول اتفقوا على طاعة الله، وتركوا ما كان بينهم، وصاروا من أنصار الله ورسوله، وصاروا عظماء ألفاء أقاموا الدين والدنيا، ولكن مع الأسف الآن ترى عظماء الرجال كالنيازك يضيئون العالم برهة ثم يحترقون، فلا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (64) عن كل أحد فصالح إذا صالحوا وقاتل إذا قاتلوا ولا نخش كيدا ولا غيره لأن الله ناصرك ومؤيدك عليهم وقاهرهم وخاذلهم «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» من أعدائهم «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ» صابرة «يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ 65» ما أعد الله للمجاهد إذا قتل في سبيله مسلما، وفي هذه الآية الكريمة حث على الصبر عند لقاء العدو والثبات بأن يقابل المؤمن عشرة من الكافرين ويقاتلهم لأنهم لا يفهمون من نتيجة الحرب إلا الغلب، ولا يقاتلون إلا حمية وأنفة، وليقال إنهم قاتلوا، ولا يعتمدون إلا على أنفسهم، والمؤمنون يقاتلون لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه ويبتغون لقاء الله وإنجاز وعده وهو الثواب والسعادة

في الدنيا والشهادة والجنة في الآخرة، لهذا يجدر بهم أن يصبروا على لقاء الجماعة، لأنهم يعتمدون على معونة الله الذي لا يغلبه غالب ولا يلحقه طالب. وهذه الآية من الأخبار التي لا يدخلها النسخ، ومن قال بنسخها قال إن الإخبار فيها من قبيل الأمر. وعدها منسوخة بقوله تعالى «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» بأن لا يقدر الواحد على العشرة، ولا يستطيع الصبر على الثبات أمامهم ولا يمكنه الفرار لعدم جوازه ولشدة العقاب المترتب عليه، فخففه الله بقوله «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ» على القتال «يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» من الذين كفروا «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) » وهذا التخفيف من لطف الله بالمؤمنين، بأن جعل عليهم لزاما مقابلة الواحد للاثنين من أعدائهم والصبر على مقابلتهما وعدم جواز الهرب من أمامهما، ولكن الأحرى لهذا القائل بالنسخ أن يعدل إلى القول بأن الآية الثانية جاءت مخففة مخصصة للأولى ومقيدة لحكمها لا ناسخة لها، وعليه فلا حاجة لأن تقول إن الخبر هنا بمعنى الأمر من حيث لا دليل عليه، وقد أسهبنا البحث في هذه الآية في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ فراجعها تعلم مغزى تسمية الله تعالى تخفيفا وأن لا يسوغ لنا أن نسميه نسخا، روى البخاري عن ابن عباس قال: لما أنزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ) الآية كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ولا عشرون من مئتين، ثم نزلت (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) فكتب أن لا يفر مئة من مئتين، وفي رواية شق ذلك على المسلمين. ومن هنا قال من قال بالنسخ، مع أنه لا نسخ والآيتان محكمتان لقوي الإيمان قوي الجنان بأن يثبت ليس للعشرة فقط بل لأكثر وأكثر، وللضعيف فيهم أن لا يفرّ من الاثنين، وكم من ضعيف قلبه ضعيف إيمانه يفر من الصغير، وكم من قوي قلب قوي إيمانه يقابل الكتيبة وحده. وهذا مما لا ينكر قبل والآن وبعد كما هو ثابت بالتواتر حتى في زماننا هذا، مع وجود البنادق والرشاشات وغيرها، فكيف فيما كان الأمر مقتصرا فيه على السيف والرمح والنبل، وكيف بشاكي السلاح والأعزل قال تعالى «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ

أي يكثر القتل والأسر ويبالغ فيهما حتى تذل له العصاة دون قتال وتطأطئ رؤسها إليه الكماة دون جدال، وتكسر شوكة المناوئين له، وتستسلم المجرمون لهيبته، ثم يقبل الفداء، ولهذا عاتب الله تعالى رسوله وأصحابه على قبولهم الفداء لأول أمرهم وبداية نصرهم في هذه الآية. ثم طفق يؤنب فعلهم بقوله «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» الفاني الزائل البالي «وَاللَّهُ يُرِيدُ» لكم شرف «الْآخِرَةَ» الدائم الباقي ويريد رفع شأنكم بإعزاز الإسلام والإغلاظ على الكفرة «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» بالغ العزة والعظمة لو شاء لغلبهم دونكم بتسليط جند من جنوده عليهم «حَكِيمٌ (68) » بالغ الحكمة في تسلطكم على نفيرهم الكثير مع قلتكم عددا وعددا لأمر يريده، وإلا لسلطكم على العير الذي كله دنيا، وأغناكم به عن الفداء وغيره وصرفكم عن النفير الذي فيه الدنيا والآخرة. فاعلموا أيها المؤمنون «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» بأنه لا يعذب أحدا باجتهاده في الحق «لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (68) لا يقاوم ولا يطاق، لأن أخذ الفداء قبل أن تعظم الهيبة في قلوب الأعداء وقبل أن تفشو القسوة عند سائر الناس لا يليق الإقدام عليه. ومن هنا قالوا: المجتهد إذا أصاب له أجران، وإن أخطأ له أجر واحد. ولهذا لم يؤاخذ الله رسوله وأصحابه الذين أشاروا عليه بأخذ الفدية لخلوص نيتهم ولرعايتهم الأصلح باجتهادهم، إذ رأوا بالفدية صد حاجة المجاهدين واستبقاء المفديين أملا بإسلامهم. قال محمد بن إسحاق لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدرا إلا أحب الفدية إلا عمر بن الخطاب، فإنه أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال، فقال صلّى الله عليه وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر وسعد بن معاذ. وأخرج مسلم في افراده من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس لما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العشيرة أي إن تأخذ منهم فدية يكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال قلت لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن

تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكني من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، فهوي رسول الله ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان، فقلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكا كما، فقال صلّى الله عليه وسلم أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله، فأنزل الله هذه الآية إلى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) فأحل الله الغنيمة لهم. ذكره الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب بزيادة فيه، وأخرجه الترمذي بزيادة أيضا وهي قوله صلّى الله عليه وسلم إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآية 26 من سورة إبراهيم في ج 2 ومثل عيسى قال (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الآية 118 من سورة المائدة الآتية، ومثلك يا عمر كمثل نوح (قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية 26 من سورة نوح في ج 2، ومثلك يا عبد الله بن رواح كمثل موسى (قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) الآية 88 من سورة يونس ج 2 وذلك لأنه قال حينما استشاره الرسول صلّى الله عليه وسلم في أسرى بدر قال يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارا. ولا دليل في هذا الآية على عدم عصمة الأنبياء كما قاله بعض العلماء، لأن الأنبياء معصومون من الخطأ، وما فعله حضرة الرسول من أخذ الفداء مطلق اجتهاد في حد الإثخان لأنه قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من عظماء المشركين، وكان هذا بالنسبة لنظر الأصحاب الذين أشاروا على حضرة الرسول بأخذ الفداء وبالنسبة لذلك الزم والعدوّ المنازل جدير بأن يسمى اثخانا، لأن الإثخان ليس إهلاك من في الأرض في يقينهم، فكان قبولهم الفداء اجتهادا منهم بأن ذلك كاف لإيقاع الرهبة الأعداء، والمجتهد لا يؤاخذ باجتهاده لأنه قد يخطىء ويصيب، وأجمعت الأمة: أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، فلم ير رسول الله ترجيح اجتهاد عمر وأصحابه على رأى أبي بكر وأصحابه، لأنه لم يقدم على ما فعله من أخذ الفداء استبدادا بل عن روى

وتدبر. ولهذا لم يؤاخذهم الله تعالى الذي أخبرهم بأن ما فعلوه بالمشركين لا يعد إثما كما يستفاد من الآية، فلم يبق لأحد إلا أن يقول أنه بالنسبة لذلك الزمن ولعددهم يسمى إثخانا ابدا، وقول الله هو الفعل الحق على أن الأمر بالقتل كان مختصا بالأصحاب لإجماع المسلمين على أن النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه لم يؤمر بمباشرة الجهاد أي القتل إلى أن نزلت آية النساء، وهي قوله تعالى (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) الآية 84 الآتية، ولكنه ساوى نفسه مع أصحابه، ولم يفضلها عليهم ليقوى يقينهم وتزداد شكيمتهم قوة، فإذا كان ما وقع فيه شبهة ذنب فهو من الأصحاب لا منه صلّى الله عليه وسلم، مع أن أخذ الفداء لم يكن حراما، والآية لا تدل على التحريم، إذ لو كان حراما لمنعهم الله من أخذه ولردوه لأربابه. وأما بكاء النبي صلّى الله عليه وسلم فكان إشفاقا من نزول العذاب على أصحابه لاشتغالهم بالأسر وترك القتل، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: عرض علي عذابهم، إلخ الحديث المتقدم، ولو كان مرادا لقال عرض علي العذاب، ولكان سياق خطاب الآية منصرفا إليه وحده، ولهذا لما تبين لهم أن اجتهادهم ليس بمحله وأن ما فعلوه لا يعد إثخانا عند الله ندموا على ما وقع منهم وخافوا من تأنيب الله إياهم، فصاروا يبكون، وإنما لم يرد الله أخذ الفداء لأن العرب إذا رأوا جواز الفداء عند محمد وأصحابه يسهل عليهم الإقدام على حريه ثانيا وثالثا إذ لا قيمة للمال عندهم في مثل هذه المواطن، وحتى الآن أمر العرب على هذا (ومنه ان من أهالي دير الزور السيد جمعة الفارس جاء إليه جماعة من عشيرته فطلبوا منه نصف مجيدي، فقال لماذا؟ قالوا قتلنا رجلا ونريد أن نؤديه، فأصاب كل رجل نصف مجيدي، فأعطاهم وقال لهم إذا كان من تقتلونه يصيب الرجل منا نصف مجيدي من ديته وتخلصون من دمه فاقتلوا كل يوم رجلا وتعالوا خذوا مني ما يصيني عن دمه.) والله يريد قمع دابرهم وأضعاف الخوف في قلوبهم، لأنهم إذا علموا أن الفداء لا يقبل وليس هناك إلا الذبح خافوا وأحجموا عن القتل والقتال، وذلوا فينقادوا للإسلام قسرا، وهذا هو المراد من قتالهم، وإلا لهان عليهم الفداء وحرص بعضهم بعضا على القتل كما وقع من هذا الديري بعد ألف وثلاثمائة وست وخمسين سنة أو أكثر على حادثة بدر هذه، والله أعلم بما يصلح لعباده.

قال تعالى مجيزا لهم أخذ الفداء المذكور ولو كان سابقا لأوانه لأن القصد من عدم أخذه ما ذكر أعلاه «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» لأنكم حزتموه بكسب أيديكم وبذل أموالكم ونفوسكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تقدموا مرة ثانية على عمل شيء قبل أن يعهد لكم فيه من قبل الله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لكم ما تقدم فيما استبديتم به من أخذ الفداء «رَحِيمٌ (69) » بكم إذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم به، لأنه كان مبلغ علمكم ونتيجة اجتهادكم وجامعة شئونكم. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى» الذين قبلتم منهم الفداء «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً» من الإيمان به والتصديق لرسوله وكتابه «يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ» من الفداء الذي فديتم به أنفسكم «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ما سلف منكم إلى لحظة إيمانكم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تاب مهما كان عليه من الكفر «رَحِيمٌ (70) » بجميع عباده يريد لهم الخير والرشد ويمهلهم ليرجعوا إليه، فمتى رجعوا إليه عن يقين وإخلاص قبلهم على ما كان منهم، وعفا عنهم. هذا ويوجد في القرآن اثنتا عشر آية مصدرة ب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) هذه والتي قبلها عدد 65، 64 والآية 71 من سورة التوبة الآتية، وفي الأحزاب 5 وواحدة في كل من سورة الممتحنة، والطلاق، والتحريم الآتيات. وقد نزلت هذه الآية في أسرى بدر الذين منهم العباس بن عبد المطلب، إذ أخرج معه عشرين اوقية من الذهب ليطعم بها قومه كسائر رؤساء قريش كما أشرنا إليه في الآية 37 المارة، وقد صادفت نوبة إطعامه يوم الهزيمة فأسر ولم يطعم منها شيئا، فأخذوها منه مع جملة ما أخذوه من غيره، وكان كلم حضرة الرسول بأن يحسبها من الفداء فلم يفعل، لأنها صارت غنيمة كبقية الأموال والمعدات التي آلت إليهم بسبب غلبهم عليهم، وكذلك الأمتعة والألبسة وغيرها، وقال له إن شيئا تستعين به علينا لا نتركه لك، وكلفه فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال يا محمد تريد تتركني أتكفف قريشا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أين الذهب الذي دفنته أم الفضل وقلت لها حين خروجك من مكة لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله وعبيد الله بني الفضل وقثم. قال ما يدريك يا ابن أخي؟ قال أخبرني ربي،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 71 إلى 75]

قال أشهد أنك لصادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله، والله لم يطلع على هذا أحد إلا الله وأنا وأم الفضل، وأمر ابني أخيه المذكورين، فأسلما، ويرحم الله الأبوصيري إذ يقول: وإذا سخر الله سعيدا ... لأناس فإنهم سعداء قال تعالى «وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ» هؤلاء الأسرى يا سيد الرسل بعد ما مننت عليهم وأعتقتهم من القتل ولم يوف بعضهم بما تعهد به من الفداء «فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ» أن يخونوك فإنهم كفروا نعمته وكذبوا رسوله «فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ» أن يخونوك ولم يوفوا بما وعدوك به من بقية الفداء، إذ ليس هذا بشيء عندهم بالنسبة لموقفهم من الله «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما في صدورهم «حَكِيمٌ» (71) فيما يفعل بهم. هذا آخر ما نزل في حادثة بدر في هذه السورة، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ابتغاء مرضاته «وَالَّذِينَ آمَنُوا» الرسول وأصحابه المهاجرين وأسكنوهم في منازلهم وساووهم بأنفسهم «وَنَصَرُوا» الرسول وأصحابه في حادثة بدر وغيرها على أعداء الله وهم الأنصار من الأوس والخزرج «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات الحميدة والأخلاق المجيدة «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» في المعونة والنصرة والمودة والولاية، حتى أنهم يرث بعضهم بعضا دون أقاربهم الكفار. ومن هنا أخذ منع الإرث عند اختلاف الدين والدار. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» لأنهم مقيمون في مكة وأنتم في المدينة، فلا تعاون ولا تناصر ولا توارث بينكم وبينهم، ويستمر الأمر كذلك «حَتَّى يُهاجِرُوا» فيكون ذلك كله بينكم وبينهم «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ» أولئك الذين في مكة «فِي الدِّينِ» واستغاثوا بكم من أجله «فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» واجب وتلزمكم معاونتهم ليتخلصوا من براثن الكفر فتقاتلوا الكافرين معهم لتلك الغاية. وهذا فرض عليكم في كل حال «إِلَّا» إذا طلبوا معاونتكم «عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» وعهد بعد المقاتلة فليس لكم نصرتهم وإعانتهم، لأن الوفاء بالعهد واجب ولا بترك الواجب لأجل واجب مثله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) » لا يخفى

عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم. وفي هذه الآية تحذير عن تعدي حد الشرع، ونهي عن تجاوز حدود الله، وأمر بمحافظة العهود، ولزوم مراقبة أوامر الله، لأن البصير هو المطلع على خفايا الأمور ووقائعها المحيط علمه بكل شيء. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» فلا توالوهم ولا تتولوهم وتباعدوا عنهم أيها المؤمنون، لأن نصرتكم إليهم يكون تقوية لهم وعزة لشأنهم، وقد أمرتم بإضعافهم وإذلالهم. وهذه الآية تفيد ثبوت ولاية الكافرين بعضهم لبعض، وتوارثهم بينهم، وفيما نهي عن معونتهم ونصرتهم، لأنها خبر بمعنى الإنشاء، يؤيد هذا قوله تعالى «إِلَّا تَفْعَلُوهُ» الذي أمرتم به من تعاون المؤمنين ومقاطعة الكافرين وخذلانهم «تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» (73) بينكم، لأن المسلمين إذا لم يكونوا يدا واحدة على عدوهم في كل أمورهم الحسية والمعنوية ظهرت أعداؤهم عليهم، وتفرقت كلمتهم، ووهنت قوتهم، وقد ينشأ من هذا اتفاق كلمة المشركين، وقوة شكيتهم، وتحديهم للمسلمين، لأن الفتنة هي قوة الكافر والفساد ضعف المسلمين، ولهذا البحث صلة في الآيات 20/ 21 و 64/ 70 و 72/ 74 من سورة التوبة الآتية. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» لأنهم بذلوا أموالهم وأنفسهم في طاعة الله ورسوله وهؤلاء «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عظيمة لذنوبهم مهما كانت كثيرة وكبيرة «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) » في جنات النعيم، ولا يعد هذا تكرارا لأن الآية الأولى ذكر فيها حكم ولايتهم بعضهم لبعض كما ذكر بعدها ولاية الكفرة بعضهم لبعض، وفي هذه ذكر ما من الله به عليهم من فضله وخيره، على أن إعادة الشيء مرة بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به والتعظيم لشأنه وعلو شرفه وإمكان مكانته وتمكن العناية به. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ» الهجرة الأولى ولحقوا بكم بعد الذين سبقوهم إليها «وَهاجَرُوا» بعدهم «وَجاهَدُوا مَعَكُمْ» بأموالهم وأنفسهم «فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» وأنتم منهم إلا أنهم لم يبلغوا درجة المهاجرين الأولين، لأنهم عند الله أعظم مرتبة وقدرا وأكثر تفاوتا وأجرا، ولو لم يكن ذلك لما صح الإلحاق بهم «وَأُولُوا الْأَرْحامِ»

تفسير سورة آل عمران عدد 3 و 89 و 3

القرابات البعيدة «بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» وحكمه من الميراث وغيره إذا كانوا على دين واحد ودار واحدة، وإلا لا توارث بينهم كما مر آنفا «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) » لا يعزب عن علمه شيء، وقد تمسك أبو حنيفة رضي الله عنه في هذه الآية في أحكام توريث ذوي الأرحام، وقال الشافعي رضي الله عنه إن هذه الآية مقيدة لآية النساء المفصلة للإرث. وسنأتي على ما يتعلق في الآيتين 117 وما بعدهما منها على هذا إن شاء الله. وإن معنى كتاب الله هو حكمه الذي بينه فيها، ولقائل أن يقول كيف تصح الإشارة إلى آية هي متأخرة عنها؟ فيقال انتصارا للإمام الشافعي الموجه إليه هذا الاعتراض وهو من عرفت، إنما صحت الإشارة إليه لا بالنسبة لترتيب نزول القرآن، بل بالنظر لترتيب القرآن الموجود في المصاحف الموافق لما هو في علم الله ولوحه، ومناسبة هذه السورة لما قبلها بحسب النزول ظاهر، لأن الذين يشملهم قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) إلخ، منهم الذين سألوا حضرة الرسول عن تقسيم الأنفال وحلتها وحرمتها، كما أن مناسبتها لما بعدها صريح، لأن الذي وفق هؤلاء المؤمنين للتعاون والتناصر والتآخي بينهم هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم المصدرة به السورة التي بعدها، وهكذا إذا دققت وجدت بين كل سورة وما بعدها وما قبلها مناسبة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. تفسير سورة آل عمران عدد 3 و 89 و 3 نزلت في المدينة بعد سورة الأنفال وهي مئتان وثلاثة آلاف آية، وأربعمائة وثمانون كلمة، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا. لا نظير لها في عدد الآي. ونظائرها فيما بدئت به تقدم بيانها في سورة الأعراف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «الم (1) » «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) » 2 سم مبالغة بمعنى القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت.

مطلب في وفد نجران ومناظرته مع حضرة الرسول، وبيان المحكم والمتشابه في القرآن العظيم:

مطلب في وفد نجران ومناظرته مع حضرة الرسول، وبيان المحكم والمتشابه في القرآن العظيم: نزل أوائل هذه السورة الكريمة في وفد نجران وكانوا ستين رجلا برئاسة العاقب عبد المسيح الذي لا يصدرون إلا عن أمره ورأيه في أمر دنياهم، والسيد الأيهم ثمالهم أي القائم بنفقاتهم ورحلهم، وابن حارثة بن علقمة أسقفهم أي حبرهم المطاع فيما يتعلق بأمور دينهم. ولم تر الأصحاب وفدا مهيبا مثلهم، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإسلام، فقالوا أسلمنا قبلك، أي أنهم آمنوا بالمسيح المستقاة شريعته من الإنجيل والتوراة، ومن شريعة إبراهيم عليه السلام الذي سمى اتباعه المسلمين ودينه الإسلام، قال لهم يمنعكم ادعاؤكم بأن عيسى بن الله وعبادتكم الصليب، أي يهودا الإسخريوطي الذي صلب باسم المسيح عيسى عليه السلام، وأكلكم لحم الخنزير؟ فقالوا إذن من هو عيسى؟ فقال أنتم تعلمون أن لا يكون ولد إلا ويشبه أباه، قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الموت؟ قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى، قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا، قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب؟ قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا بلى، قال فكيف يكون إلها ما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل الله صدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. وفي رواية قالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال بلى، قالوا حسبنا، فرد الله عليهم بأنه لا إله إلا هو الدائم الباقي القائم على كل شيء والمدبر لكل شيء، فكيف يثبتون له ولدا وهو لم يلد ولم يولد؟ قال تعالى «نَزَّلَ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية «وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» على موسى وعيسى كما أنزله عليك، ولم يذكر الزبور لأنه عار عن الأحكام وهو عبارة عن أدعية واستغاثات، وكان إنزال تلك الكتب ومن قبلها الصحف «مِنْ قَبْلُ» إنزال

القرآن عليك يا أكمل الرسل وتشديد نزل أولا يدل على التكثير، لأن القرآن نزل نجوما فيما يقرب من ثلاث وعشرين سنة، وتخفيف أنزل ثانيا يدل على أن الكتابين نزلا جملة واحدة دفعة واحدة، وكل من هذه الكتب أنزلها الله تعالى «هُدىً لِلنَّاسِ» من الظلمات إلى النور «وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ (3) » أعاد ذكره ثانيا تعظيما لشأنه وسماه فرقانا لفرقه بين الحق والباطل «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسله «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) » ممن كفر به كائنا من كان. واعلم أن نزول هذه الآيات بالوفد المذكور لا يمنع عمومها في غيرهم، بل هي عامة في كل ما ينطبق عليه معناها «إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» (5) من كل نام وجماد وماء وهواء «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) » وفي هذه الآية رد على النصارى القائلين لو لم يكن عيسى إلها لما أحيا الميت بأن المستحق للألوهية هو الذي (لا يَخْفى عَلَيْهِ) الآية، وان الذي يصوره غيره لا يكون إلها، وقد دلت هذه الآية على قضية محكمة من معجزات القرآن مبهمة لم تخطر على قلب بشر وهي تماثل النطف، إذ تبين أخيرا بعد اختراع المكبرات أن نطف الحيوانات كلها مثل نطف ابن آدم لا يختلف بناؤها الجوهري ولا بعضها عن بعض إلا بالحجم والشكل والكثرة والقلة، وان التصوير لا يحصل إلا في الأرحام، ولولا ذلك لخرج الإنسان في صور حيوانات شتى، فمن أخبر محمدا صلّى الله عليه وسلم هذا الخبر الذي كان غيبا إذ لم تكن جامعة علمية نظامية ولا مدرسة كلية طبية في زمنه ليقال إنه تعلمها أو فهما منها ولذلك جاءت في كتابه، وقد أيدت هذه الآية بالآية 8 من سورة الانفطار المارة في ج 1 وهي قوله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إذ لو أهملت هذه المهمة لولدت الناس غنما وكلابا وحميرا وشبهها، فورب السماء والأرض إن هذا من الإله القادر العظيم وإنه لحق مثلما أنكم تنطقون، وإنه لقول فصل وما هو بالهزل. ورحم الله الأبوصيري إذ يقول. آيات حق من الرحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم

لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن إرم أنزله على من أنزل عليه قوله «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ» قطعية الدلالة على المعنى المراد لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير كما قال الأبوصيري: محكمات فما يبقين من شبه ... لذي شقاق ولا يبغين من حكم وإنما خص بعض الأحكام هنا وعممها أول سورة هود في ج 2، لأن الإحكام الذي عممه هناك غير الإحكام الذي خصصه هنا، لأنه بمعنى الإحكام العام الذي لا يتطرق إليه التناقض والفساد، كإحكام البناء، لأن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدّمة عليه التي تخالف أحكامه، والمراد بالإحكام الخاص هنا أن بعض آياته قد يتطرق إليها التقيد والتخصيص بآيات أخرى منه لم تقيد ولم تخصص بغيرها وهي ما يسميه بعض العلماء نسخا من حيث لا نسخ بالمعنى المراد في أقوال علماء الناسخ والمنسوخ، تأمل. وهذه المحكمات لا تتأول لوضوح معانيها وظهور دلالتها فهي محفوظة من احتمال الشبه، ولهذا وصفهن الله بأنهنّ «هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ» المعول عليها بحيث لا يستهدفها التفسير والتصرف، ولا يحول حولها التغيير والتبديل بالتعبير إلى أبد الآبد «وَ» منه آيات «أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» لا يمتاز بعضها عن بعض فيتطرق إليها التفسير والتأويل، لأنها تحتمل معاني كثيرة فتحتاج للتأمل والتدبر، وقد يكل العقل عن فهم المراد منها فلا يتضح بعضه ولا يفهم المعنى منه إلا بالنظر والتدقيق والتأمل والتدبر، لأن منها ما يشبه غيرها لفظا ومعنى، وقد يشابه اللفظ اللفظ ويختلف المعنى، ويشابه المعنى المعنى ويختلف اللفظ، وإذا كان للفظ الواحد معان كثيرة صالحة لأن تؤول به أشياء متباينة فلا يعلم القصد الحقيقي الموضوع له إلا من قبل واضعه وهو الله عز وجل، لذلك فإن البشر عاجز عن معرفة المقصود منه. واعلم أن آيات القرآن كلها محكمة وحق وصدق لا بحث فيها من هذه الحيثية كما جاء في آية هود المتقدمة في ج 2، ولكن من حيث أن كلمه يشبه بعضها بعضا في الحق والصدق، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، وجزالة النظم وصحة المعنى وحقيقة المدلول، فكله متشابه كما جاء في آية الزمر المارة في ج 2

في قوله (كِتاباً مُتَشابِهاً) الآية 23، وهذا هو وجه الجمع بين هذه الاية التي نحن بصددها والآيتين المذكورتين، ولا منافاة بينهما البتة، راجع الآية 82 من سورة النساء الآتية، وعليه يصح أن نقول القرآن كله محكم على الوجه الذي بيناه في سورة هود، وكله متشابه على النحو الذي ذكرناه في سورة الزمر، ومحكم من وجه متشابهه من آخر على الصورة التي أوضحناها هنا. ثم اعلم أن الآيات المحكمة هي ما تشتمل على الأحكام من حلال وحرام، وأمر ونهي، ووعد ووعيد، وحدود مما قد أطلع الله عليه عباده على معناه، ولم تكرر ألفاظه بمعنى آخر، ولم يحتج إلى بيان، ومنه الآيات المدنيات في سورة الأنعام المكية في ج 2 التي أولها (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلخ من 151/ 153 إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، ونظيرها الآيات المكيات من 22/ 26 ومن 27/ 31 ومن 34/ 39 من سورة الإسراء المكية في ج 1 من قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (مَدْحُوراً) ، وفيها الوصايا العشر المذكورة في التوراة والمشار إليها في الاصحاح الخامس من إنجيل منى بفصول متفرقة، والمتشابه ما عدا ذلك مما يحتمل التأويل والتفسير وتحوير المعنى بحسب ما يحتمله اللفظ من أوجه كثيرة. واحتاج للبيان وتكررت ألفاظه كالقصص والأخبار والأمثال من جميع ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما استأثر الله تعالى بعلمه فلا سبيل إلى معرفته كالخبر عن أشراط الساعة ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج وقيام الساعة والروح ومحل موت الإنسان ودفنه وكسبه ونزول الغيث وما في الأرحام، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج 2. ثم اعلم أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا أو معاني كثيرة فالأول يسمى نصا كقوله تعالى (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، والثاني إما أن تكون دلالته على مدلولين أو مدلولات متساوية أم لا فالأول يسمى المجمل كقوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فإنه يدل على الحيض والطهر راجع الآيتين 222/ 228 من سورة البقرة المارة، وقد بينا فيها أن الأرجح هو الحيض لا الطهر لتأييده بالحديث الصحيح المذكور هناك، وقد استدل من قال إنه بمعنى الطهر بقول الأعشى: ففي كل عام أنت جاثم غزوة ... تشد لأقصاها غريم عرائكا

مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا أراد أنه يخرج للغزو ولم يغش نساءه أيام طهرهن لأنه يضيع أيام الطهر بالسفر لا أيام الحيض. والثاني الذي يدل على مدلولات كثيرة فهو بالنسبة إلى الراجح ظاهر لقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية 22 من سورة النساء الآتية، وبالنسبة إلى المرجوح مؤول لقوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) لأنه قد يرد إلى قوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية 145 من البقرة المارة «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ» عن الحق وميل إلى الشك كوفد نجران المار ذكره واليهود الذين أرادوا معرفة بقاء ملك محمد صلّى الله عليه وسلم من مجموع أعداد الحروف المقطعة أوائل السور القرآنية على حساب الجمل من حروف الأبجدية من ألف أبجد إلى ياء حطي آحاد، ومنه إلى س سعفص عشرات، ومنه إلى غ ضظغ مئات، إذ قالوا إن حرف نون يدل على خمسين، وق على مئة، وحروف الم تدل على بقاء ملك محمد إحدى وسبعين سنة، وحروف كهيعص تدل على 165 والمص على 161، والراء على 231، والمرا على 271 سنة، ولذلك اختلط الأمر علينا فلا نؤمن بك، فنزلت «فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ» أي ليفتنوا الناس فيضلوهم عن دينهم بالتشكيك والتلبيس بداعي أن المحكم مناقض للتشابه على زعمهم «وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ» وطلب تفسيره حسبما تسول لهم أنفسهم، وتشتهيه أهواؤهم، وتميل إليه قلوبهم من التأويلات الزائغة. والآيات هذه بمعزل عما يتخيلونه من المعاني ويتصورونه من الحسبان، لقوله تعالى «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ» على الحقيقة المرادة منه «إِلَّا اللَّهُ» الذي أنزله، وذلك مثل قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله بيده الملك) وكذلك ما جاء في المجيء والإتيان والقبض المنسوب إليه تعالى مما جاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المعبر عنها بآيات الصفات وأحاديثها، والحكمة في عدد زبانية جهنم، وحملة العرش، ودركات النار، ودرجات الجنة، وركعات الصلاة، وأيام الصوم، واختصاصه برمضان، وبعض أركان الحج، ووقت قيام الساعة، ومعنى الحروف المقطعة أوائل السور، ووقت طلوع الشمس من مغربها وظهور الدجال، ونزول عيسى

ابن مريم، وخروج الدابة، وبقية أشراط الساعة، وفناء الدنيا. وهنا تم الكلام بالوقف على لفظ الجلالة، وما بعده كلام مستأنف فيبتدئ القارئ بقوله «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» الثابتون فيه الذين أتقنوا أصوله وفروعه بحيث بلغوا من اليقين فيه حدا لا يتطرق إليهم الشك والشبهة معه، لأن هؤلاء الأبرار القادة الأخيار «يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ» أي المتشابه على ما هو عليه، واعتقدنا أحقيته على ما جاء من الله، واعترفنا أن أفهام البشر قاصرة عن معرفة المراد منه، وهذا هو إيمان التسليم وهو مذهب السلف الصالح كما أشرنا إليه عند كل ذكر يتعلق به، راجع الآية 210 من سورة البقرة المارة. واعلم أن هذه الجملة الأخيرة حالية، وفيها على هذه القراءة وفي الوقف على لفظ الجلالة في الجملة قبلها ثناء على الله تعالى بالإيمان بما جاء في كلامه بلا تكييف، وعليه جرى أكثر المفسرين وبه قال ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب والسيدة عائشة وأكثر التابعين وهو الموافق لسياق التنزيل، ووقف بعض القراء على كلمة (العلم) وتابعه بعض المفسرين، إلا أن الوقوف عليها يحتاج إلى كلام آخر ليكون مبتدأ، وفيه ما فيه من تعبير النظم وتبديل المعنى، تأمل. ويقول أولئك الكاملون العارفون «كُلٌّ» من المحكم والمتشابه منزل «مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» عز وجل ما علمنا منه وما لم نعلم، ويجب علينا الإيمان بهما ويفترض علينا أن نكل علم ما لم نعلم منهما إليه تعالى وتعمل بما علمناه. روي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه: الأول تفسير لا يسع أحدا جهله، الثاني تفسير تعرفه العرب بألسنتها، الثالث تفسير تعلمه العلماء بما علمهم الله، الرابع تفسير لا يعلمه إلا الله وهو مما استأثر الله بعلمه. والراسخون في العلم هم العلماء العاملون بما علموا المتقون فيما بينهم وبين الله، المتواضعون فيما بينهم وبين الناس، الخافضون جناحهم للمتعلمين منهم الزاهدون في الدنيا، المجاهدون أنفسهم في عبادة الله، المخلصون بأعمالهم له، ذوو القلوب الحيّة المتذكرون بما ذكرهم به ربهم «وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) » أمثال هؤلاء الراسخين الذين يقفون عند قولهم آمنا به الملهمين علمهم من الله عز وجل القائلين عند تلاوة المتشابه «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا» عن الهدى كما أزغت قلوب أولئك المفتونين «بَعْدَ

إِذْ هَدَيْتَنا» للإيمان بما جاء عنك في كتابك محكمه ومتشابهه بعد أن أرشدتنا لدينك الحق «وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» تثبتا بها على ذلك «إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (8) كثير العطاء، اسم مبالغة من الواهب بلا أمل عوض أو قضاء غرض، وهذا هو معنى الهبة الحقيقية، ولما كانت القلوب محلا للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال وسائر الجوارح تابعة لها، خصها بالذكر، والقائلين أيضا «رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ» يوم البعث والفصل الذي ينكره عمه القلوب. والوعد في هذا اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق بعد فنائها هو وعد حق «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) » كما يحقق وعده في كل ما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله، فمن سبقت له السعادة في علمه هدي للأخذ بما أنزل الله فيحيا، ومن سبقت له الشقاوة زاغ قلبه فمال إلى التأول فوقه في الشك فهلك. وبعد أن بين الله تعالى في هذه الآيات التسع انفراده بالوهيته وبالحياة الأبدية واستحقاقه للعبادة وأنه هو الواضع للشرائع بما أنزل من الكتب على لسان الرسل، وانه واهب الحياة لكل حي، والعقل لكل عاقل ومنظم السنن للخلق، وجاعل الآيات عبرة لذوي العقول، وأنه يمهل الظالمين ليرجعوا إليه، وإن أصروا فلا يهملهم من عذابه لعدم اعتقادهم بما أوجبه عليهم من الأخذ بالكتب والطاعة للرسل، ثم ندد بالنصارى لاتخاذهم عيسى إلها بسبب بعض ما أظهره الله على يده من المعجزات، ولم يعلموا أن الله هو الذي منحه إياها لهدايتهم لدينه في زمنه، وأنه هو الذي كونه برحم أمه بلا أب وجعله آية منه لعباده، ليعلموا أن قدرته غير متوقفة على شيء من الأسباب الظاهرة، ثم انه بين لعباده أن القرآن منه محكم ومتشابه ليتفاوت الخلق في معرفته، وليعلموا من مغزاها وجوب الأخذ بظاهر المتشابه، لأن التأويل تحكم في مراد الله وهو مذموم عنده، ومن مقتضى الرسوخ بالعلم التصديق بظاهر ما أخبر الله كما يليق بجلاله لا كما تدركه عقولهم من الأمور المحسوسة، لأن أمور الله غير محدودة، وإدراك البشر محدود، والمحدود لا يحيط بغير المحدود، فالاعتراف بالعجز عما لا يدرك والسكوت عن السؤال فيه سدّ لسد مداخل الشيطان إلى الإنسان بما يؤدي لوضع الشك في القلب، والأحسن

[سورة آل عمران (3) : الآيات 11 إلى 20]

لقليل العلم أن يكف عن التفكير في هذا ويتركه لأهل المعرفة الراسخين في العلم، لأن قلوب العارفين لها عيون، ترى ما لا يراه الناظرون. ثم شرع في بيان حال الكافرين عنده فقال جل جلاله «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» في الآخرة لأنهم تفكهوا في الدنيا وأخذوا لذتهم منها، فجاءوا للآخرة بلا عمل صالح «وَأُولئِكَ» الكافرون بالله ورسله الذين ابتاعوا الآخرة بالدنيا والرحمة بالعذاب «هُمْ وَقُودُ النَّارِ» (10) ليس لهم عند الله ما يدفع عنهم عذابها، فدأبهم التكذيب والجحود «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» مع السيد موسى عليه السلام «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» مع رسلهم «كَذَّبُوا بِآياتِنا» التي أنزلناها لهم على أيدي رسلهم كما كذب أولئك «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ» وأهلكهم بتكذيبهم «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» (11) إذا عاقب وتفيد هاتان الآيتان أن الإنسان مهما أوتي من قوة مالية أو بدنية لا يقدر أن يقاوم قدرة الله، وأن الكفر بآياته سبب لنقم الدنيا والآخرة، فعلى العاقل أن يعتبر بمصير الأمم السالفة ويركن للأخذ بما جاءه على لسان رسل ربه كي ينجو مما حلّ بالمخالفين، فيا سيد الرسل «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» من قومك المحدّين لك «سَتُغْلَبُونَ» في هذه الدنيا حتما مهما كنتم عليه من قوة، ثم تقتلون وتموتون «وَتُحْشَرُونَ» في الآخرة فتحاسبون على كفركم ثم تساقون «إِلى جَهَنَّمَ» لتجاوزا على كفركم «وَبِئْسَ الْمِهادُ» (12) مهاد جهنم. مطلب آيات الله في واقعة بدر. ومأخذ القياس في الأحكام الشرعية. وأن الله خلق الملاذ إلى عباده ليشكروه عليها ويعبدوه: قال ابن عباس وغيره: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش وأسلموا له، فقد عرفتم أني نبي مرسل في كتابكم، فقالوا إنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب، فلو قاتلناك لعرفتنا، فأنزل الله تلك الآية وهذه «قَدْ كانَ لَكُمْ» أيها اليهود عبرة «آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا» في بدر «فِئَةٌ» قليلة مؤمنة «تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يعني حضرة الرسول وأصحابه «وَأُخْرى» فئة

كثيرة «كافِرَةٌ» يعني كفار قريش «يَرَوْنَهُمْ» أي الفئة الكافرة ترى المؤمنة «مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» خلالهم فيكونون ثلاثه أمثالهم، والحال أنهم دونهم لأن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، والكافرون ألفا، فالقول بأنهم ثلاثة أمثالهم أوفق للمعنى، وهذا على حد قول من عنده دراهم فيقول أنا محتاج لمثليه أي ما عداه ليكون ثلاثة، فتكون هذه آية أخرى وحضور الملائكة آية ثالثة «وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده «إِنَّ فِي ذلِكَ» الغلب الواقع من القليل للكثير وتكثير القليل وتقليل الكثير بالنظر «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (13) وعظة عظيمة لأولي البصائر، فالذين لا ينتفعون ببصرهم ولا ببصائرهم يخذلون ويهلكون. يفهم من هذا أن النصرة بالقوة المعنوية أكثر منه بالقوة المادية، وأن الله يكتبه لمن يشاء بقطع النظر عن العدد والعدد، وأن الثقة بالله تولد القوة في القلوب، وبسببها يكون الظفر، ويستدل منها على وجوب الاتعاظ بالحوادث وقياسها على الوقائع. ومن هذه الآية والآية الثانية من سورة الحشر الآتية أخذ العلماء القياس في الأحكام الشرعية كما أشرنا إليه في الآية 35 من سورة الإسراء المارة في ج 1، وذلك لأن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره وقياسه عليه. قال تعالى «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ» المعلمة بالغرّة والتجميل الحسان الراعية بنفسها «وَالْأَنْعامِ» من الإبل والغنم وغيرها «وَالْحَرْثِ» يدخل فيه جميع الزروع والأشجار «ذلِكَ» المذكور من أصناف الزينة هو «مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» الواطية السافلة الفانية بما فيها «وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (14) في الآخرة التي فيها من أسباب الزينة ما هو ثابت لا يبيد، ولم ير مثله في الدنيا إلا من حيث الاسم، وان هذا التزيين في الحقيقة من عند الله تعالى، فمنهم من يسوقه تزيينه إلى الشقاء، ومنهم إلى السعادة، كما هو مدون في أزله، لأن الله تعالى هو الفاعل الخالق لأفعال العباد كلها، راجع الآية 61 من البقرة المارة والمحالّ التي ترشدك إليها تعلم أن الله تعالى خلق هذه الملاذّ وغيرها لعباده كي يشكروه ويعبدوه، قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)

الآية 29 من البقرة المارة أيضا، وقال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الآية 32 من سورة الأعراف ج 1 لا ليكفروا به ويجحدوا نعمه، وإنما قسم النساء في هذه الآية لأنهن أصل الملاذ الدنيوية، وما بعدهن من تتمة الشهوات التي يميل إليها الطبع البشري في الدنيا، ولهذا جاءت مرتبة على فطرتهم لما فيها من التباهي والتفاخر والتعالي، وقد جاءت هذه الآية بعد ما بيّنه الله تعالى في الآيات قبلها مما يحدثه في قلوب المجاهدين من الثبات وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم ووجوب الثقة بالله أعقبها بذكر ما من شأنه أن يثبط الهمم ويحول دون تسابق الناس في ميدان الجهاد، فذكر فيها أن الانهماك في هذه الشهوات يضعف محبة الله في القلب، ويثبط عن الإقدام في سبيل الله فعلى العاقل أن لا يندفع وراءها، لأنها مهما كانت فهي فانية، وأن يشغل نفسه بما يؤدي لطاعة الله ورسوله. قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء اللاهين في زحارف الدنيا «أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ» المذكور كله الذي سيكون «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» في الآخرة هو «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» حسان فيها مقصورة لا يراهن غيرهم ولا يرون غيرهن «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» (15) يؤثر ما عنده من العطاء الخلد لمن يؤثر الآخرة على الدنيا، وقد حث الله تعالى على ترك الشهوات الدنيوية لأنها فانية وقد تؤدي بصاحبها إلى الخسران في الآخرة، ورغب بما عنده من النعيم الباقي ليعملوا بما يؤملهم إليه. وهذه الآية تدل على أن الله تعالى هيأ لعباده المتقين جزاء ما قدمت أيديهم من الخير، وعلى مخالفة ما تشتهيه أنفسهم الطّماحة، ثم وصفهم بقوله «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ» (16) وهؤلاء المتحققون بتلك النعم النفيسة قد خص منهم «الصَّابِرِينَ» على البلاء «وَالصَّادِقِينَ» بما يقولون ويفعلون لذوي الحاجات وأرحامهم «وَالْقانِتِينَ» لربهم المتهجدين بالليالي «وَالْمُنْفِقِينَ» من أموالهم على الأصناف الثمانية المذكورين في الآية 60 من سورة براءة الآتية «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ» لذنوبهم آناء الليل وأطراف النهار وخاصة «بِالْأَسْحارِ» (17)

ثلث الليل الأخير وإنما خص الاستغفار بها، لأنها أوقات الإجابة للقائمين وأوقات توغل نوم الغافلين. قال تعالى «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» بأنه الإله المنفرد الخالق المحيي المميت «وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ» شهدوا بما شهد الله ذاته جلت وعظمت، وشهدوا أنهم من جملة خلقه، وأنه هو وحده المدير لشنون الكون، وانه كان ولم يزل «قائِماً بِالْقِسْطِ» العدل ومتصفا بصفات الكمال «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (18) في تصرفاته وأفعاله وأحكامه، وبناء على هذه الشهادة الصادرة من الرب الجليل صاحب الإعطاء والمنع يجب على الخلق كافة الاعتراف بتوحيد الرب وتنزيهه عن جميع النقائص. لما قدم أحبار الشام إلى المدينة قالوا ما أشبه هذه بصفة مدينة النبي الذي يخرج آخر الزمان، ولما دخلوا عليه عرفوه بالصفة الموجودة في كتبهم، فقالوا له أنت محمد؟ قال نعم، قالوا وأنت أحمد؟ قال نعم، قالوا فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا آمنا بك وصدقناك، قال اسألوا، قالوا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلموا لما رأوا من الحق والصدق فيه وفي وصفه الكامل الشامل. قال تعالى «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» راجع الآية 3 من المائدة الآتية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) والآية 85 الآتية وهي (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» في نبوة محمد ودينه «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بأن الإسلام هو الدين الحق، فاختلفوا فيه «بَغْياً بَيْنَهُمْ» وحبا لبقاء الرياسة فيهم، فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية كما مرّ في الآية 112 من البقرة، فردّ الله عليهم بأن الدين المرضيّ عند الله هو الإسلام «وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ» ويتخذ إلها من دونه ودينا غير دينه «فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (19) يحاسب عباده على ما يقع منهم وأنه يجازيهم إن شاء «فَإِنْ حَاجُّوكَ» يا سيد الرسل وجادلوك في الدين وخاصموك من أجله «فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» وحده وخص الوجه لشرفه وهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل بالنسبة إلينا، والله منزه عن الجزئية والكلية وعن جميع ما هو من سمات البشر «وَمَنِ اتَّبَعَنِي»

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 30]

أسلموا لله أيضا، ومن هنا يراد معناه الدال على الجمع أي انقادوا بكليتهم لله وأخلصوا له الدين إخلاصا كاملا «وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من اليهود والنصارى «وَالْأُمِّيِّينَ» من مشركي العرب وغيرهم ممن لا كتاب لهم «أَأَسْلَمْتُمْ» مثل إسلامنا هذا بأن نعبد الله وحده ولا نجعل له ولدا ولا شريكا «فَإِنْ أَسْلَمُوا» وانقادوا لله مثلكم وخضعوا خضوعكم إلى الدين الحق الثابت في كتبهم والمعترف به عند الشدائد وأسلموا إسلاما حقيقيا «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى الحق وصاروا مثلكم «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عن الإسلام وأعرضوا عنكم ولم يعترفوا بما أوجبه الله فاتركهم «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ» فقط، وقد قمت به وما عليك أن لا يهتدوا، لأن القبول والاهتداء على الله «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» (20) والبصير يعلم بمن يؤمن ومن يصر على كفره. وهذه الآية محكمة لا منسوخة كما قاله بعض المفسرين، لأنها مسوقة لتسلية حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ليخفف عن نفسه من شدة حرصه على إسلامهم ويهون من تألمه على إعراضهم، وقد وضح الله لهم الشريعة التي يريد من خلقه السير عليها، وان الأديان السماوية يرجع أساسها إلى دعوة واحدة هي التوحيد لله، وان الاختلاف وقع من تلاعب الرؤساء في الديانتين اليهودية ولنصرانية بسبب ما أدخلوه من تحريم وتحليل وتغيير وتبديل على حسب أهوائهم، وان من يدعوا الناس إلى الحق فقد قام بواجب الدين ولا يضره عدم الإجابة وإعراض الناس عنه قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ» من العلماء ولأولياء «مِنَ النَّاسِ» جميعهم أولهم وآخرهم «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (21) عاجل وآجل، كان أنبياء بني إسرائيل بوحي إليهم بإنذار قومهم دون أن يأتيهم كتاب من الله، لأنهم ملزمون بأحكام التوراة، فكانوا يقتلونهم فيقوم رجال ممن آمن بهم فينهونهم ويأمرونهم بالكفّ عنهم، فيقتلونهم أيضا، فأخبر الله نبيه محمدا بما كان منهم ليقصه على يهود المدينة وغيرهم فيعلموا أنه بإخبار الله إياه لعلهم يؤمنون، فلم يتجع بهم «أُولئِكَ الَّذِينَ» هذه صفتهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» ولعنهم الناس وأخزوهم على فعلهم ذلك فيها «وَالْآخِرَةِ» تحبط

فيها لأنهم يحرمون ثوابها بسبب جناياتهم تلك «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (22) يخلصونهم من عذاب الله. بين الله عز وجل في هذه الآية مصير أولئك الكفرة وما أعده لهم ولمن على شاكلتهم، وذكر فيها شدة نقمته على اليهود لكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ومحاربتهم لدعوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وإن كل من يتصف بإحدى هذه الخصال الثلاث هو كافر لا ينتفع بعمله الحسن، إذ ظهر أنه لم يرد به وجه الله، وتفيد هذه الآية أن محاربة من يدعو إلى الحق تحبط الأعمال كالكفر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب من المؤمن حتى في حالة الخوف، لأن الله تعالى مدحهم في هذه الآية وجعل منزلتهم بعد الأنبياء، وقد جاء في الحديث الصحيح أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. وقال عمر بن عبد الله: لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل ممن قام بالقسط فقتل عليه. وبعد أن أمر الله رسوله بالإعراض عن الكافرين وأخبره بمصيرهم أراد أن يخفف من تألمه ويقلل من حزنه على عدم قبولهم نصحه وإرشاده فقال جل قوله «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً» حظا وافرا «مِنَ الْكِتابِ» وهم اليهود «يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» فيما يختلفون فيه من أحكام التوراة. وقال بعض المفسرين القرآن لأن ما فيه موافق للتوراة غالبا «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن التحاكم إليه «وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (23) عنه مع أن الواجب يدعوهم للانقياد لأحكامه والإذعان لحكمه «ذلِكَ» عدم قبولهم وإعراضهم «بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» بقدر أيام عبادتهم العجل الواقعة من أسلافهم «وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» (24) من زعمهم ذلك ومن قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، قال ابن عباس: دخل رسول الله على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله، فقال له فيهم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم، قال إن إبراهيم كان يهوديا، فقال صلّى الله عليه وسلم هلموا إلى التوراة لتحكم بيننا، فأبيا فنزلت. وقيل إن رجلا زنى بامرأة فقضى رسول صلّى الله عليه وسلم برجمه، فأنكرا عليه، فقال ذلك، فنزلت. قال تعالى مندّدا صنيعهم هذا «فَكَيْفَ» يكون حالهم «إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ

فِيهِ» المحقق وقوعه الثابت جمع الناس فيه «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» جزاء ما قدمت في الدنيا من العمل «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (25) بزيادة على جزائهم ولا نقص من ثوابهم، وتشير هذه الآية إلى التعجب من حال المذكورين فيها في الآخرة، إذ تخرس ألسنتهم الطوال فيها وتخمد أنفسهم الشامخة وتقتصر همتهم المتكابرة فيبتهون، وتشخص أبصارهم فيذلون، وتفيد أن من دعي إلى الاحتكام إلى كتاب الله وجبت عليه الإجابة، وتومىء إلى أن مجرد الانتماء إلى الأديان أو الانتساب إلى الأنبياء أو الاتصال بالأولياء لا يكون سببا لسعادة الإنسان، ولا مدادا إلى نجاته من عذاب الله، بل لا بد من العمل بالشريعة والطاعة إلى الأوامر أو النواهي، لأن من الحمق أن يدعي الرجل التمسك بدين لا يخضع لحكمه، ومن الخطأ أن يدعي الانقياد إلى الرسل ولا يعمل بإرشادهم ونصحهم، ومن الجهل أن يتلو كتابا لا يفقه معناه ولا يميل لمرماه، ومن الغرور أن يتكل على ما لم يعتقد صحته. هذا وبعد أن بين الله تعالى لرسوله ما يقوله أهل الكتاب من التعنت وما يتذرعون به من الإعراض عن الإيمان أراد أن يبين له أن السر في ذلك هو إرادته لا غير فقال جل قوله يا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (26) ومن بعض قدرتك أنك «تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» بصورة ظاهرة غير محسوسة ومعلومة غير معروفة، راجع الآية 49 من سورة الأنفال المارة فيما هو من هذا القبيل. أما معنى قوله «وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» فقد مرّ في الآية 13 من سورة فاطر في ج 1 وهي مبدوءة بالياء كهذه، ولا يوجد في القرآن آية من نوعها مبدوءة بالتاء غير هذه، فراجعها. «وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (27) تقدم تفسير مثلها كثيرا. قال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارسل والروم في أمته، وقالت اليهود لا نطيع رجلا ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية.

مطلب في معنى الحساب وعلامة رضاء الله على خلقه وموالاة الكفرة وتهديد من يواليهم أو يحبتهم:

مطلب في معنى الحساب وعلامة رضاء الله على خلقه وموالاة الكفرة وتهديد من يواليهم أو يحبتهم: واعلم أن كلمة الحساب تأتي على ثلاثة أوجه بمعنى التعب والسبب والتغير والبسط كما هي الحال هنا، وبمعنى العدد، كما في قوله تعالى (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الآية 14 من سورة الزمر في ج 2، وبمعنى المطالبة كما في قوله تعالى (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الآية 39 من سورة ص في ج 1، فكل ما جاء في القرآن العظيم من هذه اللفظة لا يعدو احدى هذه المعاني الثلاثة. وما جاء في بعض الكتب المنزلة: أنا الله ملك الملوك ومالك الملك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا لي أعطفهم عليكم. وجاء في الخير أن موسى عليه السلام قال فما علامة سخطك من رضاك يا رب؟ فأوحى إليه إذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضاي، وإذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطي. وهذا على حد قوله كما تكونوا يولى عليكم. وقوله أعمالكم عما لكم. قالوا للحجاج الثقفي لم لا تعدل وقد شاهدت زمن عمر؟ قال تبذروا لي أنعمر لكم. أي كونوا كأبي ذرّ من أصحاب عمر في الزهد والتقوى أكن لكم كعمر في العدل والإنصاف. وهذا لا يخلصه من الله فيما جار في حكمه إذ كان عليه أن يعدل في كل حال، لأن الحاكم مكلف بالعدل أحسن الناس أم أساؤوا. وتفيد هذه الآيات أن العزة والكرامة من منح الله تعالى ينشرها على من يشاء من عباده وأن الخير كله منه، وان تقسيمه على الخلق تابع لسنن مطردة عنده تعالى يجعلها في صالح خلقه، كما أن تفاوت ساعات الليل والنهار وتداخلها بحسب تطور الفصول هو في مصلحتهم أيضا. والحكم الشرعي وجوب الاعتقاد بما ذكر من المشيئة لا على الأسباب، لأن القول بترتب الأسباب على المسببات يستلزم الدور والتسلسل ويتعارض مع كمال القدرة، وان ما قضت به حكمة الله من السنن والأسباب الظاهرة عبارة عن وسائل ومظاهر خارجية لا تأثير لها في خلق الحوادث وإيجاد المسببات، لأن الله تعالى له أن يغير تلك السنن ويعطل هاتيك الأسباب التي نراها

ويفعل ما هو من مقتضى مشيئته. وبعد أن أمر الله تعالى رسوله في ذلك الدعاء المشار إليه في الآيتين المارتين وأفهمه بأنه هو الذي يملك الملوك ويمنح العزة لمن يشاء من عباده ليتحققوا ويتيقنوا أن لا يكون شيء إلا بإرادته، طفق يحذره من الاتصاف بأحوال لا تتفق وكرامة المؤمن الصادق الواثق بربه، فقال «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ» أنصارا لهم وأعوانا على غيرهم «مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» إذ قد تؤدي موالاتهم للتفريط في حقوق الله والإفراط في حقوق المؤمنين «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» فيواليهم ويحبهم وينقل أخبار المسلمين إليهم «فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» ولا قيمة لهم عند الله، ولا وزن، وقد يفضي لغضب الله انظر لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) الآية 144 من سورة النساء الآتية، وان الله تعالى نهى حتى عن اتخاذ الآباء والأبناء أولياء إذا كانوا كفارا كما سيأتي في الآية 25 من سورة التوبة الآتية. وسيأتي في الآية 118 مما هو من هذا القبيل وأشد، لأن موالاتهم توجب معاداة الله، وقيل في هذا: تودّ عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب أي ليس الحمق عنك بمفارق بل هو ملازم لك ما دمت على هذه الحالة وقول الآخر: إذا والى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام وهذا تكرر النهي عن ذلك في القرآن العظيم كما سيأتي في الآيتين المذكورتين والآية 54 من سورة المائدة وأول سورة الممتحنة وآخر سورة المجادلة الآتيات، فضلا عما جاء في الأحاديث الصحيحة من تحذير موالاتهم بصداقة أو مصاعرة أو قرابة أو نسبة أو لأمر ما من أسباب المعاشرة والتقرب إليهم، لأن المحبة يجب أن تكون لله وفي الله ومن أجله، والبغض كذلك في سبيل الله ولا نتهاك حرماته، ولأجل أوليائه، وهذا أصل من أصول الدين التي يجب التقيد فيها، وهذا لا يعني عدم مراعاة حقوقهم ومحافظتهم وكف الأذى عنهم وعيادتهم في الأفراح والأتراح وزيارتهم ومجالستهم وغيرها، لأنه حق على المسلمين كلهم لقوله صلّى الله عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا إذا قاموا بالشروط المأخوذة عليهم وأدّوا الجزية المفروضة عليهم،

أما إذا خالقوا وتجاوزوا ونقضوا فلا، والحب المذموم هو الذي يوجب ضررا دينيا أو دنيويا لعامة المسلمين وخاصتهم، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المشار إليها آنفا إن شاء الله تعالى القائل «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» فتخافوا فتنة محققة أو بغلبة الظن تضر بالمسلمين وليس بوسعكم دفعها ولا تجدون من يعصمكم منها، فإنه يجوز لكم موالاتهم ظاهرا مع الكراهة الباطنة كالمسلم المنفرد في دار الحرب، وفيما إذا ظهروا على المسلمين والعياذ بالله، ففي هاتين الحالتين وشبههما فلا بأس من مداهنتهم ومداراتهم كمن أكره على الكفر، فإنه يجب عليه أن يكون قلبه مطمئنا بالله والإيمان به كما بيناه في الآية 106 من سورة النحل المارة في ج 2 ويشترط أن يكون الخوف صحيحا، وأن يكون القتل أو تلف العضو محققا أو بغلبة الظن، لأن دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان واجب، وإلا فلا يجوز حتى انه لو صبر على القتل ولم باطنهم في أمر المسلمين فهو خير له، وله عند الله الأجر العظيم لأخذه بالعزيمة وترك الرخصة، لأن الرخصة إنما تباح إذا لم ينشأ عنها مضرة عامة للمسلمين فإذا تحقق حصولها ولو بغالب الظن فليس له الأخذ بها، تدبر «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» من أن تخالفوا أمره أو تولوا أعداءه إذ يشتد غضب الله لهذين لأمرين أكثر من غيرهما «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (28) والمرجع فلا مهرب لكم أيها الناس منه. واعلموا أن من تيقّن أن مرجعه إلى الله عمل لما به رضاء ولم يقدم على ما نهاه. هذا، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما ذهب رسول الله إلى بدر، وكان تبعه رجل من المشركين ذر جرأة ونجدة، وان المسلمين فرحوا به، فلما رآه الرسول قال له ارجع فلن أستعين بمشرك ويروون هذا عن عائشة رضي الله عنها فلا نصيب له من الصحة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم أي أعطاهم من الغنيمة شيئا رآه، لأن الرضخ عطاء غير كثير أقل من سهم المجاهد، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، فالاستعانة بهم جائزة بشرط الحاجة والوثوق، وبدونهما لا، وعلى هذين الشرطين يحتمل خبر عائشة إن صح، وما رواه الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وله خلفاء من اليهود، فلما خرج صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب

قال له إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معك، فستظهر بهم على العدو، بعيد أيضا، لأن حادثة الأحزاب لم تقع قبل، أو عند نزول هذه هذه الآية وانطباقها عليها لا يعني أنها نزلت فيها، وكثير من الآيات مما نزل في مكة ينطبق على حوادث وقعت في المدينة وبالعكس، فلا يقال إنها سبب للنزول. وعلى هذين الشرطين جاز التزوج بالكتابيات واتخاذهن والرجال منهم خدما، أما من قال بعدم جوازهم عمالا واستخدامهم بالدواوين الحكومية فهو مقيد بنفي هذين الشرطين أيضا، أما إذا كانوا متلبسين بالشرطين المذكورين وهما الحاجة والوثوق فلا بأس، تدبر. وكونهم من أهل الذمة الذين تنبغي مجاملتهم واحترامهم ومخالطتهم بالحسنى يؤيد ما نحن فيه، لأن هذا من البر الذي أمرنا الله تعالى به في الآية 8 من سورة الممتحنة الآتية فراجعها. وقالوا أنزلت هذه الآية في حاطب ابن بلتعة، أو في عبد الله بن أبي بن سلول، وأضرابه من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهي عامة في كل من هذا شأنه وفي من يظهر هو عورات المسلمين لأعدائهم خاصة، وما ذكرناه أعلاه الحكم الشرعي في هذه الآية، ومنه يؤخذ عدم جواز ولاية الكافر على المسلم، بأن يكون فيما أو ووصيا عليه، ولا يعقل المسلم جناية الكافر ولا الذمي لما فيه من الولاية له والنصر وان الاتقاء المرخص به في هذه الآية بشترط فيه تحقق تلف النفس أو بعض الأعضاء، أو ضرر كبير يحل فيه، والأحسن أن يأخذ بالعزيمة إذا كان فيه دفع ضرر عام عن المسلمين، أو فيه إعزاز دين المسلمين فيما يتعلق بالحروب وغيرها. وتومىء هذه الآية إلى جواز عقد المعاهدات والاتفاقات معهم إذا ضمن فيها مصلحة المسلمين، لأن النهي لا يمنع من هذا. قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الذين يوالون الكفرة خلسة «إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ» من مودتهم ومحبتهم «أَوْ تُبْدُوهُ» غير مبالين به ولا بإخوانكم المؤمنين «يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ويعاقبكم عليه وكيف يخفى عليه حالكم هذا وهو يطلع «وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (29) لا يعجزه من وما فيهما، واحذروا أيها الناس «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» مثل ما عملت لم

مطلب من معجزات القرآن تماثيل الأعمال كالسينما وفي طاعة الله ورسوله التي لا تقبل الأولى إلا مع الثانية وهناك من الأمثال ما يقاربها:

يزد ولم ينقص «وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» محضرا أيضا كما عملته، وحذف لفظ محضر من هذه الجملة لدلالة وجوده في الأولى، كما يحذف مثله من الأول بدلالة وجوده في الثانية، وهو كثير في القرآن، ومن محسنات البديع في الكلام ولبحثه صلة في الآية 86 من سورة النساء الآتية. وإن النفس التي عملت السوء «تَوَدُّ» في ذلك اليوم العصيب «لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ» بين عملها السيء «أَمَداً بَعِيداً» زمانا ومكانا بحيث لا تراه «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كررت هذه الجملة تأكيدا لزيادة الاعتناء بالاجتناب «وَاللَّهُ رَؤُفٌ 30» ولذلك يحذرهم بالتباعد عما يضرهم لئلا يؤدي بهم إلى الهلاك. مطلب من معجزات القرآن تماثيل الأعمال كالسينما وفي طاعة الله ورسوله التي لا تقبل الأولى إلا مع الثانية وهناك من الأمثال ما يقاربها: تفيد هذه الآية أن أعمال العباد كلّها تجسم لهم يوم القيامة كما وقعت منهم وتعرض عليهم بأزمنتها وأمكنتها وهيئتها كما يعرض شريط السينما الآن فيسرون لما فيها من الخير ويساؤن لما فيها من الشر، وهذه من معجزات القرآن العظيم إذ لم يغفل شيئا مما وقع في الدنيا من أولها إلى آخرها، راجع الآية 88 من سورة الأنعام والآية 49 من سورة الكهف المارتين في ج 2. وتشير أيضا إلى وجوب عدم التعرض لذات الله تعالى بالبحث عن كنهها أو تصورها وهيئتها، لأنه قد يوقع في نسبة التجسيم والتكييف وهما محالان على الله تعالى، ولهذا قال (ص) : تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته متهلكوا. وترمي إلى أن العبد إذا كان يوم القيامة تمثل له أعماله، وأنه يسر لما حسن منها ويساء لما قبح، فعلى العاقل أن لا يقدم على ما يعاقب عليه، ويكثر مما يثاب عليه. قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه وإلى وفد نجران القائلين إنما نقول إن عيسى بن الله محبة فيه وتعظيما له «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 31» نزلت هذه الآية ردّا لهم وتعليما بأن طاعة الله هي محبته ولذلك أمره بقوله لهم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» لتكونوا أحبابه وأنبيائه على أنه هو الأب الأكبر

لجميع الخلق «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك ولم يمتثلوا أمرك وأصروا على كفرهم «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) » ومن لا يحبه الله فإنه يبغضه يا ويله، لهذا فإنه تعالى رسم لعباده في هذه الآية طريق القرب لرضائه والحصول على محبته، وبين لهم أن ذلك يكون بمتابعة رسوله في أقواله وأفعاله وفي كل ما يندب إليه. نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سلول إذ قال إن محمدا يريد أن يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى. مشعرة بأن طاعة الرسول هي طاعة الله ولا تتم طاعة لله إلا بطاعة الرسول. والحكم الشرعي أن طاعته واجبة كطاعة الله، والامتناع عنها يعد كفرا يعاقب عليه من المقالات التي لا تقبل الجملة الأولى منها إلا بالثانية المعطوفة عليها، فلا تقبل طاعة الله مع عدم طاعة الرسول، وإن زعم أنه مطيع ومطيع، والثانية قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية 14 من سورة لقمان في ج 2، فمن شكر الله ولم يشكر والديه فكأنه لم يشكر الله ولا يقبل منه شكره إن لم يشكر والديه. والثالثة قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الآية 43 من سورة البقرة المارة وهي مكررة كثيرا في المكي والمدني، فمن لم يزك كأنه لم يقم الصلاة. وهنا يقال أربعة تحتاج إلى أربعة: 1- الحب إلى الأدب، 2- والسرور إلى الأمن، 3- والقرابة إلى المودة، 4- والعقل إلى التجربة. وأربعة تؤدي إلى أربعة: 1- العقل إلى الرياسة، 2- والرأي إلى السياسة، 3- والعلم إلى التقوى، 4- والحلم إلى التوقير. وهنا مثلثات أخر: المؤمن لا يخلو من قلة أو ذلة أو علة. وثلاثة لا ينامون: البردان والخائف والجائع. وثلاثة لا يبردون: الوجه والجاهل والمجنون، أي لا يعرفون البرد ولا مضرته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني. وقيل: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محال في الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع

وعليه فإن من ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله كان كاذبا في دعواه، لأن من أحب حبيبا أحب من يتصل به، حتى داره وكلبه، وقال العامري: أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا هذا وبعد أن بين الله تعالى لعباده طريق الظفر بمحبته وسبيل نيل رضوانه، أراد أن يبين لهم بعض من اصطفى من عباده فقال عز قوله «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ» إسماعيل وإسحاق ويعقوب «وَآلَ عِمْرانَ» موسى وهارون وأولادهم أو مريم وعيسى إذ قد يكون المراد بعمران والد مريم والأول أولى والله أعلم، واختارهم لذاته «عَلَى الْعالَمِينَ» (33) من أهل زمانهم وهذان الآلان النجيان كانا «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» على دين واحد وعقيدة واحدة «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لمن يدعوه بنية خالصة «عَلِيمٌ» (34) بمن يؤهله لهذا الاصطفاء، لأنه أعلم حيث يجعل رسالته. قال ابن عباس: قالت اليهود نحن من ذرية إبراهيم وإسحق وعلى دينهم، فأنزل الله هذه الآية ترد عليهم بأن الله اصطفى هذه الذرية للإسلام وإبراهيم كان مسلما، فلستم من ذريته ما دمتم على يهوديتكم. واذكر يا سيد الرسل لقومك وأمتّك «إِذْ قالَتِ» حنّة بنت فاقوذ «امْرَأَتُ عِمْرانَ» بن باثان أحد رءوس بني إسرائيل، قالوا كان بينه وبين عمران والد موسى ألف وثمنمئة سنة، ومقول القول «رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» عتيقا خالصا لعبادتك لا أسفله بشيء من أمور الدنيا «فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لدعائي «الْعَلِيمُ» (35) بنيتي وحقيقة نذري «فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» بأن هذه الأنثى خير من كثير من الذكور لما سيكون منها إلا أنه كان متعارفا عندهم أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة، لذلك قالت ما قالته على سبيل الاعتذار «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» في جواز تحريرها وصلاحيتها للنبوة «وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ» ومعناه الخادمة والعابدة «وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها» أعيذها بك يا رب «مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» (36) وأحصنها

مطلب ولادة مريم من حنة وتزويج زكريا من إيشاع وقصتهما وما يتعلق فيهما:

باسمك من غوايته فلا تجعل له سبيلا عليها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم من مولود إلا نفسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من نخسه إياه إلا مريم وابنها. ثم يقول ابو هريرة اقرأوا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُها) الآية. قال تعالى مجيبا لهذه النادرة الكريمة «فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً» بأن غرس فيها الصلاح والعفّة والثقة بالله تقديرا لثقة أمها به وإخلاصها إليه وسلك بها طريق السعادة وسوى خلقها فنشأت كأحسن نساء زمانها «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» بأن جعله فيما عليها وضامنا لمصالحها وهو زوج خالتها إذ توفي والدها وهي في بطن أمها فتربت في حجرة تربية عالية، وناهيك بتربية معلمي الناس التربية حتى إذا كبرت بني لها محرابا في الكنيسة مرتفعا، وصار يتعاهدها وحده ويأتيها بطعامها وشرابها، وأول ما رأى من كرامتها على ربها أنه «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً» فاكهة بغير أولها ولما تكررت رؤيته لتلك «قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا» الرزق ومن أين أتاك ومن الذي جاءك به وهو لا يوجد لفوات موسمه وعدم حلول أوانه «قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لأني أراه بحضر إلى دون أن يأتي به أحد ولا تعجب أيها العم «إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (37) ومن حيث لا يحتسب الإنسان بمحض الفضل مما لا يدخل تحت عد أو حصر من شيء لا ينقص ولا يحد أي أنه من ثمر الجنة إذ لا يوصف غيره بما ذكر وهذا من الإحسان الذي يأتي بلا كسب ولا عناء. مطلب ولادة مريم من حنة وتزويج زكريا من إيشاع وقصتهما وما يتعلق فيهما: وخلاصة هذه القصة على ما ذكروا أن زكريا عليه السلام بن آذن بن مسلمة ابن حبرون من أولاد سليمان عليه السلام تزوج إيشاع اخت حنه أم مريم عليها السلام وكانت حنة زوجة عمران أيست من الولادة فبينما هي في ظل شجرة، رأت طائرا يطعم فرخا فتحركت نفسها ودعت الله أن يهب لها ولدا على أن تتصدق به إلى بيت المقدس سادنا، فحملت بمريم فأخبرت زوجها فقال ويحك كيف إذا جئت بأنثى؟ فاهتمّا لذلك ثم مات عمران ووضعت بعده مريم فاعتذرت إلى ربها وهو عالم بذلك

فسمتها العابدة أو الخادمة وتضرعت إلى الله أن يعصمها ويجعلها صالحة لأنها من بيت الصالحين فلفتها وألقتها في المسجد لدى سدنته من آل هرون، وحيث كان أبوها امامهم أراد كل منهم ضمها إليه ليربيها، فاقترعوا عليها وألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها في نهر الأردن، على أن الذي يظهر قلمه تكون له، فرست كلها وهي تسع وعشرون قلما وطاف قلم زكريا فقط، فأخذها وتكفل بها وتقبلها الله منه ورضيها وأنشأها نشأه حسنة طاهرة مرضية كما ذكر الله، ولما رأى زكريا ما عندها من الفاكهة كما مر في الآية وأن أمها ولدتها بعد الكبر واليأس وكان هو أيضا لم يأته ولد، طمع في ربه عز وجل وقال الذي يقدر على هذا قادر على أن يعطيني ولدا على شيخوختي وانقراض أهل بيتي، قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك الوقت الذي رأى فيه معجزة الولادة مع الكبر ومعجزة وجود الفاكهة بغير أوانها وكل ذلك على خلاف العادة فقد حدا به الحال إلى أن «دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ» وهو جالس في محراب مريم «قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ» (38) فأجابه عزّ وجل بقوله «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ» جبريل عليه السلام ومرافقوه «وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ» نفسه حالا وقالوا له «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» سماه بهذا الاسم لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وكبر أبيه «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» أي بعيسى عليه السّلام ابن خالته، لأنه كان بكلمة كن من غير أب فوقع عليه اسم الكلمة ولأن الله تعالى بشر به أمه على لسان جبريل فسمي كلمة، ولأن الله أوحى إلى الأنبياء قبله في الكتب المنزلة أنه يخلق نبيا من غير أب، فلما ولد قالت الأحبار المطلعون على ذلك هذا هو ملك الكلمة أي الوعد الذي وعد الله به، قالوا وولد قبل عيسى بستة أشهر، وهو أول من آمن به، وان عيسى تعمد عنده، وقتل يحيى قبل رفع عيسى إلى السماء كما مر بيانه، وسبب قتله في الآية 7 من سورة الإسراء ج 1 «وَسَيِّداً» رئيسا ليسود الناس لأنه من بيت الأسياد، وعظيما جليلا مهابا «وَحَصُوراً» لا يأتي النساء هضما لنفسه مع القدرة على الجماع، لأن العنّة نقص والأنبياء مبرءون من النقص المادي والمعنوي «وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (29) لإرشاد عبادك وإعلاء كلمتك، أي

[سورة آل عمران (3) : الآيات 41 إلى 50]

مرسلا لا نبيا فقط «قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ» وهاتان الحالتان لا يتأتى معهما حصول الولد إلا علي طريق خرق العادة وهو من عادتك «قالَ كَذلِكَ» مثل هذا الفعل الخطير الذي يعجز عنه البشر يحدثه ربك «اللَّهُ» العظيم الذي «يَفْعَلُ ما يَشاءُ» بأن يهب لكما ولدا وأنتما على حالتكما هذه. قالوا وكان عمره مئة وعشرين سنة، وعمر زوجته ثمانيا وتسعين سنة، وقوله هذا ليس على طريق الاستبعاد بل استعظاما للقدرة واعتذارا منه عز وجل، لأنه يعلم أن ربه قادر على أكثر من ذلك، ولكن الذي ساقه على ذلك عظم سروره وشدة فرحه بإجابة دعوته حدث به إلى ذلك، والتذاذه بسماع كلام ربه، عدا ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله بأنه كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة، وانه نسي السؤال وقت البشارة ولذلك استبعد شيئا على خلاف جريان العادة، ينفيه وجود الفاء الدالة على التعقيب بلا فاصلة تأمل. وما قيل إن الخطاب الأخير كان مع الملائكة يرده صراحة القول باسم (رَبِّ) وإياك أيها العاقل أن يخطر ببالك معنى الشك، فإن ساحة الأنبياء مبرأة منه البتة، فاحذر أن يحوك في صدرك شيء من هذا، قالوا أزال الله عقمهما وكبرهما وجعلهما صالحين لذلك، راجع الآية 90 من سورة الأنبياء المارة في ج 2، إذ قال فيها (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) قال بعضهم بقيا على حاهما وهو أبلغ في القدرة وأعجب، ولكن الأول أولى لصراحة القرآن بالإصلاح، وكلتا الحالتين عند الله سواء، إذ لا يعجزه شيء «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» على حمل زوجتي «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» أي لا تقدر على تكليم أحد خلاها شفاها راجع الآية 10 من سورة مريم في ج 1 وأفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج. قالوا ولما حملت عقد لسانه إلا عن ذكر الله كما جاء في قوله عزّ قوله «وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» (41) وهذه من المعجزات الباهرة لأن قدرته على الذكر دون الكلام مع الناس أمر خارق للعادة وإنما منع من الكلام ليخلص العبادة لله على هذه النعمة، وكان يشير لمن يكلمه بالمسبحة لأن الرمز هو الإشارة باليد أو بإحدى الأصابع أو العين أو الحاجب أو الرأس.

مطلب في الاصطفاء، ومن كمل من النساء، وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها:

ومن قال إن صومهم كان بلا كلام خالف صريح القرآن من غير حاجة إلى العدول عن ظاهره وهو لا يجوز. مطلب في الاصطفاء، ومن كمل من النساء، وما احتوت عليه هذه الآيات وما يتعلق بها: قال تعالى «وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ» من الحيض والنفاس ومس الرجال ومن الذنوب والنقائص، لأنك ربيت في المسجد بكفالة أكبر الأنبياء فيه، لأنه لم يخصص لخدمة البيت أنثى غيرك «عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) » من أهل زمانك، وخصك بالإتيان بولد من غير زوج وبإسماع كلام الملائكة المقدم بالآية السابقة وفي قوله «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ» اخضعي وأديمي القيام في الصلاة لمولاك الذي شرفك بهذه النعم «وَاسْجُدِي» له سجود تعظيم وعبادة «وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» (43) لله، قالوا قامت في عبادة ربها حتى تورمت قدماها وسالت قيحا، وكانت صلاتهم سجودا بلا ركوع وبعدها ركوعا بلا سجود، فأمرها بهما معا ولم نجمع قبل إلا لها، وجمعت لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وصارت على هذه الصفة الحاضرة الآن بتعليم جبريل عليه السلام دون سائر الأمم، وسندوم إلى يوم القيامة إن شاء الله «ذلِكَ» الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل هو «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ» لتذكره لأمتك وأهل الكتابين ليعلموا أنه من غيب الله لأنك لا تقرأ ولا تكتب «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» أي الأنبياء والأحبار الموجودين في البيت المقدّس حينما تشاوروا على طلب مريم كفالتها وحينما افترعوا على تربيتها «إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ» في النهر ليظهر لهم «أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» فيكون أهلا لتربيتها «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» حاضرا معهم «إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (44) في شأنها، وقد أخبرناك به لنخبر به قومك وخاصة أهل نجران الذين جاءوا ليختبروك فيستدلوا به على نبوتك. روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول خير نسائها (أي الأرض في عصرها) مريم بنت عمران وخير نسائها (أي على الإطلاق) خديجة بنت خويلد. لا تدخل فاطمة رضي الله عنها لأنها كانت صغيرة حين هذا القول وهي أفضل نساء

الدنيا والآخرة. ورويا عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وليس في هذا الحديث ما يدل على تفضيلها على خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، كما ليس فيه ما يدل على تفضيلها على مريم وآسية بل على من عداهما في زمانهما، يدل على هذا ما أخرج الترمذي عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلم حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون إذ لم يذكر عائشة معهن، تدبر. قال بعضهم: ولو أن النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال ويفهم من هذا أن الاصطفا من قبل الله لأحد من خلقه لا يقتضي كونه نبيا، لأن مريم متفق على عدم نبوتها وعلى عدم صلاحية الأنثى للنبوة، ولهذا فلا يكون أيضا سببا للعصمة لأنها خاصة بالأنبياء بعد النبوة، وإنما يفيد البشارة لشموله بعين الرضاء، ومن شملته عناية الرضاء فقد نجا، وتدل على أن الرزق قد يكون بلا سبب كما وقع لمريم، ومن جحد هذا كان جاحدا لقدرة الله وهو كفر، وعلى أن صلاح الآباء ودعاءهم لأولادهم يعود عليهم بالخير كما سيأتي في الآية 26 من سورة الرعد ولآية 25 من سورة محمد الآتيتين، وتفد جواز النذر ووجوب الوفاء به إذا كان فربة لله تعالى، أما إذا خصص ببشر فلا، لأنه من نوع العبادة ولا تكون إلا لله كما سنفصله في الآية 30 من سورة الحج الآتية إن شاء الله، وترمي إلى جواز تأديب الولد وتربيته راجع الآية 12 فما بعدها من سورة قمان ج 2، وتشير إلى تعليمه من قبل أمه وتسميته حال فقد أبيه، وتوجب على الخلق الإيمان بقدرة الله فيما هو خارج عن نطاق العقل كوجود ولد بلا أب مثل عيسى عليه السلام، وان إنكاره كفر صريح، وترشد إلى أن صدور الدعاء مع الثقة بالله في وقت الحاجة لا بد وأن يجيبه الله تعالى تفضلا منه وبرّا بوعده المار ذكره في الآية 187 من سورة البقرة المارة، والآية 10 من سورة المؤمن في ج 2، وتنبيه

إلى عدم استبعاد الإجابة ولو كانت محالا إذ لا محال على الله، وعلى الداعي أن يربط قلبه بالأسباب الظاهرة، لأن الله يعطي بلا سبب ويمنع بلا سبب، ومن السخف ما جرى على ألسنة الجهلة من قولهم قال الله (وجعلنا لكل شيء سببا) مع أن الله لم يقل هذا في كتابه، فهو كذب على الله وإنما قال في سورة الكهف (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) يعني ذا القرنين الآية 84، وترمي إلى أن الله تعالى إذا اختار أحدا من خلقه رفع قدره وحفظه وعمل على يده العجائب، وان الاصطفاء مهما كان لنبي أو وليّ لا يسقط عنه التكليف كما يزعمه بعض الجهلة المتصرفة بل قد يزيد عليه من التكاليف الشرعية لتزداد رغبته وتعلو رتبته عند ربه، إذ ليس أحد في غنى عن الكمال الأنبياء فمن دونهم، كما ليس لأحد أن يستغني عن الإكنار من الطاعة. ثم طفق جل شأنه بعدد ما أنعم به على مريم فقال يا سيد الرسل اذكر لقومك «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ» كون منها ولدا بلا بعل «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» أي معروف بهذه الجملة، وأصل عيسى يشوع إذ لا سبن في اللغة العبرية ولهذا يسمون موسى موشى والمسيح مشيح ومعناه الصديق الذي تمس يده ذوي العاهات فتبرئهم. أما تسمية الدجال مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى كذاب يخرج آخر الزمان فينزل عيسى إذ ذاك من السماء فيقتله، وكان السيد عيسى عليه السّلام في زمنه صديقا كاسمه ولا يزال «وَجِيهاً» ذا جاه سام ورفعة عالية وقدر كريم وسماة شريفة ووجاهة عالية «فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» (45) عند الله، وفيها إشارة إلى رفعه إلى السماء كما سيأتي بعد عشر آيات، ومن خصائصه أنه معظم عند ربه «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» قبل أو ان كلام مثله راجع الآية 20 من سورة مريم فى ج 1 إذ تكلم ببراءة أمه مما رميت فيه وهو رضيع قريب عهد بالولادة «وَكَهْلًا» بإنذارهم وبشارتهم إذ يرسله الله بعد إكمال الثلاثين من عمره، والكهل من اجتمعت قراه وكمل شبابه وتجاوز الثلاثين من عمره. قال ابن قتيبة أرسل عيسى لثلاثين من عمره ودعا الناس إلى الله ثلاثين شهرا أو ثلاث سنين على قول وهب بن منبه، ثم رفع إلى السماء «وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (46) كإبراهيم وبنيه

لأنه من نسله «قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ» وهذا على طريق التعجب لا شكا منها، كيف وقد رأت المعجزات في محرابها مما يشابه معجزات الأنبياء ومن ابنها كذلك، وإنما قالت ذلك لأن العادة مطردة عدم كون ولد بلا والد «قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» مما هو خارق للعادة ابداعا منه فيحصل منك ولد وأنت عذراء كما جعل آدم من الطبن وخلق حواء منه و «إِذا قَضى» الإله القادر على كل شيء «أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (47) بلا كلفة ولا زمن ولا واسطة، لأن أمره بتكوين ما يريده يكون بين هذين الحرفين فيولده منك بذلك «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) » الذي سينزله عليه خاصة «وَرَسُولًا» يجعله ويرسله «إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» خاصة وهو آخر نبي يرسل إليهم منهم وأول أنبيائهم يوسف عليه السلام ويقول لهم «أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» دالة على صدقي ونبوتي وهي «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ» أصوّر «مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ، الْأَكْمَهَ» مطموس العينين المولود أعمى «وَالْأَبْرَصَ» الذي في جلده وضح بياض شديد مكروه وهو عيب من العيوب الشرعية التي ترد بها لزوجه، وينتقل من الجدود إلى الأحقاد، وقد سماه الله سوءا في الآية 23 من سورة طه فى ج 1، لقبحه في البشر والبقرة منه «وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ» في بيوتكم دون معاينة وسماع به «وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» للأكل «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق والإبراء والإحياء والإخبار «لَآيَةً» عظيمة على صدق رسالتي «لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 49» بالله لذي أرسلني إليكم «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» في التوراة من جواز العمل يوم السبت وأكل لحوم الإبل والشحوم وغيرها ورفع الآصار الثقيلة، راجع الآية الأخيرة من البقرة المارة تعلم ماهيتها، وهذا هو معنى النسخ، لأن الله بعث عيسى بشريعة أخف من شريعة موسى عليهما السلام لما رأى فيها أزلا من الصلاح لعباده في عصره، وجعل نهايتها

[سورة آل عمران (3) : الآيات 51 إلى 60]

في عصر عيسى لتلك الغاية، كما هو مدون في لوحه العظيم، وعلى هذا ينطبق قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) كما أوضحناه في الآية 107 من البقرة المارة. واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية 81 من هذه الصورة، واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية 81 من هذه الصورة، والآية 156 من سورة الأعراف ج 1، وكلمة تدخرون لم تكرر في القرآن كله «وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ» واضحة «مِنْ رَبِّكُمْ» على كوني عبدا له ورسولا منه إليكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» (50) لما أدعوكم إليه وهو أن تعترفوا وتقولوا «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» وحده أيها الناس ولا تشركوا به شيئا كما دعت الرسل قبلي أقوامها إلى هذا، وفيه براءة له عليه السلام مما ينسب إليه من وقد نجران وغيرهم القائلين بأنه ابن الله أو أنه الإله أو جزء من الإلهية مما هو بهت وزور عليه وعلى ربه القائل لكم أيها الناس «هذا» للذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (51) لا يتعداه إلا كافر. مطلب معجزات عيسى عليه السلام وقصة رفعه إلى السماء وعمل حوارييه من بعده: وإنما خص الله تعالى عيسى في هذه المعجزات لأن الغالب المرغوب في زمانه الطب، فالرجل البارع فيه معتبر عندهم فجعل الله معجزته من جنس ما يرغبون ولكن ما يعجز عنه البشر لأنهم مما برعوا في الطب لا يستطيعون إبراء الأكمه والأبرص بمجرد اللمس دون عقاقير فضلا عن إحياء الموتى، لأنه ليس في طوق البشر، وأنه عليه السلام لما ادعى النبوة تعنت عليه بنو إسرائيل وطلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا والخفاش من أكمل الطير خلقا لأنه يطير بلا ريش وله أسنان وللأنثى ثديان، ويحيض كما تحيض النساء، وتطير بالليل وتكمن بالنهار، وتختفي في البرد وتظهر في الحر، ولها خصائص عجيبة، راجع تفصيلها في كتاب حياة الحيوان للأستاذ الدميري، فأخذ عليه السلام طينة وصورها في الظاهر مثلها وقال لها كوني بإذن الله كما يريدون، ونفخ فيها فكانت حالا وطارت أمامهم، ولم يؤمنوا، ثم كلفوه إحياء العازر ابن العجوز بعد ثلاثة أيام، فأحياه ولم يؤمنوا، ثم أحيا لهم بطلبهم بنت العاشر وبقيا حيين وولد لهما بعد إحيائهما، وأظهر معجزات

أخرى كثيرة من تكثير الطعام وإحياء سام بن نوح عليه السلام فقام أمامهم من قبره وقال هل قامت القيامة؟ فقال له عيسى له ولكن دعوتك بالاسم الأعظم ليؤمن قومي، ثم قال له مت، قال له على أن يعيذني الله من سكرات الموت، قال نعم فمات. وكان وهو صغير يلعب مع الصبيان ويخبرهم بما يفعل أهلهم ويقول لهم إن أكل أهلكم اليوم كذا وكذا وقد رفعوا لكم منه، فينطلقون فيجدون كما قال، ويقولون لأهلهم أخبرنا عيسى بن مريم بذلك، فصاروا يمنعون صبيانهم عن الاختلاط معه بداعي أنه ساحر، ومن هذا القبيل معجزة يوسف عليه السلام، راجع الآية 37 من سورته في ج 2، قالوا وطرق مرة الباب على دار فيها صبيان فقالوا لا أحد فيها، قال وما هؤلاء؟ قالوا خنازير، قال فليكن كذلك، فمسخوا كلهم خنازير، فهم بنوا إسرائيل ليقتلوه، فهربت به أمه إلى مصر، وإلى هذه الرحلة يشير قوله تعالى (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) الآية 50 من سورة المؤمنون ج 2 كما بيناه في الآية 24 من سورة مريم ج 1، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل منى أن أمه ويوسف النجار أخذاه إلى مصر خوفا عليه من الملك فيرودس أن يقتله، وهذه المعجزات دليل قاطع على نبوته عليه السّلام، فمن أنكر أحدها فهو كافر لأنه أنكر القرآن، ولا يقال إن النجم والكاهن يخبران بالغيب، لأن المنجم يستعين علي ما يخبر به واسطة سير الكواكب وامتزاجاتها وحساب الرمل وغيره وقد يخطئ كثيرا، والكاهن يستعين برائد من الجن ويخطئ كثيرا أيضا، والمنوم المغناطيسي يستعين بالواسطة وقراءة الأفكار وغيرها من الشعوذة ويخطئ كثيرا. وقد لا يقدرون أن يخبروا بشيء إذا اختلط عليهم الأمر وفيما لم يحدث المخاطب نفسه بما يسأل عنه وفيما إذا سئل في شيء لا يعرفه، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآيات 20/ 23 و 102 من سورتي الأنبياء والصافات في ج 2. وليعلم أن أخبار الأنبياء كلها حق وصدق، وبغير واسطة إذ لا واسطة لهم غير الوحي الإلهي الذي يتلقونه بواسطة الملك أو الإلهام الذي يلقى في قلوبهم من الله تعالى أو التكليم رأسا أو من وراء حجاب، كما فصلناه في الآية 51 من سورة الشورى في ج 2 فراجعه. وليعلم أيضا أن السرّ في خلق الكون بما فيه تعلق

الإرادة الإلهية بوجوده، وان ارتباط الأسباب بالمسببات التي بلغو الناس فيها لا تأثير لها بنفسها من دون الله تعالى بل التأثير كله منحصر بقدرته، وما نراه من الارتباط في الظاهر لا يقيد سلطة الله ولا يمنع من تنفيذ إرادته، وإن تغيير الشرائع وخرق العادات وتعطيل الأسباب من الدلائل على كمال القدرة، لأن من يضع نظاما يقدر على تعديله، ويملك نقضه، وان ما يقع من التعديل والنسخ لبعض الأحكام هو في مصلحة البشر بما يوافق عصرهم ويلائم حالهم. قال تعالى «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ» من اليهود «الْكُفْرَ» به رمحاولة قتله وحان وقت رفعه إلى ربه بإخبار الله تعالى إياه «قالَ» لأصحابه الملازمين له «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» والوصول إلى طريقه وإعمار دينه ليقوم بعدي بهدي الناس وإرشادهم على حسب تعاليمي التي تلقينها من ربي؟ «قالَ الْحَوارِيُّونَ» جمع حواري بمعنى صاحب «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» وجنوده لإعلاء كلمة الله لأنا «آمَنَّا بِاللَّهِ» وحده واتبعناك بما جئت به من لدنه «وَاشْهَدْ» علينا أيها الرسول المتولي «بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (52) لله منقادون لأوامر وممتنعون عن نواهيه، وأنا سنسير بسيرتك وننشر تعاليمك للناس ونبذل جهدنا في نصحهم ما استطعنا. وقالوا «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ» من أحكام التوراة والإنجيل «وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ» الذي أرسلته إلينا وهو عيسى، لأن الألف واللام للعهد ولا معهود هنا غيره إذ ذاك «فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (53) لك بالواحدية والوحدانية ولرسولك بالتصديق والانقياد «وَمَكَرُوا» اليهود أي اختالوا للقبض عليه وقتله تخلصا منه وحبا ببقاء الرياسة لهم وهو لا يريدها عليه السلام وإنما يريد صلاحهم «وَمَكَرَ اللَّهُ» جازاهم على مكرهم حين دلهم عليه حواريه المنافق يهوذا الأسخريوطي ليغتالوه في البيت الذي هو فيه مع بقية أصحابه، فأوقع شبهه على المنافق المذكور ورفعه من بينهم إلى السماء، فألقوا القبض على يهوذا وأوثقوه على ظن منهم أنه هو المسيح، فصار يصيح أنا الذي دللتكم عليه أنا لست المعلم يعني عيسى، إذ كانوا يسمونه معلما ولات حين مناص، لأن الله تعالى إذا عمل شيئا كان عمله كاملا من كل وجه، ولذلك فإن كل من رآه قال هذا عيسى بعينه حتى حوارييه وحتى أمه، ولذلك

صاروا يبكون عليه «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (54) المجازين أهل الحيل، وبهذا الأخذ والرد بين اليهود إذ يقول لهم أنا لست بعيسى وهم يلكمونه ويقولون له أنت هو، تخلص بقية حوارييه من القبض عليهم، إذ كانت نيتهم اغتيال عيسى وحوارييه لأمر أراده الله وليتم مراده ببث دعوته من بعده من قبلهم. واعلم أن إضافة المكر إلى الله بمعناه لا يجوز، لذلك أول بالجراء، وكذلك الخداع والاستهزاء لأنها صفات مذمومة في الخلق فلا يليق أن يوصف بها الخالق المنزه عن سمات خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وخلاصة القصة أن الله تعالى لما أرسل عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليدعوهم إليه ويتركوا ما أحدثوا من البدع ويرجعوا إلى حكم التوراة وما وعدهم به من التخفيف لبعض أحكامها وأظهر على يده المعجزات المذكورات وغيرها كقلب الماء خمرا والمشي على الماء مما ذكر في الإنجيل ومما لم يذكر، لأنه لم يشتمل على سيرته جميعها وكان في بداية أمره مر بجماعة يصطادون سمكا فقال لهم اتبعوني لنصطاد الناس فقال له أحدهم شمعون ائتنا بآية، فدعا الله فاجتمع في الشبكة سمك كثير حتى كادت تتمزق منه، فاستغاثوا بأصحاب السفينة الأخرى وملأوها، فآمنوا به واتبعوا وصار يدعو الناس وإياهم إلى الله، فاشتد ذلك على اليهود، لأنهم عرفوه أنه المسيح البشر به في التوراة، وأنه الذي يبطل دينهم ويحوله إلى أحسن، فخافوا ذهاب الرياسة منهم، فقر رأيهم على قتله، وخدعوا ملكهم بأن عيسى يريد أخذ الملك منه، وأنه على خلاف ما جاء في التوراة، وأنه ظهرت منه أقوال توجب الكفر وحاشاه من ذلك، فوافقهم على ما يريدون، فدبروا المكيدة بينهم على أن يتسلطوا عليه بواسطة أحد أتباعه، فأغروا المنافق يهوذا الأسخريوطي بثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ليلا بحيث لا يكون إلا هو وأصحابه الأحد عشر، وقد اطلعه الله على ذلك فاجتمع بأصحابه، وكان الخبيث معهم يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فوعظهم عيسى عليه السلام وأرشدهم وداعبهم وقال يا أصفيائي ويا خاصتي إن اليهود أجمعت على قتلي، وإن الله سيرفعني إلى السماء ويلقي شبهي على أحدكم الذي سيكفر بي ويبيعني بدراهم بسيرة، فدهشوا قوله ولم يعلم الأحد عشر من هذا الكافر الذي يجرز على ذلك، ولم يفهم الخبيث

يهوذا المراد من إلقاء الشبه ليتم مراد الله، وذات ليلة لم يكن فيها أحد غير المسيح اغتنم الخبيث الفرصة فذهب وأخبر اليهود وجاء معهم فأدخلهم عليه، وعند ما أشار إليهم أنه هو هذا رفعه الله تعالى وألقى شبهه عليه، فأمسكوه وصاروا يلكمونه ويوثقونه فصار يصيح إني لست هو أنا الذي دللتكم عليه على الوجه المار آنفا وذلك قوله تعالى «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» مستوفي أجلك الأول من الدنيا إذ انتهت مدة لبثك في الأرض وقابضك من غير موت. ولئلا يصل أعداؤك إليك، ومنتقم لك من عدوك المنافق بالصلب والإهانة، وهذا هو الصواب إذ لو كان المراد الموت كما زعم العير: قال تعالى «وَرافِعُكَ إِلَيَّ» ومجلسك في سمائي مع ملائكتي، وعليه ما جاء في التفسير رافعك الآن ومتوفيك بعد، لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وصار عليه السلام بعد الرفع إنسيا ملكيا وأرضيا سماويا «وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بك من أن يدنوا حضرتك الطاهرة مما أرادوا بك من القتل والصلب والهوان «وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ» وآمنوا بك. إيمانا خالصا «فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بك بالعز والنصر والغلبة والحجة الظاهرة «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» حتى انقضاء آجالهم في الدنيا والبرزخ «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» أنتم وهم في الآخرة ومن اتبعك مخلصا ومن كفر بك «فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» يوم الجزاء «فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (55) من الحق الناصع. قالوا ولما دخلوا عليه ليقضوه أظلمت الأرض والسماء فظن ذروه أن ذلك من أجل صلبه، ولهذا ذكروا هذا السبب في الأناجيل الأربعة، قالوا ولما صلب المنافق الذي شبه به ذهبت إليه أمه ومريم المجدلية التي أبرأها من الجنون وصارتا تبكيان عليه، فجاءهما عيسى عليه السلام إذ نزل به جبريل من السماء وقال لهما إني لم أصلب وان ربي رفعني إلى السماء ولم يعلم اليهود أن الله ألقى شبهي على يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليّ، وانه هو الذي صلب وعذب وأهين، وان الله ربي حفظني من كيدهم وجازاه بذلك، وجمع الحواريين وأخبرهم بذلك وأمرهم أن يبثوا دعوته في الأرض وخولهم شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص، وقد تحققوا ذلك كله لأنهم لم يروا يهوذا حين القبض ولا بعد الصلب بما أقنعهم أنه هو

المصلوب، وجعلهم رسلا من بعده إلى الناس، ومتّعهم بوصاياه القيمة كما أشرنا إلى هذا في الآية 13 من سورة يس ج 1، ومن أراد التفصيل فليراجع إنجيل برنابا عليه السلام ففيه كل شيء يتعلق بهذا وغيره من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أصح الأناجيل وموافق لما جاء في القرآن العظيم. وفي قوله تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) إشارة إلى رفع روحه وجسده صلّى الله عليه وسلم ليلة القبض عليه، وردّ لمن قال إن الرفع كان للاهوتية (أي روحه) دون الناسوتية (أي جسده) وفيها إشارة أخرى إلى أنه عليه السلام سينزل إلى الأرض، لأن المعنى رافعك إلى الآن، ومنزلك إلى الأرض ومتوفيك فيها بعد على اعتبار التقديم والتأخير في كون الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية 66 من سورة الزخرف ج 2 فراجعها. قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا» بالذل والعار والتشتيت «وَالْآخِرَةِ» بعذاب الله الشديد والتبكيت «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (56) فيها يحولون دون ما يحل بهم «وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» في الدنيا بالحياء الطيبة وبالآخرة بالجنة ونعيمها جزاء إيمانهم وتصديقهم وتحملهم الأذى في سبيل الله، وان من لم يفعل الصالحات ويقتدي بنبيه فقد ظلم نفسه «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (57) المتجاوزين حدوده «ذلِكَ» الذي ذكرناه لك يا سيد الرسل من خبر عيسى وأمه ورفعه وإهلاك عدوه «نَتْلُوهُ عَلَيْكَ» لتخبر به قومك لأنه «مِنَ الْآياتِ» الدالة على صدقك «وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ» (58) المدون في لوحنا المحفوظ المحكم الذي لا يتطرق إليه الباطل ولا يأتيه الخلل، فذكر به أمتك وخاصة وقد نجران وقل لهم لا تعجبوا من كيفية خلق عيسى بلا أب لأن قدرة الله صالحة لأكثر من ذلك، وقل لهم لينتبهوا «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ» من جهة الخلق «كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» بلا أب ولا أم وجعله بشرا سويا من لحم ودم وعظام وهو أعظم من خلق عيسى وأبلغ في القدرة من خلق حواء أيضا، لأن التراب ليس فيه مادة من تلك المواد فيكون خلقه أعجب وأغرب من خلق عيسى وحواء لأنهما من مادة فيها تلك المواد المجانسة لمادته، فلا تستبعدوا على الله

[سورة آل عمران (3) : الآيات 61 إلى 70]

شيئا أيها الناس ولا ترتابوا في خلقه على تلك الصورة «ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59) أي فكان كما كان، وكذلك خلق عيسى وحواء بكلمة كن فكانا كما أراد الله. واعلم يا سيد الرسل أن الذي تلوناه عليك في هذا وغيره هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» (60) في هذا التمثيل أيها السامع والناقل، لأن الخطاب فيه عام لكل من يتأتى منه السمع والخطاب، وإن كان لحضرة الرسول لأن المراد به غيره وساحته بريئة من الامتراء والشك والتردد في كل ما جاء به عن ربه، فيفهم مما ذكر في هذه الآيات أن الدعوة إلى الله لا بد لها من أنصار كاملي العقيدة مخلصين مطيعين موادين، وأن الإيمان المجرد لا يكفي ما لم يقترن بعمل صالح. وتشير إلى أن تدبير الله لعباده فوق كل تدبير، فإذا شمل عبدا برعايته حفظه من كل كيد، وأنّ الوفاة في هذه الآية ليست بمعنى الموت، قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية 42 من سورة الزمر في ج 2، وهذا فارق بين الموت والوفاة. والحكم الشرعي: وجوب الاعتقاد بأن خلق عيسى بن مريم بمجرد كلمة كن، وإن رفعه للسماء حيا حق لا مرية فيه، وأن كل جدل في هذا الموضوع يؤدي إلى خلاف هذا فهو كفر. قال تعالى «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» في عيسى من جهة خلقه ورفعه «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» بأنه كما ذكره الله لك يا سيد الرسل «فَقُلْ تَعالَوْا» أيها المجادلون المخاصمون بذلك «نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» نحن وأنتم بأن نتضرع إلى الله ونجهد أنفسنا بالدعاء «فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (61) منا ومنكم. مطلب في المباهلة ما هي وعلى أي شيء صالح رسول الله وقد نجوان وحكاية أسير الروم. والمباهلة الملاعنة أي ليدع كل منها ربه بأن يلعن الكاذب في قوله، فقال له وقد نجران انظرنا وقتا مناسبا كي ننظر في الأمر ونتداول بيننا ونرجع إليك، فأمهلهم، فذهبوا إلى مقرهم وتذاكروا بينهم وقالوا فقد عرفنا من هذه الآيات وما تقدمها أنه نبي مرسل، وأنا إن باهلناه هلكنا، فأجمع رأيهم على عدم المباهلة

والانصراف إلى بلدهم، فجاءوا إليه من الغد فإذا هو محتضن الحسن والحسين وبيده فاطمة وعلي عليهما السلام خلفه وهو يقول لهم إذا دعوت فأمنوا، فقال لهم أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله، والله إن باهلتموه فلا يبقى على وجه الأرض نصراني، فأقدموا عليه وقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباء لك وتتركنا على ديننا، فقال إن أبيتم فأنا لا اضطركم على المباهلة ولكن أريد منكم أن تسلموا، قالوا لا نسلم، فقال أنا جزكم، قالوا لا طاقة لنا يحربكم ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا ونؤدي لك ألف حلّة في صفر وألف حلة في رجب وثلاثة وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا، فرضي منهم وتركهم، لأنه لم يؤمر بقتالهم إذا رضخوا للجزية، ولم يؤمر بحملهم على الإيمان به. حكي أن بعض العلماء أسر في بلاد الروم فباحثهم في عبادة عيسى عليه السلام، قالوا نعبده لأنه لا أب له، فقال لهم آدم لا أب له ولا أم فهو أولى بالعبادة، قالوا لم يكن آدم يحيي الموتى، فقال إذا حزقيل أولى لأنه أحيا أربعة آلاف (راجع الآية 243 من سورة البقرة المارة لتقف على قصتهم) وعيسى لم يحي إلا أربعة، قالوا لم يكن يبرىء الأكمه والأبرص قال إذا جرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليما، قالوا لم يرفع إلى السماء، قال فأدريس أولى لأنه رفع قبله، فلم يعتبروا، ومن يضلل الله فما له من هاد. قال تعالى «إِنَّ هذا» الذي قصصنا عليك يا سيد الرسل «لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه «وَما مِنْ إِلهٍ» يستحق العبادة في الكون كله «إِلَّا اللَّهُ» لا عيسى ولا عزير ولا الملائكة ولا غيرهم كما يزعم أهل الكتاب وبعض المشركين العرب وغيرهم، وما ذلك إلا نقص في عقولهم، وخاصة الأصنام فلا يعبدها من فيه ذرة من عقل لأنها معرضة للهوان والذل، ومحتاجة إلى الحفظ من عابديها «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب العظيم «الْحَكِيمُ» (62) البالغ في الحكمة الذي لا رب غيره «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك وفد نجران وغيرهم ولم يقبلوا نصحك وإرشادك بعد ما تبين لهم الحق فهم قوم ميالون للفساد فأعرض عنهم «فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» (63) لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فيا سيد الرسل أدعهم أولا

إلى المساواة معك بأن «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» لعلهم يؤمنون بك وينقادون لأمرك «فَإِنْ تَوَلَّوْا» بعد هذا أيضا وأعرضوا عن الإجابة بعد أن سويتهم بنفسك «فَقُولُوا» لهم أنت وأصحابك «اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (64) لله وحده ومنقادون لأمره وأنتم وشأنكم. كررت هذه الآية المبدوءة بنا أهل الكتاب ست مرات في القرآن العظيم، هذه والآيتان الآتيتان 69 و 70 وفي الآية 170 من سورة النساء وفي الآيتين 16 و 21 من سورة المائدة الآتيتين. ثم ان وفد نجران تلاحى مع اليهود لقولهم إن إبراهيم كان نصرانيا بسبب قولهم إنه كان يهوديا وكل منهم يحتج بكتابه لذكره فيه فأكذبهم الله بقوله «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ» وتتخاصمون من أجله «وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ» التي تدينون بها أيها اليهود «وَالْإِنْجِيلُ» الذي تدينون به أيها النصارى «إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ» فكيف تدعون أنه كان من أحدكم ولم تحدث اليهودية ولا النصرانية إلا من بعده، فكلاكما مبطل في دعواه لأن المدة الطويلة الكائنة بين إبراهيم ونزول الكتابين إليكم دليل قاطع على كذبكم، وأن مجرد ذكره فيهما لا يدل على أنه كان يهوديا أو نصرانيا أو أنه كان يدين بهما بل كان يتعبد بما ألهمه الله وبما أنزل عليه من الصحف وبالصحف المنزلة قبله على آدم وشيث فمن بعدهما «أَفَلا تَعْقِلُونَ» (65) هذا فتتنازعون فيه «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» من كتبكم من أمر موسى وعيسى، ولا مانع من ذلك لأن لكم فيه بعض العلم بما هو موجود في كتبكم «فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» من أمر إبراهيم الذي أغفله كتاب كل منكم ولم تعلموا من أمره على ما هو عليه شيئا فاتركوا هذا ولا تخوضوا بشيء لا تعلمونه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» ما كان عليه إبراهيم من الدين وقد أخبر به رسوله «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (66) شيئا عنه، ثم إن الله تعالى أعلمهم بأنه بريء ومنزه مما قالوا فقال «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا» يوما من الأيام كما زعمتم «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً»

[سورة آل عمران (3) : الآيات 71 إلى 80]

كما أخبركم محمد «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (67) قط كما زعم مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم، وقولهم إنا أولاد إبراهيم لا يعني أنه كان على ما هم عليه تنزه وتبرأ منه، وإنما يعنون أنهم أولاد إسماعيل من جهة النسب فقط. تفيد هذه الآية إثبات دعوى المسلمين بأن إبراهيم كان مسلما لذكره في القرآن ومنع اليهود والنصارى من ادعائهما كونه كان منهما لعدم ذكره في كتبهم، فالمكابرة بعد هذا النص القاطع لا قيمة لها ومن العبث أن يبحث في أمر محكوم ببطلانه، لأن أصدق أنباء التاريخ ما جاء بالوحي المقدس، وأن الانتساب إلى إبراهيم يوجب اتباع شريعته، وإلا فهو زور يجب الانكفاف عنه، ولهذا لما أثار أهل الكتابين دعوة الانتساب إلى إبراهيم وكان المشركون قبلهم ادعوا هذه الدعوة فأنزل الله ما يكذبهم كلهم ويصدق دعوى المسلمين بقوله «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ» في زمانه وماتوا على دينه «وَهذَا النَّبِيُّ» حفيده محمد الذي اقتفى أثره في العبادة قبل نزول الوحي إليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا» به بعد نبوته ورسالته من أمته أيضا هم أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى والمشركين المخالفين لدينه ودين حفيده «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (68) أجمع الذين يخلصون إيمانهم وأعمالهم، ومن كان الله وليه فقد فاز، وعليهم أن لا يتوجهوا بحاجاتهم في الدنيا والآخرة إلا إليه وهو أولى بإجابتهم فيها، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن لكل نبي ولاة من المؤمنين، وان وليّي أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم تلا هذه الآية. ورواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. قال تعالى «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» عن الإسلام، أي أنهم لم يقتصروا على عدولهم عن الحق وإعراضهم عن قبول الحجة بل أحبوا إضلالكم أيضا «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لرسوخ الإيمان بالمؤمنين «وَما يَشْعُرُونَ 69» أن هذا وبال عليهم لما فيه من الإثم فوق ما هم عليه من الوبال «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (70) أنها مصدقة لما في كتبكم وتعترفون أنها حق إذا تركتم التعسف ورجعتم إلى الإنصاف «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» ت (21)

الذي تكتبونه بما يخالف ما أنزل الله عليكم وتغيرون به كلام ربكم «وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ» الذي فيها «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (71) أنه محرم عليكم، ذلك لأن طمر الحق ووضع الباطل محله كفر في جميع الكتب السماوية «وَقالَتْ طائِفَةٌ» أخرى من هؤلاء اليهود المعدودين «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا» أظهروا الإيمان «بِالَّذِي» بالكتاب الذي «أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» بمحمد «وَجْهَ النَّهارِ أوله وحينما تواجهون المؤمنين به «وَاكْفُرُوا آخِرَهُ» وهذا يدل على أن استعمال كلمة وجه بمعنى الأول، وعليه قول الربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار وقيل في الوجه نفسه: وما الوجه إلا واحد غير أنه ... إذا أنت عودت المزايا تعودا «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (72) عن دينهم لقد تفنن اليهود بالتلبيس لأنهم من جند إبليس فقد استجروا أولا معاذ بن جبل وحذيفة اليمان وعمار بن ياسر وجما وحببوا لهم دينهم وترك الإسلام فنزلت فيهم الآية المتقدمة قبل هذه فلم يتجحوا ثم صاروا يحرفون الكتب الإلهية ويغيرون ما فيها من نعت الرسول والبشارة والأمر باتباعه كما فعلوا زمن عيسى، فلم يفلحوا، ثم اخترعوا هذه الطريقة الثالثة فتواطأ منهم اثنا عشر رجلا من أحبارهم بأن يؤمنوا بمحمد بادىء الرأي، يكفروا به، ليبينوا للناس أنه تبين لهم أنه على غير الحق وأنه غير النبي المبعوث آخر الزمان المخبر عنه في كتابهم، ليشككوا الناس فيه، فنزلت هذه الآية فيه ليخبر حضرة الرسول أصحابه بما دبروه من الكيد والحيل ليكونوا على بصيرة أمرهم. تشير هذه الآية إلى أن اليهود دأبهم إضمار الشر للمسلمين، فيجب أن يحذروا من مكايدهم لأنهم جبلوا على السوء، وأنهم لا يحسنون ظنهم بمن هو ليس على دينهم، وإلى هنا انتهى قول اليهود والذي حكاه الله عنهم. ثم التفت يخاطب المؤمنين بعد أن بين لهم مطويات اليهود الخبثاء، فقال «وَلا تُؤْمِنُوا» أيها المؤمنون «إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» وانقاد لأوامر شريعتكم، لأن النصير واجبة لبعضكم على بعض، وإياكم أن تركنوا لأقوال أهل الكتاب، فإنهم لا يودّ و

إلا ظاهرا، وإنهم يبطنون لكم الشر، وإياكم والميل إليهم، وعليكم أن تتناصحوا بينكم وتتصادقوا، فالمؤمن أخو المؤمن لا يكذبه ولا يحقره ولا يسلمه في كل حال مهما استطاع. وأعرضوا بكلكم عن خلط أهل الكتاب وخاصة اليهود فإنهم أهل بهت يريدون أن يوقعوا الشك في دينكم، وليس بنافعهم ذلك، ولم يزدهم إلا فضيحة وضلالا، ويزيد المؤمنين تصديقا ويقينا، فلا تقبلوا نصيحة ما إلا من أهل دينكم، وإن هؤلاء الأحبار وغيرهم يقصدون إضلالكم لتكونوا مثلهم، فالحذر كل الحذر منهم. ثم التفت إلى رسوله فقال «قُلْ» يا سيد الرسل إلى قومك وغيرهم «إِنَّ الْهُدى» الذي جئتكم به وأدعوكم إليه أيها الناس هو «هُدَى اللَّهِ» فتمسكوا به فهو الذي يقيكم من مكايدهم وان كل ما يأتون به من خدع وتلبيس لا يؤثر فيكم أيها المؤمنون ما دمتم متمسكين بهدى الله، لأن المؤمن المخلص لا يصده صادّ عن دينه، ولا تصدقوا أبدا «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» من الكتاب والهدى والدين، واعلموا أنه لا نبي بعد نبيكم، ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة، ولا تصدقوا أقوال اليهود بأنهم يخاصمونكم «أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» بأن دينهم هو الواجب التقيد به، كلا فإن دينكم خير الأديان وقد جعله الله ناسخا لما تقدمه مما يخالفه، فلا يقدرون على محاجتكم في هذا لأنكم أحق منهم وأهدى. وقد جاءت جملة إن الهدى اعتراضية لتأكيد أحقية دين الإسلام وتعجيل المسرة بالنتيجة. ويا سيد الرسل «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده إنعاما منه «وَاللَّهُ واسِعٌ» على من يريد أن يوسع عليه، لأن خزانته لا تنفد، وعطاءه غير محدود، وهو «عَلِيمٌ» (73) بمن يؤهله لعطائه ويفضله على غيره ويوسع عليه برحمته. وهذا الذي جرينا عليه في تفسير هذه الآية على رأي بعض المفسرين أولى من غيره وأحسن بالمقام. وقال أكثر المفسرين إن الخطاب في هذه الآية لليهود من تتمة ما حكاه الله عنهم، وعليه يكون المعنى لا تصدقوا أيها اليهود إلا لمن يتبع دينكم من ملتكم، لأن أحدا لم يؤت مثل ما أوتيتم من التوراة التي فيها العلم والحكمة والآيات التي أظهرها الله على يد رسولكم موسى، ولا تصدقوا أن الإسلام يخاصمونكم عند الله كما يقوله محمد، لأن دينكم

أقدم الأديان وأصحها (إِنَّ الْهُدى) إلخ اعتراضية أيضا، وقد أتى بها بمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم الله وهو الهدي الذي هدى الناس إليه وأمر باتباعه، فإذا أمر باتباع دين غيره وجب الانقياد إليه إذعانا لحكمه ولكنه لم يأمر. وقال بعض المفسرين انتهى ما حكاه الله عن اليهود عند قوله (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وما بعد خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه تتجه قراءة الحسن والأعمش (أَنْ يُؤْتى) بكسر الهمزة (من إن) وما جرينا عليه أولى لسلامة الآية عن التبعيض ولمناسبتها لسياق ما بعدها وكون التفضيل المنبئة عنه هذه الآية أولى بأن يعزى لسيد الأنبياء وسيد الكتب وخير الأمم. وهذه الآية من أصعب آيات القرآن تفسيرا بعد سورة البينة، والآية 108 من المائدة الآتيتين، هذا والله أعلم، وهو الذي «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من خلقه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (74) الذي لا يوازيه فضل. تشير هذه الآية إلى أن فضل الله ورحمته لا يتقدان بسبب ولا علة وان من هداه الله لحقه عن يقين لن يرجع عن هداه بترهات المبطلين، وان التذبذب في الإنسان دليل على عدم صحة عقيدته. قال تعالى مبينا شأن أولئك الظالمين «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» عند ما تطلبه منه دون مماطلة أو جحود تقيّدا بما أمرهم الله به من أداء الأمانة «وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» بالمطالبة والإلحاح «ذلِكَ» عدم أدائه الأمانة ناشىء عن استحلال مال من لم يكن على دينهم خلافا لدينهم «بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» أي ليس عليهم إثم في أكل أموال الأميين أمة محمد لأنهم على غير دينهم ويعزون هذا إلى التوراة، فكذّبهم الله بقوله «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بنسبة ما لم يذكره في كتابهم إليه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75) أنه كذب، والواو هنا حالية أي يقولون ذلك والحال أنهم يعلمون خلافه وعدم صحته. قالوا نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام إذ أودع عنده رجل من قريش قبل إسلامه ألفا ومئتي أوفية من ذهب فأداها إليه حال طلبه والشق الأخير منها في فنخاص ابن عازوراء إذ استودعه رجل من العرب دينارا واحدا فجحده ولم يؤده إليه إلا بعد

مخاصمة وبيّنة. وهي عامة في كل من هذا شأنه من الطرفين، وقد بينا ما يتعلق بحق الأمانة أول سورة المؤمنين في ج 2 فراجعها ولبحثها صلة آخر سورة الأحزاب الآتية. قال تعالى «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ» الذي عاهد عليه ربه في التوراة الذي من جملته لزوم أداء الأمانة إلى أي كان «وَاتَّقى» الخيانة فيها والمماطلة بدفعها إذ عليه أن يؤدي ما ائتمن عليه لأنه من الوفاء المأمور به، والتقوى التي هي أساس الدين «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (76) روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» قلله الله تعالى لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة لما ينجم عنه، لأن فيه أكل مال الغير بغير حقه وهو عظيم عند الله تعالى لأنه أعظم من أكله أموال الناس بالباطل، راجع الآيتين 188/ 282 من سورة البقرة المارة، والآيتين 28/ 72 من سورة الأحزاب الآتية، ولهذا قد وجه الله تعالى إلى أمثال هؤلاء الذمّ والمهانة في الدنيا، وأكبر لهم العقاب في الآخرة بقوله «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم في خيانة الأمانة وبيع آيات الله بالثمن البخس وكتم ما أنزل الله فيها وتبديله أو تغييره والحلف كذبا ولا يضعون نصب أعينهم العاقبة الوخيمة ولا يتخيّلون ما رتب الله عليهم من العذاب «لا خَلاقَ» حظ ولا نصيب «لَهُمْ فِي» منافع ونعيم وفضل «الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ» بما يسرّهم فيها «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» نظر رحمة وعطف «يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» من أدران الذنوب وأوساخ العيوب «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 77» لا تطيقه قواهم. يدخل في هذه الآية رؤساء اليهود كأبي رافع ولبابة أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأضرابهم الذين اعتادوا هذه الأفعال القبيحة تجاه ما يأخذونه من رعاعهم.

مطلب في الحلف الكاذب والمان بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد:

مطلب في الحلف الكاذب والمانّ بما أعطى والمسبل إزاره وخلف الوعد ونقض العهد: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن منصور أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان. قال عبد الله ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى هذه الآية. ولفظ المسلم هنا ليس بقيد ولا شرط في هذا الحديث والذي بعده لأن اللفظ عام فيشمل هذا الحديث كل أحد. ورويا عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية. وعهد الله يشمل جميع العهود والمواثيق والوعود سواء كانت بين الرجل وربه أو بين الرجل وغيره، راجع الآية 34 من الإسراء في ج 1 فيما يتعلق بالعهود والمعاهدات. ورويا عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها حق امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك. وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها ثلاث مرات، قلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل (أي إزاره) والمان (أي فيما أعطى) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. وللنسائى المانّ بما أعطى والمسيل إزاره، إلخ. وروى مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب النار، فقالوا يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال وإن كان قضيبا من أراك وكلمة بعد العصر في الحديث السابق مثل كلمة المسلم في غيره ليست بقيد ولا شر فسواء كانت اليمين بعد العصر والمحلوف له مسلما أو كانت في أي وقت كان والمحلوف له كتابيا أو مجوسيا فهو يمين يستحق صاحبها الوعيد المذكور. ولا يخفى أن اليم على نية المحلف لا على نية الحالف، ألا فليتيقظ المتيقظون، ولينتبه الغافلون

فإن الله لا يخفى عليه شيء وإنه ينظر إلى نياتكم وقلوبكم. قال تعالى «وَإِنَّ مِنْهُمْ» اليهود «لَفَرِيقاً يَلْوُونَ» يفتلون ويصرفون «أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ» التوراة عن المعنى المراد فيها إلى غيره وهو ضرب من ضروب التبديل والتحريف لكتاب الله ويفعلون ذلك «لِتَحْسَبُوهُ» أيها الناس وهو محرف مبدل «مِنَ الْكِتابِ» الذي أنزله الله عليهم والله تعالى يقول لكم أنه مغير «وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» والله يقول لكم أنه مبدل محرف «وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وكررت هذه الجملة في لفظ متحد لقصد التأكيد وهو مطلوب هنا لا سيما في هذه المواقع لما فيها من نسبة ما لم يكن للحضرة الإلهية «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» خلافا لما هو في علمه «وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78» أنه كذب ليس من الكتاب ولا من عند الله، وكررت الجملة الأخيرة أيضا بعين ما هو في الآية 75 المارة لأنها بصنف غير الصنف المبين فيها لما اجتمع اليهود مع وقد نجران، قال أبو رافع القرظي أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال السيد من وفد نجران أتريد ذلك يا محمد وأن نعبدك كما تعبد اليهود عزيرا وكما تعبد بنو مليح الملائكة؟ قال معاذ الله أن نعبد أو نأمر أو نريد غير عبادة الله وحده ما بذلك بعثت يا قوم ولا أمرني ربي به وليس هو من شأني، فأنزل الله «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي لا ينبغي هذا لأحد أصلا فضلا عن هذا الصنف الذي هو أبعد الناس عن مثله، لأن هذه النعم التي منّ الله بها عليه تمنعه من ذلك «وَلكِنْ» يقول لهم «كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» علماء حكماء تربّون الناس بأخلاقكم وآدابكم الحسنة وتعلمونهم طرق الخير وسلوك سبل الرشاد وتمحضونهم التوحيد وأن لا تنسبوا للحضرة الإلهية ما لا يليق بها، وأن تنزهوه ولا تعزو شيئا مما في هذا الكون إلا إليه وحده «بِما» بسبب ما «كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ» لغيركم «وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» (79) على الغير ممن تقدمكم من أهل العلم، لأنهم لم يولوكم إلا على هذا وأن تقرءوا لمن معكم ولأنفسكم ما أنزل الله لكم حرفيا، ومن هنا جاءت النسبة لأن الرباني هو

المنسوب إلى الرب، وزيادة الألف والنون دلالة على كمال هذه الصفة، ومبالغة لاسم الفاعل الذي هو ربان «وَلا يَأْمُرَكُمْ» أيها البشر «أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً» وهذا تنديد في بني مليح ومن تبعهم والصابئين القائلين إن الملائكة بنات الله، واليهود والنصارى القائلين إن عزيرا والمسيح ابنا الله «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ» أيها الناس «بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (80) وهذا استفهام على طريق التعجب والإنكار وفيها من إلقاء الروعة والمهابة ما فيها لمن كان له قلب أو ألقى السمع. وفي يأمركم ثلاث لغات: إسكان الراء لعدم توالي الحركات، والنصب بالعطف على يقول، والرفع على الاستئناف المؤيدة بقراءة ولن يأمركم بدل من ولا يأمركم الأولى وهو ما مشيت عليه، لأنه الأظهر لخلوها عن تكلف جعل الأمر بمعنى النهي عند جعل لا غير زائدة عند من يرى ذلك، لأني أرى أن لا زائد في القرآن وأن من يقول نجاء بالحرف الزائد لتحسين الكلام وتقويته وتأكيده يقال له إذا ليس بزائد لأنه أدى معنى لم يكن عند عدمه، وكل ما يجاء به لمعنى فهو غير زائد، ولأن القراءة بالنصب تستدعي صلة لا وجعلها للتأكيد فقط أو جعلها غير زائدة بجعل عدم الأمر في معنى النهي، فيكون معنى أيأمركم ينهاكم، وتستدعي القراءة التقديم على جملة (وَلكِنْ كُونُوا) إلخ تدبر. يفهم من هذه الآيات أن الأمانة وما يضاهيها لا يثاب عليها المرء إلا إذا راعى فيها خوف الله، وإن أداءها حال طلبها من الخصال الحميدة، وإن جميع الشرائع تحت على أدائها بالمعروف على الوفاء بالعهد والوعد، وإن الخيانة والنكث من الكبائر التي نهى الله ورسوله عنها، وإنما كان أداؤها محمودا لما فيه من الوثوق بالناس ومحافظة حقوقهم، وبضدها عدم الثقة وضياع الحقوق. وترمي هذه الآيات لعدم الوثوق بأهل الكتاب فيما ينقلونه من أمر الدين، وان اتخاذ الأيمان الكاذبة وسائل لبيع السلع وأخذ مال الغير حرام قطعا. وتشير أيضا إلى حرمة ما يتفكه به من معارضة الكوثر أعطيناك كلام الله كقولهم بدل إنا أعطيناك كذا، أو إنك أقصر من سورة الكوثر، أو أفرغ من فؤاد أم موسى، وقولهم والسماء والطارق أي لا يملك شيئا من حطام الدنيا على قبيل ضرب المثل، لأن كلام الله لا يجوز أن يدخله الهزل والسخرية

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 90]

وهو منزه منهما، وعدم جواز قراءة شيء منه يقصد به إيهام سامعه أنه من كلام الله على سبيل التفكه أيضا، لأنه يعد من قبيل الانتهاك لحرمته مما قد يؤدي إلى الكفر. وتفيد الآيتان الأخيرتان إلى أن ما يدعيه أهل الكتاب من أن الأنبياء دعوا الناس إلى عبادتهم أو إلى عبادة الملائكة كذب بحت وباطل محض، يدحضه الشرع وينفيه العقل. وتفيد أن من أوتي سلطة ما ليس له أن يستعبد الناس أو يسترقهم أو يتعاظم عليهم بها، وأن ليس للبشر أن يحب الأنبياء والصالحين كحب الله ولا يخافهم كخوفه ولا يعظمهم كتعظيمه ولا ينسب إليهم ضرا ولا نفعا مطلقا. قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما» تقرأ بفتح اللام أي من أجل الذي، وبكسرها توطئة للقسم، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، ويكون المعنى وإذا استخلف النبيين للذي «آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» من الكتب الإلهية، وجواب القسم قوله «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» أي الرسول والمراد به هنا محمد صلّى الله عليه وسلم لما أخرج ابن جرير عن علي كرم الله وجهه قال: لم يبعث الله نبيا، آدم فمن بعده إلا أخذ الله تعالى عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به وليتصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا هذه الآية. وإذا كان حكم الأنبياء هكذا فأممهم من باب أولى، لأن العهد مع المتبوع عهد مع التابع حتما «قالَ» تعالى بعد أخذ العهد عليهم «أَأَقْرَرْتُمْ» بهذا الميثاق «وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ» العهد «إِصْرِي» ميثاقي «قالُوا أَقْرَرْنا قالَ» تعالى لهم «فَاشْهَدُوا» على بعضكم في هذا الإقرار «وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (81) عليه وعلى تشاهدكم على بعضكم، ثم هدد من ينكث ذلك الميثاق بقوله «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ» فأعرض عن هذا الميثاق ونكث عهده وأنكر شهادته ولم يؤمن بهذا الرسول «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (82) الخارجون عن الإيمان كله هذا عهد النبوة أما عهد الربوبية فقد تقدم في الآية 173 من سورة الأعراف ج 1 فراجعه. ولما تخاصم إلى حضرة الرسول وفد نجران مع اليهود في ادعاء كل منهم دين إبراهيم وقال لهما كل منكما بريء منه، وقالا له لا نرضى بقضائك ولا نأخذ

بدينك وأصر كل منهم على قوله أنزل الله عز وجل «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ» حكما بينهم «وَلَهُ أَسْلَمَ» انقاد وخضع «مَنْ فِي السَّماواتِ» من الملائكة «وَالْأَرْضِ» من الإنس والجن «طَوْعاً» بالنظر والاستدلال والإنصاف من النفس «وَكَرْهاً» بالقوة حال الصحة كنتق الجبل على اليهود أو عند معاينة العذاب كالغرق لآل فرعون، والإشفاء على الموت كما في قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الآية 84 من سورة المؤمن ج 2 فرد الله عليهم (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) في الآية 85 منها «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» (83) في الآخرة فاتركهم يا سيد الرسل و «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا» من القرآن. واعلم أنه لما كان الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول عدّى ما أنزل في سورة البقرة في الآية 136 المارة بإلى المفيدة للانتهاء، وعدّاه هنا بعلى المفيدة للاستعلاء على المعنيين تارة بإلى وطورا بعلى، وقدم القرآن لأنه أشرف الكتب وأجمع لمراد الله فيها «وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ» من الصحف «وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» من الصحف والوصايا «وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى» من التوراة والإنجيل «وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ» من كتب وصحف «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» لأنهم كلهم مرسلون من قبله وأن ما أنزل عليهم من عنده «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (84) لا لغيره. قال تعالى «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» لأنه هو المقبول عنده لا دين غيره البتة «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (85) ثواب عمله فكل من يطلب دينا غير الإسلام فقد خسر الدنيا والآخرة. تدل هذه الآيات على وجوب الإيمان بالرسل كافة، وعلى محاربة الشرك بجميع أنواعه، وأن كل ما يخالف تعاليم دين الإسلام باطل، وأن جميع ما أنزل من عند الله متحد المعنى في أصول الدين، لأن الرسل كلهم جاءوا من عند الله على وتيرة واحدة، وأن الاختلاف في الفروع وقع لمصلحة الأمم بحسب حالهم واختلاف مداركهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأن الإيمان بجميع الكتب الإلهية والعمل بآخرها وهي شريعة الإسلام واجبة على جميع الخلق، لأن التشريع الأخير يلغي ما قبله وهذه سنة الله في خلقه، وعليه جرت

عباده إلى الآن وإلى ما بعد حتى يأتي الله بقيام الساعة. هذا وان حضرة الرسول بعد أن صدع بأمر الله بما أنزل إليه من عنده تمنى لو أن ربه يمن عليه بإيقاع الهدى في قلوب خلقه لينقادوا إليه فيما يأمره وينهاه، فرد الله تعالى على ما وقع في قلبه وهو العالم بذات الصدور بقوله عز قوله «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» ببعثتك وتوقعهم ظهورك اتباعا لما وجدوه في كتبهم «وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» أي أنك صادق بدعواك الرسالة عند ما ظهرت لهم البشائر بها وانطبقت عليك الصفات المذكورة في كتبهم «وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» على صدق نبوتك، وإنما ساءهم أنك لست منهم وخافوا أن يحرموا الرياسة فعدلوا عن قبول الهدى الذي جئتهم به فظلموا أنفسهم قصدا «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (86) أنفسهم ببيعهم الآخرة بالدنيا اختيارا، وقد قضت سنة الله أن لا يهدي من يعرض عن الهدى برضاه ولا يهدي إلا ذوي النفوس الطاهرة والنية الخالصة، أما هولاء الذين ألفوا الكبر والإصرار على الكفر فلا سبيل لهدايتهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (87) وان مأواهم النار «خالِدِينَ فِيها» مع هذه الفظيعة المفضية للطرد من رحمة الله «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» (88) يؤخرون عن وقته «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الارتداد والكفر وندموا على ما وقع منهم وآمنوا وأخلصوا «وَأَصْلَحُوا» عملهم بالتوبة النصوح «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لهم «رَحِيمٌ» (89) بهم وبجميع عباده وخاصة من يتوب ويحسن توبته. نزلت هذه الآيات في الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وجموح بن الأسلت ورفقائهم التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة إلى مكة كفارا، وقد ندم أحدهم وهو الحارث وأرسل لحضرة الرسول بقبول توبته. وآخر هذه الآيات عام في جميع الكفرة المرتد منهم وغيره، وهذه آخر ال 89 آية من هذه السورة التي نزلت في وفد نجران ومحاججتهم مع اليهود ومجادلتهم مع حضرة الرسول وما تفرع عن ذلك، ولبعضها أسباب أخرى لصلاحيتها لها، لأن السبب الواحد قد يكون لأغراض كثيرة تنطبق عليها، كما أن بعضها تكون عامة

مطلب وقت قبول التوبة وعدم قبولها. ومعنى البر والإثم. والتصديق بالطيب. والوقف الذري. وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:

فيهم وفي غيرهم، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ويفهم من هذه الآيات جواز لعن المرتد والكافر على العموم، وعدم جواز تخصيص أحد منهم باللعن إلا إذا تحقق موته على الكفر. وأن العمل الصالح شرط لقبول التوبة ممن يتوب من كفره، وأنها تمحو ذنوب التائب إذا خلصت نيته، ثم بين تعالى أن من لم يتب توبة خالصة ورجع إلى كفره فسيغلق الله في وجهه باب التوبة بقوله «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بسيدنا عيسى «بَعْدَ إِيمانِهِمْ» بسيدنا موسى وما أنزل عليهما من الإنجيل والتوراة «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بجحودهم رسالة محمد وما أنزل عليه من القرآن «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (90) الذين لا سبيل إلى هدايتهم، لأن الله تعالى إنما قبل توبة المرتد والكافر على أن يطهر دخيلة قلبه بالأعمال الصالحة التي يستدل بها الناس على صحة إيمانه وقبول توبته فلا تقبل توبته، ولهذا أجمعت الأمة على أن المرتد يمهل ثلاثة أيام فإن أصر على كفره قتل وإلا فلا، أما الكافر الذي نشأ على الكفر فقد جعل الله أمامه باب التوبة مفتوحا، ووعده بغفران ما كان منه حال كفره إذا أسلم. قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الآية 39 من سورة الأنفال المارة، فإذا حق عليه الشقاء ومات على كفره فتبا له وسحقا، وإذا حفته السعادة فآمن نجا، قالوا نزلت هذه الآية في اليهود خاصة، وقيل في المشركين والنصارى لأنهم كفروا بمحمد وازداد كفرهم بإقامتهم على الكفر، إلا أنها لا تنطبق على المشركين لأنهم لم يؤمنوا قبل بسيدنا محمد ولا بموسى ولا بعيسى لأنهم أهل شرك انقرضت النبوة فيهم وآثارها بعد وفاة إسماعيل عليه السلام الذي لم يترك لهم كتابا أو يدون لهم شريعة يتدينون بها من بقايا الشرائع القديمة، لذلك فان نزولها باليهود أوفق للمعنى وأطبق للحال. مطلب وقت قبول التوبة وعدم قبولها. ومعنى البر والإثم. والتصديق بالطيب. والوقف الذري. وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان: ومعنى قوله لن تقبل توبتهم محمول على قوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ) الآية 18 من سورة النساء الآتية، لأن الله تعالى علم قولهم فيما بينهم أنهم يبقون على الكفر

[سورة آل عمران (3) : الآيات 91 إلى 100]

حتى إذا نزل بهم الموت تابوا، ولا تقبل التوبة عنده. ولا حال اليأس كما بينته في الآية المذكورة قال في بدء الأمالي: وما إيمان شخص حال يأس ... بمقبول لفقد الامتثال وقد علم أنهم لم يتوبوا قبل نزول الموت، لذلك قال لن تقبل توبتهم، وإنما يظهرونه نفاقا إيمانا كان أو توبة ولا قيمة لهما عند الله، لأنه لا يقبل إلا الخالص من الإيمان والنصوح من التوبة، وهؤلاء فضلا عن أنه لا يقبل توبتهم فإنه يزيدهم وبالا على وبالهم إذ لا تقبل توبة من أقام على شرك أو نفاق حتى يقلع عنهما أو يتوب توبة خالصة قبل وقت الحشرجة بأن يكون له أمل بالحياة، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (91) ينصرونهم ويخلصونهم من ذلك. ومن المعلوم أن أحدا لا يملك يوم القيامة شيئا ولا يقبل منه الفداء على سبيل الفرض بأنه يقدر عليه لينجي نفسه من عذاب الله، فلو أمكنه التقرب إلى الله بخلاصه مما حل به بملء الأرض ذهبا لفعل، وأنّى له ذلك؟ روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول نعم، فيقول أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك. ألا فلينتبه العاصون، ألا فليحذر اللاهون، ألا فليتفطن الغافلون، وليشتروا أنفسهم من عذاب الله حال قدرتهم عليه، ولينفقوا من أموالهم قبل أن يتركوها لغيرهم ويلقون وبالهم عند الله وحدهم. تشير هذه الآية إلى مصير الذين يموتون على كفرهم والعياذ بالله بأن هذا مصيرهم، وأن ما أسلفوه من عمل لا عبرة به لأن الشرط بحصول الثواب على الأعمال هو الإسلام والإيمان، وترمي إلى أن العبرة بخواتيم العمر فمن مات مؤمنا فقد نجا والله أولى بأن يعفو عنه، ومن مات على كفره فقد هلك ولا ناصر له من الله، وهذه الآيات من 84 إلى هنا تضاهي الآيات من 134 إلى 140 ومن 159 وإلى 62. من سورة البقرة. قال تعالى «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ» أيها الناس ولن تعطوا الخير الكثير والإحسان الجزيل فتعدوا

من الأبرار المحسنين «حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» من أنفس أموالكم لتؤجروا عليها بأحسن منها، وهذه الآية بمقابل قوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية 267 من سورة البقرة «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ» نفيس تحبونه أو خبيث تكرهونه «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (92) فيجازيكم على حسبه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا. وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك. وعن وابصة بن معبد الجهني دفين الرقة قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البرّ؟ قلت نعم: فقال استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأقنوك. - بالقاف أي أرضوك- وروي بالفاء وأفتوك من الفتيا، وهي الإرضاء أيضا، والمعنى وإن أقنعك المفتون بأنه ليس بإثم فلا تقبل منهم لأن الإثم يحز القلب والبر يشرحه وهذا الحديث من باب الكشف لما روي أن رابصة جاء يتخطى الناس حتى جلس بين يدي رسول الله فقال له تحدثني بما جئت به أو أحدثك، فقال بل تحدثني يا رسول الله فهو أحب إلي، قال جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال نعم، ورويا عن أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه (بئر ماء) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية وإن أحب أموالي إلي (بئر ماء) وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح أو قال رائج أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه، وهي حائط (بستان) عظيم فيه ماء، ومن هذا أخذ الوقف الذري وتداول حتى الآن،

وأبقى أسماء الواقفين مخلدة بالذكر الحسن ويعيش بخيرهم جماعات يدعون لهم بالخير كلما انتفعوا، وهذا هو الصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها فهو رضي الله عنه أول من سن الوقف بإرشاد رسول الله فله أجره إلى يوم القيامة في صريح قوله صلّى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة إلخ الحديث، وقوله صلّى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث أحدها الصدقة الجارية (وبخ) كلمة تحسين تقال عند ما يرى الإنسان أو يسمع ما يحب ويستحسن وهي مبنية على السكون، وتكرر للمبالغة بالكسر والتنوين، ثم إن بعض الأصحاب اقتدوا بأبي طلحة وتصدقوا من أموالهم النفيسة على أقاربهم وذراريهم كعمر وابنه عبد الله وزيد بن حارثة، وتفيد هذه الآية بان الطاعة إنما تتحقق بتضحية النفيس وإنفاق العزيز من المال وإن خير الصدقة المستمرة الدائمة وأحسنها التي تخصص للأقارب، قالوا نزل ضيف عند أبي ذرّ فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاءه بناقة مهزولة، فقال له خنتني، فقال الراعي وجدت خير إبلك فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر يوم حاجتي إليه يوم أوضع في قبري. ولما قال اليهود يا محمد تزعم أنك على دين إبراهيم وتأكل لحوم الإبل ولبنها وهو لا يفعل ذلك، فقال لم يحرمه إبراهيم، فقالوا كل ما نحرم اليوم بمقتضى التوراة فهو حرام على نوح وإبراهيم وانتهى إلينا كذلك، فأنزل الله عز وجل «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ» لأن يعقوب عليه السّلام اعتراه مرض قيل هو عرق النسا وقد منعه الطبيب من أكل لحوم الإبل بداعي انه يزيد في ذلك المرض فحرمه على نفسه لهذه العلة لا بتحريم الله تعالى، وقد اقتفى أولاده أثره بعدم أكلها، فلما أنزلت التوراة حرمه الله على بني إسرائيل، فأنكروا ذلك فقال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المعاندين «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (93) بأن الإبل كانت محرمة على إبراهيم فأتوا بها فلم يجدوا ذلك وظهر كذبهم، وهذا من معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه من قبيل الإخبار بالغيب إذا لم يقرأ ولم يعرف ما في التوراة، ففي هذه الآية ردّ على قول اليهود بأن النسخ غير جائز إذ جاء بالقرآن حل لحوم الإبل، راجع الآية 145 من سورة

الانعام ج 2 وهو ناسخ لما في التوراة كما جاء في الإنجيل نسخ بعض أحكامها بالنظر للمصلحة والعصر كما في الآية 49 المارة، وهذا معنى قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة المارة بالنسبة لما تقتضيه المصلحة والزمان ولانقضاء الوقت المقدر للعمل فيه عند الله تعالى كما ذكر الشيخ محي الدين في فتوحاته، ومن هنا أخذت قاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومن هذا قول علي كرم الله وجهه لا تقسروا أولادكم على طباعكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمانكم. قالوا والسبب في إصابة يعقوب هو أنه كان نذر لأن أعطاه الله اثنى عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا ليذبحنّ أحدهم تقربا إلى الله تعالى، ولما منّ الله عليه بذلك توجه لبيت المقدس لإيفاء نذره فلقيه ملك على صورة بشر فحسبه لصا فتصارع معه فغمزه في فخذه. فعرض له عرق النسا، ولما وصل أراد ذبح ابنه ولم يعرف أيهم يذبح، فجاءه الملك الذي عرض له وقال لا سبيل لك لذبحه لأنك لم تصل صحيحا، وإنما غمزتك في فخذك للمخرج من نذرك فكف عن ذبحه، وهناك منعه الأطباء عن أكل لحوم الإبل ولبنها، وقد ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم دواء هذا العرق بقوله: شفاء عرق النساء إلية شاة اعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق كل يوم جزءا. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم وهو حديث صحيح كما في شرح العزيزي، قال أنس رضي الله عنه قد وصفت ذلك لثلاثمأة نفس كلهم تعافوا. وهذا والله أعلم، إذا حصل من يبس في بلاد حارة كالحجاز، لأن فيها تليينا وإنضاجا. وقيل إذا طبخ دماغ الوطواط بدهن الورد ودهن به عرق النسا يسكن وجعه بإذن الله. ومثل ما وقع لسيدنا يعقوب وقع لعبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلم إلا أنه فدى ابنه الذي أراد ذبحه بمئة من الإبل ولهذا صارت دية الرجل مئة من الإبل. قال تعالى «فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» البرهان القاطع الدال على كذب اليهود وحل أكل لحوم الإبل وألبانها زمن إبراهيم عليه السلام وأصر على افترائه «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (94) أنفسهم وغيرهم «قُلْ» يا سيد الرسل «صَدَقَ اللَّهُ» وكذبتم أيها اليهود «فَاتَّبِعُوا» أيها الناس «مِلَّةَ

مطلب في البيت الحوام والبيت المقدس وفرض الحج وسقوطه وتاريخ فرضه والزكاة والصوم والصلاة أيضا:

إِبْراهِيمَ» التي يدعوكم إليها محمد وانقادوا لأمره وليكن كل منكم «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين خاضعا لدين محمد دين الإسلام الذي هو عليه وأصحابه «وَما كانَ» إبراهيم قط «مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (95) كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولم يعبد غير الله، وهكذا كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم يولدون على الفطرة ويتعبدون بما يلهمون من تعاليم الله أو مما كان عليه الأنبياء قبلهم. مطلب في البيت الحوام والبيت المقدس وفرض الحج وسقوطه وتاريخ فرضه والزكاة والصوم والصلاة أيضا: ولما قال اليهود للمسلمين بعد تبدل القبلة إن بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ومدفنهم ومهبط الوحي وفيه الصخرة الشريفة محل عروج الأنبياء إلى السماء وهي أقرب وجه الأرض فيها إليها وفلسطين أرض المحشر وأقدم قبلة استقبلت في الصلاة، أنزل الله ردا عليهم «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» قبلة «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» وليس بيت المقدس، وجاء بالباء لأن العرب تعاقب بين الباء والميم فيقولون ضربة لازب، وضربة لازم، ومكة، وبكة، لأن الناس يتباكون حولها قديما وحديثا، ويطلق هذا اللفظ على البيت نفسه وموضع المسجد فيها مما هو محيط به، ويوجد في المسجد الأقصى محل تسميه اليهود المبكى فهم يقفون فيه يبكون حتى الآن، وسميت مكة لقلة مائها يقال مك الفصيل أمه إذا لم يبق فيها لبنا. روى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض فقال المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجدا، فحينما أدركتك الصلاة فصل. زاد البخاري فإن الفضل فيه «مُبارَكاً» بيت مكة تشمل بركته الأرض كلها «وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» (96) فيها إذا وقفوا لزيارتها مؤمنين بربها يهتدون بهديه ويتباكون حوله طلبا لمغفرة ما سلف منهم ولما عند الله من الرحمة بهم «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» منها «مَقامُ إِبْراهِيمَ» وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بنائه، راجع الآية 125 من البقرة المارة في بحثه، «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» وهذا من جملة آياته أيضا، قال أبو حنيفة رحمه

الله إن من وجب عليه القصاص أو الحد لا يستوفى منه فيه ما زال ملتجئا إلى الحر. ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا بشارى ويضيّق عليه حتى يخرج منه ليقنص من لئلا تتعطل الحدود، أما إذا قتل أو سرق بالحرم فيستوفى منه الحدّ فيه عقوبة له لخرقه حرمة الحرم في الحرم بخلاف الأول، وهذا هو الحكم الشرعي في هذا وقال بعض المفسرين إن معنى آمنا أي من العذاب مطلقا وهو محمول على أنه إذا لم يقترف ما يستوجب العقوبة بعد حجة مما يستدل به على قبول حجة، أما من كانت حالته قبل الحج أحسن من بعده فلا، لأن ذلك دليل على عدم القبول أجارنا الله من ذلك. تشير هذه الآية إلى أن هذا البيت وضعه الله لجميع خلقه وأوجب الأمن لمن دخله منهم أجمع وعم بركته فيهم، فمن آمن واتقى فقد فاز بخير الدنيا والآخرة، ومن أعرض فأمره إلى الله، يدل عليه قوله «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» فلم يخص فيه أحدا، بل أوجب فرض زيارته على جميع خلقه، ولم يستثن أحدا إلا العاجز، إذ أبدل من عموم لفظ الناس «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» لأن الله تعالى لا يكلف غير المستطيع لقوله (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية، وما قاله بعضهم من (من) فاعل لكلمة حج لا وجه له ولا عبرة فيه، إذ يكون المعنى أن الناس كلهم مكلفون بإقسار المستطيع على فعل الحج، وهذا غير معقول، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى. وتفيد اللام في لله وعلى بعدها التأكيد والتشديد على فعل الحج والحكم الشرعي وجوبه على المستطيع مرة في العمر. روى مسلم عن أبي هر قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجو فقال له رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. والقيد بالاستطاعة ينفي الوجوب على غير المستطيع لعموم القدرة على ما يوصله إليه وعدم وجود ما يكفيه وأهله مدة ذهابه وإيابه أو لعدم أمن الطريق، وما جاء عن ابن عمر في حديث الزاد والراحلة لم يثبت، ليس بمتصل وسنده فيه إبراهيم بن زيد الجوزي متروك الحديث، وقال يحيى معين إنه ليس بثقة، وكذلك ما جاء عن علي كرم الله وجه لأن في إسناده مقالا

وفيه هلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف في الحديث، وقال الترمذي فيه حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولأنهما وحدهما لا يكفيان ولا يعد القادر عليهما فقط مستطيعا، لأن المستطيع ينبغي أن يكون صحيحا قادرا على لوازم الحج ذهابا وإيابا فضلا عن دينه وحوائجه وأهله وضرورياتهم مدة ذهابه وإيابه وعلى نفقة من تلزمه نفقته أيضا، فإذا فقد شيء من هذا انتفت الاستطاعة وسقط الفرض، أما العاجز جسما لمرض أو هرم فيشترط له علاوة على ما تقدم القدرة على نفقة من يقوم بخدمته ذهابا وإيابا وإلا فلا يعد مستطيعا أيضا، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من قثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال نعم. وذلك في حجة الوداع أخرجاه في الصحيحين- والعجز لزمانه كذلك، ويشترط مع أمن الطريق وجود الماء في كل مرحلة، ووجود الرفقة أيضا لكراهة السفر للواحد والاثنين، وإذا كان في الطريق من يطلب خفارة عند المرور منه كأعراب البادية الذين يطلبون خوّة ممن يمرّ بهم فلا يعد أمنا، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. هذا ولما تلا هذه الآية حضرة الرسول على جميع أهل الأديان إذ ذاك وهم المبينون في الآية 18 من سورة الحج الآتية، قالت اليهود والنصارى ومن تابعهم لا نحج هذا البيت ولا نصلي إليه، أنزل الله «وَمَنْ كَفَرَ» أي ومن جحد فريضة الحج فهو كافر «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» (97) وعن طاعتهم لأن كلمة ومن كفر تفيد معنى ومن لم يحج، وهذا تغليظ عظيم على تارك الحج مع القدرة، وفي ذكر الاستغناء دليل على المقت والعياذ بالله والسخط على التارك له كلا. وفي قوله (الْعالَمِينَ) بدل عن/ عنه/ إشارة إلى عظيم غضب الله على من يترك الحج استغناء، لأن الاستغناء عن العالمين يتناول التارك مبدئيا ولم يخصه تهاونا بشأنه واستخفافا به. وغير خاف أن الحج أحد أركان الإسلام الخمس، وله شروط وأركان وسنن مبينة في كتب الفقه، وذكرنا ما يتعلق بالرمي في الآية 113 من سورة الصافات في

ج 2، وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى الباحثة عن ذلك، ولبحثه صلة في الآية 25 فما بعدها من سورة الحج الآتية، وقد فرض في السنة التاسعة من الهجر مما يدل على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن سورتها، وقد وضعت هنا كفيره بإشارة من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل طبق ما هو عند الله. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان. وبينا أن الصوم فرض في 10 شعبان السنة الثانية من الهجر. وأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء في 27 رجب السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بسنتين وسبعة أشهر تقريبا، وأن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة ورويا عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يشير الرجال إلا لثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى. هذا، ومن آيات البيت المشرف الحجر الأسود الذي هو مبدأ الطواف وعلامة على انتهاء الشّوط ويسمى الركن وهو بيضوي الشكل بقطر ثلاثين سانتيما تقريبا، وهو مقدس لذاته ولمعنى فيه فضلا عن وجوده في البيت، وقد جاء في الخبر أنه يمين الله تعالى في الأرض، والأمر بتقبيله أو لمسه يدل على ذلك، قال ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، وإنما سودته خطايا ابن آدم- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وله عنه قال: قال رسول الله في الحجر والله ليبعثنه يوم القيامة وله عينان يبصر فيهما ولسان ينطق به ليشهد على من استلمه بحق. وله عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب. - قال الترمذي وهذا موقوفا على ابن عمر-. قال تعالى «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» الدالة على صدق رسالة رسوله «وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ جملة حالية أي كيف يقع منكم ذلك، والحال أن الله شهيد عليكم ويا سيد «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 101 إلى 110]

«تَبْغُونَها» سبيل الله الموصلة إليه «عِوَجاً» بكسر العين أي الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى، أما الجدار والعصا وغيرهما مما تراه العين فيفتح العين راجع الآية الأولى من سورة الكهف المارة في ج 2، «وَأَنْتُمْ شُهَداءُ» بأن الدين الحق ما عليه محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وأن ما أنتم عليه ضلال «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (99) من إلقاء الشبه بقصد تشكيك الناس لصدهم عن الإيمان بمحمد واتباع دينه القويم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» (100) فاحذروهم وتباعدوا عنهم ثم أتى بما ينم بالتعجب من طروء الكفر على الإيمان بقوله «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ» بالله ورسوله استفهام تعجب يليه جملة حالية أي كيف يكون منكم ذلك «وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ» قائم بين أظهركم، أي لا يليق بكم ذلك بل لا يتصور وقوعه منكم وأنتم على ما أنتم عليه من العقل والدراية «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ» ويتمسك بدينه ويتبع رسوله «فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (101) بوصله إلى الجنة لأن من يعصمه الله يقيه من الوقوع في الآفات ويدفع عنه كل شر. مطلب فتن اليهود وإلقائها بين المسلمين وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول وألفتهم: ولما رأى شاس بن قيس اليهودي ألفة الأوس والخزرج في الإسلام بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان قال والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر من يذكّرهم بوقائعهم يوم بعاث وما جرى فيه من القتل بينهم والسلب ليوقع بينهم الشحناء ويثير الضغائن الكامنة في قلوبهم، والفتنة قائمة لعن الله من أيقظها ولا سيما والناس كانوا قربي عهد بالإسلام، فذكروهم ولا زالوا يثيرون بينهم ما وقع منهم زمن الجاهلية، حتى استفز أوس بن قبطي من بني حارثة الأوسي وجبار بن صخر من بني سلمة الخزرجي، فتفاخروا وتمارون بما أغضب الفريقين، وحملهما على حمل السلاح وخرجا إلى الحرة ليتقاتلا، قاتل الله اليهود ما ألعنهم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذ المهاجرين وخرج إليهم، فقال أجاهلية وأنا بين

أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع أمرهم عنكم، وألف بينكم، أترجعون إلى الكفر! الله الله، فوقع كلامه فيهم موقعا بعيدا وزاح عنهم ما بينهم وعرفوا أنها نزعة شيطانية قام بها أعداؤهم اليهود، فألقوا السلاح وتعانقوا، وتباكوا ورجعوا مع حضرة الرسول سامعين مطيعين. قال جابر فما رأيت يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، وأنزل الله الآية المارة وأعقبها بقوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (102) وهذه الآية محكمة لأن من التقوى قيام العبد بأداء ما يلزم بقدر طاقته لا أنه يأتي بكل ما يجب عليه لله ويستحقه، لأنه مما يعجز البشر عنه، ولذلك قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية التغابن عدد 16 وهي قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بل هذه الآية مفسرة لها لا ناسخة ولا مخصصة، فمن اتقى الله جهده فقد اتقاه حق تقواه فضلا عن أنه يوجد من الكاملين من يتق الله حق تقواه، إذ يصرف كل زمنه في عبادته والتفكر بآلائه ومصنوعاته ويتداوى بعبادته ويقول فيها: إذا العبادة لم تنقذك من وصب ... كلا لعمري لم تشفك الأطباء قال تعالى «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ» الموصل إليه وهو القرآن الآمر بالألفة والمودة والمفضي لدخول الجنة «جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» كاليهود والنصارى الآن وكما كنتم زمن الجاهلية على اختلاف ألوانكم وأجناسكم «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» كما كنتم قديما لأن أوس وخزرج أخوان شقيقان، فلما تناسلوا وكثروا وقع بينهم الخلاف فتعادوا بسبب حسد بعضهم بعضا ووضع بينهم العداء، وإذا وقع الخصام بين الأقارب كان قويا ولهذا قيل: وظلم أولي القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند ولهذا يذكر الله تعالى بحالتهم الأولى وما آبوا إليها بقوله «وَكُنْتُمْ» قبل الإسلام اشتد بينكم الخصام حتى صرتم «عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم «فَأَنْقَذَكُمْ» الله «مِنْها»

بسبب إيمانكم به واتباعكم رسوله، إذ ألف بينكم الإسلام ونجاكم من الوقوع بالكفر «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشافي «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 103» قال مقاتل بن حبان: افتخر ثعلبة بن غنم الأنصاري من الأوس فقال منا خزيمة بن ثابت ذر الشهادتين، وحنظلة غسيل الملائكة، وعاصم بن ثابت ابن أفلح حمى الدين (واعلم أن «أفلح» اسم تفضيل من أفلح وهو خاص بمن هو أشرم الشفقة السفلى، ويقال لأشرم العلياء «أعلم» وللفرجة التي بين الشاربين تحت ضلع الأنف «نثرة» قف على هذا فقل من يعرفه) وسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ورضي الله بحكمه في بني قريظة، فرد عليه سعد بن زرارة الخزرجي فقال منا ابي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الذين أحكموا القرآن، وسعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم (قيل إن سعدا هذا بال في جحر فقتله الجن وقالوا فيه: قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده. ضربناه بسهم فلم تخطئ فؤاده ولهذا كره الفقهاء البول في الجحر خوفا من حيوان يؤذي أو يؤذى) وتفاخروا فيما بينهما، وتناشدوا الأشعار، وقاموا إلى السلاح، فأتاهم رسول الله فأصلح بينهم، وأنزل الله هاتين الآيتين المتقدمتين على هذه الآية، والأول الذي ذكرناه آنفا في سبب النزول وهو قصد إيقاع الفتنة من اليهود بينهما أولى وأوفق في مناسبة سياق الآية ولفظها، لأن الحوادث التي ذكرت في تفاخرهم من حكم سعد وموته وشهادة خزيمة وموت حنظلة لم يقع قبل نزول هذه الآيات ولا في زمنها حتى يكون سبب النزول مسوفا إليها، وعلى القول بأنها متأخرة بالنزول فكذلك لا يستشهد بها على ذلك. جاء في افراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ألا وإني تارك فيكم ثقلين، أحدهما كتاب الله هو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، الحديث. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به. وروى مسلم حديث ابن أرقم بأطول من ذلك، وفيه وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي كررها مرتين.

واعلم أن سبب اتصال الأنصار بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم هو أن سويد بن الصامت الذي كان شريفا في قومه ويسمى بينهم الكامل لجده وحسبه ونسبه، قدم مكة بعد مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم، فاجتمع به ودعاه للإسلام فقال له إن معي مجلد لقمان يعني كلمته وسيرته، فقال له الرسول اتلها علي فتلاها، فقال هذا حسن، وما معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي نورا وهدى، وتلا عليه مما كان قد نزل، فقال هذا القول حسن وانصرف إلى المدينة، وقتل يوم بغاث، فقال قومه قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الحبس أنس بن رافع وأياس بن معاذ مع فتية من بني عبد الأشهل يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال لهم هل لكم إلى خير مما جئتم به قد بعثني الله إلى العباد رسولا أدعوهم بعدم الشرك وأنزل علي الكتاب، وتلا عليهم منه، فقال أياس أي قوم والله هذا خير، فضربه أبو الحبس بخفنة من الحصباء وقال ما لهذا جئنا، وانصرف رسول الله ورجعوا إلى المدينة، وهلك أياس في واقعة فيما بينهم، ثم خرج الرسول إلى الموسم يدعوا الناس إلى الله كعادته لعله يجد من يأخذ عنه دينه فيهتدي به أو يستحسنه فيذكره لغيره كسويد بن الصامت وأياس بن معاذ المذكورين آنفا، فلقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم أسعد بن زرارة، وعون بن الحارث بن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر بن باني، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، فجلس إليهم وتلا عليهم قرآنا ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا، وكانوا يسمعون من اليهود أن نبيا يخرج آخر الزمان ويقولون إنهم يتبعونه ويقتلونهم معه وقال بعضهم لبعض لنسبقن اليهود عليه، وقالوا للرسول سندعوا قومنا إلى اتباعك وعسى الله أن يجمعهم عليكم فلا يكون أعزّ منك، ولما دخلوا المدينة ذكروا حضرة الرسول ورغبوا أتباعهم في الإسلام، فأسلموا، وفشا الإسلام بالمدينة لما رأوا من حسن تعاليمه القيمة وعملوا بما بلغهم عنه من المذكورين، وفي الموسم الآخر قدم من المدينة اثنا عشر رجلا زكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة من الخزرج، وأبو الهيثم ابن التيهان، وعويمر بن مساعدة من الأوس، والستة الأول، فبايعوا حضرة الرسول

في العقبة الأولى على صيغة وصفة بيعة النساء المبينة في الآية 13 من سورة الممتحنة الآتية، وقال لهم الرسول إن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم، وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن أسعد بن زرارة وصاروا يجلسون في حائط بني ظفر، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن صفير انطلق إلى هذين الرجلين- يريد مصعبا وأسعد- فازجرهما لئلا يسفها ضعفائنا، فلولا أن أسعد ابن خالتي لكفيتكه، فأخذ حربته وتوجه نحوهما، فلما رآه سعد قال لمصعب هذا سيد قومه، فلما وصلهما قال لهما اعتزلا عنا، فقال له مصعب أو تجلس فإن رضيت أمرا قبلته، وإلا كف عنك ما تكره، قال أنصفت، فركز حربته فكلمه بما يتعلق بالإسلام من آداب وأخلاق وتوحيد الإله وتفنيد الشرك وقرأ عليه القرآن، قالا والله لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، فقال لهما ما أحسن هذا وكيف الدخول في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتصلي ركعتين، فقال إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد وأخذ حربته وأقبل على نادي سعد، فقال سعد لمن عنده أحلف لكم إنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به فقال يا أسيد ما فعلت؟ قال ما رأيت بهما بأسا وقالا لا نفعل إلا ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه تحقيرا لك لأنهم عرفوه ابن خالتك، فقام مغضبا وأخذ حربته، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا أراد ذهابه إليهما ليسمع منهما، فقال أسعد لمصعب هذا والله سيد قومه، فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رغبت قبلت وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، قال أنصفت، فقرأ عليه القرآن وعرض عليه الإسلام، قالا فعرفنا الإسلام فى وجهه والله قبل أن يتكلم، فقال وكيف الدخول في دينكم؟ قالا له مثل ما قالا لأسيد وأن مبنى هذا الدين على العفو والسماحة والغيرة والشهامة من كل ما يؤثر في قلب الكريم أمثاله، فقبل ذلك، فقام واغتسل وطهر ثيابه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته وذهب، فلما أقبل على الناس قال أسيد والله إنه رجع بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال يا بني

عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقية، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني الأسهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة، وأمر مصعبا بتلقينهم الإسلام وتعاليمه وتحبب إليهم بالطرق التي تمرن عليها رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، ثم صار مصعب وأسعد يدعوان الناس إلى الإسلام علنا حتى لم يبق في المدينة بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية ابن زيد وخطمة ووائل إذ كان فيهم أبو قيس الأسلت فوقف بهم عن الإسلام وكان شاعرا مشهورا. واعلم أن كلمة الأنصار لم تعرف قبل هجرة الرسول إلى المدينة وإنما كانوا يسمون بقبائلهم، وإنما لقّبوا بها لتشرفهم بموالاة حضرة الرسول ونصرتهم له. هذا، وفي الموسم الثالث خرج مصعب وأسيد ومعهم سبعون رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأم عمارة أسماء بنت عمرو أم منيع إلى مكة وأخذوا معهم أبا جابر والتقوا برسول الله بالعقبة، وكان معه العباس ولم يسلم بعد، فقام خطيبا وقال يا معشر الخزرج (وكانوا يطلقون هذه الكلمة على الأوس والخزرج) إن محمدا منا حيث علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبي إلا الانقطاع إليكم والحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم مسلموه وافون إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة، فقالوا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما شئت، فبدأ صلّى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا- أي ظهرنا ويطلق على القوة والضعف فهو من الأضداد- فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يتكلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وعهودا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك

وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال صلّى الله عليه وسلم أخرجوا لي منكم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، قال عاصم بن عمر بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله قال العباس بن عبادة بن ثعلبة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتوه فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، ثم قالوا فما لنا بذلك يا رسول الله إن وفينا؟ قال الجنة، قالوا ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، قال فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمع قط (يا أهل الحباحب، هل لكم في مذمم والصياة معه قد أجمعوا على حربكم، فقال صلّى الله عليه وسلم هذا عدو الله إبليس هذا أرنب العقبة أي شيطانها، اسمع عدو الله والله لأفرغنّ لك) ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انفضوا، فقال العباس بن عبادة والذي بعثك بالحق لئن شئت ليملن عليهم أي على أهل منى بأسيافنا، فقال صلّى الله عليه وسلم لم تؤمن؟؟ بذلك (ومن هنا يعلم أن هجرة رسول الله لم تكن عن ضعف وخوف كما أشرنا إليه في بحث الهجرة آخر الجزء الثاني لأنها متصورة قبل اجتماع قريش في دار الندوة على الصورة المارة في بحث الهجرة المذكور. وهذه الحادثة قبلها بسنة وستة أشهر) وما كانت إلا لظهور الإسلام وعلوه وفاقا لما هو عند الله أزلا بأن الإسلام يفشو بالمدينة قبل مكة بسنتين، ومن هنا يظهر قول عيسى عليه السلام (ألحق أقول لكم أن لا يكون نبي في قومه) فرجعنا إلى مضاجعنا وكان وقت السحر من اليوم الثاني من ذي الحجة سنة 52 من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة العظيمة، فصابحوهم أجلة قريش وقالوا يا معشر الخزرج بلغنا أنكم بايعتم صاحبنا على حربنا، وإنا والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم،

مطلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتماع والفرقة وكون هذه الأمة خير الأهم ومعنى كان والتذكير والتأنيث:

قال كعب بن مالك فانبعث بعض المشركين من قومنا يحلفون بالله ما كان شيء من هذا وما علمناه أبدا، فصدقوا لأنهم لم يعلموا بالمبايعة، ولو علموا لما اعتذروا لأنهم لا يخافون من قلة عدد أو وهن عدد، قال وكان بعضنا ينظر إلى بعض، فقاموا ورجعوا ووقانا الله من الكلام، ولولا أن سخّر الله بعض مشركيهم وحلفوا على نفي ما سمعوا وهم صادقون لصدقوا ما سمعوا به ولوقع ما وقع. وهذا أول خير رأوه من بيعة حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وأظهروا فيها الإسلام. وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله، فقال لهم حضرة الرسول إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها وأمرهم بالهجرة إلى المدينة، وأول من هاجر أبو أسامة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر ابن ربيعة، ثم عبد الله بن جحش، ثم تتابعوا حتى هاجر رسول الله على الصورة المبينة في الآية 44 من سورة العنكبوت في ج 2، ودخل المدينة يوم الاثنين في 12 ربيع الأول سنة 13 من البعثة، وجمع الله شملهم، وأزال الضغائن من بينهم بسببه صلّى الله عليه وسلم وذلك قوله (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) بعد حروب دامت مئة وعشرين سنة بين الأوس والخزرج. مطلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتماع والفرقة وكون هذه الأمة خير الأهم ومعنى كان والتذكير والتأنيث: قال تعالى «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «أُمَّةٌ» جماعة «يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ» الطائفة التي هذه صفتها «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (104) الفائزون بنعيم الدنيا والآخرة «وَلا تَكُونُوا» أيها المؤمنون «كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا» في أمر دينهم كأهل الكتابين والصابئين «مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» على الوحدة في الدين ولم الشعث والألفة بأن يكونوا يدا واحدة فاختلفوا «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ 105» في الآخرة لا يتصورونه عدا ما ينالهم في الدنيا من الذل والهوان والصغار والعار والخزي والخسار وما يصيبهم من قتل وأسر وسبي وجلاء. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من رأى

منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. لأنه لم يأخذ بالعزيمة، فعلى الرجل الحازم أن يغير المنكر ما استطاع بيده إذا كان مرتكبه من هو تحت ولايته كابن وزوجته لأنه لا يعذر بإقرارهم عليه لكونه مسؤلا عنهم عند الله. قال صلّى الله عليه وسلم. كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته. فالرجل راع في أهله، والزوجة راعية في بيت زوجها، فإذا قصّرا سئلا، لأن كلّا منهم قادر على إزالة ما يقع من المنكر، وإلا فله أن يطلق زوجته ويطرد ابنه إذا لم يمتثل، فهذا شأن المسلم وطريق جماعة المسلمين. وأخرج أبو داود عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. والربقة الحبل الذي فيه العرى وتشد فيها الغنم، والمراد بها هنا عقد الإسلام وعهده. وروى البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من سرّه أن يسكن بحبوحة الجنة أي وسطها- فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ- أي الواحد-. وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار. وأخرج عن أنس: مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله. وأخرج البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا خرقا في نصيبنا لم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا. والأمر في هذه الآية للوجوب الكفائي، أما في قوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الآية 132 من سورة طه في ج 1 فهو للوجوب العيني بدليل قوله تعالى هنا (مِنْكُمْ) أي بعضكم فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإلا فالكل آثم لقوله صلّى الله عليه وسلم: إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه. وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درّة بنت أبي لهب قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خير الناس؟ قال آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم. وروى الحسن

عنه صلّى الله عليه وسلم: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله ورسوله وخليفة كتابه. وقد ذكر الله تعالى في صدر هذه الآية ما هو الحسن والخير ثم أتبعه بنوعيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة في البيان. والمعروف كل شيء يعرف بالعقل حسنا ويحسنه الشرع، والمنكر عكسه أي كل شيء يعرف بالعقل منكرا ويقبحه الشرع. الحكم الشرعي: يجب وجوبا كفائيا على من آنس في نفسه الكفاية أن يتصدر لأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر على أن يكون رحب الصدر لا تصده كلمة متكلم ولا يغضبه نهر ناهر ولا يترك من أجل متعند أو متعنت لأن الترك بهذه الأسباب لا تخلصه عند الله إذا كان متعينا عليه. قال الحسن البصري والأكمل أن لا يعيب الناس بعيب هو فيه، وأن يأمر بإصلاح عيوبهم بعد أن يصلح عيبه، وإلا فليشتغل بخاصة نفسه، وعلى الناس أن يأخذوا بقوله ولو لم يقم هو بما يأمر، ولا حجة لهم عليه بقوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) الآية الثانية من سورة الصف الآتية لأن المراد منها نهيه عن عدم الفعل لا عن القول، ولا بقوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الآية 44 من سورة البقرة المارة لأن التوبيخ فيها على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر، ولا يمنعه عدم أخذ الناس فيما يأمرهم وينهاهم، وإنما عليه القيام بالأمر والنهي فعلوا أم أبوا ليخلص عند الله وتكون الحجة عليهم، وإذا قام بعض الأمة في هذا سقط عن الإثم عن الباقين وآمنوا من الوعد والوعيد الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلم: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلى كريمكم ولا يرحم صغيركم، ويدعوا خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون. قال تعالى واذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» من المؤمنين يوم القيامة فيسرون ويتباهون على رءوس الأشهاد «وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الكافرين فيه فيتحسرون على ما وقع منهم في الدنيا ويفتضحون في ذلك الموقف العظيم «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» فيقال لهم على ملأ الناس «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» بالله يوم أعطيتموه العهد والميثاق في عالم الذر «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (106) فيه ولنقضكم العهد الذي عاهدتم عليه

ربكم «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ» بإيفائهم العهد وقيامهم بما أمروا به واجتنابهم لما نهوا عنه «فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (107) لا يتحولون عنها أبدا، والمراد بالرحمة هنا الجنة «تِلْكَ» حالة الفريقين يوم القيامة هي «آياتُ اللَّهِ» القاضية بذلك «نَتْلُوها عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «بِالْحَقِّ» كما أنزلت بالحق لتتلوها على قومك ليأخذوا بها ويحفظوا أنفسهم من عاقبة يوم القيامة فيقوها من الظلم بالدنيا «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» (108) بإركاسهم في النار وإنما هم يسببوه لأنفسهم ويريدون ظلم غيرهم بإعراضهم عن الأخذ بآيات الله «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (109) فيقضي بها وحده بالعدل. واعلم أن اسوداد الوجه يحصل للكافر من شدة ما يلاقي من الهول، قال الشاعر: ومن الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا إلى أن قال: فرد شعورهن السود بيضا ... وردّ وجوههن البيض سودا كما أن ابيضاض وجه المؤمنين يحصل من السرور العظيم الذي يرونه فتبتهج وتنبسط، وقيل في المعنى: وتنبسط الوجوه لأمر خير ... كما تغبر من شر تراه وقال غيره: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم وفي هذا البيت اكتساب المضاف التأنيث من المضاف اليه كما في قوله: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا وقد يكتسب التذكير أيضا كما في قوله: انارة القلب مكسوف بطوع هوى ... وقلب عاص الهوى يزداد تنويرا تحذر هذه الآية الناس عاقبة أمرهم إذا هم لم يقوموا بأوامر الله تعالى بما ذكر ألا فليقلع الناس عما هم عليه قبل حلول الأجل وليزداد الطائعون طاعة لينالوا ما وعدهم الله به من الخير. هذا ولما قال مالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا اليهوديان

لعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة نحن أفضل منكم، أنزل الله تعالى على رسوله خطابا له ولأمته قوله جل قوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» ولهذا وصفتم بالأخيرية على غيركم من الأمم «وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ» كإيمانكم بمحمد وكتابه «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» من الإصرار على ما هم عليه الذي يؤدي بهم إلى شر العاقبة وليس كل أهل الكتاب على ضلال «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ» كالنجاشي وأصحابه من النصارى الذين آمنوا قبلا وعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود المتوقع إيمانهم، لأنهم يصدقون الرسول ويؤمنون بكتابه ويميلون للإسلام، وهؤلاء آمنوا بعد نزول هذه الآيات كما سيأتي في الآية 17 من سورة النساء «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110) ويدخل في هذا الخطاب جميع الأمة المحمدية أولها وآخرها إلى قيام الساعة بحسب معناها على أنه إذا كان المخاطب به محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فهو على حد قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية 14 من البقرة ونحوه فإنه خطاب عام يشمل الكل وإن كان بحسب اللفظ للحاضرين فقط، روى نهر بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) إلخ قال أنتم تتممون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله- أخرجه الترمذي- وفي حديث آخر افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي وهنا سبعون باعتبار بعض الأمم تضم فرقا أخرى، وكان هنا ناقصة تدل على تحقيق الشيء بصفته في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق، وتحمل تارة على الانقطاع كما في قولك كان التمر موجودا، والرجل قائما، وطورا على الدوام كقولك كان البر محمودا، وكان ربك رحيما، ومنه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) الآية، ولها ارتباط بالآيات قبلها، وقد سبق بيان المعروف الذي تتسابق إليه النفوس الطيبة وتتسارع له ذوو المروءات والشهامة، وملاك الأمر فيه محصور في قوله صلّى الله عليه وسلم: (التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله) لأنه إما أن يكون لواجب الوجود لذاته وهو الله جل شأنه ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته والخضوع لأمره

والخشوع لجنابه والاقنات لباب عزته والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال مبرأ عن النقائص أو للمكنى بذاته، وهو إما أن يكون حيوانا فيجب إظهار الشفقة عليه بغاية ما يقدر عليه إنسانا كان أو غيره، وإذا كان جمادا فعلى العاقل أيضا أن ينظر إليه بعين التعظيم من حيث أنه مخلوق لله، لأن كل ذرة من ذرات الوجود فيها سرّ وحكمة لله تعالى ودليل على وجوده وبرهان على توحيده، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 45 من الإسراء في ج 1 وقال أمية بن الصلت: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ففعل المعروف لكل بما يناسبه معروف عند الله وتسر النفس بفعله إذا كانت طيبة طاهرة، ولله در القائل: ويهتزّ للمعروف في طلب العلا ... لتذكر يوما عند سلمى شمائله هذا إذا فعله لسلمى، فكيف إذا فعله لربها، فإنه يذكره في ملئه الأعلى، وشتان بين هذا وذاك، فالسعيد من يصرف عمله وماله وجاهه في مرضاة الله، والشقي من يعكس، وكل ميسر لما خلق له، قال: ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد هذا إذا رافقته عناية الله، وإلا فكما قال: إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيّرت ... ظنون مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباء فرعون مرسل روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: خير الناس قرني (أي الزمن الذي هو فيه وهو ما بين الثلاثة والثلاثين سنة والمائة) ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال عمران لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم ان بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن. زاد في رواية: ويحلفون ولا يستحلفون. ورويا عن ابن مسعود خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم تجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته وذلك لقلة يقينهم

[سورة آل عمران (3) : الآيات 111 إلى 120]

وضعف دينهم وعدم مبالاتهم في الزور والعياذ بالله، ولذلك قال الفقهاء: من شهد قبل أن يستشهد لا تقبل شهادته، أي لما فيها من التهمة بسبب تسابقه عليها، أما إذا كان لديه شهادة لصاحب حق لا يعرفه كقاصر أو غائب فعليه أن يخبر صاحب الحق بذلك ليشهد له عند الاقتضاء، وهذا لا يدخل في الحديثين المارين، بل هو مأجور لما فيه من إظهار الحق، راجع الآية 282 من سورة البقرة المارة. ورويا عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلّى الله عليه وسلم لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. هذا ولما عمد اليهود إلى ضر المؤمنين وصاروا يتداولون في إساءتهم ووقع في قلوب المؤمنين شيء من الرهب لما يعلمون من كيدهم ومكرهم أنزل الله تطمينا لهم قوله جل وعلا «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً» هو ما يقع من بذاءة لسانهم من الشتم والتهديد والطعن في الدين «وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ» لا يقدرون عليكم، لأن الله ألقى الرعب في قلوبهم منكم، ولذلك فإنهم إذا أقدموا على قتالكم «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ» يهربون أمامكم خوفا منكم ويخذلون بنصرة الله لكم «ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (111) عليكم أبدا، وذلك لأنهم «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» من الله فصاروا يتوقعون القتل والسبي والجلاء، ووقع عليهم الصغار والهوان بضرب الجزية عليهم «أَيْنَما ثُقِفُوا» وجدوا وقبضوا ولم يأمنوا منكم «إِلَّا بِحَبْلٍ» عهد وذمة وأمان «مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ» أمان وذمة «مِنَ النَّاسِ» أي المؤمنين «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» استوجبوه بسوء فعلهم ورجعوا به وأملوا أنفسهم فيه «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» خوف الفقر مع اليسار وخوف الفزع مع الأمن «ذلِكَ» الغضب والذلة والمسكنة «بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ» الكفر والقتل «بِما عَصَوْا» الله وخالفوا أمره وتعاليم رسله وجحدوا كتابه «وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (112) على أنفسهم وعلى غيرهم ويتجاوزون حدود ربهم. واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ست آيات مبدوءة بحرف الضاد هذه والآية 10 من سورة التحريم الآتية والآية 75 من سورة النحل و 27 من سورة الروم و 29 من سورة الزمر و 27 من سورة النازعات

المارات في ج 2. أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله «لَيْسُوا سَواءً» أي ليس المؤمنون الذين يصلونها مثل غيرهم ممن لم يصلها ثم ذكر ما يزيل إيهام تساويهم بقوله «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ» على طاعة الله «يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ» (113) لهيبة الله ويقرءون في صلاتهم وهم قيام خاشعين لربهم، وهذا لأن التلاوة لا تكون عادة في السجود بل في الصلاة حالة القيام، لأن الركوع والسجود فيهما التسبيح فقط، وإنما أطلق السجود على الصلاة كما ذكرنا في تأويل الآية لأنه أقرب حالات المصلي إلى ربه، فيكون من هذه الجهة معظم الصلاة مكنى به عنها، وهذه الطائفة «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «مِنَ الصَّالِحِينَ» (114) لقرب الله وجنته، فلا يتساوون مع أمة مذمومة عاصية لربها لا تؤمن ولا تسارع للخير بل بقيت على ضلالها راجع الآية 156 من سورة الأعراف ج 1 والآية 111 من البقرة المارة وما ترشدك إليه من الآيات، وهؤلاء هم الذين سبق ذكرهم بالآية الأولى ولم يذكرها الله ثانيا اكتفاء بذكرها أولا، وهذا مما هو جار على عادة العرب فانهم يستغنون بذكر أحد الضدين عن الآخر قال أبو ذؤيب: دعاني إليها القلب إني امرؤ لها ... مطيع فلا أدري أرشد طلابها أي أو ضلال اكتفاء بذكر الضد أولا، ومثله في القرآن كثير، راجع الآية 81 من سورة النحل في ج 2. ومما يدل على أن سبب نزول هذه الآية ما ذكر في الحديث وإن المعنى لا يستوي اليهود المذكورون بالآية التي قبلها وأمة محمد المقصودون في هذه الآية، مارواه الطبري بسند صحيح عن المنكدر أنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد، فقال: أما انكم لن تزالوا في صلاة

ما انتظرتموها، ثم قال أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم. وما نقل عن ابن عباس أنها نزلت حينما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة وأمية بن شعبة وأسيد بن عبد وغيرهم، وإن اليهود قالوا لو لم يكونوا أشرارنا لما تركوا دينهم لا يصح لأن عبد الله بن سلام لم يسلم بعد كما أشرنا إلى ذلك آنفا في الآية 110 وفي الآية 20 من سورة الأحقاف ج 2. قال ابن عباس ولما قال اليهود إن الذين أسلموا خسروا أعمالهم الصالحة وأموالهم لا لتجائهم إلى المؤمنين الفقراء، ردّ الله عليهم بقوله «وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» ولم يحرموا ثوابه البتة بل يحفظ لهم تقواهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (115) قبل إيمانهم وبعده. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (116) أبدا. هذه الآية عامة في جميع أنواع الكافرين، وما قيل إنها خاصة باليهود قيل لا يلتفت إليه، ونظيرها الآية 10 المارة إلا أن خاتمتها تختلف عن هذه، ثم أنزل الله في بيان صدقات الكفار على الإطلاق أيضا في قوله عن قولهَ ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا» من جميع أصناف النفقات معدوم من الثواب عند الله لأنه للرياء والسمعة والتفاخر، ولهذا جعل الله مثلهَ مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ» برد شديد أو حر مزيدَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بمعاصي الله وتجاوز حدودهَ أَهْلَكَتْهُ» جزاء ظلمهمَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ» بمحق ثوابهم منهاَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (117) لأنهم لم يبتغوا بها وجه الله في الدنيا فلم ينتفعوا بها في الآخرة، وهكذا كل نفقة ينفقها الرجل مؤمنا كان أو كافرا إذا لم يطلب بها مرضاة الله تكون عاقبتها الحرمان، بل قد يعذب من أجلها إذا كان في معصية أو لمعصية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً» أخصاء وأصفياء ولجاء «مِنْ دُونِكُمْ» من غير ملتكم وممن لا تعتمدون عليهم منكم أيضا، لأنهم ليسوا منكم إذا لم يكونوا مثلكم لأنهم «لا يَأْلُونَكُمْ» لا يقصرون فيما يعود عليكم بالشرّ والخذلان «خَبالًا» خسارا بنقص عقولكم «وَدُّوا» تمنوا ورجوا «ما عَنِتُّمْ» ما يوقعكم بالإثم والمشقة، أما ترونهم أيها

مطلب حقد اليهود والمنافقين ورؤية حضرة الرسول وقصة أحد وما وقع فيها:

المؤمنون «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» بشتمكم والطعن في دينكم «وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» بغضا لكم مما يظهرونه لكم «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ» الدالة على صنعكم من موالاتهم والأضرار المرتبة عليها، فاحذروا موالاتهم «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» (118) مغزى هذا النهي، راجع الآية 48 المارة ويتأكد هذا النهي في الحروب، لأن المؤمنين إذا اتخذوا فيها عمداء من غيرهم لا بدّ وان يعود عليهم اتخاذهم بالشر، لأن قضايا الحرب هامة جدا فلا يسوغ الاعتماد بها إلا على خلصاء الأمة، ولا يجوز الإدلاء بشيء مما يتعلق به إلا لمن يعتمد عليه منهم أنفسهم، وما تقوضت حكومة العباسيين ومن بعدهم إلا لهذا السبب، وخاصة الأندلس والأتراك أيضا. مطلب حقد اليهود والمنافقين ورؤية حضرة الرسول وقصة أحد وما وقع فيها: لهذا فإن هتلر زعيم الريح أخرج اليهود كافة من بلاده لما تحقق لديه أنهم هم السبب في انكسار الألمان في الحرب الواقعة سنة 914 م وقد يوجد منهم الآن وزراء في حكومتي انكلترا وأميركا ولا بد أن ينالهما الضرر منهم فيسببون تبديد ممالكهم إذا هم لم يوافقوهم على آرائهم من إنشاء دولة لهم حسبما وعدهم بلفور الظالم الغاشم لأن مقتضى دينهم المتمسكين به عدم النصح لعير اليهود واستحلال دم ومال غيرهم وتحريم النفع لغيرهم وهم أكبر عدو للنصارى عامة وللمؤمنين خاصة فإذا لم تنتبه هاتان الحكومتان إلى مكايدهم ودسائسهم فسوف يندمون ولات حين مندم هذا وتشير هذه الآية إلى رجوع عبد الله بن أبي بن سلول بجماعته وانخذالهم عن جماعة المسلمين في غزوة أحد الآتي بيانها، قال تعالى «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ» وتفشون إليهم أسراركم وتتخذونهم أولياء وهم لا يخلصون إليكم «وَلا يُحِبُّونَكُمْ» ولا يقابلونكم بمثل ما تقابلونهم بل يتربصون بكم الدوائر ويظهرون لكم المحبة مداهنة لتطلعوهم على خفايا أموركم «وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ» بجميع ما أنزل الله من الكتب لأن أل فيه للجنس فيدخل فيه عامة الكتب والصحف السماوية وهم لا يؤمنون إلا بقسم من التوراة «وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا» نفاقا منهم إذ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 130]

يبطنون الكفر بدينكم «وَإِذا خَلَوْا» مع قومهم «عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» الكامن في قلوبهم يود أحدهم أن يقطعه إربا إربا وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز عن الانتقام أو تضييع وقته «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (119) ومخبر نبيه بأحوالكم كلها واعلموا أيها المؤمنون «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ» من خير ونصر وغيرهما «تَسُؤْهُمْ» حسدا وعدوانا «وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ» من شر وخذلان وشبههما «يَفْرَحُوا بِها» تشفيا فيكم «وَإِنْ تَصْبِرُوا» على أذاهم وتجثنبوا موالاتهم «وَتَتَّقُوا» الله ربكم وتعتصموا به وتتوكلوا عليه فهو خير لكم و «لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» لأن الله يحفظكم منهم «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (120) وإنه يخبركم به لتتقوه فلا يضركم كيدهم، نزلت هذه الآيات في رجال من المسلمين كانوا يواصلون اليهود لما بينهم من قرابة ورضاع وصداقة وخلطة في الأموال والسكن قبل الإسلام ولما أخبرهم حضرة الرسول ارتدعوا وجانبوهم، قال تعالى «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ» أي خرجت غدوة من بيت زوجتك عائشة لتوطن وتهيء وتمهد و «تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ» مجالس ومواضع «لِلْقِتالِ» للمقاتلين من قومك «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما تقوله لهم «عَلِيمٌ» (121) بما يقع لك ولأمتك واذكر لهم «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» تجنبا عن القتال وتضعفا عن اللقاء وهذا الهمّ من قبيل جيشان النفس لا العزم والتصميم لأنه بمعناه الأخير بعيد عنهم وهم أصحاب محمد وهو معهم وإنما هو على حد قول القائل: أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي أي حدثت نفسها بذلك، ومما يؤيد هذا قوله تعالى «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» ومن كان الله وليه لا يجبن ولا يضعف كيف وهو ناصرهما وعاصمهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (122) ومن يتوكل على الله يكفه ويجعل له من ضيقه مخرجا ويهيء له ما يرومه من حيث لا يحتسب، روى البخاري ومسلم عن جابر قال: نزلت فينا هذه الآية وقال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما يسرني

أنها لم تنزل لقول الله (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) لما فيها من الشرف لهم بولاية الله. لما انكسرت قريش في وقعة بدر المار ذكرها في الآية 8 من سورة الأنفال ورجعوا خائبين قال بعضهم لبعض إن محمدا وتركم وقتل خياركم، وحث بعضهم بعضا على جمع المال واستعدوا للقتال وخرجوا قاصدين المدينة بقيادة أبي سفيان ومعه زوجته هند بنت عتبة حتى نزلوا على شفير الوادي بمقابل المدينة، فاستشار الرسول أصحابه فأشار عليه بعضهم بأن لا يخرجوا إليهم فإذا دخلوا المدينة قتلوهم فيها وأشار الآخرون بالخروج، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم أعجبه الرأي الأول لرؤيا رآها وهي أنه رأى في ذباب سيفه ثلما فأوولها هزيمة، ورأى أنه أدخل يده في درع منيعة فأوولها المدينة، إلا أن الآخرين كرروا عليه الخروج، فلبس لامته واستعد، فندم الذين أشاروا عليه وقالوا كيف نشير على نبي يأتيه الوحي واعتذروا وطلبوا إليه العدول عن رأيهم، فقال لا ينبغي لنبي يلبس لا مته فيضعها حتى يقاتل، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى وصل الشوط قريبا من أحد، والشوط حائد عند جبل أحد، انعزل عبد الله بن أبي بن سلول بأصحابه وانخذل راجعا مع المنافقين بحجة أن ليس هناك قتال، ومضى الرسول وأصحابه حتى نزلوا الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتهيأ صلّى الله عليه وسلم للقتال، وصف أصحابه كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا أخره، أو داخلا قدمه، وأمرّ على الرماة عبد الله بن جبير وقال له انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتوننا من خلفنا إن كان علينا أو لنا، فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك، وعبأ الآخرين وقال لا تقاتلوا حتى نأمركم، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وظاهر صلّى الله عليه وسلم بين درعين، وأكد على عبد الله وأصحابه أن لا يبرحوا مكانهم ولا يتبعوا المدبرين، وقال لن نزال غالبين ما لبثتم في مكانكم، وتعبأت قريش وعلى ميمنتها خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة ابن أبي جهل، وصار النساء يضربن بالدفوف وينشدن الأشعار، فقاتلوا حتى حميت الحرب. وروى البخاري عن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا وهم الرماة عبد الله بن جبير، فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا

هربنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزمهم الله، قال فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسواقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله ابن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله؟ فقالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك قوله تعالى (والرسول يدعوكم في أخراكم فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم أصاب من المشركين يوم بدر مئه وأربعين، سبعين أسيرا، وسبعين قتيلا، فقال أبو سفيان أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال أفي القوم عمر؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدوّ الله إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك، ولا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم أر ما يسوءني. ثم أخذ يرتجز ويقول أعلى هبل أعلى هبل، فقال صلّى الله عليه وسلم ألا تجيبوه؟ فقالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان إن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال صلّى الله عليه وسلم ألا تجيبوه؟ قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. وكان النبي أثناء الحرب أخذ سيفا وقال من يأخذ هذا بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن؟ فأخذه أبو دجانه سماك بن حرشه الأنصاري فاعتم بعمامة حمراء وصار يتبختر في مشيته، فقال صلّى الله عليه وسلم إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموقع. قال فلما نظرت الرماة المشركين وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب، فقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر الرسول، فلم يصغوا، وثبت عبد الله بن جبير ونفر دون العشرة، فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في قلبه، أي في الذين هم أمامه من قومه ليتبعوه، وحمل على اصحاب رسول الله فهزموهم، وحملوا على الرماة فقتلوهم، وأقبلوا على المسلمين، وتحولت

الريح دبورا بعد ما كانت صبا، وانقطعت صفوف المسلمين، واختلطوا فطفقوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا من الدهش، ورمى عبد الله بن قمئة حضرة الرسول بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ونهض إلى صخرة ليعلوها، فلم يستطع وكان قد ظاهر بين درعين، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى على الصخرة، فقال صلّى الله عليه وسلم أوجب طلحة وكان حوله أبو بكر وعمر والعباس والزبير وعبد الرحمن بن سعد وتكاثر عليه المشركون وهو وأصحابه يذبونهم بأيديهم وثيابهم، ووقفت هند والنسوة يمثلن بالقتلى حتى جعلن من الآذان والأنوف قلائد وأعطينها وحشيا، وبقرت كبد حمزة رضي الله عنه فأخذت قطعة منه فلاكتها فلم تسغها فلفظتها، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل الرسول فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو صاحب رايته صلّى الله عليه وسلم فقتله وهو يظن أنه قتل حضرة الرسول، فرجع وقال قتلت محمدا، وصاح صارخ إبليس عليه اللعنة ألا إن محمدا قتل، فانكفأ الناس، قالوا ولما فشا في الناس خبر قتل رسول الله، قال بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال المنافقون نلحق بديننا الأول، وقال أنس بن النضر إن كان محمد قتل فلم يقتل ربه، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك من هؤلاء المسلمين، وأبو إليك مما جاء به المشركون، ثم شد سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله رحمة واسعة. ثم جعل رسول الله يقول إليّ عباد الله، فاجتمع إليه نحو ثلاثين وكشفوا المشركين عنه، ثم رأى رسول الله رجلا في صورة مصعب حامل لواءه، فقال تقدم يا مصعب فقال لست، بمصعب فعرف أنه ملك، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه- السّية بالتخفيف ما يظهر من طرفي القوس- ونقل له رسول الله كنانته، وقال إرم فداك أبي وأمي، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر قوسين أو ثلاثة يومئذ، وكان الرجل يمر ومعه جعبة النبل فيقول انثرها لأبي طلحة وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله إذ كان يقي بها الرسول حتى يبست، وأصببت عين قتادة بن النعمان حتى

مطلب من أمي قديم، إلى حزن حادث وفي الربا ومفاسده. ووجود الجنة والنار والأوراق النقدية:

وقعت على وجهه فردها الرسول لمكانها فصارت أحسن ما كانت عليه، ثم انصرف الرسول من مكانه فأدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجوت، فتناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه في عنقه، فسقط وخار خوار الثور يقول قتلني محمد، فقال له أصحابه لا بأس، فقال لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ومات بعد يوم. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله. اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله. ولما صار الرسول يدعو الناس من على الصخرة عرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليه أن اسكت، فانحدرت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على الفرار، فقالوا فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا، قالوا قد قتلت فولينا مدبرين من الرعب، فنزلت هذه الآية والتي بعدها والآيات 48/ 49/ 50 من سورة القلم في ج 1 كما أشرنا إليها فيها. مطلب من أمي قديم، إلى حزن حادث وفي الربا ومفاسده. ووجود الجنة والنار والأوراق النقدية: وفي هذه الساعة من يوم الثلاثاء 14 صفر سنة 1358 جاء إليّ قائد الدرك السيد محمد أمين العاشق الحديدي من أهالي دير الزور نعى إلي بمزيد الأسف وفاة ملك العراق المحبوب الشريف غازي الأول بسبب اصطدام سيارته بعامود الكهرباء في بغداد، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته وجبر مصاب أهل البيت والمسلمين أجمع بفقده، وعوضهم خيرا منه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون، فتركت القلم إلى العزاء بهذا المصاب الأليم وبصفتي وكيلا للقائمقام بقضاء القنيطرة علاوة على وظيفة القضاء أمرت بتنكيس الأعلام الرسمية وقعدت لأتقبل التعزية، وهكذا لمدة ثلاثة أيام، ثم عدت بعد انتهاء العزاء إلى ما أنا فيه جعلها الله خاتمة المصائب إلى إكمال هذا الحزن الذي فيه من أسى ما وقع لجده في حادثة أحد التي تكبد فيها حضرة الرسول ما تكبد من مشاق بسبب مخالفة أصحابه أوامره، ولكن ما قدره الله أزلا فهو كائن لا محالة.

قال تعالى «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» لقلة عددكم وعددكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (123) نعمه، فإن التقوى هي الأساس الأقوى لنيل كل خير ودفع كل ضر، ولم تكرر لفظة بدر بالقرآن. واذكر يا محمد لقومك «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ» يوم بدر وعليه اكثر المفسرين وقيل يوم أحد ولكل وجهة في تأويل القلة بالنسبة ليوم أحد، والكثرة بالنسبة ليوم بدر، وهو أحوج لأنه أول بادرة وقعت من المسلمين تقوية لقلوبهم وخذلانا لأعدائهم، ومقول القول «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» (124) من قبل الله منزلين الخوف بقلوب أعدائكم «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ» من ساعتهم مأخوذ من فارت القدر إذا غلت واستعير إلى السرعة الشديدة التي لا ريث فيها، ولذلك وصف الفور «هذا» لتأكيد السرعة فكأن المؤمنين لما رأوا كثرة المشركين وبلغهم أنه سيأتيهم مدد، حصل لبعضهم خوف بسبب قلتهم، فقال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم ما ذكره الله في صدر الآية وأكد لهم قربه لنصرتهم بقوله هذا، كأنه ينظر إلى نزول الملائكة من السماء ويشير إليهم قائلا هذا «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (125) معلمين بعلامات يعرفها الفارس يوم اللقاء، قال عنترة: فتعرفوني أنني أنا ذلكم ... شاركي السلاح في الحوادث معلم قال تعالى «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ» إمداد الملائكة «إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» بالنصر والمعونة «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» فتقوى ولا يتخللها الجزع من كثرة عدوها «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ» الذي لا غالب له النادر الوجود «الْحَكِيمِ» (126) بإعطائه النصر والظفر لمن يريد لا لمن نريد نحن حسبما هو كائن في علمه لأن كل ما يكون في الكون عبارة عن إظهار ما هو مدون أزلا عنده، لا من الملائكة ولا هو منكم، وقد فعل الله ذلك «لِيَقْطَعَ طَرَفاً» يهلك طائفة «مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ» يوهنهم ويصرعهم على وجوههم «فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» (127) من الظفر الذي أملوه في غزوتهم هذه. تشير هذه

الآية إلى أن القصد من إنزال الملائكة في حادثة أحد هو هذا لا غير، ولهذا ذكرهم بنصرهم بواسطة الملائكة في حادثة بدر مع قلتهم لأخذهم بتعاليم الرسول، وكان مددهم بألف من الملائكة لأن عدوهم كان ألفا، قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ) الآية 10 من سورة الأنفال المارة فكان النصر لكم وفي واقعة أحد هذه قد أغاثكم أولا بثلاثة آلاف لتكثير سوادكم بأعين عدوكم، وإلا فملك واحد يكفي لإبادتهم، ألم تر كيف أدخل السيد جبريل جناحه تحت قرى قوم لوط الأربع ورفعها إلى العلو ثم قلبها كما مرت الإشارة إليه في الآية 82 من سورة هود ج 2، وان عدد الخمسة آلاف مشروط (1) بالصبر (2) والتقوى (3) ومجيء الكفار مددا، وبما أن مدد الكفار لم يأت لسماعهم بخذلان قومهم فالآية لا تشير إلى حضورهم إلا بتلك الشروط الثلاثة، وكان الوعد بإنزال الخمسة آلاف ليناسب عدد الكفار فيها كما كان الألف مناسبا لحادثة بدر بالنسبة لعددهم والله أعلم. قالوا إن الملائكة في حادثة أحد لم تقاتل إلا عند الدفاع عن الرسول. روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد. وقال عمير بن إسحاق لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فنى النبل أتاه فنثره وقال إرم أبا إسحاق، إرم أبا إسحاق، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف ذلك الرجل. ولهذا قال ابن عباس إن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفي بقية الحوادث تنزل تكثيرا لسواد المسلمين، وحمل ما جاء في هذا الحديث وهذا الخبر على أنهما كانا جبريل وميكائيل، ومعنى يقاتلان أي يذبان ويدافعان عنه ويردان ضربات المشركين عنه بعد ما أصابه ما أصابه، ولم يغلب المؤمنون إلا بسبب مخالفتهم تعاليم حضرة الرسول كما مرّ. قال تعالى «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» (128) روى مسلم عن مالك بن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشجّ في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو

يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله هذه الآية وذلك لما رأى رسول الله تمثيلهم بحمزة وتجاسرهم عليه أراد أن يدعو عليهم. وقيل إنه أقسم ليمثلنّ في سبعين من خيارهم فرد الله عليه لعلمه بإسلام بعضهم وأنه قد يولد منهم من يوحد الله تعالى، ولهذا خاطبه بأن أمر إهلاكهم ليس لك بل هو لي وحدي إن شئت عذبتهم بظلمهم وإن شئت عفوت عنهم ووفقتهم للإيمان، وهنا نزلت الآيات من آخر سورة النحل كما ألمعنا إليها في محلها ج 2. وما قيل إن هذه الآية نزلت في حادثة بئر معونه ينافيه سياق التنزيل وسياقه ومؤخره. قال تعالى «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وما فيهما كيف يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء و «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (129) بعباده لا يعجل عقوبتهم لسابق علمه بما يئول أمرهم إليه، فقد أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت الآية، ثم يتوب عليهم كلهم كما سيأتي بعد هذا، وكان قدوم قريش إلى أحد يوم الأربعاء في 12 شوال سنة 3 من الهجرة وخروج الرسول وأصحابه بعدم. ومن هنا يعلم أن الآيات من 90 إلى إلى 127 نزلت متأخرة عما بعدها كما هو معلوم من سياق القصص تأمل، وكان التقاء الجمعين يوم السبت الخامس عشر منه، وسبب الانكسار ما ذكره الله من المخالفة لأمر الرسول لأنه حذرهم من مبارحة أمكنتهم وأكد عليهم ملازمتها سواء غلبوا أم غلبوا كما مر آنفا في الآية 122، وقد أراد الله بذلك أن يمنعهم عن العود إلى مثلها فيتباعدوا عن مخالفته ولا يتجاسروا على معارضته ولا يميلوا إلى غير رأيه، وأن لا يدخل في قلب أحد منهم ريب بأن ما يريده هو الصواب وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر كان ببركة نبيهم وطاعته ولطف الله ومعونته لا بقوتهم. وسيأتي لهذه الحادثة زيادة تفصيل بعد هذه الآيات الواردة كالمعترضة بين آيات القصة وهي قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ» بالابتعاد عن تعاطي جميع أنواع الربا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (130)

[سورة آل عمران (3) : الآيات 131 إلى 140]

في الآخرة فتفوزوا بالسعادة وزيادة الثواب المتوقفين على التقوى في المحرمات كافة ومن تعاطي الربا في الدنيا لأنه من الكبائر بدليل قوله تعالى «وَاتَّقُوا النَّارَ» بانكفافكم عنه لأنه يؤدي إليها، ويوجب الوقوع فيها وذوق عذابها المؤلم وهي «الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» (131) وهيئت لهم لاستحلالهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل. وأنتم أيها المؤمنون إذا لم تنتهوا عن الربا يكون مصيركم مصيرهم. تشير هذه الآية بهذا التهديد والوعيد لهذا الصنف من الناس وهي أخوف آية في القرآن إذ أوعد الله المؤمنين بما أعده للكافرين إن لم يجتنبوا محارمه، وهذه الآية والآية 44 من سورة البقرة المارة تؤيد أن النار مخلوقة ومهيأة للكفار، كما أن الجنة معدة ومهيأة للمؤمنين، وهما كافيتان المراد على قول القائلين بعدم وجود الجنة والنار وأن الله سيخلقهما بعد، فضلا عن الآيات الأخر المثبتة وجودهما والأحاديث المخبرة عن ذلك، وخاصة حديث المعراج المصرح فيه اطلاع حضرة الرسول عليهما ليلة أسري به، راجع أول سورة الإسراء ج 1، فلم يبق من قيمة لما يتقولونه بعدم خلقهما بعد هذا تدبر «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» فيما يأمركم وينهاكم عنه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (132) فتخلصون من النار وتدخلون الجنة برحمته. هذا، وقد ذكرنا في الآية 39 من سورة الروم في ج 2 ما يتعلق بربا البيوع كالعينة وشبهها وفي الآية 275 فما بعدها من البقرة المارة ما يتعلق بربا النسيئة وهذه الآية الثانية النازلة في الربا المبينة ربا الفضل وهو نوع آخر من أنواع الربا الثلاثة وهو أعظمها إثما عند الله تعالى، راجع الآية 175 من البقرة، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا استحق الدين الذي أصله ربا أو غيره على المدين ولم يقدر على إيفائه يقول له الدائن زدني في المال لأزيدك في الأجل، فيفعل مضطرا لعدم القدرة على أدائه ولربما استحق ثانيا وثالثا فيزيده في المال ويزيده في الأجل حتى يكون الفضل أكثر من الأصل، ولذلك شدد الله تعالى فيه ونهى عن أكله، وقد حرم الله الربا بأنواعه الثلاثة في هذه الآيات الثلاث وبالأحاديث التي ذكرناها قبل وفي سورة البقرة وحديث أحمد الذي لفظه: درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية في الإسلام. وحديث ابن جرير وأبي الدنيا: الربا اثنان

وستون بابا أدناها الذي يقع على أمه. وحديث النسائي قال ابن مسعود إن النبي صلّى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، إذا علموا ذلك يلعنون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة. وهذه الآيات الثلاث كلها محكمة، لأن كلا منها في نوع مخصوص كما بيناه في محله، وما قاله بعضهم من أن هذه الآية ناسخة للآية والآيات من سورتي الروم والبقرة لا مستند له ولا حجة ولا دليل، بل جاءت تبين أن عذاب هذا الصنف كعذاب الكفرة، لأن التضعيف في الربا دلالة على الاستحلال والعياذ بالله. هذا وما قاله بعضهم من أن آية البقرة مطلقة وآية آل عمران مقيدة لها فلا يكون الربا محرما إلا بالأضعاف المضاعفة لا وجه له ولا حجة ولا عبرة به، لأن قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) في البقرة نص على العام، وأل فيه إما أن تكون للجنس فيكون مطلقا في سياق النهي فيعم ضرورة كل أنواعه، وآية آل عمران هذه نص على فرد من أفرد ذلك العام ولا تعارض بين منطوقيهما، وإن التعارض بين منطوق الأول ودلالة الخطاب في الثانية لا يتحقق إلا إذا لم تكن هناك فائدة للقيد غير فائدة التخصيص، وقد اتفق علماء الأصول على ترجيح المنطوق على المفهوم في باب المطلق والمقيد ولو لم يكن للقيد فائدة أخرى، وعليه فلا تعارض بين هاتين الآيتين وبقي الحكم للعام على فرض أن أضعاف مضاعفة ليس لها فائدة في التقيد بها غير التخصيص باتفاق الأصوليين، وإما أن تكون للاستعراق فيكون من قبيل العام أيضا وحاصله كذلك نص على العام ونص على فرد من أفراده، ولا تعارض بين منطوقيهما، وإنما التعارض بين منطوق الأول ومفهوم الثاني، ولا عبرة بالمفهوم حتى يكون القيد ليس له فائدة غير فائدة التخصيص، وقد اتفقت العلماء على أن القيد للتقبيح والتشنيع، ومثله مثل خشية إملاق في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لأن القتل منهى عنه سواء وجد خوف الفقر والفاقة أم لا كما أشرنا إليه في الآية 33 من سورة الإسراء في ج 1 والآية 15 من سورة الأنعام في ج 2 ومثل (أَرَدْنَ تَحَصُّناً) في قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية 33 من سورة النور الآتية، لأن الإكراه على البغاء ممنوع شرعا سواء أريد التحصن أم لا كما سنوضحه في محله إن شاء الله. وهذا الأسلوب

وهو التنصيص على أشنع الحالات وأقبحها أسلوب معروف في لغة العرب وكتاب الله وسنة رسوله، لأنه أدخل في الزجر وأقوى باعث على امتثال النهي، لا أنه هو العلّة التي يدور عليها الحكم وجودا وعدما، بل العلة غيره، وهذا هو أقبح الصور التي سيتحقق فيها، والذي يقطع الشك في تحريم القليل والكثير ويرد قول القائل بحل قليل الربا الذي يعين بالاجتهاد على زعمه الفاسد (ويجهل أن لا اجتهاد في مورد النص) ويعتبران آية (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ناسخة لآية (وَحَرَّمَ الرِّبا) لأنها مطلقة ومتأخرة عنها والمتأخر ينسخ المتقدم أو يقيده أو يخصصه، قوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لأنها جملة حاصرة للخبر المقدم على المبتدأ المؤخر وللصفة على الموصوف، لأن معناها لكم رءوس أموالكم التي خرجت من أيديكم لا غيرها، ثم تأكيدها بقوله (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فهو تأكيد يدفع كل احتمال ويقطع كل شك ويجتث كل شبهة، لأن معناه لا تظلمون الآخذ بأن تأخذوا منه أكثر مما أعطيتموه، ولا تظلمون أنفسكم بحط شيء من رأس مالكم فتأخذوا أنقص منه إلا ما عفوتم، وعلى هذا فلم يبق من شك أن الحكم للعام باتفاق العلماء وعلى جميع قواعد الأصوليين. على أنا قد ذكرنا آنفا في تفسير الآية 275 من البقرة أن هذه الآية مقدمة في النزول على آية البقرة لأنها آخر آية نزلت في العقود، فلم يبق محل لدعوى النسخ، تدبر ما يأتي فيما يدل على ما ذكرناه. هذا، وأن ما استأنس به هذا القائل بحل الربا القليل وعدم تحريمه إلا أن يكون أضعافا مضاعفة من قول عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيها الناس ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ينتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب الربا. وفي رواية: الحد بالحاء. وقوله رضي الله عنه إلا أن آخر ما نزل من القرآن هو آية الربا. ثم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يفسرها لنا، فدعوى الربا والريبة هو استيناس بغير محله، لأن عمر وسائر الأصحاب رضوان الله عليهم يعلمون ما بينه الله ورسوله من تحريم الربا الذي كان يتعاطى بالجاهلية قليله وكثيره، وجميع أنواعه لا سيما وأن الرسول قال في خطبته المشهورة في حجة الوداع على رءوس الأشهاد: كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.

ألا وان حضرة الرسول بين بالأحاديث المتقدمة في سورة البقرة ما يكون فيه الربا من الأنواع الستة مما حدا بسيدنا عمر رضي الله عنه أن يقول ما قال وهو ما بينه الرسول صلّى الله عليه وسلم بأحاديثه التي بلغت عمر وما يلتحق بها فحسب، أو أن المراد بالربا معناه اللغوي، فيدخل فيه ما ذكره الرسول وما لم يذكره مما يتدرج تحت المعنى اللغوي الذي هو زيادة على مزيد عليه في معاملة بين طرفين عينا كانت أو نقدا، حاضرة أو نسيئة، ويدخل في هذا الباب الأوراق النقدية التي أحدثتها الحكومة وأمرت بالتعامل بها بدلا من الذهب والفضة بين الناس في مبايعاتهم وأنكحتهم وغيرهم إذا بيعت بالتفاضل حالا أو نسيئة، لأن الله تعالى حرم الربا بصورة عامة لم يقيده بشيء ما، والحديث الشريف إنما عد الأشياء الستة لأنها كانت مما يرابى بها بالمدينة ولم يحصرها بها ليقال لا يجوز أن يزاد على ما ذكره الرسول، ولا يقال إن هذه الأوراق من قبيل العروض فلا مانع من التفاضل ببيعها، لأن العروض لها قيم خاصة معروفة ومجهولة، أما الأوراق النقدية لولا طابع الدولة فلا قيمة لها، لأن الذي جعلها تتداول بين الناس بمثابة الذهب والفضة هو طابع الدولة وتكفلها بدفع قيمتها عند الحاجة. واعلم أن القول بعدم الربا في هذه الأوراق يجرّ إلى القول بعدم وجوب الزكاة فيها والنقد المتداول كله منها، فيتعطل ركن من أركان الدين الإسلامي والعياذ بالله. هذا، ونعود إلى البحث الأول فنقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق: إذا كان المراد بالربا معناه اللغوي أي مطلق الزيادة اعتبار بإطلاق الآية المندرج تحتها كل ما فيه تفاضل فيا ترى ما حد هذا الاندراج، أيشمل ما قصد وما لم يقصد فيشمل زيادة العين وزيادة الانتفاع وغيرهما، أم لا يشمل إلا ما قصد إليه في المعاملة فحسب، أم هو المراد؟ فلهذا ود عمر أن يكون بينه الرسول حتى لا يقع في هذا التورط الشاق وهذه المسئولية العظيمة، وكيف لا وهو إن أخذ بالأول من غير مرجح له وحمل الناس عليه أوقعهم في معاملات كثيرة قد تكون الآية شاملة لها إن كان المراد المعنى الثاني، وإن أخذ بالمعنى الثاني ولم يكن مرادا في نفس الأمر أحرج الأمة وضيق عليها فيما لا قطع فيه، لذلك احتاط لنفسه في الفتوى وأخذ بأحوط الأمرين لأنه تردد بين احتمال مبيح واحتمال محرم، ت (26)

ولما كان من الأحوط الأخذ بالتحريم فقد نصح لهم أن يتركوا ما فيه ريبة في ذلك اتباعا لقوله صلّى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقوله صلّى الله عليه وسلم: الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه. فالتقي الورع الذي يخشى عتاب الله يجتنب كل ما فيه شبهة ربا من نقد ومكيل وموزون وما يقوم مقام النقد من أوراق نقدية وغيرها حتى بيع العينة التي نهى الرسول عنها بأحاديث متعددة وهي أن يبيع الرجل آخر سلمة بثمن ثم يشتريها منه بأنقص مما باعها، لأن هذا من باب الاحتيال على الله بشأن الربا، وهو لا تخفى عليه خافية، ألا ترى أن بني إسرائيل لما احتالوا على صيد السمك الذي نهاهم الله عنه يوم السبت مسخوا قردة وخنازير كما بيناه في الآية 164 من سورة الأعراف في ج 1؟ ولهذا البحث صلة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وفي الآية 16 من سورة النساء أيضا فراجعهما. وان قول عمر رضي الله عنه في الأثر الأول (وأبواب من أبواب الربا) يفيد أن اشتباهه لم يكن مداره القلة والكثرة في تحريم الربا ولكن فيما لم يعهد إليهم فيه عهد منه مما لم يتبيّنه ولم ينته إليه علمه من غير الأمور الستة التي كانت متعارفة في المدينة ولم يقل صلّى الله عليه وسلم لا ربا في غيرها ليكمل الاحتجاج به إلى عموم الآية وهي (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي بجميع أنواعه وأصنافه من كل ما فيه زيادة تأمل. هذا واعلم أن قوله في الأثر الثاني (إن آخر القرآن تنزيلا هو آية الربا) كما ألمعنا إليه في الآية 275 من البقرة المارة، أي إن الآية التي هي من آخر ما نزل من القرآن هي آية البقرة وقد علمت أنها تمنع القليل والكثير. ومما يدل على أن المراد بآية البقرة ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير أنه قال: من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يقسرها لنا، فدعوا الربا والريبة، أي كل ما يشك به من الربا. ولو أن عمر رضي الله عنه كان مدار اشتباهه في الآية على عدم التمييز بين الربا القليل الذي هو حلال، والربا الكثير الذي هو حرام، لكانت آية آل عمران هذه هي محل الاشتباه، ولو كان

في هذه الآية لديهم من ريبة لسألوا عنها حضرة الرسول لأنها نزلت قبل وفاته بكثير، لأن آية قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة، نزلت بعدها، وقد عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما ولم ينزل بعدها إلا آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية 280 من البقرة المارة، فراجعهما. هذا وقد علمت مما تقدم أن الأثرين حجة عليه لا له، وإن تذرعه بالاجتهاد مردود عليه، إذ لا اجتهاد في مورد النص، وممنوع إذ يصادم قوله تعالى (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلم وان ربا الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، مما يدل دلالة صريحة على أن آخر آية في الربا نزولا هي آية البقرة المذكورة. واعلم أن القصد من معارضة هذا المعارض إرادته إباحة إنشاء المصارف (البنوك) وأخذ الناس منها بربا يسير أقل من ربح البايع فيما يبيعه، وهذا لمن يتكلم بحق إرادة الباطل مثل دعاة السفور وهم يريدون الخلاعة لا غير، وإذا بحثنا في هؤلاء الذين يأخذون من المصارف تجدهم إنما يأخذونه لغير حاجة ماستة لأنهم إما يريدون تكثير زراعتهم إن كانوا مزارعين، وتجارتهم إن كانوا تجارا، أو زواجا أو بناء أو ملكا ما أو بذخا ليساووا من هو فوقهم وأكبر منهم وأغنى، أو طمعا بربحه اليسير وإعطائه بأضعاف ريحه لمن لا يقدر أن يأخذ من المصرف ليكاثر وينامي غيره به ومع هذا إنا نرى الذين تعاطوا هذا لم يتيسر لهم ما أملوه، فلم تمض مدة حتى ترى الملاك حجزت أملاكه، ولتاجر أعلن إفلاسه، والمزارع صار يستلف على زراعته لأداء ما عليه منه، والآخر أصبح فقيرا معدما، وهذا هو السر في قوله تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) فكان الأحسن لهذا والأجدر به أن يكون داعيا إلى الله موصيا الناس بالقناعة بما في أيديهم، ويحث الأغنياء على زكاة أموالهم لكفاية الفقراء، ويحبذ لهم القرض لمن يأمنوا على أدائه لهم وجواز إعطاء الفقير بما دون حد الغنى من الزكاة، فلو أعطى هؤلاء وأقرض الآخرون لقدر الفقراء على تأمين معيشتهم من البيع والشراء بالأشياء العادية من الخضروات وشبهها مما هو من حوائج العامة فيغنيهم الله من فضله ويبارك لمن ساعدهم ويعطى هذا المحبذ للمصارف والأخذ منها أكثر مما يعطونه أهلها، لأن

عطاء الله ممدود، وعطاءهم مقصور محدود، فيتكل على الله ويمنع أولئك من الأخذ من المصارف والاشتغال بما في أيديهم فهو أنفع لهم من الازدياد بما يوجب دمارهم، ويعلمهم بأن أخذ بعضهم من بعض سواء كان بطريق القرض أو التجارة أو الصدقة أبقى للرابطة بينهم، واحفظ لمادة التفاضل، قال صلّى الله عليه وسلم: لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت. وقال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية 72 من سورة النحل، وقال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية 253 من البقرة المارة، ولهذا فإن نظام العالم لا يقوم ولا يدوم إلا بهذه الصورة. وإذا أنعمت نظرك علمت أن الربا لا يجوز بوجه من الوجوه، لأن المال الذي يعطيه الغني إلى الفقير هو مقدار ما بذل من جهود إلى الهيئة الاجتماعية فلا يستحق عليها مزيدا، ولأنه ليس سلعة معينة بيد الآخذ ينهكها العمل ويؤثر فيها الاستعمال حتى يستحق تعويضا في نظيرهما، ولأن كل ما حصله الآخذ بواسطتها إنما يكون بجهوده، وهو المستحق لثمرة حصلت بها دون سواء، ولأن الزائد الذي يدفعه إلى المرابي إنما هو زيادة أخذها من جهوده فوق ما قدم للوجود من جهود، فأخذه لها من غير استحقاق ظلم بحت ومعاملة مخالفة للنظامه الفطري الذي هو التعاون الموجب للتوادد والتحابب بين الناس، لأن معاملة الربا تؤدي للتنازع والتفرقة والبغض والحقد، وكل هذا مما يضر بالمجتمع ويرهقه ويضعف مادة التناصر المجبولة عليها الفطر السليمة، فضلا عن أنه فيه قلب لوضع الذهب والفضة لأنهما بعد أن وضعا مقياسا للأشياء ووساطة في نظام التبادل أصبحا سلعا يقصد بها الربح الربوي مما يسبب تعطيلا للأيدي العامة اتكالا على ما يدره إليها من ربح الربا فيجعل مجهود العامل لغيره وليس له حق فيه أو بينه وبين المرابي، وهذا مما ينهكه أيضا ويضاعف جهوده على حساب غيره فلا يستطيع القيام بأعباء الحياة. وإن هذه الطريقة تجعل المال دولة بين الأغنياء إرهاقا للفقير بأخذ مجهوده ليتنعم الغني ويبلس الفقير، ومن هنا تنشأ العداوة والضغائن وتقع التفرقة والبغضاء، وتضعف الروح المعنوية بين المجتمع الإنساني، فتحصل الأضرار التي لا تتلافى حتى يعقد الفقير في قلبه التربص للانتقام من الغني أو الانتحار لنفسه، ولأنه يؤدي لاحتكار النقدين لقصد التعامل بالربا فقط فيقلان في أيدي الناس

مطلب في التقوى وكظم الغيظ والعفو والإحسان، ومكارم الأخلاق والتنزه عن مذامتها:

وهم محتاجون إليها، فيشق عليهم التعامل مع غيرهم الذي وضع للتسهيل والتيسير، فيخل نظام الفطرة الاجتماعية في وجوه الكسب، فيقع تحت براثنه ضحايا من الناس هم أحوج في حياتهم لأقل قليل من مجهوداتهم، ولأن فيه مخاطرة من جهة الآخذ إذا ألزم نفسه أن يدفع كسبا المرابي محققا في نظير ما يؤمل كسبه، إذ قد يخيب ظنه فيخسر فيشق عليه أداء الزيادة للمرابي، ولأنه يعود الناس الطمع بما في أيدي الغير، فتقسو قلوب بعضهم على بعض فيفقدون ملكة التعاون والتراحم والتعاطف بعضهم على بعض، فتنقطع بينهم عرى المساعدة حالة الشدة، ويحرمون من الثناء والحمد، وتنهال عليهم المذمة والدعاء والشتم في الدنيا فضلا عن حرمانهم في الآخرة الثواب المعين للقرض الذي هو أفضل من الصدقة، ولقائهم عذاب الله الأليم. فهذه اثنتا عشر خصلة كل واحدة منها كافية للقول بحرمة الربا على القطع، وفي كل منها مفسدة كافية للقول بمنعه، فما بالك إذا تحلقت جميعها، فهل تهد قوى الأمة وتنقص فضلها وتحطم كمالها وتقطع بينها مادة التواصل أم لا؟ قل بلى، ولا يقولها إلا موفق من يوم قالوا بلى لله القائل «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (133) . أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه إنك كنت تدعو إلى جنّة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال صلّى الله عليه وسلم فأين الليل إذا جاء النهار؟ أي أن القادر على إذهاب الليل قادر على أن يخلق النار حيث يشاء، أو أنها بعرض هذه السموات والأرض المرئية الآن، لا اللّتين تبدلان، راجع الآية 48 من سورة إبراهيم في ج 2، وفي خبر لأبي هريرة مما يؤيد هذا، وما قاله بعضهم بأن عرضها ثخنها بحيث لو عرضت لبلغ ثخنها ثخن السموات والأرض فليس بشيء وهو خلاف الظاهر وبعيد عن المعنى وعن المأثور، وهذه الآية تؤيد وجود الجنة كما بيناه في الآية 131 المارة. مطلب في التقوى وكظم الغيظ والعفو والإحسان، ومكارم الأخلاق والتنزه عن مذامتها: ثم بين هؤلاء المتقين بقوله «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ» أموالهم فيما خلقت لها ابتغاء مرضاة الله بلا منّ ولا أذى ولا طريق محرم «فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» أي في

حالتي العسر واليسر، فلا يتركون الإنفاق سواء كانوا في عرس أو حبس. «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» الجارعين مضضه عند امتلاء نفوسهم منه فلا يظهرونه بقول ولا فعل بل يصبرون ويسكتون، لأن الكظم حبس الشيء عند امتلائه، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. وعليه قول ابن الوردي: اتق الله فتقوى الله ما ... جاررت قلب امرئ إلا وصل ليس من يقطع طرقا بطلا ... إنما من يتق الله البطل وقالت عائشة لخادم أغاظها: لله درّ التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء. وذلك أن شفاء الغيظ بالبطش والانتقام، وقد حالت التقوى والحلم دونه، ونعم الحائل والمانع. ولهذا قالوا: كن من العاقل إن أحرجته، ومن الأحمق إن مازحته، ومن الجاهل إن عاشرته، ومن الفاجر إن خاصمته، ومن الكريم إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته على حذر. روى سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيّره في أي الحور شاء- أخرجه الترمذي وأبو داود «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» إذا جنوا عليهم فلم يؤاخذوهم وقد يحسنون إليهم بالعطاء فضلا عن إحسانهم بالعفو «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (134) عامة ومحبة الله أعظم درجات ثوابه وخاصة لمثل هؤلاء، لأن من يعفو وهو قادر فقد تذرع بالصبر وعرف أن ذلك من قضاء الله وقدره فلم يتبرم ولم يسخط فكان من الصادقين الذين إذا قالوا صدقوا وإذا عاهدوا وفوا وإذا ائتمنوا أدّوا، فيكون من القانتين الذين سلمت أعمالهم من الرياء وأقوالهم من السمعة طلبا لما عند الله، وهذا كله من حسن الخلق الذي منّ الله عليهم به، قال محمد بن ثور الهلالي: وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت ... فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا وقال غيره: فإذا رزقت خليقة محمودة ... فقد اصطفاك مقسّم الأرزاق

فالناس هذا حظه مال وذا ... علم وذاك مكارم الأخلاق والمال إن لم تدخره محصنا ... بالعلم كان نهاية الإملاق والعلم إن لم تكتنفه شمائل ... تعليه كان مطية الإخفاق لا تحسبن العلم ينفع وحده ... ما لم يتوج ربه بخلاق «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» فعلة قبيحة كالزّنى واللواطة وغيرهما «أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» باقتراف الذنوب صغارا كانت أو كبارا كالقبلة واللمس والنظر للأجنبية والأمرد بشهوة والربا والغصب والخمر والقمار وما شابههما من الذنوب ثم «ذَكَرُوا اللَّهَ» وعرفوا بأنه سيسألهم عنها يوم لقائه فاستحيوا منه وخافوا عتابه وعقابه قبل أن يلقوه «فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» هذه وتابوا وأنابوا وندموا على فعلها وعزموا على عدم العودة لمثلها يوشك أن يغفرها لهم «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» الرؤوف الرحيم بعباده، وفي هذه الجملة شيء من البشارة العظمى أي لا أحد يفعل ذلك غيره وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وذلك كله بمقتضى كرمه إذ لا مفزع للمذنبين غير فضله ورحمته ولطفه وإحسانه، ولا ملجأ إلا لكرمه وعفوه وعطفه وامتنانه «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا» من تلك الذنوب بل أفعلوا عنها حالا من غير توان في الإقامة على شيء منها «وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135» أن ما وقع منهم مؤاخذون عليه وأن لهم ربا يغفر لمن يرجع إليه ويعفو عمن يلتجىء إليه، لأن التوبة مع الإصرار على الذنب استهزاء وسخرية بالرب يوجبان المقت والعياذ بالله، قال صلّى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وقال صلّى الله عليه وسلم: التائب من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه. واعلم أن في إعداد النار للكافرين في الآية 13 المارة وإعداد الجنة للمتقين في هذه الآية بشارة عظيمة على تقوية رجاء المؤمنين المتقين المتصفين بالصفات المذكورة برحمة الله تعالى لدخول الجنة المهيأة لهم، وتباعدهم عن النار المعدة لغيرهم إذا لم يسلكوا طريقها، قال القائل: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس وعلى كل يجب الاستعانة بالله تعالى على حفظ النفس من الذنوب، إذ لا مانع له منها إلا هو، وقد صدق من قال:

من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان روى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آخى بين أنصاري وثقفي فخرج الثقفي في غزوة واستخلف أخاه الأنصاري على أهله فدخل عليها وقبل يدها ثم ندم ووضع التراب على رأسه وهام في البرية لأنه رأى في عمله هذا وقاحة مذمومة وانسلاخا من الإنسانية ومنشؤهما لجاج النفس في تعاطي القبح، وهي مغايرة للحياء الذي هو انقباض النفس عن القبائح وهو من خصائص الإنسانية ومغاير للخجل الذي هو صون النفس لفرط الحياء ويحمد في النساء والصبيان، فلما جاء الثقفي سأل امرأته عنه فقالت لا أكثر الله مثله وذكرت له ما وقع منه فذهب في طلبه وجاء به إلى أبي بكر فذكر له قصّته وقال هلكت فقال أبو بكر ويحك أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم، ثم جاء عمر فقال مثل ذلك، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلم فقال مثل ذلك وأنزل الله هذه الآية. وقال ابن مسعود: قال المؤمنون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارته مكتوبة على عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك أو افعل كذا، فسكت صلّى الله عليه وسلم، فنزلت. وقال عطاء في رواية ابن عباس بأنها نزلت في تيها التمار جاءت إليه امرأة تشتري منه تمرا فضمّها وقبلها وندم. والأول أولى. أخرج أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل همّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم. وروى أبو يعلى في مسنده وابن السني أبو بكر بن محمد بن أحمد: من استغفر الله دبر كل صلاة ثلاث مرات فقال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فرّ من الزحف. تشير الجملة الأخيرة من هذا الحديث للبشارة بإدخال الكبائر أيضا وما ذلك على الله بعزيز. وأخرج الترمذي عن أنس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء (أي ما عاينته منها)

ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا (أي ما يقارب ملئها) ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. وقد ألمعنا إلى ما يتعلق في هذا البحث في الآية 43 من سورة الشورى في ج 2 فراجعه. قال تعالى «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم «جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» (136) في هذه الدنيا الجنة عند الله تعالى والأمن من العقاب وحسن الثواب على عمله الصالح وتوبته النصوح. هذا وقد ذكرنا أن هذه الآيات من آية الربا إلى هنا معترضة بين قصة أحد لمناسبات وأسباب ذكرت خلالها. ثم ذكر الله تعالى ما فيه تسلية لحضرة الرسول وأصحابه عما وقع لهم في حادثة أحد بقوله «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» طرق وعادات في الأمم الماضية بإهلاك العصاة وإثابة الطائعين أيها المؤمنون (قد تأتي الأمة بمعنى السنة والسنن بمعنى الأمم) كما قيل: ما عاين الناس من فضل كفضلكم ... ولا رأوا مثلكم في سالف السنن أي الأمم «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» (137) ليهون عليكم ما وقع بكم لأن الذين كذبوا الرسل قبلهم أمهلهم الله ولم يعجل عقوبتهم ثم استأصلهم بالهلاك وكذلك كفار قريش فإن الله يمهلهم حتى يبلغ الكتاب أجله فيستأصلهم إذا لم يؤمنوا كغيرهم الذين لم تسكن مساكنهم من بعدهم ويستدل على ما وقع بهم من أطلال ديارهم وآثارهم التي ينطق لسان حالها: إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار ولا مناقشة في المثل إذ يجوز أن يضرب على حسن الصنايع والأفعال وعلى قبحها وسوءها بحسب المقام ولكل مقام مقال كما لكل مقال مقام «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» (138) حدود الله الواقفين بعيدا عن حماه المتفكرين في آلائه العاملين لرضائه العارفين مصيرهم إليه والعاقبة المحمودة عنده «وَلا تَهِنُوا» أيها المؤمنون فتضعفوا عن الجهاد وتجبنوا عنه بسبب ما أصابكم في هذه الحادثة ففيه هوان لكم وذلة لمن بعدكم بل عليكم بمتابعته ففيه العزة والاحترام «وَلا تَحْزَنُوا» على قتلاكم فإنهم لقوا ربهم وغشيتهم رحمته وعمهم رضوانه فهم

مطلب الأيام دول بين الناس، وكون الجهاد لا يقرب الأجل، وكذب المنافقين، واللغات التي تجوز في كأين:

شهداء في الدنيا سعداء في الآخرة «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» بالنصر والغلبة لأنكم أصبتم منهم ببدر أكثر ما أصابوا منكم بأحد والعاقبة الحسنة لكم، فاصبروا واطمأنوا ولا تجزعوا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (139) بما وعدكم الله به فلا تهنوا على ما وقع منكم ولا تحزنوا على ما فاتكم ولا على ما أصابكم والأحسن أن تؤول (إِنْ) هنا بمعنى إذ على التعليل أي إنما يحصل لكم العلو على غيركم لأنكم مؤمنون بالله مصدقون لما جاء به رسوله «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ» أيها المؤمنون في أحد «فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ» أعدائكم «قَرْحٌ مِثْلُهُ» إذ قتل منهم سبعون وأسر سبعون في حادثة بدر، والقرح بالفتح الجراحة وبالضمّ المها، وقد قتل من الكفرة نيف وعشرون رجلا وجرح كثيرون في حادثة أحد. مطلب الأيام دول بين الناس، وكون الجهاد لا يقرب الأجل، وكذب المنافقين، واللغات التي تجوز في كأين: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» من واحد لآخر ومن طائفة لأخرى، كما قيل: فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسر وكلمة نداولها لم تكرر في القرآن، ومنه الدنيا دول تنتقل من أمة إلى غيرها وقيل: هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سرّه زمن ساءته أزمان «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» أن هذا التداول يتميّز فيه المؤمن الصادق من المبطن المنافق الذي يرجع عن دينه لأدنى نكبة، قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية 12 من سورة الحج الآتية «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» جمع شهيد وهو من مات في صف القتال وسمي شهيدا لأنه يشهد على الأمم يوم القيامة مع الأنبياء ولأنه يشهد له في الموقف العظيم لدى رب العالمين على أنه قتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (140) من الكافرين والمنافقين وغيرهم لذلك لا يقدر لهم الشهادة كما لم يقدر لهم الإيمان «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» في هذا التداول فيعرفون الحكمة منه فيطهرهم وينقيهم من ذنوبهم وكرر هذا الفعل في الآية 154 الآتية، وكلمة يمحق في الآية 276 من

البقرة فقط وفي قوله «وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» (141) يمحوهم ويفنيهم فلا يبقى لهم ذكر بخلاف المؤمنين فإن في قتلهم شهداء بقاء لذكرهم «أَمْ حَسِبْتُمْ» أيها المؤمنون «أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» دار الكرامة مجانا بلا ثمن «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» بصدق وإخلاص «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (142) منكم على الأذى والقتل، أي ليظهر للناس صبركم على المشاق في أمر دينكم كما هو معلوم عند الله. تشير هذه الآية إلى تبكيت الذين انخذلوا ورجعوا من الطريق بعد أن خرجوا مع الرسول وهم عبد الله بن سلول وأصحابه لأنهم في مثابة المنهزمين من الجهاد لشدة جبنهم مع أنهم كانوا يتغنون بالجهاد بين الناس ويحبذونه فأظهر الله كذبهم وقيل: وإذا ما خلا الحبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا والمعنى: أتظنون أن تدخلوا الجنة أيها الناس كما يدخلها هؤلاء الذين بذلوا مهجهم لربهم يوم أحد؟ كلا لا تحلموا بذلك أبدا وذلك أن هؤلاء المنهزمين كانوا يتمنون الشهادة بسبب ما أخبر الله عن الكرامة التي حازها شهداء بدر فلما حان وقتها هربوا فحرموا منها فأنزل الله تعالى «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» (143) فكيف تنهزمون وهذا زيادة في توبيخهم وتقريعهم على هزيمتهم، ثم ندّد ما وقع من بعضهم فقال جل قوله «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» رجعتم إلى دينكم الأول. يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» بل يضر نفسه كما أن قتل محمد وموته لا يوجب وهنا في الدين أو ضعفا بأهله ورجوعا عنه لأن الأنبياء قبله لم ينشأ عن قتلهم أو موتهم ارتداد أتباعهم بل تبروا على طريقة أنبيائهم ودعوا الناس إليها، وهذا توبيخ وتبكيت للمنافقين الذين قالوا عند ما سمعوا أن محمدا قتل نرجع إلى ديننا الأول وتقريع لبعض المسلمين الذين قالوا ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان كما مر في الآية 122 «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (144)

نعمة الإسلام الثابتين على دينهم في السراء والضراء مثل أنس بن النضر إذ قال إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل وقال لأولئك ما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه، ثم قال إني اعتذر يا رب إليك من هؤلاء المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ثم شد سيفه وقاتل حتى قتل رحمه الله، قال عبد الله بن رواحة حين نهض إلى الموت في جملة ما قال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات قرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا وقال الحارث بن ظالم المزني: فأقتل أقواما لئاما أذلة ... يعضون من غيظ رءوس الأباهم ولما سئل حضرة الرسول عن المراد بالشاكرين هنا فقال إن أبا بكر وأصحابه هم الشاكرون وقد التفوا حوله ووقره كلهم بأنفسهم. قال تعالى «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» لا يتعداه ولا يتقدمه، تفيد هذه الجملة أن الجهاد والجرأة لا تقدم أجل الإنسان، والجبن والحذر لا يؤخره، فلا يموت الإنسان إلا بأجله المقدر له عند ربه ولو خاض في المهالك واقتحم المعارك وفيها إشارة إلى حفظ الرسول من القتل مع تكالب الأعداء عليه وحرصهم على قتله وإعلام بأن الحذر لا يغني عن القدر وإيذان بأن المقتول ميت بأجله، قال صاحب الجوهرة: وميت بعمره من يقتل ... وغير هذا باطل لا يقبل «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا» بعمله وطاعته «نُؤْتِهِ مِنْها» جزاء عمله كالذين تركوا مكانهم الذي عينه لهم حضرة الرسول وحذرهم مفارقته فتركوه وطلبوا الغنيمة حتى سببوا الانكسار «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» كالذين ثبتوا في محلهم الذي أمرهم بالبقاء به والذين ثبتوا مع الرسول، وهي عامة في جميع الأعمال وخصوصها في أهل أحد لا ينفي عمومها وهكذا غيرها من الآيات لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» (145)

الذين يريدون بعملهم وجه الله، ولا تعد هذه الجملة مكررة لأنها منصرفة لمعنى آخر بالنسبة لما قبلها. روى البغوي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له. وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها- وفي رواية يتزوجها- فهجرته إلى ما هاجر إليه. قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» نسبة للرب وقيل جماعات كثيرة والربيّة الواحدة عشرة آلاف مثل قوم طالوت المار ذكرهم في الآية 250 من سورة البقرة المارة «فَما وَهَنُوا» خافوا ولا جبنوا عند اللقاء في قتال الكفرة «لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» من القتل والأسر والجروح «وَما ضَعُفُوا» عن قتال عدوهم «وَمَا اسْتَكانُوا» خضعوا واستسلموا لهم ولكنهم ثبتوا وصبروا «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» (146) الذين لم يجزعوا في الجهاد ولم يفزعوا من الكثرة. واعلم أن كلمة كأين فيها خمس قراءات الأولى بإثبات النون في الوقف والخط وبالتشديد وهي اللغة المشهورة فيها كما هنا، والثانية كائن على وزن اسم الفاعل بلا ياء وعليها قوله: وكائن لنا فضل عليكم ومنّة ... قديما ولا تدرون ما من منعم والثالثة بالياء مع الهمزة بلا نون كأي، والرابعة بالياء قبل الهمزة وبعدها النون كيئن وتقرأ بسكون الياء وكسر الهمزة، والخامسة كئن بكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون ساكنة وعليها قوله: كئن من صديق خلته صادق الإخا ... أبان اختباري أنه لمداهن قال تعالى «وَما كانَ قَوْلَهُمْ» أي الربيون عند اللقاء «إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا» أي إفراطنا وتجاوزنا حد العبودية «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا» عند لقاء عدونا وأزل من قلوبنا الفزع والرعب

[سورة آل عمران (3) : الآيات 151 إلى 160]

«وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (147) نعمتك الجاحدين دينك المكذبين نبيك «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا» بالنصر والغنيمة والثناء «وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» بالغفران ودخول الجنان ومرافقة الأعيان لحسن صنيعهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (148) في أعمالهم ونياتهم، وهذه الآيات فيها تعليم من الله لعباده بأن يفعلوا كفعلهم ويقولوا كقولهم. قال الله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا» من المنافقين واليهود الذين يشيرون عليكم بترك الجهاد ويخوفونكم عاقبته «يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» في الكفر الذي كنتم فيه «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (149) في الدنيا والآخرة «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ» فأطيعوه واستعينوا به «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» (150) لكم وهؤلاء الذين يغرونكم ويغرّونكم لا قدرة لهم على نصركم «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» في الدنيا منكم حتى تقهروهم ويظهر دينكم على سائر الأديان «بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ» بسبب اتخاذهم شريكا لله، والله تعالى ليس له شريك ولهذا قال «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة وهو مثوى كل ظالم «وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» (151) النار، وفي هذه الآية بشارة عظيمة للمسلمين لما فيها من إخبار الله تعالى لهم بالظفر في الدنيا ووعد لهم بالمغفرة في الآخرة، ويوجد في القرآن 36 آية مبدوءة بلفظ بل. قال تعالى «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» بالنصر والظفر قبلا في واقعة بدر وفي واقعة أحد أيضا لأن الظفر كان لهم مبدئيا وقد هزموا المشركين إلا أن أهل النبل لما خالفوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم التي عينها لهم طلبا للغنيمة رأى الكفّار خلو ظهور المسلمين منهم كروا عليهم فغلبوهم وانقلب الأمر كما تقدم في القصة آنفا، واذكروا عباد الله «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ» تقتلونهم وعليه قول عتبة الليثي: نحسهم بالبيض حتى كأننا ... نفلق منهم بالجماجم حنظلا وقد استشهد بهذا البيت ابن عباس على أن معنى الحس القتل، وقال غيره: ومنا الذي لاقى بسيف محمد ... فحس به الأعداء عرض العساكر ومعنى حسّه أصاب حاسته بآفة فأبطلها ولذا قال بعضهم: تبطلون حسهم بالقتل

الذريع. وما كان ذلك إلا «بِإِذْنِهِ» إذ أجاز لكم قتالهم فقتلوا بقضاء الله وقدره «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» الذي أمركم به رسولكم فقلتم وما نصنع بمكاننا وقد انهزم وغلبوا وقلتم إنما أمرنا أن لا نبرح مكاننا حتى الغلب وقد كان ولكنكم خالفتم «وَعَصَيْتُمْ» أمره إذ قال لكم لا تبارحوا أبدا غلبنا أو غلبنا «مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» من النصر والظفر بأعدائكم تركتم مواقعكم الحربية المقدر نصر الله على ثبوتكم فيها وخذلانه لكم على مبارحتها وذلك لأن «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» فترك موقعه وذهب ابتغاء الغنيمة ولم تعلموا ما يصيبكم بسبب مخالفة رسولكم «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» فثبت مكانه وحافظ على وصية رسوله حتى قتل كالأمير عبد الله بن جبير ورفقائه رحمهم الله «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» عن الكافرين وكف معونته لكم فغلبوكم بسبب خلو ظهركم من أهل النيل الذين كانوا مانعين الكفرة من الوصول إليكم حسب التعبئة التي رتبها حضرة الرسول، وفعل ذلك «لِيَبْتَلِيَكُمْ» يمتحنكم ويختبركم ليعلم صبركم وثباتكم ويظهر لكم ضعيفي الإيمان من غيرهم الذين تعودوا الارتداد وطلب المعونة من المنافقين الذين سببوا لكم الهزيمة والانكسار بتركهم مواقعهم التي أمروا بالبقاء فيها «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» أيها المخلصون لما يعلم من نيتكم حين مبارحتكم أمكنتكم إذ غلب على ظنكم استمرار هزيمتهم وأمنتم من كرّتهم فأقدمتم على الغنيمة لئلا يختص بها أصحابكم وليس لأمر آخر، وهذا لم يعجل عقوبتكم بفضله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (152) خاصة والعالمين عامة، وفي هذه الآية دليل على أن مرتكب الكبيرة مؤمن لأن الله سماهم مؤمنين مع أنهم خالفوا أمر الرسول بأشد الأوقات ومخالفته من الكبائر، وردّ لمن قال إن مرتكب الكبيرة كافر خلافا لما عليه إجماع أهل السنة والجماعة القائل قائلهم: ومن يمت ولم يتب من ذنبه ... فأمره مفوض لربه واذكروا أيها المؤمنون «إِذْ تُصْعِدُونَ» بضم التاء أي في الأرض هربا من عدوكم لأن هذا الفعل من أصعد والإصعاد الإبعاد في الأرض، وقرىء بفتح التاء من صعد إذ يقال صعد في الجبل والصعود الارتقاء من الأسفل إلى الأعلى وضده

الهبوط «وَلا تَلْوُونَ» تلتفتون حال انهزامكم «عَلى أَحَدٍ» منكم بفتح الهمزة والحاء، وما قاله بعض المتهوكين بضمها لا صحة له ولم يقرأ بها أحد من القراء إذ لا معنى لها هنا، والقراءة الصحيحة على فتحها أي لا تنظرون ولا تميلون على أحد منكم لتعينوه أو تخلّصوه بل كل منكم هارب على جهة لا يهمه شأن غيره وكان الأجدر بكم أن تنأنوا وتراعوا بعضكم فتساعدوا العاجز وتعينوا الجريح وتعاونوا المريض وتأخذوهم معكم ولا تتركونهم لأعدائكم ليجهزوا عليهم «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» يناديكم من ورائكم: إلي عباد الله من كر فله الجنة ولم تلتفتوا إليه ولم تعلموا أن من فرّ له النار، ولولا عفو الله عنكم إكراما لرسولكم لعاقبكم «فَأَثابَكُمْ غَمًّا» بالقتل والجرح مع الهزيمة «بِغَمٍّ» آخر أذقتموه رسولكم بعصيانكم له حتى سببتم له كسر رباعيته وجرح وجهه والفشل والهزيمة لغيركم من إخوانكم وهذه الخصال ليست من شأن المؤمنين الموقنين وسميت العقوبة هنا غما مجازا لأن لفظ الثواب يغلب استعماله في الخبر وقد يستعمل بالشر كما في قوله: أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا والأداهم هي القيود الحديد، والمحدرجة السياط، وقال الأمير لرجل والله لأحملنك على الأدهم فقال له مثل الأمير من يحمل على الأدهم والأسفر والأحمر، فقد صرف كلامه من المجاز إلى الحقيقة فعفا عنه لبلاغته وحسن ردّه. فتعلموا أيها الناس الفصاحة والبلاغة فكم أنجت من مهالك. روي أن الحجاج منع التجول ليلا وأوعد على المخالفة، وذات يوم صادف ثلاثة فأمر بتوقيفهم ثم استحضرهم وسألهم فقال أحدهم: أنا ابن من دانت الرءوس له ... يأخذ من مالها ومن دمها فقال اتركوه لعله ابن أحد الأمراء، وقال الآخر: أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود فقال اتركوه لعله ابن أحد الأكارم، وقال الثالث: أنا ابن الذي خاض الصفوف بنعله ... فيضرب يمناها طورا ويسراها

فقال اتركوه لعله ابن أحد الشجعان فإذا هم حجام وفوال وحائك، فقد خلصتهم فصاحتهم من ظلمه. أي إنما أذاقكم ذلك الغم بسبب الغم الذي أذقتموه رسولكم وإنما عفا عنكم «لِكَيْلا تَحْزَنُوا» مرة أخرى «عَلى ما فاتَكُمْ» من النفع وتنهالوا عليه خلافا لما أمرتم به «وَلا» تحزنوا على «ما أَصابَكُمْ» من الضر بسبب عفو الله عنكم «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (153) في ذلك الوقت وغيره، وقد علم أن نيتكم لم تكن سيئة لأنكم تحققتم الظفر وعزوف العدو عن كرّه عليكم من بعد هزيمته «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً» ثم فسّر هذه الأمنة بكونها «نُعاساً» نوما خفيفا لإزالة الرعب عنكم لأن الخائف لا ينام وهذه من جملة أفضال الله تعالى عليكم وجعله «يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون دون طائفة. روى البخاري ومسلم عن أنس عن أبي طلحة قال: كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي، مرارا يسقط وآخذه. وأخرجه الترمذي عنه قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري بزيادة. والطائفة الأخرى هم المنافقون ليس لهم إلا هم أنفسهم أجبن قوم أرغبه وأخذله للحق وهم المعنيّون بقوله تعالى «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» فتشربوا بالخوف وظن السوء بالله وبإخوانهم لأنهم «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» أي بإخلاف وعده رسوله ويعتقدون أنه لا ينصره وأصحابه وكان ظنهم هذا «ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» الذين لا يعتقدون بوجود الإله ولا يعترفون بكتبه ولا يصدقون رسله ويجحدون اليوم الآخر والقضاء والقدر لأنهم «يَقُولُونَ هَلْ لَنا» أي مالنا «مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» فلم نقاتل، وذلك أن رئيسهم عبد الله بن سلول أشار على النبي بعدم الخروج لقتال أحد ولم يأخذ بقوله ولهذا راق لهم ما وقع بالنبي وأصحابه فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المنافقين «إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» وحده ولو شاء لما خرجنا ولكنه شاء ذلك ليري قومنا نتيجة مخالفتهم لأمر رسوله وليعلم أنه أعلم بضروب الحرب وفنونه من تعبئة الجنود وتعيين المواقع والكر والإقدام والإحجام والوقوف وغيرها، وهؤلاء المنافقون «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ» من الكفر والشك في وعد الله «ما لا يُبْدُونَ لَكَ» ت (27)

مطلب المقتول ميت بأجله، وأنواع العبادة ثلاثة، وبحث في الشورى ومن يشاور، وخطبة أبي طالب:

من الإيمان والتصديق «يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» أي لما قتل في هذه المعركة لو أطاعنا محمد «قُلْ» لهم يا أكمل الرسل لا تظنوا هذا الظن وعزة ربي وجلاله «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ» أي لخرجوا من بيوتهم قاصدين «إِلى مَضاجِعِهِمْ» مصارعهم التي قتلوا فيها فقتلوا فيها بنفس الوقت لأن التدبير لا يقاوم التقدير والإنسان لا يجاوز أجله راجع الآية 77 من سورة النساء الآتية «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ» فيخرج ما في ضمائركم ليطلع عليها الناس كما هو عالم فيها قبل خلقها «وَلِيُمَحِّصَ» يزيل ويذهب ويمحق «ما فِي قُلُوبِكُمْ» من شك وريبة فيما تصورتموه ويظهر ما تكنونه من العداوة لله ورسوله والمؤمنين وما تعتقدونه فيهم لترتدعوا «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (154) ودخائلها لا يخفى عليه شيء من أفعالكم ونياتكم وأقوالكم، ثم التفت جل شأنه إلى المؤمنين فقال «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» في أحد فانهزموا وتركوكم ونبيكم فلم يبق مع حضرة الرسول غير ثلاثة عشر رجلا من المهاجرين وسبعة من الأنصار «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ» بإلقاء الخوف في قلوبهم وذلك «بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» وهو جزاء تركهم مواضعهم الحربية حين التعبئة ومخالفتهم أمر القائد الأعظم الذي هو أعلم منهم بفنون الحرب وأبوابها لأنه يتلقى علمه فيها وفي غيرها من لدنا «وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» لصدور تلك المخالفة عن نية حسنة بظنهم إذ رأوا أن ثباتهم فيها يحرمهم من الغنيمة فلم يكن تركهم وفرارهم عنادا ولا لقصد شيء ولا لخذلان إخوانهم وليس فرار زحف لأنهم كانوا غالبين «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لهم ولغيرهم ممن يقع منه ذنب لا عن قصد سيىء ولا استحلالا ولا تهاونا «حَلِيمٌ» (155) لا يعجل العقوبة على المذنبين ولا يؤاخذ حسني النية ومن يخطىء في اجتهاده كهؤلاء. مطلب المقتول ميت بأجله، وأنواع العبادة ثلاثة، وبحث في الشورى ومن يشاور، وخطبة أبي طالب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا» أي المنافقين، سماهم كفارا لأنهم أشد ضررا على المؤمنين من الكفار، ومما يدل على أن المراد بالكفار

هم قوله جل قوله «وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ» سافروا فيه «أَوْ كانُوا غُزًّى» فماتوا أو قتلوا «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» مع أنهم لا بد من موتهم في ذلك الوقت وفي ذلك السبب وفاقا لما قدره الله عليهم في أزله ولكن سخرهم لهذا القول الباطل «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ» القول «حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» غما وأسفا وأسى فيقولون ذلك ويلومون أنفسهم على الخروج فيقتلونها هما وندما، ولو كانوا مؤمنين حقا لعلموا أن القتل والإماتة بقضاء الله وقدره ولهما زمان ومكان وسبب يقعان فيه لا يتخطيانه وقد يتيسر إليه الإنسان أو يذهب إليه من تلقاء نفسه ليقع مراد الله وفق ما هو مدون في أزله وقيل في المعنى: إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير «وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ» بسبب وبلا سبب ومن شيء وبلا شيء «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (156) قرئ بالتاء على أن الخطاب للمؤمنين وبالياء على طريق الالتفات للكافرين والأول أولى وأنسب بسياق السياق. واعلم أن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازات على المرئي كالمعلوم، وفي الآية تهديد للمؤمنين لأنهم وإن كانوا لم يماثلوهم فيما ذكر إلا أن حصول الندم في قلوبهم على الخروج يقتضي ذلك «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» خير لكم من أن تموتوا على فراشكم «أَوْ مُتُّمْ» في سفركم قبل خوضكم المعركة «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ» لكم وكذلك في كل سفر طاعة «وَرَحْمَةٌ» عظيمة لكم منه في ذلك وهذا «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (157) غيركم من حطام الدنيا وهم قعود في بيوتهم وقيل في المعنى: إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي أنا صانع ثم أكد ذلك بقوله مع القسم أيضا «وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» (158) في الآخرة فيجازيكم على حسب أعمالكم ونياتكم أي إذا كان هلاككم بأي سبب كان فمرجعكم إلى الله لا مرجع إلا إليه ولا معول إلا عليه ولا ثواب إلا منه ولا عقاب إلا عنه، قال الحسين رضي الله عنه وعن والديه:

فإن تكن الأبدان للموت أنشئت ... فقتل امرئ بالسيف والله أفضل ويستفاد من هذه الآية أن مقامات العبودية ثلاثة: فمن عبد الله تعالى خوفا من ناره وهي أدنى مقامات العبودية (إذ ما تحتها إلا الرياء والنفاق الذين يخلد صاحبهما بالنار) فهذا قد يؤمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله (لَمَغْفِرَةٌ) ، ومن عبده طمعا في جنته آتاه الله ما رجاه وإليه الإشارة بقوله (وَرَحْمَةٌ) لأن الرحمة من اسماء الجنة، وهذه العبادة فوق تلك وكلاهما من حظوظ النفس، ومن عبده باعتباره إله حق مستحق للعبادة لذاته ولو لم يخلق نارا ولا جنة تشوقا إلى وجهه الكريم فتلك العبادة الخالصة وهي أشرف أنواع العبادات على الإطلاق، ولهذا فإنه تعالى وعده بما أراد ووعده الحق وإليه الإشارة بقوله (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) جعلنا الله منهم ومن أتباعهم. قال تعالى «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» يا سيد الرسل على ما هم عليه من غلظة وفظاظة فترفقت بهم وتلطفت عليهم وتحملت جفاهم فتشكر محسنهم وتعفو عن مسيئهم حتى التفوا حولك وأحبوك لما أوتيته من أخلاق كريمة تعاملهم بها وآداب عالية تعلمهم إياها وتدعوهم لما فيه صلاحهم «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ» جافيا قاسيا عجولا فقابلت فعلهم في أحد على أثر ما وقع منهم حالة توغر صدورهم فأنبتهم وكدرتهم «لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وتفرقوا عنك ولكن الله الذي رباك فأحسن خلقك وأدّبك فأحسن تأديبك وجعلك سهلا يسرا رقيقا رفيقا فلم تعاملهم في الشدة ولم تحنق عليهم ولم تلمهم على فعلهم حالة تأثرهم على ما بدر منهم مما زاد في ندمهم وأسفهم وأكثر تحسرهم على تفريطهم بأمرك ولحقهم الخجل من أن يقابلوك لأنهم رأوا أنفسهم مقصرين لا عذر لهم ولهذا فإنا قد عفونا عنهم «فَاعْفُ» أنت أيضا «عَنْهُمْ» مخالفتهم هذه وزلتهم وإفراطهم «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» ربك وربهم وادع لهم أن لا يعودوا لمثلها فإنهم قد نالوا جزاءهم الدنيوي بما وقع فيهم من القتل والذل. واعلم أنك مجاب الدعوة، فلا تدعو عليهم، بل اسأل ربك الخير لهم «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» تطييبا لقلوبهم حتى يتيقنوا رضاك عنهم قلبا وقالبا، وذلك أن سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمور التي يساقون إليها يشق عليهم لأن ذلك يعدونه من عدم

المبالات بهم وإلا فإن الله تعالى يعلم أن ما لنبيّه من حاجة لمشورة أحد من خلقه ولكن أراد استجلاب عطفهم على رسوله وانفراز مودته في قلوبهم وجعل المشورة سنة لمن بعده على الإطلاق وعلى كل الرأي بعد المشورة له خاصة وليس عليه أن يتقيد برأيهم لأنه أوسع فكرا منهم وأصوب رأيا وأكبر تدبيرا وتدبرا في العواقب. وهذا في الأمور التي لم ينزل فيها وحي أما ما نزل فيها الوحي فلا خيار له هو نفسه فيه فضلا عن أخذ رأي غيره. واعلم أن المشاورة في الأمور ممدوحة مطلوبة ومحمودة قال بعضهم: وشاور إذا شاورت كل مهذب ... لبيب أخى حزم لترشد بالأمر ولا تك ممن يستبد برأيه ... فتعجز أو لا تستريح من الفكر الم تر أن الله قال لعبده ... وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر وعلى المستشير ألا يشاور من لا يثق به ولا يحبه ولذلك قالوا سبعة لا يشاورون: 1- جاهل لأنه يضل 2- وعدو لأنه يريد الهلاك 3- وحسود لأنه يتمنى زوال النعمة 4- ومراء لأنه يقف مع رضاء الناس 5- وجبان لأنه يهرب من كل ما يرعب فلا يميل إلا إلى سفاسف الأمور 6- وبخيل لأنه يحرص على ماله فهو على نفسه أحرص فلا رأي له في العز 7- ذوي هوى لأنه أسير هواه فلا خير في رأيه. وقالوا أيضا لا يشاور معلم الصبيان الذي لا يخالط الناس لقصر رأيه ولا راعي غنم يقوم معها وينام معها، ومن يخالط النساء دائما، وصاحب الحاجة لأنه أسير حاجته فيلائم صاحبها على رأيه، ويشاور من عناهم القائل بقوله: عليم حكيم ما هو عند رأيه ... نظار إلى ما تبدوا إليه مذاهبه بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه عن كل أمر عواقبه وقال صلّى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن وعليه يجب على العدو إذا استشاره عدوه أن يسديه نصحه هذا، وإذا استشرت صاحبك فأشار عليك بما لم تره موافقا أو لم تحمد عاقبته فلا تلمه أو تعاقبه لأنه أدى لك ما يحبه لنفسه وأنت غير ملزم برأيه. قال تعالى «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي إذا قطعت الرأي بعد المشورة التي هي كالاستيناس والاستطلاع لأن في احتكاك الآراء يظهر القصد الأحسن من الحسن

[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 إلى 170]

وتستبين الغاية المنشودة كالنار الناشئة من تصادم الحجرين وعلى كل فليكن توكلك على الله في تنفيذ ما تصمم عليه «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» 159 عليه في كل أمورهم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 72 من سورة النحل ج 1 والآية 28 من سورة الشورى في ج 2، وتشير هذه الآية إلى أن الرأي للأمير والفقرة الأخيرة منها تؤكد عدم التقيد برأي الغير. قال تعالى «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فيما بعد كما نصركم في بدر «فَلا غالِبَ لَكُمْ» البتة «وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ» كما وقع لكم في أحد «فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» أي لا أحد أبدا «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (160) لا على غيره وقد بينا ما يتعلق بالتوكل في الآية 40 من سورة الواقعة في ج 1، ولم تنته بعد الآيات النازلة في واقعة أحد إذ لم يذكر الله في حادثة مثل ما أنزل فيها لأنها أول فاجعة أصابت المسلمين. وما قيل إن هذه الآيات الأخيرة بعد آية الرّبا نزلت في حادثة بدر لا صحة له ولا ينطبق على شيء منها وإنما الآية الآتية قد يكون لها علاقة في غنائم بدر فقط وهي قوله تعالى «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» أي ما صح ولا استقام لأي نبي أن يخون في الغنائم البتة لمنافاته مرتبة النبوة التي هي أعلى المراتب وأسمى الكمال الإنساني وأشرفه، وهذا للامتناع العقلي مثله في قوله تعالى (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) الآية 25 من سورة مريم وقوله (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) الآية 60 من سورة النمل في ج 1، وقرئ يغل على البناء للمجهول على أنها من أغللته إذا نسبته للغلول كما تقول أكفرته إذا نسبته للكفر قال الكميت: وطائفة قد أكفرتني بحبكم ... وطائفة قالت مسيء ومذنب أي لا يجوز لأحد أن ينسبه للغلول «وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» حاملا له على عنقه في النار ليزداد فضيحة «ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» إن خيرا فخير وإن شرا فشر «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (161) فتيلا من جزاء أعمالهم والصحيح أنها أيضا في حادثة أحد لأن الرماة لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن يقول الرسول من أخذ شيئا فهو له كما فعل في بدر، وهذا الذي حدا بهم إلى ترك مراكزهم لا غير فعاتبهم الرسول وقال لهم أظننتم ذلك فيّ

فأنزل الله هذه الآية. قال تعالى «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ» كالمهاجرين والأنصار الذين جاهدوا ولم يبرحوا مكانهم ولم يتركوا رسولهم «كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ» أي رجع من ساحة الحرب لخذلان الرسول وأصحابه وهم المنافقون المار ذكرهم «وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (162) هي لأهلها لأن عبد الله ابن سلول وأصحابه ماتوا على الكفر وان المعبر عنهم برضوان الله «هُمْ» الذين اتبعوا الرسول لأن رضاء الله باتباعه صلّى الله عليه وسلم «دَرَجاتٌ» في التفضيل عند الله والذين تخلفوا عنه باءوا بسخط الله فهم دركات في غضبه والكل منهم متفاوتون «عِنْدَ اللَّهِ» في الثواب والعقاب «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (163) عليم بما يستحقه كل منهم، لأن البصير لا تخفى عليه خافية مهما دقت وخفي حجمها وأمرها، قال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ» فأحسن وتفضل وأنعم «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» خاصة والعرب عامة «إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» من جنسهم ولسانهم وليسهل عليهم الأخذ منه وليثقوا به، قال أبو طالب في خطبة خديجة رضي الله عنها إلى محمد صلّى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، وإن ابني هذا محمد بن عبد الله لا يوزن بفتى إلا رجح، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل، وقد صدق والله رحمه الله وحقق فراسته، إذ أرسله إليهم «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ» من دنس الشرك ودرن الخبث ونجاسة المحرمات ووسخ الأرجاس «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» في تضاعيف تعليمهم مدارك آيات الله المنزلة عليه ومعاني السنة التي يسنها لهم «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ» بعثته إليهم «لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (164) لا يخفى على أحد. قال تعالى «أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ» بحادثة أحد من هزيمتكم وقتل خمسة وسبعين من رجالكم فإنكم «قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» من أعدائكم يوم بدر إذ قتلتم سبعين وأسرتم سبعين وهزمتموهم أيضا يوم أحد أولا وقتلتم منهم نيفا وعشرين عدا الجرحى «قُلْتُمْ أَنَّى هذا» أي كيف نغلب ولم أصابنا هذا وقد وعدنا النصر، ومن أين جاءنا هذا الخذلان

والرسول معنا «قُلْ» لهم يا سيد الرسل إن هذا الانكسار «هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» بسبب مخالفتكم رأي رسولكم أولا بالخروج، إذ كان رأيه البقاء بالمدينة حتى يجابهوهم فيها فيقاتلهم، وثانيا مبارحتكم أمكنتكم التي أمركم الثبات فيها في ساحة الحرب وحذركم وقال لكم إذا رأيتمونا تخطفنا الطير أو رأيتمونا هزمناهم ووطأناهم فلا تتركوها، ولذلك خذلتم «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (165) ومن قدرته قدر خذلانكم على مخالفتكم تلك ولم ينصركم عليهم تأديبا لكم كي لا تعودوا لمثلها «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» من قتل وهزيمة في هذه الحادثة «فَبِإِذْنِ اللَّهِ» وإرادته وتقديره «وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ» (166) منكم من يصبر على الأذى في سبيل الله، ومن يجزع ويظن بالله ما لا يليق به، أي يختبر الله ذلك منهم فيظهره لعباده «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا» فيظهر نفاقهم للناس أيضا ويفضحهم بينهم، وإلا فإن الله عالم بذلك كله ومدون في أزله، وإن ما وقع هو طبق علمه. وكلمة النفاق لم تعرفها العرب قبل، أخذت من نافقاء اليربوع، لأن حجره له بابان إذا طلب من أحدهما هرب من الآخر، فوضع في الإسلام علامة على تلك الطائفة التي تبطن الكفر وتظهر الإسلام وتكمن الغيظ والبغض وتعلن الرضاء والمودة وتضمر الحقد والحسد وتجهر بخلافهما «وَقِيلَ لَهُمْ» والقائل هو جابر بن عبد الله بن جزام الأنصاري والمقول له عبد الله أبي سلول وأصحابه «تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ» أعداء الله إعلاء لكلمة الله «أَوِ ادْفَعُوا» الأعداء عن المجاهدين إخوانكم وكثروا سوادهم إن لم تقاتلوا «قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» ولم نرجع، وقال عبد الله ما ندري علام نقاتل أنفسنا «هُمْ» المنافقون القائلون هذا القول «لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ» يوم مقالتهم هذه لجابر جوابا لقوله يا قوم اذكروا الله فلا ترجعوا وتخذلوا نبيكم عند حضور عدوه «أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ» لأنهم أظهروا نفاقهم وجاهروا بعنادهم وكانوا «يَقُولُونَ» كلمة الإيمان أمام الأصحاب «بِأَفْواهِهِمْ» قولا خارجيا «ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» المحشوة بالكفر الخالية من الإيمان «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (167) في قلوبهم قبل تكلمهم بالإيمان نفاقا، وهؤلاء هم «الَّذِينَ

مطلب في حياة الشهداء، وخلق الجنة والنار، وقصة أهل بنو معونة، وما قاله معبد الخزاعي:

قالُوا لِإِخْوانِهِمْ» المنافقين في المدينة «وَقَعَدُوا» عن الجهاد بقصد خذلان الرسول، ثم بين ما قالوه لإخوانهم بقوله «لَوْ أَطاعُونا» أولئك المؤمنون الذين خرجوا مع الرسول وقعدوا معنا «ما قُتِلُوا» في واقعة أحد فرد الله عليهم بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل «فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (168) أن قعودكم يمنعكم منه لأن المقتول ميت بعمره، وإذا كان الموت لا بد منه فليمت العاقل في سبيل الله، راجع الآية 158 المارة. وتفيد هذه الآية أن المنافق شر من الكافر، وأن الحذر لا يغني عن القدر، وأن الموت في سبيل الله أشرف من الموت على الفراش وهو كذلك. مطلب في حياة الشهداء، وخلق الجنة والنار، وقصة أهل بنو معونة، وما قاله معبد الخزاعي: قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً» كغيرهم ينقطع ذكرهم بالدنيا كلا «بَلْ أَحْياءٌ» يخلد ذكرهم فيها بما نالوه بسببه من الشهادة في الذب عن دينهم وعرضهم وبلادهم وكيانهم، لذلك يبقى ذكرهم الحسن شائع في الدنيا وفي الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (169) رزقا كريما لا نعرفه كما أن حياتهم حياة لا نعقلها، إذ اختصهم الله بها، لا نطلع على كنهها بالحس، ولا ندركها بالبصر، لأنها من أحوال البرزخ، ولا طريق للعلم بها إلا الاعتقاد الجازم بما ذكره الله، فلو رأيتهم أيها الرائي هناك «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من الكرامة والإحسان والنعيمه يفرحون «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» من إخوانهم الأحياء بأنهم إذا نالتهم الشهادة ولحقوهم إلى دار العزة يكونون مثلهم، وإذا رأيتهم تيقنت «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أحوال الآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (170) على ما فاتهم من الدنيا لأن الخير الذي رأوه أنساهم إياها «يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ» والتنوين في هاتين النكرتين يدل على التكثير فيكون المعنى نعمة كبيرة وفضل عظيم بما رزقوا من خير مقيم، كما أنهم يستبشرون لإخوانهم المار ذكرهم. ولا تكرار هنا لأن الأول لغيرهم والثاني لهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» (171)

الآخرين الذين جاهدوا ولم يتوفقوا للشهادة لأنهم سعداء مدّ الله في آجالهم ليكثر ثوابهم، فلهؤلاء ما ذكر الله، أما الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر أقعدهم أو أمر من الرسول بالبقاء للمحافظة على المدن ومن فيها من العاجزين والأطفال والنساء والقيام بشئونهم فإن الله تعالى يثيبهم على حسب نياتهم وإخلاصهم. روى البخاري ومسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن عمر عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ) إلخ فقال أما انا قد سألنا عن ذلك (يدلّ على أن هذا الحديث مرفوع) فقال (يعني محمد صلّى الله عليه وسلم) أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال هل تشتهون شيئا؟ قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاثا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا يا رب نريد أن ترد علينا أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى (وهو راء) أن ليس لهم حاجة تركوا. هذا إخبار الله ورسوله عن المقتول في سبيل الله بأنه حي، وعليه فلا يجوز الدخول في هذا وأمثاله بالعقل، فإن العقل لمثله عقال يفسد ولا يصلح، بل يجب الدخول على هذا وأمثاله بالإيمان الصرف الذي من ورائه الإيقان الذي من ورائه العيان، فالعقل هذا كالملح المفسد لبعض، المصلح لآخر، تأمل وتروّ وتأنّ، ولا تقل هنا بالتأني تضيع الفرص والله يرشدك للصواب، راجع ما قدمناه في نظير هذه الآية الآية، 151 من سورة البقرة المارة. واعلم أن في هذا الحديث دلالة على وجود الجنة وأنها مخلوقة خلافا لمن قال بخلافه، ودليل أيضا على عدم فناء الروح، وعلى أن المحسن ينعم في الآخرة وفي البرزخ، والمسيء يعذب فيهما، وهذا هو المذهب الحق، وإن ما جاء في هذا الحديث ليس بمستحيل على الله لأنه قادر على أن يصوّر أرواحهم على هيئة الطير. أما القول بحياة الجسد فهو وإن لم يكن بعيدا على من يحيي العظام وهي رميم ويخلق البشر من النطفة وآدم من الطين وحواء من اللحم وعيسى من غير أب، وكون هذا الكون علويه وسفليه بلفظ كن، إلا أنه لم تجر عادة الله جلت قدرته بذلك، وليس فيه مزيد فضل أو عظيم منّة، ولا إليه حاجة، بل فيه ما فيه من إيقاع الشكوك والأوهام،

وتكليف ضعفة المؤمنين بالإيمان به دون جدوى. وما حكي عن مشاهدة بعض الشهداء الأقدمين كاملي الأجساد وأن قروحهم تشخب دما عند رفع أيديهم عنها أو نقلهم من محلهم فلعله مبالغة أو حديث خرافة عند بعض الناس الذين يعدون ناقله أو قائله في هذا الزمن من سفهة الأحلام وسخفاء العقول، راجع الآية 43 من سورة الزمر في ج 2 وما تشير إليه من المواضع التي لها علاقة لما في هذا البحث وإلى هنا انتهت الآيات النازلة في حادثة أحد. وما قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت في شهداء بدر لا يصح، لأن الذي نزل فيهم هي آية 154 من سورة البقرة المارة. وقال بعض المفسرين إنها نزلت في أهل بئر معونة، ويستدل بما رواه البخاري ومسلم قال: بعث رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر، وفي رواية: بعث خالي أخا لأم سليم واسمه خزام، في سبعين راكبا، فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن آمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم، فأمنوه، فبينما هو يحدثهم عن رسول الله إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه، فأنقذه، فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا منهم أعرج صعد الجبل، قال همام وأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، قال فكنا نقرأ (أن بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) وهذا إن صح فهو من كلام جبريل لحضرة الرسول وليس من القرآن، إذ لو كان منه لأثبت فيه، وقد ذكرنا أن كل ما هو من هذا القبيل ليس من القرآن، يدل على هذا قوله) ثم نسخ بعد (أي أنهم نهوا عن قراءة تلك الجملة) فدعا عليهم رسول الله أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني عصبة الذين عصوا الله ورسوله. وفي رواية. رعلا وذكوان وبني لحيان استمدوا لرسول الله بسبعين رجلا من الأنصار كنا نسيهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة (أرض ببني عامر وحرة بني سليم) قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقنت عليهم شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصيه وبني لحيان، قال أنس فقرأنا فيهم قرآنا ثم رفع (أي ما ذكر أعلاه) وليس

بشيء إذ ليس كل ما يخبر به جبريل حضرة الرسول يكون قرآنا، أما قوله فكنا نقرأ فهو عبارة عن تكرار ما قاله جبريل عليه السلام لحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام بشأنهم، وقراءته حكايته، إذ لو كان قرآنا لدون في الصحف كغيره فيما كان يكتب عليه التي كانت في بيت عائشة ثم حفصة التي نقلها القراء في زمن عثمان إلى المصاحف، وحفظت كغيرها من قبل الكتبة، لذلك فلا معنى لقوله ثم نسخ، يدل عليه عدم بيان ما نسخ به، إذ لكل منسوخ ناسخ بما يدل على أن ذلك ليس من القرآن، ومن هنا شرع القنوت عند نزول كل حادثة بالمسلمين في الصلوات. وفي رواية لمسلم: جاء أناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فسألوه أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار وذكر نحو ما تقدم، وذلك في شهر صفر السنة الرابعة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، وهذا الخبر على فرض صحته كما جاء ليس نصا في سبب النزول، إذ قيل إن الذي نزل فيهم هو قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية المارة، وكذلك لا يكاد يصح لأن السبب في نزولها قد ذكرناه في الآية 127 المارة، وقد بينا غير مرّة أن لا مانع من تعدد الأسباب، وأن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث، والله أعلم. قال تعالى «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» وسارعوا بالإجابة «مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» (172) عند الله لانقيادهم لأمر رسولهم. نزلت هذه الآية في غزوة حمراء الأسد بعد الانصراف من غزوة أحد، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت لعروة يا ابن أختي كان أبوك منهم والزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله ما أصاب يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير، قال فمر برسول الله صلّى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك، ولوددنا أن الله أعفاك فيهم، ثم خرج معبد من عند رسول الله حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا

مطلب غزوة حمراء الأسد، وبدر الصغرى، وأحاديث في فضل الجهاد والرباط:

على الرجعة إلى رسول الله وقالوا قد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرّن على بقيتهم ولنفرغنّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد؟ قال محمد قد خرج عليكم بطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال أبو سفيان ما تقول؟ قال والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال فو الله لقد أجمعنا على الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، فقال والله إني أنهاك عن ذلك، فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت أبياتا قال وما قلت، قال قلت: كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل توري بأيد كرام لا تبابلة ... عند اللقاء ولا ميل معاذيل فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطغطت البطحاء بالخيل أتى نذير لأهل السيل ضاحية ... لكل ذي اربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وحش تقابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالفيل قالوا فثنى ذلك أبو سفيان ومن معه. ومن هنا يعلم أن الكذب لمصلحة جائز كما بينته في الآية 26 من سورة الأحزاب الآتية، وبأثناء هذا مر ركب من عبد القيس فقال أين تريدون؟ قالوا المدينة لأجل الميرة، قال فهل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة وأحمل لكم آبالكم زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا نعم، قال إذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكة. مطلب غزوة حمراء الأسد، وبدر الصغرى، وأحاديث في فضل الجهاد والرباط: ومرّ ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد ثالثة، فنزل قوله تعالى «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» أي ركب عبد القيس المار ذكره «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» يعني أبا سفيان وقومه «فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ» هذا القول «إِيماناً» على إيمانهم وفي هذه

الجملة دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص كما بيناه في الآية الثانية من سورة الأنفال المارة «وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (173) قال عكرمة نزلت هذه الآية في بدر الصغرى، لأن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى نقابل إن شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم بيننا وبينك ذلك إن شاء الله، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مرّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، وفي خلف وعده هذا قال عبد الله بن رواحة: وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم ... وأمركم الشيء الذي كان غاويا وأني وإن عنفتموني لقائل ... فدّى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره ... شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان يا نعيم إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي يوم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن وبدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهل ابن عمرو وهو يضمنها لك وبعد أن استدعاه وتعهد له بذلك أتى المدينة فوجد الناس متجهزين لميعاد أبي سفيان، فقال لهم لو عدلتم عن خروجكم لكان خيرا لكم، إني والله قد رأيتهم وما أعدوه لكم، والله لإن أتوكم في دياركم وقراركم لم يفلت منكم إلّا الشريد، أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم ما ليس لكم بطاقة لمقابلته، وو الله إن أخذوا بكم لا يفلت منكم أحد. فكره أصحاب الرسول الخروج، فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي، فرجع الجبان وتأهب

الشجاع، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج في أصحابه حتى وافوا بدرا، وأقاموا فيها، ولما قضي الموسم ولم يحضر أبو سفيان وأصحابه وكان معهم تجارات ونفقات فباعوها وربحوا بالدرهم اثنين وكان مدة سوق بدر ثمانية أيام، وسيأتي لهذه الغزوة بحث في الآية 47 من سورة النساء الآتية إن شاء الله، وعليه فإن سياق الآية يفيد الارتباط بما قبلها، وإنها قصة واحدة، وقد يجوز الوجه الآخر، والله أعلم. روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا) أي الفقرة الأخيرة فيها وهي (حَسْبُنَا اللَّهُ) إلخ قالها إبراهيم حين ألقي بالنار، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، ويؤيد الحادثتين قوله تعالى «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» (174) وعلى اعتبار نزولها في بدر الصغرى يكون المراد بالناس أبا نعيم هذا إذ يجوز في لسانهم إطلاق الناس على الواحد باعتبار أنه إذا قال قولا ورضي به غيره، حسن إضافة ذلك القول إليهم كلهم، وعليه يكون قوله تعالى «إِنَّما ذلِكُمُ» الذي خوفكم بجمع أبي سفيان هو «الشَّيْطانُ» أبو نعيم الذي رشاه أبو سفيان بعشرة من الإبل على أن يفتري تلك الفرية ولم يفز ببغيته، وقد خسر الدنيا والآخرة، وعلى المعنى الأول ركب عبد القيس الذي مرت الإشارة إليه في الآية 172 وهي المعبر عنه بالشيطان الذي «يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» المنافقين إخوان المشركين «فَلا تَخافُوهُمْ» أيها المؤمنون لأنهم ضعفاء لا يستنصرون بالله ولا يعتمدون عليه، وكذلك المنافقون الّذين يأخذون بقوله، جبناء، لا يثقون بالله ويشكون في وعده ودعوة نبيه، فانبذوهم «وَخافُونِ» أنا وحدي الجبار القاهر عظيم البطش «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (175) بي وبرسولي، ثم التفت يخاطب سيد المخاطبين بقوله «وَلا يَحْزُنْكَ» يا حبيبي «الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» من المنافقين والمشركين فإنهم لا يضرونك والله معك «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بمسارعتهم لقتالك الذي هو نفسه كفر، وإنما يضرون أنفسهم «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ» ويكلهم إلى الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (176) لا تطيقه قواهم لأنه من إله عظيم.

هذا، وعلى القول الأول تكون هذه الآية آخر قصة أحد لأنها متعلقة بما قبلها، وغزوة حمراء الأسد تبع لها وعلى الثاني يكون آخرها قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ومن قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الآيات إلى هنا تعتبر نازلة في واقعة بدر الصغرى، والله أعلم. روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. ورويا عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها. ورويا عن أبي سعد قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أي الناس أفضل؟ قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال ثم من؟ قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى، وفي رواية يتقي الله ويدع الناس شره. ورويا عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما بأحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين. راجع ما يتعلق في بحث الدين في الآية 280 من البقرة المارة. وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته. وأخرج الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما يجد الشهيد مس القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرحة. وروى البخاري عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من احتبس فرسا في سبيل الله، الحديث تقدم في الآية 60 من سورة الأنفال المارة ومعه أحاديث كثيرة في هذا البحث. وأخرج الترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل، فإنه ينمّي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر. ورويا عن سهل بن سعد المذكور من الحديث الثاني في هذه الأحاديث المارة بزيادة: والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما فيها. وروى مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن

مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ» أي المنافقين لأنهم كفروا بعد إيمانهم فغبنوا وخابوا وخسروا أنفسهم لأنهم ببيعتهم الخاسرة «لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بل خسروا أنفسهم وحدها في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (177) في الآخرة، ولا تكرار في جملة (لن يضروا الله) وفي جملة (ولهم عذاب أليم) لأنها في الآية الأولى في جميع الكفار وهذه في المنافقين المتخلفين فقط وتلك مختومة بلفظ عظيم وهذه بلفظ أليم. قال تعالى «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بتاء الخطاب لحضرة الرسول وبالياء على الغيبة لعموم الكفار، ولا يخصصها قول من قال إنها نزلت بالمشركين وبعض يهود بني قريظة والنضير الذين سبق ذكرهم وسبق في علم الله عدم إيمانهم «أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ» نمهلهم ونؤخرهم ليعتقدوا أن ذلك «خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ» كلا لا يظنوا ذلك بل هو شر لهم بدليل قوله عز قوله «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» فتكثر أوزارهم في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (178) في الآخرة ينسون بكبير هوانه عز الدنيا وما فيها لو كانت كلها لهم. روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن عن أبيه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله، قيل فأي الناس شر؟ قال من طال عمره وساء عمله. وقال ابن الأنباري: قال صلّى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه، ثم تلا هذه الآية. قال تعالى «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» بحيث لم يعرف المخلص من غيره «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» وذلك أن المؤمنين سألوا رسول الله آية يعرفون بها المخلص من المنافق، فأنزل الله هذه الآية أي لم يترككم على هذا الاختلاط والالتباس بل لا بد وأن يبين المؤمن الموقن والكافر المصر. وهذا بعد واقعة أحد، لأن المؤمن ثبت على إيمانه وازداد إخلاصا، والمنافق جاهر في نفاقه وازداد كفرا فظهر للناس حال الطرفين «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» أيها المؤمنين توا لتميزوا بين الطرفين لأن هذا من الغيب وهو من خصائص الله. واعلم أن فعل يذر لا ماضي له، راجع الآية 278 من البقرة المارة، ت (28)

مطلب في الزكاة وعقاب تاركها، وتحذير العلماء من عدم قيامهم بعلمهم، وحقيقة النفس:

ولا تنوهموا أن رسولكم يعلم شيئا دون تعليمنا إياه لأن شأنه في الغيب شأن غيره «وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» فيطلعه على ما يشاء من غيبه دلالة على نبوته لخلقه لئلا يبطنوا له خلاف ما يظهرونه «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» كلهم محمد فمن قبله «وَإِنْ تُؤْمِنُوا» بالرسل كلهم «وَتَتَّقُوا» جميع ما نهيتم عنه «فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (179) من الرب العظيم الذي يعطي العظيم «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة على كفايتهم «هُوَ خَيْراً لَهُمْ» كلا أيها الإنسان الكامل «بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» بالدنيا بالذم وبالآخرة سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ» على رءوس الأشهاد «يَوْمَ الْقِيامَةِ» فيراهم أهل الموقف، لأنهم لم ينفقوا ما أعطيناهم في طرق الخير ثم تركوه لغيرهم وتحملوا عقابه «وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لأن أهلهما يموتون وهو الباقي الوارث لهم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (180) . مطلب في الزكاة وعقاب تاركها، وتحذير العلماء من عدم قيامهم بعلمهم، وحقيقة النفس: نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة بدليل تشديد الوعد فيها، لأن منع صدقة الشرع لا تستلزم هذا التهديد، يؤيد هذا ما جاء في تخريج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع (حية عظيمة) له زبيبتان (شعرتان في لسانه) بطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (شدقه) ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية. وهذا الحديث مفسر لقوله تعالى (سيطوقون ما بخلوا به) وروى البخاري عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت (وهذا من كمال أدبه رضي الله عنه إذ لم يرد أن يتجاسر على سؤال حضرة الرسول وهو قاعد) ومن هنا ين التمسك بالأدب مع العلماء لمن يسألهم عن أمر دينه أكثر من غيرهم، فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 190]

صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت عليه وأسمن تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس- لفظ مسلم- وخرجه البخاري بمعناه في موضعين، وتتمة هذا الحديث تأتي بالآية 26 من سورة التوبة الآتية. هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في الذين يكتمون نعت محمد صلّى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم فقد ذهل القصد وأغفل المطلوب وأخطأ المرمى، لأن الله تعالى لما بين الباذلين أموالهم وأنفسهم في الجهاد أتبعه في الباذلين المال لأنه من لوازم الجهاد وضرورياته، وقد سبقت آيات كثيرة في الكاتمين نعت الرسول، فلا حاجة لأن تؤول غيرها على خلاف ظاهرها ولا نجهد الفكر بأن هذه ناسخة وهذه منسوخة من حيث لا ناسخ ولا منسوخ كما اعتاد بعض المفسرين حتى تجارءوا على مخالفة ظاهر التنزيل بلا جدوى، وحتى ان بعضهم جرؤا على النظم الكريم مثل صاحب الجمل عفا الله عنه، راجع الآية 5 من سورة الحج الآتية وما ترشدك إليه من سورة يونس في ج 2، ألا فليحذر العالم أن يخرج عن حد الاعتدال اغترارا بما آتاه الله من ذرة علم، فكثير ممن هو أعلم منه وأعلم هوى به علمه إلى أسفل سافلين، أعاذنا الله تعالى من ذلك ووقانا ممّا هنالك. قال تعالى «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ» نكتب أيضا «قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ» من قبل أسلافهم «بِغَيْرِ حَقٍّ» عدوانا محضا «وَنَقُولُ» لهم في الآخرة عند ما يطرحون بالنار ويستغيثون بنا فيها «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» (181) فيها «ذلِكَ» العذاب الشديد ينالكم «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» من أعمال منكرة «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (182) فلا يعذب أحدا بلا جرم، قال دخل أبو بكر رضي الله عنه بيت المدارس فقال لحبر اليهود فنخاص بن عازوراء على ملإ من قومه قد جاءكم محمد بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فاتق الله وآمن وصدق واقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض إذن هو الفقير ونحن أغنياء، فغضب أبو بكر وضربه وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم

لضربت عنقك يا عدو الله، فذهب وشكاه إلى الرسول فاستدعاه وقال ما حملك يا أبا بكر على ما صنعت؟ قال يا رسول الله إنه قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وهم أغنياء، فجحد فنخاص ذلك، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا له وتصديقا لأبي بكر، وقد سمع الله قول «الَّذِينَ قالُوا» أي فنخاص المذكور وأضرابه لمالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وحيي بن أحطب وكعب بن الأشرف «إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا» في التوراة على لسان موسى «أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ» آية نبوته حتى نصدقه كما وقع لابن آدم هابيل ومن بعده من الأنبياء فأنزل الله جل جلاله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ» كزكريا ويحيى وعيسى «وَبِالَّذِي قُلْتُمْ» من القربان وغيره «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ» بعد أن أتوكم بما طلبتم منهم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (183) في دعواكم «فَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا حبيبي في هذا مع علمهم بصدقه فلا تحزن ولا تضجر «فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» نوح وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم مع أنهم «جاؤُ بِالْبَيِّناتِ» لأقوامهم «وَالزُّبُرِ» الكتب، يقال لكل كتاب فيه حكمة زبور، والقربان لكل ما يتقرب به، والزبر هي الكتب وبه سمي زبور داود عليه السلام، لأنه يزبر به الناس أي يزجرهم عن الباطل ويدعوهم إلى الحق «وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ» (184) الواضح كالتوراة والإنجيل ويطلق القربان على كل عبادة مالية أو بدنية وعلى الأقوال والأفعال المادية والمعنوية يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: الصوم جنة والصلاة قربان وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل فإذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جمعوها فتجيء نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة، فيكون دليلا على القبول، وإذا لم يقبل منهم يبقى على حاله ولم تنزل عليه نار تأكله. ولهذا البحث صلة في الآية 27 من سورة المائدة الآتية قال السدي إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة أن من جاءكم يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، وحتى يأتيكم المسيح ومحمد، وكانت هذه العادة باقية إلى بعثة المسيح، ثم ارتفعت وزالت. ولما قال بعض الأصحاب

يا رسول الله إن الله أنزل (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وهذا خاص في بني آدم لأن الخطاب لهم فأين ذكر موت الجن والأنعام والوحوش والملائكة والطيور وغيرها، فأنزل الله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها التهديد للكفرة بالمعاد، وهذه الجملة مكررة في الآية 25 من سورة الأنبياء والآية 27 من سورة العنكبوت في ج 2 وفي غيرهما أيضا، أي لا ليهمنك تكذيبهم فمرجعهم إليّ بعد الموت وسأجازيهم على تكذيبهم وأكافئك على صبرك بدلالة قوله «وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» قليلها وكثيرها خفيها وظاهرها «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» بالسعادة الأبدية لأن كل أحد قبل الدخول فيها خائف فزع منتظر ما يفعل به. ومن هنا يعلم حقيقة ما ذكرناه في الآية 45 من سورة الأعراف ج 1 بأن لا دار غير الجنة والنار «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185) لمن آثرها على الآخرة أما من طلبها للآخرة فهي متاع بلاغ لها جائز طلبه، والمتاع كل ما يمنع به الإنسان من مال أو غيره، والغرور كل ما يغتر به أنه دائم وهو بال فإن، شبّه الدنيا بمتاع معيب دلّسه البايع على المشتري حتى إذا ظهر له عيبه وتبين غبنه فيه ندم، لأنه غرّ به. واعلم أن العلماء اختلفوا في حقيقة النفس والروح فمن قائل إنهما اسمان مترادفان لمعنى واحد، وعرّفوه بأنه جسم لطيف له مادة خاصة خلق منها وجعل على شكل معين وصورة معينة توجد داخل هذا البدن وهو مخالف لماهيته وينفذ في الأعضاء ويسري فيها سريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم مشابها لهذه الأعضاء وأفادها منه الحسّ والحركة الإرادية وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها خرجت عن قبول تلك الآثار وفارقت الروح البدن فانتقلت إلى العالم الثاني. ولا يجاريهم في هذا الرأي بعض أهل العلم والتصوف الذين يقولون إن للإنسان غير بدنه حياة وروحا ونفسا، وإن ما سبق من التعريف إنما ينطبق على النفس فقط لا على الروح، أما الروح فقال بعضهم ما قاله الله عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الآية 86

من سورة الإسراء ج 1 لأن الله أخفى حقيقتها وعلمها عن خلقه. وقال بعضهم إنها نور من نور الله وحياة من حياته. وقال بعضهم إنها معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون، وإنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير، وانه لا يجوز عليه صفة قلة ولا كثرة، وهي على ما وصفت من انبعاثها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية، وانها في كل حيوان العالم بمعنى واحد، فلا طول لها، ولا عرض، ولا عمق، ولا لون، ولا بعض، ولا وزن، ولا هي في العالم ولا خارجة عنه، ولا مجانبة، ولا مباينة، وتعلقها بالبدن لا بالحلول فيه، ولا بالمجاورة، ولا بالمساكنة، ولا بالالتصاق، ولا بالمقابلة، وإنما هو بالتدبير له فقط، وما الحياة إلا المظهر الخارجي للدلالة على وجود الروح. هذا وإن الباحث في القرآن عن حقيقة الأمر يرى أن الله سبحانه قد أطلق النفس على الذات بجملتها كما في قوله تعالى (فسلموا على أنفسكم) الآية 61 من سورة النور الآتية، وقوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) الآية 28 من سورة النساء الآتية، وقوله تعالى (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) الآية 111 من سورة النحل في ج 2، وقوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) الآية 38 من سورة المدثر في ج 1 إلى غيرها من الآيات، ولم تطلق الروح بالقرآن على البدن ولا على النفس ولا عليهما معا، وإنما أطلق الروح في القرآن على الوحي الإلهي في قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) الآية 53 من الشورى ج 2 وقال (يلقي الروح من أمره على من يشاء) الآية 61 من سورة المؤمن أيضا وأطلقت أيضا على القوة في قوله تعالى (وأمدهم بروح منه) الآية 22 من سور المجادلة الآتية ولم تقع تسمية روح الإنسان في القرآن إلا بالنفس قال تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة) الآية 28 من سورة والفجر، وقال (ولا أقسم بالنفس اللوامة الآية الثانية من سورة القيامة، وقال تعالى (ونفس وما سواها) في ج 1، وقال تعالى (إن النفس لأمارة بالسوء) وقال (أخرجوا أنفسكم اليوم) الآيتين من سورة يوسف و 93 من سورة الأنعام في ج 2، والآية المارة (كل نفس ذائقة الموت) وغيرها من أول سورة النساء الآتية وشبهها. إلا أن الثابت في القرآن

والسنة أن النفس ذات قال بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن، وقد وصفها الله تعالى بذلك بآيات متعددة، فقال جل قوله (والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم) وقال (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) الآيتين المشار إليهما أعلاء وما ضاهاهما من الآيات، مما يدل ذلك، وأن حضرة الرسول سئل عن الروح فأنزل الله (قل الروح من أمر ربي) الآية المارة أيضا، ولم يسأل عن النفس ولم يخبر عنها أنها جوهر أم عرض، وأن قوله تعالى (الله يتوفى الأنفس) الآية 42 من سورة الزمر ج 2 لأكبر برهان على النفس غير الروح وأن الوفاة بمعنى القبض للنفس، وأنه يفقد عاقليتها وشعورها، وأما الموت فهو للبدن بانتزاع الروح منه، فيتخلص من هذا كله أن الإنسان مكوّن من جوهرين فقط هما النفس وهي الجوهر الشفاف الذي لا يرى وهي الأصل في الإنسان وهي موضع التكليف والسؤال والثواب والعقاب. الثاني البدن وهو الهيكل الجثماني والمظهر الخارجي لها، وعليه فتكون الروح أمرا خارجيا عن تكوين الإنسان إلا أنه قائم به، ومظهرها الخارجي الحياة، لأن الروح قوة إلهية خصصت لحركة المخلوقات ونحوها، فهي موجودة في كل إنسان وحيوان وشجر، تبعث فيهم الحياة والنشاط، فهي أشبه بقوة الكهرباء، لأن وسائل توليدها ظاهرة ومظهرها في الخارج واضح، إلا أن حقيقتها سرّ من أسرار الله لم يعرف بعد، فقوة الحياة في جميع الخلق واحدة لا تتجزأ، يهبها الله لمن قدرت له الحياة منحة منه تعالى، ولا نعرف إلا أن اسمها الروح وأنها أمر من أمر الله وسر من أسراره الخفية كالذي نفخه بآدم بعد خلقه، والذي نفخ في مريم حتى حملت بعيسى وولدته. هذا وكما وقع الخلاف في معنى الروح اختلفوا في مصيرها، فمنهم من قال إنها تفنى لقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) الآية الأخيرة من سورة القصص في ج 1، ومنهم من قال بخلوها لكونها روحانية خلقت من الملكوت وترجع إليه خالدة لأنها من قوى الله عز وجل، فهي خالدة بخلوده، وإن اتصالها بالإحياء عبارة عن اتصال القدرة بالمقدور. أما النفس فإنها تفنى لأنها مخلوقة ولها بداية وكل ماله بداية له نهاية، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ

الْمَوْتِ) الآية المفسرة، وعلى هذا يكون تفسير الآية 12 من سورة المؤمن في ج 2 أن الموقة الأولى للبدن بزوال الحياة عنه، والثانية للنفس يوم ينفخ في الصور، والحياة الأولى هذه الحياة الدنيا، والثانية في الآخرة التي أولها يوم البعث ولا آخر لها. وقال بعض العلماء إن العلاقة بين الروح والنفس والبدن على أنواع قد تجتمع كلها في حياتنا هذه العادية وتنفرد الروح بالبدن دون النفس حالة النوم، والنوم قد يكون طبيعيا وقد يكون بسبب آخر كالبنج والتنويم المغناطيسى، وقد تتصل النفس بالبدن من غير الروح بعد مفارقة الروح له حالة الموت وتظل سابحة بمفردها في العالم غير المنظور إلى نهاية هذه الحياة الدنيا، وذلك يوم النفخ في الصور المشار إليه بقوله تعالى بالآية 69 من سورة الزمر في ج 2 ثم تبدأ الحياة الأخرى. ثم فصلوا هذا فقالوا إن الله تعالى جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، ووضع لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأنفس تبعا لها، ولذلك جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافها، وجعل أحكام البرزخ على الأنفس والأبدان تبعا لها، فكما تبعت النفوس الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت لألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان النفوس البرزخ في نعيمها وعذابها، وكما كانت النفوس هنا خفية والأبدان ظاهرة تكون هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها، وتجري أحكام البرزخ على النفوس التي باشرت أسباب النعيم والعذاب فتسري منها إلى الأبدان. وضربوا لذلك مثلا بحال النّائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على نفسه أصلا والبدن تبعا لها، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فتراه يقوم من نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، إلا أنه حينما يفيق تراه متأثرا مما يلاقي خيرا كان فيكون منبسط النفس أو شرا فتراه منقبضا منكمشا. والسر في هذا أن الحكم لما جرى على النفس استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس كما يقع أحيانا فتراه يقوم مرعوبا من الخوف فيفيق من نومه. ويعلم من هذا أن النفس كما أنها تتألم وتنعم في نومها

ويصل ذلك إلى بدنها بطريق التبعية فكذلك في البرزخ إلا أنه أعظم لأن تجرد النفس هناك أكمل وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم الحشر في دار القرار تتحد النفوس بأبدانها فيشتركان في الشعور بالعذاب والنعيم ويصير الحكم عليهما مباشرة ظاهرا باديا. وما استدلوا به على التمييز بين النفس والروح قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) الآية 60 من سورة الأنعام ج 2. وليعلم أن فعل جرح هذا واجترحوا في الآية 20 من سورة الجاثية في ج 2 لم يكرر في القرآن، وقوله تعالى (الله يتوفى الأنفس) الآية المارة آنفا، أي أنه تعالى ينتزع النفوس من أبدانها التي فقدت الحياة وهي التي لم تمت في منامها أي ينتزع النفوس من أبدانها الحية في منامها فيمسك التي قضي عليها الموت فلا يعيدها لبدنها ويرسل الأخرى أي يعيد نفس النائم إلى بدنه الحي فتبقى فيه إلى بلوغ أجلها المقدر لمفارقتها بدنها. هذا وإن إمساكه تعالى النفس التي قضى عليها الموت لا يمنع ردها إلى جسدها الميت في وقت ردّا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا، فكما أن النائم تكون روحه في جسده وهو حي حياة غير حياة المستيقظ لأنها من غير نفس فلا يحس ولا يشعر مع أنه يتحرك وقد يمشي ويتكلم كما هو مشاهد في بعض الأشخاص، فكذلك الميت إذا أعيدت نفسه إلى جسده كانت له حياة أخرى عكس حياة النائم فإنه يحس ويشعر ولكنه لا يتحرك لأنه من غير روح، وقد وردت آيات وأحاديث تدل على بقاء النفس وتعارفها بعد مفارقة أبدانها إلى أن يرجعها الله تعالى إلى أجسادها في الحياة الأخرى، قال تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) الآيات 169/ 170/ 171 المارات آنفا، وفي الحديث الذي رواه جرير قال أصحاب رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك، فأنزل الله (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) الآية 69 من سورة النساء الآتية، كما مر في الآيات المذكورة، وسيأتي في تفسير هذه الآية، وقد ثبت عن رسول الله أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وأنه قال: ما من رجل يزور قبر أخيه إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم. وفي حديث آخر لما

مطلب إخبار الله تعالى عما يقع على المؤمنين وقتل كعب بن الأشرف والاعتبار والتفكر والذكر وفضلهما وصلاة المريض:

مات بشر بن البداءة بن معمر وجدت عليه أمه وجدا شديدا وقالت يا رسول الله لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال صلّى الله عليه وسلم نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رءوس الشجر. وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلا أرسلت معه أم بشر السلام إلى ابنها. وجاء في حديث آخر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشر أهل الدنيا، فيقولون أنظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد، فيسألونه ماذا فعل فلان، وماذا فعلت فلانة، وهل تزوجت فلانة، وناهيك حديث الصحيحين لما أمر صلّى الله عليه وسلم بإلقاء قتلى بدر في القليب ثم وقف عليهم وناداهم بأسمائهم، فقال له عمر ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟! فقال له والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يستطيعون جوابا. وقد كان الأقدمون يتصلون بالعالم غير المنظور بواسطة المنام، ثم توصل العلم أخيرا إلى مخاطبة النفوس بواسطة التنويم المغناطيسي بما يدل على اتصال النفوس بعضها ببعض بعد الوفاة، وأنها حية حياة برزخية لا نعلم كنهها وقد مر أن تكلمنا على أن النفس والروح هل هما شيء واحد أم لا في الآية 86 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها. مطلب إخبار الله تعالى عما يقع على المؤمنين وقتل كعب بن الأشرف والاعتبار والتفكر والذكر وفضلهما وصلاة المريض: ثم التفت جل شأنه يخاطب المؤمنين بما يصيبهم بعد مما هو أشد مما حل بهم في أحد فقال مقسما وعزتي وجلالي «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ» فيما بستقبل من الزمان فتنهبون وتسلبون وتهانون «وَأَنْفُسِكُمْ» فتقتلون وتؤسرون وتعذبون «وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» اليهود والنصارى «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» بالله غيره فيدخل فيه الكفرة كافة «أَذىً كَثِيراً» متنوعا قولا وفعلا «وَإِنْ تَصْبِرُوا» على ذلك مع محافظتكم على دينكم «وَتَتَّقُوا» الله فتعملوا بما يأمركم وينهاكم «فَإِنَّ ذلِكَ» الصبر على ذلك الأذى مع المحافظة على التقوى «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (186) بشير صدر

هذه الآية إلى قول الفلاسفة إن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطن كما أشرنا إلى هذا المعنى آنفا في بحث النفس، وإنما خاطب الله تعالى حضرة الرسول وأصحابه المؤمنين كافة بهذا ليوطنهم على احتمال ما سيلقونه من الشدائد التي لا تقابل إلا بالصبر لئلا يرهقوا عند نزولها بهم على غرة فيجزعوا أو يشمئزوا، وهي عامة اللفظ والمعنى محكمة ثابتة الحكم بين الناس إلى يوم القيامة، وقد ظهر مصداقها في زماننا هذا بتولية الإفرنسيين علينا وفعل بعضهم كما ذكر الله في الآية 24 من سورة النمل ج 1، وها نحن أولاء صابرون على أذاهم، وعسى الله أن يزيحهم عنا بتقوى أهل التقوى منا وهو على كل شيء قدير، إذ أصاب بعض المؤمنين منهم ما ذكره الله ولم يجدوا بدا إلا الصبر، فنسأله أن يقيض لنا من يجمع كلمة المسلمين ويرد لهم مجدهم ويدفع عنهم من يتسلط عليهم، ولا لوم إلا على أنفسنا، لأن ذلك كله بما كسبت أيدينا من ظلمنا بعضنا لبعض وتعاظمنا وانتصارنا للقوي والغني وعدم التفاتنا للضعيف والفقير والسكوت على المعاصي وهدر الحقوق والتقاطع ولا حول ولا قوة إلا بالله. روى البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد ابن سلمة أتحب أن أقتله؟ قال نعم، قال فأذن لي فلأقل، قال قل، فأتاه فقال له وذكر ما بينهم، وقال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنانا، فلما سمعه قال وأيضا والله لتبلغه، قال إنا قد اتبعناه ونكره الآن أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء بصير أمره، قال وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال فما ترهن عندي تأمينا لما تستلفه؟ فقال له ما شئت، قال أترهنني نساءكم، قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا، قال له ترهنون أولادكم؟ قال يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللّامة (أي السلاح) قال نعم، وأوعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبير وعباد بن بشير، قال فجاءوا فدعوه ليلا، فنزل إليهم، قالت امرأته إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم، قال إنما هو محمد ورضيعي أبو ناثلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب، قال محمد لأصحابه إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استحكمت منه فدونكم، قال فلما نزل وهو متوشح

قالوا نجد منك ريح الطيب، قال نعم نحن فلأنه أعطر نساء العرب، فال فتأذن لي أن أشم منه؟ قال نعم، فتناول فشم، ثم قال أتأذن لي أن أعود، قال نعم، قال فاستمكنني من رأسه، ثم قال دونكم فقتلوه. وزاد أصحاب السير فاختلف عليه أسيافهم فلم تغن شيئا، قال محمد بن سلمة فذكرت معولا في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار، قال فرضعته في شذروته (صرّته) (والشذر خرز معروف وقطع من الذهب المتلقطة من معدنه قبل إذابته) ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله، وأصيب الحارث بن إدريس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا، فخرجنا وقد أبطأ علينا، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة حتى أتانا فحملناه وجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه وأخبرناه وجئناه برأسه وتفل على جرح صاحبنا فبرىء، وأنزل الله في شأنه هذه الآية. وعلى فرض صحة نزولها فيه لا يمنع شمولها لغيره وعمومها لآخر الزمان، وكعب هذا من ألدّ الخصوم لحضرة الرسول وقد أشرنا إليه في الآية السابقة وما قبلها. قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» عن أحد منهم لا كلّا ولا بعضا بل تبينوه كله لكل أحد بلا عوض فلم يفعلوا ولهذا قال تعالى «فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ» أي الكتمان لما في الكتاب «ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» (187) هذه الآية وإن كانت خاصة في اليهود والنصارى فلا يبعد أن يشمل مضمونها علماء هذه الأمة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولأنهم أشرف أهل الكتب السماوية كما أن كتابهم أشرف الكتب ورسولهم أشرف الرسل. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سئل علما فكتمه الجم بلجام من نار. ولأبي داود: من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة. والمراد بالعلم هنا علم الدين وما يتعلق به والتنكير فيه للتعظيم بما يدل على ذلك ولأن هذا الجزاء الكبير لا يترتب إلا على العلوم الدينية البحتة بدليل قول أبي هريرة لولا ما أخذ الله عز وجل (أي من العهد والميثاق) على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء وتلا هذه الآية، والعهد الذي أخذ هو على الإيمان

[سورة آل عمران (3) : الآيات 191 إلى 200]

بالله وجميع أنبيائه كما في الآية 81 المارة. قال تعالى «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا» من حطام الدنيا على ما زينوه للناس من الضلال بكتمان الحق وإظهار غيره باطلا «وَيُحِبُّونَ» مع عملهم القبيح ذلك «أَنْ يُحْمَدُوا» عليه وعلى تسميتهم علماء «بِما لَمْ يَفْعَلُوا» من الوفاء بميثاق الله وعهده على الإخبار بما في كتبهم من الحق والصدق بأنهم ناجون من العذاب كلا «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» ونجاة منه بل لا بد من انغماسهم فيه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (188) جدا فلا تظننّ عذابهم بسيطا بل هو شديد لا تطيقه قواهم، وهذه الآية أيضا وإن كانت خاصة بالمذكورين فمعناها عام شامل لكل من هذا شأنه، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ إلا ما خصص أو قيد «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» هذا تفريع على قوله آنفا (إن الله فقير) الآية، أي كيف يكون فقيرا وهو مالك لما بين السموات والأرض وما فوقهما وتحتهما «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (189) ومن كان كذلك فلا يليق أن يسمى فقيرا قاتل الله قائل ذلك. قال تعالى «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ» عظيمات على قدرتنا «لِأُولِي الْأَلْبابِ» (190) الذين خلص لبتهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر فمن أراد عبرة فليعتبر فيهما والويل كل الويل لمن يقرأ ولم يتفكر وينظر ولا يعتبر لأن المراد بأولي الألباب هم أهل القلوب الحية المطهرة، أما الذين صدأت قلوبهم وغشى عليها الرّين بسبب كثرة المعاصي فلا يفهمون من التفكر والنظر شيئا. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت في بيت خالتي ميمونه فتحدث رسول الله وأهله ساعة ثم وقد، فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال (إن في خلق السموات والأرض) الآية، على أنه كان في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه لعلك فرطت منك فرطة في مدتك قال ما أذكر، قالت لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر، قال لعل، قالت فما أوتيت إلا من ذلك. ولهذا وصف الله أولي الألباب بقوله «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ» مضطجعين «وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»

بكيفية اختراعهما وعظمهما وبناء السموات وبسط الأرض وإبداعهما على غير مثال سابق وما فيهما من الكواكب المسخرة لمنافع الخلق والجبال التي لولاها لمادت بأهلها والوديان والأنهر والمعادن المختلفة والنظر في كيفياتها وكمياتها وأشكالها وألوانها واختلاف سيرها، ويديمون هذا في جميع أحوالهم دون غفلة، ثم يقولون «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» ولا عبثا ولا لعبا بل لحكم أردتها «سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (191) وهذا تعليم من الله لعباده بأن يقولوا هكذا ويثنوا على الله بما هو أهله وينزهونه عما لا يليق بحضرته الكريمة كلما نظروا إليهما ثم يذكرون حاجتهم. وفي الآية دلالة على صحة صلاة المريض والرخصة فيها. روى البخاري عن عمران ابن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب. ودليل على ندب ذكر الله تعالى في كل حال والمداومة عليه، روى مسلم عن عائشة قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل في كل أحيانه. وأخرج أبو ذر عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة (نقص وتبعة) ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة وما مشى ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت من الله عليه ترة أي حسرة وندامة مستمرة لا تتلافى. والفكر اعمال الخاطر في الشيء وتردد القلب فيه، وهو قوة متطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل ولا يمكن التفكر إلا فيما له صورة في القلب، ولهذا قالوا تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله لأنه منزه عن الصورة، ولذا قال تعالى (ويتفكرون في خلق) الآية أي في عجائبها وغرائب صنعها، وكون السماء بلا عمد أو بعمد لا ترى، وكون الأرض على الماء أو الهواء راكدة أو متحركة بيضوية أو مدورة أو مربعة أن مستطيلة للاستدلال بذلك على قدرة القادر وحكمته البالغة، وليعلموا أن خالقهما عظيم ومدبرهما حكيم وان عظم الخلق يدل على عظم الخالق وعظمة آياته: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ولينظر إلى آثار قدرته في هذين الهيكلين العظيمين وإلى من فيهما من الخلق:

إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار وقدمنا ما يتعلق في تفسير هذه الآية 50 من سورة الروم ج 2 فراجعها، وقولوا في دعائكم يا ذوي العقول «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ» أهنته وأذللته وفضحته وهذا خاص للمخلدين فيها بدليل قوله «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» (192) في ذلك اليوم ولا تمسك في هذه الآية للقائلين أن كل مؤمن لا يدخل النار احتجاجا بقوله تعالى (يوم لا يخزي الله النبي) الآية 6 من التحريم الآتية لأن هذه الآية محمولة على نفي الإخزاء حينما يكونون معه صلّى الله عليه وسلم وفضلا عن هذا فإن مذهب أهل السنة جواز دخول بعض المؤمنين النار وخروجهم منها، لأن مرتكب الكبيرة مؤمن وإن كان فاسقا، وهذا الجواب لا يتجه على مذهبهم لأنهم يقولون الفاسق يخلد في النار ومرتكب الكبيرة كافر، ويجوز حملها على العموم لأن مجرد إدخال النار خزي وعار سواء أخرج منها أو لا وهذا أولى إذ لا مقيد ولا مخصص لها نصا، ولأن لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك، والمشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معتبيه جميعا فيسقط الاستدلال به لأحدهما وقولوا أيضا «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ» وهو محمد سيد الأكوان لقوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) الآية من أواخر سورة النحل ج 2 ومن قال إن المنادي هو القرآن قال ليس كل أحد سمع النبي والقرآن مقروء ومسموع إلى الأبد ويقول ذلك المنادي «أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ» أيها الناس وأجيبوه بقولكم «فَآمَنَّا» بربنا وما أنزل إليها على لسان رسولنا «رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا» صغيرها وكبيرها خفيها وجليها قصدها وخطأها وسهوها وتعمدها وجميع أنواعها اعفوها لنا يا ربنا «وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» (193) واحشرنا في زمرتهم، قال المفسرون إن اغفر وكفّر بمعنى واحد وكررا لفظا للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوبة ومطلوبة، مع أن الغفران مصدر غفر بمعنى الستر، والتكفير مصدر كفّر بمعنى الفداء لأن الكفارات شرعت لذلك، يقال كفر عن يمينه إذا أدى الكفارة، والألفاظ العربية وإن كانت متقاربة في المعنى ففيها تفاوت، وقل أن تجد كلمتين تدل على معنى واحد فقط من كل وجه إلا في اختلاف

اللغات مثل (كل) بمعنى ثقيل في العربية وهو في التركية بمعنى أقرع وما أشبه ذلك فهكذا. قال تعالى آمرا عباده بأن يقولوا في دعائهم أيضا «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى» لسان «رُسُلِكَ» من الخير في الدنيا والآخرة، ولا يقال كيف سألوه انجاز وعده وهو لا يخلف الميعاد وهم معترفون بذلك لأنهم التوفيق فيما يحفظ لهم انجاز وعده، ولهذا اتبعوهم بقولهم «وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» (194) لأن المقصود منه طلب التوفيق على الطاعة والعصمة ممّا يحول دون تأهلهم، لذلك فلا يقال أيضا لا حاجة إليه لأنه متى حصل الثواب اندفع العقاب، وإن طلب عدم الخزي خوفا من أن تظهر لهم أعمال ليست بالحسبان مما سيكون لغيرهم. قال تعالى (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الآية 47 من سورة الروم ج 2، أي وهم يظنون أنهم على عمل صالح فقط، قال صلّى الله عليه وسلم: إن أحدكم ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أربعين خريفا. الا فليتق الغافل ولا يهرف بما لا يعرف، ولا يتكلم بمعصية قصد إضحاك الناس أو سرورهم فيقع بمثل هذا المبين في الآية والحديث. قال تعالى «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ» دعاءهم، وقال لهم «أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ» أيها المؤمنون وأثببكم على أعمالكم القولية والفعلية كلكم «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» لا أفضل أحدا على أحد إلا بالتقوى «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» وأثيبكم عليها أيضا على ما تعملونه من الخير فيما بينكم فمن قضي لأخيه حاجة قضيت له حوائج، ومن رحمه رحمته وأكرمته، ومن عفى عنه زلته أقلت عثرته يوم القيامة وعفوت عنه «فَالَّذِينَ هاجَرُوا» منكم بطوعهم «وَ» الذين «أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» قهرا من قبل أعدائهم «وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي» بسبب إسلامهم ومتابعتهم رسولي وجهادهم معه لإعلاء كلمتي «وَقاتَلُوا» أعداءه وأعداءهم «وَقُتِلُوا» بسبب ذلك «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» مهما كانت ولا أؤاخذهم عليها وأبد لها لهم حسنات «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً» لهم ورحمة بهم وتفضلا ولطفا وإحسانا عليهم وكرامة لهم «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ» (195) على أحسن الأعمال وثوابا مطلقا على غيرها.

أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله ما أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله هذه الآية، ثم خاطب سيد المخاطبين بقوله «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ» (196) على حد (إياك أعني واسمعي يا جارة) لأنه صلّى الله عليه وسلم لا يغتر بذلك وإنما أراد به غيره كما في أمثال هذه الآية من الآيات آخر سورة القصص في ج 1 وشبهها أي لا تغتر أيها الإنسان بما ترى من ذلك لأنه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» يتمتعون به في هذه الدنيا الفانية القليلة ثم يتركونه فيها وبالا عليهم «ثُمَّ مَأْواهُمْ» في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» (197) هي لأهلها. قيل إن بعض المؤمنين لما رأى حالة الكفار قال أرى أعداء الله في سعة من العيش ونحن أصحاب محمد وأحباب الله في جهد منه، فأنزل الله هذه الآية تنديدا بسعة الكفرة وأنزل بعدها ما يسر المؤمنين بقوله «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ» عنده في الآخرة خير مما أعطاه لأعدائه في الدنيا وهو «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» أبدا، ويقول الله تعالى جعلناها لهم «نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» إكراما لهم وتقدمة لقراهم «وَما عِنْدَ اللَّهِ» المعطي هذا النزل لعباده أولا من النعيم الدائم والخير الوافر ما هو «خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» (198) من الدنيا وما فيها جزاء أعمالهم الحسنة وإحسانهم لغيرهم وهو خير مما يتقلب به الكافرون من حطام الدنيا وزخارفها الزائلة المنغمصة بالأكدار، روى البخاري عن عمر بن الخطاب قال: جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة غرفة أو علية وانه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرط مصبور (القرط ورق السلم نبات معروف، ومصبور معناه مجموع كالصبرة من الطعام) وعند رجليه أهب (أي جلود) معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت، فقال ما يبكيك؟ قلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله؟ فقال أما ترضى يا ابن الخطاب أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قال بلى يا رسول الله. قال تعالى «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ» يؤمن ب «ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» من القرآن «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ» من التوراة والإنجيل «خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» كغيرهم ممن ت (29)

مطلب فيما وقع للنجاشي مع أصحاب رسول الله ووفد قريش. ومأخذ قانون عدم تسليم المجرمين السياسيين. والصلاة على الغائب:

يحرف ويبدل لقاء ما يأخذه من حطام الدنيا من الرعاع ولحب بقاء الرياسة والمال «أُولئِكَ» الذين هذا وصفهم «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (199) يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة رجل واحد كطرفة عين أحدكم من حيث لا يعلمون هذه السرعة. هذا ولا يفهم من لفظ (قليلا) أن الذين يبيعونها بكثير غير مذمومين، بلى هم مذمومون مدحورون أيضا، وإنما سماه الله قليلا لأنه مهما كان كثيرا فهو قليل بالنسبة للمبيع الذي لا يوازى بالدنيا وما فيها ولا بحرف منه. وهذه الآية عامة في جميع أهل الكتاب الذين حسن إسلامهم، لا ينافي عمومها ما قالوه بأنها نزلت في النجاشي الذي اسمه أصحمة بالحبشية ومعناه بالعربية عطية، إذ آمن على يد من هاجر سنة خمس من البعثة من أصحاب رسول الله قبل نزول سورة والنجم. مطلب فيما وقع للنجاشي مع أصحاب رسول الله ووفد قريش. ومأخذ قانون عدم تسليم المجرمين السياسيين. والصلاة على الغائب: وخلاصة قصته أن قريشا لما عادت من بدر مكسورة جمعت مالا وأهدته إلى النجاشي مع عمرو بن العاص وحمادة بن معيط ليسلمهم جعفر بن أبي طالب وأصحابه الذين هاجروا إليه قبلا لينتقموا منهم، فلما وصلا دخلا عليه ساجدين إذ كان تحيته السجود، وبعد أن قدما له الهدايا وتحية قومهم قالا إن قومنا شاكرون لك ولأصحابك محبون لكم ويؤيدون شعائركم، وإنهم يحذرونك من هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل منا يزعم أنه رسول الله لم يتبعه إلا السفهاء وقد بعثهم إليك ليفسدوا دينك وملكك ورعيتك، فادفعهم إلينا لنكفيكهم، وآية ما قلنا أنهم لن يسجدوا لك إذا استدعيتهم، فأمر بهم، فلما حضروا قال جعفر يستأذن عليك حزب الله، فقال النجاشي مروه فليعد كلامه، ففعل، فقال النجاشي نعم ليدخلوا بأمان الله وذمته، فنظر عمرو إلى صاحبه وقال ألا تسمع كيف يرطنون (الرطانة الكلام بالأعجمية) فدخلوا وسلموا ولم يسجدوا، فقال ألا ترى استكبارهم، فقال النجاشي لم تحيّوني بالسجود، وقد علمتم أنه تحيّتي، فقالوا كان السجود تحيّتنا ونحن نعبد الأوثان، فلما شرفنا الله بنبينا الصادق علمنا تحية أهل الجنة، وهي السلام

فحييناك بها لأن السجود لا ينبغي إلا لله الذي ملكك، فعرف النجاشي ذلك لما يعلمه من التوراة والإنجيل، ثم ذكر لهما ما جاء به عمرو وصاحبه وقال لجعفر تكلم، قال أنت ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا تريد الظلم، وأنا أجيب عن أصحابي فمر أحد هذين يتكلم وليصمت الآخر فتسمع محاورتنا، ففعل فقال سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار، فإن كنا عبيدا أبقنا فردنا إلى أسيادنا، فسأله فقال أحرار كرام، فقال النجاشي نجوا من العبودية، فقال سلهما هل أرقنا دما بغير حق فوجب علينا القصاص به فتردنا من أجله إليهم ليقتصّوا منا، فسألهم فقالا لا، فقال سلهما هل أخذنا أموال أحد بغير حق فوجب علينا قضاؤها ولم نؤدها وهربنا من أجل ذلك، فسألهما وقال لهما أي النجاشي إن كان قنطار فعلي قضاؤه، قالا لا ولا قيراط، فقال سلهم إذا ما يريدون منا؟ فقال النجاشي إذا ما تطلبون منهم؟ قالا كنا وإياهم على دين واحد دين آبائنا فتركوه واتبعوا غيره، فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فتردهم إلى دينهم، فقال جعفر أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان، وقد كنا نعبد الحجارة ونكفر بالله، فقيض الله لنا نبيا منا فهدانا إلى دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام، وانزل الله عليه كتابا ككتاب ابن مريم، فقال النجاشي تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك، فأمر بضرب الناقوس فاجتمع إليه القسس والرهبان، فقال أنشدكم بالله هل تجدون بين عيسى والقيامة مرسلا؟ قالوا نعم، اللهم بشرنا به عيسى وقال من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي ماذا يقول لكم هذا الرجل؟ قال يأمرنا بالمعروف وبحسن الجوار وصلة الرحم وأن نعبد الله وحده، وينهانا عن المنكر، قال اقرأ علي شيئا مما يقرأ عليكم، فقرأ سورة العنكبوت والروم، ففاضت عيناه وأصحابه من الدمع، وقالوا زدنا، فقرأ سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال انهم يشتمون عيسى وأمه، فقال على رسلكم هذا شيء عظيم ثم قال لهما ما تقولون في عيسى وأمه؟ قال اسمع أيها الملك ما أمرنا الله ورسوله أن نقول فيهما، فقرأ عليهم سورة مريم، فرفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين وقال والله ما زاد المسيح على ما تقولون بقدر هذا، ثم قال لجعفر وأصحابه أنتم سيوم بأرضي، (أي آمنون) من سبكم أو أذللكم أو آذاكم غرم، ابشروا

ولا تخافوا فلا دهورة على حزب ابراهيم، أي لا تبعة، وهذه الكلمة وكلمة سيوم بلغة الحبشة ومعناها ما ذكر، قالوا ثم رد الهدية على عمرو ورفيقه، وقال هذه رشوة، والله ملكني بلا رشوة، فلا سبيل إلى إجابة طلبكم، ومن ذلك اليوم عرف عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين إلى الدولة الخارجين عنها واتخذت الحكومات عمله هذا دستورا، ونظمت فيه قوانين عليها عملهما حتى الآن، ورجعا خائبين، ولما مات النجاشي رحمه الله نعاه جبريل لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخبر أصحابه بوفاته وصفهم وصلّى بهم عليه صلاة الغائب، فلما رأى ذلك المنافقون قال بعضهم لبعض انظروا إلى محمد يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط، ولم يعلموا أنه أسلم على يد رسل رسول الله، وانه مات مسلما. ومن هنا شرعت الصلاة على الميت الغائب، وأخذ بها الأئمة عدا أبي حنيفة، إذ عدها خصوصية للنجاشي، وقيل نزلت هذه الآية في أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا، والآية صالحة لهذا كله ولغيره مما ينطبق على معناها إلى يوم القيامة، فقال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا» على ما أنتم عليه والصبر على ترك الشكوى وقبول القضاء والقدر وصدق الرضاء «وَصابِرُوا» غيركم من الكفار والمنافقين وغالبوهم على الصبر في الشدائد كلها وخاصة الجهاد وانفاق المال في سبيله «وَرابِطُوا» على ثغوركم بأن تكونوا مستعدين لقتال متهيئين للهجوم على من يريد قربها ساهرين على محافظتها، راجع ما يتعلق في بحث الرباط الآيتين 167 المارة و 60 من سورة الأنفال المارة أيضا. «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (200) بلقائه وتسرون برضائه وتفرحون بعطائه. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة، واستدل بما روي عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم الا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره (البرد ونحوه) وكثرة الخطا الى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط- أخرجه مسلم- ولا مقال في هذا الحديث لأنه صحيح ورجاله ثقات، ولكن في هذا التأويل صرف اللفظ عن ظاهره دون صارف، فإذا لم يكن رباط في زمنه صلّى الله عليه وسلم فقد كان بعده، ويكون

تفسير سورة الأحزاب عدد 4 - 90 و 33

من جملة إخباره عليه الصلاة والسلام بالغيب، على أنه كان هناك رباط وهو سهر الاصحاب على الخندق لئلا يقتحمه المشركون فهو الرباط بعينه. هذا وقد ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة في ثواب الرباط ذكرنا قسما منها في الآيتين المذكورتين آنفا، وفيها ما يرشدك لغيرهما، فإذا أجلت النظر ركنت إلى عدم العدول عن الظاهر وجعلت معنى الرباط الوارد في هذا الحديث مجازا، وأن للقائم بما فيه ثواب المرابط في سبيل الله. قال أهل المعاني اصبروا أيها المؤمنون على الدنيا ومحنتها رجاء الراحة في القيامة وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة رجاء النصر والعز والسلامة، ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة واتقوا ما يعقبكم الندامة تفوزوا عند الله في دار الكرامة وقالوا على لسان ذي الجلال جل جلاله اصبروا على بلائي، وصابروا على نعمائي، ورابطوا على مجاهدة أعدائي، واتقوا محبة سوائي تربحوا بلقائي، وقالوا اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء، ورابطوا على دور الأعداء، واتقوا إله الأرض والسماء تنجوا في دار البقاء. ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم فذالكم الرباط أي معظمه، لأن الرباط انتظار مراقبة العدو على ثغور المسلمين، ومنعه من اقتحامها، وفي الحديث انتظار دخول وقت الصلاة بعد الصلاة، فيكون فيه مجازا كما ذكرنا هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين، حمدا دائما كثيرا يوافي نعمه ويكافي مزيده. تفسير سورة الأحزاب عدد 4- 90 و 33 نزلت بالمدينة بعد سورة آل عمران، وهي ثلاث وسبعون آية، والف ومئتان وثمانون كلمة، وخمسة آلاف وسبعمئة وتسعون حرفا، لا يوجد مثلها في عدد الآي، وتقدم في سورة الكافرين ج 1 السور المبدوءة بما بدئت به. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» فيما يعرضانه عليك أو يطلبانه منك لأنك لا تعلم دخائلهم «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» (1) لا يخفى على علمه شيء

زمانا ولا مكانا ولا كما ولا كيفية. واعلم ان كان لاتصاف المخبر عنه بالخبر والدوام والاستمرار، لأنه لم يزل ولا يزال كذلك في الماضي والحال والاستقبال، وهي إذا كانت عاملة فيعود اسمها على الله تعالى ولا تسمى ناقصة تأدبا بل تسمى الرافعة للمبتدأ الناصبة للخبر، وإذا لم تكن عاملة سميت تامة فقط لأن الفعل إذا أضيف لله تعالى تجرد عن الزمان وصار معناه الدوام بخلاف قولك كان الشيخ شابا، لأن الشبوبة تنقطع بالشيخوخة، فتكون في مثله بلا انقطاع قال تعالى «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» من الأوامر والنواهي والوفاء بالعهد وغيرهما مما أمرناك به «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (2) يستوي عنده السر والجهر «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (3) عن كل خلقه فتمسك به أنت وأصحابك. اعلم أنه بعد حادثة أحد وبدر الصغرى المارتين طلب أبو سفيان الأمان من محمد صلّى الله عليه وسلم ليقدم إلى المدينة فيتحادث معه بما يتعلق بعقد معاهدة سلم، فأعطاه الأمان، فحضر هو وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي ونزلوا على رأس المنافقين ابن سلول، ثم ذهبوا معه وعبد الله بن أبي سرح وملعجة بن أبيرق إلى حضرة الرسول ليقابلوه، وكان عنده عمر بن الخطاب، فقالوا له ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة وقل ان لها شفاعة وندعك وربك، فشق ذلك على حضرة الرسول، فقال تأذن يا رسول الله بقتلهم؟ قال لا قد أتونا بالأمان، فقال لهم عمر إذن اخرجوا في امنة الله وغضبه، فخرجوا وأمر عمر بأن يخرجهم من المدينة آمنين كما دخلوها آمنين، فأنزل الله مبدأ هذه السورة كأنه يقول أيها المخبر عنا المأمون على أسرارنا المبلغ أحبابنا دم على التقوى التي أنت عليها والتوكل الذي أنت متحل به ونحن نكفيك من ناوأك، ولم يسمه تشريفا له وتنويها بتصريح اسمه فيما بعد. قال تعالى «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» ينتفع بهما معا فإذا وجدا على خلاف العادة ولله خرق العادات فيكون أحدهما زائدا كالأصبع الزائدة في اليد أو الرجل أو كلاهما بمثابة واحد بسبب الاتصال كالأصبعين المتلاصقين، وعدم وجود قلبين في شخص واحد محقق شائع قال المجنون في هذا فلو كان لي تقليان عشت بواحد ... وتركت قلبا في هواك يعذب

وقال أبو دلامة: لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فردا فلم أجد «وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ» لأنهن لم يلدنكم «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ» الأولاد الذين تربونهم «أَبْناءَكُمْ» لأنكم لم تلدوهم فلا يليق تسمية المظاهرات أمهات ولا الذين تربونهم أولادا ولا يجوز نسبتهم هذه إليكم ولا نسبتكم إليهم «ذلِكُمْ» القول بوجود قلبين ينتفع بهما وجعل الزوجة الظاهرة اما والمربى ابنا «قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» مجرد عن الصحة لا يرتكز على حقيقة، ولا يستند إلى دليل لأن الله تعالى لم يخص أحدا بقلبين ينتفع بهما ولم يجعل امرأة قط زوجة من جهة وأمّا من أخرى ولم يجمع بين البنوة والدعي في رجل واحد «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ» لكم ظاهرا وباطنا فاسمعوا له وأطيعوا «وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» (4) العدل الموصل إلى الرشد والسداد فاتبعوه ولا تزيغوا عنه. واعلم أن لكل جملة من هذه الآية سببا في نزولها فالأولى كانت العرب تسمي أبا معمر الفهري ذا القلبين لشدة حفظه وكان يدعي أن له قلبين فأكذبه الله وأظهر كذبه لقومه حين انهزم المشركون في حادثة الأحزاب الآتية إذ رآه أبو سفيان وإحدى نعليه في رجله والأخرى في يده، فقال له ما بالك هكذا؟ قال ما شعرت إلا أنها في رجلي فقالوا لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وأخرج الترمذي عن ابن عباس ان المنافقين قالوا إن لمحمد قلبين قلبا معنا وقلبا مع أصحابه ولذلك يخبر عما يقع منا، فأكذبهم الله وبين أنه يتبع ما يخبر به ما يوحى إليه من ربه وإنما قلنا لو وجد لأحد قلبين على سبيل الفرض والتقدير لا ينتفع إلا بأحدهما، لأنه لا يخلو إما أن يعقل بأحدهما ما يعقل بالآخر من الحسّ وافعال القلوب فيكون الآخر فضلة لا حاجة إليه، واما أن يعقل بأحدهما ما لا يعقله بالآخر فيؤدي إلى اتصافه بكونه مريدا كارها عالما جاهلا موقنا شاكا في حالة واحدة وهما حالتان متنافيتان لا ينتفع بهما البتة. والجملة الأخرى في الظهار وسيأتي تفصيله أول سورة المجادلة الآتية إن شاء الله، والجملة الثالثة في التبنّي وذلك أن زيد بن حارثة من بني كلب سبي صغيرا فاشتراه حكيم بن خزام إلى عمته خديجة فلما تزوجها حضرة الرسول وهبته إليه

فجاء أبوه وعمه يطلبانه من الرسول فخيره بين أن يذهب معهما أو ان يبقى عنده، فاختار البقاء عند رسول الله عليهما فأعتقه صلّى الله عليه وسلم وتبناه على عادة العرب قبل الإسلام، إذ لم ينزل قرآن بشأن التبنّي، ثم زوجه زينب بنت جحش، ولما طلقها كما سيأتي بيانه في هذه السورة وتزوجها رسول الله قال المنافقون تزوج زوجة ابنه، فأنزل الله هذه الجملة تكذيبا لهم، وأعلمهم فيها ان المتبنى ليس بولد صلبي ولا مثله في تحريم الزواج. وما قيل ان هذه الآية نزلت في نسخ التبني لا صحة له. لأن الله لم يسمه ابنا قط فيما أنزل على رسوله قبل، ولم يمنع التبني في هذه الآية وانما منع اسم البنوة عنه فقط، فلا محل لدعوى النسخ، قال تعالى «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ» إذا كانوا معروفين وهذا «هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» واعدل من أن تنسبوهم لأنفسكم كذبا لأنهم لهم آباء غيركم «فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» أي ادعوهم بلفظ الأخ، فتقول يا أخي ويا ابن أخي على عادة العرب أيضا في نداء بعضهم بعضا، وهذا أحسن من قول الناس الآن لابن الغير يا ولدي يا ابني، واصدق لأن الناس كلهم أخوة «فِي الدِّينِ» واخوة في الخلق إذا لم يكونوا على دين واحد «وَمَوالِيكُمْ» بأن تقولوا إذا ساقتكم الأنفة من تسميتهم إخوانا فقولوا يا مولاي، والمولى يطلق على السيد والعبد لغة، وقيل فيه: ولن يتساوى سادة وعبيدهم ... على أن اسماء الجميع موالي قال تعالى «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ» قبل النهي قصدا لأنكم لا تعلمون انه ينهى عنه كما لا يؤاخذكم إذا أخطأتم بعد النبي سهوا أو نسيانا «وَلكِنْ» الذي يؤاخذكم عليه هو «ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ» عليه وعملتم به بعد النهي ففيه الإثم عليكم «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً» ولم يزل لمن يخطىء أو يجرم إن شاء «رَحِيماً» (5) بعباده يعاملهم بعفوه وحلمه. روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة حرام عليه. وجاء عنه ملعون من ادعى الى غير مواليه، ملعون من انتسب لغير آبائه. ولهذا ورد عنه صلّى الله عليه وسلم الناس مأمونون على أنسابهم. وبعد ان تبين ان الذي ينتسب الى غير آبائه ملعون لا يتصور أن يجرؤ قصدا على الانتساب زورا لغير آبائه، ويختار

اللعن استحقاقا بنصّ الحديث المار ذكره، وعليه فان من أراد أن يكذب وينتسب قصدا أو رياء ليظهر للناس انه ذر نسب فيستحق اللعن وما هو بنافعه، لأن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور لا بنسب ولا بغيره، على أن الأدب قد يغني عن النسب فيما يريده. قال غسان بن سعيد في ذلك: من خانه حسب فليطلب الأدبا ... فقيه منيته إن حل أو ذهبا فاطلب لنفسك آدابا تعزّ بها ... كيما تسود بها من يملك الذهبا أما النسب فلا يغني عن الأدب، راجع الآية 101 من سورة المؤمنين في ج 2 وما ترشدك اليه. ورويا عن ابن عمر قال ان زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت هذه الآية فانتهينا. قال تعالى «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أي بعضهم من بعض فتكون طاعتهم له أولى من طاعة أنفسهم، لأنه لا يدعوهم إلا الى ما فيه نفعهم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا ان شئتم هذه الآية، فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا (بفتح الضاد عيالا) فليأتني فأنا مولاه. أي أوف عنه دينه وأعول عياله. وهو صلّى الله عليه وسلم لقد وكل خير اهل «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» لأن نكاحهن محرم على المؤمنين كافة بعده على التأييد كما سيأتي فمن هذه الجهة جاز تسميتهنّ أمّا ويستفاد من الآية انهن لسن بأمهات للنساء بل للرجال خاصة، لما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة، يا أمة، فقالت لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكن والآية خاصة فيهن لا تتناول أخواتهن أو بناتهن، ولا جميع أقاربهن لجواز زواجهن بهم «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» على ترتيب الإرث، وكذلك في الميراث، وهذه كالآية من آخر سورة الأنفال المارة. قالوا كان المسلمون يتوارثون بينهم لأن الرسول آخى بينهم، وبقي ذلك إلى نزول آية الأنفال، فصار الإرث للأقرب نسبا أو رحما، وذلك لأن المسلمين كثروا وجاءوا بأهاليهم من دار الحرب إلى دار الإسلام، فصاروا يتوارثون بينهم بالأولوية ومن جهة الدين، لأن أقاربهم كانوا كفارا أو في دار الحرب، وان اختلاف الدين

والدار مانعان من الإرث كالرق والكفر، وقبل نزولها كانوا يتوارثون فيما بينهم لأن إخوانهم المؤمنين الذين هم معهم في دار الإسلام أولى بإرثهم من أقاربهم الكفرة والذين في دار الحرب. ولا نسخ في هذا البتة لأن الأمر كما ذكر، ولأن ما كانوا يتعاملون به بينهم لم ينزل فيه قرآن، ولأن آية الأنفال لم تعقب بما تعقبت به هذه الآية بل ختمت بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وان اختلاف الدار مانع من الإرث عند أبي حنيفة وعليه العمل حتى الآن والأولوية هذه ثابتة ازلا «فِي كِتابِ اللَّهِ» بسابق حكمه ومدون في لوحه إن أولي الأرحام أولى «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ» المتآخين قبلا في حق الولاية الدينية التي وقعت بعد الهجرة، وهذا هو الأولى والأحق بالإرث «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» بأن توصوا إليهم بشيء من أموالكم فلا جناح عليكم بذلك، وهذا الحكم محق ثابت مستمر إلى الأبد، إذ يجوز للرجل أو المرأة أن يوصيا بشيء من مالهما لأقاربهما الذين لا يرثون ولخدمهما وعبيدهما وأصدقائهما وغيرهم من الأقارب غير المسلمين راجع الآية 180 من سورة البقرة المارة، وقوله صلّى الله عليه وسلم لا وصية لوارث «كانَ ذلِكَ» المذكور في هذه الآية من التوارث وغيره «فِي الْكِتابِ» الأزلي المحفوظ عند الله «مَسْطُوراً» (6) مثبتا، وقد أنزلناه عليكم الآن لتعملوا به. وهذا أيضا من التدريج في الأحكام الملمع إليه في المقدمة جريا على سنن الكون وتغيراته، والله أعلم بما ينزل، واعلم بحاجة الناس ومصلحتهم. قال تعالى «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ» بتبليغ ما أرسلوا به ردعوة الناس إليه «وَمِنْكَ» يا سيد الرسل «وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» وسائر النبيين أيضا أخذنا هذا العهد، وإنما خص هؤلاء الخمسة على جميعهم الصلاة والسلام لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم المتفق عليهم، راجع آخر سورة الأحقاف ج 2 في بحثهم وقدّم محمدا في الذكر مع أنه آخرهم بعثا ووجودا تشريفا له وتفضيلا واشارة إلى أنه أول الخلق معنى وذكرا، فقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال كنت أول النبيّين في الخلق وآخرهم في البعث وهذا الحديث مستقى من هذه الآية لأنها تدل على أنه أول خلق الله بدليل أخذ هذا العهد «وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً

غَلِيظاً» (7) على الوفاء بما عهد إلى جميع النبيين الذين هم أولى خلق الله به «لِيَسْئَلَ» الله تعالى يوم السؤال في الموقف العظيم «الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» لله وفي الله وبالله ولأنفسهم والمرسل إليهم «وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ» بهم الجاحدين ما جاؤهم به «عَذاباً أَلِيماً» (8) في الآخرة عدا عذاب الدنيا، قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ» قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير حينما تحزبوا على المؤمنين في منتصف شوال السنة الخامسة من الهجرة بعد غزوة بني النضير الواقعة في السنة الرابعة منها التي سيأتي ذكرها أول سورة الحشر الآتية إن شاء الله «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ» أي الجنود المتحزبة الباغية عليكم «رِيحاً» شديدة بدليل التنكير كما سترى من فعلها في القصة الآتية «وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها» ولم تعلموها وإنما تشاهدون أثرها وفعلها فيهم «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (9) ناظرا لما عملتموه من الخندق كي تتحصنوا به من عدوكم وعالما بثباتكم وحسن نيتكم وثقتكم برسولكم واعتصامكم معه بحبل الله هذا على القراءة بالتاء على الخطاب، وعلى القراءة بالياء على الغيبة يكون المعنى بصيرا بما يعمله الكفار من السعي لإطفاء نور الله الذي أظهره على أرضه ببعثة محمد واذكروا أيها المؤمنون «إِذْ جاؤُكُمْ» بنو غطفان وأسد ويهود قريظة برياسة مالك بن عون النضري وعيينة بن حصن الفزاري وطلحة ابن خويلد الأسدي وحيي بني احطب «مِنْ فَوْقِكُمْ» من أعلى الوادي من قبل المشرق «وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة برياسة أبى سفيان بن حرب وجاء أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي ومن تبعه من قبل الخندق. واذكروا أيها المؤمنون تلك الحالة التي صورتكم بها أعداؤكم من الكفار والمنافقين واليهود إذ ضاقت صدوركم ذرعه «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ» عن مستوى نظرها لشدة الرعب وعظم الرهب «وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» لأن الرنة تتنفخ من كثرة الفزع بسرعة الزفير والشهيق فيرتفع القلب بارتفاعها إلى الحنجرة وصرتم تختبطون «وَتَظُنُّونَ» أيها المؤمنون «بِاللَّهِ» ربكم الذي وعدكم النصر والظفر «الظُّنُونَا» (10) المختلفة من كل على حسب يقينه وعقيدته ونيته والمخلصون منكم قد جزموا بنصر الله والذين دونهم سكتوا وضعيفو الإيمان

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 11 إلى 20]

ترددوا والمنافقون قطعوا بأن المؤمنين سيغلبون ويستأصلون والكافرون واليهود تهيأوا للفنك والغنيمة لأنهم رأوا أن المؤمنين صاروا بحوزتهم ففرحوا وصفّقوا وتكلموا بينهم كيف يقتسمون الرجال والمال والأنعام والأثاث «هُنالِكَ» في تلك الساعة الرهيبة في تلك اللحظة العسرة «ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ» بالصبر والثبات والتوكل على الله ولكنهم ازعجوا «وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» (11) واضطربوا اضطرابا بليغا وماج بهم الخوف موجا عظيما بسبب احاطة العدو بهم ولولا قوة إيمان حلت بهم من الله لسلموا ولكن كبير ثقتهم بالله وعظيم صدقهم بوعده أحدثا في قلوبهم السكينة وتوقع نصر الله لهم دون تفككهم لأن منهم من جاهر بما يغضب الله ورسوله وهم المشار إليهم بقوله «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ» عبد الله بن سلول ومتعب بن قشير وأضرابهم «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة لضعف إيمان وعقيدة وقلة يقين وتصديق منهم، وقالوا «ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» بالنصر على الأحزاب وبملك كسرى وقيصر واليمن «إِلَّا غُرُوراً» (12) أي إنهما غرونا بقولهم ذلك وموهوا علينا بتوسيع بلادنا لأن أحدنا الآن لا يستطيع أن يجاوز رحله «وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ» أي المنافقين ومن والاهم كأوس بن قبطي وأصحابه «يا أَهْلَ يَثْرِبَ» اسم لأرض المدينة وما حولها سميت باسم يثرب من العماليق، وقد نهى صلّى الله عليه وسلم أن تسمى المدينة بهذا الاسم لأن معناه غير لايق بها بعد أن شرفت بسيد الكائنات لأنه مأخوذ من التثريب بمعنى التقريع والتوبيخ، وسماها صلّى الله عليه وسلم طيبة لأنها كانت وخمة كثيرة الأمراض فطابت بسكنى الطيبين بها وزال عنها ما كان فيها «لا مُقامَ لَكُمْ» في هذا المكان أي محل القتال «فَارْجِعُوا» إلى منازلكم واتركوا معسكر الرسول ولا تقاتلوا معه إذ لا قبل لكم بهذه الأحزاب المحيطة بكم «وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ» من الذين مع الرسول أيضا وهم بنو حارثة وبنو سلمة «النَّبِيَّ يَقُولُونَ» ينتحلون سببا للمغادرة من موقع القتال «إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» خالية لا أحد فيها وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السرقة، فأذن لنا نذهب نحافظها، فكذبهم الله بقوله «وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» (13) من القتال وتقليل سواد المسلمين والغدر بهم «وَلَوْ دُخِلَتْ» تلك

البيوت من قبل الأحزاب «عَلَيْهِمْ» أي المحتجين المذكورين «مِنْ أَقْطارِها» أي المدينة «ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ» الرجوع إلى الكفر والارتداد عن الدين الحنيف «لَآتَوْها» حالا مسرعين لضعف إيمانهم بالله وقلة يقينهم بوعده وشكهم في كلام الرسول ولأجابوا داعي الفتنة وافتتنوا في دينهم وكفروا «وَما تَلَبَّثُوا بِها» أي الإجابة إلى داعي الفتنة ولا تفكروا ولا ترددوا «إِلَّا يَسِيراً» (14) بقدر ما يكون به إعطاء الجواب ولم يتوقفوا أو يتأخروا، لأن إيمانهم صوريا لم تنشر به قلوبهم «وَلَقَدْ كانُوا» هؤلاء الطوائف الأربعة «عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ» رؤيتهم الأحزاب وقبل غزوة الخندق على أنهم «لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ» للأعداء وقد نقضوا عهدهم هذا فهربوا وتركوا المؤمنين وأولهم بنوا حارثة الذين احتجوا بتلك الحجة الواهية «وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» (15) عنه في الآخرة أكثر مما يسأل عنه في الدنيا ويوبخ عليه فيهما. وهذه المعاهدة وقعت بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإنما أضافها الله تعالى لنفسه الكريمة، لأن معاهدة رسوله معاهدة لحضرته المقدسة، ولأن الرسول لم يعاهد إلا بأمر ربه وقد نصوا في هذه المعاهدة على عدم الفرار فنكثوا ولهذا يقول الله إذ رأوا أنهم لم يسألوا عن ميثاقهم هذا في الدنيا فإنهم لا بدّ من أن يسألوا عنه في الآخرة (قل) يا سيد الرسل لهؤلاء كلهم «لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ» إذا كان كتب عليكم «وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ» بعد فراركم هذا «إِلَّا قَلِيلًا» (16) بقية مدة آجالكم في الدنيا، ويا حبيبي «قُلْ» لهم أيضا «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً» قتلا أو غيره «أَوْ» من يمسك فضله إن «أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» نصرا أو غيره أي لا أحد يقدر على شيء من ذلك غيره «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (17) يمنعهم مما قدر عليهم، بل لا بد نائلهم قال تعالى «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ» المثبطين الناس عن نصرة الرسول «وَ» يعلم «الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ» وهم ابن سلول وأصحابه «هَلُمَّ إِلَيْنا» تعالوا نحونا واتركوا محمدا وأصحابه لأنهم مغلوبون لا محالة فلو كانوا لحما لابتلعهم أبو سفيان وأصحابه لأن محمدا وأصحابه بالنسبة إليهم كأكلة رأس، فتراهم يا حبيبي يقولون هذا القول البذيء «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ»

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 إلى 30]

أي الحرب «إِلَّا قَلِيلًا» (18) بقدر ما يرون موقعها ثم ينصرفون عنها، وهؤلاء المنافقون شديد والبخل على المؤمنين ولهذا يقول الله تعالى «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ» بأن تنصروا وتغلبوا وتغنموا، ولذلك فإنهم لا يأتون الحرب إلا إتيانا قليلا لينظروا من الغالب «فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ» من قبل العدو «رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ» في موقعها يمينا وشمالا من شدة الرعب ترى أحدهم «كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» أي مثل دوران عين المحتضر «فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ» وأمنوا لقاء العدو «سَلَقُوكُمْ» خاطبوكم مخاطبة عنيفة في مقاسمة الغنائم يقولون قاتلنا معكم وناضلنا عنكم وبنا غلبتم عدوكم «بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» سليطة ذرية تفعل بالمخاطب فعل الحديد بالرجل وتراهم «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ» أي الغنيمة يشاقون المؤمنين فيها فلا يريدون أن يتركوا شيئا إلا قاسموهم عليه وطالبوهم فيه ولو عقال بعير «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَمْ يُؤْمِنُوا» بقلوبهم، ولا عبرة بما نطقت به ألسنتهم من الإيمان لأنه رياء وخوف من أن تقتلوهم «فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» التي عملوها من جهاد وغيره «وَكانَ ذلِكَ» الإحباط وعدم انتفاعهم من أعمالهم «عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (19) هينا جدا شأنه شأن غيره، إذ لا يعسر على الله شيء، وهم عند الله كذلك لا وزن لهم ولا قيمة ولا مكانة «يَحْسَبُونَ» هؤلاء المنافقون الخاسرون «الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا» ينهزموا لشدة جبنهم ويعتقدون ثباتهم ومقاومتهم المؤمنين، مع أن هزيمتهم لا بد منها تأييدا لوعد الله الذي وعده المؤمنين على رغم أنف المنافقين والكافرين «وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ» مرة ثانية «يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ» أي يتمنون أن يكونوا في البادية ليأمنوا على أنفسهم منهم لشدة فزعهم من الموت بأن يكونوا «فِي الْأَعْرابِ» بينهم في البادية لا بالحاضرة مع أهل المدينة وتراهم عن بعد «يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ» وما آل إليه أمركم «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» (20) بما يقدمون به عذرهم وارائتهم أنفسهم للناس أنهم مع المجاهدين فيا أيها المنافقون «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» وقدوة صالحة بأن تنصروا دين الله وتعلوا كلمته وتصبروا على ما يصيبكم مثله، لا أن تتخلفوا عنه وتنخزلوا من سواده وتهربوا من الجهاد، ولكن هذه القدوة

ما أنتم لها بأهل ولا ترجى منكم لأنها لا تكون إلا «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» إيمانا صادقا وإيقانا خالصا عن نية حسنة «وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (21) في السراء والضراء عن عقيدة صالحة لا المنافقين الذين يؤمنون بألسنتهم فقط ولا يذكرون الله إلا قليلا رياء وسمعة. وبعد أن وصف الله المنافقين بما وقع منهم وبما هم عليه نعت المؤمنين بما سيصدر منهم فقال جل قوله «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» من النصر والظفر قد آن أوانه «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» بما وعدا وهذا بمقابلة قول المنافقين ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا «وَما زادَهُمْ» مجيء الأحزاب وإحاطتهم بهم وتثبيط المنافقين هزيمتهم «إِلَّا إِيماناً» بالله ورسوله «وَتَسْلِيماً» (22) لأمرهما وانتظارا لوعدهما. قال تعالى «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» من الثبات للقاء العدو عكس المنافقين إذ زادهم اللقاء جبنا وإنكارا لما وعدهم الله ورسوله وتكذيبا وجحودا، أما هؤلاء الكرام «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ» فمات شهيدا في واقعة أحد المارة وفاء بنذره وعهده وميثاقه على الاستمرار في القتال حتى النهاية «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» الشهادة، ويتوقعها باشتياق للفوز بما عند الله من الكرامة للشهداء المار ذكرهم في الآية 169 من آل عمران والآية 157 من البقرة المارتين، والأوبة بالسعادة «وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» (23) ما في وعدهم بل ثبتوا عليه وقاموا به ووقوه كاملا «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ» إذ لا حتم عليه في تعذيب الكافر ولا جزم عليه في إثابة المؤمن «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» بأن يشرح صدورهم للإيمان فيدخلهم الجنة بفضله «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولن يزال «غَفُوراً» لمن يشاء من عباده «رَحِيماً» (24) بمن شاء منهم لا قيد عليه في شيء أبدا «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ» وحنقهم وقبض صدورهم وضيق ذرعهم وانكماش وجوههم واكفهرار ألوانهم «لَمْ يَنالُوا خَيْراً» نصرا ولا ظفرا ولا غنيمة من المؤمنين البتة بل نكسوا على رؤوسهم وردوا على أعقابهم مدحورين «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» بتسليط الريح العظيمة التي لم تقاوم لأنها من غضب الله أعاذنا الله منه والجنود التي أرسلها الله على الأحزاب الغير مرثية لا نعلمها

مطلب في غزوة الخندق وما سلط فيها على الأحزاب وهزيمتهم

نحن، وإنما يعلمها الذي أرسلها وهربوا غاضبين بعضهم على بعض لما وقع بينهم من الخلاف وسوء الظن الآتي ذكره في القصة «وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا» لا يقاوم «عَزِيزاً» (25) لا يغلب ولهذا شتتهم وطردهم دون قتال. مطلب في غزوة الخندق وما سلط فيها على الأحزاب وهزيمتهم وخلاصة هذه القصة قالوا إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أمر بإجلاء بني النضير من ديارهم على أثر نقضهم العهد كما ستأتي قصتهم مفصلة أول سورة الحشر الآتية إن شاء الله، وإنما لم نذكرها في موقعها لأنها كانت قبل واقعة الأحزاب كما أشرنا إليه في الآية (7) لأن الله تعالى نوه بها في سورة الحشر لئلا يحصل التكرار الذي لا زلنا نتحاشاه، اتفق سلام بن الحقيق وحيي بن اخطب وكنانة بن الربيع وأبو عمّار الوائلي مع أبي سفيان من قريش وعيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عرب المري عن غطفان ومسعر بن رفيلة عن أشجع وحزّبوا الأحزاب وغزوا المدينة في عشرة آلاف، وتوثقوا في هذه المعاهدة على أن يستأصلوا محمدا وأصحابه، فلما بلغ الخبر حضرة الرسول أشار إلى سلمان الفارسي يحفر الخندق حول المدينة للحصار فيها، فقبل رأيه وقسم كل أربعين ذراعا على عشرة رجال وطلب المهاجرون أن يكون سلمان معهم، والأنصار كذلك، ولما لم يكن من الطرفين قال صلّى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت، فكان مع المهاجرين، لأن حضرة الرسول منهم، قال سلمان وبعد أن باشر كل يحفر سهمه ظهرت صخرة مروة صمّاء أعيتهم، فاستنجدوا برسول الله فأخذ معول سلمان وضربها ثلاث ضربات في كل ضربة يبرق منها بريق يضيء ما بين لابتي المدينة ويكبر النبي والمسلمون تكبير فتح حتى فتتها، فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط، فقال للقوم أرأيتم ما يقول سلمان، قالوا نعم، وقال سلمان إنه رأى في البرقة الأولى أن قصور الحيرة أضاءت له ومدائن كسرى، وفي الثانية قصور قيصر من أرض الروم، وفي الثالثة قصور صنعاء من اليمن، وقال صلّى الله عليه وسلم أخبرني جبريل أن أمتي ستظهر عليها الدول الثلاث المذكورة فاستبشر المسلمون وحمدوا الله تعالى، قال محمد بن اسحق لما فرغ من الخندق وصلت قريش وغطفان ومن تابعهم فنزلت بجنب أحد، وخرج رسول الله والمسلمون ونزلوا السلع وأمر

بالنساء والزراري أن يرفعوا إلى الأطام، وذهب حيي بن اخطب إلى كعب بن أسعد القرظي وأفنعه بنقض العهد مع رسول الله على أنه وقريشا إذا لم يستأصلوا محمدا واتباعه أن يكون معه، فرضي وبلغ حضرة الرسول ذلك فأرسل سعد بن معاذ يستقصي خبر نقض العهد، فذهب فوجده كما سمع، فقال صلّى الله عليه وسلم الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين بالنصر والغلبة والظفر، ثم لما رأوا كثرة الأعداء وانضمام المعاهدين إليهم واحاطتهم بهم اشتد الخوف، إذ ان العدو تقرب منهم وحاصرهم من فوق ومن تحت كما ذكر الله ولولا الخندق لا قتحموهم، ولكن من كان الله وليه لا يتسلط عليه أحد. ثم نجم النفاق وجاهر به معقب بن بشير أخو بني عمرو بن عوف قائلا أن محمدا يعدنا بكسرى وقيصر واليمن وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط، يندد بما قاله سلمان رضي الله عنه آنفا من رؤيته في البريق وما تفضل به حضرة الرسول من أن أمته ستظهر عليهم. وقال اويس بن قبطي من بني حارثة أن بيوتنا عورة، فأنزل الله فيهما (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الآيتين المارتين، ودام الحصار بضعا وعشرين ليلة، وعظم البلاء على المسلمين واختلّت داخليتهم بالمنافقين الذين يلقون بالأراجيف بين الناس ويعظمون الأعداء ويقللون المؤمنين ويعرضون بوعد الله ورسوله، ولما رأى حضرة الرسول ذلك أراد أن يعطي ثلث عمارة المدينة إلى قائدي غطفان عيينة والحارث ويرجعا عن مؤازرة قريش إزالة لما رأى من ضجر المؤمنين وخوفهم واستبطائهم نصر الله وقد ذلوا من عدوهم وإذا ذل العرب ذل الإسلام كله، وقد خاف صلّى الله عليه وسلم من التفرقة الناشئة عن احساسهم بالضعف والاختلاف الذي يؤدي إلى التباغض والتحاسد والاستنثار، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا له إذا كان الله أمرك بهذا فلا بد منه، وإلا فقبل أن نتشرف بالإسلام ما كانوا يطمعون بشجرة واحدة فكيف بعد تشرفنا به والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فقال صلّى الله عليه وسلم لا والله لما يأمرني الله وإنما وعدني النصر والظفر إلا أني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحد وقد رأيتم ما فعل المنافقون، فأردت كسر شوكتهم، واجمعوا على مواصلة الحصار وعدم البحث فيما ذكره حضرة الرسول، ثم أن عمرو بن ود العامري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن وهب ت (30)

ونوفل بن عبد الله ومرداس تلبسوا للقتال وهيجوا غيرهم وأرادوا اقتحام المدينة، فلما رأوا الخندق قالوا هذه مكيدة لم تعرفها العرب، وبعد أن تراشقوا بالنبل اقتحموا الخندق بخيولهم، فقام صلّى الله عليه وسلم ونفر من المسلمين وقال علي لعمرو انك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل الى خصلتين إلا أخذت إحداهما، قال أجل، قال إني أدعوك إلى الإسلام، قال لا، قال أدعوك للنزال، قال يا ابن أخي لا أحب قتلك، فقال علي والله اني أحب قتلك، فقال إذا أنازلك، وعظم ذلك على المسلمين لما يعلمون من شدة بطش عدو الله عمرو وخوفهم على عليّ، فبرز له رضي الله عنه وقالوا خرج الإسلام كله إلى الكفر كله، فوفّق الله عليا وقتل عمرا ومعه رجلان قتلهما أيضا وهزم بقية أصحابه، وبقي جسد نوفل بن عبد الله بالخندق، فسأل قومه الرسول أن يبيعهم جثته، فسمح لهم بها مجانا في ساعة هم أحوج فيها لكل شيء، ولا جرم فهو معدن السماح وأصل الفضل، وجرح سعد بن معاذ وصار يقول والحربة في يده لا بأس بالموت إذا حان الأجل، وقال اللهم إن أبقيت شيئا من عرب قريش فأبقني أجاهد من آذى رسولك، وإلا فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني في قريظة، قال محمد بن اسحق كانت صفية بنت عبد المطلب في قارع حصن حسان بن ثابت وكان مع النساء والصبيان، قالت فمرّ بنا يهودي، فقلت يا حسان لعله يدل على عورتنا فدونك اقتله، قال لقد عرفت ما أنا لذلك، قالت فاعتمرت وأخذت عمودا فنزلت فقتلته، قالت فقلت يا حسان تعال فاسلبه لأنه رجل، قال مالي بسلبه حاجة، وذلك لشدة جبنه خشي أن يحيا أن يكون به رمق حياة فيقاومه، وما أشبه جبن حسان بجبن أبي دلامة إذ يقول: وفي الهيجاء ما جرّبت نفسي ... ولكن في الهزيمة كالغزال وقال آخر في غيره: إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث شديد الناب عند الثرائد ثم تظاهرت الأعداء في العداء واشتد الخوف وكثر الرعب والمنافقون يرجفون في الناس ويتسللون ورسول الله ينتظر وعد ربه عز وجل، فجاء نعيم بن مسعود ابن عامر من بني غطفان، وهذا غير نعيم المار ذكره في الآية 173 من سورة

آل عمران المارة وقد حان الأجل المقدر لنصرة الرسول وإجابة طلبه وتنفيذ وعده فسخر نعيما المذكور بما ألقاه الله في قلبه ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وقال يا رسول الله أسلمت وقومي لا يعلمون، فأمرني بما شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم خذّل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة، فذهب إلى بني قريظة قال لهم تعرفون ودي لكم خاصة، قالوا لا نتهمك، قال ولكن اكتموا علي قولي، قالوا نعم، قال إن قريشا وغطفان الذين ظاهرتموهم على قتال محمد ليسوا كهيئتكم لأن البلد بلدكم فيه أموالكم ونساؤكم لا يمكنكم النحول منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان إن لم يصيبوا شيئا لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل ولا طاقة لكم به، فالرأي أن لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن من أشرافهم على أن يقاتلوا معكم حتى تناجزوا محمدا، قالوا رأي نافع، ثم تركهم وذهب ليلته إلى قريش فقال لهم قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت أن أنصحكم به فاكتموا عليّ، قالوا نفعل، قال إن معشر يهود قريظة ندموا وأرسلوا إلى محمد بأنه هل يرضيك أن نأخذ رجالا من أشراف قريش وغطفان ونرسلهم لك، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي، فرضي منهم ذلك، فاجمعوا أمركم وانظروا ما ترون، فقد أعذر من أنذر، وقد أديت ما علي لكم، ثم تركهم وذهب إلى غطفان وقال لهم أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، قالوا صدقت، قال فاكتموا علي، قالوا نفعل، فقال لهم ما قال لقريش وحذرهم أن يبعثوا رهائن إلى اليهود، فلما أيقنوا ما أرشدهم إليه نعيم ونصحهم به بعث أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقولون لهم إنا لسنا بدار إقامة، وقد هلك الخف والحافر، فاستعدوا للقتال حتى نتاجز محمدا، فارسلوا إليهم أن اليوم سبت لا يعمل فيه شيء على أنا لا نقاتل محمدا بعده حتى تعطونا رهائن من كبار رجالكم لأننا نخشى ان فرستكم الحرب تسيروا لبلادكم وتتركونا، فرجع الرسل وأخبروا قومهم، فقالوا كلهم إن ما أخبر به نعيم لحق، فأرسلوا خبرا لبني قريظة انا لا نرسل لكم أحدا فإن كنتم تريدون القتال قاتلوا وإلا فانظروا ما ترون، فقال بنو قريظة بعضهم لبعض إن ما ذكره نعيم لصحيح وهو حق ونصح، وخذل

مطلب لا يسمى ما وقع من حضرة الرسول وما في بعض آيات القرآن شعرا لفقد شروطه وقصة بني قريظة:

الله بينهم بما ألهم نعيما، وأرسل عليهم ريحا شديدة، وكانت الليالي شاتية باردة جدا، فجعلت تكفأ القدور وتطرح الأواني، وأرسل الله عليهم جنودا من جنوده تقيم القاعد وتقعد القائم فاختل نظامهم وتفرقت آراءهم، وأوقع الله في قلوبهم الرعب والحيرة، ولما بلغ رسول الله ما فعل نعيم وما وقع بينهم من التخاذل وسوء ظن بعضهم ببعض أرسل حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم وقال له لا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي ودعى له، قال حذيفة فأخذت سهمي وانطلقت، فإذا الريح وجنود الله التي لم تر تفعل بهم فعلا عجيبا. فلا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا خباء، وإذا أبو سفيان قاعدا، ولولا وصية رسول الله لقتلته، وإذا هو قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو، فأخذت أنا بيد رجل، فقال لي من أنت قلت سبحان الله أما تعرفني؟ فسكت، فقال أبو سفيان يا قريش ما أصبحتم بدار إقامة وقد أخلفتنا بنو قريظة وهلك الخف والحافر وألقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا إني مرتحل، وقام وركب جمله وهو معقول فأطلق عقاله وهو راكب، فسمعت غطفان بما فعلت قريش ففعلت مثلها، وثاروا ثورة رجل واحد راجعين إلى بلادهم، فرجعت أبشّر رسول الله، فصار يضحك، وفشا خبرهم وأعز الله رسوله صلّى الله عليه وسلم وأخزى أعداءه. مطلب لا يسمى ما وقع من حضرة الرسول وما في بعض آيات القرآن شعرا لفقد شروطه وقصة بني قريظة: روي البخاري ومسلم عن أنس قال: خرج رسول الله إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحقرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له بشوق ورغبة: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما حيينا أبدا قال البراء بن عازب كان النبي ينقل التراب معنا ويقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لا قينا هذا، وما وقع منه صلّى الله عليه وسلم من هذا ومن قوله في غير هذا الموضع: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب لا يسمى شعرا وإن كان على وزنه لأنه غير مقصود وهو من قسم الرجز الذي لا يسمى شعرا كما ألمعنا إليه في الآية 69 من سورة يس والآية 227 من سورة الشعراء ج 1، وكذلك لا يسمى ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى (وجفان كالخوابي وقدور راسيات) وقوله (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) وقوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وقوله (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) وغيره مما هو بيت كامل أو شطر بيت كقوله (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ) وقوله (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) وغير ذلك فلا يسمى شعرا للأسباب المبينة أعلاه وبما فيها، وإن زعموا ما زعموا. هذا ما فعله الله بالأحزاب وأقرّ به عين رسوله والأصحاب، وأخزى أعداءه، وانظر فعله بالذين والوهم في قوله تعالى «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» وهم بنو قريظة الخائنون الناكثون العهد في حالة العسرة «مِنْ صَياصِيهِمْ» حصونهم ومعاقلهم «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» إذ تركهم حلفاؤهم وذهبوا، ثم بين الله لرسوله كيف يفعل بهم بقوله «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» أي الرجال منهم «وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» (26) النساء والذراري، ثم أباح لهم جميع ما يملكون بقوله تعالى «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها» وهي أراضي خيبر «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (27) لا يعجزه الأحزاب ولا غيرهم. وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أنه لما كان الظهر من صبيحة هزيمة الأحزاب في ذي القعدة سنة خمس، نادى منادي رسول الله أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق ووضع سلاحه واغتسل أتاه جبريل عليه السلام فقال قد وضعت السلاح، والله ما وضعته، أخرج

إليهم، قال أين؟ قال هاهنا وأشار إلى بني قريظة. وروى البخاري عن أنس قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل حين ذهب ورسول الله إلى بني قريظة، وقيل جاء جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم في بيت زوجته زينب بنت جحش وقال له قد وضعت السلاح؟ قال نعم، قال جبريل عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين يوما إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا كرم الله وجهه أن يتقدم بالراية حتى دنوا حصونهم، فقال رسول الله قد أخزاكم الله يا اخوان القردة وأنزل بكم نقمته، قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا، وإنما قال لهم ذلك لأن عليّا كرم الله وجهه لما تقدم سمع منهم قولا خبيثا في حق الرسول، فأخبره، وقال له لا تدن من هؤلاء الخبثاء، فقال لعلك سمعت منهم لي أذى قال نعم، فقال ما قال، ثم قال لأصحابه الذين هم (بالصورين) اسم موقع هناك حين مرّ عليهم هل مرّ بكم أحد، قالوا رأينا دحية بن خليفة، فعرف أنه جبريل ونزل صلّى الله عليه وسلم على بئر من آبارهم وتلاحق بعض أصحابه وقت العشاء وصلوا العصر هناك اتباعا لأمره صلّى الله عليه وسلم ولم يعب من نأخر أو يعنفه، وحاصرهم وكان حي بن أخطب وفتى لرئيسهم كعب بن أسد ودخل معه الحصن إنقاذا لعهده المار ذكره في الآية 25 لقاء نقضه عهد رسول الله، وعرفوا أن الرسول لم ينصرف عنهم حتى يناجزهم، فقام فيهم كعب وقال يا معشر يهود هل تتبعون هذا الرجل فتؤمنون به وهو نبي مرسل تجدونه في كتابكم وتأمنون على أموالكم وأولادكم ونسائكم ودياركم؟ قالوا لا، قال تقبلون نسائكم ورجالكم وأولادكم يخرجون لقتاله غير تاركين وراءكم ما يهمكم؟ قالوا لا، قال هذه ليلة السبت فعسى أن يكون محمدا وأصحابه أمنوا فانزلوا لعلنا نصيبهم على غرة، قالوا لا تفسد سبتنا فيصيبنا المسخ، قال ما يأت أحد منكم ليلته حازما. ثم طلبوا من رسول الله أن يرسل إليهم أبا لبابة ليستشيروا برأيه، فأرسله، وقد ذكرنا قصته مفصلة في الآية 27 من سورة الأنفال المارة فراجعها تعرف مزية الإيمان وسجية أهله. ثم جاء الأوس إلى الرسول وقالوا إن بني قريظة موالينا وبالأمس حاصرت بني قينقاع فوهبتهم إلى عبد الله بن سلول الخزرجي لأنهم مواليهم، قال يا معشر

الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا بلى، قال فذاك إلى سعد ابن معاذ، فرضوا وذهبوا إليه وأتوا به من خيمة رفيدة التي كانت تداوي المرضى لأنه لم يشف من جرحه الذي أصابه في وقعة الخندق حينما قتل علي ابن ود العامري المار ذكره في الآية 25، فلما وصل قال صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم، فقاموا إليه وأنزلوه، وقالوا له يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فإن رسول الله حكم فيهم، قال قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال لهم عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا نعم، وقال صلّى الله عليه وسلم نعم، قال إني أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء، فقال صلّى الله عليه وسلم لقد حكمت بحكم الله، يعني الآيتين 26- 27 المارتين اللتين نزلتا فيهم، وإنما حكم بهذا الحكم القاسي برأيه دون مشورة أحد وصوبه حضرة الرسول لأنهم نقضوا عهد رسول الله في وقعة الخندق المارة في حالة هي أشد الأحوال على المسلمين، وأرسل سعد إلى خيمته وبسببهم نجم النفاق وألقى الخوف في قلوب الناس أجمعين. وهو حكم موافق لما في علم الله أزلا وألقاه على قلب سعد، كما ألقى في قلوبهم الرضاء بحكمه، فقتلوا الرجال وهم ستمائة، وقيل سبعمائة، وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذراري والنساء ما بين السبعمائة والألف، وقسم أيضا الأموال بين المسلمين. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده، وروى البخاري عن سلمان بن مسروق قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ» متعة الطلاق «وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» (28) من غير إضرار بالإمساك إن كنتن لا تردن البقاء على حالتكنّ هذه معي على ما هي عليه من الضيق والضنك «وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ» فتصبرن على ما أنتنّ عليه ولا تكلفني ما ليس عندي فتكونن من المحسنات «فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» (29) نزلت هذه الآية لما سألن رسول الله زيادة نفقتهن وآذينه بغيره بعضهن هجرهن وآلى أن لا يقربهن شهرا. روى مسلم

مطلب في تخيير المرأة ونساء الرسول صلى الله عليه وسلم وتبرج النساء وتسترهن

عن جابر بن عبد الله قال دخل ابو بكر يستأذن على رسول الله فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم اقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد رسول الله جالسا وحوله نساؤه واجما مهتما ساكنا، فقال لأقولن شيئا اضحك به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله لقد وأتيت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأ عنقها، فضحك رسول الله فقال هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام ابو بكر إلى عائشة فوجا عنقها، وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها، أي دقها، وكلاهما يقول تسألن رسول الله بما ليس عنده، قلن والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا وتسعة وعشرين يوما، ولما نزلت هذه الآية بدأ بعائشة فقال إني أريد أن اعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حيث تستشيري أبويك، قالت وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت أفيك يا رسول الله استشير أبوي؟ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة واسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، بل بعثني معلما مبشرا. الحكم الشرعي إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت نفسها يقع عليها طلقة بائنة، وإذا اختارت زوجها لا يقع عليها شيء ومن هذا القبيل التخيير الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، فلو أنهن اخترن الدنيا لفارقهن رسول الله، ولكن هنّ لكمال عقلهن لم يخترن إلا رسول الله، فلم يفارقهن، وكذلك إذا جعل أمرها بيدها وطلقت نفسها يقع عليها طلقة بائنة فقط، وكذلك إذا تزوجها على أنه إذا تزوج عليها تكون طالقة فتزوج طلقت طلقة بائنة، وكذلك إذا جعل أمرها بيدها في صك العقد فلها أن تختار الطلاق متى شاءت إذا لم يقيد بقيد، وإذا قيد وجب اتباعه. مطلب في تخيير المرأة ونساء الرسول صلّى الله عليه وسلم وتبرج النساء وتسترهن روى البخاري ومسلم عن مسروق قال ما أبالي خيّرت امرأتي واحدة أو مئة أو ألفا بعد أن تختارني، ولقد سألت عائشة فقالت خيرنا رسول الله فما كان طلاقا، وفي رواية فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا، وعليه فلا وجه لقول من قال إذا اختارت نفسها يقع طلاق ثلاثا وإذا اختارت زوجها يقع واحدة، أما عدم قربانهن شهرا

فإنه صلّى الله عليه وسلم آلى على ذلك وبرّ بيمينه. روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم اقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا وكن خمسا من قريش عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أمية وسودة بنت زمعة وأربعا غير قرشيات زينب بنت جحش الأسدي وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حي بن اخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وكلهن من لم يلدن له شيئا، وكل أولاده من خديجة رضي الله عنها التي كانت منفردة عنده حتى توفيت، وهي أول امرأة تزوجها ولم يتزوج عليها عدا ابراهيم، فإنه من الجارية مارية القبطية التي أهداها له عظيم القبط مع بغلة وطبيب فردّ الطبيب وقبلها والبغلة، فقيل له إنكم في بادية وتحتاجون للطبيب أكثر من غيركم، فقال لا حاجة لنا به إنا قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لم نشبع. أي أن الطبيب يحتاج له من يقترف ذلك، ولأن المرض يكون من الأكل والشرب والحر والقر قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت لما مضى تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي الرسول صلّى الله عليه وسلم فقال (أي عروة قالت عائشة) تراني يا رسول الله قلت أقسمت أن لا تدخل شهرا وانك دخلت في تسع وعشرين أعدهن؟ قال الشهر تسع وعشرون. وسيأتي بحث الإيلاء أول سورة المجادلة إن شاء الله. قال تعالى «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ» مطلق معصية من نشوز وغيره وإنما سميت معصية الزوج فاحشة من الزوجات هنا بالنسبة لمقام حضرة الرسول لأن كل ما يقع من خلافه فهو عظيم عند الله بالنسبة لمقام رسوله، وإلا فإن الله تعالى صان نساء الأنبياء عن كل فاحشة بمعناها الحقيقي الظاهري، وهذا جار مجرى قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية 66 من سورة الزمر ج 2، والشرك في حقه محال، لذلك صرف المفسرون الخطاب لغيره صلّى الله عليه وسلم، أو أنه إليه والمراد به غيره، ثم وصف تلك الفاحشة بأنها «مُبَيِّنَةٍ» ظاهرة معلومة «يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» وهذا أيضا بالنسبة لمقامه وشرفهن على غيرهن «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (30) كغيره من أفعاله إذ لا يحول دونه أعوان ولا شفعاء ولا اخوان ولا أولياء ولا فرق فيه عنده بين الشريف والوضيع، فكونهن تحت رسوله لا يدفع عنهن

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 إلى 40]

العذاب، كما أن صغر ذنوبهن لا يكون سببا في تقليل العقوبة عنهن أو تخفيفها، لأن الله تعالى له أن يعاقب عقابا كبيرا على ذنب صغير عندنا معشر أهل السنة والجماعة، وله أن يعفو عن أكبر ذنب لأنه لا يسأل عما يفعل «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً» في طاعته وتسليمها لأمر الرسول «نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ» الأول على الطاعة والثاني لشرف اقترانها بحضرة الرسول أي بنسبة العذاب على النشوز والمخالفة «وَأَعْتَدْنا لَها» زيادة على ذلك «رِزْقاً كَرِيماً» (31) في الجنة ورضوانا من الله «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ» مخالفة أمر الرسول لأن قدر كن عنده أعظم من غيركن «فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ» لأحد غيره بأن ترققن أصواتكن وتعنجن إذا كلمكن أحد أو سألكن من شيء أو حاجة «فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» من نفاق وريبة بل اغلظن له بالقول «وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (32) ملؤه الأدب والوقار حسنا في معناه خشنا في مبناه مقتصرا على الجواب الكافي لأن الزيادة ممنوعة كما أن اللين ممنوع، وإنما أمرهن الله بهذا لئلا ينسبن لقلة الأدب وهن منبعه وعنهن يؤخذ «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» لا تبارحنها أبدا إلا لحاجة ماسة لأنه أوقركن «وَلا تَبَرَّجْنَ» فتظهرن محاسن أعضائكن وتبرزن معالم زينتكن وتلبسن ما يمثل أعضاءكن وتتبخترن في مشيتكن «تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» مثل نسائهم إذ كنّ يفعلن ذلك كله قبل الإسلام وقد لا يزيد ذلك على التبرج الموجود الآن في زماننا الذي حلّ بنا منذ الاحتلال الإفرنسي إذ بلغ مبلغ الخلاعة، أجارنا الله وحفظ الإسلام منه، لأنه أدى لإفساد الأخلاق والآداب، وفكك عرى الزوجية عند بعض الجاهلين ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان زمن النمروذ الجبار على زمن إبراهيم عليه السلام تلبس المرأة الدرع (شلحة) موشى باللؤلؤ تمشي به وسط الطريق وتعرض نفسها للرجال، وكان زمن داود عليه السلام تلبس المرأة قميصا موشى بالدر غير مخيط الجانبين، فإذا مشت يرى منها كل شيء، وما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كذلك حتى ظهر الإسلام، ومنع ذلك كله، وهذا في غير المتدينات في الأزمان كلها، أما المندينات فلا يرى منهن حتى أطراف أناملهن، وقيل في مثلهم ممّن هن على شاكلتهن:

يغطين أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنح الليل متّزرات ومع الأسف قد عادت جاهلية الآن مثل أو أعظم من تلك في المتهتكات إذ يمشين الآن بالشلحة التي لا تغطي كتفيها وركبتيها وقد تمشي بلا سراويل عارية الصدر والكتفين والأرجل حتى الركبتين أما في محل الرقص واللعب على ما يقولون فيكن مجردات عدا ما يستر السوءتين فقط، وهذا لقبحهما لا لشيء آخر ليجذبن قلوب السفهاء إليهما والمتشبهات بهن اللاتي يزعمن أنهن متحجبات يلبسن السراويل بمقدار الشبر ولباسا يمثل أعضاءهن لا يصل إلى ركبتهن وبعضهن بلا جورب ويصبغن أيديهن وأرجلهن وأوجههن، ومنهن من يغطين وجوههن بشيء رقيق يغطي ما فيهن مما يحببن ستره وكتمه كالكف والنعش ويزيد في حسنهن، فقد نكصنا على أعقابنا، وقد نهانا رسول الله أن نرجع القهقرى. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلي رجال منكم، حتى إذا هويت إليهم لأنالهم اختلجوا دوني، فأقول أي رب أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. ورويا عن أنس مثله بزيادة فأقول سحقا لمن يعدل بعدي. ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة أنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. وجاء عنه صلّى الله عليه وسلم إذا تعطرت المرأة فمرت بالقوم ليشموا ريحها فهي زانية. فيا أيها الأولياء اتقوا الله وحافظوا على أعراضكم وامنعوا نساءكم مما نهى الله عنه لئلا تكونوا في عداد من يعرض عنهم حضرة الرسول حين يرد الناس حوضه، كما في الأحاديث الصحيحة. واعلموا أنكم مؤاخذون عند الله لأن سكوتكم عليهن رضى، وقد يعاقب الراضي كالفاعل، راجع الآية 38 من سورة المائدة الآتية، لأن من المنكر عدم النهي عن المنكر. قال تعالى «وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فيما يريدانه منكن «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» والرجس يشمل أنواع الإثم كلها يا أهل بيت محمد، ويا آل محمد، ويا أمة محمد، ونصب أهل هنا على النداء أحسن وأليق منه على الاختصاص لزيادة الشرف بندائهم من قبل ذي الجلال والإكرام الدال على التعظيم والتبجيل. ثم أكد انمحاق الرجس عنهم ومحوه بالكلية بقوله «وَيُطَهِّرَكُمْ

تَطْهِيراً» (33) رجالا ونساء ولذلك ذكر الضمير، وتدل هذه الآية على أن نسائه من أهل بيته وهو كذلك، ويراد بأهل البيت عند الإطلاق آله صلّى الله عليه وسلم وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس، وتشير الأوامر أوائل هذه الآية إلى شمول نساء المؤمنين كافة لأن الأمر بالصلاة والزكاة والطاعة لا يختص بنساء النبي فقط بل يعم غيرهن من المسلمات أجمع، أما آخرها فهو خاص بنساء النبي وكذلك قوله تعالى «وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ» والنبوية وكل ما تسمعنه من حضرة الرسول وترونه من أفعاله مما يقتدى بهما لأنه من الحكمة «إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» (34) وبعد أن أنزل الله هذه الآيات في نساء الرسول قال نساء المؤمنين ما أنزل الله فينا شيئا لأن الآية 195 في آل عمران كانت في حق الهجرة يردن عدم دخولهن في هذه الآية، فأنزل الله جل إنزاله «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ» الذين سلم الناس من لسانهم وأيديهم وسلمت أشخاصهم من العيوب الحسية والمعنوية «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وإنما ذكر الإسلام والإيمان لأنهما الأصل لمادة المدح الدنيوي والأخروي «وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ» المتواضعين لله الخاضعين لأوامره والطائعين عن رغبته «وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ» بأقوالهم وأفعالهم ونياتهم، وإنما وصفهم الله تعالى بالطاعة والصدق لأنهما عنصر الإسلام والإيمان وملاك مراد الأزواج «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ» على المصائب كافة، فلا يجزعن ولا يشكون بل يفوضون أمرهم إلى الله. والصبر نصف الإيمان وقد ذكره الله في القرآن ما يزيد على تسعين مرة لعظمه وعظم المتحلين به عنده، «وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ» المستكينات الطائعات المتذللات الساكنات. واعلم أن ملاك الخضوع يكون في الصوت والبصر والجوارح وإنما وصفهن بالصبر والخضوع لأنهما من متممات الإيمان والإسلام، ومن دواعي السرور للأزواج «وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ» بما يفضل عن الحاجة وبما يؤثر على النفس «والصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ» الفرض والنفل وهاتان الصفتان من أركان قوام الهيئة الاجتماعية وأركان الدين القويم «وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ» من كل

سوء «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ» لأن ذكر الله ينور القلب ويحمي من الوقوع في المنكر ودوامه يوجب التيقظ والمحافظة على هذه الأوصاف العشرة التي ما بعدها وصف، فهي جامعة لمحاسن الأخلاق والآداب وكمال أركان الدين ونهايته مع الله والناس أجمعين، وعنايته في العطف على الفقراء والأقارب والمساكين، وهؤلاء الذين يتصفون بهذه الأوصاف المزدوجة المحافظون عليها «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً» سترا لذنوبهم وعفوا عن عيوبهم المتقدمة والمتخللة بينها، فلا يطلع عليها أحدا في الدنيا «وَأَجْراً عَظِيماً» (35) في الآخرة راجع الآية 59 الآتية، ولما أراد صلّى الله عليه وسلم زواج بنت عمته زينب بنت جحش الأسدية لمولاه زيد المار ذكره في الآية 4 إذ بين للناس أنه ليس بغلامه وكان أخوها عبد الله وأمهما أمية بنت عبد المطلب كرها زواجها له لأنه شهر بأنه عبد وكرهت هي ذلك أيضا وكانت حديدة المزاج، فأنزل الله تعالى «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» بل يكون لله ورسوله فقط لأن مخالفتهما عصيان «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» (36) فرضوا كلهم تسليما لأمر الله ورسوله وزوجها منه على ستين درهما وعشرة دنانير وخمارا ودرع وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر، لأنه في الحقيقة ليس بعبد كما مرت الإشارة إليه في الآية المذكورة آنفا، وإلا لما زوّجها إليه صلّى الله عليه وسلم وهي بنت عمته ومن سنته الكفاءة بين الزوجين، ثم ألقى الله كراهتها في نفس زيد بسبب تعاظمها عليه وتباهيها بشرفها ولما تعلم عنه أنه كان خادما وصارت لا تحترمه ولا توقره بلسانها، فذكر ذلك لحضرة الرسول مرارا وهو يأمره بالصبر عليها علتها تتبدل إلى أحسن وهي لا تزداد إلا عدم مبالاة به، فقال يا رسول الله لا بد لي من طلاقها، فقال له هل رابك منها شيء؟ قال لا والله وإنما ما ذكرت لك من أذيتي وإهانتي بتكابرها علي، فأمره بإمساكها أولا وثانيا وثالثا وهو يصبر معها على مضض لما هو عليه من عزة النفس والمروءة والشهامة ويخشى غضب الرسول إن طلقها، ولم يزل يراجع الرسول حتى خيره بطلاقها وإمساكها، فطلقها، وكان الله أعلم رسوله بأنها ستكون

مطلب زواج حضرة الرسول بمطلقة زيد، وكونه خاتم الأنبياء، والطلاق قبل الدخول:

بعد من أزواجه وان زيدا يتزوجها ويطلقها، فعاتب الله نبيه على إلحاحه على زيد بإمساكها مع علمه بما يئول من حالها إليه وأنه مطلقها لا محالة، فأنزل جل إنزاله «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» بالإسلام وملازمتك «وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» بالعتق والزواج من ابنة عمتك «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ» فيها ولا تفارقها واصبر على أذاها وتمنّيه بتبدل حالها معه «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ» أيها الرسول ما تعلم من حتم طلاقها منه وزواجها منك بإخبارنا إياك واعتقادك بوقوعه حتما وتريد أن تكتم «مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» للناس ومظهرة علنا لأن الزواج ليس بالأمر الذي يكتم «وَتَخْشَى النَّاسَ» يا حبيبي من أن يقولوا تزوج زوجة من تبناه وقد أخبرناك بأن المتبنى ليس بابن راجع الآية الرابعة المذكورة آنفا «وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» من الناس إن كنت ترى أن ذلك مما يخشى والخوف نتيجة العلم، قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 28 من سورة فاطر في ج 1 وفي تخصيص الخشية بهم دليل على اعتقاد الأمانة بهم، فعلى الأمة أن يأخذوا بأقوالهم ويعتقدوا فيهم بأنهم لا يبلغونهم شيئا إلا عن الله ورسوله وليس عليهم أن يحاجوهم ويطلبوا منهم الدليل أو أنهم يقولون لهم لم لا تفعلوا أنتم ما تأمرون به راجع الآية 105 من آل عمران المارة والآية 44 من البقرة أيضا ترى ما تقر به عينك ويغنيك عن غيره، أي ان هذا الذي تخشاه، هو حلال مطلق لا عيب فيه ولا استحياء. مطلب زواج حضرة الرسول بمطلقة زيد، وكونه خاتم الأنبياء، والطلاق قبل الدخول: قال تعالى «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً» ولم يبق له بها أرب وقد طابت نفسه بطلاقها للأسباب المتقدمة وقد طلقها وانقضت عدتها «زَوَّجْناكَها» يا حبيبنا حسبما وعدناك قبلا، قالوا فصارت تفتخر على نساء الرسول بأن الله هو الذي زوجها من رسوله وهن زوجهن له أولياؤهن، وأن السفير بينهما جبريل عليه السلام، والسفير بينهن وبين الرسول في أمر زواجهن من آحاد الناس، وأنها بنت عمته، ولأنه لم يولم على امرأة ما أولمه عليها. روى البخاري ومسلم عن

أنس قال ما أولم النبي صلّى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولمه على زينب أولم بشاة. وفي رواية أكثر وأفضل ما أولم على زينب. قال ثابت بم أولم؟ قال أطعمهم خبزا ولحما، حتى تركوه زوجه الله امرأة الرجل المعروف بأنه عبده وأنه تبناه أخيرا. «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» الوطر إدراك الحاجة وبلوغ المراد فإذا قضى الرجل نهمته من شيء له همة فيه قالوا قضى وطره منه، وهذا مقيد بشرط قضاء الوطر، فلا يجوز إجبار العبد على ترك زوجته لمولاه أو لغيره وكذلك الحر «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ» في هذه الحادثة كما هو في غيرها «مَفْعُولًا» (37) ماضيا نافذا لا محالة. هذا هو الواقع في هذه القصة، ومن قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رآها وهي عند زيد فأعجبته وتمنى طلاقها منه وزواجها به لا صحة له ولا يليق بمقامه الكريم وعصمة الأنبياء ومنصبهم الشريف، كيف وهو الذي زوجه إياها وهي بنت عمته ولا تنحجب عنه لا هي ولا غيرها، وما هذا القول إلا جرأة عظيمة وفرية كبيرة وبهت محض على حضرة الرسول وقلة معرفة بذاته الجليلة ونفسه الطاهرة وجهل بحكمة التشريع المتقدمة التي تضمنتها الآية 37، ألا فليحذر الخائضون في هذا من غضب الله ونقمته، على أن الله تعالى بسبب تواري حضرة الرسول عن التصريح بما أخبره قد أنبه بهذه الآية، ولهذا قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: لو أخفى رسول الله شيئا من الوحي لأخفى هذه الآية لما فيها من معنى التكدير لحضرته صلّى الله عليه وسلم ولكنه أمين الله في سمواته وأرضه، فويل للقاسية قلوبهم من عدم تصديقه بما جاء به وأخبر عن ربه عز وجل وبما يتكلم به. قال تعالى «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ» جناح وإثم أو مانع ما «فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» وأحله وأباحه من نكاح زينب وتعدد الزوجات لكون هذا «سُنَّةَ اللَّهِ فِي» الأنبياء «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» محمد لأنهم كانوا لا يرون بأسا من الإقدام على ما أباحه الله لهم ووسعه عليهم من النكاح وغيره، وقد كان لداود عليه السلام مئة امرأة وثلاثمئة سرية ولسليمان ثلاثمئة حرة وسبعمئة سرية ولا شك أن لهذا التعدد في حيته حكما لسنا في معرض إيضاحها «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» (38) بزمان ومكان مثبتا واجب

الوقوع فيهما حتما، ثم أثنى الله تعالى على الأنبياء الذين خلوا قبل محمد فقال جل قوله «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ» بأوامره ونواهيه إلى الأمم كما أمر «وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ» وحده ولا يلتفتون إلى تقول الناس ولومهم فيما يفعلون بإذن ربهم «وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» (39) لخلقه على خلقه ويكفيهم أن يحصروا مخافتهم منه فيه، ثم انه تعالى نفى عن حبيبه مادة التبني بالكلية بصورة أوضح، لأن الآية الأولى عدد 4 المارة عامة فيه وفي غيره على طريقة التخصيص بعد التعميم بقوله «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» أيها الناس لا زيد ولا غيره ليثبت حرمة تزويجه بزوجة زيد «وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ» الذي يجب عليكم توقيره واحترامه أكثر من آبائكم لأن كل رسول أب عام لأمته ومرب لأرواحها «وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» ولذلك لم يبق له ولد ليبلغ مبلغ الرجال، لأن الولد إذا لم يكن في درجة أبيه لا فخر له فيه وقد حكم الله بأن لا نبي من بعده «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (40) قبل وقوعه لأنه مدون في أزله، وأن عيسى وإن كان ينزل بعده فإنه يعمل بشريعته ويصلي إلى قبلته، وقد تنبّأ قبله فلا يقال إنه جاء بعده. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له ويقولون هتلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين. وعن جابر مثله وفيه جئت فختمت الأنبياء. ورويا عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله الكفر بي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب والعاقب ليس بعده نبي، وقد سماه الله رءوفا رحيما. روى مسلم عن أبي موسى قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه بأسماء فقال أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفى أي المولى الذاهب المتبع لمن قبله والآخر وأنا الماحي ونبي التوبة ونبي الرحمة. قال حسان بن ثابت: ألم تر أن الله أرسل عبده ... ببرهانه والله أعلى وأمجد أغرّ عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 إلى 50]

وشق له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد هذا وما جاء عن الأحمديين بأن خاتم النبيين ليس المراد منه أن لا نبي بعده وإنما هو معنى الكمال قول لا حقيقة له كسائر أقوالهم بحق عيسى عليه السلام وان له خليفة عندهم وأنه سيظهر بدلا منه ويقوم بما يقوم به، وينكرون رفعه إلى السماء ويؤولون الرفع على خلاف ما جاء في القرآن العظيم، وهذا كله بهت وزور وافتراء لا يلتفت إليه إلا من هو على شاكلتهم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً» (41) لا نهاية له حتى الموت لأن كل عبادة لها حد ويعذر أهلها بتركها عند الضرورة إلا الذكر، إذ يجب على العبد ألا يفارقه ما دام في قلبه حركة ولا يمنع منه وجود حدث أو حيض أو نفاس ولا الخوف والمرض بل يتأكد فيها رجاء الفرج والصحة «وَسَبِّحُوهُ» نزهوه ووقروه وعظموه مع إدامة ذكره «بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (42) صباح مساء بصورة مستمرة بحيث لا يغفل قلبكم عنه وهذا هو المطلوب شرعا من العبد لربه لأنه «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» (43) أي لعامتهم الأولين والآخرين. ولا معنى لقول من قال إن هذه الرحمة الذين كانوا زمن حضرة الرسول بل هي عامة لهم ولمن تقدمهم وتأخر عنهم «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» منه إليهم ومنهم إليه في جنته الكريمة «وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» (44) فيها لا نظير له، والظلمات هنا بمعنى الكفر والنور بمعنى الإيمان. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» على الخلق «وَمُبَشِّراً» لمن آمن بك بالجنة «وَنَذِيراً» (45) لمن كذبك بالنار «وَداعِياً إِلَى اللَّهِ» بالتوحيد والطاعة والإيمان «بِإِذْنِهِ» بأمره ووحيه «وَسِراجاً مُنِيراً» (46) يغطي كلمة الشرك ولم يقل شمسا لأنها لا يؤخذ منها شيء عفوا، أما السراج فيؤخذ منه أنوار كثيرة لأنه سهل التناول «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» (47) على غيرهم من الأمم لأنهم آمنوا بنبيهم والأنبياء قبله «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ» لا تلق له بالا فإن الأنبياء قبلك أوذوا أكثر منك، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم قسم قسمة بين ت (31)

أصحابه وكان يعطيهم بحسب ما يعلم منهم من قوة الإيمان وضعفه، فقال رجل منافق ما أريد بهذه القسمة وجه الله بالنظر لظاهر الأمر، فقال صلّى الله عليه وسلم رحم الله أخي موسى فقد أوذي بأكثر من هذا. لأنهم وصموه بكونه آدر كما سيأتي آخر هذه السورة، وقد اتهموه بالزنى كذبا كما مر في الآية 76 من سورة القصص في ج 1 ونسبوا إليه قتل هرون كما سيأتي في الآية 26 من سورة المائدة الآتية، وفي رواية قال له ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ فأعرض عنهم يا رسول «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» لا تلتفت إليهم «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (48) لك عن كل خلقه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ» إذا لم تسموا لهن مهرا كما سبق بيانه في الآية 136 من سورة البقرة «وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» (49) لا ضرار فيه وفي هذه الآية دلالة على أن الطلاق قبل النكاح لا يقع لأنه مرتب عليه وانه كما ينبغي أن يكون الزواج بالإحسان ينبغي أن يكون الطلاق كذلك لا إكراها، وتشير هذه الآية إلى الإحسان مع الزوجة التي لا مودة بينك وبينها إذ لا تكون قبل الدخول عادة فلأن يكون الإحسان مع التي دخلت بها وخاصة من صار لك منها أولاد من باب أولى، ولهذا نهى الشارع أن يأخذ من المطلقة شيئا في الآية (229) من البقرة المارة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية (21) من سورة النساء الآتية فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) المشار إليها في الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1، اخرج أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهذا البحث صلة في الآية (21) من سورة النساء الآتية فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) المشار إليها في الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1، اخرج أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا طلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك. وجاء في الخبر لا طلاق في إغلاق أي إكراه أو غضب أو في حالة لا تملك فيها نفسك بحيث لا تعلم نتيجة ما تقول بسبب ما اعتراك من حدة وشبهها، وروى البخاري عن ابن عباس قال جعل الله تعالى الطلاق بعد النكاح، وعن جابر لا طلاق قبل النكاح، وما قيل إن ابن مسعود رضي الله عنه قال إنه يقع فغير صحيح، روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كذبوا على ابن مسعود وإن كان قالها فزلة من عالم،

وقول ابن مسعود هنا هو أن الرجل إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فإن كان هذا فهو تعليق يقع به الطلاق ولا تحسب عليه زلة، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية فنصف ما فرضتم الآية 235 من سورة البقرة المارة فغير صحيح لأن تلك مع تسمية المهر وهنا في غير تسمية ولا خلوة، ومعناها إذا عقدتم عليهن وطلقتموهن قبل الدخول والخلوة التي هي في معناه. وإنما أوجبوا العدة في الخلوة احتياطا لتوهم انشغال الرحم خاصة بالثيب نظرا للتمكن الحقيقي، وظاهر الآية عدم وجوب العدة بالخلوة، لأنها ليست مسيئا، قال الشيخ الأمين بن عابدين دفين دمشق صاحب التآليف المشهورة. وخلوته كالوطء في غير عشرة ... مطالبة بالوطء إحصان تحليل وفيء وإرث رجعة فقد عنّة ... وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل أي أن الخلوة كالوطء في كل شيء عدا هذه العشرة. واعلم أن هذه الآية ليست ناسخة لآية البقرة 223 إلا أنها عامة في كل المطلقات ينتظم فيها المدخول فيها وغيرها لأن هذه الآية المفيدة اعطت غير المدخول بها حكما آخر خاصا بها فليست بمبطلة لحكمها بتاتا ليقال بالنسخ. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» مهورهن راجع الآية 24 من النساء الآتية بما يسمونه متعة بسبب لفظ الأجر مع أنه اطلق في القرآن في مواقع كثيرة على المهر «وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ» من السبي في غنائم الحرب «وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ» من قريش «وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ» من بني زهرة «اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ» مؤمنات بك وبربك، قالت أم هاني بنت أبي طالب خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله هذه الآية، قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء. - أخرجه الترمذي- «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ» فهي حلال له «إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها» وإلا فلا تحل، «خالِصَةً» بلا مهر وهذا الحكم خاص «لَكَ» يا سيد الرسل «مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» لأنهم لا ينعقد النكاح بينهم بالهبة ولا بغير شهود ويشترط لصحته، الولي والمهر والإيجاب والقبول وإذن

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 51 إلى 60]

الولي للصغيرة عند أبي حنيفة، واشترط الشافعي الإذن للكبيرة أيضا راجع الآية 25 من سورة النساء الآتية ويفهم من هذه الآية ان غير المؤمنة لا تحل للرسول إن وهبت نفسها إليه، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، إذ لم يكن لديه صلّى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد أو ملك يمين، وقيل كان عنده واحدة موهوبة اختلفوا فيها هل أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصاري الهلالية أو أم شريك بنت جابر الأسدية أو خولة بنت حكيم السلمية أو ميمونة بنت الحارث، وأرجح الأقوال بأنها خولة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن عروة قال كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟! وهذا من كمال غيرتها، وإلا فمن ترى السعادة في الدارين في هبة نفسها لمثل رسول الله لم لا تفعل، وإنا نرى الآن كرائم النساء يسعين ويتوسطن بتقديم أنفسهن لمن يرون فيه المروءة والشهامة والسعادة الدنيوية، فكيف ممن تكون بمرافقته سعادة الدنيا والآخرة «قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ» المؤمنين سيأتي بيان هذا في الآية 22 من سورة النساء وغيرها «وَ» علمنا ما فرضنا عليهم في «ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» من الإماء اللاتي أصلهن من السبي «لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ» أيها النبي «حَرَجٌ» فيما تريد من ذلك «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (50) بعباده يوسع عليهم فيما لا بد لهم منه ولما وقعت الغيرة بين نساء النبي صلّى الله عليه وسلم وكان يقسم بينهن أنزل الله تعالى «تُرْجِي» تبعد وتؤخر «مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي» تدني وتقرب وتضم «إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ» ولا حرج أيضا وهذا كله من خصائصه صلّى الله عليه وسلم دون المؤمنين كافة «ذلِكَ» الذي أبحناه لك وخيرناك فيه مما لم يكن لغيرك بشأن النساء «أَدْنى» أقرب وأهون «أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ» فيرضين بما يرونه منك مهما كان وتطيب أنفسهن «وَلا يَحْزَنَّ» على ما يزعمنه منك من موالاة بعضهن وترجيحهن على غيرهن لأنه من الله لا منك «وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ» من تقريب وإبعاد وإرجاء وإقصاء وعزل وإيواء «كُلُّهُنَّ» لأنه حكم عام لا يختص بواحدة دون الأخرى وتفويض مطلق لك من نسائك

مطلب منع النبي من الزواج والطلاق ورؤية المخطوبة وجواز الرؤية للمرأة في تسع مواضع وما أحدث في زماننا:

«وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ» من الميل إلى بعضهن «وَكانَ اللَّهُ» ولم يزل «عَلِيماً» بأن في هذا إصلاح لحال أزواجك معك «حَلِيماً» (51) بما خصك به دون سائر خلقه لأنه قاطع لكلامهن. مطلب منع النبي من الزواج والطلاق ورؤية المخطوبة وجواز الرؤية للمرأة في تسع مواضع وما أحدث في زماننا: قال تعالى «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» هؤلاء اللاتي عندك حال نزول هذه الآية وكن تسعا وهو النصاب بالنسبة له صلّى الله عليه وسلم. وقال الشيعة بجواز التسعة لسائر المؤمنين. وسيأتي بحث هذا في الآية الثانية من سورة النساء إن شاء الله «وَلا» يحل لك أيها الرسول أيضا «أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ» بأن تطلقهن أو بعضهن وتأخذ غيرهن أبدا، وهذا إكرام لهن من الله تعالى لأنهن اخترن الله ورسوله كما تقدم في الآية 29 فشكر الله لهن ذلك وكافأهن بالبقاء عند رسوله، ثم أكد على حبيبه التمسك بهن وعدم الزواج عليهن بقوله جل قوله «وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» وذلك أن الرسول أراد أن يخطب أسماء بنت عميس بعد استشهاد زوجها جعفر بن أبي طالب فنهي عن ذلك «إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ» لعلمه أنه سيأخذ مارية القبطية التي يهديها له المقوقس عظيم القبط في مصر، ولذلك عددناها مع جملة نسائه آنفا «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» (52) ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بالآية قبلها وهي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلخ، وان النبي لم يمت حتى أحل له أن يتزوج من يشاء، لأن المقدم لا ينسخ المؤخر باتفاق علماء هذا الفن، وما احتج به القائل من أن ترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف صحيح لكن لا قائل بأن آية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) إلخ نزلت بعد هذه الآية التي نحن بصددها، ولأن سياق التنزيل ينافيه وسياق النظم يأباه، كما أن ما احتج به من أن هذه الآية الأخيرة نسخت بالسنّة لا وجه له لأن السنة لا تنسخ القرآن قطعا، ولا يوجد ما يسمى سنة في هذا الشأن إذ لم يرد حديث صحيح فيه، ولو ورد وكان متواترا فلا يكون ناسخا، كما قدمنا توضيح هذا في الآية 107 من البقرة فراجعها. ويفهم من قوله تعالى (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ)

إلخ، جواز رؤية المخطوبة وهو كذلك، أخرج أبو داود عن جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له صلّى الله عليه وسلم انظر إليها فانّ في أعين الأنصار شيئا. وأخرج الترمذي عن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلم هل نظرت إليها؟ قلت لا، قال فانظر إليها فإنه أحرى أن يدوم بينكما. أي الحب من الدوام. وفي رواية أن يؤدم بينكما من الادام. وله أن يرسل من يعتمد عليها من أقاربه لتنظرها وتمحصها وتشم مراقها وفمها وتتكلم معها وتخبره بما تراه، حتى إذا اطمأن لذلك وأحب خطبتها خطبها، وهذا أحد الأعذار التسعة المبيحة للنظر، والثاني الشهادة على فعل الزنى، والثالث لأجل الشهادة على المرأة، الرابع للقاضي النظر للمرأة عند الحكم عليها أو لها، الخامس على الولادة، السادس البكارة في دعوى العنة أو الرد بالعيب، السابع والثامن على الختان والخفض، والتاسع إرادة الشراء في الأمة. واعلم أن نظر الخطبة ينبغي أن يكون صدفة أو من بيت جارتها أو قريبها أو يريها غيره من غير علم منها، لا أن تعرض له كالدابة إن أعجبته اشتراها وإلا تركها كما يريده من لا خلاق له ولا مروءة عنده ولا شهامة لديه، إذ لا تسمح النفوس الأبية الكريمة بذلك، وقد يقع من بعض الناس لشدة رغبتهم بالخاطب حبا بعلمه أو جاهه أو ماله أو دينه أو صلاحه، والأعمال بالنيات، وإلا فلا يطمح إلى ذلك من غير هذه الأسباب إلا من تقليد الأجانب الذين لا غيرة عندهم ولا حمية لهم الذين يسمحون للخاطب مخالطتها والأكل معها، بل والذهاب معها للنزهة والاعتزال بها عن أهلها والخلوة بها أيضا، لهذا فإنه قد يقع ما يقع بينهما من المفاسد، وإذ ذاك إما يأخذها فيستر عليها أو يتركها فيفضح أمرها وتهمل، وهذا كثير الوقوع في زماننا، أجارنا الله وسلمنا منه ومن كل التقاليد المخالفة للشرع والمروءة. ومما حبذه الآن بعض شبابنا تبادل الخواتم بين المخطوبة والخاطب دلالة على تمام الخطبة، مع أن هذا مما يتشاءم به عند العرب، لأن الخاتم يدل على الضيق وهم يتفاءلون بالسعة، وقيل في ذلك:

والله ما ناولت للحب خاتما ... ولا قلما مبرى ولا بست عينه ولا آلة للقطع توجب فرقة ... فما سبب التفريق بيني وبينه وانجر هذا التقليد إلى تقليدهم بالزفاف أيضا، إذ صار الزوج ليلة الزواج يأتي بسيارته إلى بيت العرس فيدخل بين النسوة والبنات الأجانب إليها، فيجلس معها ثم يأخذها ويركبها بسيارته ويذهب بها إلى بيته سافرة خالعة بدل أن كانت تزف إلى بيته من قبل النسوة فقط مستورة لا يراها غيره، ثم انجر إلى تقليد آخر، فإنه صبيحة الدخول بها يأخذها ويذهب بها لبلد آخر ويبقى معها شهرا يسمونه شهر العسل بدل أن يبقى في بلده بين أهله وأقاربه يسرون بزواجه ويباركون لهما في بيتهما القريب والبعيد، ويتركون وليمة العرس، ويحرمون من التمتع وأنظار العامة، وتراهما يكشفان الستار ويطرحان العار، ويضع أحدهما يده بيد صاحبه ويمشيان بالأسواق نابذين وصية الله وراء ظهورهما بإظهار التبرج ومخالطة الأجانب وطرح المروءة والشهامة، وقد يفعل بعض هذا الذين يذهبون إلى المصايف، وقد يفعلون المنكرات ويظنون أن لا يطلع عليهم أحد من أهل بلدهم، ولا يبالون باطلاع غيرهم كبعض النساء اللاتي لا يبالين بمقابلة الجمال والبدوي والعامل والصائغ والتاجر، ويغطين من جارهن وقريبهن، وكل هذا مخالف للشريعة الغراء التي هي بمصلحة الناس، فهم يخشون الناس ولا يخشون الله، وقال صلّى الله عليه وسلم: استحيوا من الله استحياءكم من رجلين من صالحي قومكم. وقال استحيوا من الله حق الحياء. الحديث، لأن الحياء من الإيمان، قاتل الله هؤلاء وقاتل أولياءهن، وهذا بعض ما سرى إلينا من الأجانب وحبذه بعض شبابنا ومن فقد الأخلاق الكريمة من غيرهم، فالأمر لله الواحد القهار. ثم شرع جل شأنه يؤدب المؤمنين عما لا يليق وقوعه منهم بقوله عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» من قبله «إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» وقته أي إدراكه ونضجه «وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» إلى منازلكم أو غيرها أي اخرجوا عنه وتفرقوا لا تبقوا جالسين «وَلا» تديموا

الجلوس «مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» بعضكم «إِنَّ ذلِكُمْ» الدخول قبل الإذن والانتظار لنضج الطعام عنده، والجلوس بعد الطعام للسمر أو غيره، كل ذلك «كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ» وما كان لكم أن تؤذوه بشيء من ذلك ولا غيره، وهو لا يريد أن يبادركم بالمنع والخروج «فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» أن يجابهكم بذلك «وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» لأنه بصالحكم لذلك بينه لكم بقصد تأديبكم «وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً» غرضا ما تريدونه من النساء «فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» لا تدخلوا عليهن من أجله وليكن سؤالكم برفق وتؤدة ولين «ذلِكُمْ» الطلب من خلف الستار على الوجه المار ذكره «أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ» من أن يقع فيها من وساوس الشيطان ودسائسه بشأنهن «وَقُلُوبِهِنَّ» وطهر أيضا لأن الخواطر القلبية قد لا يخلو منها أحد لا سيما ما ينشأ من النظر إلا من عصمه الله «وَما كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون «أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ» في شيء من الأشياء «وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً» لأنهن محرمات عليكم على التأييد كحرمة أمهاتكم واعلموا «إِنَّ ذلِكُمْ» كله مما يؤذي حضرة الرسول وإن أذاه «كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً» (53) فيعاقب عليه بأعظم العذاب وهذا من إعلام تعظيم الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم وإيجاب حرمة وقاره حيا وميتا، تشير هذه الآية إلى ما يطيب خاطر الرسول ويسرّ قلبه ويستفرغ شكره ويشرح صدره وتطمئن نفسه. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال إنه كان ابن عشر سنين فقدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، قال فكانت أم هانىء توافيني على خدمة رسول الله، فخدمته عشر سنين، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما أنزل في مبنى رسول الله بزينب بنت جحش حين أصبح يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم بها عروسا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا وبقي رهط عند النبي صلّى الله عليه وسلم، فأطالوا المكث، فقام النبي فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي ومشت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا، فرجع

ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي صلّى الله عليه وسلم بيني وبينه بالستر، وأنزل الله الحجاب. قال تعالى «إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ» في صدوركم أيها الناس ولم تنطقوا به مما يتعلق بالنبي وغيره من كل ما تتصورونه بقلوبكم أو يخطر على بالكم «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ» ولم يزل «بِكُلِّ شَيْءٍ» يقع في كونه علنا أو سرا «عَلِيماً» (54) لا يخفى عليه شيء، وانه لا بد أن يعاقبكم على سيئه ويكافئكم على حسنه إن شاء، قالوا إن طلحة بن عبد الله التميمي قال إن محمدا يأخذ بنات عمنا يعني عائشة، لأن أبا بكر من بني تيم بن مرة ثم يمنعنا من الدخول على نسائه ويحجبهن عنا، لئن مات لأتزوجنها، فنزلت. وهذا الخبر قد لا يكون صحيحا، لأن أحدا من الأصحاب المخلصين لا يخطر بباله هذا ولا يحوك في نفسه ولا يتردد في صدره ولا يحرك به لسانه، بل قد ترجف بوادره من ذكره وترتعد فرائضه من التحدث فيه ويقشعر شعره من سماعه، اللهم إلا أن يكون منافقا، وطلحة هذا غير طلحة المبشر بالجنة، وحاشاه من هذه الوصمة، بل هو رجل شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه، ذكره الحافظ السيوطي. فإذا كان نساء النبي المحرمات على الأمة لا يسألن إلا من وراء حجاب وقد نهين عن التخضع بالقول كما مر في الآية 32، فنساؤنا الجائز زواجهن أولى بذلك. وإن هذا وما تقدم دليل كاف على ستر الوجه، ولبحثه صلة في الآية 31 من سورة النور الآتية فراجعها. وبعد نزول هذه الآية قال آباء النساء وذووهن، ونحن يا رسول الله نكلمهن أيضا من وراء حجاب؟ فأنزل الله «لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ» بالدخول عليهن ونظرا لعموم الآية يدخل فيها الكتابيات أيضا. ويخرج الكافرات لأنهن لسن من نساء المؤمنين ولأنهن غير أمينات عليهن، إذ قد ينتقلن صفاتهن لأزواجهن وغيرهم لأنهن لا دين لهن، فلا يجوز اطلاعهن على عورات المؤمنات، ولا دخول الحمام معهن، لما فيه من بدو العورات فيطلعن عليهن، وقد عدّ الفقهاء نظر الكافرة المسلمة كنظر الرجل الأجنبي «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» ظاهر الآية من العبيد والإماء كما نقل ابن عباس، وإليه ذهب الشافعي، وقال

أبو حنيفة إنه خاص بالإماء على ما قاله الخفاجي. وقال أبو حيان انه صلّى الله عليه وسلم أمر بضرب الحجاب دونه أي أنس المار ذكره آنفا، وفعلته أم سلمة مع مكاتبها تيهان. والآية مطلقة فتشمل الإماء الكافرات وغيرهن، وإنما جاز ذلك لحاجة الخدمة، ومما يؤيده العطف على النساء، إذ يفهم منه أن العبد الذكر ليس له ذلك، ومما يوافق عموم الآية أن عبد عائشة كان يدخل عليها، وقد أوصت بأنه إذا ماتت ووضعها في قبرها فهو حرّ، ولكن أين نساؤنا من عائشة، وأين خدمنا من خادمها؟ ويوشك أن يكون خفيا، والآية يدخل فيها الخفيّ وغيره. ثم إن الله تعالى حذرهن في المحافظة على ما أنزله بحقهن فقال «وَاتَّقِينَ اللَّهَ» أيها النساء واحتطن بما أوصاكن الله من المحافظة على الحجاب وغيره، ويشعر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بالتشديد على الاستتار من الأجانب وعدم لين الكلام معهم مما يؤدي إلى الغنج، لا سيما وقد أعقبه بقوله «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» (55) يعلم خطرات القلوب ويرى ما في دخائلها كما يعلم حركات الجوارح، فالظاهر والخفي في علمه سواء. روى البخاري ومسلم عن أنس أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) الآية، فنزلت. هذا من كمال إيمانه رضي الله عنه، ولا شك أن المؤمن ينظر بنور الله، فليحذر ذو القلب أن يخطر بباله غير ذلك أو يتخيل خلاف ما هنالك، فإن كلام الله أزلي والقرآن مدوّن في لوحه كما هو لا ينزل على غير النبي لأجل أحد، ولا يخطر قبل نزوله على النبي في بال أحد، راجع الآية 92 من الأنعام في ج 2 واعقل ما ذكرناه فيها وتدبره. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» الصلاة من الله ثناء ورحمة، ومن الملائكة رجاء واستغفار، ومن الناس دعاء وتضرع «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (56) حيوه بتحية الإسلام كلما ذكر، وهذا الأمر للوجوب، فيجب على كل مؤمن أن يصلي عليه ولو في العمر مرة.

مطلب كيفية الصلاة على النبي، وهل يجوز إطلاقها على غيره، والذين لعنهم الله ومن يؤذي أولياءه:

مطلب كيفية الصلاة على النبي، وهل يجوز إطلاقها على غيره، والذين لعنهم الله ومن يؤذي أولياءه: روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية، إن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ورويا عن أبي حميد الساعدي بزيادة وعلى أزواجه وذريته. وروى مسلم عن ابن مسعود البدري بزيادة في العالمين. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من صلّى علي واحدة صلّى الله عليه بها عشرا. وأخرج الترمذي في رواية أنس زيادة وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات. وله عن أبي طلحة أن رسول الله قال: أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا. وله عن ابن مسعود قال: إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سره أن يكتال له بالمكيال الأوفى إذا صلّى علينا أهل البيت فليقل أللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد. فعلى من أراد هذا الأجر العظيم وأن يسلم عليه النبي الكريم، فليكثر من الصلاة والسلام على الرسول الحليم بإحدى هذه الصفات، لأن العمل بالوارد أفضل من غيره وأكثر ثوابا وأعظم أجرا. قال أهل العلم: إن الصلاة خاصة بالأنبياء، والترضي بالأصحاب، والترحم والسلام بسائر الأمة. وهناك آيات تدل على خلاف ذلك بجواز إطلاق لفظ الصلاة أو السلام على الانفراد على غير الأنبياء، أما جمعهما فلا يجوز أبدا. ومما يدل على إفراد الصلاة دون السلام على غير الأنبياء قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) المارة في الآية 43، ومنها قوله تعالى (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الآية 157 من البقرة المارة.

وجاء عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: اللهم صل على آل أبي أوفى. وكان يصلي على من يأتيه بالصدقة امتثالا لقوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) الآية 103 من سورة التوبة الآتية، تأمل وتيقظ تفز وتنجح. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بكل ما يسمى أذى قل او كثر قولا أو فعلا رمزا أو إشارة «لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً» (57) لهم يلقونه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ووصفه بالإهانة يدل على شدة عقابه وكبير عذابه، ألا فليتق الله الذين يؤذون آل البيت لأنه يؤدي لإيذاء حضرة الرسول في قبره الشريف، كيف وقد قال حبهم إيمان وبغضهم كفر. وقال صلّى الله عليه وسلم: من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم. هذا في العرب كافة فكيف بآله صلّى الله عليه وآله وسلم، فاتقوا الله أيها الناس فيهم واعلموا أن كل من يؤذي اولياء الله فكأنما آذى الرسول ومن آذى الرسول فكأنما آذى الله واستحق هذه اللعنة وهذا العذاب راجع الآية 61 من سورة يونس، واعلم أن الله تعالى منزه من أن يلحقه أذى ما من خلقه، ومعنى إيذائه مخالفة أوامره قولا أو فعلا أو إشارة، فكل من خالف أمر الله أو عمل ما نهى الله عنه فقد آذاه ومنه نسبة الولد والصاحبة والشريك إليه تعالى عن ذلك وإنكار البعث ونسبة ما يقع في ملكه للدهر أو للنجوم أو لأحد من خلقه ونسبة الكذب لرسوله أو السحر أو الكهانة أو الشعر، والسخرية والاستهزاء بأوليائه أو التعرض لهم والإنكار عليهم، كله مما يؤذي الله تعالى ورسوله. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله تعالى من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب، ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فيقول لن يعيدني كما بدأني، وأما شتمه إياي لقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. روى البخاري ومسلم عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار. راجع الآية 24 من

مطلب تفطية وجه المرأة، والنهي عن نقل القول، وما اتهم به موسى من قومه والأمانة:

سورة الدخان ج 2 فيما يتعلق بهذا. ورويا عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرّة وليخلقوا حبة أو شعرة. ولهذا عدوا تصوير ذي الروح وتجسيمه من المنهيات الكبائر. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» من الإثم وهذا مقيد ببراءة المؤذى، أما إذا كان يحق القصاص فهو واجب، وإن كان بغير حق فهو حرام مطلقا ممنوع فعله، وكذلك نسبة شيء لم يعمله قولا كان أو فعلا أو إشارة لغيره وهو فاعله ممنوع وحرام، راجع الآية 112 من سورة النساء الآتية، أما إيذاء الله ورسوله فهو حرام مطلقا، لأنه بغير حق وهؤلاء المؤذون «فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً» افتراء محضا لأنهم نسبوا إليهم شيئا لم يفعلوه «وَإِثْماً مُبِيناً» (58) فوق ذلك البهتان، ولذلك فإن الله سيجازيهم فوق جزائهم جزاء فعلهم، ومثله لبهتهم، راجع الآية 81 من سورة النحل في ج 2. وهذه الآية عامة يدخل فيها كل مؤذ لغيره بغير حق. وما قيل إنها نزلت في أناس يؤذون عليا أو فيمن يتبعون النساء عند خروجهن إلى المبترز فإن سكتت لاحقوها وإن زجرتهم رجعوا، فعلى فرض صحته لا يقيدها فيهم، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. مطلب تفطية وجه المرأة، والنهي عن نقل القول، وما اتهم به موسى من قومه والأمانة: قالوا ولما كان لباس النساء الحرائر والإماء واحدا وكان من الواجب تمييزهن عنهن لشرفهن وامتهان الإماء إذ ذاك أنزل الله «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ» يضربن ويرخين «عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ» أي يغطين أنفسهن بملاءتهن لأن الجلباب هو الملاءة التي تشتمل فيها المرأة فوق ثيابها فتجعل بعضه على رأسها وبعضه على صدرها وظهرها وهو الملفع الكبير الذي يستعمله الآن النساء الدرزيات والبدويات من عترة وشمر وغيرهما وغالب أهل القرى والأرياف والأكراد والعراقيات غير المتمدنات على لغة العامة، ومن فوقه تكون الملحفة في البلاد السورية والعباءة في البلاد العراقية أي من دير الزور إلى البصرة،

«ذلِكَ» تقريب الملفع لستر الوجه حتى لا يبقى منه إلا ما توجه به طريقها «أَدْنى» أقرب «أَنْ يُعْرَفْنَ» بأنهن حرائر مصونات يتباعد عنهن أهل الفساد ويهابهن كل أحد «فَلا يُؤْذَيْنَ» من قبل أولئك الخبثاء ويجتنبون متابعتهن ولا يظن بهن أنهن إماء مبذولات فلا يتعرض لهن أحد ولا يقذفن بما يقذفن به المشبوهات. هذه غيرة الله عليكم أيها المؤمنون فغاروا على أنفسكم وحافظوا على مروءتكم وصونوا شهامتكم بحفظ نساءكم إن الله حي ستير يحب الحي والستر «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (59) يعفو عما سبق منكم إذا رجعتم إليه وامتثلتم أوامره في تحجب نسائكم وغيره. وفي هذه الآية دلالة صريحة على ستر الوجه خلافا لما يقوله بعضهم لأن المعرفة المنهي عنها لا تحقق إلا بالوجه، ولذلك أمر الله تعالى بتقريب الجلباب وإدنائه منه على المرأة لئلا تعرف ولو لم يكن المراد به تغطية الوجه لما بقي لهذا القيد من حاجة، ولا بأس بإبداء العين إذا كان الجلباب ثخينا لتتمكن من النظر إلى طريقها أما إذا كان الغطاء شفافا فلا. وقد نهى الله عن النظر إلى المحرمات كما سيأتي تفصيله في الآية 31 وما بعدها من سورة النور الآتية، قال إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان: يغطين وجوههن كلها. وقال غير واحد إلا عينا واحدة لتنظر بها طريقها، أي إذا لم يكن الغطاء شفافا. وفي قوله تعالى (ذلك أدنى) إلخ، دليل واضح على لزوم الستر للوجه، ولا يحول عن هذا القول إلا قليل المروءة والغيرة الذي يريد أن يسوي بين الحرة والجارية والطاهرة والمشبوهة والمسبلة، قال أنس مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة وقال لها يا لكاع أتتشبهين بالحرائر، ألق القناع. قال هذا عمر لعلمه أنها ممتهنة خسيسة مملوكة، ومن كانت كذلك فإن وجهها وذراعيها ليس بعورة، وليظهر ميزة الحرائر اللائي نص الله عليهن في كتابه فلم يبق من حجة لمدعي السفور بعد أمر الله تعالى في هذه الآية العامة لنساء النبي وغيرهن، ألا فليتق الله الرجال لأنهم هم القوامون على النساء القادرون على منعهن من الخلاعة التي هي أكبر من السفور والوزر عليهم إن لم يفعلوا. قال تعالى «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ» عن قذفهم المؤمنين سرا كان أو جهرا «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» فجور وهم الزناة لقوله تعالى

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 61 إلى 70]

(فيطمع الذي في قلبه مرض) أي ريبة زنا من أن يتابعوا النساء ويطلعوا على عوراتهن حبا بإشاعة الفاحشة. وهذا بمناسبة المقام على الإطلاق فيكون المراد بهم الذين في قلوبهم شك وضعف يقين وشبهة اعتقاد في الإسلام «وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ» بنشر أخبار سوء كاذبة عن أحوال المؤمنين ليوقعوا الاضطراب في قلوبهم ويثبطوهم عن الخروج مع حضرة الرسول، ولذلك أقسم الله بقوله تعالى «لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» أي والله لنسلطنك عليهم ونأمرنك بقتلهم والتحرش بهم، وهذا القسم الجليل في الأصناف الثلاثة على أنهم إذا لم يرجعوا عنها ويتركوها يهلكهم الله على يد رسوله، ثم عطف على جواب القسم قوله «ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها» أي المدينة «إِلَّا قَلِيلًا» (60) بقدر مدة ارتحالهم عنها ولا شك أن الجلاء أمر عظيم ما فوقه إلا القتل، وكثيرا ما يفضل القتل عليه لما فيه من المذلة والاحتفار والهوان «مَلْعُونِينَ» هؤلاء الأصناف الثلاثة مطرودين «أَيْنَما ثُقِفُوا» وجدوا وأدركوا فإن لم يتوبوا ويؤمنوا «أُخِذُوا» قبض عليهم وأسروا فإن أصروا عذبوا «وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» (61) كثيرا بدلالة التشديد «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» أي أن أخذ أمثال هؤلاء وقتلهم وإجلاءهم إن يبقوا مصرين على حالهم هي عادة الله في خلقه السالفين «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (62) أبدا بل تبقى مطردة جارية مجراها لا يحول دونها شيء. ولما كان المشركون حينما كان حضرة الرسول في مكة يديمون سؤالهم عن الساعة استهزاء لأنهم لا يعتقدون وجودها صار اليهود يسألونه عنها أيضا امتحانا لأنهم يعرفونها من المغيبات ويعتقدون بها، أنزل الله تعالى «يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ» متى تكون «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» لا علم لي بها ولا لأحد غيري «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» (63) وهذا تهديد وإسكات والإتيان يذكر بالظاهر بدل المضمر تعظيم لشأنها، راجع الآية 177 من سورة الأعراف في ج 1 وأول سورة النبأ في ج 2 وما ترشدك إليه في بحث الساعة، «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ» بوجود الساعة الذين ينكرون اليوم الآخر والحياة الآخرة «وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً» (64) تحرقهم وسيبقون «خالِدِينَ فِيها أَبَداً

لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (65) يمنعهم من عذابها ويخلصهم وينقذهم من بلائها، وإن هؤلاء الجاحدين سيصدقون فيها «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» وإذ ذاك «يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» (66) فصدقناه ولم نكفر بما جاءنا به ولم نجحد ما أخبرنا به «وَقالُوا» أتباع الكفرة «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا» بإنكار هذا اليوم لأنهم موهوا علينا إنكاره وجحده «فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» (67) إذ يقولون لنا لا بعث ولا حساب ولا عقاب ولا ثواب، وكذلك لم نتبع الهدى الذي جاء به رسلك «رَبَّنا آتِهِمْ» الآن جزاء إضلالهم إيانا في الدين «ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ» لإضلالنا وإضلال أنفسهم وانتقم لنا منهم «وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» (68) كثيرا بأبلغ ألفاظه، وبعد أن أبدوا عذرهم ولم ينفعهم أظهروا أسفهم وندمهم ولات حين مندم فزجوا في النار وأطبقت عليهم أبوابها وتزايد عليهم عذابها. ثم إن الله تعالى لمح لعباده بعدم التصدي لأذية الرسول بذكر ما وقع من اليهود لسيدنا موسى عليه السلام، فقال عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى» فتؤذون رسولكم بما يصدر منكم من القول والفعل فإن الله تعالى يغضب لأذيته فتؤذون من أجله وذلك أن جماعة من بني إسرائيل رموه بأنه آدر لأنه كان حين يغتسل يغتسل بثوبه لشدة حيائه بحضور قومه، ثم إنه ذات يوم لم يكن عنده أحد فنزع ثوبه ووضعه على حجر ونزل ليغتسل، فلما عاد ليلبسه فر الحجر به فتبعه وكانوا يراقبونه فنظروا إليه فلم يجدوا فيه بأسا، فظهر كذبهم، ثم إنهم اتهموه بقتل هرون فأكذبهم الله إذ أراهم إياه جبريل عليه السلام كما سيأتي في الآية 26 من سورة المائدة، ثم أغروا به المومسة بأن تعزو له مواقعتها كما سبقت القصة في الآية 82 من سورة القصص في ج 1 فكذبتهم بما ألقى الله في قلبها «فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا» في حقه راجع الآية 48 المارة، وفي هذه الآية تحذير للمؤمنين بأن لا يتجاسروا على ما فيه أذية رسولهم ولا يتهموه بشيء مخالف أو سيىء ولا يظنوا به حيفا لأحد فإن الله تعالى يبرؤه مما يجرءون أو يتفوهون عليه به لأنه كريم على ربه مثل موسى الذي يقول ربه في حقه «وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» (69) مقبولا موقرا

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 71 إلى 73]

عظيما، وان محمدا أكبر وجاهة وأجل حرمة عند ربه وأعظم درجة وأقرب منزلة منه وأزيد فضلا من الرسل كافة، وما جاء عنه صلّى الله عليه وسلم من قوله لا تفضلوني على موسى، هو من قبيل هضم النفس والتحدث بالنعمة، وإلا فهو يعلم بإعلام الله إياه أنه أفضل وأكمل خلق الله الرسل فمن دونهم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» من أن يقع منكم شيء يغضب الله ورسوله «وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً» (70) صوابا عدلا وإياكم والخوض فيما لا يعنيكم وإنكم إذا امتثلتم وانقدتم إلى الله «يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» (71) في الآخرة لا يضاهيه فوز. ولما أرشد الله كمل عباده إلى مكارم الأخلاق وبين عظيم شأن طاعته وطاعة رسوله أعقبه ببيان ما يوجب ذلك وصعوبة الوصول إليه بقوله عز قوله «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ» التي ملاكها طاعة الله ورسوله، وجماعها امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقوامها مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فيدخل فيها الامتثال لكل شيء حسن والاجتناب عن كل شيء، كالوفاء بالوعود والعهود وعدم نقضها والغدر فيها وأداء الودائع والأمانات والكف عن كتمها والمماطلة بأدائها ومنع الحواس عن غير ما خلقت لها وصرفها فيما أباحه الله تعالى ووضع الشهوات في محالها المباحة وكفها عما حرم الله وغير ذلك. وكان هذا العرض «عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ» ليحملنها وخص الله تعالى هذه الثلاثة دون غيرها لكمال شدتها وصلابتها فامتنعن لأنهن وإن كن في غاية القوة إلا أن أمانه الله فوق ذلك، ولهذا حكى حالهن بقوله «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها» خوف الإضاعة فيكنّ قد خنّها لأن حملها عبارة عن خيانتها لتحقق عدم القيام بها كما يريده الله وأن عدم القيام بأوامره خيانة كالإقدام على نواهيه «وَأَشْفَقْنَ مِنْها» خفن من أن لا يقمن بها فلا يؤدينها كما أراده الله منهن فيلحقهن عذابه وينلهن عقابه «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» لفظ عام في آدم وغيره إلى قيام القيامة، فالإنسان المركب من اللحم والدم والعظم على ما هو عليه في غاية الضعف بالنسبة لتلك أقدم على حملها مع وهنه، وتلك الأجرام العظيمة أبت أن تقدم على حملها، وما ذلك إلا لأنه كما ذكر الله «إِنَّهُ كانَ» ت (32)

ولم يزل «ظَلُوماً» لنفسه «جَهُولًا» (72) لخطأه جهولا لما يراد منه جهولا بعاقبته إلا من وفقه الله لرشده. هذا ولما كان ما من عموم إلا وخص منه البعض فإن الأنبياء والكاملين من خلق الله مستثنون من ذلك، لأنهم هم الآمرون الناهون بلسان الله تعالى. روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر (أصل) قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال ينلم الرجل النومة فتقبض الأمانة من قبله فيظل أثرها مثل الوكت (أي الأثر اليسير) ثم ينام الرجل النومة فيقبض الأمانة من قبله فيظل أثرها مثل المجل (أي غلظ الجلد من أثر العمل) كجمر دحرجته على رجلك فتنقض فتراه منبترا (منتفخا) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله (تمثيلا لهم) فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال من حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه (أي رئيسه الذي يصدر عن رأيه ولا يمضي أمرا دونه والوالي الذي ينصف من التعدي ومن ولي أمر قوم فهو ساع عليهم) وأما اليوم فما كنت لأبايع فيكم إلا فلانا وفلانا. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم فجاء اعرابي فقال متى الساعة؟ فمضى صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال أين السائل عن الساعة؟ قال ها أنا يا رسول الله، قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة. قال تعالى «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» الذين ماتوا على ما هم عليه من نفاق وشرك، ولم يتوبوا ونقضوا عهد الله المأخوذ عليهم بطاعته وطاعة رسوله، وخانوا ما ائتمنوا عليه لله ولخلقه ولم يوفوا بما وعدوا «وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ»

تفسير سورة الممتحنة عدد 5 - 91 و 60

فيرحمهم ويحسن إليهم ويتفضل عليهم لوفائهم بما عاهدوا الله عليه وآمنوا بما بلغهم عن رسوله وصدقوا بما جاءهم من عنده «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (73) لأمثالهم من عباده، ولا يزال كذلك. هذا آخر سورة الأحزاب وهي بحذافيرها كما أنزلها الله على رسوله بواسطة أمينه، فمن قال إن الأرضة أكلت قسما منها وهي في بيت عائشة، وان الكتاب دونوا ما وجدوه منها فهو ملحد منافق قد افترى على الله ورسوله بما قال وكلامه مردود عليه من وجوه، أولا إذا كان طرأ على شيء منها في بيت عائشة فهل طرأ على ما كان عند الكتاب من النسخ، لأنهم كانوا يكتبون لرسول الله ويحتفظون بنسخ عندهم، ثانيا هل رفعت من قلوب الحفاظ الذين كانوا يحفظون القرآن كما تلقوه من حضرة الرسول ويتدارسونه بينهم صباح مساء، ثالثا هل يخفى ذلك على الخلفاء الراشدين الذين يقرأون القرآن آناء الليل وأطراف النهار وهلا اطلعوا عليه حينما نقلوا الصحف من بيت عائشة إلى بيت حفصة إلى أن أعطاها الخليفة عثمان إلى القراء الأمناء حين نسخوه على المصاحف والإسلام ناشر رواقه، رابعا أغفل هذا الخبيث عن قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من سورة الحجر ج 2 ويتفوه بذلك مع تعهد الله بحفظه وهل يشك في هذا العهد إلا كافر مارق؟ ألا لا يلتفت إلى أقوال هؤلاء لأنهم لا أمانة لهم ولا صدق عندهم وهم أشبه باليهود الذين يحرفون كلام الله بعد ما عقلوه، قاتلهم الله وأضرابهم وجعل سجين مأواهم ومثواهم. هذا وقد أشرنا في المقدمة في بحث النزول وفي الآية المذكورة آنفا والآية 42 من سورة حم السجدة في ج 2 إلى ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. ويوجد ثلاث سور محتومة بما ختمت به هذه السورة من اللفظ العظيم هذه والأنعام والمزمل. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تفسير سورة الممتحنة عدد 5- 91 و 60 نزلت بالمدينة بعد الأحزاب وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وأربعون كلمة، وألف وخمسمائة وعشرة أحرف، ويوجد في القرآن عشر سور مبدوءة بيا أيها: هذه والنساء

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 إلى 10]

والأحزاب والمائدة والحج والحجرات والطلاق والتحريم والمدّثر والمزمل. ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» من دوني دون المؤمنين، فتغتروا بهم، وتصيروا «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» فتفشون أسراركم إليهم وتعلمونهم بأخبار رسولكم وجيوشكم وتطلعونهم على أموركم، كيف يليق بكم أن تفعلوا هذا «وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» على لسان رسولكم، وهو القرآن المنزل إليكم من ربكم، ويريدون بكل جهدهم «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ» من أوطانكم ودياركم لشدة عداوتهم لكم لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله من أجل «أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» وترككم ما هم عليه من الذين ليس لسبب آخر فاحذروا أيها المؤمنون من أن توالوهم «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ» من مقركم مكة وتركتم أموالكم وأتباعكم «جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» فإن لم يكن خروجكم وجلاؤكم لهذين السببين فشأنكم وإياهم. واعلموا أني أنا الله ربكم غني عنكم وعن الخلق أجمع، أقول لكم على سبيل التقريع والتعنيف لتذكروا أمركم وتدبروا عاقبته كيف «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» وتظهرون لهم المحبة وتبدون لهم النصيحة بقصد الصحبة معهم خفية عن نبيكم «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ» من ذلك واني مخبر نبيكم بما يقع منكم، فانتهوا عن هذا ولا تفعلوه أبدا «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ» بعد هذا النهي فيسر إليهم بشيء من ذلك «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» (1) وبقي تائها في عماه لا يهتدي إلى خير. مطلب الاخبار بالغيب في كتاب حاطب لأهل هكة ونصيحة الله للمؤمنين في ذلك: وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه قال بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (بقرب حمراء الأسد من أرض المدينة) فان بها ظعينة أي المرأة المسافرة سارة مولاة ابي عمرو بن صيفي بن هاشم حليف بني أسد بن عبد العزى معها كتاب فخذوه منها

قال فانطلقنا تتعادى بنا الخيل حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي من كتاب، فقلنا أخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله قالوا وفيه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم، فقال صلّى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا؟ فقال يا رسول الله لا تعجل علي اني كنت أمرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام، فقال صلّى الله عليه وسلم انه صدقكم، فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلّى الله عليه وسلم انه شهد بدرا وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وهذا من الإخبار بالغيب ودلائل النبوة ومعجزاتها. وجاء في خبر أنهم لما قالت لهم ما عندي من كتاب رجعوا، ثم قالوا كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلم ان معها كتابا وهو لا ينطق عن هوى؟ فرجعوا إليها وقالوا لها ما قالوا بالحديث من التهديد، فأخرجته لهم. والمراد بإلقاء الثياب ما عندها من أشياء ولباس كي يتحروه لا غير، إذ لا يظن بأصحاب رسول الله ما يتصوره الغير من هذا الكلام، قال تعالى مبيّنا ما ننطوي عليه قلوب الكفرة على المؤمنين «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ» يظفروا بكم هؤلاء الذين تتقربون إليهم «يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً» ولا يقدرون مودتكم لهم بل يعدونها نفاقا منكم لهم وخوفا منهم لأنهم يتربصون بكم الدوائر وعند سنوح الفرصة ينتقمون منكم «وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» بالقتل والسلب والسبي «وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ» من سب وشتم وتحقير وإهانة ونسبة الكذب والخيانة، لأن العدو إذا عرفكم خنتم قومكم بما تطلعونه عليه من أخباركم لا يأمن لكم ولا يولونكم من أمرهم شيئا ويقولون لكم إن الذي يخون قومه فهو لغيرهم أخون فلا يركن إليكم ولا يأمنكم، فتبقون محقرين عندهم أذلاء مهانين مهددين بالقتل والسبي إن لم يقتلوكم حالا «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» (2) وترجعون إلى دينهم، وانهم لاسمح الله لو ظفروا بكم لقسروكم على الكفر لتكونوا

مثلهم وإذ ذاك «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» ولا أقاربكم وأصحابكم الذين يحتجون بهم في الدنيا، إذ لا فائدة لكم منهم ولا ينفعونكم أبدا «يَوْمَ الْقِيامَةِ» غدا عند الله ولا يقونكم شيئا من عذابه، فلا يحملنكم وجود أحد عندهم من ذويكم على الرأفة بهم وتخونون رسول الله من أجلهم، فإنهم لن يغنوا عنكم من الله شيئا هو الذي «يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ» وبينهم يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه، وليعلم أن من في الأرض جميعا لا ينجيه من الله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (3) لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإذا أحببتم أيها المؤمنون بما فيكم حاطب المخصوص في هذه الآيات أن تتأسوا بمن قبكلم في أعمال الخير فإنه «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ» خليل الله «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من المؤمنين به «إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ» المشركين «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» حيث تبين لهم كفرهم وقالوا «كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» وقاطعوهم في كل شيء فكيف توادونهم وأنتم خير أمة أخرجت للناس، ألا تعتقدون بأفعال هؤلاء الكرام كلها «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» فلا تتأسوا به إذ لا يجوز الاستغفار للمشركين، لأن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها من ذكر ابراهيم عليه السلام وما بينهما اعتراض تدبر، وإن ابراهيم لم يقل هذا إلا بعد أن وعده بالإيمان، قال تعالى دفاعا عن خليله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية 105 من سورة التوبة الآتية، وأنتم قد تبين لكم أن المشركين أعداء الله ورسوله واعداء لكم فكيف تواصلونهم وتفشون إليهم أسراركم؟ وقد قال ابراهيم لأبيه بعد أن وعده بالاستغفار «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» لأنه هو ولي التوفيق وكان ابراهيم وأصحابه يقولون في دعائهم «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (4) في الآخرة الدائمة ويقولون أيضا «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» في الدنيا لأنهم يعذبوننا إذا تسلطوا علينا ليصرفونا عن ديننا، ولهذا فإنا نبرأ إليك منهم يا ربنا لا تجعل لهم علينا يدا «وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ

أَنْتَ الْعَزِيزُ» الغالب لكل أحد «الْحَكِيمُ» (5) بما يقع منك على عبادك «لَقَدْ كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون حاطب فمن دونه إلى يومنا هذا، وما بعد إلى قيام الساعة «فِيهِمْ» أي إبراهيم وأصحابه «أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» وقدوة جميلة نافعة «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» فيخاف عذابه ويأمل ثوابه أن يقتدي بهم لا بأفعال الكفار وما يؤدي إلى الكفر بأي قصد كان «وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن نصح الله وارشاد رسله، ولم ينزجر عن موالاة الكافرين «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عنه وعن غيره فليفعل ما يشاء وإن مرده إليه وهو يعلم كيف يعاقبه على ذلك، وهو «الْحَمِيدُ» (6) لفعل أهل طاعته فيثيبهم ثوابا كريما فلما سمع المؤمنون هذه الآيات اشتدت عداوتهم لأقربائهم الكفار ووجدوا عليهم وتبرؤوا منهم، وأراد الله تعالى أن يطمعهم فيهم، فأنزل «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ» من أقاربكم الكفار وغيرهم «مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ» على إنشاء المودة بينكم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تاب منهم وأصلح «رَحِيمٌ» (7) بعباده كلهم يحببهم بعضهم لبعض، وقد حقق الله لهم ذلك وأسلم كثير منهم، ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين بقوله عز قوله «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ» بقصد صدكم عنه أو عدم القيام به والتحلي بشعائره ولا يخاصمونكم من أجله «وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» قسرا فيجلوكم عنها «أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» وتعاملوهم بالإحسان والعدل والإنصاف وتصلوهم بالسراء والضراء «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (8) العادلين في ذلك الذين يقابلون المعروف بمثله وأحسن. روى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت قدمت عليّ أمي (فتيلة بنت عبد العزى) وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله وحدتهم فاستفتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال نعم صليها، زاد في رواية فأنزل الله هذه الآية. أنظر أيها القارئ إلى عظيم إيمان هذه المرأة إذ لم يمل قلبها إلى صلة أمها الكافرة ولا قبولها في بيتها إلا بعد إفتاء الرسول لها بذلك. وقال ابن عباس نزلت في خزاعة إذ صالحوا حضرة الرسول على أن

لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقد ذكرنا غير مرة أن لا مشاحة في تعدد أسباب النزول وإن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث، ثم ذكر الله الذين لا تجوز صلتهم ولا مقاربتهم وهم في ذلك الزمن أهل مكة. فقال جل قوله «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا» اليهود وغيرهم «عَلى إِخْراجِكُمْ» من المدينة واستئصالكم. إذ جاءت الآية عامة فيدخل فيها كل من يفعل ذلك مع المؤمنين إلى آخر الزمان، فلا يجوز للمؤمن مصافاة من هذا شأنهم فيحرم عليكم أيها المؤمنون «أَنْ تَوَلَّوْهُمْ» أبدا وتفكروا فيما هدد به تعالى من يواليهم بقوله «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ» منكم «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (9) أنفسهم الآيسون من رحمتي الآئبون بالندم وسوء العاقبة لأنهم وضعوا ثقتهم في غير محلها فلا يلومون إلا أنفسهم عند حدوث ما يسوءهم منهم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ» اختبروهن لتعلموا هل هن مؤمنات حقا أم لا فإن ظهر لكم أنهن مؤمنات فاقبلوهن ولا تقولوا إنهن باطنا غير مؤمنات «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» منكم لأن لكم الظاهر والله عليم بما في الصدور «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ» بعد الفحص «مُؤْمِناتٍ» بحسب الظاهر ولم تروا ريبة في مجيئهن وإبقائهن بين أظهركم «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ» بعد ذلك «إِلَى الْكُفَّارِ» أزواجهن الأول «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ» لأنهم مشركون «وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» لأنهن مسلمات، فتقع الفرقة بينهم، راجع الآية 222 من سورة البقرة المارة «وَآتُوهُمْ» أي أزواجهم الكفار «ما أَنْفَقُوا» عليهن من المهور لأنه حقهم ولم يعطوه إلا لحق الزوجية، وقد انقطعت بغير إرادة الأزواج، فيكون بمثابة بدل الخلع «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» بعد ذلك «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن «وَلا تُمْسِكُوا» أيها المؤمنون «بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» اللاتي بقين مشركات في دار الحرب أو اللاتي قد ارتددن ولحقن بدار الحرب «وَسْئَلُوا» من يتزوجهن من الكفّار أن يعطوكم «ما أَنْفَقْتُمْ» عليهن من المهر «وَلْيَسْئَلُوا» الكفار أيضا فيطلبوا منكم «ما أَنْفَقُوا» على نسائهم المهاجرات اللاتي تزوجتم بهن من

مطلب من جحد عهد الحديبية وما يتعلق بالنسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات:

المهور أيضا «ذلِكُمْ» الأمر الذي أمرتم به بإعادة المهر منكم ومنهم على السواء هو «حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» بالعدل لأنه رب الكل «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (10) نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية، ولذلك أمر الله تعالى بالتسوية بين المؤمنين والكافرين رعاية لعهد الصلح الواقع بينهم ولولاه لم يرد لهم الصداق كما منع فيمن جاء من المسلمات قبل المعاهدة، لأن الوفاء بالعهد واجب قديما، وقد اشتد وجوبه في الإسلام. مطلب من جحد عهد الحديبية وما يتعلق بالنسخ ونص المعاهدة وما وقع فيها من المعجزات: روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله قال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلّى الله عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد ولو كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، وكره المؤمنون ذلك، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي على ذلك فرد يومئذ أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته، أي رسول الله يومئذ أحد من الرجال إلّا ردّه في تلك المدّة وإن كان مسلما، وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ وهي عاتق شابة بأول عمرها وإدراكها، ويقال للّتي بين الإدراك والتّعنيس أو التي لم تتزوج عاتق أيضا، فجاء أهلها يسألون النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرجعها لهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن هذه الآية، قال عروة قالت عائشة ان رسول الله كان يمتحنهن بهذه الآية (أي الآتية بصيغة المبايعة) ، قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذه الشروط (المذكورة في الآية) منهن قال لها قد بايعت، كلاما يكلمها، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله. قال ابن عباس امتحانهنّ أن يستحلفهن ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا لا لتماسي دينا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحب الله ورسوله، وهذا هو الصواب في معنى الامتحان، وما جاء عن عائشة فهو صيغة المبايعة ليس إلا، وإنما كان كذلك لأن رد النساء المؤمنات لم يدخل في المعاهدة، وما قيل

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 11 إلى 13]

إن النساء كن داخلات فنسخ الله ردهن فهو تعسف عفا الله عن أمثال هذا القائل لأنه وأمثاله شديد والرغبة في النسخ، وقد استقصوا فيه قدرتهم من كل ما تصورته أذهانهم حتى حدا بهم الحال إلى هنا، وما أرى هذا إلا من باب الجرأة على الله لأن من يتورع أو يقارب الورع يبعد عليه هذا الخوض إلى هذا الحد. هذا وقد امتثل المؤمنون ما أمر الله به حتى أن عمر طلق زوجتيه المشركتين القاطنتين في مكة وهما فاطمة بنت أميه بن المغيرة وتزوجها معاوية، وكلثوم بنت عمرو الخزاعية وتزوجها أبو جهم بن حذافة، وطلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة وتزوجها بعد في الإسلام خالد بن سعد بن العاص، وأسلمت زينب بنت رسول الله فتركت زوجها أبو العاص بن الربيع على كفره في مكة ولحقت بالمدينة ثم أتى وأسلم فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولما أبى المشركون أن يقروا بحكم الله ورسوله في ذلك أنزل الله جل شأنه «وَإِنْ فاتَكُمْ» أيها المؤمنون «شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ» بأن ذهبن مرتدات ولم يردوا إليكم مهوركم لاهن ولا أوليائهن ولا الذين تزوجوا بهن بعدكم «فَعاقَبْتُمْ» به المشركين بأن غزوتموهم وغنمتم منهم أموالا وغيرها «فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا» عليهن من هذه الغنيمة وما بقي فاقسموه بينكم كما أمر الله «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» (11) واعلموا أنكم محاسبون على عملكم إذا خالفتم أمره فاعملوا بحكمه فيكم تفوزوا وتنجحوا. قالوا إن النساء اللاتي ارتددن ستة، أم الحكم بنت أبي سفيان تركت زوجها عاصي بن شداد الفهري وفاطمة بنت أمية تركت زوجها عمر بن الخطاب ومروع بنت عقبة تركت زوجها شماس بن عثمان وعبدة بنت عبد العزى تركت زوجها عمرو بن عبد ودّ هند بنت أبي جهل تركت زوجها هشام بن العاص وكلثوم بنت عمرو تركت زوجها عمر بن الخطاب لأنها لما أبت الإسلام وأصرت على الكفر طلقها هي وزوجته الأولى فاطمة كما مرت الإشارة إليها آنفا، فأعطاهم رسول الله مهورهن من الغنيمة، فلو فرض وقوع معاهدة كهذه بين المسلمين والكافرين فيكون العمل بحق النساء اللاتي يتركن أزواجهن من الطرفين على هذا، لأن الآية محكمة ولا دليل على نسخها البتة. وخلاصة القصة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم

بعد أن وفقه الله في حادثة الأحزاب وفعل ما فعل في بني قريظة وبرد ظهره من الأعداء المجاورين له اشتاق لزيارة البيت الشريف وأمر الناس أن يتجهزوا ففعلوا وخرج بهم من المدينة يوم الاثنين من ذي القعدة سنة ست من الهجرة الشريفة في بضع عشر مئة من أصحابه بقصد الزيارة وساقوا معهم البدن، فلما وصلوا ذا الخليفة قادوا الهدى وأشعروه وأحرموا بعمرة وبعث عينا (جاسوسا) يخبره عن قريش، ولما بلغوا غدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه عتبة الخزاعي، وقال إن قريشا قد بلغها مقدمك، وقد هاجت وماجت وأجمعت على صدك عن البيت فأمر صلّى الله عليه وسلم بالنزول، ونزل القوم، فقال وهو عازم على زيارة الحرم رغم كل مقاومة أشيروا علي أيها الناس، أتريدون أن أميل أولا على ذراري من انضمّ إلى قريش من الأحابيش وغيرهم يوم الخندق دعا وعاونوهم علينا، فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله أو تريدون أن نؤم البيت أولا لا نريد قتالا ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه؟ فقال أبو بكر يا رسول الله إنما جنت عامدا للزيارة فتوجه لقصدك فمن صدنا قاتلناه، قال امضوا على اسم الله. ثم إن رسول الله قال لقومه ان خالد بن الوليد بالتنعيم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فأخذوا قال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم والله ما شعر خالد إلا وهو في قترة أي غبار الجيش، وهذه معجزة له صلّى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم به قبل أن يصلوا إليه، فلما رآهم انطلق ينذر قريشا، وكان ذلك قصد الرسول، ولما وصلوا إلى الثنية التي يهبط منها بركت راحلته فقالوا فلأت القصوى أي حرنت ناقة رسول الله، فقال ما فلأت ولكن حبسها حابس الفيل، ثم زجرها فوثبت وعدل عن الثنية، ونزل بأقصى الحديبية وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة سميت باسم بئر فيها قليل الماء، فنزلوا ونزح الماء وشكوا العطش، فقال صلّى الله عليه وسلم إلى ناجية سائق بدنه خذ هذا السهم واغرزه فيها ففعل ففاضت وما زالت تجيش بالري أي الماء حتى صدروا، وهذه معجزة أخرى ثم قال لأصحابه لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها وأجبتهم إليها وإن كان فيها مشقة. وفي هذه الجملة تعليم لأمته وإرشاد لها إلى مكارم الأخلاق ولو كانت من أحرج المواقف، فلما

رأى بديل بن ورقاء الخزاعي خروج قريش إلى اعداد مياه الحديبية وتصميمهم على صد محمد وأصحابه وعرف عزم محمد صلّى الله عليه وسلم على دخول البيت، وكانت خزاعة حليفة لبني هاشم، جاء بنفر من قومه إلى حضرة الرسول وأخبره خبر قريش وانهم أخرجوا معهم النياق ذوات اللبن وذوات الحيران بما يدل على عزمهم على طول الإقامة وقصدهم القتال وإنك غوّرت أي بعدت عن المدينة ولا سلاح معك، فقال صلّى الله عليه وسلم إنا لم نأت لقتال وإن قريشا نهكتهم الحرب وقد جئنا معتمرين، فإن شاءوا ماددتهم مدة تترك فيها الحرب، وإلا فإن لم يفعلوا وأصروا على صدي فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا حتى تنفرد سالفتي (السالفة صفحة العنق وكنى عنها بالموت) ولينفّذن الله أمره. فرجع بديل إلى قومه وعرض عليهم ما قاله، فقال عمرو بن مسعود الثقفي قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقالوا له ائته وكلمه، فجاء عروة وقال يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أو أوقع المكروه في أصله قبلك؟ ثم قال له إن المسلمين أصحابك ليسوا من قبيلة واحدة فلا رابطة بينهم ولا يؤمن فرارهم وعظم من قريش، فقال له أبو بكر رضي الله عنه امضض بظر اللات (البظر من المرأة كالقلقة من الرجل) فقال لولا يدك عندي لأجبتك يا أبا بكر، وكان المغيرة بن شعبة مصلتا سيفه وعليه المغفر واقفا على رأس رسول الله، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله يتودده بالكف والرجوع حقنا للدماء ضربها بنصل السيف، ويقول أخر يدك عن لحية رسول الله فقال له عروة أغدر، وإنما قال له هذه الكلمة لأنه صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم أسلم، فقال له صلّى الله عليه وسلم أقبل إسلامك، أما المال فلست منه في شيء، وصار عروة يرمق أصحاب رسول الله ورجع إلى قومه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك فما وجدت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحاب محمد، وما هو يملك، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل فيدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، وإني رأيت قومه لا يسلمون بشيء أبدا، وما أراكم إلا

ستصيبكم قارعة، فانظروا رأيكم فقال رجل من كنانة دعوني آته فقالوا ائته، فلما أشرف قال صلّى الله عليه وسلم هذا رجل من قوم يعظمون البدن فابعثوها إليه، فلما رآها واستقبله الناس يلبون وقد بعثت إليه البدن قال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه وقال إن البدن قلدت وأشعرت فلا أرى أن يصدوا عن البيت، ثم بعثوا رئيس الأحابيش الحليس بن علقمة، فلما رآه صلّى الله عليه وسلم قال هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه فبعثت، فلما رأى الهدي يسيل بالوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش وقال لهم إني رأيت ما لا يحلّ صده، لأن القوم زائرون معتمرون ليسوا بمقاتلين ولا محاربين، فقالوا له أنت أعرابي لا علم لك بشيء، فغضب وقال ما على هذا حالفناكم، والذي نفسي لنخلّين بين محمد وبين ما جاء به أو لأنفرنّ بالأحابيش، فقالوا له كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا من محمد ما نرضى به. وأرسلوا إليه مكرز بن حفص، فلما أشرف قال صلّى الله عليه وسلم هذا رجل فاجر، فلما وصل وصار يكلم محمدا فلم ينته بشيء، ورجع فلما رأى رسول الله اخفاق مساعي سفراء قريش الخمسة المذكورين، استدعى عمر بن الخطاب وأمره بالذهاب إلى مكة لاستطلاع خبر أهلها، فقال يا رسول الله ليس بمكة من بني عدي أحد، وقد علمت قريش عداوتي لها، وإن عثمان أعزّ بها مني، فبعث أولا خراشة بن أمية الخزاعي فانبعث عليه عكرمة ابن أبي جهل وعقر ناقته وهمّ بقتله، فتداركه القوم وأنقذوه وردوه إلى قومه، وهذا الفرق بين الكفر والإيمان خمسة سفراء من قريش لم يتعرض لهم المسلمون وسفير واحد فعلوا به ذلك، فدعا صلّى الله عليه وسلم عثمان وبعثه إلى أبي سفيان بأن يخبره سبب قدومهم، وزوده بكتاب شرح فيه ما وقع، وأمره أن يزور المسلمين بمكة ويغريهم ويصبرهم حتى يأتي فرج الله، فذهب وفعل ما أمره به، وغاية ما سمحوا له أن يطوف البيت، وحبسوه عن الرجوع، وأشيع أنهم قتلوه، فقال صلّى الله عليه وسلم إن كان حقا فلا نبرح حتى نتاجزهم، ودعا الناس إلى البيعة على مقاتلتهم، فأجابوه، وأول من بايعه سنان الأسدي وقال أبايعك على ما في نفسي، قال وما في نفسك؟ قال سنان أضرب بسيفي حتى يظهرك الله أو أقتل، وبايعه الآخرون على مثل هذا، ومنهم من

بايعه على أن لا يفر وقبل صلّى الله عليه وسلم مبايعتهم كلها. روى البخاري ومسلم عن يزيد بن عبيد قال قلت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله؟ قال على الموت وروى مسلم عن معقل بن يسار قال لقد رأيتني يوم الشجرة (التي وقعت تحتها المبايعة في الحديبية) والنبي صلّى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة، قال لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ. وروى البخاري عن ابن عمر قال إن الناس كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبة وتفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس يحدقون بالنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال عمر يا عبد الله أنظر ما شأن الناس أحدقوا برسول الله؟ فذهب فوجدهم يبايعون، فبايع، ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع، وكان أول من بايع سفيان بن وهب من بني أسد، وهذا بالنسبة لما رأى فلا تنافي بين القول بأن أول من بايع سنان الأسدي، ولم يتخلف إلّا جدّ بن قيس من بني سلمة مختفيا بإبط ناقته. ولما بلغ قريشا خبر هذه المبايعة خفضت من غلوائها وأمرت بإطلاق عثمان، وأرسلت سهيل ابن عمرو العامري، وحويطب بن عبد العزى لعقد معاهدة بينهم وبين محمد صلّى الله عليه وسلم، فلما رآهما ورأى عثمان جاء سالما قال لقومه لقد سهل الله لكم من أمركم. وبعد المداولة معهما تم الصلح على وضع الحرب عشر سنين على الشروط المبينة في نص المعاهدة، وهي هذه (باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سهيل ابن عمرو العامري، على أن تخلي قريش بيننا وبين البيت نطوف به من العام المقبل، وان من جاءنا منهم رددناه، وإن كان مسلما، ومن جاء قريشا ممن اتبعنا لا يرد إلينا) وان من دخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن دخل في عقد قريش وعهدها دخل (أي بان يقر كل على ما هو عليه قبل هذه المعاهدة) . فانتقد المسلمون هذه المعاهدة لا سيما وإن سهيلا لم يرض أن يكتب المعاهدة كاتب النبي أوس بن خولة، ولا ان يكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم لأنهم لا يعرفون هذه الجملة، ولا يذكر فيها أن محمدا رسول الله، لأنهم لو علموا أنه رسوله ما صدوه ولا حاربوه، وكان المتفق عليه عليا كرم الله وجهه فأبى أن يمحو اسم رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم أرنيه، فأراه فمحاه بيده قاتلا أنا رسول الله وان كذبتموني، وهذا يدل دلالة كافية على أنه صلّى الله عليه وسلم لم يحسن

القراءة، وإلا لما قال لعلي أرنيه، راجع الآية 48 من سورة العنكبوت في ج 2 وإنما وافق صلّى الله عليه وسلم على هذه المعاهدة مع ما فيها من الحيف وعدم رضاء أصحابه بها وفاء بقوله لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وشيء من حرمات الله إلا أجبتهم إليها. ومن الشروط أن يرجعوا دون زيارة، وانهم إذا أتوا من العام القابل لا يدخلون البيت إلا بجلباب السلاح والقوس. هذا ولم يكد يستلم كل فريق نسخة من هذه المعاهدة التي أغاظت أصحاب محمد لأنها أمليت بإرادة سفير قريش الذي أصر على عدم دخولهم البيت لئلا يقال ان محمدا ضغط عليهم، وإذا أبو جندل بن السفير نفسه جاء يرسف بحديدة، لأن أباه حبسه بسبب إسلامه، ولما سمع بمقدم رسول الله وأصحابه صار هو ورفقاؤه وضعفاء المسلمين يتدبرون الحيل للهرب من مكة والالتحاق بنبيهم، فقال سهل هذا أول واحد ترّده، فقال أبو جندل يعذبوني يا رسول الله، فطلبه منه فلم يفعل، فقال صلّى الله عليه وسلم له احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا، لأنا عقدنا الصلح ولا نغدر، فازداد غضب المسلمين حتى قال عمر والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ. ورسول الله يثبطهم ويعدهم بحسن العاقبة وهم يتمزقون غيظا مما لحقهم من الحيف في هذه المعاهدة، ويقولون نحن على الحق فلم نرض الدنية؟ فقال أبو بكر إن محمدا لن يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسكوا بغرزه فإنه على الحق. وبعد أن تكفل حويطب بن عبد العزّى بأبي جندل وأجاره من أبيه وتعهد بأن لا يوقع به أذى، قال يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين وجئت مسلما؟ فتأثر المسلمون من ذلك، وقالوا يا رسول الله كيف ترد من جاءنا ولا يردون من جاءهم؟ قال نعم من ذهب منا إليهم فقد أبعده الله ومن جاء منهم فسيجعل الله له بعد عسر يسرا. وأمرهم بنحر الهدي والرجوع إلى المدينة. وقد ذكر الله هذه الحادثة في سورة الفتح عند قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) الآية 10 الآتية وسترى نتيجة هذه المعاهدة وما ينتج عنها وأول خير وقع بسببها كما سيأتي بيانه في الآية 75 من سورة النساء الآتية، ونزلت هذه السورة بعد رجوعهم كما نبيّنه إن شاء الله تعالى في الآيتين المذكورتين آنفا.

مطلب مبايعة النساء، وبقاء أثر نياحة الجاهلية حتى الآن في الفرات وغيرها: قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ» من بيوتهن ولا بيوت غيرهن شيئا «وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ» وأدا ولا بصورة أخرى «وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ» بأن يلصقن أولادهن بغير آبائهم افتراء «بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ» أمامهن، لأن كل ما هو بين يديك فهو أمامك «وَأَرْجُلِهِنَّ» تحتهن، وذلك أن الولد إذا وضعته أمه يكون ساقطا بين يديها ورجليها، فإذا قالت ولدي منك وليس منه فقد أتت ببهتان بين يديها ورجليها فضلا عن قولها وهذا زيادة في التحريض لهن على العفاف والصدق «وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» تأمرهن به «فَبايِعْهُنَّ» يا سيد الرسل على هذه الشروط «وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ» عما مضى منهن مهما كان «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما سبق من عباده «رَحِيمٌ 12» بمن اتبع دينه وآمن بنبيه. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية وما مسّت يده يد امرأة لا يملكها. ورويا عن أم عطية قالت بايعنا رسول الله فقرأ علينا الآية (أي هذه) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها فقالت فلانة اسعدتني (أي بكت وناحت معها على فقيد لها) أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلّى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ثم رجعت فبايعها. وهذه العادة التي ذكرتها أم عطيه موجودة حتى الآن في محافظة الفرات، حتى أن النائحة تقول (يا من تدبني دموع أبكاها اليوم تبكي لي وغدا ابكى لها) وكذلك يوجد كلمات من كلمات الجاهلية مثل (يا عزاه) وغيرها، وكذلك في أعراب البادية وبعض المدن، حتى ان الدروز إذا مات رجل معروف ألبسوا ثيابه خشبة وزينوا فرسه وصاروا يندبون عليه، الرجال والنساء، فيخمشون وجوههم ويسخمونها ويشقّون ثيابهم ويقصون شعورهم ويصيحون بالويل والثبور ويعددون صفات الميت بما فيه وما ليس فيه ويتقابلون بالسيوف، حتى ان نساء العراق يسلخن ثيابهن لحد الصّرة حالة الندب، وهناك عوائد أخرى من بقايا الجاهلية سنأتي على ذكرها في الآية الثانية فما بعدها من سورة النساء إن شاء الله، وقد ألمعنا إلى شيء منها في

الآية 136 من سورة الأنعام فما بعدها ج 2، وإنما ذكرنا الضمير لأن الرجال يشتركون معهن عند موت كبير فيهم فيندبون ويثأرون بالسيوف والرماح. ورويا عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. وأخرج أبو داود عن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجهها، ولا ندعو ويلا، ولا نشق جيبا، ولا ننشر شعرا. وأخرج النسائي عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن، فقلن يا رسول الله نساء أسعدتنا في الجاهلية فنسعدهن، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا إسعاد في الإسلام. وروى مسلم عن مالك الأشعري قال: قلال رسول الله صلّى الله عليه وسلم البائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: لعن رسول الله النائحة والمستمعة. وأخرج الترمذي عن أمية بنت رقية قالت: بايعت رسول الله في نسوة فقال لنا فيما استطعتنّ واطعتن، قلنا الله ورسوله ارحم بنا منّا بأنفسنا، قلت يا رسول الله بايعنا (قال سفيان يعني صافحنا) فقال صلّى الله عليه وسلم إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة. وهذه الآية نزلت مع سورتها في المدينة. وما قيل أنها نزلت بمكة بعد الفتح لا صحة له وهو أوهى من بيت العنكبوت، وما استند إليه صاحب هذا القيل من أن هند زوجة أبي سفيان فيما بايعت رسول الله مع نساء مكة على الصفا قالت وهي مقنعة لئلا يعرفها حضرة الرسول بسبب ما فعلت بحمزة رضي الله عنه في واقعة أحد المارة في الآية 122 من آل عمران، إنك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال وقالت إن البهتان لقبيح وإنك تأمرنا بالرشد ومكارم الأخلاق، وقالت وما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، ثم قالت ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا حينما قال (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) وقالت إن أبا سفيان لشحيح وأنا أحتسب في ماله قالوا وإن الرسول عرفها فقال إنك لهند قالت نعم فاعف يا رسول الله قال قد عفا الله عنك، وما قيل إنه قال لها هند أكالة الكبود، وإنها قالت له أني وحقود قد لا يصح، وقد يصح، والميل لعدم

تفسير سورة النساء عدد 6 و 92 و 4

الصحة أولى، لأن مثلها كاملة لا تجابه رسول الله بمثل هذا الكلام، كما أن حضرة الرسول لا يعنف أحدا بعد إسلامه، فهذا وإن كان واقعا إلا أنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت هناك، وإنما بايعهن بمقتضى هذه البيعة التي بايع عليها النساء في المدينة لأن الله تعالى لم ينزل بكل حادثة آية، فيكرر نزول الآيات بتكرار الحوادث بل آية واحدة لحوادث شتى وتطبيقها على ما يحدث بعد نزولها بتلاوتها من قبل النبي لا يعني أنها نزلت ثانيا وسبق أن بينا في سورة الفاتحة ج 1 عدم صحة نزول آية أو سورة مرتين، قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» من اليهود وغيرهم «قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ» وحرموا من ثوابها لتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلم مع علمهم بأنه مرسل من الله حقا لهم ولغيرهم «كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» (13) الذين ماتوا على كفرهم من أن يرجعوا إليهم وأن يبعثوا ثانيا لأنهم ينكرون البعث، وقد ختم الله هذه السورة بالمعنى الذي بدأها به تشديدا للكفّ عن موالاة الكافرين والمنافقين لأنها تعود على المسلمين بالضرر، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت هذه السورة في القرآن كله هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذرياته أجمعين ومن تبعهم إلى يوم الدين آمين. تفسير سورة النساء عدد 6 و 92 و 4 نزلت بالمدينة بعد سورة الممتحنة، وهي مئة وست وأربعون آية، وثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة، وسنة عشر الف وثلاثون حرفا، لا يوجد مثلها في عدد الآي، وقدمنا في سورة الممتحنة السور المبدوءة بلفظ يا أيها. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» نفس آدم عليه السلام «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» حواء عليها السلام من ضلع من أضلاعه سئل جراح لم خلقت المرأة من ضلع الرجل؟ فقال إنما أخذت من جانبه لتكون مساوية له، ومن تحت ذراعيه

ليحميها، ومن أقرب مكان لقلبه ليحبها ويحترمها، ولم تخلق من رأسه لئلا تتسلط عليه ولا من قدميه لئلا يدوسها عند الغضب. قال تعالى «وَبَثَّ مِنْهُما» ما تفرع عنهما بطريق الولادة «رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» أكثر، وإنما لم يصفهن بالكثرة مع أنهن أكثر من الرجال إشارة إلى الاختفاء المقتضى لهن، وتنبيها على أن الرجال أكمل منهن وأتم وأفضل، وعلى القاعدة بجواز الحذف من الثاني لدلالة الأول وبالعكس ومثله كثير «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ» بين بعضكم كقولك أسألك بالله أن تفعل كذا وأحلف عليك بالله وأستشفع إليك بالله أن تعفو عن كذا وأرجوك بالله وأستجيرك بالله من أن تقول كذا وما أشبه ذلك، «وَالْأَرْحامَ» اتقوا الله فيهم أيها الناس صلوهم لا تفطعوهم وقربوهم لا تبعدوهم، هذا على قراءة النصب، وعلى قراءة الجر يكون المعنى واتقوا الله الذي تساءلون به وبالرحم كما تقول ناشدتك الله والرحم، وسألتك بالله وبالرحم، وكان الناس يعتادون هذا تنبيها لشدة المحافظة على الأرحام ودوام الاعتناء بهم. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله. ورويا عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسا له في اثره فليصل رحمه. ورويا عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة قاطع رحم. «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولمل يزل «عَلَيْكُمْ رَقِيباً» 1 لا يغيب عنه شيء من أموركم الباطنة والظاهرة قبل أن تقع منكم، فجدير بكم أن تنقوه أيها الناس وتحذروا مخالفته. قال تعالى «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» بأعيانها وما تولد منها ونمى عنها عند ما تستأنسون منهم الرشد وإمكان قيامهم بها كما سيأتي في الآية 5. نزلت هذه الآية في أولياء الأيتام إذ كانوا زمن الجاهلية يبدلون أحسن أموالهم بأقبح ما عندهم، ولهذا قال تعالى «وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ» أي مال اليتيم وسمي خبيثا مع أنه طيب لأن تناوله حرام ولا أخبث من الحرام «بِالطَّيِّبِ» بمالكم الحلال لأنه مهما كان قبيحا ودنيئا أو خبيثا فهو طيب لأنه حلال ولا أطيب من الحلال «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ» المحرمة عليكم وتضموها «إِلى أَمْوالِكُمْ»

مطلب في أخلاق الجاهلية وفوائد السلطان للبلاد والعباد. وأكل مال اليتيم:

فتنفقوا منها جميعا، لأنه لا يجوز الإنفاق من مال اليتيم وفي حال خلطها مع أموالكم عدم مبالاة في حفظها ومدعاة للإنفاق منها على أنفسكم دونهم، إذ يجب على ولي اليتيم أن يفرق بين أمواله وأموال يتيمه وأن ينفق على نفسه وغيره من ماله فقط، وعلى اليتامى من أموالهم إنفاقا بالمعروف إذا لم تسمح نفسه بالإنفاق عليهم من ماله وعدهم من جملة عياله «إِنَّهُ» الأكل من مال اليتيم أو تبديله بأحسن منه «كانَ» عند الله ولا يزال «حُوباً كَبِيراً» (2) إثما عظيما عقابه عظيما عند الله. مطلب في أخلاق الجاهلية وفوائد السلطان للبلاد والعباد. وأكل مال اليتيم: كان رجل من غطفان معه مال كثير لابن أخيه، فلما بلغ منعه عمه منه، فترافعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتلا عليهما هذه الآية فقالا أطعنا الله والرسول ونعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع إلى اليتيم ماله. هكذا كانت طاعة العرب الذين يسمونهم بعض الناس في خطبهم أجلافا، وما كانوا بأجلاف وإنما هم شم الأنوف، وقد هذبهم الإسلام فألانهم، وإلا فإن الخصال التي كانت عندهم من المروءة والشهامة والكرم ومكارم الآداب والأخلاق والعفو والصفح والعطف، لم تتحل بها أمة من الأمم الراقية لا قبل ولا بعد، وإنما يتأسى بهم من يفعل فعلهم، نعم كانت عندهم عصبية بعضهم لبعض وكان بينهم ظلم وفحش وجور وغلظة وقساوة من مقتضيات عاداتهم الجاهلية التي طبعوا عليها من مئات السنين، وقد محاها الإسلام وحرمها وأبدلها بأضدادها، ورب شيء محمود بالجاهلية مذموم في الإسلام، كما يكون ممدوحا في الشرع ومذموما بالطب وبالعكس، راجع ص 17 من حاشية الباجوري على ابن قاسم في كتاب الطهارة، وقد بقي آثار من أعمالهم الجاهلية في البوادي ووصلت إلى القرى، وقد توجد الآن عند بعض الأرياف فإنهم لا يورثون اليتيم ولا المرأة بل يرثونها، وذلك لقلة علمهم وعدم وجود العلماء عندهم وكثرة طمعهم، والقصور كله على الحكومة التي أهملتهم وتركتهم على ما هم عليه، وإلا لو أرسلت إليهم النصاح والمرشدين والمعلمين لما بقي لهذه العوائد من أثر، اللهم بصرهم لينفعوا عبادك وينشروا القسط في بلادك، لأن زمام الأمور بيد السلطان، وانه ليزع به أكثر مما يزع بالقرآن، فهو القطب الذي عليه مدار الدنيا، وقوام

الحدود، ونظام الحقوق، وهو حمى الله، وظله الممدود على عباده وبلاده، به يمتنع صريخهم، وينتصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم. على أن غير العرب في ذلك الزمن كان أكثر وحشية منهم وأشد ظلما وأعظم تكبرا، وحتى الآن توجد فيهم هذه الخصال وأشنع وأقبح وأفظع، كما يذكرونه في جرائدهم. قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى» الذين هم تحت تربيتكم إذا أردتم الزواج بهن «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» غيرهن وزوجوهن لغيركم وتزوجوا من شئتم من غيرهن «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» أي اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا أربعا فحسب، أما الزيادة على الأربع فحرام عليكم، وليس لكم أن تقتدوا بحضرة الرسول فيما هو من خصائصه، وهذا هو الحكم الشرعي. ولا دليل في هذه الآية على التسع بزعم جواز ضم الأعداد الثلاثة أي جمعها لأنها تكون عشرا لا تسعا بضم الواحدة التي قبل الاثنتين، لأنها مبدأ العدد، ولأن الخطاب للجميع، وسبب التكرار ليصيب كل ناكح يريد الجمع الذي أراده من العدد الذي أطلق له، كما إذا قلت لجماعة اقتسموا هذه الألف درهمين درهمين، أو عشرة عشرة، أو مئة مئة، فإن الواحد يناله أحد هذه الأعداد لا مجموعها، تدبر، يدل على هذا ما أخرجه أبو داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال اختر أربعا (أي واترك الباقي) . وما أخرجه الترمذي عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول الله أن يختار منهن أربعا فقط. ومن هنا تعلم أن ما عليه بعض الإمامية ومن حذا حذوهم من تجويز الجمع بين التسعة لا يتفق وصريح الآية المؤيدة بهذه الأحاديث الصحيحة، ومخالف للإجماع، راجع أول سورة فاطر في ج 1. «فَإِنْ خِفْتُمْ» أيها الراغبون في زواج أكثر من واحدة «أَلَّا تَعْدِلُوا» بينهن «فَواحِدَةً» فقط فتقتصرون عليها «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من الجواري إذ لا يجب العدل بينهن «ذلِكَ» الاقتصار على الواحدة مع تحقق عدم العدل بين الأكثر أقرب و «أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» (3) تميلوا عن الحق الذي أوجبه الله عليكم من القسمة

بين الأزواج فتجوروا على بعضهن، من عال يعول بمعنى مال يميل، وبمعنى جاوز يجاوز، ومنه عول الفرائض إذا جاوزت المسألة سهامها تسمى عولية، وعليه يكون المعنى الاكتفاء بالواحدة أقرب من أن لا تجاوزوا ما فرضه الله لكم. وقال الشافعي وهو حجة في اللغة كغيرها: من عال صار ذا عيال أي أن لا تكثر عيالكم فتعجزوا عن القيام بهم، وقد خطأه أبو بكر الرازي باعتبار أن سياق الآية يبعد المعنى المراد من العيال وسباقها كذلك، إلا أنه قد لا يؤخذ بقوله لأنه لا وقوف له على كلام العرب مثله، على أنه يجوز استعمال كلمة في معنيين ومعان أيضا بما يناسبها، وهذا مما يؤسفني لأنه قد فتح بابا لبعض الحمقى فصاروا يعترضون على أسلافهم الكاملين من حيث لم يفهموا أقوالهم وليسوا بأهل لنزالهم، فقال سامحه الله إدا كان من كثرة العيال فيقال عال يعيل لا عال يعول، ولا يعلم أن العرب تقول عال الرجل عياله يعولهم، كما يقال مان ويمونهم إذا أنفق عليهم، وقد روى الأزهري عن الكسائي قال: عال الرجل إذا اقتصر، وأعال إذا كثر عياله. وروى الأزهري أيضا في كتاب تهذيب اللغة عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله (ألا تعولوا) أي لا تكثر عيالكم، وعليه فيكون هو المخطئ لا الشافعي ولكنه استعجل ولم يتثبت. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره بعد أن فند قول المخطئ: الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة، وذلك لأن اللغة العربية واسعة ولكلماتها معان كثيرة وان مجيئها لمعنى لا يعني أنها لا تكون لمعنى آخر، وإن من وقف على روحها وطاف على معناها وتفقأ في الإحاطة بمبانيها قد لا يخطىء أحدا لأنه يرى لكل وجهته، ولو أنه قال تكون بمعنى كذا وبمعنى كذا والأول أولى لمناسبة ما قبلها وما بعدها لكان خيرا له من أن يخطىء من هو أعلم منه، عفا الله عنه ووفقه لما به الصواب. هذا وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ) الآية قالت يا ابن أخي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها (أي وهي ممن تحل له) فيرغب في جمالها أو مالها ويريد أن ينقص من صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن (أي إذا لم يعدلوا في صداقهن

مثل أمثالهن) قالت عائشة فاستفتى الناس رسول الله بعد ذلك، فانزل (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) الآية 127 الآتية، وسيأتي تمام البحث في تفسيرها إن شاء الله تعالى القائل «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً» عطية وهبة عن طيب نفس ورغبة جنان «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً» فوهبة لكم بلا تكليف منكم «فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» (4) هذا خطاب لأولياء النساء اليتامى وغيرهم، بالنظر لإطلاقها، أي أن الله يأمركم أيها الناس أن تعطوا النساء مهورهن كلها ولا تأخذوا منه شيئا إلا إذا سمحن لكم بشيء منه عن طيب نفس بعد أن يتسلمنه فلا مانع من أن تأخذوه، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا زوجوا المرأة لمن معهم في العشيرة لم يعطوها من مهرها شيئا بل يأخذونه كله إلا ما يمنحونها به من ركوبة أو لباس، وإذا زوجوها غريبا عنهم حملوها على بعير إليه وأكرموها بلباس لا يعطونها غيره، فنهاهم الله عن ذلك، وهذه العادة القبيحة لها بقية أيضا حتى الآن في عرب الأرياف والبادية، وكذلك عند الأكراد والجراكسة، وأيضا الشغار لا زال جاريا بينهم إلا أنهم يعطونها ركوبة ولباسا سواء كانت لقريب أو لغريب لا على الخيار في القريب كما هو في الجاهلية الأولى. الحكم الشرعي: وجوب إعطاء تمام المهر للزوجة في الشغار وغيره، إذ يجب إعطاء البديلة مهر مثلبا على من يبدلها، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الشغار بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشغار في العقد، وما روياه عن عقبة بن عامر قال: قال صلّى الله عليه وسلم أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم من الفروج. وذلك لأنهم لا يراعون حقوق البلديات بل يأكلون مهورهن، والأنكى من هذا أنه إذا لم تمتزج إحداهن مع زوجها فتركته أجبرت الأخرى على ترك زوجها أيضا من قبل وليها بصورة لا يرضاها الشرع ولا المروءة، وهذا مما نفت في روع حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهى عن المبادلة بالحديثين المارّين وغيرهما. واعلم أن ماجرينا عليه من كون الخطاب للأولياء أولى مما مشى عليه الغير بجعله للأزواج، لأن الخطاب فيما قبلها للناكحين مع أن ذكر الناكحين جاء استطرادا في بحث اليتامى الذي حذر الله أولياءهم من أكل أموالهم، فجعل الخطاب إليهم أيضا بتحذيرهم من أكل المهور

مطلب في الوصايا وأموال الأيتام وحفظها وتنميتها ورخصة الأكل منها للمحتاج:

أولى وأنسب بالمقام، وأليق للسياق، وأحسن بالسباق، ولأن العادة المطّردة أن الأولياء هم الذين يأكلون صداق بناتهم الأزواج، تدبر. ثم خاطب أولياء اليتامى أيضا بقوله عز قوله. مطلب في الوصايا وأموال الأيتام وحفظها وتنميتها ورخصة الأكل منها للمحتاج: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» وهذا عام في أموال اليتامى وغيرهم وإن السياق يعرفه إليهم، لأن العبرة لعموم اللفظ، أي لا تعطوا أموالكم مداينة أو تجارة أو أمانة أو شركة أو بأي وجه كان سواء كان المال لكم خاصة أو للأيتام الكائن تحت حفظكم وتنميتكم إلى السفهاء الذين لا يؤمل منهم الأداء ولا حسن التدبير فيها لعدم قدرتهم على إصلاحها بأنفسهم، والصغير وغير المجرب والمبذر وضعيف العقل والملكات كلهم في حكم السفيه، فلا يجوز إعطاء المال لهم بالوجوه الأربعة المذكورة آنفا أو غيرها لمظنة التفريط فيه وإتلافه وأكله، وإنما يدخل في هذه مال اليتيم بالإضافة لوليه لأنه تحت يده وبتصرف فيه بحق الولاية عليه، فكما أنه لا يجوز أن يسلم ماله للسفيه لا يجوز أن يسلم مال يتيمه إليه بل من باب أولى أن يحافظ عليه أكثر من ماله لأنه من قبيل الأمانة، وكونه لليتيم، وقد علمت ما ذكر الله عن الأمانة في سورة الأحزاب، وما سيأتي في الآية 10 بحق أموال اليتامى، ولهذا لا يجوز تسليم مال اليتيم لليتيم إلا إذا تحقق لديه رشده وقدرته على تنميته والمحافظة عليه والانتفاع به بالمعروف، لأن لفظ السفيه يدخل في عمومه اليتيم وغيره، وسواء كان كبيرا أو صغيرا لأن حكمه حكم المجنون والمعتوه والرقيق والمديون المستغرق والمكاري المفلس، فهؤلاء كلهم ومن كان على شاكلتهم لا يجوز إعطاؤهم المال، لأنه لا يؤمل استيفاؤه منهم ولا الإصلاح فيما يأخذونه، ولهذا نهى الشارع عن معاملة هؤلاء الأصناف، لأن المال كما يجب حفظه يجب صرفه في مصارفه، ومن هنا منعت المادة 157 فما بعدها من المجلة الجليلة معاملة هؤلاء، ثم بين جل بيانه قيمة الأموال بقوله «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» فيها لأبدانكم ومعاشكم ومكانتكم أنتم ومن تمونونه، لأنه قوام الناس وملاك أمرهم. ومما يدل

على أن الخطاب في الأصل في هذه الآيات المتقدمة لأولياء الأيتام، وأن المال المذكور مالهم قوله جل قوله «وَارْزُقُوهُمْ فِيها» بأن تتجروا فيها وتنفقوا عليهم من أرباحها لامن أصلها، لأنها إذا لم تزد تنقص وتخلص وتأكلها الزكاة فيصبحون فقراء عالة عليكم وكلا على الناس، وقد جاء بالخبر اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة «وَاكْسُوهُمْ» أيضا من نمائها بحسب أمثالهم «وَقُولُوا لَهُمْ» أيها الأولياء الكاملون عند ما يريدون منكم زيادة على المعتاد من النفقة واللباس «قَوْلًا مَعْرُوفاً» (5) بأن هذا المال لكم وربحه لكم فإذا كبرتم وكنتم صالحين راشدين سلمناكم إياه، فتتصرفون فيه كيفما شئتم وأردتم من طرق التجارة ومن النفقة والكسوة وغيرها، لأنا مكلفون بالاقتصاد بها، وأن لا نتفق عليكم إلا بقدر الكفاية وبنسبة أمثالكم لتسكن أنفسهم ويرغبوا بأن يكونوا أهلا لاستلامها، وهكذا من الكلام الطيب والقول الحسن والأعمال المرغبة شرعا وعقلا لأن الفعل الجميل والكلام اللين يؤثر في القلب فيسبب إزالة السفه عنهم، ولهذا يقول الله تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتامى» البالغين الكبار، وسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه من قبل، أي اختبروهم وامتحنوهم قبل أن تسلموهم أموالهم، ولا تغتروا بكبرهم وشقشة ألسنتهم وأدبهم أمامكم، فإنهم قد يكونون على خلافه مع غيركم. وقد ذكرنا قبلا اليتيم الذي مات أبوه، ومعناه المنفرد، ومنه الدرة اليتيمة، والعجي من ماتت أمه، واللطيم من فقد أبويه «حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» وزال عنهم اسم اليتيم وصاروا أهلا للزواج بأن أكملوا الثامنة عشرة من عمرهم «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» بالاختبار الذي أجريتموه وتحققتم رزانة عقولهم وقدرتهم على إصلاح أموالهم وأمانتهم عليها «فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» ليتصرفوا فيها بأنفسهم لأنكم أديتم ما عليكم نحوهم وقمتم بواجبكم في أموالهم، أما إذا لم يتحقق لكم رشدهم ولا صلاحيتهم للانتفاع بأموالهم فلا تعطوهم إياها، والأولى بالولي أن يدفع لليتيم أولا بعض ماله ويأمره بالاتّجار به، فإن تبين له صلاحه ولياقته واقتصاده ووضع ما يصرفه موضعه المقبول أعطاه بقية ماله لأنه راشد يتمكن من التصرف به، وإن رأى العكس فهو سفيه لا يسلمه شيئا، ثم يختبره بالدين فإن رآه مجتنبا الفواحش

والمعاصي من كل ما يسقط العدالة الشرعية فهو صالح لتسلّم ماله، وإلا فلا، والاختبار الفعلي كهذا أوثق من الاختبار القولي والنظري، وإذا سلم الولي أو الوصي اليتيم شيئا قبل الاختبار والتحقيق عن حاله فيكون ضامنا كما هو موضح بكتب الفقه والمجلة الجليلة. الحكم الشرعي عدم جواز دفع المال إلى السفيه مطلقا بقطع النظر عن عمره وعلمه وعقله وجواز دفعه إلى من يثبت رشده وسن الرشد من واحد وعشرين سنة إلى خمس وعشرين، وسن بلوغ البنت سبع عشرة سنة على رأي أبي حنيفة وعليه العمل في المحكمة الشرعية، أو يحتلمان لقوله تعالى (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) الآية 60 من سورة النور الآتية، وهذان الشرطان للنساء والرجال ويختص النساء بشرطين آخرين الحيض والحبل، وهذا هو المفتى به، وقالوا إن المرأة حكمها حكم السفيه لنقصان عقلها وقلة تدبيرها، فلا يسلم إليها مال ابنها وزوجها وغيرهما، وهذا على الغالب لأن منهن من هي أدرى من بعض الرجال وأوفر عقلا وأحسن تدبيرا «وَلا تَأْكُلُوها» أيها الأولياء فتسرفوا فيها «إِسْرافاً» بغير حق «وَ» لا تبادروا في إنفاقها «بِداراً» قبل «أَنْ يَكْبَرُوا» فتفرطوا بها وتستعجلوا بإنفاقها عليهم. واعلم أن كلمة إسرافا وبدارا لم تكرر في القرآن ثم أشار إلى تحذير الأولياء من أكل مال اليتيم بقوله «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» عن قربان مال اليتيم، فلا يأكل ولا يأخذ منه شيئا ما لقاء الاشتغال بتنميته وحفظه، بل يحتسب ذلك ويطلب أجره من الله الذي لا يضيع عمل عامل. «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ» من مال اليتيم بقدر أجر مثله فيما لو كان نصب فيما عليه بالأجرة، أو أنه اشتغل بمال اليتيم فلا يأخذ من ربحه إلا بقدر أمثاله «بِالْمَعْرُوفِ» الذي هو جار عادة بين الناس ومتعارف بينهم كالربع من الربح أو الثلث على الكثير، روى أبو داود عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم، فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متاثل. المتأثل الذي ينفق على أهله ونفسه ويكسوهم أفضل وأحسن من أمثاله. الحكم الشرعي جواز أخذ الولي من مال اليتيم إذا كان محتاجا على سبيل القرض دون فائدة ما بقدر كفايته

فقط، على أنه إذا كان ممن تجب عليه نفقته وكان غير كسوب فله أن يطلب فرض نفقة له في مال اليتيم الغني الذي هو تحت وصايته على أن يرجع اليتيم عليه بما أخذه أو النفقة عند يساره، وإذا لم يوسر فلا قضاء عليه، على أن تكون النفقة نفقة، فإذا تجاوزها فهو آثم وعليه قضاء المتجاوز فقط «فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» بعد ما تحققتم صلاحهم على الوجه المار ذكره «فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ» وهذا الأمر على طريقة الندب لإزالة التهمة، وإلا فحكم الولي حكم الأمين يصدق بقوله على براءة ذمته، وجاز إقامة البينة تحاشيا عن الحلف. ومما يدل على أن الأمر هنا للندب قوله تعالى «وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» (6) على ما ادعى به من الإنفاق على اليتيم من ماله حال صغره وعلى ما ربح به وعلى ما أكل من ربحه إذا كان اشتغل به أو من نفس المال إذا كان عاجزا فقيرا ممن تلزمه نفقته، وطنه بقدر الحاجة مثل نفقة الفقراء، ويكتفي بيمينه بان أكله لم يكن لطمع فيه وإنه لم يبذر ولم يسرف في جميع ذلك وإنه قد حافظ عليه بقدر الاستطاعة، وعلى هذا العمل الآن وإلى آخر الدوران إن شاء الله إذا قيض لهذه الأمة من يحكم بشرعه هذا، ولو لم يصدق الولي أو الوصي بقوله فقط لما قبل أحد أن يكون وصيا على يتيم أو قيما على سفيه أو غائب أو مجنون أو شبهه، قال تعالى «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» مقدر في علم الفرائض وأما أصوله فستأتي بعد «وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» أيضا مبين أصله في الكتاب، وفرعه في السنة واجتهاد الفقهاء المجمع عليه «مِمَّا قَلَّ مِنْهُ» من المال المتروك «أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» (7) لكل منهم كما سيأتي بعد. قالوا كان توفي أوس بن ثابت الأنصاري فترك زوجته أم كهّة وثلاث بنات، فأخذ أبناء عمه سويد وعرفجه ماله ولم يعطياها ولا بناتها شيئا لأنهم كانوا لا يورثون النساء، وهذه أيضا باقية من بقايا الجاهلية حتى الآن لدى عرب الأرياف والبوادي وبعض الأعاجم على اختلاف مللهم ونحلهم، فشكت أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فاستدعاهما فقالا إن ولدها لا يركبن فرسا ولا يحملن كلّا ولا ينكبن عدوا، وإن العادة المتعارفة عندنا عدم توريث مثلهم وانحصار الإرث فيمن يقاتل ويجوز الغنيمة

ويحمي الحوزة، فأنزل الله هذه الآية، وإذ لم يبين فيها ما هو نصيب كل منهم أوعز إليهما أن لا يفرطا بشيء من المال حتى ينزل الله مقدار النصيب المار ذكره أول هذه الآية. أما ما جاء بقوله صلّى الله عليه وسلم ساووا بين أولادكم بالعطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء، الا فاستوصوا بالنساء خيرا، فهو بعد نزول مقدار لنصيب الفرائض. قال تعالى «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ» للميراث «أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ» الذين لا حظّ لهم في الإرث «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» أيها الوارثون وجودوا عليهم بما تسمح به نفوسكم إذا كان المال لكم وحدكم وأنتم كبار وإلّا فإن كان فيمن يستحق الإرث صغير أو سفيه أو غائب فليس لكم أن تعطوا منه شيئا إلا محسوبا على نصيبكم «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (8) عند ما تعطونهم ولا تعنفوهم على حضورهم ولا تمنوا عليهم بما تعطونه لهم واعتذروا من القليل إن لم تسمح نفسكم بأكثر منه وإذا كان الميراث للصغار أو الغائبين أو السفهاء فاعتذروا إليهم بعدم جواز إعطائهم شيئا منه لأنهم لا حق لهم بالتصرف به ولا دليل لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية الميراث الآتية، لأن الأمر على طريق الندب لا الوجوب ولأنهم غير وارثين، لأن قريب الوارث أو الوصي على القاصرين أو اليتيم على الغائبين والسفهاء لا يكون وارثا دائما إذ قد يكون غير وارث «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ» يحرضون المريض على الإيصاء بماله أو الإعطاء منه حالة المرض أو التصدق بأكثر من الثلث أو بالثلث على قول كما مرت الإشارة إليه في الآية 182 من سورة البقرة، ويحبذون له ذلك فيسببون فاقة أولاده من بعده، وليحذر أيضا الأوصياء الذين لا يحافظون على أموال القاصرين، وليعلموا أنه كما أنهم «لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ» وراءهم، وقد لمحت الآية 267 من سورة البقرة إلى هذا المعنى أي خلفوا «ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ» من حيث لا يرضونه لأنفسهم، فلا يجوز أن يرضوه لغيرهم، قال صلّى الله عليه وسلم لا يكمل ايمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يجب لنفسه «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ» أمثال هؤلاء وليتباعدوا عما نهوا عنه، فلا يحملوا المريض على ما يئول لفقر أولاده، بل يأمرونه بالنظر لحالة ولده ويمنعونه من الوصية والصدقة والعطية بالثلث فما فوق، وإن كان ولا بد

[سورة النساء (4) : الآيات 11 إلى 20]

فيما دون الثلث، لأن حضرة الرسول قال والثلث كثير راجع الآية 182 من البقرة «وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً» (9) عدلا صوابا لا يحيف المريض به في الوصية ولا يمنعونه عنها بتاتا فيحرمون الفقراء والأقارب من فضله إن كان له مال كثير كما ألمعنا إليه في الآيتين المذكورتين من سورة البقرة، بل يحبذون له الإيصاء للأقربين الفقراء غير الوارثين والعلماء الصالحين والأيتام والأرامل المحتاجين، ليجد ثوابه عند ربه وليستفيد من ماله في الآخرة كما استفاد منه في الدنيا. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» بغير حق فهو ظلم ولهذا هددهم الله بقوله «إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (10) نزلت هذه الآية في مرشد بن زيد الغطفاني إذ أكل مال ابن أخيه القاصر. وإنما سماه الله نارا لأنه يفضي لدخولها وهي عامة في كل من يأكل مال اليتيم أو يتصرف به بغير حق فينقصة أو يتلفه. ألا فليحذر الأولياء والأوصياء والقضاة ومدير والأيتام وغيرهم من أن يتسببوا لنقص مال اليتيم فيدخلوا في حكم هذه الآية، أجارنا الله تعالى ووقانا وحفظنا وحمانا. قال تعالى مبينا أيضا الوارثين جل بيانه «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» بصورة مطّردة في العصبات «فَإِنْ كُنَّ» الوارثات كلهن «نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ» للمورث يقسم بينهن بالسوية والباقي للعصبة فإذا لم يكن هناك عصبة يأخذن الباقي بطريق الردّ على السوية أيضا «وَإِنْ كانَتْ» الوارثة أنثى «واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» فرضا والباقي ردا عند عدم العصبة وإلا فهو لعصبة الميت «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ» إن كانا أحياء، وهذا «إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» فإذا لم يكن له ولد فالمال كله لهما «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ» فقط «فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» والباقي للأب «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» والباقي للأب، أما إذا لم يكن له أبو لا جد فيأخذون خمسة أسداس المال يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وتأخذ الأم السدس فقط وذلك كله «مِنْ بَعْدِ» أداء «وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها» من قبل الميت «أَوْ دَيْنٍ» كان عليه ثابت في ذمته، لأن الميت يتعلق بميراثه أربعة حقوق، تجهيزه

وتكفينه ودفنه وإيفاء ديونه وتنفيذ وصاياه، فيبدأ أولا بتجهيزه، ثم إيفاء ديونه ثم تنفيذ وصاياه، وما بقي يقسم بين الورثة حسبما أمر الله، ولا تعترضوا أيها الناس على زيادة النصيب ونقصه فهو الموافق لمصلحتكم إذا أجلتم النظر وتدبرتم العاقبة. هذا من جهة ومن أخرى فالأمر أمر الله ولا معقب لأمره «آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ» في حق الإرث لهم أنصباء معلومة مقدرة عند الله، وأنتم «لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» لتخصوه بزيادة ولا أكثر ضرا لتحرموه من الميراث فكم من أنثى أحسن من ذكور، وكم من بعيد خير من قريب، ولكن الله يعلم ذلك وقضت كلمته أن يكون تقسيمه الإرث على ذلك وكان هذا «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» لا محل للاعتراض عليها «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولم يزل «عَلِيماً حَكِيماً» (11) فيما فرض وحكم وقسم «وَلَكُمْ» أيها الأزواج «نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ» هذا «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ» والولد هنا يشمل الذكر والأنثى والواحد والمتعدّد، فإن كان واحدا ذكرا أخذ المال كله من فرض الأب والأم فرضا إذا كانا حيين لأنهما أصحاب فروض لا ينقطعون بعد بحال من الأحوال ولا يحرمون بتاتا من الإرث، بل قد يحجبان حجب نقصان في بعض الأحوال المعلومة في كتب الفرائض، ولنا رسالة مسماة أصح القول في الردّ والعول فيها كفاية لمن يراجعها، وإن كان اثنان فأكثر اقتسموه بينهم على السواء. وإن كانت أنثى أخذت النصف فرضا والباقي ردا، إذا لم يكن هناك عصبة كما تقدم، وإن كن أكثر أخذن الثلثين والباقي للعصبة، وإن كانوا ذكورا وإناثا اقتسموه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين «وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً» أي لا ولد له ولا والد ولا حفيد ولا جد. والوارث الذي ليس بولد ولا والد يسمى كلالة «أَوِ امْرَأَةٌ» تورث كلالة «وَلَهُ» لهذا الميت رجل كان أو امرأة «أَخٌ أَوْ أُخْتٌ» لأم «فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ

فَإِنْ كانُوا» الإخوة لأم «أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ» ثلاثة فما فوق «فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» ذكورهم وإناثهم على السواء لأن الشركة تقتضي التسوية وما يفضل يعطى للعصبة المبين تفصيلهم ومقدار إرثهم في علم الفرائض، وهذا أيضا يعطى لهم «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها» من قبل الميت ذكرا كان أو أنثى «أَوْ دَيْنٍ» وقد كررت هذه الجملة أربع مرات بحسب اختلاف الموصيين، ولهذا لا يعد تكرارا إذ لا بدّ منها لئلا يتوهم عدم القيام بالوصية أو الدين في بعض الأحوال فيظن أن حكمها غير جار في الآية المتروكة منها، مع أن إيفاء الوصية وأداء الدين مقدم على الإرث في كل الأحوال، ويجب على الموصي أن يكون بوصية «غَيْرَ مُضَارٍّ» بورثته بان يوصي بأكثر من الثلث أو يخصص وارثا بغير ما يخص به الآخر زيادة على فرضه أو يحرم وارثا، وذلك بأن يقسم تركته حال مرضه عليهم، لأن هذا كله من الإضرار المنهي عنه شرعا الموجبة للعقوق وحنق بعض الورثة على بعض، لأن الأمر بهذا التقسيم وعدم الإضرار كله صادر «وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ» لعباده ليتقيدوا فيها ويعملوا بأحكامها وليحافظوها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بنياتكم فيحذركم من أن تتضارّوا وخاصة في آخر رمق من حياتكم لأنكم أحوج ما تكونون إلى الوفاق فيه بأن تتركوا ورثتكم منآلفين وأنتم بوقت ترجون فيه الدعاء والرضاء ورجاء فضل الله فتعملوا ما يغضبه وتقعوا بالإثم الذي أوله مخالفة الله وآخره الخلاف بين ورثتكم بما يعود عليكم بالسبّ والشتم، ونتيجته عذاب الله في الآخرة والله «حَلِيمٌ» (12) لا يعجل عقابه وإلا لأنزل البلاء حالا بمن يخالف وصاياه. تشير هذه الآية إلى استدراك ما هفا به المريض قبل موته ليرجع عما فعله من الحيف بذلك لئلا يستحق وعيد الله، ولعله ينال وعده، ولذلك يسن لمن يعود المريض وقد علم بما وقع منه من المخالفة في الوصية أو غيرها أن يرشده إلى ما به رضاء الله ورضاء خلقه، ويحذّره عاقبة الأمر، راجع ما بيناه في الآية 182 من البقرة «تِلْكَ» الأحكام المذكورة في الإرث والوصايا واليتامى هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي يجب عليكم الوقوف عندها فلا تعتدوها أيها الناس، وأطيعوا الله فيما يأمركم وينهاكم وأبقوا ورثتكم متآخين، وارجوا دعاءهم لكم بالخير، «وَمَنْ يُطِعِ

اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (13) ولا أعظم فوزا من الخلود في الجنة أبدا فتحصلوا على رضاء الله أيها الناس، وإياكم أن تعصوه «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ» التي بينها في الإرث وغيره «يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» (14) لا تطيقه قواه مع الخزي والعار. هذا، وإن حضرة الرسول ينتظر أمر الله في بيان نصيب كل من ورثة أوس بن ثابت المار ذكره في الآية 7 وكان سعد بن الربيع استشهد بأحد وترك بنين وامرأتين وأمّا، وكانت زوجته راجعت حضرة الرسول أيضا بأن عما أخذ مالها ولم يدع لها شيئا، وكان قال لها ليقض الله في ذلك كما رواه البخاري ومسلم عن جابر، فأنزل الله هذه الآيات المبينة ما سألتا عنه فاستدعاهما وأعطى كلا منهم نصيبه حسبما أمر الله. أما من ليس له فرض في كتاب الله فيدخل في قوله صلّى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن ابن عباس ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأدنى رجل ذكر. وهذا ما يسمونه تعصيبا في علم الفرائض الواجب وتعلمه وجوبا كفائيا، لأنه من أعظم العلوم قدرا وأشرفها ذخرا وأفضلها ذكرا لأن الله تعالى تولى بيان تقسيمها بنفسه جلت ذاته وعظمته، أخرج بن ماجة والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه (أي علم الفرائض) نصف العلم وهو أول علم ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي. وكان من برع في هذا العلم زمن الرسول زيد بن ثابت، وبعده ابن مسعود وقال صلّى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه رضوان الله عليهم أفرضكم زيد. وكان سئل أبو موسى عن بنت وبنت ابن وأخت فأفتى بالنصف للبنت والنصف للأخت وأمر السائل ان يسأل ابن مسعود، فسأله فأعطى للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللأخت ما بقي، فعرضوه على أبي موسى فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم تنويها بفضله ومن هنا أخذت قاعدة اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة، هذا وبعد أن بين الله تعالى لزوم الإحسان إلى النساء وإمساكهن بالجميل أو تسريحن بإحسان فيما تقدم من الآيات في سورة البقرة في الآية 241 فما قبلها وفي أوائل هذه

مطلب حد الزنى واللواطة. وأصول التشريع. والمراد بالنسخ. وإيمان اليأس والتوبة:

السورة ضم إلى ذلك لزوم التغليظ عليهن ليجتنين ما يدنس كرامتهن وليحافظن على شرفهن، فهو من جملة الإحسان إليهن بحسب العاقبة. مطلب حد الزنى واللواطة. وأصول التشريع. والمراد بالنسخ. وإيمان اليأس والتوبة: فقال جل قوله «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» سواء كن زوجات أو غيرهن على الإطلاق «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون كلهم رجال لا من غيركم ولا من النساء، لأن هذا من الأمور الهامة فلا يؤتمن أبدا عليها غيركم بخلاف بعض الحقوق التي تجوز فيها الشهادة من غيركم بما فيهم النساء، كما سنبينه في الآية 110 من سورة المائدة الآتية، وقد مرّ لها بحث في الآية 281 من سورة البقرة فراجعه «فَإِنْ شَهِدُوا» شهادة لا غبار عليها أربعتهم أمام الإمام والقاضي بأنهن فعلن الفاحشة عيانا «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» إحبسوهن فيها جزاء لإقدامهن على تلك الفعلة القبيحة حالا لئلا يكررنه وان تبقوهن محبوسات «حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ» فتخلصوا منهن «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» (15) طريقا آخر فينزل فيهن حكما آخر قبل أن يمتن، وهذا كان موجودا في الجاهلية وفي بداية الإسلام واستمر حتى أنزل الله بيان السبيل الذي ذكره هنا في سورة النور الآتية، وهذا يعد من المجمل الذي يحتاج إلى البيان فلا تعد هذه الآية منسوخة كما قاله بعض المفسرين بالحديث الذي رواه مسلم عن عبادة بن الصامت من أنه كان نبي الله إذا أنزل عليه حكم كرب لذلك، وتريد وجهه، فأنزل الله عليه ذات يوم، فبقي كذلك، فلما سرّى عنه قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة والرّجم. فإن هذا هو السبيل المجمل الذي بينه صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث فصار بيانا للآية، لا ناسخا، لأن الحديث لا ينسخ القرآن كما بيناه في تفسير الآيتين 107 و 180 من سورة البقرة المارة فراجعها، وسيأتي زيادة تفصيل في تفسير أول آية من سورة النور المذكورة إن شاء الله تعالى. ويعلم من هذا أن أمر الله بالإحسان إلى النساء لا يكون سببا لترك إقامة الحد عليهن، لأنه يسبب إيقاعهن ت (34)

بالمفاسد، فكان إقامة الحد عليهن حكما قاطعا لذلك، روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة- لفظ البخاري- ولمسلم: ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين. قال تعالى «وَالَّذانِ» أي الفريقان، المحصنون وغير المحصنين وقيل إنهما اللائط والملوط به ولا شك أن اللواطة أفحش من الزنا لخروج الآتي والمأتى فيه عن مقتضى الحد الإلهي، وانحطاطهما عن رتبة الكمال الإنساني مما يخالف المروءة ويسقط العدالة. وهذان الناقصان اللذان «يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» أيها الرجال «فَآذُوهُما» أيها الحكام وحقروهما وعيّروهما وأنبوهما أيها الناس على فعل هذه الفاحشة الشنيعة ولا تقيسونها على النساء فتحبسونها، لأن الحبس يمنعهما عن القيام بمعاشهما ومن تلزمهما نفقته لذلك جعل الله عقوبتهما الأذى أي الضرب بالنعال والتقريع والتوبيخ، أما النساء فلا صالح لهن بالخروج، لذلك جعل جزائهن الحبس إلى أن يتوبا «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» بسبب خضوعهما وإنابتهما بعد ذلك الضرب والتأنيب «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولا يزال «تَوَّاباً» على من يتوب وينيب إليه «رَحِيماً» (16) بمن يرجع إليه حكيما فيما يشرع لعباده، وهذا أيضا كان أول الإسلام واستمر إلى أن نزلت آية الحد أول سورة النور الآتية، لأن الله تعالى جعل تشريعه لهذه الأمة تدريجا، والتدريج هو الأصل الثالث من أسس التشريع التي اعتبرها الفقهاء من أصول الدين التي أشرنا إليها في بحث التدريج للأحكام في المقدمة فراجعه، ولهذا سوغ الأخذ بالرخصة كقصر الصلاة وفطر الصائم واليتيم وإباحة المحرّم عند الضرورة بقدر الحاجة والنطق بكلمة الكفر عند خوف القتل مع اطمئنان القلب وجواز شرب الخمر بالإكراه وما أشبه ذلك كما نبهنا عنه في الآية 107 من سورة النحل في ج 2. والأصل الثاني تقليل التكاليف، وهو

نتيجة لازمة لعدم الحرج، لأن كثرتها إحراج على الأمة، وإنما كان التشريع تدريجيا ليتم كمال دينه الذي ارتضاه شيئا فشيئا، لأنه لو تعبدهم بكل ما أمرهم ونهاهم دفعة واحدة لصعب الأمر عليهم وشق الانقياد إليه والامتثال له، ولما تلقاه بالقبول إلا القليل منهم، فإذا تأملت هذا جزمت بأن ما أنزل آخرا غير مبطل لما نزل أولا بالمعنى المراد في النسخ، ولظهر لك سرّا هذا من أنهم لما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر المستحكمين فيهم والذين كانا دأبهم ليل نهار وديدنهم صباح مساء كالشاي والقهوة في زماننا أجابهم بما لم يصرح فيه على الكف عنهما بتاتا كما مر تفصيله في المقدمة. ولتمام بحثه صلة في سورة المائدة الآتية إن شاء الله، فعلى هذا الأصل وأصل الإجمال بعد التفصيل الذي نحن بصدده تعلم أن لا نسخ في كتاب الله بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ، لأنك لو تدبّرت الآيات المكية لوجدتها كلها مجملة وقل ما هو مفصّل فيها، لأن جلها مما يحمي العقيدة، ولو تأملت الآيات المدنيات لوجدت غالبها مفصلا مبينا لذلك المجمل، ولا سيما ما هو خاص بالمعاملات المدنية وهذا من خصائص ومميزات المدني عن المكي التي ذكرناها في بحث خاص في المقدمة أيضا فراجعها. قال تعالى «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» أي مقبولة لديه بمحض الفضل لا الوجوب «لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» إذ لا يعصي الإله إلا الجاهل السفيه لعدم استعمالهما معه من العقل المميّز الخير من الشر والعلم المبني عن عقاب الله على المعصية وثوابه على الطاعة «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» على أثر الإقلاع من فعله فيتبعه الندم حالا والاستغفار منه والإنابة إلى الله «فَأُولئِكَ» الذين هذا شأنهم النادمين على فعل السيء الراجعين إلى الله «يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» إذا تابوا قبل حضور الموت ومعاينة أسبابه، لأن عمر الإنسان كله قليل قريب من الموت، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. أي حتى يتردد الماء في حلقه فلا يستطيع إساغته من سكرات الموت «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بما يقع من الندم من عباده فيمهلهم ليتوبوا فيقبل توبتهم المدون في علمه الأزلي قبولها «حَكِيماً» (17) بعدم تعجيل العذاب لأمثالهم لعلمه برجوعهم إليه ونظير هذه الآية الآية 119 من سورة النحل في ج 2. روى

البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. قال تعالى مبينا القسم الأول من الذين لا توبة لهم بقوله عز قوله «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وصار ينزع بروحه لأنه وقت يأس وانقطاع الأمل من الحياة، وفي هذه الحالة لا ينفع الايمان وإلا لقبل إيمان فرعون، وإن الذي لا تقبل توبته هو الذي لا تخطر بباله إلا في آخر رمق من حياته عند إشرافه على الموت ومعاينة أسبابه «قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» عند بلوغه تلك الحالة التي تحقق عدم الحياة بعدها. قال تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) الآية الاخيرة من سورة المؤمن في ج 2 وإلا لما بقي كافر على وجه الأرض راجع الآية 158 من الانعام في ج 2 تجد ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة ثم بين القسم الثاني فقال (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) إذ لم يبق أمامهم بعد الموت إلا الآخرة ولا تقبل التوبة فيها لأنها ليست بدار تكليف وإلا لما دخل النّار كافر «أُولئِكَ» الذين أهملوا أنفسهم ولم يتوبوا في حالة تقبل فيها توبتهم قد خسروا الدنيا و «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (18) في الآخرة والمراد بالسيئات هنا الشرك الجامع لكل سوء. قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآية الآتية وهي مكررة هنا، فقد أطلق تعالى فيها عدم المغفرة للمشركين ووعد بغفران ما دون الشرك، فيكون المؤمن الذي أهمل توبته عما اقترف من المعاصي باقيا تحت المشيئة، قال في الجوهرة: ومن يمت ولم يتب من ذنبه ... فأمره مفوض لربه قال سعيد بن جبير نزلت الآية الاولى في المؤمنين وصدر الثانية في المنافقين وآخرها في الكافرين ومن أراد أن يشمل هذه الآية للمؤمنين قال إنها منسوخة بآية (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية المارة آنفا، ونحن نتحاشى ذلك والمعنى يأباه، والتنزيل ينافيه، ونقول ما قاله سعيد ابن جبير الذي قال فيه الحجاج بعد موته على ما قيل إنه رئي بالمنام فقال إن الله قتله بقتل كل قتيل قتلة قتلة وبسعيد بن جبير سبعين

قتلة، وذلك لأنه رحمه الله أعلم أهل زمانه، وعليه فلا نسخ في الآية بل هي محكمة باق حكمها إلى الأبد حسبما قال. مطلب حرمة عد النساء ميراثا وحومة استرداد المهر منهن والأمر بحسن معاشرتهن. والرجوع للحق فضيلة: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» بأن تتزوجوهن من غير رغبة بهن أو بغير رغبتهن بكم بداعي أنكم قد ورثتموهن وهن ليس بميراث «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ» تمنعوهن من الزواج لمن يرغبن بهم ويرغب فيهن «لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» ظاهرة «وَعاشِرُوهُنَّ» إذا تزوجتموهن برضائهن وكن ممن يحل لكم الزواج بهن «بِالْمَعْرُوفِ» كما يطلب منهن ذلك أيضا فضلا عن الطاعة والإخبات «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ» وآثرتم فراقهن على البقاء في عصمتكم وكرهتموهن قبل أن تبنوا بهن فالأجدر بكم أن تبقوهن عندكم «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً» في حال من الأحوال «وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19) بأن يبدل تلك الكراهية محبة أو اتركوهن فقد يكون في تركهن الخير لكم، ولكن سياق الآية يرمي إلى الحث على عدم الفراق حال الكراهة كما ذكرناه، قال صلّى الله عليه وسلم أبغض الحلال إلى الله الطلاق. إذ قد يرزق الله منها ولدا صالحا فيكون فيه الخير وإذا أمسكها على سوء خلقها فيكون له الثواب الجزيل عند الله في الآخرة ويستحق الثناء من الناس في الدنيا. كان أهل المدينة أوائل الإسلام على عاداتهم الجاهلية إذا مات الرجل منهم ورث زوجته قريبه، فإن شاء تزوجها بغير صداق على صداقها الأول الذي أخذته من قريبه المتوفى، وإن شاء منعها من الزواج حتى تفدي نفسها بإعادة الصداق الذي أخذته قبلا أو تموت فيرثها، وهذه العادة الجاهلية لها بقية الآن في أعراب البادية وبعض القرى، وإن كانت القرابة عصبية كبنت العم فلها بقية أيضا في عرب الأرياف، فأنزل الله هذه الآية مبينا فيها عدم حل إرث النساء وعدم جواز منعهن من الزواج إذ لم يكنّ مالا حتى يصرن ميراثا، ولأن ما قبضته من المهر الأول لا حق لاحد به. أما جواز حبسها في حالة الزنى من قبل

[سورة النساء (4) : الآيات 21 إلى 30]

وليها كما مر في الآية آنفا بعد ثبوت زناها الدال عليه قوله (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فهذا الوصف دليل على ثبوت ما عزي إليها بالشهود الأربعة المبينة في تلك الآية أيضا فجائز اتباعا لأمر الله، وكذلك زواجهن لمن أردته منهم أو من غيرهم على ما جاء في الآية المارة جائز أيضا، وإنما أمرهم بحسن معاشرتهن إذ قد يكن كارهات له، أو هو كارها لهن، ولهذا أمّل الله الصابر منهما على الكراهة بالخير، وهو إما أن يكون في الدنيا وإما في الآخرة كما قدمناه. قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ» وأنفت أنفسكم أيها الرجال البقاء مع زوجاتكم وأردتم طلاقهن وقد صرفتم عليهن مبلغا عظيما «وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» من ذهب أو فضة مهرا «فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» أبدا لأن الكراهة من قبلكم وقد قضيتم وطركم منهن فلا يحل لكم استعادة شيء منه أبدا «أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً» أي أتحبون أن تأخذونه أخذا باطلا في الدنيا «وَإِثْماً مُبِيناً» (20) ظاهرا تعذبون عليه في الآخرة لأنكم أخذتموه بغير حق فهو حرام عليكم قطعا «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ» جملة عجبية أي بأي وجه تفعلون هذا ولماذا وقد أديتموه لها مهرا عن طيب نفس حينما كنتم راغبين زواجها، فلا يليق بكم أيها العقلاء استرداد ما أعطيتموهن بعد أن قضيتم وطركم منهن، لأن الصداق من نوع الهبة والعائد بهبته كالكلب العائد قيئه وهل يجوز لكم أن تقدموا على ذلك «وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» وهذه الجملة كناية عن الاتصال والجماع «وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» (21) عهدا وثيقا وهو قول العاقد زوجتكها على ما قال الله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) والعقد هو الكلمة التي يستحل بها زواج النساء والدخول بهن بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلم اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. وقوله صلّى الله عليه وسلم استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان في أيديكم، الحديث. جمع عانية أي أسيرة، ولهذا جاء في الخبر عنه صلّى الله عليه وسلم النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع عتيقته. أي آنيته، راجع الآية 49 من سورة الأحزاب المارة. وقال صلّى الله عليه وسلم زوج بنتك إلى كريم فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها ولذلك وصى رسول الله فيهن وصايا مترادفة، وبما أن الله تعالى أخذ العهد للرجال على النساء

من أجل النساء قال في هذه الآية (وَأَخَذْنَ) أي كأنهن اللائي قد أخذن هذا الميثاق على الرجال، ألا فليتق الله الرجال وليتمسكوا بأوامر الله تعالى ووصايا رسوله صلّى الله عليه وسلم في حق النساء. وفي هذه الآية دليل على جواز كثرة المهر، روي أن عمر بن الخطاب قال يوما على المنبر: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة يعطينا الله وتمنعنا أنت! وتلت عليه هذه الآية، فقال: امرأة أصابت وأمير أخطأ، وأنّب نفسه رضي الله عنه، فقال كل الناس أفقه منك يا عمر. انظروا رحمكم الله لقوله هذا وهو أفقه وأعلم الناس إذ ذاك وهو أميرهم وسيدهم وخليفة الله في أرضه، ثم قال رضي الله عنه كنت نهيتكم عن زيادة مهور النساء فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب فليعط. وهذا الرجوع يعد فضيلة لسيدنا عمر رضي الله عنه لا طعنا كما قال بعض الشيعة من أنه وحاشاه جهل هذه القضية، لأن الجهل مناف للإمامة، على أن الآية ليست نصا في غلاء المهور، وليست مانعة من قلتها، وإلا لما قال صلّى الله عليه وسلم: خيرهن أقلهن مهرا. وقد وقع لعلي كرم الله وجهه أنه سئل عن مسألة فقال فيها، فقال له السائل ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال أصبت وأخطأنا وفوق كل ذي علم عليم. وقد وقع لداود عليه السلام ما قص الله لنا عنه راجع الآية 78 من سورة الأنبياء في ج 2، بل تعد فضيلة عظيمة له رضي الله عنه ولكن لا علاج لداء البغض والعناد، ومن يضلل الله فما له من هاد. وغاية ما في هذه الآية النهي عن أخذ المهر من المرأة التي يريد الرجل طلاقها كراهة فيها، وجاءت كلمة القنطار على طريق المبالغة والزجر ليس إلا، وما قيل إن هذه منسوخة بالآية 229 من البقرة المارة قيل لا صحة له، بل هي محكمة والحكم الذي فيها هو الأخذ بغير طيب نفس، وهناك الكراهة من الزوجة، لذلك أجاز أخذ الفداء فيها بخلاف هذه، وتلك مقدمة والمقدم لا ينسخ المؤخر البتة، وكذلك لا وجه لقول القائل إن هذه الآية ناسخة لآية البقرة لما ذكرنا من أن الأخذ هناك بمقابلة فداء نفسها بسبب كراهتها زوجها وهو عن طيب نفس منها لأنها هي المقصرة، ومنا على العكس، لأن القصور كله منه، ويريد هذا القائل منع الخلع مطلقا وينسى قوله صلّى الله عليه وسلم لحبيبة بنت سهل الأنصاري الذي أوردنا ذكره في الآية المذكورة من

مطلب في المحرمات من النساء وفي نكاح الحرة والأمة ونكاح التبعة والتفاضل بين الناس:

البقرة، فراجعها. واعلم أن هذه الآية دليل على أن الخلوة الصحيحة في المرأة المعقود عليها توجب تمام المهر. مطلب في المحرمات من النساء وفي نكاح الحرة والأمة ونكاح التبعة والتفاضل بين الناس: قال تعالى «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» ووقع قبل نزول هذه الآية، لأن التشريع الجديد لا يشمل ما قبله، ولأن النهي لا يتناول إلا ما بعده، ومن هنا أخذت قاعدة القوانين الحكومية بأنها لا تطبق على ما قبلها ولا يعمل بها إلا من تاريخ نشرها ما لم ينص بها على خلاف ذلك كما جاء بالربى راجع الآية 179 من البقرة والآية 132 من آل عمران تعلم أن الأمر فيها شامل لما قبل، أي لكل ربا لم يستوف، ثم بين جل شأنه العلة بقوله «إِنَّهُ» أي أخذ زوجة الأب «كانَ فاحِشَةً» قبيحة مستعملة زمن الجاهلية الذين لا يفرقون بين الحلال والحرام ويفعلون ما تستحسنه عقولهم، وقد أكد الله تعالى التحذير عن الإقدام على زواج زوجة الأب بعد هذا النهي بتسميتها فاحشة لأنها بمنزلة الأم ونكاح الأم حرام قطعا، فكما أن زوجة الابن محرمة على الأب فزوجة الأب محرمة على الابن على القطع «وَ» كان ذلك «مَقْتاً» أيضا يوجب غضب الله وبغضه وغاية في الخزي عند الله «وَساءَ سَبِيلًا» (22) ذلك السبيل المؤدي إلى مقت الله. لما كانت النساء في الجاهلية إرثا وان من يرثهن كان مخيرا بين زواجهن وتزويجهن، أراد قيس الأنصاري أن يتزوج زوجة أبيه فقالت له إني اتخذتك ولدا وأنت رجل صالح، دعني آتي الرسول. فجاءته فاستأمرته، فأنزل الله هذه الآية. والمراد بالنكاح هنا مجرد العقد، قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ج 3 ص 635 اتفقوا على أن حرمة التزويج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد، كما أن التزويج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد. وجاء في الدر المختار وحاشيته لابن عابدين ج 2 ص 470 في فصل المحرمات ما يؤيد هذا، فلا محل للقول باشتراط الدخول، تأمل. وكانت العرب تسمي هذا النكاح نكاح المقت والولد الذي يحصل منه مقيتا، ومن هذا النكاح حصل الأشعث بن قيس وأبو معيط بن

عمرو بن أمية. روى البغوي بسنده عن البراء بن عازب، قال: مرّ بي خالي ومعه لواء، فقلت أين تذهب؟ قال بعثني الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه. وهذا بعد نزول هذه الآية، لأن مخالفة أمر الله كفر توجب القتل، ولأن هذا الذي أقدم على زواج امرأة أبيه بعد نهي الله لم يبال بالنهي، وفعل ما فعل مستحلا جريا على عادة الجاهلية التي نسخها الله، ومن استحل محرما لا شبهة فيه كهذا حل قتله. ثم بين تعالى المحرمات بقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» وأمها وأم أمها إلى النهاية «وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ» الشقيقات أو لأب أو لأم وبناتهن وبنات بناتهن إلى الأبد ولو كانت البنت من الزنى، أي بأن زنى في بكر وأمسكها حتى ولدت، فإنها محرمة عليه، خلافا للشافعي ولا يتصور كونها من الزنى إلا بالإمساك كما ذكرنا، وبعدمه لا يتحقق كونها ابنته أو أخته «وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ» فقط، لأن بناتهن يجوز زواجهن كبنت العم والخال «وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ» وبناتهن كلهن وبنات بناتهن إلى النهاية وهذه سبع محرمات بسبب النسب، ويليها مثلها بسبب السبب وهن «وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» وكذلك بناتهن وبنات بناتهن إلى النهاية «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ» بنات زوجاتكم، وسميت ربيبات لأن الزوج يربيهن. وهذا النهي خاص في «اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ» فقط «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» بزواجهن إذا طلفتم أمهاتهن قبل الدخول، روى عمرو بن متعب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أيما رجل ينكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها دخل أو لم يدخل «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» لا زوجات من تربونهم من أولاد الناس، فتلك حلال لكم، راجع الآيتين 4 و 37 من سورة الأحزاب المارة، ممنوع عليكم ذلك «وَ» ممنوع عليكم أيضا «أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» قبل نزول هذا التحريم «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» (23) بكم لا يؤاخذكم على ما مضى منكم من نكاح الأختين معا وزوجة الأب قبل النهي، كما لا يؤاخذكم على

أي عمل كان منكم قبل نهيكم عنه. روى البخاري عن ابن عباس، قال: حرم من النسب سبع ومن الظهر سبع، ثم قرأ هذه الآية. وقد أجرى الله تعالى الرضاع في التحريم مجرى النسب أي كل ما كان محرما في النسب محرما في الرضاع. يدل على هذا ما روي عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة- أخرجاه في الصحيحين- وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بنت حمزة إنها لا تحل إليّ يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب، وإنها ابنة أخي من الرضاع. فكل من حرمت بسبب النسب حرم نظيرها بسبب الرضاعة وتحرم حليلة الابن نسبا أو رضاعا بمجرد العقد، وكذلك حلائل أبنائهما، لأن لفظ الحل فيها يطلق حقيقة عليه بخلاف النكاح فهو حقيقة بالوطء مجاز في العقد، وإذا صحت الحقيقة فلا محل للمجاز تدبر. الحكم الشرعي هو ما ذكره الله ولا فرق بين الإخوة أن تكون من النسب أو من الرضاع لما تقدم لك من الأحاديث، وكذلك لا يجوز الجمع بين المملوكتين إذا كانتا أختين، وقد سئل علي كرم الله وجهه عن ذلك فأفتى بالتحريم، وكفى به قدوة. وقال هو وعثمان رضي الله عنهما أحلتهما آية (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وحرمتهما آية (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) ومال علي إلى التحريم لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام. وآية (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مخصوصة في غير الجمع بين الأختين الكائن في هذه الآية، لذلك فإن ما مال إليه عثمان رضى الله عنه من التحليل يكون خاصا بغير الأختين، وعليه فكما يجوز للرجل النظر إلى محارمه نسبا والخلوة بهن والسفر معهن يجوز له ذلك مع محارمه في الرضاع، إلا أنهم لا يتوارثون ولا تجب على أحد منهم نفقة الآخر، ويشترط أن يكون الرضاع خلال مدته، فإذا وقع بعد السنتين من عمر الرضيع فلا يعتبر رضاعا محرما، أخرج الترمذي عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام. وأخرج مالك في الموطأ عن ابن مسعود أنه قال: لا رضاع إلا ما كان في الحولين. وأخرجه أبو داود أيضا، وإذا أطلق الرضاع حمل على كامله، وهو ظاهر القرآن لأنه لم يبين عدد الرضعات فتكفي الرضعة الواحدة أي ما تسمى رضعة لا المصة والمصتين لأنها

لا تسمى رضعة بالمعنى المراد، والسنة تفسر القرآن، روي عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا تحرم المصة والمصتان أخرجه مسلم. وروى مسلم عن أم الفضل أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان. وفي رواية أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال يا نبي الله هل تحرم الرضعة، قال لا. هذا ولا يجوز للرجل أن يجمع بين امرأة وعمّتها أو خالتها، والقاعدة في هذا أن كل امرأتين بينهما قرابة أو لبن لو كان ذلك بينك وبين المرأة لم يجز لك نكاحها لم يجز لك الجمع بينهما. روى ابو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها- أخرجاه في الصحيحين- فكل امرأتين لو فرض إحداهما ذكرا والأخرى أنثى لا يجوز الزواج بينهما لا يجوز جمعهما تدبر، وذلك أن ابن الزوج لا يجوز أن يتزوج عمته ولا ابن الاخت خالته، وكذلك العكس، فلا العم يأخذ بنت أخيه، ولا الخال بنت أخته، وهذا هو معنى عدم الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها، وكذلك لا يجوز الجمع بين العمتين والخالتين من نسب آخر، فإن ثبت الحل على أحد الجانبين جاز الجمع كالمرأة وامرأة ابنها من زوج آخر، لأن المرأة لو فرضت ذكرا حرم عليه التزوج بامرأة أبيه، ولو فرضت امرأة الابن ذكرا جاز له التزوج بالمرأة لأنه أجنبي عنها، كما يجوز الجمع بين ابنتي العمين والعمتين، والخالين والخالتين، ويجوز الجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل لأن أحدهما لو كان ذكرا جاز له أن يتزوج الأخرى، فلم يكن التحريم من الجهتين. قال تعالى «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ» أي وحرم عليكم النساء المتزوجات فكل متزوجة محصنة، لأن أصل الإحصان لغة المنع، والحصان المرأة العفيفة، ويطلق هذا اللفظ على ذات الزوج والحرة والعفيفة والمسلمة، وهذه السابعة من النساء المحرمات بالسبب وهو الزواج فكل متزوجة لا يحل نكاحها حتى تطلق وتنقضي عدتها «إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من النساء المسبيّات الذين أزواجهم بدار الحرب، لأن السبي يرتفع به النكاح، والإماء المبيعات لوقوع الفرقة بالبيع فالزموا أيها المؤمنون «كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» فيما أحل لكم وحرم عليكم به لا تخالفوه فتهلكوا «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» المبين لكم تحريمه في الكتاب وما حرمته السنة من الجمع بين

العمة والخالة كما تقدم لنبوت منعه بنهي الرسول عنه في الحديث الصحيح. قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر الآتية وكذلك لا يجوز زواج العبدة على الحرة، وزواج الأمة للقادر على زواج الحرة كما سيأتي. وأحل لكم «أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» نكاح الحرائر بالصداق والعقد، والسراري بالشراء قليلا كان ثمنهن أو كثيرا لإطلاق لفظ أموالكم من غير تقدير ولا قيد ولا تخصيص «مُحْصِنِينَ» أنفسكم بالزواج «غَيْرَ مُسافِحِينَ» وسمي الزنى سفاحا لأن الزاني لا غرض له إلا صب الماء أي سفحه في فرج المرأة. قال تعالى «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ» المستمتعات «أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» من زيادة في المهر والأجل أو نقص فيهما أو زيادة في أحدهما ونقص في الآخر أو بالعكس «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً» بالأشياء قبل خلقها وبحاجة البشر قبل علمهم بها ولم يزل كذلك «حَكِيماً» (24) فيما أباحه لكم فلا يدخل في حكمه خلل ولا زلل. واعلم أن نكاح المتعة هو عقد رجل زواجه على امرأة برضاها على قدر معلوم من الصداق وأجل معروف مبرم مثلا من يوم كذا إلى كذا وعلى درهم فما فوق، خالية من زوج وعدة وحيض ونفاس، فإذا انقضى الأجل بانت بلا طلاق، لأن انقضاء الأجل بحقها بمثابة طلاقها لأنه عقد عليه. وليس لها أن أن تستمتع بغيره إلا بعد أن تستبرئ رحمها بحيضة واحدة على الأقل، ولا توارث بينهما ولا نفقة لها ولا متعة، لأن العقد جرى على شيء معلوم. وفي هذه الأمور السبعة خالفت النكاح لانه لا يكون موقتا ولا تبين إلا بالطلاق البائن، ولا تحل بعده إلا بعد ثلاثة قروء ولها عليه النفقة إذا تركها، والمتعة إذا طلقها، وترث منه إذا مات، وعليها عدة الوفاة. وكانت المتعة في بداية الإسلام ثم حرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحديث الذي رواه مسلم عن مسبرة بن سعد الجهني قال إنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كانت عنده منهن فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. وروى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه

قال: نهى رسول الله عن متعة النساء، يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية الإنسية. هذا وقد قال من يرى نسخ القرآن بالسنة قال إن هذه الآية منسوخة في هذين الحديثين الصحيحين، ومن قال أن السنة لا تنسخ القرآن وهو الصحيح قال إنها منسوخة بقوله تعالى (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الآية 7 من سورة المؤمنين ج 2، وقد يوجّه هذا القول لو كانت هذه الآية متقدمة في النزول على آية المؤمنين لأن المؤخر ينسخ المقدم أي يرفع حكمه لا تلاوته، ولكنها مقدمة عليها والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وكذلك نظيرتها آية المعارج 31 في ج 2 مقدمة على هذه الآية بالنزول وهما مكيتان وهذه مدنية والمكي لا أحكام فيه ما عدا التوحيد والبعث والرسالة، وقد ذكرنا غير مرة أن السنة لا تنسخ القرآن راجع الآية 107 من البقرة المارة، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يرخص بالمتعة ويقول إن الآية محكمة ولم يزل يفتي بها إلى زمن ابن الزبير ولم يثبت أنه انتهى عن الإفتاء بجوازها حينما نهاه علي كرم الله وجهه وقال له إنك رجل تائه، أخرج ابن الزبير عن عروة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قامه بمكة حين خلف عليها بعد وفاة علي كرم الله وجهه والحسين رضي الله عنه، فقال: إن أناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل يعني ابن عباس كما قال النووي، فناداه فقال إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير فجرّب نفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك. وقال بعضهم إن ابن عباس إنما أباح المتعة، حالة الاضطرار وخوف العنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير قال قلت لابن عباس لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء قال وما قالوا؟ قلت قالوا: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال سبحان الله ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ولا تحل إلّا لمضطر، ولولا هذه الأحاديث والأخبار لأمكن تفسير الآية بغير معنى المتعة

المذكورة، لما جاء في تفسير ابن عباس (فما استنفعتم) وفي النسفي فما نكحتموه منهن، وفي البيضاوي فما تمتعتم به من المنكوحات، وفي الخازن ما تلذذتم به من الجماع، وكل هذه الألفاظ تفسيرية لقوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) فلا مانع إذا بتفسيرها بتزوجتم أو نكحتم، ولا مانع من تفسير أجورهن بمهورهن، فيرتفع معنى الاستمتاع الذي يريده الغير، وعليه يمكن أن يقال فما استمتعتم به منهن أي فيما نكحتموهن وجامعتموهن من النساء فآتوهن أجورهن أي مهورهن، لأن المهر أجر البضع، وقد عبر عنه في مواضع كثيرة بمعنى المهر في القرآن العظيم كما مر أول هذه السورة، وفي الآية 11 من سورة الممتحنة، والآية 50 من سورة الأحزاب المارتين، وكما سيأتي بعد في الآية 6 من المائدة و 25 منها، فإنه عبّر فيهن عن المهر بالأجر وهو الأحسن والأليق والأرجح. أو يقال إن هذه الآية عبارة عن إخبار الله تعالى بما أمر به رسول أمته ما هو موافق لأزله لأنه لا ينطق عن هوى وليست من قبيل الأمر حتى تتضارب فيها الآراء ويصار إلى القول بنسخها او عدمه، ومن المعلوم أن الأخبار لا يدخلها النسخ، فأحسن القول بالمتعة إنها ثبتت بالسنة ونسخت بها لا أنها ثبتت بالقرآن ونسخته بالسنة، تدبر قوله تعالى (فَرِيضَةً) أي كجملة المهور المفروضة ومعنى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي في الحط من المهر أو زيادته أو هبته بعد العقد وقبله لأن هذا كله جائز شرعا إذا اتفق عليه الطرفان. قال تعالى «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا» سعة وسمى الغنى طولا لأنه ينال به المراد غالبا «أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ» لعدم قدرته على ما يحتاج لهن من مهور زائدة ونفقات طائلة «فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» اي ليأخذ من الجواري والإماء المعبّر عنهن بقوله عز قوله «مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» المملوكات لأنهن لا يحتجن إلى كثير كلفة من مهر ونفقة، ولان معاشرتهن لا تحتاج إلى ما تتطلب له معاشرة الحرائر، كما أن معاشهن يسير بالنسبة لهن وربما يقنعن بما يكفيهن. وفي هذه الآية دليل على أن الزواج بالأمة متوقف على شرطين: عدم القدرة على مهر الحرة وكفايتها وخوف العنت على نفسه، كما سيأتي ذكره بعد. «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ» أي بتفاضله

وفي هذه الجملة تأنيس بنكاح الإماء وإزالة الاستنكاف منه واعلام بعدم أرجحية الإيمان فيما بين الناس أحرارهم وإمائهم من حيث الظاهر، ولربما كان إيمان الإماء أقوى من الحرائر وبالعكس، وإيمان المرأة أرجح من إيمان الرجل وبالعكس. وتشير إلى أن التفضيل عند الله باعتبار الإيمان لا بالنسب والحسب. وفي قوله تعالى «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» تنبيه إلى التساوي بالنسب القديم لأن العبيد والأحرار أصلهم من آدم وحواء على السواء قال: الناس بحسب التمثال أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء فمناط التفاخر أيها الناس بالإيمان، وملاك الفضل بالتقوى، وقوام الأعمال بالأدب، وجماع الحشمة بالكرم، وإذا كان كذلك فلا تأنفوا أيها الفقراء من نكاح الإماء ولا تشمخوا عليهن بحريتكم، ولا تلتفتوا إلى أقوال الجاهلين الذين ينتقدون ذلك ويسمون ابن الأمة الهجين، ومعناه في الأصل اللئيم ومن أبوه خير من أمه، ويطلق على العربي المولود من الجارية، وعلى كل حال فالإحصان بالجارية فيه قمع الشهوة التي ربما توقعه فيما لا يرضي الله، فهو خير له أن يصون دينه ونفسه. «فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» أسيادهن، فلا ينعقد النكاح بين الامة وزوجها إلا بإذن مولاها كبيرة كانت أو صغيرة لورود النص، أخرج ابو داود والترمذي من حديث جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر، ولا يقاس على الطلاق لأنه إزالة عيب عن نفسه فيملكه، بخلاف النكاح، أما الحرّة فقد وقع اختلاف بين العلماء في حق الكبيرة فقط هل تحتاج لإذن وليها أم لا، أما الصغيرة فلا بد من إذنه، والعمل الآن على اعتبار الإذن كبيرة كانت أو صغيرة إلا إذا كان بقصد الفصل فلا، لأن للولي حق الامتناع عن الموافقة إذا تزوجت بدون مهر المثل أو بغير كفء، أما إذا كان بمهر المثل وكان الزوج كفؤا فليس له منعها، وعند ذلك تزوج نفسها وافق أم أبى، ولا نص في القرآن على لزوم الإذن من الولي في زواج الحرة، وإن إدخالها في حكم هذه الآية تغافل أو تسامح لأن البحث منحصر في الإماء لا علاقة له في الحرائر، راجع الآية 49 من سورة الأحزاب المارة «وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن مما أنفقتم عليه «بِالْمَعْرُوفِ»

من غير مطل ولا نقص عن المسمى ولا تبديل نوعه وعن طيب نفس ورضى واختيار ولسيدها قبض مهرها وأخذه، لأن العبد وما ملكت يداه لسيده، والمهر من ملك يدها، وهؤلاء الإماء ينبغي أن يكنّ عفيفات كما وصفهن الله بقوله «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ» زانيات مجاهرات «وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» أصحاب لشهوتهن يمتعن بهم خاصة لأن المسافحة المسبلة نفسها لكل أحد، والخدن التي تختص بواحد يزني بها فقط، وكانت الجاهلية تحرم نكاح الأولى وتجيز الثانية، فأخبرهما الله بان نكاح كل منهما حرام، وهاتان الخصلتان القبيحتان من آثار الجاهلية لها بقية كثيرة حتى الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله «فَإِذا أُحْصِنَّ» بالتزويج «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ» أي زنين «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ» الحرات إذا زنين «مِنَ الْعَذابِ» الذي يترتب عليهن، وهكذا التي لم تحصن، لأن التزويج ليس بشرط لإجراء الخدّ، والمراد منه التنبيه على أن المملوك ولو كان محصنا فلا يرجم، وهذا هو الطريق الذي وعد الله به في الآية 15 المارة والذي سنوضحه في سورة التحريم الآتية إن شاء الله، ويفهم من هذه الآية أن الأمة إذا زنت قبل التزويج فلا حدّ عليها، وأنها بعده لا ترجم لان الحد لا ينصف، وقد استدل من أوجب الحد على الأمة بالزنى قبل التزويج بما روى عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليحدها الحد ولا يثرب عليها أي لا يعيرها ثم إن زنت فليحدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر- أخرجاه في الصحيحين- لأنها اعتادته ولم يبق أمل بتوبتها توبة نصوحا منه، وعليها الحد كلما عادت. وعليه فيصرف معنى الآية على عدم رجمهن إذا زنين، ويراد بالعذاب الحد، وإنها تستحق نصف الجلد المترتب على الحرة البكر لا الحد الذي يترتب على الحرة الثيب، لأنه الرجم، وهو لا ينصف كما مر، وما قبل إن الإحصان هنا يراد به الإسلام ينافيه السباق، والسياق، لهذا فإن من استدل بحدها على تفسير الإحصان بالإسلام، فقد بعد عن المرام «ذلِكَ» نكاح الإماء لعدم الطول مطلوب «لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ» أي الزنى على نفسه «مِنْكُمْ» أيها المؤمنون «وَأَنْ تَصْبِرُوا»

عن زواجهن وتقدروا على قمع شهوتكم فهو «خَيْرٌ لَكُمْ» كي لا يكون ابنكم رقيقا لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية، وأباه في الدين، قال: يتبع الفرع بانتساب أباه ... والأم في الرق والحرّية والزكاة الأخف والدين الا على ... والذي اشتد في جزاء ودية وأحسن الأصلين ذبحا ورجسا ... ونكاحا والأكل والأضحية هذا وإن الغيور لا يقدر أن يتحمل الإماء لأنهن مبتذلات مهانات غير حافظات لأنفسهن على الغالب، لذلك يأبى زواجهن ذو المروءة وأصحاب الشهامة، وإذا كانت نفس الأبي تأبى فليصبر على نفسه لوقت الاستطاعة على نكاح الحرّة. إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقال الآخر في ذلك: إذا لم يكن في منزل المرء حرة ... تدبره ضاعت مصالح داره وقال الآخر: ومن لم تكن في بيته قهرمانية ... فذلك بيت لا أبا لك ضائع لذلك فإن التعفف عنهن أولى والتباعد عن ضمهن أحرى «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن لم يصبر عن نكاحهن إذا تزوجهن خشية العنت «رَحِيمٌ» (25) بإباحة ما تشتد إليه حاجة عباده ترمي هذه الجملة للتنفير عن نكاح الإماء بحيث كأنه ذنب. قال تعالى «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» ما خفي عنكم من مصالحكم وما هو الأحسن، والأفضل لكم مما يرفع به شأنكم ويكف الألسنة عنكم «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ» مناهج وشرائع وطرق «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من الأمم المؤمنة ومثالية الأمم الكافرة لتأخذوا بالأحسن وتجتنبوا الاسوء «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» فيما أصبتموه من الحرام قبل نهيكم عنه ويحذركم من اقترافه بعد التحريم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما يصلح لكم وما تحتاجون إليه في الدنيا وتنتفعون بثوابه في الآخرة «حَكِيمٌ» (26) فيما شرعه وأباحه لكم وحرمه عليكم «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ» كرره تأكيدا وزيادة في التحذير والتشويق «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ» وهم الفجرة الذين لا يملكون إرادتهم لضعف إيمانهم وقلة اكتراثهم بأمر دينهم «أَنْ

مطلب أكل المال بالباطل وجواز البيع بالتراضي ومن يقتل نفسه وكبائر الذنوب وصغائرها وما يتعلق بهذا:

تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» (27) عما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم لتهلكوا وتندموا وتخسروا الدنيا والآخرة «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ» تكاليفه التي أثقلت كواهل من قبلكم ولم يشدد عليكم كما شدد عليهم لأنكم أقرب للطاعة منهم، وأرأف على غيركم منهم. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28) لا يتحمل المشاق قليل الصبر لا يقهر قواه، ضعيف العزم لقاء هواه، نحيف البنية لا يستطيع مقاومة الشدة، الشوكة تفعده والحمى تميته، عديم التأني عجولا لما يريد. مطلب أكل المال بالباطل وجواز البيع بالتراضي ومن يقتل نفسه وكبائر الذنوب وصغائرها وما يتعلق بهذا: هذا وبعد أن بين الله تعالى ما يجب أن ينتهي عنه في النفس شرع في بيان ما يجب أن يجتنب في المال والنشب فقال جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» كالربا والقمار والغضب والسرقة والخيانة، وأن تعدوا ما يحصل من ذلك ربحا وهو محرم عليكم تعاطيه وربحه، وهكذا كل ربح حصل من عقد فاسد أو باطل «إِلَّا أَنْ تَكُونَ» الأرباح التي تأكلونها «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» فيحل لكم أكلها وهذا الاستثناء منقطع لأن أرباح التجارة ليست من جنس الباطل. وفي الآية دليل على جواز البيع بالتعاطي وجواز البيع الموقوف إذا أجيز لوجود التراضي وعلى نفي خيار المجلس، لأن إباحة الأكل من غير تقييد، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 188 من سورة البقرة فراجعه «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» أيها المؤمنون كما يفعله بعض الجهلة قليلو اليقين بالله عند ضيق ذات يدهم أو حدوث أمر يعجزهم تدبيره أو مفاجأة بمعيبة أخرى أو غير ذلك، فإنّ قتل النفس أشد من قتل الغير إثما عند الله، لأن من يقتل غيره يوشك أن يتوب ويؤدي ديته أو تعفي عنه ورثته فلا يبقى عليه إلا حق الله وهو مبني على المسامحة، والله أكرم مرجوّ أن يعفو عنه بعد أن عفا عنه عبده والله سبحانه أكرم منه، أما قتل النفس فلا يتيسر فيه شيء من ذلك روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل

نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ورويا عن جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كان برجل جراح فقتل نفسه، فقال الله تبارك وتعالى، بدرني عبدي بنفسه، وفي رواية استعجل عليّ عبدي حرمت عليه الجنة، ولهذا قال كثير من الأئمة لا يصلى عليه، وقال ابو حنيفة يصلى عليه لأنه مؤمن مذنب وهو أحوج من غيره للدعاء، والأول الذي مشى عليه غيره أولى لما سبق في معنى الحديثين المارين وما سيأتي بعد هذا، ومن قتل غيره فقد تسبب لقتل نفسه لأنه قد يحكم عليه بالقصاص، ومن أكل المال بالباطل فقد أهلك نفسه لما فيه من الوعيد الشديد، فكأنه قتلها أيضا، وقد بينا ما يتعلق في هذا في الآية 179 من سورة البقرة المارة «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» (29) يا أمة محمد ولم يزل كذلك، لأنه ينهاكم عن كل ما يضركم ويأمركم بكل ما ينفعكم دنيا وأخرى، ومن رحمته أن جعل توبتكم الندم وتوبة غيركم القتل «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً» تجاوزا على الله «وَظُلْماً» لنفسه قصدا لا خطأ ولحق ما، فيأكل المال بالباطل الذي مر ذكره في الآية 189 من البقرة ويقتل نفسه جزعا «فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً» في الآخرة «وَكانَ ذلِكَ» الإحراق فيها «عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (30) هيّنا سهلا لأن تنفيذ أوامره جارية بين الكاف والنون ولا أيسر من لفظ كن. الحكم الشرعي: قتل النفس من الكبائر، وقاتل نفسه عاص فاسق لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، لأن الله تعالى جعل عقابه الخلود في النار ولما جاء في تيسير الوصول عن جابر بن مرة أن رسول صلّى الله عليه وسلم أخبر برجل قتل نفسه فقال لا أصلي عليه وللحديثين المارين المصرحين بخلوده في النار والخلود من خصائص الكافرين، هذا هو الصحيح. وقيل إنه يغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين مع القول بفسقه وعصيانه، وأمره إلى الله. أما قاتل نفسه خطأ فلا خلاف في جواز غسله والصلاة عليه وكذلك في شبه العمد. وليعلم ان تشديد العقاب على قاتل نفسه عمدا لأنه ناشيء حقدا عن عدم ثقته بالله ووثوقه بوعده ولأنه لا يقين له بالله، ولهذا البحث صلة في الآية الثانية من سورة الطلاق الآتية فراجعها

[سورة النساء (4) : الآيات 31 إلى 40]

قال تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ» من كل ذنب عظيم قبحه وكبرت عقوبته واستوجب الحد في الدنيا والعذاب بالآخرة وهو ما ختمه الله بنار أو عذاب أو غضب أو لعنة وعد قتل النفس في الموبقات على ما رواه الشيخان من قوله صلّى الله عليه وسلم اجتنبوا السبع الموبقات (المهلكات) الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، فإذا اجتنبتم هذه وما شاكلها أيها الناس «نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» الصغار وهي مالم يكن على فاعلها حد في الدنيا ولم تستوجب العذاب بالآخرة ما لم تفترن بإحدى العقوبات الأربع المارة، لأن الحسنات تكفرها وقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهن- أخرجه مسلم-. وقد تكون الكبائر والصغائر بنسبة مرتكبها على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين، وفي هذا المعنى يقول القائل: لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ... في النهي فيها للوضيع معاذر فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر وهذا من حيث المعنى على حد قول الآخر: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكريم المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم أما عند العارفين في الكبائر ما ذكرها ابن الفارض بقوله: ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 38 من سورة الشورى في ج 2 ما به كفاية فراجعها وما ترشدك إليه من المواضع «وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» (31) في دار كرامته التي لا أكرم منها. قال تعالى «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» من مال أو جاه أو زوجة أو ولد لأن ذلك قسمة من الله خص بها من شاء من عباده صادرة عن حكمته وتدبيره وعلمه بأحوال الناس، وهذا تأديب أدب الله به عباده وتهذيب لأخلاقهم وتبرئة لهم من داء

الحسد الذي هو مهضمة للجسد في الدنيا مهلكة له في الآخرة. فعلى الإنسان أن يرضى بما قسم له ربه ويقنع بما عنده فالقناعة كنز لا يفنى. واعلم أن التمني على قسمين حرام وهي تمني زوال نعمة الغير عنه وضمها له، وهذا هو الحسد بعينه وفيه اعتراض على الله تعالى، وفيه يقول القائل: وأظلم خلق الله من مات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب وقول الآخر: ألا قل لمن بات لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب وقول الآخر: كل العداوات قد ترجى إزالتها ... إلا عداوة من عاداك في حسد وجائز وهو أن يتمنى لنفسه مثل الذي عند غيره من الخير مع بقائه له، وهذه الآية عامة في كل تمن مشروع، وإن كانت نزلت بصدد آية المواريث بتخصيص الرجل ضعفي المرأة من الميراث، لأن العبرة لعموم اللفظ، ولما قال الرجال إنا لنرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون وزرنا على النصف من وزر الرجال كالميراث، نزل قوله تعالى «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا» أجرا ووزرا «وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» أجرا ووزرا بحسب الأعمال لا بحسب الإرث «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» أن يمنّ عليكم كما من على غيركم ولا تتمنوا ما أعطاه لغيركم، وفيها تنبيه على استحباب الدعاء وطلب الفضل المطلق من الله، لأنه جل شأنه لم يأمر بالمسألة إلا ليعظم الأجر ويعطي ما هو الأصلح بعده من غير أن يعين شيئا. وفيها إشارة إلى أن لا علاقة للمال بالأعمال، ولا العقيدة بالرزق، فقد يرزق الحقير ويحرم الخطير، ويرزق الشقي ويحرم التقي ويرزق الضعيف ويحرم القوي لا يسأل عما يفعل «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (32) ولم يزل كذلك كما كان من قبل وإنه بمقتضى علمه يعطي كل سائل ما يصلحه. «وَلِكُلٍّ» من مال أو تركة «جَعَلْنا مَوالِيَ» وارثين يلون أشياء «مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ

مطلب تفضيل الرجل على المرأة. وعدم مقاصصتهن لرجالهن. وأمر تأديبهن منوط برجالهن أيضا:

وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» من عقود الموالاة وهي مشروعة والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضوان الله عليهم، ومعناها هو أنه إذا أسلم رجل وامرأة لا وارث لهما وليس بعربي ولا معتق فيقول أحدهما للآخر واليتك على أن تعقلني إذا حييت وترثني إذا متّ، ويقول الآخر قبلت، فينعقد هذا الولاء بينهما ويرث الأعلى من الأسفل، وكان لهذه المعاقدة أصل في الجاهلية على النصرة والزيادة والنصيحة، ولهذا قال تعالى «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» الذي عاقدتموهم عليه لأن الله أمر بإيفاء العقود كلها الموافقة لشريعته التي سنها لعباده، والآية محكمة، ومن قال إنها نسخت بآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) الاخيرة من سورة الأنفال المارة فقد أخطأ المرمى، لأن آية الأنفال نزلت قبل هذه، والمقدم لا ينسخ المؤخر «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» (33) سواء استشهدتم أحدا عليها أو لم وكفى بالله شهيدا، ومن جملة الأشياء المعاقدة، فيجب الوفاء بها كسائر العهود. مطلب تفضيل الرجل على المرأة. وعدم مقاصصتهن لرجالهن. وأمر تأديبهن منوط برجالهن أيضا: وقال تعالى «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» بما خصهم الله تعالى من الكمال فجعلهم قيّمين عليهن لزيادة عقلهم وحسن تدبيرهم وهذا من معجزات القرآن العظيم لأنه قبل ترقي علم الجراحة والتشريح لم يكن أحد يعلم أن دماغ الرجل يزيد على دماغ المرأة 120 غراما، وهذا من جملة مكنونات القرآن الناطق بقوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 39 من سورة الانعام ج 2 ثم بين بعض سبب هذا القيام بقوله «بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ» أي الرجال «عَلى بَعْضٍ» أي النساء في العقل الثابت حسا والدّين لما يعتريهن من النقص في الحيض والنفاس بصلاتهن وصيامهن وفي الولاية كالقضاء والإمارة والولاية على القاصرين أصلا وعلى النكاح وفي الشهادة، لأنهن على النصف من الرجال، وفي الإرث كذلك وعدم كونهن عصبة بأنفسهن بل مع الغير إلا المعتقة، وفي الجهاد لأنهن لا يباشرنه أصالة، وحضور الجمعة والجماعات والشورى والإمامة والنسب لأن أولادهن ينسبون لآبائهم، وفي النكاح والطلاق والرجعة والعزم والحزم والقوة والتكبير وغير ذلك

«وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» يكون لهم الفضل عليهن أيضا من المهر قبل العقد والنفقة بعده، فلهذه الأسباب علوا على النساء وسلطوا عليهن أيضا عند الاقتضاء لتأديبهن والأخذ على أيديهن والقيام بمحافظتهن. قالوا كان سعد بن الربيع من النقباء فلطم امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهيد بسبب نشوزها، فأخذها أبوها إلى الرسول وقال له افرشته كريمتي فلطمها، فقال صلّى الله عليه وسلم لتقتصنّ منه، فانصرفت لتقتصّ منه، فقال صلّى الله عليه وسلم ارجعوا، هذا جبريل أتاني فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلم أردنا أمرا وأراد الله أمرا، والذي أراد خير، ودفع القصاص بمثل هذا. أخرج ابو داود عن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته- وهذا على تقدير عذر له- وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لو كنت آمرا أحدا أن بسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. مبالغة في لزوم طاعتها له، لأن من جعله الله قائما على شيء فقد أمره عليه «فَالصَّالِحاتُ» منهن «قانِتاتٌ» مخبتات مطيعات لأزواجهن «حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ» من كل ما يجب حفظه في غيبة أزواجهن من إبداء زينتهن للأجانب ومخالطتهن لهم فلا يلحقنه عارا ما من حفظ بيته وماله فلا يدخلن عليه أحدا، ولا يبذرن مما فيه، ولا يعطين أحدا منه دون علمه، لأنهن راعيات في بيوت أزواجهن، وكل راع مسئول عن رعيته عند الله تعالى، فإذا أعطت المرأة شيئا من بيت زوجها بغير رضاه يعد سرقة وتعاقب عليه شرعا، وقد أخذ عليهن العهد أن لا يسرقن كما مرّ في الآية 12 من الممتحنة، ولا يفشين سرّه، لأنه أمانة، فتعد خائنة بافشائه لأنها أمينة عليه، وذلك «بِما حَفِظَ اللَّهُ» لهن على الرجال من القيام بحقهن والذب عنهن. أخرج النسائي عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله أي النساء خير؟ قال التي تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره. ومن وصايا الحكماء كن فوق المرأة بالسن والمال والحب، ولتكن فوقك بالصبر والجمال والأدب، وإلا احتقرتك واحتقرتها. قال تعالى «وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ» شرودهن عن طاعتكم «فَعِظُوهُنَّ» بما يلين جانبهن ويرقق قلوبهن وخوفوهن الله، فإن لم يرجعن فاستعملوا معهن الطريقة الأخرى وهي

«وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ» فإن لم ينجح بهن فاجنحوا إلى الطريقة الثالثة وهي «وَاضْرِبُوهُنَّ» ضرب تأديب غير مبرح ولا مشين، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زمعة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، وإنما أمر الرسول بهذا لأن النساء ضعاف بنية ضعاف قلب يرعبن قبل الخوف، والضرب في الآية مطلق فيحمل على المعتاد، لذلك ينبغي للرجل أن يجتنب الضرب المبرح المؤثر في الجسد، والمواقع التي يحتمل معها حصول ما يعيب المرأة من كسر أو عور أو طرش، ولا يضرب الوجه لشرفه، وإذا كان ضرب الحيوان. على وجهه ممنوعا فكيف بالإنسان؟ قال صلّى الله عليه وسلم يعاقب ضارب الحيوان بوجهه الحديث وقال صلّى الله عليه وسلم استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا. وأخرج ابو داود عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت. هذا وحقه عليها الامتثال وحفظ نفسها وبيتها، وأن تعمل كل ما يرضيه، وتجتنب كل ما يسخطه، ولا تدخل أحدا على بيته من أقاربها أو جيرانها إلا برضاه وإذنه، ولا تجلس أحدا على فراشه أيا كان وتنظف أولاده، وتنظم بيته، وتطيعه في كل شيء إلا فيما حرم الله. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. وأخرج الترمذي عن طلق بن علي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجة فلتأته وإن كانت على التنور. وله عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة وله عن معاذ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله، وإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ» فيما تأمرونهنّ وتنهونهن بعد هذا «فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» آخر تحتجون به عليهن ولا تغترّوا بقيامكم عليهن «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» (34) عليكم

وعليهن وعلى الخلق أجمع، فراقبوه فيهن وخافوا انتقامه من أن يسلط عليكم من هو أكبر منكم. تشير هذه الجملة إلى مراعاة حقوق النساء إذا كن طائعات لأزواجهن لأن الله تعالى يقول إن هؤلاء النساء وإن كن ضعافا لا يقدرن على دفع الظلم عن أنفسهن من رجالهن المتعالين عليهن المتكبرين، فإن الله المتعال على كل عال، الكبير على كل كبير، قادر على أن ينتصف لهن ممن يظلمهن فاحذروه أيها الناس ولا تعتدوا عليهن، وراعوهن، فإن الله عظيم جبار منتقم قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما» أي الزوجين بأن انشق كل منهما على الآخر ولم يطلق الزوج زوجته لأمر ما بعد أن جرب الطرق الثلاث المارة معها وأتى الأمر إلى أن يفصل بينهما فعليكما أيها الأولياء لهما أو وجهاء قومهما إن لم يكن لهما أولياء أو الحكام إذا دعت الحاجة لمراجعتهم «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» لحل الخلاف بينهما إصلاحا أو تفريقا، وعليكم أيها المتصدرون لحل المشكلات وفصل المخالفات بين الناس إذا التجأ إليكم الزوجان أو أحدهما أن تزودوا الحكمين بالنصائح وعدم التزام جهة غير الحق، ووصوهما بإخلاص النية معهما لأنهما «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً» بين الزوجين وما ودع إليهما من أمرهما ولم يتحيّزا إلى أحدهما ولم يسيئا نيتهما وكان قصدهما الإصلاح ورائدهما التوفيق بالحق بينهما «يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما» أي الزوجين على يدهما، لأن الله تعالى يبارك في وساطتهما ويوقع بحسن سعيهما الألفة بينهما على الاجتماع والإمساك بالمعروف، أو يطيبا خاطر كل منهما على الفراق بإحسان، ويغني الله كلا من سعته «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً» بما في قلوب الزوجين والحكمين «خَبِيراً» (35) بالمعتدي منهم. ترمي هذه الجملة إلى تهديد كل من الزوجين إذا كان قصدهما الحيف، وكل من الحكمين إذا مالا لجهة دون جهة، أو كل منهما التزم صاحبه على بطله. وتشير إلى أنه تعالى لا يوفق الحكمين إذا لم يحسنا نيتهما على الوجه المار ذكره إلى إنجاز مهمّتهما، ولا الزوجين على الخلاص بعضهم من بعض بالمعروف والاجتماع بإحسان، وإنه تعالى سيجازي كلا منهم على صنيعه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والأولى أن يكون الحكمان أبويهما أو جدّيهما أو أخويهما، لأنهما أدرى بما هو بينهما وأكثر شفقة عليهما وأعلم بحقيقة

مطلب أجمع آية في القرآن لمصارف الصدقة. وحق القرابة والجوار وشبههما وذم البخل:

مصالحهما، ولا يقال إنه لا يجوز أن يكون الحكم من أقارب المحكم كما صرحت به المجلة الجليلة، لأن هذا حكم خاص بهذه القضايا المتعلقة بين الزوجين وذلك حكم عام في بقية القضايا الحقوقية وغيرها، والخاص مقدم على العام. روى الشافعي سنده عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه جاءه رجل وامرأة مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علام شأن هذين؟ قالوا وقع بينهما شقاق، قال فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما إن رأيتما أن يجتمعا جمعتما وإن رأيتما أن يفترقا فرّقتما؟ فقالت المرأة رضيت بما في كتاب الله عليّ فيه ولي، وقال الرجل أما الفرقة فلا، قال كذبت، والله حتى تقرّ مثل ما أقرّت به. الحكم الشرعي هو ما ذكره الله تعالى، إلا أنه إذا لم يوجد من أقارب الطرفين من يصلح للتحكيم ولم يتفقا على أحد ممن يعتمدان عليهما فينتخب القاضي رجلين من ذري العلم والصلاح والوجاهة والأمانة، ولا يلتفت إلى عدم رضائهما، لقوله- عليه الرضاء- للزوج كذبت كما مر آنفا. وعليه فإذا لم يفوض الطرفان أو أحدهما إلى الحكم بالإصلاح أو التفريق فيفوض إليهما القاضي ذلك، وأن يحكما بما هو الموافق لرأيهما رضيا أم أبيا، وعلى الحكمين أن يتقيا الله بذلك، ويراقبا وقوفهما غدا بين يدي الله تعالى. مطلب أجمع آية في القرآن لمصارف الصدقة. وحق القرابة والجوار وشبههما وذم البخل: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ» وحده أيها الناس «وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» من خلقه ولا تزيغوا عن أمره، فهو الذي شرع هذا الشرع، وهو السميع البصير بأقوالكم وأعمالكم، وهو الأحق بالعبادة ممن لا يبصر ولا يسمع ولا يفقه «وَبِالْوالِدَيْنِ» أيها الناس أحسنوا «إِحْساناً» كثيرا أداء لحقهما «وَبِذِي الْقُرْبى» أحسنوا أيضا لأنهم رحمكم وأحق بإحسانكم من غيرهم «وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» ايضا أشركوهم بإحسانكم لحاجتهم إليه «وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى» منك ومن بيتك، فإن قريبك له حق الجوار وحق القرابة عليك وحق الإسلام، وإن لم يكن مسلما فحق الجوار والقرابة فقط وهو جدير بأن تحسن إليه أكثر من غيره «وَالْجارِ

الْجُنُبِ» الذي بعيد جواره عنك من جوانب دارك والأجنبي عنك، وقيل هو الملاصق لدارك، ولا يتجه هذا إلا إذا خص الأول بالقريب وإلا فلا «وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ» زوجتك، لأنها مصاحبة لك لاصقة بجنبك، والقصير أي الغريب الذي ينزل بجوارك ليأمن بظلك من الناس «وَابْنِ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله لنفاد نفقته، أو الذي لم يبق لديه ما يوصله لأهله «وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والحيوانات فهذه كلها محتاجة إلى إحسان الذين خولهم الله تعالى نعمه فعليهم أن يحسنوا إليهم مما من الله عليهم، ولا يتكبروا بما يعطونهم إياه «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا» متكبرا متجبرا على الناس «فَخُوراً» (36) بنفسه وبما أوتي من فضل الله على خلقه لا ينظر إلى أقاربه وجيرانه ولا يقوم بحقوق المحتاجين من الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل وأبناء السبيل ويأنف عن مخالطتهم، ويرى نفسه خيرا منهم. روى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه او أحدهما ثم لم يدخل الجنة. اي بسبب رضاهما. وروى البخاري ومسلم عن انس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سره ان يبسط له في رزقه وينسأ له في اثره (اجله) فليصل رحمه. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال قال صلّى الله عليه وسلم انا وكافل اليتيم في الجنة هكذا- وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما- ورويا عن ابي هريرة قال الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. ورويا عن ابن عمر قال قال صلّى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. ورويا عنه انه صلّى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. واخرج ابو داود عن علي كرم الله وجهه انه قال كان آخر كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلاة الصلاة، وانقوا الله فيما ملكت أيمانكم. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء. وفي رواية ابي هريرة إلى من جرّ إزاره بطرا. وقال صلّى الله عليه وسلم اتقوا الله في النساء اتقوا الله في النساء، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، اتقوا الله فيما ملكت ايمانكم، اتقوا الله في المرأة الأرملة، والصبي اليتيم

وفي ذكر الله في هذه الآية الأصناف الثمانية الذين هم أولى بالإحسان وأمر المحسنين أن يحسنوا إليهم دلالة على أنها أجمع آية في القرآن في هذا المعنى، وسيأتي نظيرها في سورة التوبة الآية 62 الآتيه الواردة في مصارف صدقة الفرض، ثم أعقبها بذم البخل والبخلاء الذي هو أقبح خصلة في الناس وخاصة في الأغنياء لأنها عار عليهم في الدنيا وعذاب في الآخرة فقال جل قوله «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» فيخفونه ولا ينفقونه في وجوه البر، ولا يتصدقون بفضله إلى الأصناف المذكورة، فهؤلاء كافرون بنعم الله جاحدوها «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» أمثالهم «عَذاباً مُهِيناً» (37) لهم ومشينا بهم ومخزيا لأنهم بخلوا وأمروا غيرهم بالبخل لشدة تعلقهم به وأخفوا ما عندهم حتى انهم ليقولون لمن يطلب من إحسانهم ما عندنا شيء قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كروم بن زيد وحيي بن اخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن ابي نافع ويحيى بن عمر كانوا يخالطون أناسا من الأنصار ويقولون لهم لا تنفقوا على الناس أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وهي عامة محكمة شاملة لكل من هذه صفته إلى يوم القيامة، وهؤلاء داخلون في قوله تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الآية 269 من البقرة المارة «وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ» فخرا وسمعة لنشر الصيت وعلو الجاه ورفع القدر «وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» فهؤلاء هم المنافقون الذين هم قرناء الشياطين. وقد أنزلت فيهم «وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً» (38) قرينه وبئس الخليل خليله «وَماذا عَلَيْهِمْ» أي مشقة تصيبهم وأي تبعة تلحق بهم «لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ» لعيال الله وعباده «وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً» (39) بأنهم لا ينفقون ولكن ليظهر ذلك لخلقه وهم لو عقلوا أن لا وبال عليهم بالإيمان ولا نقص عليهم بالإنفاق ولكن أبت نفوسهم الخبيثة ذلك لأنها منطوية على البخل وسوء الظن بالله «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» النملة الصغيرة، وما يرى

[سورة النساء (4) : الآيات 41 إلى 50]

في الهباء هو الذر، وهذا بالنسبة لما تستحضره العرب وتضرب به المثل في القلة وإلا فإنه تعالى لا ينقص أحدا شيئا، والذرة مركبة من أشياء كثيرة وقابلة للقسمة «وَإِنْ تَكُ» تلك الذرة «حَسَنَةً يُضاعِفْها» لصاحبها «وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (40) وما يصفه الله بالعظم، فلا يعرف مقداره إلا هو، وفي هذه الآية ابطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة، مع أن له حسنات كثيرة. روى مسلم عن أنس بن مالك في هذه الآية قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيعطى بحسنات قد عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها. راجع الآيات من 261 إلى 274 من سورة البقرة ففيها جميع ما يتعلق بالمنفق والمنفق عليه والنفقة. قال تعالى «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ» يشهد عليهم بما وقع منهم وعليهم «وَجِئْنا بِكَ» يا سيد الرسل «عَلى هؤُلاءِ» الذين بلّغتهم وأرشدتهم ونصحتهم وتليت عليهم آياتي «شَهِيداً» (41) على من أجاب دعوتك وصدق ما جئت به ومن جحدها ولم يلتفت لتذكيرك بها روى البخاري، ومسلم عن ابن مسعود قال قال صلّى الله عليه وسلم اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري، فقال فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية، قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. قال تعالى «يَوْمَئِذٍ» يوم يجاء بالرسل لتشهد على أممهم في ذلك المشهد العظيم، ويفرح المؤمنون المصدقون بما شهدوا به عليهم من الانقياد لأوامر الله والانتهاء عن نواهيه «يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ» في الدنيا ولم يمتثلوا أوامره التي بلغهم إياها فيتمنوا المرة بعد المرة «لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ» فيغوصون فيها كالموتى أو تخسف فتنطبق عليهم خوفا وخجلا من سوء أعمالهم التي يظهرها الله لهم ويسألهم عنها فيعترفون بها كلها «وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» (42) فلا يقدرون أن يخفوا شيئا فعلوه في الدنيا لأنهم إن سكتوا أو جحدوا نطقت بها جوارحهم، فتعترف كل جارحة بما وقع منها وزمانه ومكانه وسببه.

مطلب أن الخمر الثالثة ونزول آية التحويم والأصول المتممة في النطق، وعدم اعتبار ردة السكران وطلاقه:

مطلب أن الخمر الثالثة ونزول آية التحويم والأصول المتممة في النطق، وعدم اعتبار ردة السكران وطلاقه: قالوا لما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ودعا نفرا من الأصحاب فأكلوا وقدم لهم الخمر فشربوا لأنها لم تحرم بعد على القطع، ثم قدموا أحدهم يصلي بهم المغرب فقرأ (أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) بدل لا أعبد ما تعبدون، أنزل الله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً» باحتلام أو غيره. والجنب لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع «إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» مسافرين عادمي الماء عبّر عن التيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء في البادية «حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى» وتحقق لكم مضرة الماء بتجربة أو اخبار حاذق ملم «أَوْ» كنتم «عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» هو المحل المنخفض يذهب إليه لقضاء الحاجة فيه كي لا يرى، وكنّى به عن الحدث «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» جامعتموهن، وكنّى بالملامسة عن الجماع تحاشيا عن ذكره وتعليما للناس أن يتأدبوا بآداب القرآن فلا ينطقوا بكلام مستهجن تمجه النفس ويأباه الطبع السليم من كل ما ينافي الأدب، ولا سيما ما يتعلق بالنساء فيكنّون في كل ما يتحاشى عن ذكره ويتعالى الأديب عن التصريح به ويتباعد الأريب عنه، فإذا وقعتم أيها الناس في هذه الحالة ولم تجدوا ما تنطهرون به «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» تغتسلون به أو لم تقدروا على استعماله أو لم تستطيعوا وصوله لخوف من حيوان أو قاطع طريق أو من يترصد لقبضكم وحبسكم أو لم يكن عندكم آلة تنضحون بها الماء «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً» هو وجه الأرض مطلقا ترابا أو غيره «طَيِّباً» طاهرا، وإذا أردتم التيمم به «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» يصفح عن عباده وييسر لهم برخصه «غَفُوراً» (43) للخطأ والتقصير. اعلم أن صدر هذه الآية هو الآية الثالثة النازلة في الخمر الممهدة لتحريمه على القطع كما أشرنا إليه في الآيتين 220 من البقرة المارة و 67 من سورة النحل في ج 2 وليس فيهما تصريح المنع، والمنع في هذه مقيد في الصلاة فقط ولذلك لم ينته عن الخمر بعد نزولها إلا ذوو النفوس

الزكية العارفون مغزى هذا النهي الوارد فيها، وبقي مكبا عليها من لم يتصف بتلك الصفة الطاهرة أو من لم تكن عنده ملكة كافية لإدراك ذلك النهي المقيد في حال الصلاة، فلم تكن رادعة على الجزم كما أن آية البقرة قد بنيت على دفع المضرة وهي سلب العقل والمال وجلب المنفعة وهي المال واللذة وهو من الاوليات التي هي أول أقسام اليقينيات التي هي نتيجة البرهان، كقولك الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والراحة خير من التعب. والثاني مشاهدات كقولك النار محرقة والسماء فوقنا، والأرض تحتنا، والماء مزيل الظمأ. والثالث مجربات كقولك شرب المسهل مطلق، وتعاطي الدواء نافع، والاكل مزيل للجوع، والشرب مزيل للعطش. والرابع حدسيات أي ظنيات كنور القمر مستفاد من الشمس، وبعد وقرب السيارات بعضها من بعض ومن الأرض، وعدد النجوم وحجمها، وحصول المد والجزر يتغيّر وقته باختلاف طلوع القمر، والخامس متواترات كثبوت نبوة الأنبياء، وإرسالهم من قبل الله، وإنزال الكتب عليهم لهداية البشر. وعلى هذا فإن كون دفع المضرة مقدم على جلب المنفعة مما لا يتردد فيه عاقل، وقد وضعت قاعدة من قواعد المجلة الشريفة بصورة درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، إلا أن هذه الآية لم تكن زاجرة على الجزم من تعاطي الخمر أيضا ولهذا بقي القسم الأعظم يتعاطاها في غير الصلاة لأن النفوس جبلت على الميل للشهوات والجنوح للذات لأنها شريرة بالطبع ما لم تهذب وتصلح وتمني وتؤمل، وسنأتي على القول الفصل في هذا البحث عند تفسير الآية الرابعة الحاسمة في هذا الشأن عدد 90 من المائدة الآتية إن شاء الله تعالى. وتشير هذه الآية إلى أن ردة السكران غير معتبرة، لأن قراءة (أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) من غير السكران إذا كانت مقصودة كفر، وإن الله خاطبهم بصيغة الإيمان فلم يحكم بكفرهم، ولم يفرق حضرة الرسول بين هذا القارئ وزوجته ولم يأمره بتجديد الإيمان، مما يدل على عدم اعتبار ما وقع منه، ولهذا قال أكثر الأئمة بعدم وقوع طلاق السكران، وكذلك طلاق المكره وعليه العمل الآن رحمة بالنساء. وإن من قال بوقوعه أراد زجرا له لئلا يتداول ولم ينظر إلى ما يلحق زوجته من الحيف، لذلك فإن القول بعدم اعتباره أولى، فقياس

عدم إيقاع الطلاق على عدم تكفيره وتسميته مؤمنا قياس مستقيم موافق لأصوله. هذا، وقد أجمعت الأمة على أن من أجرى على لسانه كلمة الكفر خطأ لا يحكم بكفره كالمكره الذي مر بحثه في الآية 106 من سورة النحل في ج 2، وفي قوله تعالى (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) إشارة إلى أن المتيمم إذا وجد الماء وجب عليه الاغتسال به، وإن التيمم قائم مقام الماء عند عدم القدرة عليه طالت المدة أو قصرت. وسبب نزول آية التيمم ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أسفارنا حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حسبت رسول الله والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت عائشة فعاتبني ابو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن يده في خاصرتي فلا يمنعني التحرك إلا مكان رسول الله على فخذي، فنام رسول الله حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. - أخرجاه في الصحيحين- وذلك في غزوة الربيع، وهذه على ما جاء في السيرة النبوية وقعت في السنة الخامسة من الهجرة الشريفة، وعليه فتكون هذه الآية مقدمة على سورتها بالنزول لأنها وقعت على أثر انتهاء غزوة بني قريظة الكائنة بعد غزوة الخندق المسماة بالأحزاب، ووضعت هنا بإشارة من حضرة الرسول واخبار من الأمين جبريل عليهما الصلاة والسلام كسائر الآيات المتقدمة على سورها. ولهذا البحث صلة في الآية 9 من سورة المنافقين الآتية وأول فريضة صليت بالتيمم هذه، وهو عبارة عن ضربتين على تراب طاهر واحدة للوجه وواحدة لليدين، وينقضه ما ينقض الوضوء ووجود الماء. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» حظا وافرا من التوراة وهم أحبار اليهود وصاروا «يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ» بالهدى بعد ظهوره لهم «وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ» يا أيها المؤمنون لتكونوا مثلهم فتميلون عن الحق الذي أنتم عليه وتنخرطون في سلكهم

لأنهم لم يكتفوا بضلالهم بل طمعوا بإضلال غيرهم، فاحذروهم فهم أعداؤكم «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ» منكم وقد أخبركم بهم وبما ينوونه لكم من الشر، فلا تلتفتوا إليهم واعتصموا بدينكم «وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» (45) نزلت هذه الآية في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ورهطه يثبطانهم عن الإسلام، وقد بينهم الله بقوله «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» في التوراة التي أوجبت حكمة الله وصنعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال الكلام لغيره وإزالة معنى بمعنى آخر ليميلوا بالناس عن الإسلام ويضلوهم عن اتباع الدين الحق «وَيَقُولُونَ» للرسول عند ما يحذرهم سوء صنيعهم هذا «سَمِعْنا» قولك ظاهرا «وَعَصَيْنا» أمرك سرا ومنهم من يجهر به عنادا وعتوا ويقولون «وَاسْمَعْ» قولنا أيها الرسول «غَيْرَ مُسْمَعٍ» ما تكره، وهذه الكلمة تحتمل المدح كما أولناها، وتحتمل الذم (أني أسمع لا سمعت) ولا شك أن اليهود قاتلهم الله إذا تكلموا بكلام ذي وجهين كهذا مع المؤمنين فإنهم يريدون أسوأه لا أحسنه وشره لا خيره، قبحهم الله وأخزاهم، بدليل قولهم بعدها «وَراعِنا» أنظرنا يا رسول الله، لأن معناها هو هذا، ولها معنى آخر وهو الرعونة وهم لا بد يريدون هذا لا ذاك، مع أن الأنبياء لا يخاطبون إلا بالإجلال والتوقير والتعظيم، وهم دائما يقتلون الحق ويقلبونه إلى الباطل، راجع الآية 104 من البقرة المارة، وقولهم هذا يكون «لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ» وذلك أن منهم رفاعة بن زيد ومالك بن رخشم كانا إذا تكلم حضرة الرسول لويا ألسنتهما وعاباه «وَ» كان فعلهم هذا «طَعْناً فِي الدِّينِ» الحق أو بصاحبه سيد الخلق ومعنى الأرعن الأهوج في منطقه والأحمق المتسرع والهوج طول في حمق وتسرع في طيش والمسترخي هو المتقاعس ويقولون لو كان بيننا لعرف معنى أقوالنا وإننا نعمه لا يدري، فأطلع الله نبيه على خبث ضمائرهم وفضحهم بقوله «وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا» بدل وعصينا «وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا» بدل غير مسمع وراعنا «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» عند الله «وَأَقْوَمَ» وأعدل لكلامهم عند الناس «وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ»

مطلب طبايع اليهود أخزاهم الله واسلام عبد الله بن سلام وأصحابه وغفران ما دون الشرك وعلقة اليهود:

بك يا سيد الرسل وجحودهم كتابك «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46) إيمانا لا يعبا به مثل اعترافهم بأن الله خلقهم ورزقهم وإقرارهم بالبعث ونبوة موسى، ولكن هذا كله ليس بشيء فإذا لم يؤمنوا بجميع الأنبياء والكتب كافة لا يقبل منهم. واعلم أن هذا النطق باللفظ الذي له معنيان وإرادة الأسوأ من جملة طبايعهم التي جبلوا عليها. مطلب طبايع اليهود أخزاهم الله واسلام عبد الله بن سلام وأصحابه وغفران ما دون الشرك وعلقة اليهود: ولهم طبايع مذمومة كثيرة، منها التناقض بالأقوال والأفعال المشار إليه بالآيتين 84 و 85 والعظمة والكبرياء المنوه بهما في الآية 87 والحقد والحسد المذكورين في الآيتين 78 و 90، والعناد واللجاج في الآيتين 98 و 99، والكذب على النفس والإفراط في حب الحياة في الآيتين 94 و 96 وخصومتهم بالباطل لكل من يدعي الحق والمكابرة في الحق في الآيتين 98 و 99 أيضا، ونقض العهد ونبذ الدين في الآيتين 100 و 101، والميل إلى الطرق غير المشروعة في سبيل غرضهم وميلهم إلى السحر في الآية 102 من سورة البقرة، ولهم طبايع أخرى كثيرة ذميمة قبحهم الله وأخزاهم، هذا. ولما قال صلّى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن حوريا وكعب بن الأشرف يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم تعلمون أن الذي جئتكم به حق وصدق، قالوا: ما نعرف ذلك وأصروا على جحودهم أنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» لأن القرآن مصدق للتوراة «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً» نمحو تخطيط صورها من عين وأنف وحاجب وفم «فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها» أي على هيئة قفاها مطموسة لا شيء فيها أو نديرها فنجعل الوجه إلى خلف والقفا إلى قدام «أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ» أي نمسخهم كما مسخناهم قردة وخنازير، ويرمي هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إلى التهديد العظيم وإيقاع الوعيد بهم «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» (47) البتة لا يحول دونه حائل ولا يرده راد. ولما كان حضرة الرسول يعلن ما ينزل إليه من القرآن حال نزوله سمع في هذه الآية عبد الله بن

سلام وكان قافلا من الشام فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم حال وصوله المدينة قبل أن يأتي أهله وأسلم، وقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي إلى قفاي، لأني سوّفت بالإيمان، ولذلك بادرت إليك وحسن إسلامه رضي الله عنه، وكان إسلامه على الصورة المبينة في الآية 10 من سورة الأحقاف في ج 2 وأسلم معه جماعة من أتباعه وغيرهم بعد نزول هذه الآية العظيمة، وكل ما قيل بأنه أسلم قبل نزول هذه الآية لا صحة له كما أوضحناه هناك فراجعه. واعلم أن صدر هذه الآية لم يكرر في القرآن كله. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» بلا توبة فلا يغفر للمشرك وهو مشرك فإذا تاب غفر لهو يغفر للمذنب وهو مذنب لقوله تعالى «وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» الكبائر وغيرها فإذا مات مرتكبها بلا توبة فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. أما من مات على الشرك فهو مخلد في النار، روى مسلم عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار. وحمل الآية على التائب باطل لأن الكفر مغفور بالتوبة. قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الآية 38 من الأنفال المارة. فما دون الكفر لأن يغفر بالتوبة من باب أولى، وقد سبقت الآية في بيان التفرقة بينهما، قالوا لما نزل قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية 52 فما بعدها من سورة الزمر ج 2 في المدينة وكان نزل قبلها في المدينة الآيات 68 فما بعدها من سورة الفرقان في ج 1 وبعدهما نزلت هذه الآية المفسرة التي نحن بصددها، وبعدها آيات سورة الزمر المذكورة، قال رجل يا رسول الله والشرك؟ فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا، فنزل قوله تعالى «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» (48) وإنما سماه الله افتراء لأنه لم يخلقه ولم يكن في علمه أن له شريكا في ملكه، وكان في علمه أن من خلقه من يفتري هذا ويختلقه بهتانا وزورا قال تعالى (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية 101 من سورة الأنعام ج 2 فصارت نسبة الشريك إليه تعالى بهتا وافتراء عليه، فأجابه حضرة الرسول أن الشرك لا يغفر لتلك العلّة

[سورة النساء (4) : الآيات 51 إلى 60]

قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» كلمة تعجب «إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ» يا سيد الرسل وهي دنسة بالكفر والإنكار والجحود، وهذا تعجب من حالهم وعجّب رسوله من أطوارهم، وهذه نزلت في أناس من اليهود أتوا بأطفالهم إلى حضرة الرسول وقالوا له هل على هؤلاء من ذنب؟ قال لا، قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا باليل، وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار، أي بسبب ما يقدمونه من العبادة والخيرات بزعمهم، وهذا هو معنى تزكيتهم أنفسهم، وقد قالوا بعد هذا (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) كما سيأتي في الآية 17 من المائدة الآتية، وقالوا قبل «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» الآية 112 من البقرة فرد الله عليهم بقوله «بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» فلا عبرة بتزكية المرء نفسه «وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (49) من نوابهم بسبب قولهم هذا لأنه ناشيء عن ظنهم ليس إلا والفتيل هو الخيط الذي في بطن النواة ويضرب به المثل بالقلّة والحقارة كالنقير الذي هو بظهرها والقطمير غشاؤها الرقيق الملتف عليها فيا سيد الرسل «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ» هؤلاء اليهود «عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بعدّ أنفسهم كأطفالهم غير المؤاخذين بما فعلوا لفقد سن التمييز مع إصرارهم على جحودهم القرآن الذي جئتهم به الذي لا أعظم من الكفر به إلا الشرك «وَكَفى بِهِ» بكذبهم هذا «إِثْماً مُبِيناً» (50) ظاهرا لا يحتاج إلى الإثبات، ثم ذكر الله جل ذكره شيئا من سيئاتهم الاخر وعجب رسوله منها فقال «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ» هو كل ما عبد من دون الله من الأوثان إنسانا كان أو حيوانا أو جمادا «وَالطَّاغُوتِ» الشيطان اسم مبالغة الطاغية «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «هؤُلاءِ» يعنون المشركين أنفسهم «أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» (51) طريقا وهو قول كذب محض ليشطوهم على دينهم ويمنعوهم من الإسلام «أُولئِكَ الَّذِينَ» يقولون هذا القول «لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (52) وهذه قصة أخرى من سيئات اليهود التي عملوها سابقا فيما بينهم يخبر الله تعالى رسوله بها وهي أن حيي بن أحطب وكعب بن الأشرف ذهبوا إلى مكة بعد واقعة أحسد في سبعين رجلا

من أصحابهم ليحالفوا قريشا على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم التي أخزاهم الله به وشقت شملهم كما مر في الآية 24 فما بعدها من سورة الأحزاب ونقضوا عهدهم معه، فقالت لهم قريش إنا لا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن تسجدوا لهذين الصنمين فنختبر صدقكم فسجدوا، قالوا اسم الصنمين جبتا وطاغوت، فذلك قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ) إلخ فتعاهدوا عند البيت على قتاله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال أبو سفيان لكعب كيف أنتم يا أهل الكتاب نحن أميون لا نعلم أن محمدا أهدى أم نحن؟ قال اعرض عليّ دينك، فقال نحن ننحر للحجيج الكرماء الناقة كثيرة اللحم مرتفعة السنام ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر البيت ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد من علمت، فقال أنتم أهدى سبيلا مما عليه محمد، فأنزل الله هذه الآية. ويفهم من هذا أن هذه الآية نزلت بعد حادثة أحد وقبل الأحزاب فتكون متقدمة في النزول على ما قبلها كآية اليتيم المارة آنفا، ولا مانع، لأن الآيات التي نزلت بالحوادث أو بغيرها قد تتقدم على سورها وقد تتأخر كما ذكرناه غير مرة، وإن كلا منها توضع بمحلها كما هي الآن في المصاحف وفاقا لما هو عند الله بأمر من حضرة الرسول وإشارة من جبريل الأمين عليهما الصلاة والسلام، راجع الآية 44 المارة ومن جملة سيئاتهم أنهم قالوا نحن أحق بالملك والنبوة من العرب القرشيين فكيف نتبعهم، فأنزل الله تنديدا بهم «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ» فيما سبق حتى يدعون الأولوية به «فَإِذاً» أي لو كان لهم حظ فيه «لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» (53) منه راجع الآية 49 المارة آنفا تعلم أن النقير يضرب مثلا لكل تافة «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ» أي محمدا وأصحابه «عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من النصر والغلبة والتقدم والملك والنبوة والكتاب، وليس هذا ببدع «فَقَدْ آتَيْنا» قبلهم «آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» مثل داود وسليمان ويوسف «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (54) في الدنيا لم نؤته محمدا ولا غيره راجع وصفه في الآية 9 من سورة سبأ ج 2 والآية 15 فما بعدها من سورة النمل ج 1 والآية 77 من سورة الأنبياء فما بعد في ج 2 وما بعدها فلماذا لا يحسدونهم وقد جمعوا بين الملك والنبوة والكتاب وخصوا بأشياء لم تكن

لأحد قبلهم ولا تكون لأحد بعدهم؟ وهؤلاء اليهود «فَمِنْهُمْ» أناس منّ الله عليهم بالإيمان المعنيون بقوله تعالى «مَنْ آمَنَ بِهِ» كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ» كهؤلاء الموجودين عندك الذين شأنهم الكذب والحسد والنفاق ومن بعدهم ممّن كان على شاكلتهم «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» (55) لمن لا يؤمن بالله ورسله وكتبه، وإن اليهود كما أنهم يطعنون بحضرة الرسول يطعنون أيضا بأصحابه كما مر في الآية 105 وفي كتابه في الآية 108 وفي مستقبل الإسلام في الآية 17 وفي الكعبة واستقبالها في الآية 115 وفي الدعوة الإسلامية في الآية 118 من البقرة المارة. وهناك لهم سيئات أخرى كثيرة مرت وستمر، قاتلهم الله ما ألعنهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» من جميع الخلق «سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» بالصفة وإلا فهي عين الأولى كما إذا صنعت خاتمك على غير هيئته الأولى فهو هو. غير أن الصياغة تبدلت فبدلت صفته وذلك لأن الجوارح تعظم فيظن رائيها أنها غيرها فلا يصح القول بأن تكون جلودا غير جلودهم لمنافاته لقوله تعالى «لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» وأن الله غير الجلد الذي اكتسب الإثم واستحق العذاب على صفة أخرى لا أنه بدل نفسه بغيره إذ تأبى حكمة الله أن يعذب شيئا بجرم غيره لقوله جل قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) . وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا. ومما يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة يرفعه قال ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع. وما رواه مسلم عنه قال قال صلّى الله عليه وسلم ضرس الكافر أو قال نايه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام. وغير مستحيل على الله تعالى أن يضاعف أجسادهم ليضاعف عذابهم، ولا غرو أن الجريح قد يرم جرحه حتى يصير العضو المجروح مثله مرارا بسبب جرح بسيط فكيف بما يصيبهم من كيّ النار الدال عليها قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً» لا يمتنع عليه شيء يكبر ما يشاء ويصغر ما يشاء «حَكِيماً» (56) بما يفعل لا اعتراض عليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأقذار الدنيوية مما يعتري نساءها من

مطلب توصية الله الحكام بالعدل ومحافظة الأمانة والأحاديث الواردة فيها وتواصي الاصحاب في ذلك:

حيض ونفاس واستحاضة وغيرها «وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا» (57) دائما صفة موضحة مؤكدة كقولك ليل أليل ويوم أيوم وأحمر قان وأصفر ناصع وأبيض خالص وأسود خالص وأخضر أدهم وشبهها. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» حين طلبها بلا توان «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ» فإنه يأمركم أيها الحكام والمحكمين «أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» قريبا كان المحكوم أو بعيدا مؤمنا أو كافرا عدوا أو صديقا «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» فتعم الشيء الذي يأمركم به ربكم ويرشدكم إليه من أداء الأمانة والعدل في الأحكام لأنهما ملاك الدنيا والآخرة «إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» (58) ولم يزل كذلك. مطلب توصية الله الحكام بالعدل ومحافظة الأمانة والأحاديث الواردة فيها وتواصي الاصحاب في ذلك: وهذا خطاب عام على الإطلاق لكل أحد وخاص بالأمراء والحكام يرمي إلى حثّ ولاة الأمور أن يقوموا برعاية الرعية ويحملهم على إحقاق الحق بمقتضى الشرع وأن لا يولوا المناصب غير أهلها لأنها أمانة بأيديهم، ولأن تولية الأمور لغير أهلها ظلم وهو من علامات الساعة كما جاء في الحديث الصحيح إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة. وقوله صلّى الله عليه وسلم إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة. قال سيدنا علي كرم الله وجهه على الوالي أن يتعهد أموره ويتفقد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان المحسن ولا إساءة المسيء ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وضاع العمل. وقال عمر بن الخطاب من ولي أمور العباد ينبغي له أن يتطلع على صغير أمورهم وكبيرها فإنه مسئول عنها، ومن غفل خسر الدنيا والآخرة. وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. وعن أبي بكر رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحدا محاباة (أي لأجل قرابة أو أمر آخر) فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم، ألا فليتق الله من وسد الأمر

لغير أهله، وليراقب مغبة هذه الأحاديث، ومن وصايا سيدنا عمر إلى معاوية إذا تقدم لك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة وادناء الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه، وتعاهد الغريب فإنك إن لم تتعاهده سقط حقه ورجع إلى أهله، وإنما ضبع حقه من لم يرفق به، وآسي بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء. وجاء في الحديث الذي رواه ثوبان لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له، وأخرجه البغوي عن أنس- وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة. وأخرج عن ميمون بن مهران ثلاث تؤدى إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة، والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر، والعهد يوفى به للبر والفاجر. وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. واختلف في سبب نزول هذه الآية في رواية ابن عباس وابن مسعود والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها عامة كما جرينا عليه وعليه أكثر المفسرين وعن زيد بن اسلم واختاره الجبائي أنها خاصة بولاة الأمور على الوجه الذي ذكرناه فيهم، والآية تدل بسياقها على كلا الأمرين، ولا يمنع عمومها في جميع الأمانات خصوص سببها في الأمراء، وما رواه البغوي من أنها نزلت في عثمان بن طلحة وهي رواية عن ابن عباس، وانه أسلم يوم الفتح فيه نظر، لأن عثمان هذا على ما قاله أبو عمرو بن عبد البر وابن منده وابن الأثير أنه هاجر إلى المدينة بعد هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد، ولقيهما عمرو بن العاص مقبلا من عند النجاشي فرافقهما وهاجر معهما، فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه رمتكم مكة بأفلاذ كبدها، يعني أنهم وجوه قومهم من أهلها فأسلموا. نعم إن عثمان المذكور جاء بالمفتاح يوم الفتح وسلمه لحضرة الرسول وطلب العباس إن يضمه إليه مع السقاية، قالوا وكان حضرة الرسول قبل الهجرة أراد أن يدخل البيت، فطلب المفتاح من عثمان هذا فلم يعطه إياه، ولم يفتح له الباب، فقال صلّى الله عليه وسلم إني رسول الله قال له

لو علمت انك رسوله لما منعنك، فقال له سيأتي يوم إن شاء الله أنزعه منك، فلما كان الفتح وأتى عثمان بالمفتاح وطلبه العباس ظن أنه لا يعيده إليه لما سبق منه فنزل جبريل وأمره برده إليه عن أمر ربه وتلا هذه الآية فرده إليه وقال خذها يا بني طلحة (يعني سدانة البيت) خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، ثم إنه أعطاه بعد إلى أخيه شيبة وهي حتى الآن في ذريته فإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية بعد الفتح عند ذلك بمناسبة رد المفتاح إلى السادن القديم فلا يعني أنها نزلت في هذا الشأن، لأن هذه السورة نزلت قبل الفتح بسنتين ولا يجوز أن يقال إن هذا لعلة من الإخبار بالغيب، لأن هذه من الأقوال الواقعية لا المخبر بوقوعها وليست من الأقوال حتى تكرر والله أعلم. ومما يؤيد نزول هذه الآية فيما ذكرنا قوله تعالى بسياقها «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» من جنسكم وقومكم أيها المؤمنون فإن هذه فرع عن قوله (وَإِذا حَكَمْتُمْ) الآية، ويؤكده قوله عز وجل «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ» من أمر دينكم ودنياكم «فَرُدُّوهُ» ارجعوا به في طلب حله «إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ما دام حيا وإلى كتاب الله وسنة رسوله بعد وفاته «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فافعلوا ما تؤمرون به «ذلِكَ» الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله «خَيْرٌ» لكم من الاستبداد بالرأي واتباع هوى أنفسكم فيه «وَ» تأويل الرسول له «أَحْسَنُ» من تأويلكم، لأنه لا ينطق عن الهوى بل يتبع الوحي المنزل عليه فيه من ربه وما يلهمه الله مما يلقيه في روعه، لذلك كان تأويله «تَأْوِيلًا» (59) خيرا من تأويلكم وأحمد عاقبة روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وروى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم حدود الله. إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولهذا البحث صلة في الآية 159 من سورة الأنعام في ج 2، فراجعها. والآية عامة في كل أمير وما قاله عكرمة أراد بها أبا بكر وعمر للحديث المروي عن حذيفة. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إني لا أدري ما يقال فيكم فاقتدوا بالذين بعدي أبي بكر

في مطلب معنى زعم قصة بشر واليهودي والزبير والأنصاري وامتثال أوامر الرسول:

وعمر. أخرجه الترمذي وما قاله ميمون بن مهران أن المراد بهم أمراء السرايا والبعوث أو أنهم عموم الأصحاب لما روي عن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أخرجه رزين في كتابه ولما روي عن البغوي بسنده عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح. وقال الحسن ذهب ملحنا فكيف نصلح؟ وقال غيره: يا علماء السوء يا ملح البلد ... ما يصلح الملح إذا الملح فسد وكذلك ما روى البخاري عن ابن عباس بأنها نزلت في عبد الله بن حذافة ابن قيس وما قاله السدي بأنها في خالد بن الوليد حين بعثه الرسول على سرية فيها عمار بن يسر فلما قربوا من القوم هربوا، وجاء رجل إلى عمار قد أسلم فأمنه عمار، فرجع الرجل فجاء خالد فأخذ ماله، فقال إني قد أمنته وقد أسلم قال خالد تجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا وقدما إلى رسول الله، فأجاز أمان عمّار ونهاه أن يجبر الثانية على أميره. فهذه الأقوال إن صحت لا تخصص هذه الآية بمن وردت فيهم لأنهم من جملة الأمراء المأمور بإطاعتهم فيدخلون بحكم عمومها دخولا أوليا وغيرهم من بعدهم لذلك ما ذهبنا إليه هو الأولى وقد مشى على هذا الطبري والجبائي وزيد بن اسلم وكثير من المفسرين غيرهم لذلك فإنها مطلقة باقية على إطلاقها. في مطلب معنى زعم قصة بشر واليهودي والزبير والأنصاري وامتثال أوامر الرسول: قال تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» من الكتب وهذا تعجب ثالث يعجب الله به رسوله مما جبل عليه اليهود من الطبائع السيئة، ولفظ زعم يأتي بمعنى الحق والباطل والكذب والصدق بحسب مناسبة المقام، وأكثر ما يستعمل بالشك، وجاء في الحديث زعمه جبريل، وفي حديث خمام بن ثعلبة زعم رسولك، وقال سيبويه زعم الخليل لشيء يرتضيه، وفي شرح مسلم أن زعمه في كل هذا بمعنى قال والمراد هنا مجرّد ادعاء، أي أنهم يدعون إيمانهم بتلك الكتب والحال أنهم لم يؤمنوا بها حقيقة لأنهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» فلو كان إيمانهم صحيحا لما طلبوا المحاكمة إلى المنافق المعبر عنه في الطاغوت فكيف يرضونه حكما «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا

[سورة النساء (4) : الآيات 61 إلى 70]

بِهِ» ولكنهم يريدون الركون إلى الضلال إذ لم تؤثر فيهم الآيات الرامية إلى الهدى «وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» (60) عن الحق مستمرا دائما فوق ضلالهم فلو أمروا بالجنوح عنه لما فعلوا «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» تحاكموا «إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ» ليحكم بينكم بكتاب الله فهو أعدل وأحق للحق «رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ» يا سيد الرسل «صُدُوداً» (61) وأيّ صدود صدود مع أنفة عما تدعوهم إليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي ننطلق إلى محمد، وقال المنافق ننطلق إلى كعب بن الأشرف، وهذا هو الذي سماه الله بالطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا عند رسول الله، فلما رأى المنافق ذلك، أتى معه إلى الرسول، فقضى عليه، فلما خرجا قال المنافق انطلق بنا إلى عمر، فذهب معه، فقال لعمر اختصمت معه إلى الرسول فقضى لي عليه فلم يرض فقال عمر للمنافق أن كذلك؟ قال نعم، فأصلت سيفه وضرب المنافق حتى برد، وقال هكذا أقضي بمن لم يرض بقضاء الله، فنزلت هذه الآية، وقال جبريل لمحمد إن عمر فرق بين الحق والباطل، ومن ذلك اليوم سمي الفاروق، قال تعالى «فَكَيْفَ» يكون حال هؤلاء المنافقين «إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» مثل قتل بشر هذا «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» وهو أولا اختيار بتحكيم كعب على تحكيمك وثانيا عدم رضائه بحكمك «ثُمَّ جاؤُكَ» أهل القتيل المذكور «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا» ما أردنا بطلب إعادة المحاكمة عند غيرك «إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» (62) ليطمئن المحكوم عليه بأن قضاءك هو الحق ولنوفق بينهما عليه لا عدم رضى بحكمك «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من النفاق والكذب «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ» يا أكمل الرسل باللسان وازجرهم عن النفاق والكذب وخوفهم من طلب المحاكمة إلى الطاغوت وعذاب الآخرة المترتب عليه ولا تعاقبهم «وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» يؤثر في قلوبهم مملئه التخويف والتهديد «وَ» اعلم يا سيد الرسل أنا «ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» فيما يأمر وينهى ويحكم «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا

أَنْفُسَهُمْ» بطلب المحاكمة إلى الطاغوت «جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ» مما أقدموا عليه «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» لأنه يقبل عذر من اعتذر إليه والله لا يرد شفاعته «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً» عليهم «رَحِيماً» (64) بهم ومن هنا والآيتين 38 من المائدة الآتية و 57 من الإسراء المارة في ج 1 أخذ جواز التوسل بحضرة الرسول، راجع تفسير الآيتين المذكورتين. وتشير إلى أن الاعتراف بالذنب أمام حضرة الرسول واستغفاره له قد يؤدي لعفو الله عنه، وعليه فإن المذنب إذا اعترف أمام العالم الذي هو نائب عن حضرة الرسول وتاب توبة نصوحا ودعى له بقبولها قد يؤدي لذلك والله أعلم. «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ» حقا ولا يسمون مؤمنين «حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» رغبة فيك وحبا في سماع كلامك وشوقا بحكمك «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً» ضيقا وحنقا وعدم رضى «مِمَّا قَضَيْتَ» به عليهم بل يتلقونه بطيب نفس ويعلمون أنه الحق الواجب اتباعه «وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (65) مطلقا وينقادوا له انقيادا رضائيا لا شك ولا تردد فيه ظاهرا وباطنا ولا تخيير فيه أبدا راجع الآية 26 من سورة الأحزاب المارة، روى البخاري ومسلم عن عروة ابن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحمه (الشراج سيل الماء النازل من الجبل إلى السهل والحمة الأرض الحمراء المتلبسة بالحجارة السوداء) التي يسقون بها النخيل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما إلى رسول الله فقال صلّى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول الله إن كان ابن عمتك (أي قضيت له لهذه القرابة لا بحق رأيته قاتله الله) فتلون وجه النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك، زاد البخاري فاستوعى رسول الله حينئذ للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير أن يتسامح مع الأنصاري سعة له فلما احتفظ الأنصاري أي استوعى أي استوفى للزبير حقه (وذلك إن من كانت أرضه في فم الوادي فهو أولى بتمام السقي) وروى البغوي أنهما لما خرجا مرا على المقداد فقال لمن قضى، لمن كان القضاء قال الأنصاري لابن عمته ولوى شدقه

ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى يريد سلفهم فدعا موسى إلى التوبة منه فقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين الفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا، فلما سمعه ثابت بن قيس بن شماس قال أما والله إن الله يعلم مني الصدق، ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت. هذا وإن ما جاء في الحديث وإن كان يدل على حادثة الزبير وخصمه إلا أنه لا يدل على نزول الآية فيها والآية متصلة بما قبلها وتابعة للسبب الأول، والله تعالى أعلم، لأن الزبير لم يقطع بقوله إنها نزلت في حادثة الأنصاري بل قال احسب بأنها نزلت في ذلك تدبر. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ» هؤلاء المنافقين «أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» لتقبل توبتكم كما فرضنا على بني إسرائيل قبل «أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ» كما أمرناهم بالخروج من مصر مع نبيهم «ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» رياء وسمعة لأن المنافقين ظاهرهم غير باطنهم، وإن ثابتا المشار إليه من القليل، وقيل لما نزلت هذه الآية، قال عمر وعمار وابن مسعود من أصحاب رسول الله والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ هذا رسول الله فقال إن من أمّتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي، وهؤلاء أيضا من القليل، اللهم اجعلنا منهم واحشرنا معهم. «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ» وانقادوا لحكم الرسول «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» في الدارين «وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» (66) لإيمانهم وأقرب للتودد لرسولهم «وَإِذاً» لو فعلوا ذلك اتباعا لأمرنا ونزولا لحكمنا الذي نطق به رسولنا «لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً» (67) على انقيادهم ورضاهم بحكم الرسول «وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (68) لا يزالون متمسكين به حتى يوصلهم الجنة، كان صلّى الله عليه وسلم رأى مولاه ثوبان متغيرا فقال ما غير لونك؟ وكان شديد الحياء شديد الحب لرسول الله قليل الصبر عنه، فقال يا رسول الله ما بي مرض إلا أني أستوحش إذا لم أرك وأخاف أن لا أراك في الآخرة لعلو مقامك، فأنزل الله «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ

[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 80]

رَفِيقاً» (69) أي ما أحسن رفقة هؤلاء الكرام «ذلِكَ» الثواب المترتب على طاعة الله ورسوله هو «الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً» (70) بمن يستحق ذلك الفضل العظيم. روى البخاري ومسلم عن أنس أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال متى الساعة؟ قال وما أعددت لها قال لا شيء إلا إني أحب الله ورسوله، فقال أنت مع من أحببت. قال أنس فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبّي إياهم وإن لم أعمل بعملهم. ورويا عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ» من عدوكم فاستصحبوا سلاحكم وكونوا متهيئين. ولا يقال هنا الحذر لا يغني عن القدر لأنه محتوم كائن لا محالة، لأن الكل بقضاء الله وقدره، والأمر بالحذر والتقيّد هو من قضاه الله وقدره ولا سيما في الحرب، فإنه يطلب فيه ما لا يطلب في غيره ويجوز فيه ما لا يجوز بغيره «فَانْفِرُوا» أخرجو لعدوكم «ثُباتٍ» سرايا متفرقين واحدة تلو الأخرى «أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً» (71) مع نبيكم أو أميره إلى جهاد عدوكم حال كونكم يقظين مدججين بسلاحكم «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» يتثاقلون ويتأخرون عن الرسول أو أميره، وأراد بهؤلاء المنافقين وإنما قال منكم لاجتماعهم معهم في الجنسية والنسب وإظهار كلمة الإسلام «فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ» من قتل أو هزيمة أو أسر أو سبي «قالَ» رئيسهم ابن سلول وكلهم يقول قوله لأنهم يتبعونه في حركاته وسكناته «قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ» بعدم الخروج «إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً» (72) في الواقعة التي أصيبوا فيها ولو كنت لأصبت بما أصابهم «وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ» من فتح أو غنيمة «لَيَقُولَنَّ» ذلك المنافق واضرابه «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ» أيها المؤمنون «وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ» ولا معرفة فكأنه ليس من أهل دينكم ولا من جنسكم وتراه يقول بأعلى صوته «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» (73) مما غنموه في تلك الغزوة فيا سيد الرسل قل لهم «فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» لا الذين يبيعون

مطلب ما فعله ابو نصير وفتح خيبر وتبوك وما وقع فيهما من المعجزات وظهور خير صلح الحديبية الذي لم يرض به الأصحاب.

الآخرة بالدنيا ويكون قصدهم من الجهاد الغنيمة فقط «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» ويبقى حيا «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ» بالحالتين «أَجْراً عَظِيماً» (74) غنيمة وسعادة أو ثوابا وشهادة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، وإذا كان كذلك «وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أيها المؤمنون وقد تكفل الله لكم بذلك وتستنقذوا المؤمنين إخوانكم المعذبين في مكة «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ» وتخلصونهم من أيدي المشركين وبراثن أعداء الدين حيث منعوهم من الهجرة إلى المدينة وحالوا دون التحاقهم بإخوانهم وأهليهم فيها ولا يزالون يعذبونهم بقصد ردهم عن دينهم ولا قوة لهم يمتنعون بها منهم وهم «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ» مكة وهي وطنهم الأصلي لشدة ما يقاسونه فيها من أهلها من العذاب بدلالة قوله تعالى حكاية عنهم «الظَّالِمِ أَهْلُها» أنفسهم بالشرك والتعدي على الغير «وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ» يا إلهنا وسيدنا «وَلِيًّا» ينقذنا من ظلمهم «وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» (75) ينصرنا عليهم، فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة ورد صلّى الله عليه وسلم أبا جندل على الصورة المارة في الآية 11 من الممتحنة، ورجعوا إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح استجابة لدعائهم، إذ تولى أمرهم خير ولي وجعل ناصرهم خير ناصر، وخلصهم أحسن خلاص، وذلك لما وقع صلح الحديبية. مطلب ما فعله ابو نصير وفتح خيبر وتبوك وما وقع فيهما من المعجزات وظهور خير صلح الحديبية الذي لم يرض به الأصحاب. وجاء ابو نصير عتبة ابن أسد مسلما إلى المدينة وطلبه المشركون بمقتضى المعاهدة المذكورة، فرده صلّى الله عليه وسلم مع الرجلين اللذين جاءا بطلبه، وقال له قد أعطينا القوم ما علمت من الشروط في المعاهدة، ولا يصلح في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك وللمستضعفين مثلك فرجا ومخرجا فلما ذهب معهما ووصلا ذا الحليفة قتل أحدهما وفر

الآخر ورجع أبو نصير إلى المدينة وقال يا رسول الله رددتني إليهم بمقتضى عهدك لهم، وأنجاني الله حيث قتلت أحد الذين أخذاني وفر الآخر، فقال صلّى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد. فعرف مغزى قوله صلّى الله عليه وسلم وخرج من المدينة وذهب إلى سيف البحر أي شاطئه وبلغ المسلمين المحبوسين في مكة قول الرسول لأبي نصير وعرفوا مرماه أيضا، فخرجت عصابة منهم إليه وأنفلت أبو جندل المذكور ولحق بهم أيضا حتى بلغوا سبعين رجلا وصاروا يقطعون الطريق على قريش لا يتركون عيرا إلا نهوها ولا يظفرون بأحد من المشركين إلا سلبوه وقتلوه فأرسلت قريش تناشد رسول الله والرحم بأن يرسل إليهم ويأخذهم إلى المدينة ومن أتاه على شاكلتهم فهو آمن، فأرسل إليهم وقدموا المدينة جميعهم وهذا أول خير من معاهدة الحديبة التي أثبتناها في الآية المذكورة آنفا من سورة الممتحنة المارة، ثم وقعت غزوة خيبر في المحرم سنة السابعة من الهجرة وخيبر مدينة ذات حصون ومزراع على ثمانية برد من المدينة لجهة الشام وقد خرج إليها صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فصبحهم صباحا فخرجوا، وإذا القوم، فقالوا محمد والخميس أي الجيش، وإنما سمي خميسا لأنه يحتوي على خمسة أصناف المقدمة والمؤخرة والميمنة والمشأمة والقلب، وهكذا ترتب الحملات في الغزو والجهاد، فقال صلّى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، فبرز ملكهم مرعب وبرز إليه عامر، فاختلفت بينهما ضربتان فأصاب عامر نفسه، ثم أخذ الراية أبو بكر وقاتل قتالا شديدا، ثم أخذها عمر وكذلك قاتل أشد من صاحبه ولم يقع أحد من الطرفين ولم يؤخذ بثأر عامر رحمه الله، فقال صلّى الله عليه وسلم لأعطين الراية غدا رجا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وينفتح على يديه، فأعطاها عليا كرم الله وجهه وبرز له مرعب المذكور وهو يرتجز. قد علمت خيبر اني مرعب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلتهب فأجابه علي كرم الله وجهه:

أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة أو فيكم بالصاع كيل السندره ثم ضرب مرعبا فقتله، وكان الفتح على يديه. وهذه من معجزاته صلّى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب، ثم برز أخوه مرحب فخرج إليه الزبير بن العوام فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال بل ابنك يقتله إن شاء الله وكان كذلك، وهذه معجزة أخرى أخبر بها صلّى الله عليه وسلم أيضا، ولم يزالوا يفتحون الحصون ويقتلون من يقابلهم حتى فتحوها كلها وأخذوا الأموال واستاقوا السبي الذي من جملته صفية بنت حيي سيد قريظة اصطفاها لنفسه صلّى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها، وقسم الأموال والسبي لمن حضر الحديبية. وحديث فتح خيبر هذا رواه سهل بن سعد وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة، وأخرجه البخاري ومسلم عنهم بزيادة على ما ذكرنا. أما الحوادث التي وقعت فيها غير المعجزتين المارتين فمنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما علت بها القدور نادى منادي رسول الله أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا، قالوا إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال آخرون نهى عنها البتة. وروى البخاري عن عائشة قالت لما فتحت خيبر قلت الآن نشبع من التمر. ورويا عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة فجيء بها إلى رسول الله وقد أخبره السيد جبريل بذلك، فسألها عن سبب ذلك، فقالت أردت لأقتلك، فقال ما كان الله ليسلطك على ذلك، أو قال علي، قالوا أنقتلها يا رسول الله؟ قال لا، فما زلت أعرفها في لهوات محمد صلّى الله عليه وسلم أي أحاديثه المؤنسة المعجب بها. قالت عائشة كان صلّى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم. والمرأة هي زينب بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم اليهودية. قالوا لما جيء بها قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم إن كنت ملكا استرحنا منك، وإن كنت نبيا فلا يضرك فعفا عنها. قالوا وكان بشر بن البراء بن معرور أكل لقمة منها فمات في ساعته. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن سلمان أن

رجلّا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قال لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي فجعل الناس يبتاعون غنائمهم، فجاء رجل فقال يا رسول الله لقد ربحت اليوم ربحا ما ربحه أحد من أهل هذا الوادي، قال ويحك وما ربحت؟ قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ريحت ثلاثمائة أوقية، فقال صلّى الله عليه وسلم ألا أنبئك بخير ربح؟ قال وما هو يا رسول الله؟ قال ركعتان بعد الصلاة أطلقها صلّى الله عليه وسلم فتشمل كل الصلوات المفروضة أي النفل الذي بعدها، ولو كانت قبل الصلاة كنت أظنها صلاة الصبح لقوله فيها إنها خير من الدنيا وما فيها. قالوا ثم طلبت اليهود أن يقرهم في أرضهم على نصف التمر وأن يكفوهم العمل ولهم النصف الآخر، فقال صلّى الله عليه وسلم لا بأس، وقبل منهم وتركهم في بلدهم على ذلك، وقال لهم نترككم ما شئنا، فبقوا على هذا حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه في امارته إلى تيماء وأريحا ولما سمعت أهل فدك بما وقع في خيبر طلبت من الرسول أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم ويخلو له الأموال ففعل بهم وأن يصالحهم على مثل ما فعل بخيبر، ففعل أي أجاب صلّى الله عليه وسلم طلب الفريقين الذي أراد الجلاء والذي أراد البقاء على ما طلب، فكانت غنائم خيبر للمسلمين الذين حضروا الحديبية وغنائم فدك لرسول الله خاصة لأنه لم يجلب عليها بخيل ولا ركاب، وقد أشار الله إلى هذه الحادثة في سورة الفتح الآتية في قوله عز قوله (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 19، وقد أسف المنافقون على ما فاتهم من هذه النعمة كما قص الله تعالى عنهم في الآيات المتقدمة، وهذا الخير الثاني الذي وقع بعد صلح الحديبية والثالث هو ما فعله ابو نصير وقومه المشار إليهم آنفا قال تعالى «الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ابتغاء مرضات الله وإعلاء لكلمته ونصرة لدينه ومعونة لإخوانهم المضطهدين في مكة تحت ضغط الكفرة فيها، فهؤلاء إن قتلوا فهم شهداء وإن بقوا فهم سعداء «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» الشيطان من الجن والمتشيطنين من الإنس «فَقاتِلُوا» أيها المؤمنون «أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ» ولا تخشوا كيدهم «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» (76) لأنه بغي وغرور لا يئول إلى نتيجة حسنة ويوهن وينمحق بمقابلة القتال في سبيل الله نصرة لدينه. قالوا

كان جماعة من المستضعفين كعبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص، يقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتال المشركين لأنهم آذونا، فقال لهم كفوا عن القتال لأني لم أومر به، وثابروا على دينكم، فأنزل الله «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ» بعد أن هاجروا من مكة إلى المدينة وأمروا به «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ» أي أهل مكة الذين كانوا يطلبون الإذن بقتالهم «كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً» من الله «وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ» الآن هلا «لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» يريدون الموت لأنه مهما طال أجله فهو قريب، وهذا سؤال منهم عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم، لا اعتراض على حكم الله، بدليل أنهم لم يوبخوا عليه بل أجيبوا بقوله عز قوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء وزهدهم فيما يطلبون من البقاء بالدنيا وما يؤملون بالقعود عن القتال، وطلب التأخير إلى الأجل، ورغبهم فيما يتالون بالقتال من النعم، لأن ما يريدونه هو «مَتاعُ الدُّنْيا» وهو عند الله «قَلِيلٌ» تافه سريع الزوال لا قيمة له «وَالْآخِرَةُ» التي نريدها لهم ذات النعيم الدائم والخير الجزيل والأجر الكبير فهي «خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى» السوء في هذه الدنيا الفانية الزهيدة، فميلوا إليها لتوفوا ثوابكم كاملا «وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (77) من أعمالكم الصالحة فيها بل تضاعف لكم. ولما كان المنافقون لا يزالون يرددون قولهم في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا كما مر في الآية 157 من آل عمران، أنزل الله جل شأنه ردا عليهم «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ» لا خلاص لكم منه إذا حل أجلكم وإذا كان الأمر كذلك فالقتل في سبيل الله أفضل من الموت على الفراش. قال علي كرم الله وجهه أن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء وقيل فيه: إن موتا في ساعة الحرب خير ... لك من عيش ذلة وخضوع

مطلب في قوله تعالى كل من عند الله، وكيفية حال المنافقين مع حضرة الرسول، وان كلام الله لا يضاهيه كلام خلقه محمد فمن سواه صلى الله عليه وسلم:

مت هماما كما حييت هماما ... وأحي في ذكرك المجد الرفيع وإذا كان الموت لا بد مدرككم «وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» وحصون محصنة وقلاع عالية مطلية بالشيد وهو الجصّ. وقال بعض المفسرين أجساد قوية مستدلا بقول القائل: فمن يك ذا عظم صليب رجابه ... ليكسر عود الدهر فالله كاسره وهو هنا ليس بشيء، وقال الحصكفي ملغزا في نعش الميت: أتعرف شيئا في السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير يحضّ على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير ولم يتزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ» من خصب وصحة ورفاه «يَقُولُوا» المنافقون «هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب ومرض وغلاء «يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم، وهذا كقول قوم موسى عليه السلام (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) الآية 130 من الأعراف في ج 1، وكقول قوم صالح لصالح عليه السلام (اطّيّرنا بك وبمن معك) الآية 47 من سورة النمل وكما قال أهل انطاكية سئل عيسى عليه السلام (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) الآية 19 من سورة يس ج 1 أيضا. مطلب في قوله تعالى كل من عند الله، وكيفية حال المنافقين مع حضرة الرسول، وان كلام الله لا يضاهيه كلام خلقه محمد فمن سواه صلّى الله عليه وسلم: وذلك أن اليهود والمنافقين لعنوا وأخزوا تشاءموا من حضرة الرسول وهو منبع الخير وأهل الفلاح، فقالوا منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فرد الله عليهم بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين «كُلٌّ» من الخير والشر «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لأنه خالقهما وموجدهما. وإنما أضاف السيئة للعبد لأنها من كسبه عن رغبة واختيار فلحقته بذنبه عقوبة له. ومن الأدب أن لا ينسب السوء إلى الله ولو كان في الحقيقة هو منه، قال- كما حكاه القرآن الكريم- (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ

يَشْفِينِ» الآية 71 من سورة الشعراء ج 1 فقد أضاف المرض لنفسه تأدبا مع الله مع أنه لا يشك أنه من الله لأن الله يوقعه في العبد عقوبة إسرافه في الأكل والشرب وعدم وقايته من الحر والبرد، إذ لا سبب للمرض ظاهرا غير هذين، وما يطرأ عليه من الكسر والجروح، ونسب الشفاء لله، وهكذا يجب على كل عاقل أن ينسب ما يصيبه من شرّ مهما كان لنفسه، وما يصيبه من خير لربه، ولهذا يقول الله تعالى «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ» أعميت قلوبكم حتى صاروا «لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (78) فيعلمون أن موقع الخير والشر في العبد هو الله وحده، ويقولون «ما أَصابَكَ» أيها الإنسان على العموم ويجوز أن يكون المخاطب سيد المخاطبين والمراد به غيره كما مر غير مرة «مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» مكافأة لما قدمت من خير وتقوى ومجاملة «وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» عقابا لما اقترفته من شر وفسق وفظاظة، وقد جاءت الآية الأولى على الغيبة، وهذه على الخطاب بطريق التلوين والالتفات وهو من محسنات البديع في الكلام إيذانا بمزيد الاعتناء بفهم المراد من قوله عز وجل، واهتماما يردّ اعتقاد أهل الباطل وزعمهم الفاسد وإشعارا بان ذلك مبني على كلمة دقيقة حريّة بان يتولى بيانها علام الغيوب، واعلم أنه لا تعلق للقدرية في هذه الآية إذ ليس المراد من الحسنة حسنة الكسب من الطاعات، ولا السيئة المكتسبة من المعاصي، بل المراد كل ما يصيب الإنسان من النعم والنقم، وهذا ليس من فعل الإنسان لأنه لا يقال في الطاعة والمعصية أصابني، بل أصبتها، ويقال في النعم والنقم أصابني بدليل عدم ذكر الثواب والعقاب، وهي كقوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) الآية 131 من الأعراف ج 1، ولهذا قدرنا كلمه يقولون قبل قوله تعالى ما أصابك حتى لا يتناقض مع قوله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) في الآية المتقدمة، لأن السيئة وإن كانت من عمل صاحبها فهي بتقدير الله تعالى، إذ شاء لما تركه يفعلها، فأصبح الكل من الله، ألا إن الخير برضاه، والشر بقضاه، تأمل. «وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» يا حبيبي لتبشرهم وتنذرهم «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (79) على إرسالك للناس كافة لا للعرب فقط كما تقوله اليهود وغيرهم ممن حذا حذوهم «مَنْ يُطِعِ

[سورة النساء (4) : الآيات 81 إلى 90]

الرَّسُولَ» محمدا أيها الناس «فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى» عن طاعتك «فَما أَرْسَلْناكَ» يا صفوة الخلق «عَلَيْهِمْ» أي منكري رسالتك «حَفِيظاً» (80) تمنعهم من أن يقولوا ما يشاؤن ولا رقيبا على أعمالهم فتحاسبهم عليها ولا مسيطرا فتعاقبهم من أجلها، لأن هذا كله لله وحده «وَيَقُولُونَ» هؤلاء المنافقون أأمرنا يا محمد فشأننا «طاعَةٌ» لك لأننا آمنا بك وصدقناك، ففضحهم الله بقوله اعلاما لرسوله «فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» إلى شأنهم «بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ» أي تلك الطائفة التي قالت طاعة أو غير الذي عهدته إليهم والتبيّت كل أمر يفعل بالليل أي يرتب فيه، فيقال هذا أمر دبر بليل، أو بيت أو قضى به فيه، أي أنهم قد دبّروا ليلا غير الأمر الذي أعطوكه نهارا. وقيل إن بيت هنا بمعنى غيّر وبدّل الأمر الذي عهدته إليهم، وإنما خص طائفة من المنافقين إعلاما بأن منهم من يرجع عن نفاقه ويتوب إلى الله «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» ويخبرك به يا سيد الرسل لنذكرهم به كي ينتهوا عن مثله «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» الآن، ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم، ولا تغتر بإسلامهم أبدا، ولا تعتمد على أحد منهم «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (81) عليهم يخبرك بأسرارهم. قال تعالى تعجيبا لنا من أمرهم بعد أن عجب رسوله المرة الخامسة «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» فيقهمون معانيه ويتفكرون في مغازيه، فيفقهون المراد منه، ويعون ما يرمي إليهم، وفي هذا ردّ على الروافض القائلين إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير من الرسول والإمام المعصوم لأنه لو كان كذلك لما وبخ الله هؤلاء على عدم فهمهم ما يشير إليه، ولأحالهم على رسوله وأولي العلم ونظير هذه الآية الآية 25 من سورة محمد الآتية. واعلم أن هذا التدبر الوارد في صدر هذه الآية بكون من ثلاثة أوجه: الأول في فصاحته التي عجز عنها الخلائق أجمع بأن يأنوا بمثلها، الثاني إخباره عن الغيوب الصادرة من المنافقين وغيرهم إذ أطلع الله نبيه عليها وفضحهم فيما يخفون فضلا عن اخباره عن الأولين والآخرين مما لا يعلمه إلا الله، الثالث سلامته من الاختلاف والتناقض وهو المراد من قوله جل قوله «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ» من جن أو أنس أو ملك

أو كلهم بالاشتراك «لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82) وتفاوتا جزيلا وتناقضا عظيما من حيث الشرك والتوحيد والتحليل والتحريم والبيان والفصاحة والبلاغة لعظمه وتكرر آياته ولكنه من عند الله، لذلك لا يرى فيه شيئا من ذلك البتة فضلا عن أنه بالعا الغاية من حيث المبنى والمعنى، ولهذا احتج فيه على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم والإخبار بالغيوب لسلامته من الاختلاف والتناقض، وإن كلام الغير مهما كان فلم يكن على وتيرة واحدة بالفصاحة والبلاغة وتصديق بعضه لبعض، لأن منه ما هو فائق حد الاعجاز باللفظ، ومنه ما هو قاصر عنه، ومن حيث المعاني فبعضه إخبار يوافق المخبر عنه، وبعضه إخبار مخالف للمخبر عنه، وقسم منه دال على معنى صحيح عند علماء المعاني، وقسم منه دال على معنى فاسد غير ملتئم. أما ما قاله بعض الملحدين من وجود الاختلاف في القرآن العظيم محتجا في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية 24 من سورة القيمة في ج 1، وقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) الآية 104 من سورة الأنعام ج 2 وقوله تعالى (ثُعْبانٌ) في الآية 107 من سورة الأعراف مع قوله (جَانٌّ) في الآية 11 من سورة النحل ج 1 وفي قوله (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) في الآية 93 من سورة الحجر ج 2 مع قوله (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» في الآية 40 من سورة الرحمن الآتية. فما هو لفظا ومعنى يراه الجاهل مخالفا وهو في الأصل واحد كما بينا ذلك كلا في محله، فليرجع إليه في تفسير تلك الآيات ليعلم أن الاختلاف من مفترياته والتناقض من عاداته، والتباين من فهمه السقيم، وما قوله إلا بهت محض ناشيء عن خلل في عقله، وعمه في بصيرته، راجع الآية 7 من آل عمران المارة. هذا ومن هذا القبيل الذي تقوّل به المنقولون الذين أذهب الله مفكّرتهم وطمس على قلوبهم ما قاله الكفرة قديما ومن حذا حذوهم بعد إن هذا القرآن من كلام محمد صلّى الله عليه وسلم! ومن أين لمحمد أن يأتي بمثله وقد تحدى الله الخلق أجمع على الإتيان بسورة من مثله؟ لأن ظاهر كلامه وباطنه لا يضاهي قول البشر من كل وجه، ولا كلام محمد على ما هو عليه من الفصاحة والبلاغة يشبه كلام ربه. قال تعالى «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ» من خبر السرايا المبعوثة من قبل

حضرة الرسول كفتح وغنيمة وسلامة كتموه، لأنه لم يرق لهم التحدث به لما في قلوبهم من الغلّ والحقد والحسد «أَوِ الْخَوْفِ» من خبر خذلان السرايا وقتلهم أو هزيمتهم «أَذاعُوا بِهِ» أفشوه علنا حالا وأشاعوه بين الناس بقصد المفسدة وتثبط الناس وتفنيد ما يدبره القائد الأعظم لأمور جيشه. وظاهر الآية أنهم يذيعون الخير والشر، وعليه يكون المعنى أنهم يقصدون بإذاعة الخير كالنصر والغنيمة تهيج الناس ضد أصحاب الرسول بما يتقولونه من أنهم فعلوا بأقاربكم وجماعاتكم من القتل والسبي والجلاء ما فعلوا ليفزعوا لهم على أصحاب رسول الله وإن كان شرا من هزيمة أو قتل فإنهم يقصدون بإذاعته إلقاء الرعب والأراجيف في قلوب أقارب الغزاة وتعلقاتهم ليوقعوا اللوم على حضرة الرسول بإرسالهم، فعابهم الله قاتلهم الله على ذلك وكلهم عيب «وَلَوْ رَدُّوهُ» أي الخبر المتعلق بالسرايا على علاته «إِلَى الرَّسُولِ» الذي هو وحده له الحق بكتمانه وإذاعته «وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ» من كبراء الأصحاب البصراء بالأمور الخبراء بعواقبها «لَعَلِمَهُ» أي علم التدبير فيما أخبروا به «الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» يستخرجون بذكائهم وحدة فطنتهم وتجاربهم وخبرتهم بأمور الحرب ومكايدها ما يجب أن يدبروه، لأن الأعداء بالمرصاد لهكذا أخبار فيتدار كون ما أخبروا به، وكان عليهم إذا سئوا أو أخبروا بما يتعلق في هذا الشأن ألّا يجيبوا عنه سلبا ولا إيجابا، بل عليهم بأن يفوضوا أمر الجواب إلى الرسول ووزرائه، ويجعلوا أنفسهم كأن لم يسمعوا بشيء، إذ قد لا يوافق إفشاء خبر الإنتصار أحيانا لما يخاف من نجدة الأعداء والتطويق، كما لا يوافق بيان خبر الخذلان بتاتا لما فيه من كسر القوة المعنوية. ويجب دائما التقيد بالأمرين واستعمال المعاريض في الكلام والثوري وإعطاء الجواب على خلاف السؤال من حيث المعنى، وغير ذلك مما يعرفه المحنكون للأمور الخائضون غمارها، لأن الحرب لها أبواب وعلوم غير العلوم الأخرى، والسّبط هو الماء الذي يخرج من البئر أول حفره واستنباطه استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل جودة ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل عليه. وفي هذه الآية دليل على جواز القياس لأن من العلم ما يدرك بالنصّ وهو الكتاب والسنة، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس

مطلب أمر حضرة الرسول بالقتال والآية المبشرة إلى واقعة أحد وبدر الصغرى والشفاعة والرجاء ومشروعية السلام ورده:

وعلى الأول يكون في الآية الحذف من الأول بدلالة الثاني أي وجود المحذوف فيه وهو كلمة (أَذاعُوا بِهِ) وهذا الخوف من محسنات البديع في الكلام، وقد يكون على العكس كما في الآية 30 من آل عمران المارة، وشاهد الأول قوله: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف وقوله: رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريا ومن أجل الهوى رماني وشاهد الآخر قوله: ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإنّي وقيار بها لغريب «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» ببعثه هذا الرسول إليكم وإنزال هذا القرآن عليكم بواسطته ولطفه بكم، وتوفيقه وهدايته لكم أيها الناس «لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» (83) ممن أوتي عقلا سليما وتؤدة كاملة. مطلب أمر حضرة الرسول بالقتال والآية المبشرة إلى واقعة أحد وبدر الصغرى والشفاعة والرجاء ومشروعية السلام ورده: قال تعالى «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يا رسولي «لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» والله ناصرك ومؤيدك ولو كنت وحدك «وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ» على القتال معك جهادا في سبيلي، ولا تقسرهم وتعنفهم عليه فمن شاء فليقاتل معك من تلقاء نفسه، ومن شاء فليتخلّف حتى يكون رائدهم عن طيب قلب وخلوص نية ورغبة في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وخذلان أعدائه. وهذه الآية تشير إلى ما ذكرناه في الآية 173 من آل عمران المارة من أن أبا سفيان عند انصرافه من وقعة أحد واعد النبي صلّى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى كما أوضحناه هناك. وسبب كراهة بعض أصحاب الرسول الخروج معه إلى بدر الصغرى هو ما ألقاه في قلوبهم رسول أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي من الأراجيف التي ذكرناها هناك، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي. فتبعه الشجاع وتخلف الجبان وعادوا رابحين دون أن يقع قتال لتخلف أبي سفيان وقومه عن الميعاد، وقد أشار الله لهذه الحادثة في هذه الآية الكريمة بقوله جل قوله «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ

بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بأن يدفع بطشهم وشدتهم، وقد فعل حيث ألقى في قلوبهم الرعب، ورجعوا من الطريق «وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً» منهم وأعظم صولة وأكبر جولة «وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» (84) عذابا وعقوبة من غيره. قال تعالى «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها» حظ وافر له منها في الدنيا من ثناء الناس عليه وضرب المثل به، وفي الآخرة الثواب العظيم والأمر الجسيم عند الله «وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها» نصيب مضاعف وهو مذمة الناس عليها في الدنيا، وضرب المثل بسوء فعله، وفي الآخرة عقاب الله وعذابه. وهذه الآية لها ارتباط بما قبلها بان يكون صدرها عائد لحضرة الرسول من أجل تحريض قومه على الجهاد، لأن له فيه حظا وافرا لما فيه من سعادة قومه ورضاء الله وعجزها لرسول أبي سفيان لما في كلماته التي فاه بها بين أصحاب الرسول المبينة في الآية المذكورة من آل عمران من الوزر العظيم له عند الله والغضب من حضرة الرسول وأصحابه في الدنيا. وهي عامة المعنى لتصدرها بمن الدالة على العموم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً» (85) مقتدرا من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه، قال الشاعر: وذي ضغن كففت الشر عنه ... وكنت على إساءته مقيتا أي مقتدرا. وإن الله القادر على كل شيء المكافي على كل شيء سيجازي شفيع الخير خيرا وأجرا وشفيع الشر وزرا وشرا. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا فجاء رجل ليسأل فأقبل علينا بوجهه وقال اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء. ومن هنا شرع الرجاء بالحق وفيما كل ما لا يوجب ضرر الغير، وإن الرجل يحاسب على جاهه كما يحاسب على ماله، وكما أن البخل بالمال مذموم فالبخل بالجاه مذموم بل البخل بالجاه ادعى للمذمتة من البخل بالمال، قال في هذا القائل: لعمرك ان البخل بالمال شنعة ... وبخلك بين الناس بالجاه أشنع فأحسن إذا أوتيت جاها فإنه ... سحابة صيف عن قليل تقشع وكن شافعا ما كنت في الدهر قادرا ... فخير زمان المرء ما فيه يشفع

ولا شك أن الشفاعة تكون بالأمور المعقدة ولمن لا يؤبه بهم أكثر من غيرهم أجرا عند الله تعالى. وعلى كل فعلى العاقل أن يستعين بعد الله تعالى على قضاء حاجته بخيار الناس لأنهم يقدرونها قدرها ولله در القائل: لله درّ النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار وقد قال صلّى الله عليه وسلم أبلغوا حاجة من لا يستطيع ابلاغها، فمن أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة، والمراد بالسلطان كل من يقدر على قضاء الحاجة من موظفي الدولة مهما كانت رتبته ولا سيما إذا كان المحتاج من أهل العلم فيجب إكرامه بقضاء حاجته أكثر من غيره لئلا تجهل الرعية حقه، وإذا أكرم العالم صفا ذهنه فزاد النفع به. وعلى من وجد مظلوما أن يأخذ بيده ويقضي حاجته ما استطاع عسى الله أن يقضي حوائجه في الآخرة على أن يكون الاعتماد بقضاء الحاجة على الله مهما كان الوسيط كبيرا، قال: واشدد يديك بحبل الله معتصما ... فإنه الركن إن خانتك أركان من يتق الله يحمد في عواقبه ... ويكفه شرّ من عزّوا ومن هانوا من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان قال تعالى: «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا» أيها الناس من حياكم «بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» بنفسها بلا زيادة ولا يكون لكم فضل عليه لأنها بمقابلة تحيته والفضل للبادئ لأنه لو لم يبدأكم بالتحية فليس عليه غير العتاب، أما الذي لا يردها بتاتا فإنه يأثم لأن البدء بالتحية سنة والرد واجب. ومن يردّ بأقل مما بدىء به يأثم أيضا لمخالفته نص الآية، تدبر واعمل بما يرضي الله. «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً» (86) فلأن يحاسب العبد على هذا من باب أولى. واعلم أن التحية ما يحيي بها الرجل صاحبه وقد بدل الإسلام ألفاظ تحايا الجاهلية كحياك الله وبياك وأنعم صباحا ومساء، وأطال الله بقاك، بالسلام الذي هو تحية الإسلام وأهل الجنة كما المعنا إليه في الآية 199 من آل عمران المارة لأن طول الحياة بلا سلام من الآفات مذمومة وإنعام الصباح والمساء بلا أمان منغصة، فلرب حياة الموت خير منها وفيه قال:

ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش مما لا خير فيه ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالممات على أخيه روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لما خلق الله آدم قال اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذرّيتك فقال السلام عليكم. فقالوا عليك السلام ورحمة الله فزادوه ورحمة الله، وإنما بدلت تحايا الجاهلية المعتادة عندهم بالسلام لأن معناه السلامة والأمان فهو أتم وأحسن وأكمل من ذلك كله، فإذا قال لك أخوك السلام عليك ورحمة الله فزد أنت وبركاته ليكون ردك أحسن من سلامه، وإذا حياك بالصيغة كلها فردها بمثلها روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. وروى مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم. وأخرج ابن ماجه عن أبي أمامة قال أمرنا نبينا صلّى الله عليه وسلم أن نفشي السلام. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام. هذا ويستحب أن يقول السلام عليكم سواء كان المسلم عليه واحدا أو جماعة، وأن يزيد المجيب فيقول وعليكم السلام ورحمة الله، ويرفع كل منهما صوته بحيث يسمع صاحبه، ولا يزيد على وبركاته شيئا، لأن كمال صيغة السلام تنتهي بها، وأن لا يؤخر الردّ، بل يجيبه فورا. وسنة السلام وواجبه على الكفاية إذا قام بها واحد سقط عن الآخرين وإلّا عوتبوا جميعا وأثموا. وكذلك تشميت العاطس سنة كفاية إذا سمع قوله الحمد لله وإلا فليس على السّامع تشميته. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يسلّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير وفي رواية والصغير على الكبير، والمار على القاعد. وهذه آداب السلام، ومنها ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولى الناس لله عز وجل من بدأهم بالسّلام- أخرجه أبو داود- وما رواه أنس أنه مر على صبيان

فسلم عليهم، قال وكان صلّى الله عليه وسلم يفعله- أخرجاه في الصحيحين- ويجوز السلام على النساء إذا لم يخش المسلم فتنة أو تهمة، لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت مرّ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا- أخرجه أبو داود- والمرأة الشابة الأجنبية لها أن لا ترد السلام على من سلّم عليها لأنه لا يستحق الردّ لما ذكرنا من خشية الفتنة أو التهمة، هذا إذا كانت وحدها أما إذا كانت في جماعة من النساء فلا بأس بالرد كما لابأس بالسلام لنفي الريبة والشك، أما العجوز ففي الحالتين تردّ السلام، والنساء يسلمن بعضهن على بعض فرادى وجماعات على الترتيب الجاري بين الرجال، ولا يسلّم على قارئ ونائم ومتوضئ وخطيب ومن يسمع الخطبة ومن يصغي لتلاوة القرآن ومن يطالع الفقه أو يدرسه والقاضي إذا كان على كرسيّه والمصلي والمؤذن ومقيم الصلاة احتراما لما يفعلون لأنه يؤدي إلى قطع ما هم فيه، ولذلك إذا لم يردّوا السلام فلا اثم عليهم، ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج وسائر الملاهي الممنوعة شرعا وكل متلبّس بمعصية أو قائم بشيء مكروه كالمغني والراقصة وملاعب الحمام ومن يدقّ بالعود والربابة وشبهها، ولا يسلم على كاشف عورته لأن السلام عليه يقتضي النظر إليه وهو حرام فضلا عن أنه فاسق والفساق على اختلافهم لا يسلم عليهم إذا علم فسقهم إهانة لهم، ولا يسلم على من يأكل ويشرب لئلا يسبب له الغصة، ولا على جالس لحاجته، ومن هو في الحمام ومن هو مشهور بالبدع والظلم، وإن لم يطلع عليهم هو انا بهم، ويسلم على النصارى واليهود ويرد عليهم إذا سلموا عليه، روي عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم، ولما جاء في الحديث الصحيح لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وأن لنا بعضنا على بعض السلام، ولهم كذلك ويبدأ الأعمى بالسلام مطلقا لأنه معذور، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ترك السلام على الأعمى خيانة، أي في حقه الإسلامي. قال تعالى «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» (87) هذا استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أصدق من الله، وقد أقسم جل قسمه في هذه الآية لمنكري البعث أنه جامعهم في ذلك اليوم الذي يجحدونه، ألا فليحذروا من

الإصرار على إنكاره وليبادروا للتوبة والاستغفار قبل حلوله، قال تعالى «فَما لَكُمْ» أيها الناس المؤمنون اختلفتم «فِي الْمُنافِقِينَ» وتفرقت كلمتكم في كفرهم بعد أن أعلنوا نفاقهم حتى صرتم من أجلهم «فِئَتَيْنِ» نزلت هذه الآية في أناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا، ثم ندموا على إسلامهم فخرجوا من المدينة كهيئة المتنزهين، فلما بعدوا عنها كتبوا إلى رسول الله إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان، ولكنا اجترينا المدينة أي كرهناها واشتقنا إلى أرضنا، ثم أنهم خرجوا في تجارة إلى الشام فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم نخرج إليهم ونقتلهم، وقال بعضهم كيف نقتلهم وقد أسلموا وكان رسول الله ساكنا يسمع كلامهم ولا ينهي أحدا منهم، فبين الله لهم حالتهم، أي لم صرتم فريقين في القول بكفرهم «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ» ردّهم إلى حكم الكفار لاختيارهم دار الكفر على دار الإيمان وصحة الكفرة وتكثير سوادهم على صحبة الرسول وأصحابه، ولذلك غصّهم بالكفر وهذا هو معنى الإركاس «بِما كَسَبُوا» بسبب إظهارهم الارتداد بين قومهم سرا وعلنا واتصافهم بالإسلام ظاهرا مع إبطان الكفر، لأن من يبطن الكفر ويظهر الإسلام أشد ضررا على المسلمين من معاني الكفر، لأنه كفر وغش وخداع وإنما أولنا اركس بمعنى ردّ بناء على ما رواه الضحاك عن ابن عباس، واستدل عليه بقول أمية بن الصلت: فاركسوا في جحيم النار انهموا ... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا وأخرج ابن جرير عن السّدي انها بمعنى أضل، واستدل عليها بقول الراجز: واركستني عن طريق الهدى ... وصيّرتني مثلا للعدى وقيل بمعنى نكس والموافق لمعنى الآية والبيت الأول انها بمعنى أغطس. قال تعالى «أَتُرِيدُونَ» أيها المؤمنون القائلون بإيمانهم «أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» قال لا تقدرون على هدايته أبدا «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» (88) لهدايته البتة، وهذه الآية مكررة كثيرا في القرآن في المكي والمدني معنى ولفظا ثم زادهم الله بيانا بحالهم فقال «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» مثلهم في الكفر. ثم حذرهم منهم بقوله «فَلا تَتَّخِذُوا

مطلب من يقتل ومن لا يقتل ومن يلزمة الكفارة للقتل ومن لا وما هو يلزم القاتل وأنواع القتل:

مِنْهُمْ أَوْلِياءَ» فتميلوا إليهم وتدافعوا عنهم «حَتَّى يُهاجِرُوا» من دار الكفرة مرة ثانية هجرة صحيحة «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ولأجله خاصّة لا لغرض أو عوض ويؤمنوا إيمانا حقيقيا «فَإِنْ تَوَلَّوْا» على ما هم عليه واستمروا على اعراضهم فلم يهاجروا ثانيا حال كونهم نادمين على ما وقع منهم مستغفرين من فعلهم ذلك تائبين توبة نصوحا. مطلب من يقتل ومن لا يقتل ومن يلزمة الكفارة للقتل ومن لا وما هو يلزم القاتل وأنواع القتل: وإلا فإن بقوا مصرين على بقاء إيثار دار الكفر ولم يهاجروا ويجددوا إيمانهم «فَخُذُوهُمْ» إذا ظفرتم بهم قبل إعلان إيمانهم عن صدق «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل أو الحرم أو الأشهر الحرم «وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (89) على أعدائكم وإن بذلوا لكم ولايتهم ونصرتهم فلا تصدقوهم فهم أعداء لا يعتمد عليهم. ثم استثنى طائفين من القتل بين الأولى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ» وينتهون «إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» بأن عاهدوكم عليهم ولم يحاربوكم بعد هذا العهد وهم بنو أسلم لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة وادع هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إليه من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال. وما قيل انهم بنو بكر أو خزيمة فالمعنى واحد، لأن الآية عامة ومن كان داخلا في العهد، وهؤلاء من أولئك، فإذا لحق هؤلاء بهم وصاروا معهم فقد عصموا دماءهم تبعا لمن لجأوا إليهم، وهذه غاية في المحافظة على العهد ونهاية في احترام المعاهدين. والطائفة الثانية هي المذكورة في قوله تعالى «أَوْ» الذين «جاؤُكُمْ» على كفرهم لاجئين لبلدكم «حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» وضاقت مذاهبهم كافين عن «أَنْ يُقاتِلُوكُمْ» مع قومهم «أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» معكم فهؤلاء لا سبيل لكم على قتالهم لأنهم دخلاء «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ» ولكنه القى في قلوبهم الرعب وضيق صدورهم وبلادهم عليهم حتى لجأوا إليكم وهذا من جملة أفضاله عليكم ونصرته لكم

[سورة النساء (4) : الآيات 91 إلى 100]

«فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ» ولم يتعرضوا لكم ولم يعاونوا قومهم بالفعل ولا بالقوة ولم يكونوا عونا لهم عليكم «وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ» فاستسلموا لكم بكليتهم ولم تشكوا بهم «فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» (90) إلى القتال، لأن حكمهم حكم المعاهدين، وعلى هذا فالآية محكمة لا سبيل للقول بنسخها. ومن قال إنها نزلت في المتخلفين عن واقعة أحد فلا يتجه قوله لأن قوله تعالى حتى يهاجروا ينافي ذلك ومن قال إنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول في حديث الإفك فلا يصح أيضا لأن حادثة الإفك لم تقع بعد، ولم تنزل عنها سورة النور المشار إليها، لذلك فإن ما ذهبنا إليه أولى بالسياق وأنسب للسياق، وتأمّل قال تعالى «سَتَجِدُونَ آخَرِينَ» من هذا القبيل قالوا لهم جماعة من أسد وغطفان وعبد الدار كانوا أتوا المدينة وأسلموا رياء، وعاهدوا المسلمين ليأمنوا على أنفسهم حتى إذا رجعوا إلى قومهم عادوا لكفرهم ونكثوا عهدهم وكانوا يظهرون بين قومهم كلمة الكفر ويسرونها بين المؤمنين، فنضحهم الله بقوله «يُرِيدُونَ» هؤلاء الخبثاء «أَنْ يَأْمَنُوكُمْ» أيها المؤمنون بإيمانهم الكاذب كي لا تتعرضوا لهم «وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ» بإعلان الكفر ليفهموهم أنهم باقين على كفرهم مثلهم، فيخدع الفريقان على السواء، وصاروا يؤمنون قومهم بأنهم معهم، وان اتصالهم بالمؤمنين خداعا، ويقولون المؤمنين كذلك بأنهم معهم ومواصلتهم للكافرين خداعا «كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ» بدعوة قومهم لقتال المسلمين «أُرْكِسُوا فِيها» رجعوا إليها وكانوا أشد عداوة للمسلمين من غيرهم فعليكم أن تخطروهم بعدهم البقاء بين أظهركم وتأمروهم بالخروج من بلدكم لئلا يكون ما توقعونه بهم غدرا «فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ» بعد إنذارهم ولم يسيروا إلى بلدهم «وَ» لم «يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ» بان يطلبوا منكم الصلح ولم ينقادوا لما نكلفونهم «وَ» لم «يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ» عن قتالكم بمظاهرة قومهم وبأنفسهم «فَخُذُوهُمْ» أسرى «وَاقْتُلُوهُمْ» إن لم يستسلموا إليكم «حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» وأدركتموهم وظفرتم بهم وتمكنتم من قتلهم إذا هربوا قبل الاستسلام «وَأُولئِكُمْ» المخادعون المنافقون «جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً» بسبب انكشاف حالهم

وظهور طويتهم بالإصرار على العداء. قال تعالى «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» من غير قصاص البتة، إذ لا يصح ولا يجوز له ذلك بوجه من الوجوه أبدا «إِلَّا خَطَأً» بأن ضرب حيوانا أو حربيا فأصاب إنسانا غير مقصود، وهذا الاستثناء منقطع، أي لكن إذا وقع القتل خطأ على هذه الصورة فيلتزم القاتل بما قال تعالى «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً» محضا غير مقصود، كأن انطلقت من يده عفوا أو ضرب حيوانا فأصابه من غير أن يعلم أن هناك إنسانا «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» عليه كفارة لفعله عند الله «وَدِيَةٌ» لازمة عليه أيضا «مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» الأقربين الأحق بإرثه «إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» أي ورثة القتيل على القاتل بأن يعفوا عنهم ويتركوا الدية فلا يطلبوها منه، وهذا إذا كان المقتول مؤمنا وأهله مؤمنين «فَإِنْ كانَ» المقتول «مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ» كافرين «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لا ورثة له «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» على القاتل فقط ولا تلزمه الدية إذ لا توارث بين المؤمن والكافر، ولم يتعلق بقتله إلا حق الله تعالى، فعليه حقان حق الله وحق الورثة المؤمنين الذين يجب تطييب خاطرهم بإعطاء الدية «وَإِنْ كانَ» المقتول كافرا ولكنه «مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» أي معاهدة «فَدِيَةٌ» مخففة تلزم بها أنت أيها القاتل وعائلتك تؤديها مقسّطة على ثلاث سنين وتكون خلالها «مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» الأدنين المستحقين لميراثه «وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» كفارة عليه تجاه حق الله والدية حرمة للعهد الذي بينكم، لأن المعاهدين لهم ما لنا وعليهم ما علينا ما داموا مؤمنين بالعهد قائمين بالشروط التي التزموها وإلا فلا، هذا ولما كانت أحكام الله تعالى بينة بعدم الحرج فقد خفضه بقوله «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» رقبة يعتقها أو لم يقدر على شرائها «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» كفارة من عتق الرقبة ويكون هذا الصيام «تَوْبَةً» له مقبولة «مِنَ اللَّهِ» عما وقع منه، لأن توبة الله عليه متوقفة على عتق الرقبة، وعند الاعياء عنها يقوم الصيام مقامها، فإن لم يفعل أحد هذين لا تقبل توبته «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بما يشرعه لعباده فيما يكون من صالحهم «حَكِيماً» (92) بأفعاله كلها. واعلم أن حكم هذه الآية عام في كل ت (38)

ما يقع من القتل على الصورة المذكورة. وسبب نزولها هو أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي كان أسلم في مكة سرا وهرب إلى المدينة، فقالت أمه لا بنيها أخويه لأمه، الحارث وأبي جهل: والله لا يظلّني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتياني به، فذهبا إليه وذكرا له ذلك، وجزع أمه عليه، وعاهداه على أن لا يكرهوه على شيء من الكفر والردة عن الإسلام، وبعد أن توثق من حلفهما له ذهب معهما أداء لحق أمه، فلما أوصلاه مكة أوثقاه ثم جلده كل واحد مائة جلدة، فحلف لئن تمكن من الحارث ليقتلنه، فقالت أمه لا أحلّ وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، وتركته بالشمس، إلى أن أعطاها ما أرادت، ثم أسلم وهاجر، فلقي الحارث وحده فقتله، فقال له الناس ويحك إنه أسلم لأن ذلك كان بعد قتل أبي جهل، فذهب إلى الرسول وأخبره ، فأنزل الله هذه الآية. وقيل نزلت في الرجل الذي قتله أبو الدرداء بعد أن نطق بالشهادتين. وهذا الحكم في القتل خطأ. أما في شبه العمد وهو أن يضرب إنسانا بما لا يقتل عادة فيموت أو يدفعه بما لا يظن فيه الموت فيموت كوكز موسى عليه السلام القبطي، راجع الآية 15 من سورة القصص في ج 1، فيلزمه الدية مغلظة تستوفى من عائلته خلال ثلاث سنين أيضا، وتلزم الكفارة وهي عتق رقبة، أو عند العجز صيام شهرين كما مرّ. أما في قتل العمد فلا دية ولا كفارة، إذ لا يطهر القاتل المتعمد إلا القصاص، لأن قتل العمد شبه الاستحلال لا يطهر القاتل منه إلا بتسليم نفسه للقتل إظهارا للتوبة النصوح الصادقة أو العفو من قبل ورثة القتيل أو بعضهم، لأن القتل لا يتجزأ، وترجح جهة العفو على غيره، فإذا عفا عنه بعض الورثة سقط القصاص عنه وتلزمه الدية المغلظة أيضا لورثته وهي مئة من الإبل أو قيمتها ألف دينار ذهبا، أو اثنا عشر الف درهم فضة، أو مئتا بقرة، والفا شاة، وكيفية تغليظها أن تكون ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، في بطونها أولادها. وتخفيفها أن تكون عشرين بنت مخاض، ومثلها بنات لبون، ومثلها حقاق، ومثلها جذاع، ومثلها أبناء لبون. ودية المرأة على النصف في كل ذلك. هذا هو الحكم الشرعي الخطأ وشبه العمد أو العمد، أما الاستحلال

للقتيل فقد ذكره الله بقوله «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً» قاصدا لقتله لكونه مؤمنا استحلالا لقتله «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» (93) وهذا التشديد في عقابه دليل استحلاله القتل لأنه بذلك القصد كفر، ولو لم يكن المراد منه ما ذكر لما رتب الله عليه هذا العقاب الشديد، لأن القاتل مؤمن عاص متروك أمره لمشيئة الله تعالى غير داخل في التخليد، قال صاحب الشيبانية. ولا يبقى في نار الجحيم موحد ... وإن قتل النفس الحرام تعمدا وهذه الآية عامة أيضا وإن كان نزولها على ما قيل في مقيس بن جنابة الكناني الذي راجع حضرة الرسول بأنه وجد أخاه هشاما مقتولا في بني النجار، فأرسل صلّى الله عليه وسلم معه رجلا من بنى فهد إليهم ليسلموه قاتل أخيه وإنهم إذا لم يعرفوه يعطونه الدية فقالوا والله لا نعلم له قاتلا وأعطوه الدية. وهذا هو الحكم الشرعي الآن، فإن من وجد قتيلا في قرية أو محلة ولم يعرف قاتله فإنه يحلف خمسين رجلا منهم يقول كل واحد والله ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، ثم يعطون الدية لورثته. وبعد الفراغ منهم وسوس له الشيطان وقتل رفيقه الفهري وذهب مرتدا إلى مكة. وهذه الآية محكمة لأنها نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، وآية الفرقان هي إحدى الآيات من 68 إلى المشار إليها عند قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية 48 المارة إذ نزلت بالمدينة. هذا وما قيل أن توبة المتعمد غير المستحل غير مقبولة غير سديد لأنها تقبل من المشرك فلأن تقبل من القاتل سواء كان مستحلا متعمدا أو متعمدا فقط أولى، لأن ذلك كله دون الشرك، والمؤمن العاصي إذا مات ولم يتب فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. قال في الجوهرة: ومن يمت ولم يتب من ذنبه ... فأمره مفوض لربه واعلم أنه إذا اجتمع قوم على قتل رجل كلهم قد ضربه ضربة قاتلة فإنهم يقتلون به كلهم، لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم كلهم، وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، راجع مبسوط الرضى ج 26، ولهذا البحث صلة في الآية 31 من سورة المائدة الآتية. قال تعالى

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ» سافرتم «فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» المؤمن من الكافر لا تتهوكوا فتتعجلوا فتقتلوا المؤمن على ظن أنه كافر «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ» بصيغة تحية الإسلام أو بادركم بالإسلام «لَسْتَ مُؤْمِناً» وتقتلونه بذلك «تَبْتَغُونَ» بقتله «عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» لتسلبوا ماله وتعدوه غنيمة، كلا لا تفعلوا هذا أبدا «فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ» حلالا لا شبهة فيها يمنحكم، إياها تغنيكم عن، هذه التي ملؤها الإثم «كَذلِكَ» كما كان هذا كافرا وأسلم «كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ» إسلامكم كفارا مثله فسبقته لكم العناية «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» بالإسلام قبلهم فافعلوا بمن يريد الدخول بالإسلام كما فعل بكم عن طرق الحث والترغيب فيه والصبر على التمنع عنه ليسلم. ثم أكد عليهم ثانيا بقوله «فَتَبَيَّنُوا» وهذا تأنيب وتنقيد لما وقع منهم. وتقريع وتبكيت لعملهم «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (94) لا حاجة بأن تخبروا رسولكم به، لأن الله تعالى يخبره بحقيقة حالكم، وهو يجازيكم على فعلكم بحسب نياتكم. وفي هذه الجملة تهديد لهم وتحذير لمن يعمل عملهم أي إياكم أيها المؤمنون والتهافت على القتيل طلبا للغنيمة فإنه يؤدي بكم إلى الهلاك وعليكم بالاحتراز والاحتياط، قالوا كان مرداس بن بهنك من أهل فدك من بني مرّة بن عوف أسلم وحده فسمع قومه بسرية لرسول الله تريدهم فهربوا وتركوه، فلما جاءت السرية تكبر نزل إليهم مكبرا قائلا لا إله إلا الله محمد رسول الله فضربه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه، فلما جاءوا إلى الرسول قال أقتلتموه إرادة ما معه؟ فنزلت هذه الآية قبل وصولهم. وهذه من معجزاته صلّى الله عليه وسلم إذ أخبره الله بما فعلوا قبل أن يصلوا إليه، وكان صلّى الله عليه وسلم وجد وجدا شديدا، فقال أسامة، ما قالها يا رسول الله إلا خوفا من السلاح، قال أشققت قلبه؟ فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله، فقال كيف أنت بلا إله إلا الله كررها ثلاثا؟ قال أسامة وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، أي ما وقع منه مكرا مع جملة الذنوب، لأن الإسلام يجب ما قبله، وطلب من حضرة الرسول أن يستغفر له وأمره أن يعتق رقبة. قال تعالى «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ» عن الجهاد والغزو «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ» بالرفع

صفة للقاعدين وبالنصب على الاستثناء وبالجر صفة للمؤمنين «أُولِي الضَّرَرِ» المرضى والعميان والعرجان وجميع ذوي العاهات المخلة بالقوى والجوارح. «وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» بل بينهما بون شاسع ظاهر، وإنما ذكره الله مع العلم به توبيخا وتبكيتا للقاعدين، وتحريكا لهم وتحريضا على الجهاد والغزو «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً» عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله والمراد بالقاعدين في هذه الآية الذين هم ظهر للاسلام الغائبين بقيامهم على ذراريهم وأموالهم ونسائهم لا المتخلفين نفاقا ولا القاعدين كسلا وجبنا، لأن هؤلاء لا فضل لهم حتى يفضل الله عليهم غيرهم، بل منافقون عاصون آثمون خاسرون، ولهذا قال تعالى بحق أولئك المتخلفين على أهالي الغزاة وأموالهم «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» الجنة، ولكنهم درجات متفاوتون، أما القاعدون خوفا وجبنا أو كلّا فبعيدة عنهم هذه الحسنى، إلا أن يتغمدهم الله برحمته، وأما القاعدون نفاقا أو عدوانا فموعدهم النار في الآخرة، والهوان في الدنيا. ثم أكد الله تعالى فضل أولئك بقوله «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ» بأموالهم وأنفسهم فقط «عَلَى الْقاعِدِينَ» في مواطن المجاهدين لحفظ أموالهم وذراريهم أو القاعدين الذين أنفقوا أموالهم على المجاهدين أو جهزوا الغزاة بما قدروا عليه القاعدين كسلا أو جبنا أو نفاقا كما مر، لهذا جعل الله لهم «أَجْراً عَظِيماً» (95) لا يعلم كنهه إلا الله العظيم. ثم فسر هذا الأجر بقوله «دَرَجاتٍ» جليلات بدليل إضافتها إليه جل شأنه لأنها «مِنْهُ وَمَغْفِرَةً» لذنوبهم «وَرَحْمَةً» تطهرهم «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (96) لأن هؤلاء من قبيل المرابطين، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بالرباط والجهاد في الآية 195 من سورة البقرة، أما المجاهدون بأموالهم فقط فلهم أجر عظيم عند الله أيضا، ولكن دون المجاهدين بأنفسهم ودون المرابطين أيضا لذلك بينا آنفا أن تفضيل المجاهدين بأنفسهم فقط أو بأنفسهم وأموالهم على هؤلاء المرابطين، لأن المجاهدين بأموالهم فقط ليسوا مثلهم بالفضل فضلا عن أنهم يفضلون عليهم. واعلم أنه لا يوجد في القرآن إلا ثلاث آيات مبدوءة بحرف الدال هذه الآية 10 من سورة يونس والآية 160 من سورة الأنعام في ج 2، وذكرنا

أيضا ما يتعلق في بحث الجهاد والرباط في الآية 60 من الأنفال والآية 176 من آل عمران المارتين وبينا أن الجهاد فرض عين إذا دخل العدو دار قوم من المؤمنين أو بلدا من بلادهم، على جميع أهل البلد والبلدان المجاورة لها، وإذا لم يكفوا فيجب على كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإلا فهو على الكفاية روى مسلم عن جابر قال كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة فقال رسول الله إن بالمدينة رجالا ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض. وروى البخاري عن أنس قال رجعنا من غزوة مع النبي فقال: إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر. أي معنا بقلوبهم ولولا أعذارهم لخرجوا لأنهم سمعوا ما أنزل الله بفضل الجهاد وحزنوا لعدم اشتراكهم فيه ولولا أن الله استثناهم لخاطروا بأنفسهم رغبة بما أعد الله لمجاهدين، لأن المرضى والعجزى ساقط عنهم الجهاد، والله تعالى أكرم من أن يحرمهم أجره، وهؤلاء غير المتخلفين لمناظرة عيال الغزاة والذين هم ظهر للمجاهدين المار ذكرهم قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ» بالقعود بين الكفرة وترك الهجرة من بلادهم وهم أناس تكلموا بكلمة الإسلام وبقوا في مكة ولم يهاجروا لأن من أسلم ولم يهاجر لا يتم إسلامه، وبقي الأمر كذلك إلى فتح مكة، وفيهم نزلت هذه الآية، وهؤلاء تسألهم الملائكة عند موتهم كما ذكر الله بقوله «قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ» أمع المسلمين أم المشركين استفهام توبيخ وتقريع «قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ» أطلق لفظ الأرض على مكة لشرفها «قالُوا» لهم الملائكة أيضا «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها» وتتركوا أرض المشركين، فسكتوا وعجزوا عن الجواب إذ لا عذر لهم بذلك لأن من لم يستطع أن يخرج علنا يهرب هربا، ومن لم يستطع أن يأخذ أهله يتركهم ويختار الله عليهم «فَأُولئِكَ» الذين هذا شأنهم وماتوا على ما هم عليه يكون «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً» (97) هي لأن بقاءهم مع الكفر عون لهم وتكثير لسوادهم وخذلان للاسلام، ولأن إسلامهم كان مقتصرا على الكلام فقط بينهم وبين أنفسهم، ولا يعرفون من أركانه شيئا، ولا يقدرون أن ينبسوا بشيء منه بين المشركين، وربما خاضوا معهم بالكفر

وقدمنا ما يتعلق بالهجرة في الآية 59 من سورة العنكبوت ج 2 فراجعها ففيها كفاية. ثم استثنى الله تعالى العاجزين حقيقة بقوله «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ» الذين «لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً» في الخروج لفقرهم وعجزهم «وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا» (98) إليه بسبب ضعفهم وصغرهم «فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» وعسى من الله تعالى إطماع وترج، وإذا أطمع الله عبده ورجّاه أوصله وأعطاه وهو أكرم من أن يخيب عباده كيف وهو القائل أنا عند ظن عبدي بي «وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» (99) لا يضيق عفوه ولا ينقص فضله ولا يقل ستره عن أمثالهم. قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال لما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية، قال اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كني يوسف. ثم رغب الله في الهجرة بقوله «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فارا بدينه من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ليتمكن من القيام بما فرضه الله عليه واجتناب ما نهى عنه، كما أمر وأراد «يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً» طريقا يسلكه على رغم أنف من يهاجر عنهم ومتحولا يتحول إليه ومحلا ينزل به في المحل الذي يهاجر إليه غير أرضهم ومتجولا رحبا «كَثِيراً وَسَعَةً» في الرزق والمحل «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ» قبل بلوغ مهاجره «فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» بمقتضى فضله ووعده «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً..» (100) بهم يستر ما مضى منهم ويدخلهم في سعة رحمته. قال ابن عباس لما نزلت الآية الأولى وشاعت في مكة. قال شيخ من بني ليث اسمه جندح بن حمزة، والله ما أنا ممن استثنى الله ولي من المال ما يبلغني المدينة، والله لا أبيت بمكة وكان مريضا فأخرجوه على سرير، فلما وصل التنعيم أدركه الموت فصفق بيمينه على شماله، وقال اللهم هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك. ثم مات، فقال المشركون ما أدرك ما طلب، وقال المؤمنون لو وافي المدينة لتم أجره، فأنزل الله هذه الآية الدالة على أن المهاجر له إحدى

مطلب في قصر الصلاة وكيفيتها وهل مقيدة بالخوف أم لا ومدتها، وقصة سرقة طعيمة بن أبيرق وجواز الكذب أحيانا:

الحسنين: إما أن يرغم أنف أعدائه ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصاله بالخير والسعة، وإما أن يدركه الموت فيصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم. وقدمنا في الآية 56 من سورة العنكبوت في ج 2 ما يتعلق بهذا الحديث فراجعه. مطلب في قصر الصلاة وكيفيتها وهل مقيدة بالخوف أم لا ومدتها، وقصة سرقة طعيمة بن أبيرق وجواز الكذب أحيانا: قال تعالى «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» من أربع إلى اثنتين «إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بأن يغتالوكم وأنتم فيها «إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا» ولم يزالوا «لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً» (101) فتحذروا منهم ثم بين كيفية صلاة الخوف فقال جل قوله «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ» يا سيد الرسل «فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» فاقسمهم إلى طائفتين وأمرهم «فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ» تقتدي بك في صلاتها «وَلْيَأْخُذُوا» أي الطائفة الأخرى التي أمرتها أن لا تصلي معك أولا «أَسْلِحَتَهُمْ» ليحرسوكم «فَإِذا سَجَدُوا» أي الطائفة التي اقتدت بك «فَلْيَكُونُوا» أي الطائفة الحارسة تجاه العدو وليراقبوهم لئلا يغدروا بكم «مِنْ وَرائِكُمْ» لأنكم لا ترونهم حال إحرامكم بالصلاة، وليبقوا هكذا في حراستكم حتى إذا أكملت الطائفة المصلية معك ركعة تأخرت وراءها ووقفت بإزاء العدو مكان الطائفة الحارسة وأكملت صلاتها وحدها، ويبقى الرسول أو الإمام بعده واقفا في محله، وبعد إكمالها صلاتها تقدمت الطائفة التي لم تصل فتأتم بالإمام، وهذا معنى قوله تعالى «وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا» بعد «فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ» أيضا لأنها كانت تحرس المصلين الأولين «وَلْيَأْخُذُوا» هؤلاء المصلون «حِذْرَهُمْ» بأن يكونوا يقظين لئلا يباغتهم العدو، وعليهم أن يرتدوا ما لديهم من درع وغيره من كل ما يتحرز به «وَأَسْلِحَتَهُمْ» أيضا ليكونوا متهيئين عند مبادرة العدو لهم، ويبقى الإمام جالسا إلى أن تأتي هذه الطائفة الأخيرة بالركعة الثانية بالنسبة للامام، وهي أولى بحقهم، أو تتم صلاتها، ثم يسلّم الإمام فتكون الطائفة الأولى أدركت أول صلاة الإمام والأخرى مسبوقة بركعة،

وإنما كان كذلك لأن الإمام كان رسول الله ولا يفرط أحد بأن يحرم من الاقتداء به، أما الآن فيمكنهم أن يصلوا كل طائفة بإمام على حدة، ولكن يا حسرتاه أين الصلاة الآن، فإنهم يستصحبون في حروبهم الفتيات والخمور ويعملون الفواحش ويريدون النصر من الله وهيهات ذلك لمن عصاه وبارزه بالمناهي وأعرض عن الطاعة وركن إلى الملاهي، ولا يخجلون فيقولون لم لا ينصرنا الله وقد وعدنا النصر؟. نعم إن الله تعالى وعد المؤمنين النصر، ولكن هات المؤمنين وخذ نصر الله المبين، والله لا يخلف الميعاد، ولكن نحن الناكثون المنافقون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنما أمرهم الله بأخذ حذرهم لأن الكفرة بالمرصاد لهم، وقد «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ» فتتركونها باشتغالكم بالصلاة أو غيرها «فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ» في هذه الفرصة التي يتربّصونها «مَيْلَةً واحِدَةً» ويحملون عليكم حملة رجل واحد فيقتلونكم على غرة ويأخذون ما لديكم من سلاح ومتاع هذا «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ» في الصلاة وغيرها على أن تكونوا يقظين «وَخُذُوا حِذْرَكُمْ» في هذه الحالة أيضا لئلا يبغتكم العدو المتربص لكم ولم تتمكنوا من تناول أسلحتكم إذا تركتموها «إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (102) لهم، لأنهم لا يراعون حقه ولا يتقيدون بأمره ونهيه «فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ» أي في كل حال كما مر في الآية 197 من آل عمران فإن كثرة ذكر الله توقع السكينة في القلب وتزيل الخوف والرعب «فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ» وأمنتم من هجوم عدوكم وعرفتم بما بثثتم من العيون والجواسيس إنه لا يمكنه الوصول إليكم في صلاتكم «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» كاملة وصلوها جميعا جماعة «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ» ولا تزال «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» (103) محدودا بأوقات معلومة لا يصح تقديمها، ولا ينبغي تأخيرها عنها ولا يجوز إهمالها حتى يخرج وقتها لأنها تكون قضاء، قال تعالى «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ» بأن تتقاعوا عن طلبهم بل تعرضوا لهم واطلبوهم ولا تحجموا عنهم وتحتجوا

«إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ» مما أصابكم أو يصيبكم من الجراح والقتل والأسر «فَإِنَّهُمْ» أعداؤكم «يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ» أنتم لأنهم بشر مثلكم «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ» أيها المؤمنون من الثواب والسعادة في الآخرة والشفاء والخير في الدنيا «ما لا يَرْجُونَ، شيئا من ذلك، وقد يكون لهم الشفاء في الدنيا، أما العذاب في الآخرة فهو محتم لهم، وهذه الميزة العظيمة لكم دونهم فضلا عن أن الله وعدكم العز في الدنيا والسعادة في الآخرة وأوعدهم الهوان في الدنيا والعذاب في الآخرة «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (104) فيما يفعل ويقدّر. يفيد صدر هذه الآية أن القصر مشروط بوجود الخوف، وأن عدم الشرط يوجب عدم المشروط، إلا أن الآية سكتت عن حال الأمن، وقد ثبت القصر فيها بخبر الواحد وإثبات الرخصة بخبر الواحد في حال الأمن إثبات لحكم سكت عنه القرآن ولا مانع من الأخذ بذلك، وإنما بمتنع الأخذ بالأخبار إذا خالفت صراحة ما دل عليه القرآن ويكون التقييد بالخوف على الغالب فضلا عن أن صلاة الخوف هي غير صلاة الأمن كما علمت مما بين الله لنا أخرج مسلم عن أبي يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح الآن فقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. أي بما أن الله تعالى تصدق عليكم بالقصر في الخوف فاقبلوا صدقة بالأمن أيضا، لأنه لم ينه عنه فيه، وأخرج النسائي عن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر كيف تقصرون الصلاة وإنما قال تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ) الآية؟ فقال ابن عمر يا ابن أخي إن رسول الله أتانا ونحن في ضلالة فعلّمنا، فكان مما علمنا أن أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر، وأخرج الترمذي والنسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله رب العالمين، فصلّى ركعتين، ولنا فيه أسوة. هذا وإن الصلاة في السفر مقصورة أفضل لما روي عن عائشة قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر أخرجاه في الصحيحين.

وقيد الشافعي رخصة القصر بالسفر في غير معصية ولم ير أبو حنيفة هذا القيد لعدم النخصيص. وعليه فلا فرق بين أن يكون السفر لطاعة أو غيرها لإطلاق النص فإن مدة السفر المجمع عليها ثلاث مراحل كل مرحلة ست ساعات بمشي الأقدام والإبل، وإذا امتطى ما يوصله هذه المسافة بأن يقطعها بساعة واحدة فله أن يقصر أيضا لأن الرخصة مطلقة والمطلق على إطلاقه. قال ابن عباس كنا مع رسول الله بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون لقد أصبنا غرة، وفي رواية غفلة، ولو حملنا عليهم وهم في الصلاة، وقال ابن عباس ندم المشركون أن لا أكبوا على الرسول وأصحابه وهم في صلاة الظهر، وقالوا إن لهم صلاة بعدها أحب لهم منها ومن آبائهم وأمهاتهم يعني العصر، فإذا قاموا إليها شدّوا عليهم فاقتلوهم، فنزل جبريل بصلاة الخوف. وحكم هذه الصلاة ثابت لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وللقائد أن يصلي بالجيش كصلاته صلّى الله عليه وسلم لقوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الآية 32 من آل عمران المارة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي فلا وجه لقول من قال بعدم جوازها بعد الرسول مع أن قوله تعالى وقول رسوله مطلق عام لم يقيد ولم يخصص به ولا بزمنه، وقد ثبت أن عليا كرم الله وجهه صلاها بأصحابه ليلة الهرير، وكذلك أبو موسى الأشعري، وصلاها حذيفة بن اليمان بأصحابه بصهرستان، ولم يعترض عليهم أو يخالفهم أحد من الأصحاب، ولأن غالب ما خوطب به الرسول تخاطب به أمته لأنهم داخلون في الخطاب إلا ما خص به، ولا نص هنا على التخصيص، ولها صور في كتب الفقه فلتراجع. قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» (105) عنهم ومدافعا لهم، إذ لا يليق بجنابك ذلك بل عليك بملازمة المحق ومناصرة الحق لكل أحد قريبا كان أو بعيدا، مسلما كان أو كتابيا أو معاهدا ولو كان مشركا، إذ يجب على من تولى الحكم عدم التفرقه بجهة إحقاق الحق تدبر. والداعي لهذا هو أنه كان طعيمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جواب فيه دقيق فجعل يتناثر من خرق فيه حتى انتهى إلى داره، فخبأها عند

زيد السهمي اليهودي فالتمسها صاحبها عند طعيمة، فحلف ما أخذها وما له بها من علم، فاتبعوا أثر الدقيق إلى بيت اليهودي فوجدوها عنده، فقال دفعها إلى طعيمة وشهد له جماعة من اليهود، فجاء بنو ظفر وسألوا الرسول أن يجادل عن طعيمة لأنها لم توجد عنده. فهم الرسول بمعاقبة اليهودي لوجودها عنده، فأنزل الله هذه الآية الدالة على أن الرسول ما كان يحكم إلا بالوحي الذي ينزل عليه من الله، لذلك قالوا ليس للقاضي أن يحكم بما يرى ولا يقول قضيت بما أراني الله ولا بما يعلم. قال تعالى «وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ» مما هممت به من المجادلة عن طعيمة ومعاقبة اليهودي «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» (106) بعباده، واعلم أنه لا تمسك في هذه الآية لمن يجيز وقوع الذنب من الأنبياء، لأن الرسول لم يفعل شيئا قط، وإنما هم لما رأى من السبب الظاهري وهو اتباع الأثر من دار المسروق إلى داره ووجود المال المسروق عنده، ولما قامت بينة اليهودي توقف عن الحكم لعدم الاعتماد عليهم فيما يؤول لبعضهم، ولما انزل الله له الحكم عمل به وأنفذه، أما ما تفيده هذه الآية من معنى المعاتبة لحضرة الرسول فهو بالنسبة لعلو شرفه وارتفاع درجته وكبير مقامه وعظيم منصبه وجليل مرتبته وكمال معرفته بالله مما يقع منه على وجه التأويل أو السهو مما قد بعد ذنبا من مثله، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، لأنه لا يعد ذنبا من غيره لو فعله. قال تعالى «وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ» كهذا السارق والمساعدين له لأن من يقدم على ذنب أو يذب عن المذنب مع علمه بما أذنب فهو خائن «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً» (107) وصفه بالإثم، لأنه سرق وأودع المسروق عند غيره وخلف على براءته من فعل السرقة. وهذه الآية عامة لا يخصصها سبب نزولها، لأنها جاءت بلفظ مطلق. ولما سمع طعيمة ما أنزل فيه لحق بمكة مرتدا وعدا على الحجاج بن علاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من الحائط وأخرجوه من مكة، فلقي ركبا وقال لهم أنا ابن سبيل منقطع، فحملوه حتى إذا جن الليل سرقهم وهرب، فأدركوه ورموه بالحجارة حتى مات. ثم إن أقاربه صاروا يستترون حياء من النبي والناس، فأنزل الله «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ

[سورة النساء (4) : الآيات 111 إلى 120]

اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ» في سرهم وعلانيتهم بخلاف الناس «إِذْ يُبَيِّتُونَ» فيما بينهم قبل نزول الآية في تخليص طعيمة «ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ» الذي كانوا يدبّرونه لأجل خلاصه وإلصاق الجريمة باليهودي، ويقولون أن الرسول يسمع منا لأنه صاحبنا وذاك يهودي لا يأمن له «وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً» (108) لا يخفى عليه شيء، وقد أطلع رسوله على حقيقة الأمر، وهو الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» يا قوم طعيمة «جادَلْتُمْ عَنْهُمْ» عن طعيمة وذويه والخطاب لعشيرته «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وهي فانية بما فيها فقولوا لي «فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» إذا أخذوا بذنوبهم من قبل ملائكة الله ونطقت عليهم جوارحهم بما فعلت وأخرست الألسن حينذاك «أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» (109) يحاجج ويناضل ويدافع عنهم أمام الله لأن محاماتكم له تنقطع في الدنيا، ثم رغب الله تعالى المسيئين بالتوبة والندم ليأملوا عفو الله عنهم، فقال جل قوله «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ» بشيء من المعاصي ويوقعها فيها «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ» مما وقع منه «يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» (110) لأن التوبة مقبولة لديه عن الذنوب كلها ما دامت الروح بالبدن فيما عدا حالتي اليأس والبأس قال تعالى «وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ» ويكون وبال إثمه عليها خاصة «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بمن يكسب الإثم مهما أخفاه عن الناس أو ألحقه بغيره «حَكِيماً» (111) بما يخبر به نبيه ليرتدع الناس وينزجروا عن الكذب والبهت وليعلموا أنه تعالى قادر على إخبار نبيّه بكل ما يقع في الكون «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً» مثل طعيمه المذكور «ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً» كاليهودي الذي أئتمن المال المسروق من حيث لا يعلم أنه مسروق «فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» (112) لا خفاء عليه، إذ لا يجوز تهمة الكتابي أو الكافر بشيء لم يقترفه، ولا تجوز الشفاعة لمثل هذا ألا فليتنبه الناس عما من شأنه الإضرار بالغير وتهمتهم بما لم يقع منهم، فإنه موجب لعذاب الله «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «وَرَحْمَتُهُ» لك وتقديره بعصمتك من الذنب لما أطلعك على شيء من هذه القضية و «لَهَمَّتْ

طائِفَةٌ مِنْهُمْ» من عشيرة طعيمة «أَنْ يُضِلُّوكَ» عن القضاء بالحق الذي أمرك الله به بما تقدموا لك من القول ببراءة رفيقهم وإلصاق الجرم باليهودي ولكن الله حافظك من الضلال في الدنيا وكل ما يؤدي إليه. أما الذين يريدون إضلالك فأخيّبهم لأنهم لا يقدرون على شيء لا أريده «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» لأن وبال اضلالهم عليهم «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ» لأنك إذا عملت شيئا عملته عن حسن نية حسبما يظهر لك «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» لتحكم بين الناس بمقتضاها حسب ظاهر الحال، وقال بعض المفسرين إن الحكمة هنا بمعنى ما يتكلم به الرسول وتسمّى بالسنة، وهكذا أوّلوا أكثر ما جاء في القرآن من لفظ الحكمة بالسنة، إلا أن قوله تعالى بعد هذه الكلمة «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» من خفايا الأمور وضمائر القلوب ينافي المعنى الذي ذكروه لأن السنة هي من جملة ما علمه الله غير القرآن، وهو لا ينطق عن هوى، وهي من حيث اللفظ مرادفة لكلمة فلسفة اليونانية، تأمل «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (113) في تعليمه وإخباره إياك وإنعامه عليك. قال تعالى «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» أي مما يسر به قوم طعيمة، والنجوى الإسرار في تدبير الأمر، ويكون غالبا في الشر «إِلَّا» نجوى «مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» والاستثناء منقطع وإلا بمعنى لكن، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» التصدق والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لغرض ولا رياء أو سمعة «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (114) جزاء عمله يتعجب من كثرته وحسنه. روى البخاري عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم. وروى البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس، فيقول خيرا وينهي خيرا. وفي رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح وحديث الرجل لزوجته وحديث المرأة لزوجها،. أي أن الكذب يجوز في هذه الأمور لأنه لمصلحة ماسة كما

مطلب غفران مادون الشرك وتوبة الشيخ على يد رسول الله:

ذكرنا في الآية 25 من سورة الأحزاب والآية 172 من آل عمران المارتين قال تعالى «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى» فيخالفه ويعاديه ويروغ عنه لئلا يجري عليه الحد، وذلك إن طعيمة إنما هرب خوفا من قطع يده فأماته الله شرّ ميتة كما مر آنفا «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» بإظهار الارتداد والشقاق وترك طريق المؤمنين ولم يسلم نفسه ويخضع للحد الشرعي ويطهر نفسه مما اقترفه «نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى» من طريق الضلال في هذه الدنيا «وَنُصْلِهِ» في الآخرة «جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115) بسبب ارتداده عن الإسلام وعدم انقياده لأحكامه. مطلب غفران مادون الشرك وتوبة الشيخ على يد رسول الله: يستدل من هذه الآية على أن إجماع المؤمنين حجة لا يجوز مخالفتها، لأن من لا يتبع سبيل المؤمنين فقد فارق الجماعة وصار هدفا لما هدد الله به في هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» ونظيرتها في الآية 48 المارة وكررت بمناسبة قصة طعيمة المذكور لسابق علم الله بأنه يموت كافرا، والمغفرة في هذه الآية ونظيرتها عامة لا يخرجها عن عمومها قيد المشيئة ولا يصرفه إلى التائب فقط، إذ يجوز أن يغفر لغير التائب أيضا لأنه لا يسأل عما يفعل كما بيناه هناك، فهي على حد قوله تعالى (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) الآية 19 من سورة الشورى ج 2 وقوله تعالى (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الآية 17 من المائدة (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الآية 40 من المائدة (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) الآية 19 من المائدة الآتية، وهي مكررة ست مرات في القرآن، والآية 40 من آل عمران وهي مكررة أيضا بزيادة لفظ الجلالة والكل مزروق برزقه ومخلوق بخلقه ومفعول بفعله. قال علي كرم الله وجهه ما في القرآن آية أحب إلي من هذه «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (116) إذا مات على شركه والضلال البعيد يقابله عذاب غليظ. قال ابن عباس: جاء شيخ من الأعراب فقال يا نبي الله إني منهمك بالذنوب غير أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله، وما توهمت طرفة عين

أني أعجز الله هربا، وإني لقادم تائب مستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله هذه الآية. ولا ينافي هذا ما نحن بصدده إذ لا مانع من تعدد الأسباب، لأن الآية الواحدة قد تنزل لأسباب كثيرة، وقد يذكرها حضرة الرسول لمناسبة حادثة تنطبق عليها، وهذا لا يعني أنها نزلت ثانيا كما قاله بعض المفسرين، راجع تفسير الفاتحة تعلم أنه لا يوجد في القرآن سورة أو آية نزلت مرتين، وكان صلّى الله عليه وسلم- كما جرت على ذلك أصحابه وأتباعه حتى الآن- عند وقوع قضايا كهذه يتلو الآية المناسبة بالمقام المطابقة له، فيظنها من يسمعها منه أو يحضر الحادثة أنها نزلت في تلك وليس كذلك، ولهذا ترى المفسرين يعددون أسبابا كثيرة للنزول ولا يقطعون بواحد منها، والأجدر أن يكون سبب النزول للحادثة والواقعة فقط، ثم تكون جوابا لغيرها مما يماثلها، وقد توخيت في هذا الباب أقصى ما بالوسع، كما بذلت غاية الجهد في باب الناسخ والمنسوخ، والله الموفق ومنه الهداية وعليه الاعتماد وإليه المرجع ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا الشيخ المار ذكره كان لسان حاله يقول نظر الله إليه: وما كانت ذنوبي عن عناد ... ولكن بالشقا حكم القضاء قال تعالى: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أي الإله العظيم أي ما يعبدون غيره، لأن كل من عبد شيئا فقد دعاه لحاجته. والمراد بهم أهل مكة الذين رجع إلى دينهم طعيمة المذكور «إِلَّا إِناثاً» كاللات والعزى ومناة «وَإِنْ يَدْعُونَ» أي وما يدعون «إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً» (117) خارجا عن الطاعة قد أغواهم على عبادة الأوثان. والمارد والمريد هو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة ويعبدون ويدعون بمعنى واحد، راجع الآية 50 من سورة مريم في ج 1 «لَعَنَهُ اللَّهُ» أي ذلك الملعون «وَقالَ» عدا تحريض الناس على الضلال «لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ» يا إله الكل «نَصِيباً مَفْرُوضاً» (118) معلوما وأقسم الخبيث أيضا فقال «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ» عن طريق الهدى الذي أمرتهم باتباعه وأرسلت لهم الرسل لإرشادهم إليه «وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ» الأماني الباطلة بطول العمر وكثرة المال والأولاد والآمال الفارغة والتسويف بالتوبة «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ» يقطعن

[سورة النساء (4) : الآيات 121 إلى 130]

«آذانَ الْأَنْعامِ» ففعلوها ولا زال الناس يقطعون الآذان ويبترون الأذناب ويسوفون ويؤملون ويتمنون ما لا يكون اتباعا لإغواء الملعون الذي برّ بقسمه راجع الآية 20 من سورة سبأ ج 2، ولم تكرر هذه اللفظة في القرآن كله «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» من حيث الصورة الظاهرة كالخصاء والوشم، أو الصفة كنتف الشعر ويسمى التنميص، والوشم وهو تحديد الأسنان وتدقيقها، ووصل الشعر وصبغه وكيه، والتخنث كحلق الشارب واللحية تشبها بالنساء، ودهن الوجه بما يغير لون بشرته بالكلية، وكل هذه العادات القبيحة سارية بازدياد لكل ما فيه تبديل الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقال (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الآية 3 من سورة الروم ج 2، وهي مكررة في الأنعام وغيرها أي أن هؤلاء المتبعين لوساوس الشيطان مهما عملوا من التغير للخلقة الأصلية لا يقدرون على تغييرها حقيقة، وإنما عملهم ذلك عبارة عن تبدلات ظاهرية موقتة بالصورة والصفة والهيئة فقط، لا تزيد على شهر ثم ترجع على حالتها الأولى، ثم يحددون ذلك دواليك، وذلك لأنهم اتخذوا الشيطان قدوة لهم فيما يزين لهم ويموه عليهم «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا» فيصغي لوساوسه ويطيعه «مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» (119) في الدنيا والآخرة «يَعِدُهُمْ» الخبيث كذبا «وَيُمَنِّيهِمْ» بدسائسه ما لا ينالونه، وهذا كل أمانيه باطلة لأنها عبارة عن وعود خلابة لعقولهم «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» (120) في الدنيا، لأنه لا يقدر على إنجاز ما وعدهم فيها «أُولئِكَ» المتخذون الشيطان وليا لهم، يكون «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً» (121) مفرا ولا معدلا. ولما ذكر الله تعالى وعيد الكافرين ناسب أن يعقبه بوعد المؤمنين فقال «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا» (122) لا أحد البنة وهو الآمر بالصدق الذي أرسل رسوله بالصدق. وأنزل كتابه بالصدق وأمر عباده بالصدق فياويل الكاذبين. واعلم أن هؤلاء الذين وعدهم الله بالجنة وأولئك الذين أوعدهم بالنار «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ» أي ما تقدرونه بالكذب أيها المشركون

الظانون أن الأصنام تشفع لكم وأن الملائكة تقيكم من عذاب الله تعالى، «وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ» الزاعمين أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودات، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة لا يدخلها غيرهم كذبا، لأن أعمالهم سيئة لا تؤهلهم لدخولها، قبيحة تبعدهم عنها، وإن رسلنا موسى وعيسى سيتبرءون من أعمالهم لمخالفتهم تعاليمها ووصاياهم وما ركبوه من أعمال سيئة. وقال تعالى «مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ» بحسبه «وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (123) وهذه الآية عامة وإن كانت واردة بمعرض من ذكر فيدخل في عمومها كل من يقترف السوء ويموت مصرا عليه، وكذلك قوله تعالى «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» عام أيضا يشمل كل عامل خيرا إذا مات عليه فاختاروا أيها الناس أي الأمرين تريدون ولما سمع أهل الكتاب ظاهر الآية الأولى قالوا نحن وأنتم سواء، لأن غير المؤمن لا ينفعه عمله الصالح في الآخرة بل يكافيه عليه بالدنيا، فأنزل الله هذه الآية بإثبات لفظ المؤمن «فَأُولئِكَ» فاعلو الصلاح وهم مؤمنون «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» بما أسلفوه من العمل الصالح وبفضل الله «وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» (124) فلا ينقص ثوابهم بقدر النقرة التي بظهر النواة ولا أقل منها، وهذه الكلمة تجيء مجيء ضرب المثل بعدم النقص بتاتا قال تعالى «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» وهذا أحد الأمرين المبني. عليهما الإسلام وهما الاعتقاد المذكور في صدر الآية والعمل المشار إليه بقوله في عجزها «وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وذلك لأن شريعته داخلة في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» (125) صفيا، كما اتخذ محمدا حبيبا. روى مسلم عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا خير البرية، فقال صلى الله عليه وسلم ذلك ابراهيم خليل الله. وهذا تواضعا منه صلّى الله عليه وسلم وهضما لنفسه، وإلا فهو لا شك خير البرية على الإطلاق «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» (126) فكل شيء تحت قبضته. وإنما قال محيطا لأنه جل شأنه لما دعا عباده في الآيات المتقدمة إلى طاعته بين لهم في هذه سعة ملكه ترغيبا لخلقه.

مطلب ارث النساء والقسم من الزوجات وجواز الفداء والعداء والظلم والعدل:

مطلب ارث النساء والقسم من الزوجات وجواز الفداء والعداء والظلم والعدل: قال تعالى «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ» هذا عود على بدء لأنه عليه السلام سئل عن أحكام كثيرة تتعلق بالنساء منها ما بين أول السورة ومنها ما بين هنا وفي سورة الممتحنة والبقرة المارتين، ومنها ما سيبين آخر هذه السورة وفي سورة المجادلة والطلاق والنور الآتيات، التي ما بعدها بيان. فيا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» أي يبين لكم حكمه فيهن. والإفتاء إظهار المشكل على السائل «وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ» الذي أنزله إليكم فيفتيكم به. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال كانوا لا يورثون إلا الرجل البالغ لأن الصغار والنساء لا يغزون ولا يفتحون، ولما نزلت آية المواريث عدد 7 المتقدمة شق عليهم حكمها ورجوا أن ينزل عليهم حكما آخر من السماء بما يريدون، فأنزل الله هذه الآية جوابا لهم. وإن ما تلي عليهم كله ثابت في كتاب الله ويفتيهم بأن يعملوا بمقتضاه، وآثر ذكر المضارع على الماضي فلم يقل ما تلاه للايذان بدوام التلاوة واستمرارها والعمل بها إلى الأبد أي ويفتيكم أيها الناس عدا ما أفتاكم به أولا «فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ» في كتاب الله من الإرث «وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» دون صداق «وَ» يفتيكم أيضا في «الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ» الصغار الذين لا تورثونهم أن تورثوهم كما مر «وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ» بأن تعطوا كلا حقه من صداق وارث حسبما بيناه لكم سابقا لأن هذه الأحكام المتلوة عليكم قد أفتيناكم بها على ما هو ثابت في علمنا الأزلي ومدون في اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير على كر الأيام والعصور. وفي هذا الخطاب حث قوي للأولياء والأوصياء وولاة الأمور على أن يستوفى للنساء القاصرين حقوقهم كاملة كما أمر الله، وأن ينصفوهم فيما فرض لهم الله بالعدل «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» في حقوقهم حسبما أمرتم به «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» (127) قبل أن تفعلوه وهو مجازيكم عليه خيرا. والآية مطلقة في كل أعمال الخير ويندرج فيها ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا. قال تعالى «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» عنها

وصار لا يكلمها ولا يؤانسها ولا ينظر إليها لكبر سنها أو لبشاعة خلقها أو دمامة خلقها أو بذاءة لسانها وكراهة لونها أو لقصور منها كذكر زوجها الأول أو لما طبعت عليه من السوء أو لطلاقة لسانها أو لكراهتها أقاربه أو لقصور منه بأن طمح لغيرها أو كلفها بأن تأتي له من مال أهلها أو ميراثها أو غير ذلك «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً» هما أو أولياؤهما أو الحاكم عفوا دون شيء ما ويتراجعا لحالتهما الأولى قبل النزاع، وإن لم يمكن فيتخالصا دون شيء، أو بأن ترد له شيئا من المهر إن كان القصور منها ولم تسمح نفسه بتركه لها ويطلقها أو تجعله في حل من القسم وتبقى عنده، وهو أولى من الفراق لأنه لا مذمة فيه ولا ندم، والفراق بيدهما متى ما أراده فعلاه إذا لم تنم المودة بينهما ولهذا قال تعالى «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» لأنه يكون عن طيب نفس كان سعد بن الربيع ويقال له واقع بن خديج تزوج عمرة بنت محمد بن مسلمة وتسمى خولة فلما كبرت تزوج عليها شابة آثرها عليها فشكت أمرها إلى الرسول فنزلت هذه الآية وكذلك كان رجل له امرأة كبيرة ولها أولاد قالت لزوجها لا تطلقني واقسم لي كل شهر إن شئت وأنفق على أولادي فقال هذا أحب إلي إن كان جائزا، فأتيا رسول الله وذكرا له ذلك، فتلا عليهما هذه الآية. وأمثالهما كثير ولا سيما في بداية الإسلام. روى البخاري ومسلم عن عائشة أن هذه الآية نزلت في ذلك. وإنما يجوز للزوج في هذه الصورة أخذ شيء من الزوجة عند خوف النشوز منه، أما إذا تحقق صدوره منه فقط، دون أي قصور منها، فلا يجوز له أخذ شيء منها أبدا، راجع الآيتين 34/ 35 المارتين. وعلى هذا العمل الآن وحتى قيام الساعة لا تبديل لحكم الله البتة. قال تعالى «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ» لازمته بحيث لا تنفك عنه ولا يغيب عنها فالمرأة لا تكاد تسمح نفسها بإعطاء شيء من المهر وترك حقها من القسم، والرجل لا تسمح نفسه أن يطلقها بلا شيء ولا يرغب بإعطائها حقها كاملا من القسم، والنفس مطبوعة على ما تحب، وكل يود ما تميل له نفسه. لذلك حث الله تعالى على مخالفة النفس ومتابعة الشرع، فقال جل قوله «وَإِنْ تُحْسِنُوا» أيها الأزواج فيما بينكم وتتلاءموا بالحسنى «وَتَتَّقُوا» ربكم أيها

الأزواج فترجعوا عن النشوز والإعراض فإنهن أمانة الله عندكم، وقد أمركم بحفظ الأمانة، ووصاكم رسوله بالنساء بعد وصية الله فيهن، راجع الآيتين 32/ 33 المارتين ولهذا فإياكم أن تجوروا عليهن بعد أن ضيعن شبابهن عندكم، وإلا فاتركوهن ولا تأخذوا منهن شيئا، وراقبوا الله وتفكروا في قوله، (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) الآية 20 المارة «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (128) لا يخفى عليه ما في نياتكم، كما هو عالم بأقوالكم وأفعالكم. واعلموا أنه مجازيكم على ذلك، فاتقوا الله وأنصفوا. ولما أشار تعالى في الآية الثالثة المارة إلى الاكتفاء بالواحدة عند عدم تيقن العدل قال هنا جل قوله «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ» في الحب والنظر وميل القلب «وَلَوْ حَرَصْتُمْ» كل الحرص، لأن ذلك ليس بوسعكم، وإذا كان الأمر كذلك «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» الى التي تحبونها وتجوروا كل الجور على الأخرى في القسم والنفقة والسكنى والنظر فهذا مما هو منهي عنه، لأنكم بعملكم هذا تتركونها «فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» لا هي ذات زوج يعاملها معاملة الأزواج ولا هي أيم تبتغي الزواج فتتزوج «وَإِنْ تُصْلِحُوا» أنفسكم فتعطوها نصيبها من القسم والنفقة والسكنى كضرتها «وَتَتَّقُوا» الله فيها فتمنعوا أنفسكم من الجور وتنفقوا فيما بينكم «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً» لما يقع منكم من الميل القلبي «رَحِيماً» (129) بكم لا يجازيكم على ما لا قدرة لكم عليه مما هو خارج عن وسعكم، تؤذن هذه الآية بلزوم الاقتصار على الواحدة إذا لم يأمن من نفسه العدل، وإذا ابتلي بالجمع ولم يتمكن بأي صورة كانت من بقائها معه، فليتبع قوله تعالى «وَإِنْ يَتَفَرَّقا» على إحسان اتباعا لقوله تعالى فهو خير، لأن الله تعالى قد «يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» وجوده وفضله فيعوض الزوجة زوجا خيرا لها من زوجها ويعوض الزوج زوجة خيرا له من مطلقته أو يقضي بينه وبين زوجته ما هو خير من بقاء ضرتها معها «وَكانَ اللَّهُ واسِعاً» خيره عميا برّه عليهما «حَكِيماً» (130) فيما يقيضه بين عباده هذا. وقد وعد الله تعالى الغنى على الفراق في هذه الآية، كما وعد الغني على الزواج في الآية 32 من سورة النور الآتية. وهذا من لطفه

[سورة النساء (4) : الآيات 131 إلى 140]

تعالى وجبره لخواطر عباده وله الحمد. أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل فيقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب لأنه تحت قبضة الله تعالى لا طاقة للعبد في تقلبه. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط. وعن أبي داود من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل وليعلم أن القسم شرط في البينونة والنفقة والكسوة والسكنى، لا في الجماع ولا في محبة القلب والميل الودي وله إذا تزوج جديدة بكرا على قديمة أن يخصها بسبعة أيام، وإن ثيبا بثلاثة مع لياليها، وله إذا سافر سفرا طويلا أو قصيرا أن يأخذ إحداهن معه بالقرعة ولا يقضي للأخرى هذه المدة، وفي غيرها يجب عليه القضاء، وإذا انتقل نقلة دائمة وجب عليه استصحاب نسائه كافة. قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها كان صلّى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه- أخرجه البخاري بزيادة- وليعلم أن الله تعالى استثنى رسوله من القسم بين النساء كما مر في الآية 51 من سورة الأحزاب مع بيان السبب في ذلك فراجعها «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» لما ذكر الله تعالى إغناء كل من الزوجين عند الفراق أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه، لأن من ملك هذه الهياكل العظيمة هو جدير بالجود على من يسأله من فضله مما فيهما. قال تعالى «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أيها الناس من لدن آدم عليه السلام إلى زمنكم «وَإِيَّاكُمْ» نوصّي يا أهل القرآن «أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» بالنساء وغيرهن، لأن الأمر بالتقوى شريعة قديمة باقية إلى الأبد، وكررت الوصية فيها لمنى غير الأول أي اقبلوا وصية «وَإِنْ تَكْفُرُوا» بما جاءكم عن ربكم فهو غني عنكم ولا يعبا بكم ولا ينظر إليكم، وإن تؤمنوا وتعلموا بأنه هو الغني فاطلبوا منه ما تشاءون فهو يعطيكم وإن تجحدوا هذه الوصية «فَإِنَّ لِلَّهِ» الذي هو غني عن خلقه «ما فِي السَّماواتِ» من ملائكة وكواكب «وَما فِي الْأَرْضِ» من مخلوقات يتقون الله ويطيعونه أكثر منكم «وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا» عن جميع خلقه علويه وسفليه، غير محتاج لطاعتهم

لأنهم تحت قهره «حَمِيداً» (131) لنفسه وإن لم يحمده أحد «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (132) على خلقه شهيدا على أعمالهم، وكررت أيضا لاختصاصها بمعنى آخر أي فتوكلوا عليه لا على غيره. وفي هاتين الآيتين من التهديد والوعيد ما لا يخفى، وقد أكدهما بقوله «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ» كلكم إذا لم ترجعوا عن غيكم «وَيَأْتِ بِآخَرِينَ» أطوع منكم إليه بان ينشأهم كما أنشأكم من لا شيء «وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ» إذهابكم وخلق غيركم «قَدِيراً» (133) لا يعجزه شيء من ذلك، وفي هذه الآية تهديد عظيم، ألا فلينتبه وليحذر من لم يتق الله ويخش بطشه وانتقامه، فإنه بالغ القدرة يفعل ما يشاء. قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا» جزاء عمله فيها منكم أيها الناس ويصرف نظره عن نعيم الآخرة الباقي إلى نعمها الفانية، «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» فاطلبوها معا لا تتقصروا على ثواب الدنيا فقط وهو قادر على إعطائكم ثوابهما معا» إذا طلبتموهما «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً» لأقوالكم «بَصِيراً» (134) بنياتكم لا يخفى عليه شيء من أموركم. كان المنافقون إذا ذهبوا للجهاد يقصدون الغنيمة فقط لأنهم لا يصدقون بالآخرة كالمشركين الذين لا يعترفون بالبعث، فأنزل الله فيهم هذه الآية. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» مجتهدين في إقامة العدل بين الناس على اختلاف طبقاتهم «شُهَداءَ لِلَّهِ» مخلصين لوجهه ابتغاء مرضاته «وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» تلك الشهادة فكما يجب عليكم أداؤها بالحق للغير يجب أداؤها على أنفسكم بأن تقروا بالحق فيما لكم وعليكم «أَوِ» كانت الشهادة على «الْوالِدَيْنِ» لكم «وَالْأَقْرَبِينَ» منكم. واحذروا أن تحابوهم بسبب القرابة، فالله أحق أن تهابوه بأدائها، وإياكم أن تفرقوا بين المشهود عليه «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» قويا أو ضعيفا فما عليكم إلا أن تشهدوا بالواقع بقطع النظر عن حالهما وشأنهما، خطيرا كان أو حقيرا، عدوا أو صديقا «فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما» منكم واحذروا أن تكتموا شيئا وتقولوا زورا اتباعا لهواكم أو رضاء للشهود له أو عدم مبالاة بالمشهود عليه، راجع الآية 107 المارة، ولهذا يقول الله تعالى لكم «فَلا

تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا» عن الحق في أداء الشهادة «وَإِنْ تَلْوُوا» بألسنتكم فتحرفوها إلى غير الحق فلا تؤدوها على وجهها اتباعا لهوى أنفسكم «أَوْ تُعْرِضُوا» عن إقامة الشهادة فتكتموها خوفا من أعدائكم أو مراعاة لأصدقائكم أو تهتموا للغني ولا تبالوا بالفقير «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (135) فيعاقبكم على ذلك. قالوا كان اختصم إلى حضرة الرسول فقير وغني، فأصغى إلى الفقير لأنه عادة لا يظلم الغني، فأنزل الله هذه الآية بعلمه فيها أن لا فرق بين الغني والفقير والكبير والصغير بإقامة العدل، وإن الظلم قد يصدر من الفقير والضعيف كما يكون من الغني والقوي، وقد يكون الفقير هو المعتدي ويتذرع بفقره لدى الناس ويتظلم لدى الحكام ليستعين بهم على ظلمه. قال المتنبي: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عقة فلعلة لا يظلم وما قاله الآخر: ظلم القوي للضعيف جاري ... في الأرض والهواء والبحار فهو على طريق التغليب على أن فقر الأخلاق أشد من فقر المال وأتعس. قال: وما فقر الدراهم حال ذل ... ولكن فقر أخلاق الرجال فلا تحزن على يسر تقضى ... وقم واندب على كرم الخلال فإن العسر يتلوه يسار ... وليس لخسة الأخلاق تال قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هذا خطاب عام لكافة المؤمنين من المشركين وأهل الكتاب والذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم «آمَنُوا» إيمانا عاما شاملا وأديموا إيمانكم «بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» لأن من لم يؤمن بالرسول لا يقبل إيمانه بالله، وبالعكس أيضا، واستمروا على الإيمان، وأخلصوا فيه قلبا ولسانا «وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ» آمنوا به أيضا «وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ» كتابكم آمنوا به وآل فيه للجنس أي كل كتاب من الكتب المنزلة قبلا من الله تعالى على الرسل السالفة من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، لأن من لا يؤمن بأحدها لا يقبل إيمانه بالآخر، ومن كفر بأحدها فقد كفر بها كلها، فاثبتوا على هذا الإيمان الكامل الشامل «وَمَنْ يَكْفُرْ

مطلب في التهكم والكتاب والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة:

بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» أو بأحد منهم ومنها «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» من يكفر به ويجحده «فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (136) واستحق عذابا شديدا كما أسلم عبد الله بن سلام كما مر في الآية 47 جاء أسد وأسيد ابنا كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ومسلمة بن أخيه ويامين بن يامين وقالوا يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما عدا ذلك من الكتب والرسل، فقال صلّى الله عليه وسلم بل آمنوا بالله ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب قبله وكل رسول أرسل، فأنزل الله هذه الآية. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بموسى «ثُمَّ كَفَرُوا» بعده «ثُمَّ آمَنُوا» بعزير وداود «ثُمَّ كَفَرُوا» بيحيى وعيسى «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بمحمد صلوات الله عليهم وسلامه وماتوا على كفرهم «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» (137) ينجون به من العذاب، راجع نظيرة هذه الآية الآتية 90 من آل عمران المارة وقد نزلت هذه الآية تبكيتا لليهود الموجودين زمن الرسول باعتبار عد ما صدر من أسلافهم كأنه صادر عنهم، وفي المنافقين الذين يؤمنون ويرتدّون عن الإيمان المرة بعد الأخرى. مطلب في التهكم والكتاب والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة: قال تعالى «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ» يا سيد الرسل «بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (138) وهذا على طريق التهكم بهم مأخوذ من البشارة وهي كلمة تتغير عند سماعها بشرة الوجه سارة كانت أو ضارة، إلا أن استعمالها الشائع بالخير فقط، ولا يوجد في القرآن آية مبدوءة بمثل هذه الكلمة غير هذه. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» ويركنون إليهم، فسلهم يا سيد الرسل «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ» بذلك الاتخاذ كلا لا عزة لهم به بل ذلة لهم ومهانة، وإذا كانوا يريدون العزة الحقيقية «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» (139) وهو يعطيها أولياءه ويخص أصفياءه بها فيتخذون الله وليا وهو يعزهم «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ» في هذا القرآن في الآية 68 فما بعدها من سورة الأنعام ج 2،

[سورة النساء (4) : الآيات 141 إلى 150]

ولهذا صحت الإشارة إليها لانها متقدمة في النزول على هذه كما ألمعنا إليه هناك، وإلا لما صحت الإشارة إليها، تدبر. وهذا من جملة الأسباب الداعية لترتيب هذا التفسير على حسب النزول، وقد يطلق على كل سورة من القرآن لفظ كتاب كما تقدم أول سورة هود في ج 2، وكرر لفظ الكتاب كثيرا في القرآن العظيم وخاصة أوائل السور المبدوءة بالحروف المقطعة وهو لفظ محبوب لكل كتاب، وفيه قال: نعم الأنيس إذا خلوت كتاب ... تلهو به إن فاتك الأحباب لا مفشيا سرا إذا استودعته ... وتنال فيه حكمة وصواب فالسعيد الذي يتخذه رفيقا ليله ونهاره حضره وسفره ويغتني عن أصحاب السوء ومجالس اللهو المؤديين لسوء العاقبة وقبح السمعة، إذ قل أن تجد صديقا صادقا ومجلسا سارا. ثم بين هذا المنزل المشار إليه في قوله عزّ قوله «أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» إذا قعدتم معهم حينما يخوضون بآيات الله، لأنكم تعدون راضين بهم وبما يخوضون فيه، وإلا لما جلستم معهم إذ الراضي بالشيء كفاعله فتصيروا منافقين اخوان الكافرين ويكون لكم ما لهم عند الله «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (140) لاجتماعهم على الكفر أنزل الله هذه الآية في النهي عن مجالسة المنافقين في المدينة، كما أنزل آيات الأنعام المذكورة في النهي عن مجالسة الكافرين في مكة، والغاية واحدة، ولذلك جاءت مؤكدة لها ومعطوفة عليها في المعنى. وتدل هذه الآية على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر كان كمن فعله فينبغي للعاقل أن يبتعد عن أهل الأهواء والغواة، لأن مخالطتهم لا تخلو عن الإثم. وقد بينا ما يتعلق في هذا البحث هناك فراجعه. ثم وصف الله المنافقين بوصف آخر فقال «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ» الحوادث والدوائر لشدة حقدهم عليكم وحسدهم لكم «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ» نصر وظفر وغنيمة «مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» في الغزو فأعطونا نصيبنا، إذ لا هم لهم إلا الدنيا، فهم مهمو كون بها أبدا «وَإِنْ كانَ

لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ» من الظفر «قالُوا» لأوليائهم الكافرين «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ» أي نستول عليكم ونغلبكم ونتمكن من قتلكم وأمركم ولم نفعل «وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فلم نتركهم يصلون إليكم ولو أردنا لأعناهم عليكم فغلبوكم ولهذا أعطونا مما أصبتم منهم لقاء عملنا هذا «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» أيها المؤمنون الصابرون على مخالطتهم المتحملون أذاهم من أجلنا ويا أيها المنافقون المذبذبون المظهرون غير ما تبطنون لا بد أن الله يحكم بينكم وبين المؤمنين، كما يحكم بينكم وبين الكافرين «يَوْمَ الْقِيامَةِ» . واعلم أن الله تعالى لم يجهلهم ويؤخر عذابهم إكراما لهم بل لزيادة عذابهم، وإلا فهو قادر على تعجيل عذابهم في الدنيا «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (141) في الدنيا لأن حجنهم غالبة وكذلك في الآخرة، لأن الله هو الحكم بينهم. أما تسليطهم الآن على بعض المؤمنين من حيث الغلبة الفعلية فهو لعدم تمسك المؤمنين بكتابهم وتعاليم نبيهم، فلم يكونوا مؤمنين حقا كما أراد الله منهم، ولو كانوا لما سلطهم عليهم، ومن أصدق من الله قيلا. فإصابة المؤمنين وخذلانهم من أنفسهم ومن انصرافهم عن دينهم، وإلا لكانت الغلبة الفعلية لهم بنصّ الله، ومن أصدق من الله حديثا، راجع الآيات 171 فما بعدها من سورة الصافات ج 2 وما ترشدك إليه. قال تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ» بإظهار الإيمان وإبطان الكفر مخاتلة ومغاششة وإغرارا «وَهُوَ خادِعُهُمْ» فاعل بهم ما يفعل المخادع بالمخادع فيمتعهم بالدنيا وليكثر عليهم من نعيمها الزائل ومن مالها الذي عاقبته العذاب أو من الأولاد الذين عاقبتهم الوبال إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم، وبعد لهم الدرك الأسفل من النار يوم القيامة «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى» دون رغبة لأنهم لا يرجون بفعلها ثوابا ولا على تركها يخشون عقابا «يُراؤُنَ النَّاسَ» بفعلها «وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» (142) عند رؤيتهم المؤمنين فقط «مُذَبْذَبِينَ» متحيرين مترددين. ولم تكرر هذه الكلمة بالقرآن أبدا «بَيْنَ ذلِكَ» الإيمان والكفر «لا إِلى هؤُلاءِ» المؤمنين ينتمون انتماء صحيحا «وَلا إِلى هؤُلاءِ» الكفار يندرجون اندراجا كليا، وهذا شأن الضّال

«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» (143) إلى الهدى روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة (المتحيرة المترددة) بين الغنمين تعير (تذهب) يمينا وشمالا لا تدري لأيها تتبع إلى هذه مرة وإلى هذه مرة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ» باتخاذكم هذا «أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً» (144) في تعذيبكم، فتكون عليكم الحجة، فستوجبوا النار، لأن مخالطة المنافقين أشد ضررا من مخالطة الكافرين، راجع الآية 113 من آل عمران المارة ولهذا قال تعالى «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» أي في قعرها الأسفل الأعمق «وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» (145) من ذلك العذاب الأليم «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» عملهم «وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ» وحده «وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ» نقوه من السمعة والرّياء طلبا لوجه الله خاصة وابتغاء لمرضاته «فَأُولئِكَ» يكونون في الدنيا والآخرة «مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» (146) لا أعظم منه في جنة عظيمة «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» (147) يشكر الشاكر وإيمان المخلص. وهذا استفهام تقريري أي أي شيء يفعل الله بتعذيبكم؟. أيتشفى به من غيظ أم يدرك به ثارا، أم يستجلب به نفعا أم يتوقع به خيرا كما هو شأن الخلق؟ كلا ثم كلا، لأنه الغني المطلق المتعال عن أمثال ذلك. وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم، فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشرية الإيمان والشكر وطهرتم أجسامكم بصبغة الإسلام والصبر، سلمتم ونجيتم، وإلا فلا محيص لكم عن الهلاك. قال تعالى «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» القبيح ولا الإسرار به «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» فله أن يجهر بمثل السوء الذي وقع عليه لقوله تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 47 من سورة الشورى المارة في ج 2 «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً» لشكوى المظلوم «عَلِيماً» (148) بظلم الظالم فيا أيها الناس «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً» مكان الجهر بالسوء «أَوْ تُخْفُوهُ» فلم تجهروا به «أَوْ تَعْفُوا

عَنْ سُوءٍ» المسيء لكم «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» لإساءة عباده ولم يزل كذلك «قَدِيراً» (149) على الانتقام ممن لا يتحلى بالصفات الممدوحة منكم حالا، ولكنه يمهلكم فلا يعجل عقوبتكم لعلكم ترجعون وتتوبون، بخلاف خلقه فإنهم سريعو الانتقام إذا قدروا عليه، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم تخلّقوا بأخلاق الله فاعفوا ممن أساء إليكم وتشبهوا بأخلاق بارئكم، واعلموا أن الله تعالت قدرته مطلع على أعمالكم ونياتكم، ولم يهمل شيئا ولم يعزب عن علمه شيء فراقبوه واخشوا سطوته. واعلموا أن عدم المحبة هنا كناية عن عدم سخطه، ولذلك صح الاستثناء المتصل أي فإنه غير مسخوط عنده تعالى، لا إنه يحب جهر المظلوم بالسوء على ظالمه، لأنه تعالى دائما يحب العفو ويرغب فيه، إلا أنه أجاز شكوى المظلوم وإظهار أمر الظالم ليتباعد الناس عنه ويعرفوه. قال مقاتل قال رجل من أبي بكر بحضرة الرسول فسكت عنه مرارا ثم رد عليه، فقام صلّى الله عليه وسلم فقال أبو بكر يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت! قال كان ملك يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان، فنزلت هذه الآية. وقيل نزلت فيمن لا يحسن ضيافة الضيف فيخرج فيقول أساء ضيافتي. قال العلماء لا يجوز إظهار أحوال الناس المستورة لأن ذلك بسبب الوقوع للناس بالغيبة وللشخص بالريبة لكن المظلوم يجوز له إظهار مظلمته فيقول سرق أو غصب أو نحو ذلك، وإن شتم جاز له الرد بلا زيادة لقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من البقرة المارة وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم المستعبّان ما قالا فعلى الأول. وفي رواية فعلى البادي منهما حتى يتعدى المظلوم. وقد أسهبنا البحث في هذا الشأن في الآية 43 من سورة الشورى في ج 2 والآيتين 191/ 193 من سورة البقرة المارة فراجعها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ» فيقولون إن الإيمان بالله غير الإيمان بالرسل، والحال أنه لا يصح الإيمان بأحدهما دون الآخر «وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ» الكتب والرسل كاليهود والنصارى «وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» الكتب والرسل، مع أن الكافر بواحد منهما كافر بالجميع، ولا ينفع التصديق بواحد دون الآخر كما نوهنا به في

[سورة النساء (4) : الآيات 151 إلى 160]

الآية 137 المارة «وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» (150) مذهبا يدينون به بين الكفر والإيمان والحال لا واسطة بينهما تتخذ طريقا بدأت به البتة كما أنه لا درجة ولا مرتبة بين الجنة والنار كما نوهنا به في الآية 45 فما بعدها من سورة الأعراف في ج 1 «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا» المستحقون العذاب الأليم، ولذلك فإنا هيأنا «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (151) نزلت هذه في اليهود لأنهم كفروا بعيسى ومحمد والإنجيل والقرآن وآمنوا بموسى والتوراة، وفي النصارى لأنهم آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» في الإيمان والتصديق، وكذلك بكتبه فآمنوا بها كلها «أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ» كاملة يوم القيامة «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً» لما سبق منهم من الخطايا «رَحِيماً» (152) بهم يعفو عنهم. ثم طفق جل شأنه يعدد من مساوئ اليهود وجرأتهم على الله فقال جل قوله «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ» وذلك أن كعب بن الأشرف وفنخاص بن عازوراء قالا يا محمد إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة واحدة كما جاءنا موسى بالتوراة. وهذا سؤال تعنت، لأن الله لا ينزل الآيات على اقتراح المقترحين، ثم شرع يبين ما وقع منهم قبل من القبائح فقال يا سيد الرسل لا ترد عليهم «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» عيانا بعد أن أنزلنا عليهم الكتاب جملة واحدة وأسمعناهم كلامنا كما مر في الآية 54 من البقرة وتجاه جرأتهم هذه أمتناهم «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» أنفسهم وتحكمهم على نبيهم ثم أحييناهم إكراما لنبيهم ولم يتعظوا ولم ينتهوا ومالوا عن دينه الحق «ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» إلها وعبدوه من دوننا «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» على صدق رسولهم «فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ» ولم نعاقبهم عليه تفضلا منا بعد توبتهم، وكانوا استحقوا بذلك عذاب الاستئصال «وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً» (153) على من خالفه وأجبنا دعوته راجع الآية 153 من الأعراف في ج 1. قال تعالى «وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ» لئلا ينقضوه

«وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» مطأطئين رؤوسكم عند دخول باب إيليا، فدخلوه زحفا على أستاههم «وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ» أي لا تتعدوا وتتجاوزوا حدود الله فيه، فحفروا حياضا أدخلوا فيها السمك وسدوها عليها وتركوها فيها ليوم الأحد، فأخذوها راجع الآية 163 من الأعراف في ج 1 أيضا لتقف على حيلتهم هذه على الله وتعديهم حدوده «وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» (154) مؤكدا في ذلك فنقضوه، ونكثوا عهد الله في ذلك كما فعلوا من قبل، وبعد، ولذلك عوقبوا بما قصه الله تعالى بقوله «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» الذي أوقعنا عليهم العذاب لسببه «وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ» محجوبة عما تدعونا إليه فرد الله عليهم بأنها ليست غلفا «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» أي الطبع الذي هددوا به هو السبب لعدم فهمهم مراد الله وانقيادهم لأمر رسوله «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155) ببعض التوراة وبعض أوامر نبيهم، ولو أنهم آمنوا بكل ذلك لآمنوا بعيسى والإنجيل ولآمنوا بمحمد والقرآن، لأن هذا مما هم مأمورون به في كتابهم وتعاليم نبيهم، ولكنهم لم يعملوا بهما فأعمى الله قلوبهم عن سلوك الصواب. ترشدنا هذه الآيات للوفاء بالعهد والأخذ بما جاء من عند الله وما أمر به الرسل وعلى حرمة التضليل واتخاذ الحيل لتحليل ما حرم الله وعلى الأخذ بالقرآن وأقوال الرسل وزجر النفس عن اتباع الهوى والإقلاع عن المعاصي والتوبة إلى الله وعدم الرجوع إلى ما نهى عنه. وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً» (156) وهذا من جملة ما طبع على قلوبهم أيضا لأنهم أنكروا قدرة الله بخلقه من غير أب ورموا أمه الطاهرة بما لا يليق رماهم الله في طينة الخيال، وجحدوا المعجزات التي ظهرت عند ولادته وبعدها مما يدل على براءتها. وخلقه كخلق آدم «وَقَوْلِهِمْ» قاتلهم الله «إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ» بهت عظيم وكذب محض وزور مفترى.

مطلب عدم تيقن اليهود بان عيسى هو المصلوب، وآية الربا الرابعة، وعدد الأنبياء والرسل وفرق النصارى ونص الأقانيم الثلاث:

مطلب عدم تيقن اليهود بان عيسى هو المصلوب، وآية الربا الرابعة، وعدد الأنبياء والرسل وفرق النصارى ونص الأقانيم الثلاث: واعلم أن كلمة رسول الله هي من كلام الله تعالى لا من كلامهم لأنهم لا يعتقدون رسالة وقد صدقهم النصارى على فعل القتل فأكذبهم الله بقوله «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» بالمنافق يهودا الأسخريوطي الذي دلهم عليه لقاء ثلاثين درهما، وكان عليه السلام أخبر أصحابه بذلك بحضوره كما مر في الآية 154 من آل عمران المارة وما كان الله ليسلط هؤلاء الأنذال على صفيه عيسى «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» وهم اليهود الذين قبضوا على شبيهه وصلبوه «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» بأنه عيسى لأنه كان عند القبض عليه يصيح ويقول أنا لست المعلم يعني عيسى لأنهم كانوا يسمونه معلما، وعند الصلب كان يتضجر ويتويل ويقول أنا الذي دللتكم عليه، وكانوا يعهدون في عيسى الحزم والعزم وعدم التذلل، ولأنه حينما وضعوه على المصلبة صار يصيح (إلي إلي لم شبقنى) أي إلهي إلهي لم شنقتني؟ كما هو ثابت بالأناجيل الأربعة التي بيد النصارى الآن راجع الاصحاح 47 من إنجيل متى و 15 من إنجيل مرقس، وجاء في بعضها بلفظ الى الى، وبعضها بلفظ إلهي إلهي، بما أوقع الشك في قلوبهم إنه ليس بعيسى لأنهم تحققوا فيه العزم والعزة والصّبر والشهامة، ولا يزال بصيح وهم يلكمونه ويبصقون عليه حتى قضى نحبه جزاء خيانته لعنه الله، وإنما شكوا فيه لأنهم يقولون لو كان عيسى لما تصور منه وقوع هذا الضجر كيف وهو من أولي العزم الذين يسلمون لأمر الله تسليما مطلقا ومما يؤيد عدم صدور ذلك منه قول النصارى بأنه أسلم نفسه ليكفر خطايا أمته ومن يسلم نفسه لذلك القصد باختياره لا يقع منه مثل هذا الكلام «ما لَهُمْ بِهِ» هؤلاء المختلفون بعيسى «مِنْ عِلْمٍ» حقيقي إن هو «إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ» لأن الصورة صورته عنا لا خلاف فيها والكلام غير كلامه، لأنه كثيرا ما جادلوه وهددوه فلم يروا منه إلا صلابة في المدافعة، ولم يأنسوا منه هذا الانخذال والانكسار والتذلل، ولهذا فانهم حينما قتلوه ما كانوا معتقدين أنه هو، ولهذا قال تعالى «وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً» (157) لما رابهم من تخضعه بالكلام وتمسكنه لهم

[سورة النساء (4) : الآيات 161 إلى 170]

فصلبوه حالة كونهم غير موقنين بأنه عيسى للأسباب المارة، ولأن الحواريين فقدوا صاحبهم ولم يجدوه معهم، ولذلك ترى بعض الأناجيل تسكت عن ذكر يهوذا، وبعضها تقول انه عرف خطيئته فصلب نفسه، والصحيح ما جاء في إنجيل برنابا لأنه موافق لما في القرآن مع القطع بأنه لم يصلب بل رفع إلى السماء وصلب يهوذا الذي ألقي عليه شبهه. ولما صلب المنافق يهوذا التي أشارت الأناجيل الأربعة وإنجيل برنابا إلى نفاقه وخيانته ودلالة اليهود عليه، قال تعالى ما فعلوا شيئا بعيسى «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» فلم تقبضه اليهود ولم تصلبه «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً» غالبا قويا قادرا على تخليص عيسى ورفعه إليه رفعا حقيقيا لا رفع مكانة كما يقول الأحمديون، بل رفع مكان، وهذا الرفع قد يكون بكلمة كن، وبواسطة ملك أو بوضع معراج، تدبر وصدق وآمن، والله قادر على ذلك وعلى إسلام عدوه لأعدائه كي يصلبوه فداء له «حَكِيماً» (158) بما صنع في ذلك وقد أوضحنا هذا البحث في الآية 43 من سورة آل عمران المارة. قال تعالى «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» الموجودين عند نزوله من السماء المنوه به في الآية 60 من سورة الزخرف في ج 2 فراجعها «إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ» إذ تكون إذ ذاك الأديان كلها دينا واحدا، أي من أهل الكتاب فقط، لأن أهل الأرض لا يتفقون على دين واحد لقوله تعالى (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) الآية 118 من سورة هود في ج 2 «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ» السيد عيسى عليه السلام «عَلَيْهِمْ» أي أهل الكتابين «شَهِيداً» (159) بما وقع منهم عليه وبما نسبوه إليه من كونه إلها أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة أو هو جوهر واحد إلخ كما سيأتي. قال تعالى «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» وهي المذكورة في الآية 145 من سورة الأنعام في ج 2 «وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» (160) من الناس إذ منعوهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبكتابه العظيم «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ» من قبل نبيهم وهذه الآية الرابعة بشأن الربا لا حكم فيها، إلا أنها تفيد الإخبار بقبح أعمال اليهود التي من جملتها تعاطي الربا، وقد أوضحنا ما يتعلق فيه في الآية 175 من آل عمران فراجعها. ت (40)

«وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» ظلما بغير حق، وبهذه الأسباب الأربعة شددنا عقوبتهم لكفرهم بتعاليم رسولهم وكتابهم «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (161) وإنما قال تعالى منهم لعلمه أن منهم من يؤمن بعد. قال تعالى «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ» المتوغلون في حقائقة، كعبد الله بن سلام وأصحابه «وَالْمُؤْمِنُونَ» بالله ورسله «يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» يصدقون به ويؤمنون إيمانا كاملا به «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» قرىء بالنصب على الاختصاص أو المدح وبالرفع عطف على المؤمنين «وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» بالرفع عطفا على المؤمنين أيضا «وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات «سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» في الآخرة لا تقدر قدره عقولهم، لأنه فوق ما يتصورون مكافأة لإيمانهم هذا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال تعالى «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام، ونظير هذه الآية الآية 112 من سورة الشورى في ج 2، ولم يذكر الله تعالى موسى عليه السلام، لأنه أعطي التوراة جملة واحدة والذين ذكرهم من الأنبياء لم تنزل عليهم كتبهم دفعة واحدة كمحمد صلّى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، ولذلك ذكرهم في معرض سؤالهم السابق «وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» (163) «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» نزول هذه السورة «وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» بعد وهم كثيرون. سأل أبو ذر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الأنبياء، فقال مئة الف وأربعة وعشرون الفا، قال كم الرسل منهم؟ قال ثلاثمائة وثلاثة عشر أولهم آدم وآخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، منهم العرب الأقدمون أربعة هود وصالح وشعيب وإسماعيل، إذ تعلم العربية من جرهم، وقد أرسل إليهم وخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلم، وقد بينا ما يتعلق بهذا في الآية 84 من سورة الأنعام ج 2 «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (164) وجعلناهم كلهم أنبياء لأنفسهم وجعلنا منهم «رُسُلًا

مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» فلا يقولون ما جاءنا من رسول يا ربنا يرشدنا. ولولا أرسلت إلينا رسولا يأمرنا وينهانا لأطعناه، وقد تكرر قولهم هذا في القرآن عند كل مناسبة، فكان إرسالهم قطعا لمعذرتهم هذه «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (165) بإرسال الرسل وإنزال الكتب لقطع حجج الخلق. ولما قال مسكين بن عدي بن زيد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فكيف تدعي يا محمد إنزال القرآن عليك من قبل الله أنزل الله هذه الآية وأعقبها بقوله «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل من القرآن، لأنه «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ» لك على ذلك «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (166) عن خلقه أجمعين. ونظير هذه الآية الآية 92 من سورة الأنعام المارة في ج 2 من حيث المعنى ونظير الآية قبلها الآية 65 من سورة المؤمن ونظير الآية قبلها الآية 2، من سورة الأنعام من حيث تعداد الرسل في ج 2 أيضا قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» بإلقاء الشبهات للناس حتى منعوهم عن الإيمان «قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً» (167) عن طريق الهدى إلى غياهب الجهل وزادوا على ضلالهم إضلال غيرهم، ونظير هذه الآية الآية 87. من سورة النحل في ج 2 «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا» غيرهم بسوقهم إلى الكفر «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ» ولا يهيء لهم بابا إلى المغفرة، لأنّهم عضدوا الكفر بالظلم، ولهذا قال تعالى «وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً» (168) إلى النجاة «إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ» المؤدي بهم إلى عذابها «خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (169) سهلا لا صارف لهم عنه، وهذا تحقير لأمرهم، وبيان بأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي، ثم خاطب تعالى العقلاء كافة بصورة عامة تشمل المؤمنين وأهل الكتابين والمنافقين والكافرين أجمع بقوله جل قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ» محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه المعهود الموجه إليه هذا الخطاب والمقصود به هو دون غيره مجيبا متلبسا «بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا» به وانقادوا لأمره وصدقوه بما جاءكم يكون «خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا» به وتجحدوه وتنكروا ما جاءكم به من

[سورة النساء (4) : الآيات 171 إلى 176]

البينات «فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا وفيهما من غيركم من يؤمن به ويصدق ما جاء به وهو غني عنكم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بمن يهديه ويؤمن به ويصدق رسوله «حَكِيماً» (170) بمن يضله ويعميه عن رؤية الحق وسلوك سبيله ولما قالت طائفتا اليعقوبية والملكاتية من النصارى أن عيسى هو الله وقالت النسطورية هو ابن الله، وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة، وقالت فرقة أخرى هو جوهر واحد عبارة عن ثلاثة أقانيم الآب والابن وروح القدس. واعلم أن الأقنوم كلمة رومية معناها هو أن الإله في زعمهم مركب من ثلاثة أصول، ويريدون باقنوم الأب الذات، وأقنوم الابن عيسى، وأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه وإن له عليه السلام طبعتين ناسوتية من قبيل أمه نسبة للناس ولا هويته من قبل أبيه نسبة للإله، تعالى الله عن ذلك، والذي دسّ هذا في دين النصارى رجل يهودي اسمه بولص تنصّر وألف الإنجيل ونسبه كله إلى سيدنا عيسى بقصد إضلال النصارى عن دينهم الحق قبل البعثة المحمدية. ولهذا البحث صلة ضافية في الآية 72 من سورة المائدة والآية 31 من سورة التوبة الآتيتين فراجعهما تجد فيهما ما ينشرح صدرك إن شاء الله، فأنزل الله ردا لهذه الأقوال الواهية قوله «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» وتتجاوزوا حده فتدخلوا فيه ما ليس منه، وبالعكس فتحطوه عن منزلته وتنقصوا قدره بنسبة ما ليس منه إليه افتراء على الله وبهتا على رسوله، واحذروا أن تتبعوا أهواء أنفسكم فيه «وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» الذي أنزله إليكم وهو «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ» ليس بإله ولا بابن للاله ولا ثالث ثلاثة ولا أقنوما «وَكَلِمَتُهُ» التي هي لفظ كن بشرا من مريم بغير أب ولا واسطة، وهذه الكلمة هي التي «أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» بواسطة أمينه جبريل عليه السلام «وَرُوحٌ مِنْهُ» كسائر الأرواح المخلوقة بخلقه، وإنما أضافه لنفسه الكريم تكريما له وتشريفا لشأنه كما يقال بيت الله وناقة الله، لأن الله خلق جميع الأرواح وجعلها في صلب آدم وأمسك روح عيسى عنده ثم أرسلها عند إرادته خلقه وابرازه هاديا لعباده مع جبريل فنفخها في جيب درع مريم العذراء الطاهرة الزكية، فحملت به وولدته

كما تلد النساء بشرا سويا كريما شريفا زكيا، كما مر في الآية 16 فما بعدها من سورة مريم في ج 1 والآية 46 فما بعدها من آل عمران المارة، وروحه روح طاهرة مقدسة عالية، روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان له من العمل. ثم دعا خلقه لما به فلاحهم ونجاحهم فأمرهم بقوله «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» كلهم ولا تفرقوا بين أحد منهم «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ» كما يقوله بعض النصارى «انْتَهُوا» أيها النصارى كلكم نهيا قطعيا بتا عن هذه المقالة يكون «خَيْراً لَكُمْ» لأنها كلمة كفر وشرك منزه عنها جلال الله «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ» فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكافئه أحد، ليس بأقانيم ثلاثة ولا حلّت ذاته في أحد من خلقه، تعالت ذاته وتقدست وتنزهت عن ذلك «سُبْحانَهُ» وهو المبرأ من «أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» أو يكون والدا لأحد «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» يتصرف فيهما ومن فيهما كيف يشاء، ومن كان كذلك لا يعقل أن تكون له زوجة أو يكون له ولد أو معاون أو شريك، فهو المنفرد في ملكه وخلقه الوكيل عليهم وحده «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (171) في تدبير خلقه وملكه ويحتاج إليه كل خلقه ناميه وجامده، وهو غني عنهم. واعلموا أيها الناس أنهَ نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ» بل يتشرف بعبوديته كسائر إخوانه الأنبياء. نزلت هذه الآية حينما قالت النصارى يا محمد إنك تعيب صاحبنا فنقول عبد الله وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويمشي على الماء وله خوارق يعجز عنها البشر! يريدون أن من كان من خلق الله وقد شرفه بتلك المعجزات وخصه بتلك الكرامات عار عليه اسم العبودية. كلا أيها النصارى ليست بعار، وإنما هي شرف له، وهو نفسه لا يأنف منها ولا يتعظم على ربه لا هو ولا غيره، َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» مثل جبريل واسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش والكروبيين وغيرهم، فكلهم يتشرفون بصفة العبودية له جل جلاله. هذا ولا دليل في هذه الآية لمن يقول

بتفضيل الملائكة على البشر أجمع، لأن الله تعالى ترقى بكلامه العظيم البالغ من جنس البشر إلى جنس الملائكة، ولم يقل هذا رفعا لمقام الملائكة على البشر، بل هو ردّ على من يقول إن الملائكة بنات الله، أو أنهم آلهة، كما ردّ على النصارى قولهم أن المسيح بن الله، وهو رد أيضا على النصارى لأنهم يقولون بتفضيل الملائكة والمراد في هذه الآية هو أنه كما أن المسيح عبد الله فالملائكة عبيده أيضا، ويتشرفون بنسبة عبوديتهم لعزتهَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ» يا ويله من يوم الحساب يوم يبعثهمَ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً» (172) ويجازيهم في ذلك اليوم الذي لا يملكون لأنفسهم فيه نفعا، ويعذبهم بالحسرة والغم عند ما يرون ما يناله عباده المطيعون الخاضعون. وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى، ألا فليحذر المخالفون. قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة لا يقدر قدرها غيره «وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا» عن عبادته «فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً» لا تطيقه أجسادهم ولا تتصوره عقولهم ولا يخطر كنهه على بالهم ولا يقيهم منه شيء بدا «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (173) يتولاهم أو يدفع عنهم شيئا من عقابهم. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ» هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ليبرهن على وحدانيتنا وإبطال الشرك والتثليث ونفي الولد والصاحبة بآيات مبينات تشرح قلب المؤمن بالتصديق وتبهر المنكر بالإعجاز بما أعطيناه من المعجزات الباهرات، ولهذا سماه الله برهانا لأن البرهان دليل على إقامة الحق وإبطال الباطل وهو كذلك، لأن الله جعله حجة قاطعة لإعذار جميع الخلق «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ» أيها الناس مع ذلك البرهان الجليل «نُوراً مُبِيناً» (174) قرآنا ظاهرا تبينت فيه الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور، وقد سماه نورا لأن المتحير يستضيء به فيزيل حيرته، ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان بالقلب الذي هو أعظم الأنوار وأكرم مضغة في الجسد وهو منبع الهداية ومعدن الرشد. قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ» عن كل خلقه فعبدوه وحده «فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ

مِنْهُ وَفَضْلٍ» لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر شيء عظيم من رب عظيم «وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (175) يسددهم إلى سلوك منهج النعم عليهم ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لهم. قال تعالى «يَسْتَفْتُونَكَ» يا سيد الرسل في نوع آخر في الميراث، وهنا حذف المستفتى عنه اغتناء بالجواب المنبئ عنه المبين بقوله عز قوله يا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» تقدم معناها في الآية 11 المارة وقد بينها الله بقوله «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» ولا والد ولا حفيد ولا جد «وَلَهُ أُخْتٌ» من أبيه أو شقيقته «فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ» فرضا والنصف الآخر يكون لها ردا عند أبي حنيفة لعدم وجود عصبة لها، وهو كذلك عند عامة أهل العراق، وعند الشافعي يكون لبيت المال، وإذا كان معها بنت كان النصف الآخر للبنت فرضا والنصف العائد لها تأخذه بطريق التعصيب، لأن الأخوات يكنّ مع البنات عصبة، ويسمى هذا التعصب عصبة بغيره، أما الإخوة فهم عصبة بأنفسهم «وَهُوَ» أي الهالك لو هلكت أخته قبله «يَرِثُها» فيأخذ كل مالها «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» والأخ الشقيق أو الأب سواء، أما الأخ لأم فقد تقدم حكمه في الآية 12 المارة وهو بأنه يأخذ السدس إذا كان واحدا، والثلث إذا كانوا أكثر ذكورهم وأناثهم سواء فيه. أما الأخ الشقيق أو لأب فإنه يأخذ كل المال في مثل هذه المسألة، أما الأخ أو الإخوة لأم فما يفضل عن سهامهم يعود لبيت المال إذا لم يكن للميت عصبة أو أرحام غيرهم، وإن كان للهالكة ولد فإنه يأخذ جميع المال وحده في مسألة كهذه، وكذلك إذا كان لها أب فقط فيأخذ المال كله. «فَإِنْ كانَتَا» الأخوات «اثْنَتَيْنِ» فأكثر وكانتا لأب أو لأبوين «فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ» أخوهما والباقي لعصبته إذا كان هناك عصبة من عم أو ابنه أو ابن أخ، وإلّا فيأخذان الباقي بطريق الردّ «وَإِنْ كانُوا» أي الوارثون «إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ» من الميراث حظ «مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» كما تقدم في الآية 10 المارة «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ» أيها الناس هذه الأحكام لتعملوا بها خشية «أَنْ تَضِلُّوا» طريق الصواب ومخافة أن تزيغوا عن هذه الأحكام فتكونوا

ضلالا لا تعرفون حقكم من حق غيركم فتأكلوه حراما أو تضيعوه حلالا. فتعلموا هذا وأتقنوه واعملوا به «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (176) واتقوا الله ويعلمكم واسترشدوه واجعلوا سركم كعلانيتكم، فإن علمه محيط بكم لا يخفى عليه شيء من أمركم روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعودانني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صبّ علي من وضوئه. فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت هذه الآية. وفي رواية قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة، فنزلت. وفي رواية الترمذي كان لي تسع أخوات فنزلت. ولأبي ذرّ قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل النبي صلّى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن، قلت بالشطر؟ قال أحسن: ثم خرج وتركني، فقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك، فجعل لهن الثلثين. وقد مر أن الوصية بالثلث كثير راجع الآية 18 المارة والآية 182 من سورة البقرة المارة. قال فكان جابر يقول في أنزلت هذه الآية وهنا معجزة لحضرة الرسول، لأن جابر المذكور لم يمت في مرضه ذلك كما أخبره صلى الله عليه وسلم وهو في حالة غلب على ظنّه الوفاة فيها، ولذلك سأل حضرة الرسول عما يوصي به لأخواته. هذا والله أعلم، واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.

[الجزء السادس]

[الجزء السادس] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تفسير سورة الزلزلة عدد 7- 93- 98 نزلت بالمدينة بعد النّساء، وهي ثماني آيات، وخمس وثلاثون كلمة، ومئة وتسعة وأربعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة الانشراح والتين والتكاثر، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، ويوجد سورة المنافقين والفتح في القسم المدني مبدوءة بما بدئت به وأيضا في المكي الانشقاق والانفطار والتكوير. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» (1) أي تحركت ومادت في مكانها واضطربت اضطرابا شديدا، وذلك عند قيام السّاعة إذ ينخلع كلّ ما عليها من جبل وشجر وبناء ويسوى فيما نخفض منها من وديان ومغاور وبحور وأنهار وعيون وحفر وغيرها «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» (2) مما دفن فيها من الموتى للبعث والحساب، ومن قال إن هذه الزلزلة في الدّنيا أول معنى أثقالها بكنوزها الدّفينة فيها، ولكنه ليس بشيء لأن الآيات بعدها ينفين هذا المعنى ويثبتن ما جرينا عليه، أما استدلال هذا القائل بما رواه أبو هريرة من أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال تقيء الأرض أفلاذ كبدها (جمع فلذة القطعة المستطيلة وقد شبه ما يخرج منها باقطاع كبدها لاستتار الكبد بالجوف واستعار القيء للاخراج بجامع الظّهور في كل) أمثال الاسطوانة من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا. أخرجه مسلم، لا يؤيد قوله هذا، لأن ما ذكر فيه يكون آخر الزمان قبل النّفخة الأولى بكثير أي بعد نزول عيسى عليه السّلام، إذ جاء في الخبر أنه إذ ذاك يفيض المال فلا

يقبله أحد لغناه عنه. ومما يؤيد ما ذكرناه بان المراد الزلزلة الأخيرة عند الصّيحة الثانية للبعث قوله تعالى «وَقالَ الْإِنْسانُ» مبتهرا مما رأى «ما لَها» (3) ما بال هذه الأرض أي شيء حدا بها حتى تحركت هذه الحركة العظيمة وقذفت ما في بطنها من هذه الأجساد، والقائل المستفهم هو الكافر على حد قوله تعالى (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) الآية 52 من سورة يس في ج 1، لأنه لا يؤمن بالبعث، ويقول المؤمن عند ذلك (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) تتمة الآية 52 منها أيضا جوابا لذلك المنكر القائل من بعثنا، وعلى قول القائل انها في الدّنيا يكون القول والاستفهام من المؤمن والكافر، وتكون الزلزلة من أشراط السّاعة، لا أنهم لا يعلمون ما هي فيتساءلون عنها والأوّل أولى، ويؤكده قوله تعالى «يَوْمَئِذٍ» يوم تقع هذه الزلزلة لأن التنوين هنا للعوض والمعوض يكون عن جملة كما هنا، ويكون عن كلمة وعن حرف في مواضع أخرى «تُحَدِّثُ» الخلائق «أَخْبارَها» (4) بما عملت في الدّنيا على ظهرها من خير أو شر فضلا عن أن أحدا لا يقدر أن ينكر شيئا فعله لعظيم ما يلحقه من الخوف والفزع فيتذكر كلّ شيء فعله بزمانه ومكانه، إذ يخلق الله تعالى عند إنكار العبد ما فعله قوة في أعضائه فتشهد كلّ منها بما وقع منها على أصحابها، كما يخلق هذه القوة في الأوثان أيضا تشهد على عابديها قال أبو هريرة قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أتدرون ما أخبارها؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال إن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل فلان يوم كذا وكذا كذا وكذا، فهذه أخبارها أخرجه الترمذي، وقد خلق الله فيها النّطق مع أنها جماد راجع الآية 30 من آل عمران المارة، إذ تمثل فيها الأعمال الدّنيوية كما وقعت، والأقوال أيضا، وذلك «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (5) بذلك فاستجابت لأمره وتكلمت، وذلك أن الله تعالى يخلق فيها الحياة والعقل والنّطق لتخبر بما أمرت به، لأن ضمير تحدث يعود إليها، وعلى هذا أهل السّنة والجماعة «يَوْمَئِذٍ» يوم تحدث الأرض النّاس أخبارها بما فعلوا عليها «يَصْدُرُ النَّاسُ» بعد قيامهم من قبورهم وذهابهم للعرض على ربهم لإجراء حسابهم على أعمالهم يذهبون «أَشْتاتاً» متفرقين منهم من يؤخذ به ذات اليمين

تفسير سورة الحديد عدد 8 - 94 - 57

إلى الجنّة، ومنهم من يذهب به ذات الشّمال إلى النّار وذلك عند قوله تعالى، (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية 60 من سورة يس في ج 1 أيضا أي افترقوا عن المؤمنين، وإنما يأمر النّاس ربّهم بالصدور عن موقفهم «لِيُرَوْا» جزاء «أَعْمالَهُمْ» (6) التي فعلوها بالدنيا، ولهذا يقول جل جلاله «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» في الدّنيا والذرة ما يلصق باليد من التراب النّاعم، والهباء الذي يرى بين مشرق الشّمس من الكوة إلى أرض الدّار، وتفسيرها بهذا أولى من تفسيرها بالنملة الصّغيرة، لأنها ذرات كثيرة. واعلموا أيها النّاس أن من يفعل قدر هذه الذرة الآن «خَيْراً يَرَهُ» (7) خيرا كثيرا مضاعفا في الآخرة ويعطيه الله أجرا كبيرا عليه لم يكن يحلم به ولم تخطر بباله عظمته «وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» في دنياه ولو أنه لم يلق إليها بالا، لأن الذنب الصّغير إذا استصغره فاعله يكون عظيما وباله «شَرًّا يَرَهُ» (8) شرا مستطيرا في الآخرة، وبمثله جزاؤه إذا لم يستحقره، فعلى العاقل أن يستحقر ما يفعله من الخير ليعظم الله له أجره عليه، وأن يستعظم ما يفعله من الشّر ليهون الله عليه وزره في الآخرة. واعلم أن آخر هذه السّورة يؤيد ويؤكد ما جرينا عليه من أن المراد بالزلزلة هي زلزلة الآخرة، أجارنا الله من أهوالها، وآمننا من عذابها بحرمة سيد أنبيائه وجاهه على نفسه. قال ابن مسعود أحكم آية في القرآن هذه الآية، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامعة. قال الرّبيع بن هيثم مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة، فلما بلغ آخرها قال حسبي الله قد انتهت الموعظة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدّين. تفسير سورة الحديد عدد 8- 94- 57 نزلت بالمدينة بعد الزلزلة، وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي التكوير والفتح وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت فيه في سورة الأعلى، والتي ختمت به في سورة الواقعة ج 1.

[سورة الحديد (57) : الآيات 1 إلى 10]

مطلب أنواع التسبيح والقرض الحسن وما نزل في أبي بكر رضي الله عنه والفتلة في طريقة المولوية والقرض الحسن: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 1 لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (2) تقدم تفسير مثلها غير مرة واعلم أن التسبيح أقسام: تسبيح العقلاء وهو تنزيه الله تعالى عن كلّ شيء، وعما لا يليق بجنابه وجلاله، وتسبيح النّاميات من ذوات الأرواح قولها بلغتها قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الآية 45 من سورة الإسراء ج 1، فالأول بلسان القال والثاني بلسان الحال، والثالث بلسان الهيئة جلت عظمته، وسيأتي لهذا البحث صلة أول سورة الجمعة الآتية فراجعه. وهذا المسبح في كلّ لسان قالي أو حالي أو هيئتي «هُوَ الْأَوَّلُ» بلا ابتداء قبل كلّ شيء «وَالْآخِرُ» بلا انتهاء بعد كلّ شيء «وَالظَّاهِرُ» الذي لا يرى في الدّنيا لكمال ظهوره على كلّ شيء، قال الأبوصيري رحمه الله: واختفى منهم على قرب مرآه ... ومن شدة الظّهور الخفاء «وَالْباطِنُ» في كلّ شيء ولا يدركه شيء «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (3) خفية وجلية جهره وسره كتمه وعلانيته، روى مسلم عن سهل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول اللهم رب السّموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كلّ شيء، أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدّين وأغننا من الفقر وهذا يروى عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم فيستحب لكل أحد قراءته عند النّوم وقراءة آية الكرسي والإخلاص لما فيهما من الحفظ والبركة. قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» راجع الآية 4 من سورة طه في ج 1 والآية 7 من سورة يونس ج 2 تجد ما يتعلق في بحث العرش والآية 10 من سورة فصلت ج 2 أيضا في بحث الأيام السّتة

بصورة مفصلة «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» ويتغلغل فيها من البذور والجذور والقطر والثلج والموتى والكنوز «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها «وَما يَخْرُجُ مِنْها» من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من الأمطار والصّواعق والخير والشّر والأمر والنّهي وغيرها «وَما يَعْرُجُ فِيها» من الملائكة ويصعد إليها من أعمال الخلق ودعواتهم «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» يكاؤكم ليل نهار صباح مساء أيقاظا ونياما «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (4) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم ونياتكم «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (5) كلها إن التكرار في جملة السّموات والأرض لكل منها مغزى غير الأوّل ومناسبة ومعنى ظاهرين لمن تدبر «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فيدخل أحدهما في الآخر تداخلا ظاهرا غير مرئي محسوسا غير مشهود كالهواء والقوة الكهربائية وحركة الظّل وفلكة المضخات والطّواحين وفلكة المغزل والمهواية حال دورانها وشبهها فإنها كلها موجودة غير مشاهدة «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (6) لا يخفى عليه شيء من دخائلها قال تعالى في 285 من البقرة المارة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) فيا أيها النّاس «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» إيمانا خالصا «وَأَنْفِقُوا» في سبيله ابتغاء مرضاته «مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» من المال الذي هو بأيديكم لأنه مال الله، وقد كان بيد غيركم فأهلكهم ونقله إليكم، فأنتم الآن خلفاء الله عمن مضى من قبلكم ووكلاؤه على ما أودعه لديكم، فأنفقوا على من بقي من أبناء جنسكم من عيال الله قبل أن يسلبه منكم لأنه مسلوب لا محالة كما قيل: ويكفيك قول النّاس فيما ملكته ... لقد كان هذا مرة لفلان وقول الآخر: وما المال والأهلون إلّا وديعة ... ولا بد يوما أن ترد الودائع وهذه الآية عامة كغيرها وما قيل إنها نزلت في غزوة ذي العشيرة أي غزوة تبوك فبعيد، لأنها كانت سنة لتسع كما سيأتي بيانها في سورة التوبة إن شاء الله «فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» أيها النّاس إيمانا كاملا «وَأَنْفِقُوا» من أموالهم

لوجه الله على الفقراء والمساكين «لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ» أكبر من كلّ شيء عدا الإيمان الخالص «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» وتنفقون مما من به عليكم «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ» وتخلصوا له العبادة، فأي عذر لكم في عدم إجابته «وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ» على الإيمان به ورسله وكتبه والبعث بعد الموت يوم قال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) واعترفتم له بذلك راجع الآية 171 من الأعراف في ج 1، فأوفوا أيها النّاس بعهدكم هذا ولا تنقضوا ميثاق ربكم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (8) يوما ما لموجب ما فأحرى بكم أن تؤمنوا حالا إذ قامت الحجج على بعثة رسولكم محمد ووجوده كاف للايمان به وبربه، فلا عذر لمن يريد الإيمان بعد بعثته لدليل آخر لأنه برهان لا مزيد عليه واعلموا أن الله الذي أرسله إليكم «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ» المشار إليه محمد «آياتٍ بَيِّناتٍ» من كلامه القديم الأزلي «لِيُخْرِجَكُمْ» بها إذا اتبعتموها «مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» من الكفر إلى الإيمان «وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (9) ولذلك يحب إيمانكم رأفة بكم لخلاصكم من النّار وإدخالكم الجنّة «وَما لَكُمْ» أيها النّاس وأي عذر يمنعكم «أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مما خولكم به من النّعم والحبوب والذهب والفضة دون حول منكم ولا قوة، وأي شيء حدا بكم حتى بخلتم بالعفو من أموالكم على إخوانكم وأقاربكم وفقرائكم ولم تحصلوا على الثواب العظيم عند ربكم في آخرتكم والثناء الجزيل في الدّنيا من أمثالكم قبل أن تموتوا فتحرموا هذا الثناء والثواب، لأنكم لا بد ميتون وتاركون أموالكم ميراثا لغيركم «وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما فيها لا يأخذ أحد منه شيئا واعلموا يا عباد الله أنه «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ» ومن لم ينفق كما لا يستوون عندكم فلا يستوون عند الله بل بينهما بون شاسع «مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ» الظفر الأوّل الذي هو مبدأ الفتوحات وهو صلح الحديبية الذي رأى المسلمون فيه حيفا وميلا لما فيه من الشّروط المجحفة ولم يعلموا أن عاقبته خير وأن الانفجار لا يحصل إلّا من الضّيق وأن الفرج لا يكون غالبا إلّا بعد الشّدة واليسر بعد العسر ولذلك سماء الله فتحا وفيه بشارة إلى فتح مكة له صلى الله عليه وسلم وهو الفتح العظيم، ولهذا قال

[سورة الحديد (57) : الآيات 11 إلى 20]

بعضهم إن هذه الآية تشير إلى فتح مكة اعلموا أنه لا يستوي منكم من قام بالإنفاق «وَقاتَلَ» قبله ممن أنفق وقاتل بعده إذ قد لا تكون حاجة ماسة بعد الفتح بسبب ما يفتحه الله عليهم من البلاد ويقيض عليهم من أبواب الرّزق وما يفيضه عليهم من المال بعد ذلك فلم يحتاجوا إليكم «أُولئِكَ» المقاتلون المنفقون حال الضّيق والشّدة والقلة والحاجة «أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا» بعد الظّفر وكثرة المسلمين والمال «وَكُلًّا» من الفريقين «وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» المنزلة الحسنة التي لا أحسن منها وهي الجنّة ولكنها درجات متفاوتة بحسب الأعمال «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (10) نزلت هذه الآية في أبي بكر الصّديق لأنه أول من أسلم وأول من أنفق وأول من ذب عن رسول الله بنفسه وماله وأولها في حادثة الغار وآخرها في واقعة تبوك. روى البغوي بإسناد التغلبي عن ابن عمر قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنزل جبريل فقال مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فقال أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السّلام وقل له أرضا أنت عني في فقرك هذا أم ساخط يا أبا بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن الله يقرؤك السّلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض، وهنا يقول المولوية إنه رضي الله عنه قام وفتل على رجل واحدة فرحا بما سمعه عن ربه ولذلك جعلوا الفتلة بطريقتهم ولكن لم أقف على ما يؤيده. قال تعالى «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» عن طيب نفس. والمراد في هذا القرض الإنفاق في سبيل الله وسمي قرضا ليدل على التزام الجزاء «فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (11) زيادة على المضاعفة والأجر الكريم المفضي لدخول صاحبه إلى دار الكرامة عند ربه مع الشّهداء والصّالحين. وأعلم أن القرض لا يكون حسنا إلّا إذا جمع فيه أحد عشر خصلة 1- أن يكون في المال الحلال 2- أن يقرضه وهو محتاج إليه على حبه 3- أن يكون للأحوج 4- أن يكتمه ولا يتبعه بمن ولا أذى 5- أن يقصد به وجه الله ابتغاء مرضاته 6- أن

لا يرائي به النّاس ولا يقصد به السّمعة والصّيت 7 أن يستحقر ما يقرضه لله مهما كان كثيرا بالنسبة لما أعده الله لما بمقابلته من الثواب 8 أن يكون من أحسن ماله لقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية 92 من آل عمران المارة 9- أن لا يرى حين تصدق غنى لنفسه وذلا للفقير 10- أن يكون عن طيب نفس ورغبة فيما أعده الله لمثله 11- أن يحب أن يرزقه الله أكثر مما عنده لينفق أكثر مما أنفق 12- على الله أن يتقبلها منه ويثيب عليها ثوابا مضاعفا. واعلم أن الخلل الذي يحصل في الثلاثة الأوّل لا لعدم ثوابه بل لكونه يكون أقل أجرا لأن من أقرض من أحسن ماله أو أقرض وهو محتاج إليه أو أقرض غير الأحوج فله الجزاء الحسن عند الله أيضا لما فيه من قضاء حاجة المستقرض وهو المقصود من القرض قال تعالى أنظر أيها الإنسان «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» يوم القيامة «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» على الصّراط المستقيم جزاء أعمالهم الحسنة وتقول لهم الملائكة «بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ» تدخلونها حال كونكم مكرمين «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» وتكونون أبدا «خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12» في ذلك اليوم العظيم «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ» لهم من قبل الملائكة «ارْجِعُوا وَراءَكُمْ» لا تدنسوا للمؤمنين ارجعوا إلى الدّنيا واعملوا صالحا ليكون لكم مثل نورهم وهذا على سبيل الهتكم إذ لا سبيل إلى الرّجوع ارجعوا «فَالْتَمِسُوا نُوراً» لأنفسكم فيرجعون إلى الموقف وهو المحل الذي صاحب المؤمنين منه نورهم ليطلبوا مثله وعند وصولهم صد كلّ منهم «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ» وبين المؤمنين «بِسُورٍ» عظيم بدلالة التنكير فيه وهو لا أعظم منه في الآخرة كما يقولون الآن (سورماجينو) لا أعظم منه في الدّنيا وهو الذي عملته فرنسا وتحصنت به من أعدائها الألمان، وقد بالغوا في تحصينه حتى اتكلوا عليه وهو مهما كان في القوة فلا يشبه أو يقاس بسور الآخرة، لأن هذا قد يأتي يوم ينهار بنفسه أو بقوة الأعداء المحاربين لهم وهم الآن الألمان ولا ندري بعد ذلك من هم، أما ذاك فلأنه من أعمال الآخرة وهي بما فيها باقية ثابتة، وهذا

من أعمال الدّنيا وهي بما فيها فانية. وهذا السّور العظيم «لَهُ بابٌ» عظيم بنسبة عظمه «باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ» الجنّة لأنها من رحمة الله «وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» (13) النّار لأنها من عذاب الله، فلما رأى ذلك المنافقون صاروا «يُنادُونَهُمْ» أي المؤمنين يقولون لهم «أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» في الدّنيا «قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ» أيها المنافقون «فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ» فيها بالكفر «وتماديتم في الطّغيان وَتَرَبَّصْتُمْ» تأخرتم عن الإيمان والتوبة «وَارْتَبْتُمْ» في نبوة محمد وكتابه في هذا اليوم «وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ» الباطلة التي كنتم تنتظرونها أن تقع بالمؤمنين «حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» (14) الشيطان بخداعه حتى متم على ما كنتم عليه من النّفاق «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ» عن أنفسكم مثل الدّنيا إذ يجوز فيها الفداء عن النّفس بالمال، لأن حالة الآخرة غير حالة الدّنيا ولا يقبل منكم الآن إيمان أيضا ولا توبة لفوات وقتهما «وَلا» يقبل أيضا فدية ولا توبة «مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ» أنتم أيها المنافقون والكافرون والمشركون «النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ» جميعا لأنكم في الكفر سواء، وعذابكم مختلف، المنافق أشد من الكافر، والكافر أخف من المشرك، فهي دركات متفاوتة كما أن الجنّة درجات يا لها من درجات متفاوتة أيضا، يقول أهلها حينما يرى أولئك الخبثاء ادخلوها فهي مثواكم «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15) النار لأهلها، قال تعالى بعد هذا البيان لذي بينه من أحوال أهل الجنّة وأهل النّار «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم «أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» المتلو عليهم فيؤمنوا إيمانا حقيقيا خالصا محضا تنشرّ به قلوبهم عن رغبة ويقين، لأن الايمان إذا لم تخالط بشاسته الظّاهرة اعتقادا جازما وإيقانا قلبيا لا يعتد به ولا ينفع به صاحبه لهذا يقول الله تعالى أما حان لهم أن يخشعوا لذكري «وَ» يخضعوا إلى «ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ» على رسولهم من قبلي بعد ما أرادوا من الآيات البينات الموجبة لخشوعهم وخضوعهم، ألا فلينقادوا ويخبتوا «وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ» إرسال الرّسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم وهم اليهود والنّصارى الّذين سوّفوا وأسرفوا «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ» فيما بينهم وبين

أنبيائهم حتى زالت عنهم الرّوعة التي كانوا يجدونها عند سماع تلاوة كتابهم، وقد خلت قلوبهم من الخشوع الذي كانوا يحسون به فاتبعوا الأهواء «فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فلم يبق يؤثر فيها الوعظ ولا التذكير «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (16) متجاوزون حدود الله بسبب تلك القسوة التي ألبست قلوبهم فمنعتها من أن تخضع لسماع ذكر الله، فيا أيها النّاس «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» كما أنه يحيي الإنسان والحيوان بعد الموت فلأن يحيي القلوب التي أماتتها القسوة من باب أولى إذا رجعت إلى الله وأنابت إليه «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ» الدالة على ذلك فيما تقدم من الذكر وفصّلنا لكم كيفية إحياء الأرض الميتة بالمطر، وإحياء القلوب بالذكر «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (17) حكمتنا فتركنون إليها وتعملون بما يفضي إليها، قال الكلبي ومقاتل إن هذه الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي حدثنا في التوراة، فنزل أولا نحن نقص عليك أحسن القصص الآية الثالثة من سورة يوسف ج 2، فكفوا عنه، ثم سألوه ثانيا فأنزل الله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية 23 من الزمر ج 2 أيضا، ثم سألوه ثالثا فنزلت هذه الآية. قال محمود الآلوسي رحمه الله يكاد يصح نزولها في المنافقين، ثم صوّب نزولها في المؤمنين حينما قدموا المدينة وأصابوا لين العيش وفتروا عما كانوا عليه من العبادة، فعوتبوا فى هذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وعليه يكون نزول هذه الآية بالسنة الأولى من الهجرة، فتكون من أول ما نزل في المدينة، وليس بسديد، لأن أول ما نزل سورة البقرة وبعدها الأنفال فآل عمران فالأحزاب إلخ ما أثبتناه هنا، أو الثالثة عشرة من البعثة التي هي آخر نزول القرآن في مكة فتكون السّورة أو الآية وحدها مكية وليس كذلك لأن السّورة كلها مدنية نزلت في المدينة يوم الثلاثاء في السّنة السّابعة من الهجرة ووضعت في محلها من القرآن بإشارة من الرّسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما الصلاة والسّلام وفاقا لما هو عند الله في لوحه المحفوظ وعلمه الأزلي، لذلك يبعد الركون إلى ما صوبه الآلوسي رحمه الله. قال تعالى «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ» الّذين صدقوا الله ورسوله وكتابه وتصدقوا بفضول أموالهم «وَأَقْرَضُوا اللَّهَ

[سورة الحديد (57) : الآيات 21 إلى 29]

قَرْضاً حَسَناً» على الصّورة المبينة آنفا ف «يُضاعَفُ لَهُمْ» عملهم الحسن أضعافا كثيرة «وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (18) عند الله في الآخرة «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» وافيا جزاء أعمالهم الحسنة «وَنُورُهُمْ» مشرق على الصّراط، وفي طليعة هؤلاء العشرة المبشرون بالجنة «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (19) في الآخرة تحجم أي تسخم فيها وجوه أهلها بدخانها أعاذنا الله منها وحمانا فيا أيها النّاس «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» فمثلها «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ» ييبس وبعد خضرته «فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً» هشيما متكسرا «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ» لمن كانت حياته على هذه الصّفة التي قصها الله عن الكفار وفي مقدمتهم النّمرود وفرعون وأبو جهل وأضرابهم، أما من يصرف أوقاته وأمواله في طاعة الله ورسوله والعمل الصالح فلهم عفو عام «وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» شامل في الآخرة «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (20) لمن كرس نفسه لها وأعرض عن الآخرة لقد عدّ الله تعالى في هذه الآية من زخارف الدّنيا خمسة، وقد عدها في الآية 14 من آل عمران المارة سبعة، وفي غيرها ثلاثة وأقل، فالسعيد من اعتبر وترك قليلها وكثيرها رغبة فيما عند الله. واعلم أن الغرور هو كلّ ما يمتع به الإنسان من مال أو جاه أو ولد، وكلّ ما يغره وجوده لديه فيأمل دوامه وهو فان لا محالة فهو غرور. ثم اعلم أن كلّ آية مصدرة بلفظ اعلموا أو اعلم تدل على أهمية ما تدعو إليه ووجوب أخذ ما فيها بعين الاعتبار والنّظر إليها بالتفكر والتدبر والتروي. قال تعالى «سابِقُوا» أيها المؤمنون وتسابقوا «إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» ففي مثل هذا تكون المسابقة أيها النّاس وفي مثله تطلب المنافسة والتفاخر ويرغب بالتزايد والتكاثر لا في لعب الصّبيان ولهو الفتيات وزينة النساء وعذاب الأموال ووبال الأولاد، راجع الآية 133 من آل عمران المارة

فيما يتعلق بقوله تعالى (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) لأنها نظيرتها إلّا أنها مصدرة بلفظ سارعوا، وإلّا فأكثر ألفاظها تشابه هذه «ذلِكَ» الغفران والجنّة «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده فضلا منه «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21» واعلم أنه يوجد في القرآن ستّ وخمسون آية مبدوءة بحرف السّين واعلموا أيها النّاس إن «ما أَصابَ» الله عباده وخلقه «مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ» من جدب وقلة ثمر وآفات للزروع والفروع «وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ» من الأمراض وفقد الأولاد والأموال وجمع الاكدار «إِلَّا» وهو ثابت مدون «فِي كِتابٍ» الله الأزلي مقصور وقوعه عليكم في الزمان والمكان «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» قبل خلق الأرض لأنها خلقت قبل البشر والجن وغيرهما وقبل خلق الأنفس، لأن كلّ ما هو مقدر على الخلق من المصائب مدون عليهم قبل خلقهم، وهذا يقول الله تعالى «إِنَّ ذلِكَ» أي إثباته في اللّوح المحفوظ قبل إيجاده للعيان مع كثرته «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22) هين إذ لا يعسر عليه شيء، وقد أخبركم بتقدير ذلك كله «لِكَيْلا تَأْسَوْا» تحزنوا وتهتموا «عَلى ما فاتَكُمْ» من الدّنيا، لأن فواته محتم، ولا يمكنكم الحصول عليه مهما طلبتموه «وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» لأنه مقطوع بوصوله إليكم ولو لم تطلبوه، وهو لا يستوجب الفرح، لأنه فإن وأنتم فانون، وإن لم تتركوه يترككم. وكثيرا ما يجر هذا الحطام إلى الفخر والخيلاء «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» (23) هذا والمراد بالحزن المذموم وهو المخرج صاحبه عن دائرة الصّبر والتسليم لأمر الله لا مطلق الحزن، إذ لا يخلو إنسان منه، كما ان المراد بالفرح الملهي عن الشّكر لا مطلق الفرح الذي تنبسط منه النّفس بالطبع، فهذان لا بأس بهما وكذلك لا يحبّ «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ» بأموالهم على فقراء الله التي منحهم الله إياها «وَ» مع هذا فإنهم «يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ» ويعرض عما أراده الله منه «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» عنه «الْحَمِيدُ» (24) لمن أطاعه. قال تعالى «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا» محمدا فمن قبله «بِالْبَيِّناتِ» الحجج الواضحة والبراهين السّاطعة الدّالة على رسالتهم «وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ» المتضمن

الشرائع التي أمروا بتبليغها لأقوامهم «وَالْمِيزانَ» أنزلناه معهم ليقيموا العدل بين أممهم، لأن المراد بالميزان هنا العدل الذي به قوام مصالح النّاس وملاك أمورهم وجماع تآلفهم وتواددهم، بدليل قوله «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» ولا يتظالموا فيما بينهم، فيعتدي القوي على الضّعيف والشّريف على الحقير لأنها فيه سواسية، والتفاضل إنما يكون بالأعمال، وقد يكون بالأموال والجاه والرّياسة المراعى فيها التقوى التي هي أساس كلّ خير من هذه الأشياء وغيرها. مطلب في الحديد ومنافعه وكونه من معجزات القرآن وما يعمل منه وما يستخرج فيه ويحتاج إليه: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» أحد بركات الأرض الأربع التي منحها الله عباده من هباته الجليلة وتخصيصاته العظيمة، والثاني الملح، والثالث الماء، والرّابع النّار، أي أصلها وهو عنصر الأوكسجين، وهذا من معجزات القرآن إذ تحقق لأهل هذا العصر أنه ينزل من السّماء. قال الأستاذ الشّهير (ونودر فشلد) انه رأى ذرات الحديد في الثلج في شمالي سيبريا وأخبر عنه. ومما يدل على عظمته إعادة العامل مع إمكان الاكتفاء بأداة العطف ووصفه بقوله جل قوله «فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ» ويطلق البأس على الحرب وعلى الموت، وهذا أعظم الآلات المؤثرة فيها بتأثير الله تعالى، وإنما نعته الله بهذا لما هو ثابت في علمه الأزلي المخبر عنه بقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية 8 من سورة النّحل في ج 2، أي ما لا تعلمونه من آلات الحرب والرّكوب التي ظهرت في هذا الزمن مما قد ينكرها العقل لولا بروزها للعيان كالبرق والهاتف والرّاد والقطر والبواخر التي تسيرها قوة الكهرباء (والبوصلة) الإبرة المغناطيسية التي لولاها لما تمكن أصحاب البواخر من التوغل في البحار، ولم يتسنّ لهم السّير في النّهار وقت الضّباب وتلبد الغيوم، والإبرة الدّالة على ترطب الجو وحدوث الأمطار والعواصف وغيرها من العجائب والغرائب من سرعة سير بعض السّيارات الذي هو فوق العقل، فضلا عن القذائف والصّواريخ والذرة وغيرها وما ندري ما يحدث بعد. وللحديد دخل في العلاجات المهمة ومنافعه لا تعد ولا تدخل تحت الحصر، ولولاه لاستحال اختراع الأشياء المار ذكرها وغيرها كالقطر

والبواخر التي هي كالجبال، ولا شيء يقوم مقامه من المعادن وإن كانت أثمن منه، كالفضة والذهب والأحجار الكريمة لأنها لا تصير سلاحا، ولا دبابات، ولا طائرات ولا ولا. وخصوصا ما يتعلق بالكهرباء الذي لا يستغنى عنه في كثير من ذلك، والذي هو سر من أسرار الله الذي لم يدرك البشر ماهيته ولا كيفيته حتى الآن، ولهذا يقول الله تعالى «وَمَنافِعُ» كثيرة فيه «لِلنَّاسِ» لا تحصى من الإبرة فما فوقها، ولا غنى لأحد عنه، وفي التعميم بعد التخصيص دلالة على عظيم حاجة البشر إليه «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ» أي أنه أنزل هذه الأشياء، لتلك الغايات المارة ولغيرها مما يظهره الزمان، ويظهر للناس «مَنْ يَنْصُرُهُ» ويقيم دينه من خلقه باستعمال العدل الذي يمكن إجراؤه أولا برسائل النّصح والإرشاد والوعظ والزجر، وثانيا باستعمال السّيف والرّمح والنّبل التي يقل فيها القتل وتؤثر في إجبار الباغي على إقامة العدل، وثالثا بالبنادق والمدافع والقذائف والصّواعق، ورابعا بالمدمرات الذرية والمهلكات الأخرى التي سيظهرها الزمن بما هو أعظم وأعظم ولا يقبله العقل مما سيعمله هذا البشر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، وسخر له الله الحجر والمدر والماء والنّار والهواء، وجميع معادن الأرض الجامدة والسّائلة والقوية والرّخوة ليستخدمها فيما يظهره الله على يديه في إصلاح العالم وإفساده وإعماره وإبادته «وَ» يعلم من ينصر «رُسُلَهُ» الداعين إلى طريقه السّوي «بِالْغَيْبِ» أي ليؤمنوا به عن غير رؤية ويؤمنوا بالآخرة من غير مشاهدة، فهؤلاء الكرام الّذين آمنوا بالله ورسله وبذلوا نفوسهم لإقامة العدل بين النّاس وطهارة الأرض ممن يكفر بالله وهو يأكل رزقه، ويفسد ولا يصلح، قبل أن يروه في الآخرة، وقبل أن يشاهدوا ما وعدهم به على لسان رسلهم القائمين بتنفيذ أوامره ونواهيه في الدنيا، الطائعين له الطّاعة المحمودة المرجو ثوابها عنده. واعلم أني كثيرا ما أستشهد بما يكون من غير المسلمين كما هي الحال هنا ولكن فيما يتعلق بأمور الدّنيا فقط لقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) الآية 7 من سورة الروم في ج 2 تدبر وتيقن «إِنَّ اللَّهَ» على نصر هؤلاء وأمثالهم «قَوِيٌّ» قادر على توفيقهم لما يريدون وعلى نصرهم على أعدائهم وإظهار كلمتهم وإيقاع الخذلان

بهم وإلقاء الرّعب في قلوب مناوئيهم «عَزِيزٌ» (25) غالب لا يقاوم منبع لا يحاط به قادر على قهر أعدائه دون تكليف خلقه، وإنما أراد أن يكون النّصر على أيدي أوليائه ليكافئهم على ذلك في الآخرة. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» فلا نبي من بعدهما إلا وهو من نسلهما وإن من تقدمهما كان من ذرية آدم «فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ» بهداية الله تعالى مقتف آثار أصوله الكرام «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (26) خارجون عن الطّاعة، وذلك بمقتضى ما هو مقدر في الأزل إذ جعل من ذريتهما من هو صالح لخلافته في أرضه، ومن هو لايق لعبادته وخدمته، ومن هو كافر مفسد لخلقه ولنفسه جاحد لربه ورسله وكتبه «ثُمَّ قَفَّيْنا» أتبعنا «عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا» واحدا تلو الآخر «وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» الذي هو آخر أنبياء بني إسرائيل «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ» ومشوا على دينه الحق في زمنه وإلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم «رَأْفَةً وَرَحْمَةً» وهاتان الخلتان من صفات أصحاب محمد الآتية في آخر سورة الفتح «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» من تلقاء أنفسهم، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن، وهذه الجملة غير معطوفة على ما قبلها، كما أن جملة (ما كَتَبْناها) معترضة بينها وبين ما بعدها أي أن الرّهبانية جاؤا بها وألزموها أنفسهم «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» في الإنجيل الذي أنزلناه على رسولهم «إِلَّا» أنهم اخترعوها عفوا «ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» عليهم، وذلك لكمال زهدهم في الدّنيا وتشبههم برسولهم، لأنه لم يتزوج وهو أزهد الأنبياء والرّسل عدا محمد صلوات الله عليهم وسلامه، والرّاهب هو الخائف الخاشي الخاشع لربه الفار بدينه عن الافتتان مبالغة في ترك الدّنيا وإعراضهم عن شهواتها، ولكنهم بعد أن أوجبوها على أنفسهم ومن بعدهم لم يقوموا بها كما ينبغي لها لقوله تعالى «فَما رَعَوْها» خلفهم من بعدهم «حَقَّ رِعايَتِها» كما أراد مبتدعوها لأن القصد منها التباعد عن الشّهوات والتجافي عن الملذات والعكوف على العبادات، وهؤلاء مع الأسف صار أكثرهم على العكس، لأنهم انهمكوا في الدّنيا وانكبوا بكليتهم عليها وتوغلوا في الملاهي والمناهي ورغبوا في

زينة الدّنيا وزخارفها وحب المال والجاه والرّياسة، واستحلوا لحوم الخنازير والخمرة، وقد ذمّ سيدنا عيسى عليه السّلام الخنزير بقوله تجعلون الدّراري في أعناق الخنازير وقال لا أشرب بنت الكرم بعد اليوم. وكان عيسى عليه السّلام لا يشربها أبدا، وكان لا يأتي النّساء مع قدرته ترهبا وهضما لنفسه، وهو أول من سن المعمودية راجع الآية 7 فما بعدها من سورة مريم ج 2 تقف على مزاياه عليه السّلام، وقال عيسى عليه السّلام: من نظر إلى امرأة أجنبية يشتهيها فهو يزني، والآن اختلطت نساؤهم برجالهم وتركوا الختان وهو سنة ابراهيم، والغسل من الجنابة وهو من سنن الأنبياء وحرموا الطّلاق وهو ما لم يحرمه الأنبياء، وإنما كرهوه وخالفوا أحكاما مسطورة في أناجيلهم الأربعة ولم يتقيدوا بالوصايا العشر المسطورة في التوراة والمأمور بها في الإنجيل. قال تعالى «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ» بعيسى وماتوا قبل بعثة محمد والّذين آمنوا بمحمد وماتوا على إيمانهم «أَجْرَهُمْ» في الدّنيا والآخرة «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (27) أهلكناهم بفسقهم وخسروا الدّنيا والآخرة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بموسى وعيسى «اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ» محمد الذي هو خاتم الرّسل المصدق لرسلكم فإذا آمنتم به «يُؤْتِكُمْ» ربكم «كِفْلَيْنِ» حظين أو نصيبين «مِنْ رَحْمَتِهِ» واحد لإيمانكم بموسى والتوراة، وآخر من رحمته أكبر وأوفر منهما لإيمانكم بعيسى والإنجيل، وسهم عظيم لإيمانكم بمحمد والقرآن، وهذه الثلاثة كلها كفل واحد، والثاني ثلاثة أيضا بينها بقوله «وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً» عظيما يوم القيامة وهذا النّور لا يزال يصاحبكم في مواقفها ثم «تَمْشُونَ بِهِ» على الصّراط المضروب على متن جهنم في حالة أنتم أشد حاجة له من غيره «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ما سلف منكم قبل الإيمان وبعده إذا متم مؤمنين «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للمؤمنين الموقنين «رَحِيمٌ» (28) بهم يوفقهم لما يحبه ويرضاه من الأعمال. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله، ورجل كانت عنده أمة يطأها فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها وأحسن

تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران. ولما سمع أهل الكتاب هذه الآية قالوا للمسلمين من آمن بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن فله أجر واحد مثلكم فما فضلكم علينا؟ حينئذ أنزل الله تعالى «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» أي على تخصيص شيء من فضل الله ان لم يؤمنوا بمحمد، لأن لهم جرين إذا آمنوا وإلّا فلا أجر لهم البتة «وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (29) الذي لا أعظم منه. واعلم أن «لا» هنا ليست بزائدة ولم يؤت بها لتحسين الكلام فقط، بل هي نافية، لان الضّمير في قوله لا يقدرون عائد إلى الرسول وأصحابه، والتقدير هو إنما فعلنا ذكر لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه بأقوام معينين، وليعتقدوا (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ) إلخ الآية، وهذا التأويل على هذا والتفسير به أولى من جعل لا زائدة، لأن فيها إضمار كلمة (وليعتقدوا) وفي تلك حذف كلمة (تخصيص شيء من فضل الله) والإضمار أوفى للمعنى من الحذف، لأن الكلام إذا افتقر للاضمار لم يوهم ظاهره باطلا أصلا، أما إذا افتقر إلى الحذف كان ظاهره موهما ذلك. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد موسى الأشعري عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال مثل المسلمين واليهود والنّصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له إلى اللّيل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النّهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملناه باطل، فقال لهم اعملوا بقية يومكم لكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا واستأجر آخرين بعدهم، فقال اعملوا بقية يومكم لكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان صلاة العصر قالوا ما عملناه باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال أكملوا بقية يومكم فإن ما بقي من النهار يسير، فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النّور اى أن اليهود والنّصارى لم ينفعهم عملهم لا متناعهم من إكماله، وإن المسلمين أكملوا عملهم الذي أمروا به ففازوا بنفعه كله في الآخرة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة محمد عليه السلام عدد 9 - 95 و 47 وتسمى سورة القتال

تفسير سورة محمد عليه السّلام عدد 9- 95 و 47 وتسمى سورة القتال نزلت بالمدينة بعد سورة الحديد عدا الآية 13 فإنها نزلت بالطريق أثناء الهجرة وهي ثمان وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وثلاثون كلمة، وألفان وخمسمائة واثنان وعشرون حرفا، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (1) أي ضيعها الله عليهم، فلم ينتفعوا بها في الآخرة، لأن ما يفعلونه من البر وإطعام الطّعام وإقراء الضّيف وصلة الرّحم وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف وفك الأسرى وغيرها كان للسمعة والرّياء ونشر الصيت لا لوجه الله تعالى، فلذلك جعل مكافأتهم عنها في الدّنيا من بلوغهم ثناء الناس ومدحهم، وما أعطاهم الله من عافية ومال وولد وجاه وغيرها. وهذه الآية عامة في كلّ كافر مات على كفره، كما أن قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» (2) عام أيضا في كلّ مؤمن مات على إيمانه. والبال هو القلب والشّأن والأمر والحال «ذلِكَ» إبطال أعمال الكفرة وإصلاح بال المؤمنين «بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ» فصدوا أنفسهم وغيرهم عن الطّريق الموصل للسعادة الأبدية «وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ» فأوصلهم لسعادته الأبدية وأحلهم بدار كرامته «كَذلِكَ» مثل هذا المثل المضروب للفريقين «يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» (3) ليعتبروا ويتعظوا ويتدبروا حال الطّرفين في الدّنيا ومصيرهم في الآخرة «فَإِذا لَقِيتُمُ» أيها المؤمنون «الَّذِينَ كَفَرُوا» في صف القتال بعد أن طلبتم منهم الإيمان بالله ولم يفعلوا «فَضَرْبَ الرِّقابِ» (4) لتقطعوا منهم أشرف الأعضاء وهو الرأس، وفي قطعه إهانة لهم أكثر من قطع غيره من الأعضاء المؤدية للموت، وهو أسرع في الموت من غيره «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ» وأكثرتم فيهم القتل

واثقلتموهم بالجراح فاعمدوا لأسرهم «فَشُدُّوا الْوَثاقَ» من المأسورين لإظهار ذلتهم لكم، ولئلا ينفلتوا فيلتحقوا باعدائكم ويكونوا أكثر شرا من غيرهم، عليكم، لكم لم تفلتوهم ليكون لكم يد عليهم وليكن شأنكم هذا حتى انتهاء الحرب، فإذا وضعتم السّلاح وتمّ لكم ما أمثلتم «فَإِمَّا» أن تمنوا على أسراكم «مَنًّا بَعْدُ» فتركونهم كرما منكم «وَإِمَّا» أن تفدوهم «فِداءً» فتأخذون المال المتفق عليه منهم أو تبدلونهم بأسراكم، وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية 58 من الأنفال المارة، وهي (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) ولا بآية السّيف وهي قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) عدد 37 من التوبة الآتية، كما قاله بعض المفسرين، لان للامام الخيار بين أربعة أمور حسبما يراه لا معارض له في ذلك، وهي إما أن يقتل الأسرى، أو يسترقهم، أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض، أو يفاديهم بالمال أو بأسرى المسلمين، وإلى هذا ذهب ابن عمر وبه قال الحسن وعطاء وأكثر أصحاب وجل العلماء، ومشى عليه الشّافعي والنّووي واحمد واسحق رحمهم الله. تشير هذه الآية الكريمة إلى حث المسلمين على القتال لما فيه من إعلاء شأنهم وعظمة شوكتهم، وأن لا يميلوا إلى قبول فداء الأسرى إلّا بعد الإثخان في القتل من العدو، ولهذا عاقبهم الله تعالى على قبول الفداء في أسرى بدر، كما مر في الآية 68 من سورة الأنفال وسبب نزولها على ما قاله ابن عباس، هو أنه لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزلها وهو الصّحيح لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال بعث النّبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة أتال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه النّبي صلى الله عليه وسلم فقال عندك يا ثمامة؟ فقال عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت، فتركه النّبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد قال ما عندك يا ثمامة؟ قال ما قلت لك (وكرر الألفاظ) بعينها فقال صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أو قال عبده ورسوله، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إلي من وجهك فقد أصبح

وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدّين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت؟ قال لا، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن عمران بن حصين قال أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله، فقداه رسول الله بالرجلين الّذين أسرتهما ثقيف- أخرجه الشّافعي في مسنده وأخرجه مسلم وأبو داود- فعلى هذا يكون القول بالنسخ لا وجه له. فيا أيها المؤمنون داوموا على هذه الحالة، فاقتلوا وأسروا وأبقوا الأسرى «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» أثقالها من سلاح وغيره من أدوات الحرب ولوازمها فيعزّ الله المسلمين بنصره ويخذل الكافرين «ذلِكَ» الحكم في الأسرى فافعلوه «وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» فأهلكهم وأسرهم بغير قتال ولكفاكم أمرهم «وَلكِنْ» لم يفعل وقد أمركم بقتالهم «لِيَبْلُوَا» يمتحن ويختبر «بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ» وليثيب المؤمن بالشهادة أو السّعادة ويعاقب الكافر بالخيبة والنّار «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» منكم أيها المؤمنون أو سلموا «فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» (4) بل ينميها لهم ويثيبهم عليها وأنه «سَيَهْدِيهِمْ» بالدنيا إلى طرق الرّشاد «وَيُصْلِحُ بالَهُمْ» (5) فيها ويوفقهم للسداد إذا سلموا من القتل «وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة إذا قتلوا ويفيض عليهم من خيرها ونعيمها وقد «عَرَّفَها لَهُمْ» (6) إذ وصفها لهم بالدنيا، فيكونون في الآخرة أعرف بمواقعهم فيها من دورهم في الدّنيا فلا يحتاجون إلى دليل يدلهم على منازلهم فيها، هذا إذا كان الفعل مأخودا من التعريف وإذا كان من العرف وهو الرّائحة الطّيبة فيقال طيبها لهم بالطيب، وكلاهما جائز. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ» فتنضموا إلى حزبه لإعلاء كلمته «يَنْصُرْكُمْ» على عدوكم «وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» (7) عند القتال في الدّنيا وعلى الصّراط في الآخرة

[سورة محمد (47) : الآيات 11 إلى 20]

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ» خيبة وسقوطا وبعدا وشقاء وعثرة في الدّنيا والآخرة «وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (8) محقها وحرمهم من ثوابها وأنسى النّاس ذكرها الحسن «ذلِكَ» الإضلال والإتعاس «بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» من الذكر على رسوله وتأففوا منه وزعموا أنه مشاق فعله عليهم «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» (9) اذهب ذكرها وأجرها بالكلية، لأنها صادرة عن شهواتهم الخسيسة لم يرد بها وجه الله «أَفَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الكفرة «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من كفار الأمم الماضية كيف «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» مساكنهم بما فيها من مال ونشب، فأهلكهم دفعة واحدة هم وما يملكون «وَلِلْكافِرِينَ» بك يا سيد الرّسل «أَمْثالُها» (10) أمثال تلك العاقبة والعقوبة إذا أصروا على كفرهم وماتوا عليه «ذلِكَ» الإهلاك والتدمير يكون للكافرين فقط «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» يجرهم منه «وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» (11) في الدّنيا يتمكن وقايتهم منه، لأن مولاهم الشّيطان أو بعضهم، وكلّ منهم ضعيف لا يقدر على خلاص نفسه مما بها في الدّنيا وفي الآخرة، كذلك لا مولى لهم يخلصهم من عذاب الله أو يجيرهم منه «إِنَّ اللَّهَ» مولى المؤمنين «يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» تمر في جوانبها يمينا وشمالا. وأماما ووراء وهم مشرفون عليها بحيث لا تخفى على من فيها «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ» في الدّنيا فعلا «وَيَأْكُلُونَ» من نعيمها «كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» التي لا هم لها إلا بطونها وفروجها، ساهون عما يراد منهم في الآخرة، وقد شبههم الله بها بجامع عدم التمييز بين الخير والشّر والنّفع والضّر والتدبير في العواقب في كل «وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12) وبئس المثوى النّار. مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار: وهذه الآية التي نزلت في الطّريق أثناء الهجرة المنوه عنها في الآية 87 من سورة العنكبوت في ج 2 «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ» وأعظم «قُوَّةً مِنْ» أهل «قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» (13)

وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج من الغار وسار مع صاحبه أبي بكر وخرج من عمران مكة التفت إليها وقال أنت أحب البلاد إلى الله وأحبها إلي، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك، وقد وضعت هنا كغيرها باشارة من السّيد جبريل وأمر من النّبي صلى الله عليه وسلم كما هي في علم الله، وتعد مكية لأن المدني، ما نزل في المدينة بعد وصله إليها أو في غيرها، وكذلك المكي هو ما نزل قبل الهجرة في مكة أو غيرها كما أشرنا إليه في المقدمة، وإنما قال أخرجوني لأنهم أرادوا إخراجه حين مذاكرتهم في دار النّدوة، وقد خرج بارادة الله تعالى ليس إلّا كما أشرنا إليه في الآية الآنفة الذكر من سورة العنكبوت لأن الله تعالى قدّر على خروجه منها ظهور دينه للناس أجمع وعلو شأنه على غيره وفتح مكة على يده، ولأنه لو لم يخرج بطوعه على الصّورة المذكورة لأدى بقاؤه فيها إلى مقاتلة بينه وبين قومه وهو لا يريد قتالهم مع قوته بعشيرته، وتعهد الله له بالنصر عليهم. قال تعالى «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وهو محمد وأصحابه «كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» من الكفار «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (14) في إخراج حضرة الرّسول واختيار عبادة الأصنام على عبادة الملك العلام كلا لا يستوون عند الله، وبينهما كما بين ما أعده الله لكل منهما. وما قيل إن المراد بهذه الآية أبو جهل أو غيره من الكفرة المحرّضين على إخراج الرّسول من مكة لا يقيدها بهم، بل هي عامة فيهم وفي غيرهم من الكفار، على أن أبا جهل قتل في حادثة بدر الأولى الكائنة في السّنة الثانية من الهجرة وهذه السّورة نزلت في ذي القعدة السّنة السابعة منها، فبينهما خمس سنين وشهران، لأن غزوة بدر في رمضان، ولكن الآية مكية فيجوز إدخال أبو جهل واضرابه فيها، إذ نزلت على أثر ما دبروه في قصته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» متغير الطّعم ولا منتن من طول المكث أو طرح شيء فيها كأنهار الدّنيا، بل هي صافية طيبة عذبة «وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» لأن التغيير من خصائص الدّنيا وما فيها، أما الآخرة فلا تغير فيها، كما أنها هي لا تتغير على كر الأزمان «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ»

لا حامضة ولا مرة ولا حريقة ولم تدنس بعصر الأيدي ولا بدوس الأرجل كخمر الدنيا ولا غول فيها يذهب العقل ويصدع الرّأس ويقيء الطّعام، راجع الآية 44 من سورة الصّافات ج 2 تجد ما يتعلق بالفرق بينهما «وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» لا شمع فيه ولم يخرج من بطون النّحل فيوجد منه ميتا فيه مما تستقذره النفس، بل هو خالص من كلّ الشّوائب جاء عن حكيم بن معاذ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الجنّة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللّبن وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وروى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحان (نهر اورقه غير سيحون) وجيحان (نهر المصيصة في بلاد الأرمن غير جيحون) والفرات ونيل مصر كلّ من أنهار الجنّة أي مادتها من مادة أنهار الجنّة من حيث الطّعم واللّون، لا أن منبعها من هناك لأن منابعها الظّاهرة في الدّنيا مشهودة ومعلومة ومشهورة، وان قول حضرة الرسول من أنهار الجنّة لا يعني أن منابعها منها بالنسبة لما نراه وبالنظر لواقع الحال أما في الحقيقة فلا يعلمها إلّا الله لأن ظاهر علمنا يقتصر عند ظاهر منابعها ولا نعلم من أين يأتي ذلك، وليس محالا على الله أو مستحيلا عليه إن جعل أصل منبعها من الجنّة أو من فوقها أو من تحتها، والله على كلّ شىء قدير. وعلينا أن نصدق بما جاء عن الرّسول في هذه وغيرها لأنه لا ينطق عن هوى، وقد أمرنا الله بأن نأخذ ما يأتينا به وننتهي عما ينهانا عنه كما يأتي في الآية 7 من سورة الحشر. قال تعالى «وَلَهُمْ فِيها» أي الجنّة ذات الأنهار المذكورة «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» مما عرفه البشر أو لم يعرفه يتفكهون فيها «وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ» أيضا زيادة على ذلك كله، ورفع التكاليف عنهم فيما يأكلون ويشربون بخلاف فواكه الدنيا فإنهم قد يحاسبون عليها هل هي من حل أم لا، وهل أسرف فيها أم لا، وهل رزق غيره منها أم لا، أما المغفرة عن الذنوب فتكون لأهل الجنّة قبل دخولها فمثل هؤلاء المؤمنين الكرام ليس «كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ» من الكفرة اللئام «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» (15) لشدة حرارته. وبعد أن بين تعالى حال أهل الجنّة وأهل النّار طفق يذكر بعض مثالب المنافقين، فقال

مطلب عصمة النساء وصلة الرحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه:

عز قوله «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ» يا حبيبي «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من أصحابك «ماذا قالَ آنِفاً» لأنهم لا يعون قوله إذ لا يلقون له بالا تهاونا به قاتلهم الله، وتغافلا عنه، لذلك لا يقهمونه «أُولئِكَ» الّذين لا يفطنون لكلام رسولهم هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلم ينتفعوا بها لذلك لم يصغوا لمواعظ الرّسول وهو معهم فتركوها «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (16) الباطلة فأمات الله قلوبهم «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» بهداية الله وعظات رسوله، فسمعوا خطابه ووعوا قوله وانتفعوا به «زادَهُمْ هُدىً» وبصيرة وعلما لم يعلمه غيرهم لأن الله شرح صدورهم «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» (17) أي جزاءها الدّنيوي في الآخرة وبينه لهم على لسان رسولهم. ثم شرع يهدد الكافرين والمنافقين، فقال عز قوله «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غفلة وغرة «فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها» علاماتها وأماراتها «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» (8) أي فكيف بهم إذا جاءتهم السّاعة المذكّرة لهم بكل ما وقع منهم، وكيف يكون حالهم في ذلك الوقت عند بروز أعمالهم السّيئة، ومن أين لهم إذ ذاك التذكر والاعتذار والتوبة والإيمان لفوات محلها؟ أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بادروا بالأعمال سبعا، فهل تنظرون إلّا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مقعدا، أو موتا مجهزا، أو الدّجال، فشرّ غائب ينتظر، أو السّاعة والسّاعة أدهى وأمر. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال رأيت النّبي صلى الله عليه وسلم قال بإصبعه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام وقال بعثت أنا والسّاعة كهاتين. ورويا عن أنس مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السّبابة والوسطى. أي ما بين مبعثه صلى الله عليه وسلم وقيام السّاعة شيء يسير كما بين الإصبعين من الطّول. مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه: ورويا عن أنس قال عند قرب وفاته ألا أحدثكم حديثا عن النّبي صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تقوم السّاعة، أو قال من أشراط

الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو الزنى ويذهب الرجال ويبقى النّساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم. وفي رواية: ويظهر الزنى ويقل الرّجال وتكثر النّساء. ورويا عن أبي هريرة أن من أشراط السّاعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشّح، أي يلقى البخل والحرص في قلوب النّاس على اختلاف أحوالهم هذا على سكون اللام (فَمَنْ يُلْقى) وعلى فتحه وتشديد القاف يكون المعنى يتلقى البخل ويتعلم ويدعى إليه ويتواصى به، قاله العتبي وصوّبه ابن الأثير. ولا يقال يلقى بمعنى يترك إذ لا يستقيم المعنى لأن المقام مقام ذم، ويكثر الهرج، قالوا وما الهرج يا رسول الله؟ قال القتل. هذا وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية 158 من سورة الأنعام المارة في ج 2. واعلم أن المراد برفع العلم ونقصه موت العلماء وقلة طلبه، لا أنه يرفعه من قلوب العلماء، لأنه أكرم من أن يأخذه ممن يمنحه إياه، يؤيده خبر: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا وإنما يرفعه بموت العلماء. ثم التفت إلى رسوله وخاطبه بقوله «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» ودم على ما أنت عليه من العلم بهذا التوحيد الخالص، وأعلم أمتك بالمداومة عليه وحثهم على التمسك به، وأن يعضوا على هذه الكلمة بالنواجذ وأعلمهم أن لا خلاص لأحد من عذاب الله إلّا بها، وحرضهم على أن لا يفقوا عنها، وخاصة عند مفارقتهم الدنيا، فمن مات عليها. اللهم أمتنا عليها، وقد وصفها بعضهم بقوله: مليحة التكرار والتنثى ... لا تغفلي عند الوداع عني «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» مما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» استغفر أيها الرّسول «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ» (19) أنت وإياهم في الدّنيا من جميع حركاتكم وسكناتكم وفي الآخرة يعلمه على درجاتكم فيها، وإنما أمر الله نبيه بالاستغفار تعليما لأمته، وإلّا فهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما سيأتي أوّل سورة الفتح الآتية، وذنبه عليه السّلام ليس كذنوب أمته لأنه منزه عنها، وإنما هي على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. روى مسلم عن الأعز المزني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنه ليغان على قلبي (أي يغطّى

[سورة محمد (47) : الآيات 21 إلى 30]

ويغشّى كما تغشّى السّماء بالغيم) حتى أستغفر في اليوم مئة مرة، وفي رواية توبوا إلى ربكم إني لأتوب إلى ربي عز وجل مئة مرة في اليوم، وروى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة. وفي رواية أكثر من سبعين مرة. وذلك بسبب ما أطلعه الله عليه من أحوال أمته بعده، فأحزنه ذلك حتى كان يستغفر لهم، أو لما كان يشغله النّظر في أمورهم ومصالحهم حتى يرى أنه اشتغل بذلك عن التفرد بربه، فيحزنه ذلك، فيستغفر ربه من أجل أمته، فعليكم باتباعه والتمسك بشريعته واهتدوا بهديه واتخذوه وسيلة لكم وحجة عند ربكم، وإياكم أن تسببوا لأنفسكم ما يكون به حجة عليكم. وتقدم البحث في هذا في الآية 65 من سورة الزمر المارة في ج 2 وفيها ما يرشدك لمراجعة غيرها. ولهذا البحث صلة عند قوله تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية 30 من سورة الرّعد الآتية. قال تعالى «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» تأمرنا بالجهاد حبا فيه وحرصا عليه، لأن فيه العزّ، فأجابهم بقوله «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ» في الجهاد غير متشابهة لا تحتمل تأويلا ولا تفسيرا «وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» وكلّ سورة فيها ذكر الجهاد من أشد القرآن على المنافقين، لذلك قال تعالى «رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» نظر شزر وكراهية تضجرا أوجبنا عن لقاء العدو، فتراهم شاخصي أبصارهم كأنهم يعانون سكرات الموت «فَأَوْلى لَهُمْ» (20) كلمة ذم ودعاء عليهم بالمكروه كما تقول ويلك قاربك ما تكره بمعنى التهديد ويقارب هذه الآية في المعنى الآية 7 من الأنفال والآية 77 من النّساء والآية 20 من الأحزاب المارات فراجعها. وهنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال «طاعَةٌ» لله ورسوله «وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» عند سماع كلامه بالإجابة أولى بهم من ذلك لو عقلوا وسكتوا «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» ودنى وقت الجهاد «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ» وآمنوا به وأخلصوا وجاهدوا مع رسوله ولم يخالفوا أمره ويخلفوا وعده ولم يكذبوا في قولهم «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» (21) من الإيمان الكاذب والقول الفارغ والنّكث بالعهد والطّاعة المزيفة. واعلم أنه لا يوجد في القرآن

غير سبع آيات مبدوءة بحرف الطّاء هذه وأول طه وأول الطّواسيم والآية 65 من الصافات و 24 من الدّخان قال تعالى «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» أيها المنافقون «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» عن سماع كلام الله واتباع أحكامه وطاعة رسوله فلعلكم «أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» كما كنتم في الجاهلية وتسلكوا طرق البغي وسفك دماء النّاس «وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» (22) كما يفعل غيركم من الكفرة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فأخذت بحقوي الرّحمن (الحقوه مشد الأزرار) فقال مه فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال فذالك لك. ثم قال صلى الله عليه وسلم اقرأوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. وفي رواية الرّحم شجنة (قرابة) من الرّحمن مشتبكة اشتباك العروق. ولهذا البحث صلة في الآية 23 من سورة الرّعد الآتية وقد بيّنا أول سورة النّساء وآخر الأنفال المارتين ما يتعلق في بحث الأرحام وأشرنا إليه في الآية 6 من سورة الأحزاب المارة أيضا فراجعها «أُولئِكَ» المفسدون في الأرض قاطعوا أرحامهم هم «الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» (23) عن طريق الحق وسبيل الرّشاد فتاهو في الحيرة التي أدت بهم إلى النّار «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» فيتأملون في معانيه ويتفكرون في مغازيه بحضور قلب فيعرفون زواجره ومواعظه ووعده ووعيده ورشده وتهديده، فلا يجسرون على مخالفة ما فيه، وينقادون لأوامره ونواهيه. ونظير هذه الآية الآية 81 من سورة النساء المارة، وهذا استفهام بمعنى التعجب من سوء حالهم وقبح تمردهم وشناعة جبنهم فقد تراكم الصّدأ على أفئدتهم وران عليها سوء فعلهم، ولهذا قال تعالى «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» (24) والقفل مثل لكل مانع للانسان من تعاطي الطّاعات كما أن قفل الدّار مانع من دخولها، وهذا من التكليف الذي لا يطاق، لأن المحل المغلق لا يمكن دخوله، والإيمان محله القلب فإذا ختم عليه وأغلق فمن أين يدخله؟ وهذا من الجائزات، لأن الله أمر من سبق علمه أن لا يؤمن بالإيمان، ولهذا فلا يقال كيف يمكنهم التدبر في القرآن وقد أصمهم الله وأعمى أبصارهم وختم على

قلوبهم؟ وأم هنا بمعنى بل، والهمزة للتقرير، وهو إعلام بأن قلوبهم مسكرة لا يصل إليها ذكر الله، وتنكير القلوب للدلالة على أنها قاسية لا تتأثر بالوعظ والزجر والمراد بها قلوب المنافقين، لأنها على هذه الصّفة. وتقدم في الآية 82 من النّساء ما يتعلق بهذا البحث فراجعه. وقيل في القفل لغزا: وأسود عار أنحل البرد جسمه ... وما زال من أوصافه الحرص والمنع وأعجب شيء كونه الدّهر حارسا ... وليس له عين وليس له سمع قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ» القهقرى ورجعوا كفارا «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى» وأصروا على ارتدادهم كان «الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ» بوساوسه حتى زين لهم القبيح ورأوا السّيء حسنا «وَأَمْلى لَهُمْ» (25) بامتداد الأمل وفسحة الأجل، ورغبهم في التمتع بالدنيا وحب الرّئاسة كما يفعل بعض الجهال الآن، ويقولون سوف نتوب، وما يحسون إلّا وقد باغتهم الموت فيتدمون ولات حين مندم. وقرىء وأملي بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء أي أمهلوا في العمر، ولا شك أن المملي هو الله تعالى، وإنما أسند إلى الشّيطان لمباشرته له فعلا، وإلّا فإن الله قادر على منعه، وهو الذي قدره على ذلك التسويل والإملاء واراده، وإلّا فإن كيد الشّيطان ضعيف لا يستطيع على شيء إلا بتقدير الله إياه كما تقدم غير مرة «ذلِكَ» الإملاء والتسويل «بِأَنَّهُمْ» أهل الكتاب والمنافقين «قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ» وهم المشركون «سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ» ونتعاون معكم على عداء محمد وأصحابه فلا نجاهد معهم ونقعد عن سراياهم ولا نكثر سوادهم، وهذه كلها من الأحوال التي يذكرها المنافقون فيما بينهم سرا ولا يعلمون أن الله تعالى يفضحهم ويخبر رسوله بها «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» (26) لا يخفى عليه شيء منها. وقرىء بكسر الهمزة أي ما يسره بعضهم لبعض. وبفتحها أي مكن في قلوبهم من ذلك ولم يفشوها بعد «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ» يكون حالهم حين «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» (27) إهانة له ويقرب من معنى هذه الآية 51، من سورة الأنفال المارة «ذلِكَ» الضرب «بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ» وهو عدم

[سورة محمد (47) : الآيات 31 إلى 38]

التعاون مع الرّسول وأصحابه «وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ» الذي هو التعاون لأن فيه رضاهم الذي هو من رضاء الله، ولهذا «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» (28) التي زعموا أنها تنفعهم عند الله لأن سيئاتهم هذه محقت ثوابها ومحته فلم تبق له أثرا. قال تعالى «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وشبهة ونفاق «أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» (29) التي في قلوبهم بل يخرجها ويبيّنها ليفضحهم بها «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ» يا سيد الرّسل «فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» وعلاماتهم «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» مقصوده ومغزاه وهو صرف الكلام من الصّواب إلى الخطأ وهو مذموم، وصرف الكلام من الخطأ إلى الصواب وهو ممدوح في اللاحن، أي فتكون كلمة اللّحن من الأضداد. قال أنس رضي الله عنه ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من أحوال المنافقين، وكانوا يهجنون ويقبحون ويستهزئون به وبأصحابه. قال تعالى «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» (30) فيجازيكم بمثلها «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» بشيء من التكاليف الشّاقة المحتملة الوقوع وغير المحتملة اختبارا وامتحانا «حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ» حقيقة «وَالصَّابِرِينَ» على البلاء «وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31) فنظهرها للناس ليعلموا كذبكم الذي تتظاهرون به مظهر الصّدق «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ» خالفوه وانشقوا عليه وتفرقوا عنه «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بأفعالهم هذه، وإنما يضرون أنفسهم «وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» (32) يمحقها ويحرمهم ثوابها بحيث يمحوها من صحائف أعمالهم راجع الآية 39 من سورة الرّعد الآتية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (33) مثل هؤلاء المنافقين بالرياء والسّمعة. زعم بعض المؤمنين أن لا يضرهم ذنب مع الإيمان كما لا ينفع عمل مع الشّرك فنزلت هذه الآية، ولا دليل فيها لمن يرى إحباط الطّاعات بالمعاصي، لأن الله تعالى قال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية الأخيرة من سورة الزلزلة المارة، ولا حجة فيها لمن لا يرى إبطال النوافل بأنه إذا دخل في صلاة أو حرم تطوعا لا يجوز له إبطاله، لأن السّنة مبينة

لكتاب الله، وقد ثبت في الصّحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم أصبح صائما، فلما رجع إلى البيت وجد حبسا فأكل منه، قالت الفقهاء إذا تلبس بالنفل من صوم أو صلاة أو غيرها فعنّ له أن يفطر فله ذلك وعليه القضاء، وإيجاب القضاء، وإيجاب القضاء لا يخالف الحديث قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ 24» حكم هذه الآية عام ولو أنها نزلت في أبي جهل وأضرابه أهل القليب في بدر حينما جاء ذكرهم بأن لهم أعمالا كإطعام الطّعام وصلة الأرحام وغيرها مما يفعله الجاهلية عادة لأن ما قدموه من خير وهم على كفرهم كافأهم الله عليه في الدّنيا ولم يبق لهم برّ ما يلاقون به وجه الله، وأين هؤلاء من لقائه، لأنهم يساقون إلى النّار على وجوههم «فَلا تَهِنُوا» أيها المؤمنون ولا تضعفوا إذا تخلف عنكم المنافقون أو ناوءوكم ليلجئوكم إلى الكف عن أعدائكم «وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» الصلح. منع الله المؤمنين في هذه الآية أن يطلبوا الصّلح من الكفار لئلا تلحقهم الذلة، وخاطبهم بقوله «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» عليهم «وَاللَّهُ مَعَكُمْ» بالنصر والغلبة والمعونة «وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ 35» لا ينقصها بل يوفّها لكم. هذا وقد أمر الله تعالى في الآية 62 من الأنفال بإجابة طلب الصلح من قبل الأعداء فراجعها لتقف على الفرق بين الطّلبين، وأن ما يفعله الأجانب من طلب الصّلح وهم غالبون ليس هو طلب صلح بمعناه الحقيقي، لأن الغالب لا يطلبه من المغلوب، وإنما هو عبارة عن تكليفهم بالإذعان لشروط شاقة يفرضها الغالب على المغلوب حين اشتداد البأس وإيناس الضّعف منه ليقبلها قسرا عنه وهو راغم أنفه، فلو كان صلحا بمعناه الحقيقي لما كان منهم طلبه عند الضّيق وبلوغ القلوب الحناجر، وإنما هو أشد وقعا من الحرب فيقبلونه وهم كارهون لئلا يقضى عليهم بالاستئصال، أما الصّلح زمن السّلم فلا يكون إلّا عن رضى وطيب نفس، لأن العاقبة مجهولة لدى الفريقين، لذلك فإن كلا منهم يرى الصّلح خيرا بحقه وهذا هو الفرق بين صلح السّلم وصلح الحرب. ثم زهّدهم الله تعالى في الدّنيا بقوله «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» فلا تغتروا بها «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا» فتعضدوا إيمانكم وتقووه بالتقوى «يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ» ربكم كاملة

يوم القيامة «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ 36» لقاء ما يعطيكم من الثواب بل يمنحكم أياما عفوا منه، لأنه تعالى يعلم بأنه «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها» بمقابلة ثوابه «فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا» بإعطائها والاجفاء المبالغة في كلّ شيء ومنه إحفاء الشّارب أي المبالغة في قصة وأحفى في المسألة إذا ألح فيها جهده، أي إذا استقصى عليكم بها أجهدكم بطلبها كلها، فلا بد أن تبخلوا، ولهذا جعل زكاة المال ربع عشره كي لا يبخل النّاس بها على فقراء الله فلا يعطوهم شيئا منها «وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ 37» ويظهر عداوتكم وبعضكم للانفاق لشدة محبتكم للمال المفروزة في قلوبهم عند الامتناع من الانفاق والله تعالى لا يريد ذلك منكم ولهذا خفف عليكم القدر الواجب لإنفاقه من أموالكم «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» أيها المخاطبون الموصوفون «تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» شطرا قليلا من أموالكم في وجوه البر والخير طلبا لمرضاته «فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ» فلا تسمح نفسه بانفاق شيء مما أنعم الله عليه به «وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» فيكون وباله عليها، أي من يمسك ماله فلم ينفنه في طرقه المشروعة، ولهذا عدّي الفعل بعن، ولا شك أن البخل خطة ذميمة موجبة للخزي والعار بالدنيا والعذاب والنّار في الآخرة، حتى أن العقلاء حذروا مخالطة البخيل ومشورته، فقالوا لا تدخلن في مشورتك بخيلا فإنه يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر. - راجع الآية 265 من البقرة المارة قالوا ولا جبانا فإنه يضعفك عن الإقدام، ولا حريصا فإنه يزين لك الشّره فالبخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظّن بالله، أجارنا الله منها «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ» عنا وعن صدقاتنا، وإنما أمرنا بالإنفاق لما فيه من النّفع لنا في الدّنيا والآخرة «وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» المحتاجون إلى ربكم أيها النّاس في كلّ أحوالكم، فإن فعلتم ما أمركم به نجوتم وكان خيرا لكم «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا» وتعرضوا عن الإنفاق بالكلية وعن طاعة الله ورسوله، فلا تفعلوا ما يأمركم به ولا تجتنبوا ما ينهاكم عنه «يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما ينهاهم عنه «ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ 28» بالبخل وغيره من عدم الامتثال في أمر الجهاد ومخالفة الرّسول فيها يأمركم وينهاكم. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال

تفسير سورة الرعد عدد 10 - 96 و 13

قال ناس من أصحاب رسول الله يا رسول الله من هؤلاء الّذين ذكر الله عز وجل إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالها؟ قال وكان سلمان بجنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضرب رسول الله فخذ سلمان فقال هذا وأصحابه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان متوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس- وفي رواية من هؤلاء وكان واضعا يده على سلمان رضي الله عنه- وهذا الحديث مكتوب على باب ضريح الإمام الأعظم أبي حنيفة النّعمان بن ثابت رضي الله عنه دفين بغداد إعلاما بأنه من أصحاب سلمان- أخرجاه في الصّحيحين-. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا آمين. تفسير سورة الرّعد عدد 10- 96 و 13 نزلت بالمدينة بعد سورة القتال سورة محمد عليه السّلام. وهي ثلاث وأربعون آية وثمنمئة وخمس وخمسون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى المر تقدم ما فيه أول الأعراف ج 1 وأول يونس ج 2 وفيها ما يشيران إلى ما انطوت عليه هذه الأحرف المقطعة ومرجع علم ما فيها إلى الله تعالى، قال عطاء معناه أنا الملك الرّحمن «تِلْكَ» الآيات المارة من أول ما نزل إلى هنا، وآيات هذه السّورة وما بعدها هي «آياتُ الْكِتابِ» العظيم الكامل المنسوخ عن اللّوح المحفوظ عند الله «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرّسل من القرآن هو «الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 1» بأنه الحق من عند الله ويقولون تقوله محمد. ويلهم أتى لمحمد أن يأتي بمثله وهو يعلم أن الذي أنزله عليه هو «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» أنتم أيها النّاس بأنها مرفوعة بلا عمد من تحتها وليس لها كلاليب من فوقها تمسكها، ويجوز أن يكون لها عمد غير مرثية لأن أحدا لم يرها.

مطلب في قوله تعالى بغير عمد. وفي قارات الأرض الخمس ومعجزات القرآن والمعقبات:

مطلب في قوله تعالى بغير عمد. وفي قارات الأرض الخمس ومعجزات القرآن والمعقبات: والآية تحتمل الوجهين فيجوز أن تقول بلا عمد البتة، أو بعمد ولكنها لم والله على كلّ شيء قدير «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» استواء يليق بذاته لا يعرفه خلقه راجع الآية 4 من سورة طه، ج 1 والآية 41 من سورة يونس ج 2 والآية 4 من سورة الحديد المارة «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» لمنافع خلقه «كلّ» منها «يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» هو انقضاء الدّنيا وخراب هذا يكون، وقد جعل جل شأنه لكل من الشّموس والأقمار والكواكب سيرا خاصا لجهة خاصة بمقدار خاص من السّرعة ومقياس خاص في البطء والحركة، راجع الآية 77 من سورة يس والآية 13 من سورة الإسراء في ج 1 «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» ملكوته ناسوته ولاهوته بمقتضى حكمته لا يشغله شأن عن شأن «يُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالة على وحدانيته وكمال قدرته «لَعَلَّكُمْ» أيها النّاس «بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ 2» إيقانا لا شبهة ولا ريب فيه. واعلم أن اليقين صفة من صفات العلم فوق المعرفة والدّراية وهو سكوت الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشّك لما ذكر الله تعالى الدّلائل السّماوية أردفها بالدلائل الأرضية فقال «وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ» بسطها بعد أن كانت مجتمعة ولا يعني بالبسط أنها كالكف بل بالنسبة لما نراه منها، فالنملة ترى البيضة حينما تمشى عليها منبسطة ونحن نرى ما تحتنا ما يلينا من الأرض منبسطا، وهذا لا ينافي القول بكرويتها إن كانت كروية وجعل فيها رواسي جبالا عظاما ثوابت تثقلها لئلا تطبش فتميد راجع الآية 9 من سورة لقمان ج 2 ففيها ما يتعلق بهذا وما يتعلق بالآية الثانية المارة من جود العمد وعدمه «وَأَنْهاراً» عذبة لمنافع خلقه «وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» ذكرا وأنثى أسود وأبيض مالح وباهت حلو حامض جليل وحقير كبير وصغير وما بينهما «يُغْشِي اللَّيْلَ» بضوء النّهار يغشي «النَّهارَ» بظلمة اللّيل «إِنَّ فِي ذلِكَ» الصنع البديع «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 3» بها ويفقهون المغزى فيها وما ترمي إليه فيستدلون بها

على عظمة خالقها ويعرفون ماهية أنفسهم، والفكر مقلوب الفرك، لأنه يستعمل في طلب المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا الوصول إلى حقيقتها والوقوف على ماهيتها. قال تعالى «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ» متقابلات متقاربات في الصّفة مختلفات في اللّون والإنبات طيبة وسبخة رخوة وصلبة محجرة ومتربة حصية ورملية فمنها صالح للزرع ومنها للشجر، ومنها ما ينبت نوعا خاصا من الأشجار والخضر، وما ينبت ويثمر شيئا منها ولا ينبت في الأخرى وما يعيش، ويوجد من الحيوانات في قطعة ولا يعيش ويوجد في الأخرى، فقد يوجد في آسيا مالا يوجد في استراليا، ويوجد في إفريقيا مالا يوجد بأمريكا وبالعكس، وهكذا أوربا من حيث الجمع لا الانفراد، لأن هذه القارات الخمس وهي في الحقيقة سبع لأن آسيا تقسم إلى قسمين وأمريكا كذلك، وقد يختلف نباتها وثمارها وحيواناتها ومخلوقاتها في اللّغة واللّون والأخلاق تختلف أيضا، فسبحان من أودع في كل ما هو صالح له، وفي كلّ قلب ما أشغله «جَنَّاتٌ» فيها مختلفة الصّفات بحسب طبايع أرضها وكلّ أرض ذات شجر يجنّها أي يسترها تسمى جنة، ولكن شتان بين هذه وجنّات الآخرة على حد قوله: ولن يتساوى سادة وعبيدهم ... على أن أسماء الجميع موالي ثم بين أشجار هذه الجنان بأنها «مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ» كل منها مختلفة في النّوع والشّكل والهيئة، وكلّ منها «صِنْوانٌ» الصنوان الشّجرات المتعددة من أصل واحد واحده صنو «وَغَيْرُ صِنْوانٍ» شجرة منفردة بأصلها، فالأشجار المجتمعة بأصلها أو برأسها كالنخل لأنه قد يتفرع له في رأسه فروع تصير كالنخلة المتفرعة من الأصل وتحمل ثمرا أيضا، وهذا كثير مشاهد ويسمى صنوان وقد بينا في الآية 99 من سورة الأنعام في ج 2 الكلمات التي هي على وزن صنوان فراجعها تقف على أصلها وجمعها، وانظر أيها الإنسان إلى عظيم قدرة ربك أن تلك الأشجار كلها «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» أي الطّعم فمنها الحلو والحامض والمز والمر وغير ذلك، وكذلك في الرّائحة واللّون والشّكل كالإنسان، منه الخبيث والصّالح والأحمر والأسود

والحسن والقبيح وما بينهما وهم من أب واحد «إِنَّ فِي ذلِكَ» الخلق العجيب والاختلاف الغريب الذي يبهر العقول ويكل عن فهمه المعقول والمنقول ويعجز عن إدراكه الفحول «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 4» تلك المعاني ويتدبرون مغزاها ومرماها ويتفكرون في تلك القدرة العظيمة «وَإِنْ تَعْجَبْ» أيها الإنسان الكامل من هذه المكونات البديعة النّاشئة عن قدرة الله البالغة، فحق لك أن تعجب لأنه مما يوجب العجب، ولكن إنكار الكفرة للبعث مع اعترافهم بأن الله خلقهم على غير مثال سابق أكثر عجبا من هذا لأنه كله دون قدرة القادر، ولأن إعادة الشّيء أهون وأيسر من إبداعه، ولهذا «فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ 5» فقولهم هذا هو الذي يجب أن تتعجب منه لا ذلك. واعلم أن العجب في حقّه تعالى محال لأنه حالة تغوي الإنسان، وتعرض له عند الجهل بالسبب، للشيء المتعجب منه، لأن النّفس تستبعد رؤية مالا تعرف سببه، وتتنزه ذات الله تعالى عن تلك «أُولئِكَ» الّذين ينكرون لبعث هم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» لإنكارهم قدرته «وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ» يقادون فيها كالأسرى إلى النّار يوم القيامة هوانا بهم، ولكن بين إهانة الأسرى المنقطعة وإهانتهم الدّائمة في الوصف والكيفية فرق عظيم «وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 5» وفي تكرار كلمة أولئك دلالة على عظم الأمر والهول والتعجيب. قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» وذلك أنه صلّى الله عليه وسلم كان حينما يخوفهم عذاب الله يستهزئون به يقولون هات ما تنذرنا به إن كنت صادقا، وحينما يبشرهم بما عند الله للمؤمن كانوا لا يلتفتون إليه، وقد قص الله تعالى عنهم قولهم قبلا (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) الآية 32 من سورة الأنفال المارة، ولم يقولوا لكثافة جهلهم اللهم اهدنا إليه «وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ» النقم التي أوقعناها بالأمم الماضية جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء أو بفتحها جمع مثل هو ما ضربه الله لأمثالهم من الكفرة الأقدمين ليتعظوا فلم ينجع بهم ولم يرتدعوا «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ» أنفسهم وغيرهم. قال

السدي هذه أرجى آية في القرآن لذكر المغفرة مع الظّلم بدون التوبة راجع الآية 85 من سورة الإسراء ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث «وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ 6» لمن يموت على كفره «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» هلا «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ» على الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلم الذي يدعونا إلى دينه «آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» يقنعنا بها كآية صالح أو موسى وغيرهما يريدون شيئا محسوسا فقال تعالى لرسوله لا ترد عليهم «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» لهم سوء عاقبة الكفر ومبشر بحسن نتيجة الإيمان «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» يهديهم بما أرسل إليه من ربه إلى دينه القويم بالطرق التي أمره بها ربه لا بما يريدون ويتحكمون، لأن الله تعالى لم تجر عادته أن ينزل الآيات على حسب اقتراح الكفرة، وإنما ينزلها بإرادته ومشيئته على من يريد من عباده، أما ناقة صالح عليه السّلام فكانت بمراد الله وتقديره في أزله أنهم يطلبونها من نبيهم فيعطونها، وما عموم إلّا وخص منه البعض مثل رفع العذاب عن قوم يونس راجع الآية 98 من سورته في ج 2. ثم شرع جل شأنه يقص عليهم من عظائم قدرته وبالغ علمه بما يغنيهم عن الآيات إذا عقلوا فقال جل قوله «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى» هل هو كامل الخلق أو ناقصه حسن أم دميم طويل أو تصير ذكر أو أنثى يعيش أو لا يعيش عالم أو جاهل غني أو فقير ويعلم مدة حمله وعيشه في الدّنيا ورزقه وأجله وكلّ ما يقع منه وما يؤول إليه أمره في الدّنيا والآخرة، وهذا العلم مما استأثر به نفسه المقدسة وقد عجز الحكماء عن معرفة شيء من ذلك حتى الآن، ولا يزالون عاجزين إلى الأبد، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج 2 تجد ما يتعلق في هذا البحث بصورة واضحة «وَما تَغِيضُ» تنقص «الْأَرْحامُ» تسقطه من الحمل يعلمه متى يكون «وَما تَزْدادُ» عن الواحد ومن نقص الأرحام والحيض زمن الحمل فإنه ينقص غذاء الجنين فيخرج ضعيفا، قال أبو حنيفة رحمه الله لا تحيض المرأة حال حملها لأن الله تعالى أجرى عادته بانسداد فم الرّحم بالحمل وما تراه الحامل من الدّم فهو استحاضة ودم الاستحاضة يكون من مرض وشبهه فيسبب ضعفا بالحامل فينشأ عنه ضعف الجنين، وقد تسقطه، وقد يخرج ناقص الخلقة ويولد لأقل من تسعة أشهر،

والزيادة عكس هذه الأشياء، ومن الزيادة زيادة الأصبع وشبهه، وقد يكون اثنان برأس واحد، ورأسان بجثة واحدة، يخلق ما يشاء «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» (8) لا يتجاوزه، فالقادر على هذه الأشياء وتمحيصها هو «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) » على مخلوقاته تشير هذه الآية الكريمة إلى الأوزان الكيماوية التي لم تكشف إلّا بعد وقوف علماء أوريا الدّنيويين على أصول تحليل العناصر وتركيبها، واطلاعهم على أن لكل عنصر موجود في هذا الكون مقدارا محدودا، وأنه يستحيل أن يتركب جسم من الأجسام إلّا على مقادير معينة منها الماء، فإن تركيبه الكيموي؟؟ لتركبه على نسبة ثمانية أو كسجين إلى واحد هدروجين وهذه النّسبة لا تزيد ولا تنقص، فلو نقص من أحدهما عشر معشار الدّرهم لا يتولد الماء، وإن زدنا على أحدهما يحصل التركيب على القدر الذي قدره لهما والزائد يبقى معلقا والتولد سر خفي يسمى الألفة الكيمياوية، ولما كان أمرها غامضا لم يقف ولن يقف على كنهها واقف للاشارة إليها بقوله (عالِمُ الْغَيْبِ) بعد قوله (اللَّهُ يَعْلَمُ) لان استحالة تكون الجنين ومعرفة كنه تولد الأرحام سواء. ولكبير أهمية مقادير العناصر ذكرها الله سبحانه في قوله الجليل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الآيتين 21 و 22 من سورة الحجر في ج 2 إذ لو زاد أو كسجين أهواء لهاجت النّفوس واضطربت أو زاد نتروجينه لاعتراها الموت، فالحكمة الإلهية جعلته مزيجا منها على قدر معين محدود بحيث تلطفت حرارة الأوّل ببرودة الثاني، فتأمل معجزات القرآن العظيم وانظر هل كان إبان نزوله من يعرف هذا غير منزله؟ وهناك معجزات أخرى لم تختمر بعد في العقول لتظهر للملأ وصدق الله في قوله العزيز (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية 38 من الأنعام في ج 2 وفي كلّ ما جاء عنه في كتبه وعلى لسان رسله ورحم الله الأبوصيري حيث يقول: آيات حق من الرّحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم فلا تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالسام

[سورة الرعد (13) : الآيات 11 إلى 20]

وإذا أردت أن تقف على الموزونات راجع الآيتين المذكورتين آنفا في سورة الحجر قال تعالى «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» عند الله لا فرق بينهما لديه «وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (10) ذاهب على وجه الأرض، والسّرب بفتح السّين وسكون الرّاء هو الماشية كلها والطّريق وبالكسر لقطيع من النّساء والظّباء وبفتحتين الحفرة تحت الأرض والقناة وجاء في الحديث (آمنا في سربك) أي أهلك، والمعنى أن كلّ ذلك عند الله سواء لا يختلف عنده حال عن حال فالسر والعلانية والخفاء والظّهور عنده سواسية «لَهُ» لذلك الإله العظيم «مُعَقِّباتٌ» ملائكة يتعاقبون ليل نهار «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» من أمام كلّ عبد من عبيده «وَمِنْ خَلْفِهِ» ورائه «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» قدره وقضائه بأمر الله وإذنه، ومعقبات جمع معقبة، ومعقبة جمع عاقب، ولا يستدل بهذا أن الملائكة إناث كما زعم البعض، لأن جمع الجمع مثل رجالات جمع رجال ورجال جمع رجل، والملائكة لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة. وعلى هذا الحديث. وقوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية الثالثة من سورة الأنبياء في ج 2، جاءت لغة (أكلوني البراغيث) على أن يكون الواو في الفعل ضمير جمع فقط والفاعل البراغيث، كما أن الملائكة في الحديث (والّذين في الآية) هما الفاعل، والواو في الفعلين ضمير جمع فقط أي يحرسونه بالليل والنّهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الّذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي، فيقولون تركناهم وهم يصلون، وآتيناهم وهم يصلون، وهذه الآية عامة، لأن الله تعالى وكلّ بكل نفس من من يحفظها من ملائكته. وروي عن ابن عباس وغيره لما جاء عامر بن الطّفيل وزيد بن ربيعة من بني عامر بن زيد قال عامر يا محمد مالي إن أسلمت؟ قال لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم (ومن هنا يعلم أن ليس لأحد أن يشترط على إمام المسلمين شرطا يتميز به عن بقية المسلمين) قال تجعل الأمر لي من بعدك؟ قال ليس ذلك لي إنما هو لله تعالى يجعله حيث يشاء، قال فتجعلني على الدّبر أي البادية؟

أنت على المدر أي المدن؟ قال لا، قال فما تجعل لي؟ قال أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها، قال أو ليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه صلّى الله عليه وسلم لانه كبير قومه وأوعز إلى رفيقه زيد (أو أريد أخي لبيد) إني إذا كلمته قدر خلفه واضربه بالسّيف، فجعل عامر يخاصم الرّسول ويراجعه، فجاء زيد أو أربد واخترط السّيف ليضربه فلم ينسل، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرآه ماسكا قبضة السيف ومسلول منه قدر شبر، فقال اللهم اكفتيهما بما شئت، فأرسل الله صاعقة على زيد في يوم صحر فأحرقته، وهرب عامر وهو يقول والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا لأنك دعوت ربك فقتل صاحبي زيدا، فقال الله يمنعني فخرج خراج أصل أذن عامر وهو في بيت امرأة سلولية وصارت له غدة كغدة البعير، ركب جواده وجعل يركض في الصّحراء، ومات على ظهره. وهذه معجزتان صلّى الله عليه وسلم وأنزل الله (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) الى السّجدة الآتية قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ» من النّعم والعافية التي أنعم بها على هذين الخبيثين وغيرهم لأن المعنى عام وخصوص السّبب لا يقيده ولا يخصصه «حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» من النية والعمل الحسن إلى النّية السّيئة والعمل القبيح فيبدل الله نعمهم نقما وصحتهم سقما وخيرهم شرا وتوفيقهم خذلانا وكثرتهم قلة وخصبهم جدبا وعزهم ورياستهم ذلا ومهانة كما فعل بعامر ورفيقه زيد الّذين أرادا أن يمكرا بحضرة الرسول ويغدرا به فحنظه الله وأهلكهما أي أن الله تعالى لا يزال مديما نعمه عباده حتى يتسببوا لانقطاعها «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً» من الأسواء فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (11) بلي أمرهم غيره. مطلب في البرق والصّواعق والتسبيح والسجود والفوق بين العالم والجاهل: ولما خوف الله عباده في هذه الآية ذكر شيئا من عظيم قدرته بشبه النّعم من وجه والعذاب من آخر فقال جل قوله «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً» من نزول الصّواعق «وَطَمَعاً» بنزول الغيث قال أبو الطّيب: فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... يرجى الحيا منه وتخشى الصّواعق وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» (12) بالغيم والسّحاب الملئان بالماء ويقال سحاب جهام للخالي من الماء كما يقال خلّب للخالي من المطر «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ

بِحَمْدِهِ» هو الصّوت الخارج بعد البرق، والبرق هو اللّمعان الحاصل من خلال السحب عند تراكمها وتصادمها بعضها ببعض، ولما كان كلّ شيء يسبح بحمد الله كما مر في الآية 44 من الاسراء في ج 1 وفي الآية الأولى من سورة الحديد المارة، وبما أن الرّعد شيء أيضا فيسبح الله كسائر الأشياء «وَالْمَلائِكَةُ» تسبح مِنْ خِيفَتِهِ» أيضا «وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ» الشعل الغارية الكهربائية الحاصلة من الرعد «فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ» من خلقه فيهلكهم كما أهلك زيد المذكور آنفا «وَهُمْ» والحال ان الّذين يكذبون رسول الله «يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ» وينكرون على رسوله قدرته على بعث الخلق بعد الموت ويتخذون معه شركاء بعد صدور هذه الآيات ولا يخشونه وهو القوي العظيم «وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» (13) المكر والكيد لأعدائه حيث يأتيهم بما يدمرهم من حيث لا يحتسبون ولا يعرفون ولا يقدرون على رده، وهذه اللّفظة لم تكرر في القرآن «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ» المجابة من الحق لأنها دعوة حق من الرّسول على عامر وزيد لتجاوزهما عليه صلّى الله عليه وسلم وإرادتهما اغتياله بطريق الغدر بلا سبب «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أوثانا مما اتخذوه وعبدوه من دون الله كعامر وزيد وغيرهما من الكفرة، والآية عامة في كلّ من يدعو من دون الله «لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ» يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا «إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ» أي إلّا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه على بعد منه يطلب منه المجيء «لِيَبْلُغَ فاهُ» فيدخل في فيه ليشربه وهو جماد من حيث عدم النّطق والفهم، كما أن الماء جماد من هذه الحيثية لا يشعر ببسط الكفين ولا يعلم بما يراد منها ولا بالعطش، لذلك يقول الله تعالى «وَما هُوَ بِبالِغِهِ» لأنه لا يفهم ولا يقدر أن يجيب دعاءه، فمثل الّذين يدعون من دون الله لدفع ما يهمهم دفعه وجلب ما يهمهم جلبه مثل هذا الجماد لا يعي ما يراد منه ولا به، لأنه لا يفهم ولا يقدر على الاجابة، فلا يركن إلى أمثال هذا إلّا الكافر الذي لا يعتقد بالله، ولهذا فلا يستجاب دعاؤه لكفره «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ» أوثانهم «إِلَّا فِي ضَلالٍ» (14) عن طريق الحق وهباء لا قيمة له. ونظير هذه الجملة آخر الآية 50 من سورة المؤمن في ج 2

وذلك لأن أصواتهم منصرفة إلى أوثانهم وهي لا تجيبهم لأنها محجوبة عن الله تعالى لعدم دعائهم إياه ولأنهم يأنفون من السّجود لعظمته «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً» واختيارا رغبة ورضى وشوقا كالملائكة والرّسل والمؤمنين المخلصين «وَكَرْهاً» جبرا وقسرا رغم أنوفهم كالكفار والمنافقين عند نزول الشّدائد بهم، ولكن لا فائدة لهم من ذكره لأنهم لا يرجون له ثوابا ولا يعتقدون به، وإنما يخضعون لله حال الضّيق والمحنة فقط «وَظِلالُهُمْ» تسجد لعظمته أيضا تبعا لهم. والضّمير فيه يعود ان في الأرض، لأن من في السّماء لا ظل له «بِالْغُدُوِّ» من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس والغدوة والغداة منها إلى نصف النّهار «وَالْآصالِ» (15) جمع أصيل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، هذا ويجب على من قرأ هذه الآية ومن سمعها السّجود لله تعالى كما مر في الآية الأخيرة من سورة والنّجم في ج 1 «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الّذين لا يعرفون الله تعالى إلّا عند نزول البلاء بهم ولا يدعونه إلّا عند اشتداد الأزمة رسلهم «مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن لم يجيبوك عتوا وعنادا فأنت «قُلِ اللَّهُ» لأنهم يتلعثمون عند قول الحق ويترددون عن الإجابة عنه، وإذا قالوه يقولونه جبرا، ثم «قُلْ» توبيخا لهم لاتخاذهم أوثانا يزعمون أنها تشفع لهم «أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» لأموركم أصناما «لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» فما فائدتكم منهم بعد أن علمتم أن مالك الضّر والنّفع هو الله لا غير، ومما يدل على تمام معرفتهم به أنه يملك ذلك ويملك الحياة والموت والخير والشر، إنهم يدعونه عند الشّدة، ومن جهلهم وحمقهم يعرضون عنه عند الرّخاء قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور» فبالطبع يقولون لا، فقل لهم كما لا يستوي هذان الصّنفان، لا يستوي الكفر والإيمان الوثن والرّحمن، راجع الآية 21 من سورة فاطر في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا البحث «أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ» سماء وأرضا وشمسا وقمرا وإنسا وجنا وملائكة ووحشا وأنهارا وبحارا «فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ» الخلق الذي خلقه شركاؤهم فلم يميزوا بين خلق الله وخلق أوثانهم، كلا لم تخلق

شيئا ما، فيا سيد الرّسل «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» وما يعمله خلقه من خلقه «وَهُوَ الْواحِدُ» المتفرد بالخلق «الْقَهَّارُ» (16) لكل شيء لا أوثانهم العاجزة عن حفظ نفسها وهذا الإله الجليل هو الذي «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ» به «بِقَدَرِها» الذي علمه قبل نزوله «فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً» رغوة بيضاء قيقاء تشبه الزبد منتفخة مرتفعة على وجه السيل وهذا مثل ضربه الله تعالى لعباده بمثل آخر وهو «وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ» من الذهب والفضة «ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ» لا تكون إلّا منهما، وإنما أعيد الضّمير إلى الذهب والفضة مع عدم ذكرها للمعلومية، راجع قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية 32 من سورة ص في ج 1 فيما يتعلق بهذا الضّمير لأن الحلية لا تكون إلّا منهما، أما الأحجار الكريمة التي يتحلى بها فلا توقد، عليها النّار، لذلك لا يتصور إعادة الضّمير إليها «أَوْ مَتاعٍ» آخر من غيرهما كالحديد والنّحاس والرّصاص وكلّ ما يذاب مما يتخذ منه الأواني وما يتمتع به فيكون له «زَبَدٌ مِثْلُهُ» مثل زبد الماء بسبب غليانه على النّار، ولا دخل للأحجار الكريمة في هذا أيضا، لأنها لا تذاب على النّار «كذلك» مثل هذا المثل «يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ» الذي ينتفع به مثل الماء والذهب وبقية المعادن المنطبعة «وَالْباطِلَ» الذي لا ينتفع به كرغوة الماء وخبث المعادن المعبر عنها بالزبد المعبر عنه بقوله عز قوله «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً» متلاشيا لا فائدة فيه «وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ» كالماء الصّافي وجوهر المعادن المذكورة التي يتزين بها «فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» وعلى النّاس «كَذلِكَ» مثل هذا الضّرب «يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» (17) ليعتبر خلقه بها قال تعالى «لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ» ما دعاهم إليه «الْحُسْنى» الجنّة إذ لا أحسن منها مقعدا ولا أهنا منها مشربا، ولا أمرا منها ماكلا، فنعمة الجنّة مكافأة لهم وجزاء «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ» دعاءه هم النّار والدّمار وحين يعانون عذابها يتمنون «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ» مما يلاقونه من هولها ولكن ليس لهم ذلك، ولو فرض أنهم يملكونه وأرادوا أن يفتدوا به

[سورة الرعد (13) : الآيات 21 إلى 30]

لما قبل منهم «أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ» عند رب الأرباب في الموقف العظيم «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» (18) هي لأهلها وقبح المأوى وأسوا المنقلب وأسام المرجع. قال تعالى «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» فيذعن إليه ويؤمن به «كَمَنْ هُوَ أَعْمى» باق على كفره، كلا لا يستويان «إِنَّما يَتَذَكَّرُ» بآياتنا وينفاد إلى طاعتنا «أُولُوا الْأَلْبابِ» (19) الواعية «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ» المأخوذ عليهم بالأزل «وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ» (20) الذي واثقهم عليه «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» كأرحامهم وجيرانهم الفقراء وإخوانهم المسلمين ويراعون حقوق زوجاتهم وخدمهم ورفقائهم في الحضر والسّفر والغيبة والحضور «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» (21) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا «وَالَّذِينَ صَبَرُوا» على المصائب والمشاق أملا بما لهم عند الله من الخلف والثواب «ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» لا ليقال إنهم صابرون ولا لقساوة في قلوبهم ولا لعدم محبة بالمفقود والمصاب «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» طلبا لمرضاة الله تعالى فوق صبرهم على المصائب وعلى القيام بأوامر الله «وَيَدْرَؤُنَ» يدفعون «بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» الواقعة عليهم من الغير، فإذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا، وإذا أذنبوا استغفروا وتابوا واسترضوا خصومهم بما شاؤه ولو بالقصاص منهم «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصّفات التسع المارة «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (22) المحمودة وهي «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» يقيمون فيها يوم القيامة هم «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» تبعا لهم وتكميلا لفرحهم وتعظيما لشأنهم وتكريما لهم. وفي هذه الآية دلالة على أن الصالح يشفع بأتباعه، وهو كذلك. مطلب ينتفع الميت بعمل غيره وبصلة الوفاء والصّدقات ويجوز قضاء حجه وصومه من قبل أوليائه وفي ذكر الله تعالى وصلة الرّحم: وهذا دليل على أن سعي الغير ينفع كما ذكرناه في الآية 38 فما بعدها من سورة النجم ج 1، والآية 87 من سورة الأنعام، والآية 8 من سورة غافر، والآية

21 من سورة الطّور في ج 2، هذا ويؤكد هذا المعنى ما أخرج في الصّحيحين أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أمي افتلت (ماتت على حين غفلة) وأظنها لو تكلمت لتصدقت، فهل لها أجر ان تصدقت عنها؟ قال نعم. وقد أجمعت العلماء على أن الصّدقة تنفع الميت ويصله ثوابها، وأجمعوا على وصول الدّعاء إليه وقضاء الدين والحج عنه، ورجحوا جواز الصّوم عنه أيضا إذا كان عليه صوم استنادا على ما ورد من الأحاديث في ذلك، وأن حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ... لا ينفي وصول عمل الغير كما جاء في شرح هذا الحديث وغيره من أقوال العلماء العاملين، والله أعلم «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ 23» من أبواب الجنّة يسلمون عليهم زيادة لسرورهم وتحيتهم التي يؤدونها لهم عند دخولهم عليهم هي «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» على المحن في الدّنيا «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (24) دارهم هذه دار الكرامة ولما ذكر العداء وما وعدهم الله به من الخير والاستيفاء وما أوعدهم الله به من الشّر. قال جل قوله «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» مما ذكر آنفا «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» علاوة على تلك المثالب «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 25» والعياذ بالله، وإذا كان هذا مصيرهم فلا تنظروا إلى ما هم فيه في الدّنيا من السّعة وما هم عليه من الصّحة لأن عاقبتهم وخيمة، راجع الآية 22 من سورة محمد المارة فيما يتعلق في هذه الآية وما قبلها، والآية 27 من سورة البقرة أيضا. قال تعالى «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» يضيّق على من يشاء «وَفَرِحُوا» ابتهج هؤلاء «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» ولذاتها وشهواتها «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ» أي بالنسبة إليها «إِلَّا مَتاعٌ» (26) قليل فان كعجالة المسافر «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» مع هذه الآيات العظام «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» عنادا ليس إلا، إذ ما بعد كلام الله آية، ولا تضاهي آياته آية، فيا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء العتاة «إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» مع وجود الآيات «وَيَهْدِي» من يشاء ويقرب «إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» (27)

إليه ورجع عن غيه دون آية ما بالنظر إلى أصل الخلقة ولما هو مدوّن في علمه تعالى، وهؤلاء المنيبون هم «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» وحده، المعرضون عما سواه، وعما يقترحه الكافرون من طلب المعجزات «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28) الطاهرة ويستقر إليه يقينهم، فهلموا أيها المؤمنون لذكره إذا أردتم الهداية. ثم وصف المهتدين في الوفاء وصلة الرّحم وانهم هم «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» المطمئنة قلوبهم لذكر الله «طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» (29) في الآخرة، وطوبى مبالغة الطّيب كالحسنى مبالغة لأحسن ويعبر عنها بالجنة أو شجرة عظيمة فيها. وبما أنا وعدنا في تفسير الآية 22 من سورة القتال المارة بذكر ما يتعلق بصلة الرّحم فإنا نورد هنا ما عنّ لنا بيانه وتبسر لنا تبيانه. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أخاديد (غدران تمسك الماء كالبرك) أمسكت الماء نفع الله بها النّاس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، بذلك مثل من فقه في دين الله وفقه ما بعثني الله به فتعلم وعلّم، ومثل من لم رفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرّحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله. وأخرج الترمذي وأبو داود عن عبد الرّحمن بن عوف قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشفقت لها اسما من اسمي (يريد جل جلاله الرّحمن الرّحيم) فمن وصلك وصلته ومن قطعك قطعته أو قال بتّته (البتّ أقصى غاية القطع والقطع الذي لا وصل بعده) وروى البخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال من سره أن بسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه. ورويا عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنّة قاطع رحم. ورويا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليس الواصل بالمكافىء (أي المقابل

يعني إذا زاره رحمه كافأه بزيارته) ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها (يريد عليه الصّلاة والسّلام أنه يزور رحمه وإن لم يزره هو لأن المقابلة بالزيارة مكافأة، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ أي لا يبعد هذا صلة كاملة وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرّحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأجل. وروى البغوي بسنده عن عاقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن مثل الذي يعمل السّيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل اخرى حتى خرج إلى الأرض. وفي هذا الباب أحاديث كثيرة بضيق النّطاق عن ذكرها هنا، ويكفي أن الله تعالى يظن واصل رحمه بظله المبين فيما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في الجنّة شجرة يسير الرّاكب في ظلها مئة عام لا يقطعها. ومثله عن أبي سعيد الخدري بزيادة الجواد المضمر السّريع. ومثله عن أبي هريرة وذكر فيه (سنة بدل عام) وإقرارا إن شئتم وظل ممدود الآية 31 في سورة الواقعة في ج 1 راجع هذه الآية في معناه وأما ما يتعلق بنقض العهد وإبرامه، فراجع فيه الآية 34 من سورة الإسراء في ج 1 والآية 42 من سورة النّحل ج 2 قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما أرسلنا قبلك يا محمد رسلا إلى الأمم الماضية لأجل إرشادهم وتعليمهم أوامرنا ونواهينا وتفهيمهم قدرتنا «أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» كما تلت أولئك الرّسل الأقدمون على أقوامهم ما أوحيناه إليهم فيما لهم وعليهم «وَهُمْ» والحال أنهم الكافرون المذكورون «يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» الإله البالغ الرّحمة المنتهى الرّأفة الذي من رحمته ورأفته أرسلك إليهم. وضمير يكفرون يعود إلى القائلين (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) الآية 27 المارة وما قيل أن هذه الآية نزلت في أبي جهل إذ قال إن محمدا يدعو بالحجر إلهين الله والرّحمن (المراد بالحجر هنا حجر إسماعيل عليه السّلام المقابل للبيت من جهة الميزاب) أو أنها نزلت في سهيل بن عمرو حين كتابة معاهدة الحديبية. حينما قال له حضرة الرّسول اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال

[سورة الرعد (13) : الآيات 31 إلى 40]

سهيل لا نعرف الرّحمن الرّحيم، لا نعرف إلّا رحمن اليمامة، فهما قيلان لا مستند لهما لأن أبا جهل قتل في حادثة بدر قبل نزول هذه الآية بخمس سنين، وهذه السّورة كلها مدنية، ولم يستثن منها أحد هذه الآية ولا غيرها على القول الصّحيح، ولأن سهيل بن عمرو لم يأت المدينة ولم يقل أحد بأن هذه الآية نزلت عند حادثة الحديبية التي وقعت قبل نزولها بأكثر من سنة «قُلْ» يا سيد الرّسل أن الرّحمن «هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ» (30) أصلها متابي حذف الياء منها للتخفيف أي مرجعي إليه، لأن تاب بمعنى رجع قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ» فصارت تمرّ مرّ السّحاب «أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ» فتفجرت عيونا منهمرة بالماء «أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى» فأحياهم ونطقوا بما رأوا، كما رفع الطّور لموسى، ومثل ضربه الحجر فتفجر بالماء، وما وقع لعيسى من احياء الموتى وكلامهم، لكان هذا القرآن جديرا بذلك وقمينا به، لأنه على جانب كبير من الإعجاز، وغاية بالغة من التذكير، ونهاية عالية بالتخويف. وليعلم أن ليس لهؤلاء الخوض بالاقتراح «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» إن شاء أظهر على يد رسوله ما اقترحوه، وإن شاء لم يظهر بحسب ما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وهذه الآية الباهرة متعلقة بقوله تعالى (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) المارة. وما قيل أنها نزلت في كفار مكة كأبي جهل وأضرابه حين قالوا لحضرة الرّسول إن سرك أن نتبعك فسيّر جبال مكة إلخ لا يصح لما تقدم من التعليل، ولأن هذا مرّ القول فيه في الآية 93 من الاسراء والآية 7 من الفرقان في ج 1 فراجعه إن شئت. قال تعالى «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا» أي (أفلم يعلم) وعليه قوله: أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم أي ألم يعلموا وقول الآخر: ألم ييأس الأقوام اني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا أي ألم يعلم. «أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» ولكنهم علموا باعلام الله إياهم أنه لم يشأ لذلك فهم آيسون من هداية كلّ النّاس ومقطوع أملهم من ذلك «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ» هذه الدّاهية

«قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ» فتقرع قلوبهم وتفطرها ولا يزالون فزعين من تأثيرها «حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ» بنصرك عليهم أو إهلاكهم أو ايمانهم «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» (31) الذي وعدك به يا سيد الرّسل من ظفرك بهم فلا يهولنّك تكذيبهم لك وسخريتهم بك «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» من قبل قومهم كما استهزأ بك قومك الكفرة «فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» بإطالة المدة وزيادة النعم حتى ظنوا أنهم على خير «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» على غرة وغفلة بعذاب عظيم إذ لم ينتفعوا بالإمهال وعاقبتهم «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ 32» لو رأيته أيها الإنسان لهالك أمره وأهابت بك فظاعته. واعلم أن المراد بالّذين آمنوا الواردة في منتصف الآية 31 السّالفة الرّسل وأتباعهم الّذين يحرصون على إيمان النّاس ويريدون أن يكونوا كلهم مؤمنين، وعلى هذا يجوز أن يكون فعل ييأس على ظاهره دون حاجة لتأويله بيعلم، وعلى هذا يكون المعنى ألم ييأسوا من هداية كل النّاس وقد قدمنا لهم عدم إمكانه وفقا لما هو ثابت في علمنا ومقدر بأزلنا راجع الآية 120 من سورة هود في ج 2. فيا سيد الرّسل قل لهم على طريق الاستفهام «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» مثل هذا الإله العظيم كمن هو عاجز عن حفظ نفسه مثل الأوثان؟ كلا، ليسوا سواء، ولكن هؤلاء الكفرة سوّوا بينهم «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» من تلقاء أنفسهم تقليدا لما ابتدعه أسلافهم «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «سَمُّوهُمْ» من هم ونبؤوني بأسمائهم إن كنتم ثابتين على قولكم «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ» جل جلاله «بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ» وهو عالم بما فيها وبما في السّماوات وليس فيها شركاء له «أَمْ» تتمسكون «بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ» الذي تلقيتموه عن أسلافكم بأن لله شريكا دون دليل أو حجة أو برهان، كلا لا هذا ولا ذاك «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ» في المسلمين وكيدهم لهم بما ألقى الشّيطان في قلوبهم من وساوسه ودسائسه «وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ» الموصلة للرشد فضلوا عن الهدى «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» (33) يهديه البتة والّذين هذه صفتهم وماتوا عليها «لَهُمْ عَذابٌ» شديد لا تطيقه قواهم، «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» قتلا وأسرا

وجلاء وذلة ومهانة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ» المخبوء لهم يا سيد رسلنا وأكمل خلقنا «أَشَقُّ» وأعظم من ذلك حيث لا يكون لهم فيها من يقيهم منه أو يشاركهم به فيخفف عليهم «وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ» في الآخرة حين يحل بهم عذابها «مِنْ واقٍ» (34) يقيهم منه أبدا، قال تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» المعاصي والآثام، القائمون بالأوامر والأحكام، المتنعون عن النّواهي والاجرام، كمثل جنة عظيمة «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» وميزتها عن جنّات الدّنيا أيها العاقل كثيرة، ولكن الله تعالى ذكر منها خصلتين عظيمتين وهما «أُكُلُها دائِمٌ» لا ينقطع على الأبد «وَظِلُّها» دائم أيضا وحذف لفظ دائم هنا اكتفاء بذكره قبل، راجع الآية 84 من سورة النّساء، وذلك أنه لاليل فيها ولا نهار، وفي هذه الآية ردّ على جهم وأضرابه القائلين بفناء نعيم الجنّة، لأن الله يقول دائم ما فيها، فلأن تكون هي دائمة من باب أولى، إذ لا يعقل أن يكون نعيمها دائما وهي فانية، تدبر «تِلْكَ» الجنّة الدّائم نعيمها أيها الإنسان هي «عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم في الدّنيا فكافأهم بها بآخرتهم لقاء إيمانهم به وبرسوله وكتابه بأن جعل مثواهم في هذه الجنّة و «عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» (35) وبئس العاقبة هي أجارنا الله منها. قال تعالى «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» أي من أسلم منهم، فإنه يسرّ بالأحكام لمنزلة عليك يا حبيبي الدالة على التوحيد والنّبوة والمعاد لأنها مؤيدة لما في كتبهم، قالوا كانوا ثمانين رجلا أربعون من نصارى نجران الوفد الذي أشرنا إليه أول سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها، وثلاثون من الحبشة أصحاب النّجاشي، وعشرة من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه، وفرحهم من جهتين: الأولى أنه منزل من الحق على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم، والثانية تأييد دعواهم للاسلام وإخفاق دعوى من لم يسلم وإذلاله «وَمِنَ الْأَحْزابِ» الّذين تحزبوا على الرّسل قبلك والّذين تحزبوا عليك في حادثة الخندق المارة في الآية 9 من سورة الأحزاب «مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» لأن اليهود الّذين تحزبوا مع قريش وغطفان وغيرهم على حرب حضرة الرّسول وأصحابه لا ينكرون كلّ القرآن بل يعترفون بما فيه من المعاد والتوحيد والنّبوة، وقصص

مطلب في أحوال أهل الكتاب، والمحو والإثبات ونقص الأرض وحكم الله تعالى:

بني إسرائيل، وأخبار الأمم المتقدمة لأنها موجودة في التوراة «قُلْ» يا سيد الرسل للناس كافة يهودهم ونصاراهم عجمهم وعربهم وأعرابهم وبربرهم «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ» وحده وأخلص له عبادتي «وَلا أُشْرِكَ بِهِ» أحدا ولا شيئا «إِلَيْهِ» وحده جل جلاله «أَدْعُوا» الناس إلى دينه القويم ليعملوا به ويخلصوا العبادة لله لا إلى الأصنام ولا للملائكة وعزير والمسيح ولا لغيرهم أبدا بل أحصر دعوتي لحضرته خاصة «وَإِلَيْهِ مَآبِ» (36) مرجعي ومثواي، وقد حذف الياء تخفيفا. مطلب في أحوال أهل الكتاب، والمحو والإثبات ونقص الأرض وحكم الله تعالى: «وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا على الأنبياء السّابقين كتبا بلغتهم ولغة أقوامهم «أَنْزَلْناهُ» أي القرآن المنوه به في الآية 31 المارة وجعلناه «حُكْماً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك راجع الآية 5 من سورة ابراهيم في ج 2 «وَ» عزتي وجلالي يا أكمل الرّسل «لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» فيه فاعلم أنه «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ» ربك الذي شرفك على الكل وجعل أمتك خير الأمم «مِنْ وَلِيٍّ» يواليك وينصرك «وَلا واقٍ 37» يقيك من العذاب البتة، وهذا تهديد شديد عظيم في هذا الخطاب، ولكنه على حد القول (إياك أعني واسمعي يا جاره) وقد أسهبنا البحث فيه في الآيات الأخيرة من سورة القصص ج 1، وفي الآية 66 من سورة الزمر في ج 2، فراجعهما وما تشير إليهما من المواقع، أي من يتبع أهواء الكفرة ويوافقهم على آرائهم فيما يتعلق بأمر الدّين، فليس له ناصر ينصره من عذاب الله ولا واق يقيه منه. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً» مثلك فلم لم تعترض عليهم أمهم؟ وهذه الآية بمعرض الرّدّ على اليهود والنّصارى القائلين إن هذا الرّسول لا همّ له إلّا النّساء، ولو كان رسولا لزهد فيهنّ، قاتلهم الله ألم يعلموا أن سليمان وداود ومن تقدمهم كانوا أكثر النّاس نساء من محمد، ولم يقدح ذلك بنبوّتهم، وكذلك قولهم لو كان نبيا لأتى بآية، مردود عليهم بقوله جل قوله «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وبالوقت الذي يريده

[سورة الرعد (13) : الآيات 41 إلى 43]

إذ «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» (38) يبين فيه زمان ومكان وقوعه والسّبب المبتنى عليه والفائدة التي تنشا عنه، وهذه بمعرض استبطائهم ما خوفهم به حضرة الرّسول من نزول العذاب لأنه لا شك نازل بهم ولكن لم يحن أجله بعد وهو قريب منهم، قال تعالى «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ» من مقدرانه التي أظهرها لملائكته وكلمة يمحو كررت في الآية 12 من الإسراء ج 1 وفي الآية 24 من الشّورى ج 2 فقط «وَيُثْبِتُ» منها ما يشاء فينفذه «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (39) الذي فيه كل شيء مما كان ويكون في الدّنيا والآخرة فلا يقع شيء فيهما إلّا وهو مدون فيه وقد أشرنا إلى ما يتعلق في هذا البحث في الآية 4 من سورة الأنعام ج 2، والمعنى أن الله تعالى قد يهيء للكافر الإسلام فيمحو كفره ويثبت إسلامه فيما يبدو للناس وهكذا ينقلب من الشّقاء للسعادة كما يقلب بعض عباده من الفقر إلى الغنى ومن السقم للصحة ومن الذل للعز وبالعكس مما أظهره الله لملائكة وعلقه على أشياء قد يفعلها العبد بمقتضى حكمته فتبدل حاله من شيء إلى أحسن وبالعكس، ومن هذا القبيل زيادة العمر ونقصه فعلا أو بما يبارك له ويوفقه لدوام الطّاعة وتمادي العافية كما ينقصه معنى أضداد هذه، راجع الآية الثانية من سورة الأنفال المارة وما ترشدك إليه من المواضع، وهناك أحكام مبرمة مدونة في لوحه أيضا لا يعتريها التبديل والتغيير أبدا مهما فعل أهلها. قال تعالى «وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ» يا خاتم الرّسل «بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» من العذاب «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبله فنريكه بالآخرة بأن نمثل لك وقوعه فيهم كما كان في الدّنيا فضلا عن عذاب الآخرة، راجع الآية 30 من آل عمران المارة وما ترشدك إليه، فلا يهمنك شأن من لم يؤمن «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ» هم والمداومة عليه فقط، وعليهم أن يؤمنوا ويقبلوا إرشادك ونصحك، وإن لم يقبلوا فعليهم الوبال «وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» 40 والجزاء لمن أعرض عن بلاغك، ولا تتعجل نزول العذاب بهم يا محمد فإن له أجلا لا يتعداه ولا يتقدم عليه بمقتضى الكتاب المشار إليه آنفا. ونظير هذه الآية الآية 78 من سورة المؤمن والآية 46 من سورة يونس والآيتين 63 و 64 من سورة المؤمنين في ج 2 فقط لا يوجد غيرها في القرآن كله والله أعلم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا»

هؤلاء «أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ» المقيم بها الكفرة «نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» بالاستيلاء عليها وإجلاء أهلها منها وإسكان المؤمنين فيها كما وقع في بني النّضير وقريظة وخيبر وغيرهم. وتشير هذه الاية إلى استيلاء المؤمنين على كثير من أراضي الكفار بالنصر عليهم والظّفر بهم وطردهم عنها، وترمي لمغزى آخر وهو نقص الأرض من طرق قطيها وهو كذلك، ومما لا يعرفه أحد عند نزول القرآن فهو من معجزاته وإخباره بالغيب، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 44 من سورة الأنبياء في ج 2 فراجعها. وقال بعض المفسرين إن نقص الأرض يكون بموت العلماء وهو كما ترى، وكأنه أخذ من الخبر القائل إن موت العالم يحدث ثلمة في الإسلام، ويؤيد ما جربنا عليه ختم آية الأنبياء بقوله جل قوله (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) لأن الغالبية قد تكون بالفتوحات. وختم هذه الآية بقوله «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (41) بما يدل على الغالبية أيضا وتفيد هذه الجملة أن أحكام أهل الدّنيا معرضة للابطال بالاعتراض عليها والاستئناف والتمييز والتصحيح والعفو عنها بخلاف أحكام الله فإنها قطعية لا مردّ لها، وإن حسابه على الأعمال بأقل من طرفة عين بخلاف حسابنا لأنه قد يحتاج إلى سنين. قال تعالى «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» بأنبيائهم كما مكر قومك بك، ولكن مكرهم ليس بشيء ولا قيمة له إذ ليس لهم من أمره شيء «فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً» لأنه هو الذي خلقه في العباد وهو القادر على نزعه منهم لأنه «يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» من خير أو شر في السّر والجهر «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» المحمودة إذا بعثوا من قبورهم، لأنهم الآن غافلون عنها لا يعرفونها ولا يعتقدون بصحتها «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» فيا سيد الرّسل «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على رسالتي إليكم وإلى من في الأرض أجمع «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» (43) يعلم ذلك أيضا، لأن الكتب المنزلة عليهم تشهد برسالته لكل من عنده علم بها ولا يكتم علمه، يشهد بأن محمدا رسول الله. ومن قرأ عنده بالجر باعتبار من حرف جر أعاد الضّمير في عنده إلى الله تعالى، ويكون المراد بالكتاب اللّوح المحفوظ، وما جرينا عليه أولى وأنسب بالمقام. ولا يوجد سورة

تفسير سورة الرحمن عدد 11 - 97 و 55

مختومة بما ختمت به هذه السّورة ولا بما بدئت به. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. تفسير سورة الرّحمن عدد 11- 97 و 55 نزلت بالمدينة بعد سورة الرّعد، وهي ثمان وسبعون آية، وثلاثمائة وواحد وخمسون كلمة، وألف وستمئة وستة وثلاثون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى بصدد تعداد بعض نعمه على عباده مبتدئا بأول شيء وأقدمه من حروف آلائه وصنوف نعمائه «الرَّحْمنُ» (1) الذي وسعت رحمته كلّ شيء هو الذي «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» (2) لسيدنا محمد عبده ورسوله وبيّنه له حتى ووعاه عن ظهر غيب، وهو أمي لا يعرف القراءة ولم يتعلمها من أحد ولا اختلقه من نفسه كما زعم أعداؤه، على أنه وجميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله أو بشيء منه. وقد جعل تعالى هذه النّعمة العظمى بطليعة النّعم الآتية لأنها أكبر النّعم وسنام مراتب الدّين، وأقصى مراقبه، وأعظم كتب الله رتبة، وأعلاها منزلة، وأحسنها أثرا، وأثبتها حكما، ومصداقا ومعنى، وأجلها قدرا، وأدومها بقاء «خَلَقَ الْإِنْسانَ» (3) الذي أنزل عليه وهو الإنسان الكامل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. وقال بعض المفسرين إن المراد بالإنسان آدم عليه السّلام، وليس بشيء لأن آدم سيأتي ذكره بعد صراحة، وإذا أطلق المفرد العلم يراد به أكمل أنواعه، والإنسان الكامل من كلّ وجه هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم المخاطب به الذي «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» (4) فصاحة النّطق وبلاغة الكلام الذي امتاز به على سائر الخلق قال الأبوصيري: خفضت كلّ مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم قال تعالى «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) » معلوم وتقدير سوي يجريان بلا فتور في بروجهما ومنازلهما وفي منافع الخلق فيصرّف بهما الأيام والشّهور والسّنين

[سورة الرحمن (55) : الآيات 11 إلى 20]

المترتب عليها أعمال النّاس في المواسم وآجال الدّيون والإجارات والرّهون وأوقات الحج وغيرها مما يتعلق بالحيض والنّفاس والرّضاع والعدة والايمان وغيرها «وَالنَّجْمُ» هو مالا ساق له من النّباتات. ومما يدل على أن المراد به هذا قوله «وَالشَّجَرُ» حيث عطفه عليه، لأن الشّجر من النّبات الذي له ساق حقيقة في اللّغة، فظهر أن ليس المراد به النّجم المعروف «يَسْجُدانِ» (6) خضوعا وخشوعا له تعالى لأنهما خلقا لذلك «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» (7) العدل ليقوم النّاس بالقسط في أرضه بين عباده كما هو في سمائه بين ملائكته. ثم حذر النّاس جل وعلا عن الانحراف عن طريق الرّشد فقال ما رفعت السّماء ووضعت الأرض إلّا لأجل «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» (8) فتجنحوا عن الحق إلى الباطل، وتميلوا من العدل إلى العوج. ثم أمرهم بإقامته تأكيدا وتأييدا فقال «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ» هو لسان الميزان الحسّي المادي الذي هو آلة الوزن «بالقسط» للطرفين والأحسن للبايع الترجيح خوفا من أن يخسر المشتري فيدخل البايع في قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) لذلك قال عز قوله «وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» (9) بأن تطففوه فتكونوا خاسرين، والأحسن أن يراد بهذا الميزان الذي جعله الله تعالى بمقابل السّماء العدل المحض في كلّ شيء، لا العدل في الوزن فقط، لأن هذا مهما بلغ لا يقابل السماء ذات الكواكب العظيمة والبناء الشّامخ «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ» (10) لجميع مخلوقاته لا يختص بها عالم دون آخر، ثم بين بعض نعمه فيها لبعض خلقه فقال «فِيها فاكِهَةٌ» عظيمة متنوعة «وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» (11) الأوعية التي يكون فيها التمر وهي الطّلع وقد خصه دون سائر الأشجار لأنه أعظمها نفعا وبركة، والنّخل كله نفع فثمره غذاء وفاكهة ويدخر حولا فأكثر، وشجرة يبرم من ليفه الحبال، ومن خوصه الحصر والسّلال، ومن سعفه المقاعد والتخوت، وجذوعه لا تؤثر فيها الأرضة، وتعمر كثيرا، ولذلك يجعلونها في السّقوف بخلاف بقية الأشجار، إذ لا يوجد فيها ما يوجد في النّخل من المنافع «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» التين ويدخل فيه كافة الحبوب «وَالرَّيْحانُ» (12) ذو الرّائحة الطّيبة وكلّ ذي ريح طيب من النّبات والأزهار يطلق عليه ريحان وهو نبات مخصوص معروف في

كافة البلاد الشّرقية بهذا الاسم وفي لغة حمير يقال له الرّزق فهذا وما تفرع عنه يخرج من الأرض المخلوقة بما فيها لكم أيها الثقلان «فَبِأَيِّ آلاءِ» نعم وأفضال «رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (13) أيها الإنس والجن، وقد كرر الله تعالى هذه الآية في هذه السّورة إحدى وثلاثين مرة ولم تذكر في غير هذه السّورة أبدا في جميع القرآن، وإنما وقع هذا التكرار تقريرا لنعم الله وأفضاله على خلقه، وتأكيدا على التذكير بها، وتنبيها على لزوم شكرها، وليتفكر الثقلان فيها فيفهم قدرها ويعظم أمرها ويحمد التفضل بها. أخرج الترمذي عن جابر قال خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن فسكتوا، فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن منكم ردّا، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. وليس المراد بقوله صلّى الله عليه وسلم (ليلة الجن) اجتماعه بهم أول مرة كما ذكرنا أول سورة الجن في ج 1، ولا ما ذكرناه في الآية 29 من سورة الأحقاف في ج 2 بل هو اجتماع آخر إذ ثبت اجتماعه بهم ستّ مرات فيما أظهر لأصحابه رضوان الله عليهم، أما اجتماعه بهم فيما لم يطلع عليه أصحابه فلا يعلم مداه، وهذا الاجتماع بالمدينة، وذلك في مكة. مطلب كيفية خلق آدم عليه السّلام وخلق الجان ومعجزات القرآن في المشرقين والمغربين وكيفية التقاء البحرين ومعنى كلّ يوم هو في شان: «خَلَقَ الْإِنْسانَ» آدم عليه السّلام «مِنْ صَلْصالٍ» طين يابس إذا ضربته بعضه يصلصل أي بصوت فكان من شدة جفائه «كَالْفَخَّارِ» (14) الطّين المصنوع لبنا المطبوخ بالنار، وقد ذكرنا في الآية 8 من سورة النّساء المارة إذ لا خلاف في آي القرآن بمثل هذه الألفاظ، لأن المعنى بينها متقارب بعضه من بعض، ولا منافاة بين هذه وبين آية خلقه من تراب أو من طين أو من حما مسنون الواردة في السّور الأخرى، لأن التراب جعل طينا ولما اختلط بالماء وعجن ضار لازبا، ولما اختمر صار حمأ، فلما زادت خمرته صار مسنونا أي طينا أسود منتنا، فلما يبس صار صلصالا، ثم خلق زوجته حواء من أقصر أضلاعه اليسرى، وجميع

[سورة الرحمن (55) : الآيات 21 إلى 30]

الخلق من بعدها سلائل ذريتها إلى يوم القيامة «وَخَلَقَ الْجَانَّ» أي أصله أيضا وهو إبليس عليه اللّعنة أبو الجان فما بعده أيضا، وجاء ذكره بمقابلة ذكر آدم عليه السّلام أبي البشر كما مر مثل هذا في الآيتين 27 و 28 من سورة الحجر في ج 2 «مِنْ مارِجٍ» لهب صاف من الدّخان «مِنْ نارٍ» (15) وهو لهيبها الأحمر فالأخضر فالأصفر فالأزرق الصّافي من الدّخان الذي يكون بين جمرها بعد استوائه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (16) لا بشيء من نعمك ربنا نكذب بل نصدق بها ونثني عليك بالحمد والشّكر ما حيينا «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (17) لم تأت هاتان اللّفظتان في الكتب السّماوية كلها غير القرآن. واعلم أنه قبل اكتشاف أمريكا لم يكن أحد يعلم أن الأرض مشرقين ومغربين، فاعتبروا أيها النّاس، واعلموا أن القرآن جمع فأوعى، وفيه علوم الأولين والآخرين منها ما كشف ومنها ما لم، فمشرق الصّيف غابة ارتفاع الشّمس وانحيازها لجهة الشّمال ومشرق الشّتاء نهاية انحطاطها وجنوحها لجهة القبلة أي الجنوب ويقابلها المغربان وانحيازهما على العكس من جنوح المشرقين نحو القبلة والشّمال، وهذا بالنسبة لما نرى نحن أهل القطر، ولكل قطر ما يراه أهله من هذا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 18 مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» (19) الملح والعذب في مصب واحد كالأنهر الحلوة حينما تنصب في الأبحر، أي أنه تعالى أجراهما وأرسلهما في المرج حتى جعلهما يجتمعان «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (20) بعضهما على بعض فيختلطان ويكونان كالشيء الواحد، فتنعدم من الحلو المنفعة. وقيل إن المراد بحر الرّوم وبحر الهند والحاجز بينهما نحن. وقيل بحر فارس والرّوم والبرزخ الذي بينهما هو الجزائر، وإنهما يلتقيان في المحيط إلّا أنهما خليجان يتشعبان فيكونان شيئا واحدا وقبله كانا متباينين «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» (22) أي من كلّ منهما لا من المالح فقط كما هو ظاهر الآية، خلافا لما قاله بعض المفسرين باختصاص المالح فقط، لأن العذب يخرج منه الصّدف، وقد يوجد فيه اللّؤلؤ أيضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ» السفن الكبار الجاريات فيهما أيضا «الْمُنْشَآتُ» المحدثات بإحداث البشر وأصلها

سفينة نوح عليه السّلام والفضل للبادي، وهذه المراكب الفخمة وليدتها وفرع عنها حيث تدرج البشر في صنعها حتى بلغ منها الغاية القصوى مما يحمل بعضها ما لا يتصوره العقل من الأثقال، فصارت الواحدة منها كالجبال مصداقا لقوله تعالى فتراها «فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ» (24) الجبال الشّامخات فكل ما بالغوا في عظم صنعها لا تبلغ قدر بعض الجبال، ويطلق لفظ الأعلام على الأشياخ، قال ابن الفارض: نصبت في موكب العشاق أعلامي ... وكان قبلي بلي بالعشق اعلامي أي أشياخي، وهو أيضا جمع علم بمعنى الرّاية التي توضع على دور الحكومة، وتحمل في الحروب، كما أن أصل هذه القطارات والسّيارات والدّبابات هو العجلة، وقد تدرجوا في صنعها أيضا وتحسينها وتكبيرها وتسريع حركاتها أيضا حتى بلغت ما ترى إذ طاروا بالسماء بسرعة خارقة، فكل هذه فرع عنها، وكلها من خلق الله القائل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية 96 من الصّافات، والآية 8 من النّحل في ج 2 نظيرتها في المعنى، راجع الآية 25 من سورة الحديد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» (26) إنسانا كان أو حيوانا نباتا أو بناء فكل ما على الأرض مصيره الفناء «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ» ذاته وحده «ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (28) أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (الزموا وتمسّكوا) بيا ذا الجلال والإكرام أي أكثروا من ذكر هذه الجملة العظيمة من صفاته عزت وعلت والالتجاء إليه والاستغاثة به فإنه تعالى يغيثكم بكرمه وفضله. قال تعالى وهو ابتداء كلام آخر، لأن الأوّل ختم بفناء الكون وبقاء الكون جل جلاله «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» سؤال استعطاء من إنس وجن وملك يطلبون رحماه بلسان المقال، وبقية خلقه من نبات وجماد بلسان الحال يرجون لطفه، ولا غنى لشيء ما عن عطفه، وقد أسهبنا البحث فيما يتعلق في هذا في الآية 14 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها. وهو جل شأنه «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29) ولا يشغله شأن عن شأن، وهذه الآية فيها رد على اليهود القائلين إن الله تعالى لا يقضي بشيء يوم السّبت، وهو يقول عزّ قوله كل

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 إلى 40]

يوم، فلم يستثن جمعة ولا سبتا ولا أحدا، وهي شؤون عظيمة يبديها ولا يبتديها كما هي في أزله من إحياء وإماتة، وعز وذل وفقر وغنى، وصحة ومرض، وبسط وقبض، وسرور وحزن، وقيد وإفراج، وخير وشر، ونفع وضر، وما لا يحصى، لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال جاء الخضر عليه السلام بصورة رجل إلى عالم يحدث في المسجد وقد تطرق إلى تفسير هذه الآية، فسأله ما شأن ربك اليوم؟ فلم يقدر أن يعطيه جوابا فبقي مهموما نهاره وليله وهو يقدح فكرته لنسج جواب صالح فلم يوفق، فنام على حالته هذه فرأى المصطفى صلّى الله عليه وسلم فأخبره به، فنهض فرحا مسرورا، وبكر إلى الجامع وطفق يحدث، فجاءه السائل وسأله ثانيا، فقال له ما تلقاه وهو (يرفع أناسا ويخفض آخرين) فقال له صلّ على من علمك. وما يقرب من هذه الحادثة هو أن عالما قال في جملة حديثه الحيا من الإيمان وأسنده لحضرة الرّسول، وفي نومه رأى حضرة الرّسول فقال له ما قلت هذا فأفاق مرعوبا، وراجع مالديه من الصّحاح فوجد الحديث، وسأل من لديه من العلماء، فأجابوه به، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى مصر فأجابه علماؤها بصحة الحديث، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى المدينة المنورة وقص قصته على علمائها ففطن له بعضهم فقال الحيا هو المطر، ولم يكن من الإيمان، وإنما الحياء بالمد والهمزة هو من الإيمان وقد صدق المصدق باخبارك لأنك لم تتيقظ لهذه النّكتة فتنبه لغلطه، ونام فرأى حضرة الرّسول فقال له نعم قلت هذا الحديث كما تفطن له من سألته وعفا الله عنك اه شرح البردة للخربوطلي «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» (31) فيها وعيد شديد وتهديد عظيم كقولك لمن تريد الإيقاع به سأفرغ لك. وليس فراغ الله بفراغ عن شغل، لأن هذا من شأن الخلق به سأفرغ لك. وليس فراغ الله بفراغ عن شغل، لأن هذه من شأن الخلق وهو منزه عن ذلك، وإنما هو إنظار الخلق لأجل قدره عليهم من إنجاء وإهلاك وغيرهما. وسمي الانس والجن ثقلين لإثقالهما الأرض أحياء وأمواتا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» جوانبها وأطرافها هربا من قضائي

عليكما «فَانْفُذُوا» إن كنتم قادر بن ولكنكم «لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (33) عظيم وقوة قاهرة وليس لكم ذلك وأنى لكم هذه الغلبة على النّفوذ، بل أنتم عاجزون عنه وقدم الجن هنا على الإنس لأنهم أقدر على النّفوذ وأقوى من الإنس لا لفضلهم إذ لم يقل أحد به ولهذا قدم الإنس في الآية 88 من سورة الإسراء ج 1 لأنه فيها أقدر من الجن ولو أنه لا قدرة له عليه، فعلى الّذين يريدون الصّعود إلى القمر أو المريخ كما يزعمون إن الصّعود إليهما بإمكانهم وهما في أقطار السّماء، والّذين يريدون اختراق القطب المتجمد الذي هو في أقطار الأرض أن يستحضروا مالديهم من قوة قاهرة للتوصل الى ذلك، لأن الله تعالى يقول إن هذا النفوذ من الممكنات لا تقدرون عليه إلّا بسلطان، ومن أين لكم هذا السّلطان الذي ذكره الله، بما يدل على وصفه بالعظمة، لأن العظيم لا يقوم إليه إلّا شيء عظيم، وقد صار لهؤلاء المتنطعين مئات السنين وهم يتغنون بالصعود للقمر والمريخ وغيره ويحتجون بأنهم لم يستكملوا بعد هذه القوة الكافية الدّافعة للوصول إليهما، ولهذا فيجدر أن يقال لهم إنكم عاجزون عن ذلك، لأن هذا وإن كان العقل يجوزه بالنسبة لما حدث في هذا القرآن من العجائب والغرائب إلّا أنه متوقف على قوة عظيمة لم يتسن للبشر إدراكها، وما على البشر بعد بذل جهده ووسعه في ذلك وعدم تمكنه منه إلا أن يظهر عجزه عن ذلك، وعن القول بأن كلا من هذه الكواكب كرة أرضية مسكونة رجما بالغيب، لأن أحدا لم يرها ولم يخبر عنها من يؤخذ بقوله من الأنبياء الّذين أطلعهم الله على بعض غيبه وأخبروا به قيل وقوعه، فضلا عن أن كلّ ما لا يرى عيانا يكون من الأمور الحدسية الغالب عليها الكذب، وما كان كذلك فلا ينبغي للعاقل أن يقطع بصحته «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 34 يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ» لهب خالص لا دخان فيه «مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ» دخان محض لا لهب فيه، هذا فإن قيل من أين عرف هذا الأوربيون حتى اخترعوا الغيوم من الدّخان وغيره بحيث يمتنعون عن الرّؤية في البر والبحر والسّماء؟ فالجواب أنهم عرفوه لأنه من لوازم الحياة الدّنيا، وكلّ ما هو من هذا القبيل قد يطلعهم الله عليه. قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية 8 من

[سورة الرحمن (55) : الآيات 41 إلى 50]

سورة الرّوم في ج 2 وعند ما يفعل الله ذلك بكم أيها الثقلان «فَلا تَنْتَصِرانِ» (35) منه إذ لا يقدر على دفعه عنكم إلّا الذي أرسله عليكم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» (37) حمراء مذابة كدر، رديء الزّيت قال تعالى (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الآية 9 من سورة المعارج في ج 2 والمهل هو النّحاس المذاب «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 38 فَيَوْمَئِذٍ» حين يضيق عليكم في ذلك اليوم العظيم، فلا تقدرون على الهرب، ويرسل عليكم لهب النّار ودخلنها وتنهار السّماء «لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» (39) لأن في هذا الموطن تخرس الألسن وتنطق الجوارح بما فعلت وتنشر الصّحف بما كان من الخلائق، وقد علم الله كلّ ذلك وأعلمه لخلقه ويشتد اهول لما يرى النّاس من قبائح أعمالهم وما يرون من أهوال العذاب الكائن للمجرمين، وهذا لاينافي قوله تعالى (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية 92 من سورة الحجر في ج 2 لأن أحوال القيامة مختلفة، فمرة يسأل فيها النّاس عن أعمالهم، وأخرى يتخاصمون بينهم، وتارة يمنعون من الكلام، وأخرى يسكتون، وطورا تسأل أعضاؤهم وتارة تنطق بنفسها، فهو يوم شديد يشيب منه الوليد وترتعد لهوله الفرائض «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ» زرقة عيونهم واسوداد وجوههم، حمانا الله من ذلك «فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي» منهم تارة «وَالْأَقْدامِ» (41) أخرى ويزجون في النّار «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (42) ثم يقال لهم من قبل ملائكة العذاب «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ» (43) أمثالكم تبكيتا وتقريعا لهم «يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» (44) ماء بالغ أقصى حرارته لأنهم إذا استغاثوا من عذاب النار أغيثوا بالحميم وبالعكس «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (45) . مطلب أن الآيات نقم على أناس، نعم على آخرين ومزية الخوف من الله تعالى: واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) إلى هنا كما أنها نقم على العصاة هي مواعظ أيضا وزواجر يخوف الله بها عباده كي يتباعدوا عن الأسباب المؤدية إليها، فإذا اتعظوا كانت عليهم نعما، ولذلك ختمت بالآية المكررة

الواقعة موقع الاستفهام عن نعمه تعالى على عباده. وبعد أن ذكر جل ذكره ما أوعد به الكافرين أعقبه ببيان ما وعد به المؤمنين فقال «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» (46) واحدة لقاء عمله في الدّنيا من طاعة وصدقة وبرّ وتركه المعاصي خوفا من الله وعمله الطّاعات طمعا بفضل الله، وأخرى تفضلا منه تعالى إيفاء بوعده المبين بقوله جل قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية 27 من سورة يونس في ج 2، لأنه لا يخافه حق خوفه إلّا العارف العالم. قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية 28 من سورة فاطر، والآية 57 من سورة الإسراء في ج 1 الدّالتين على أن الأقرب من الله أشد خوفا منه من غيره أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من خاف أدلج (الإدلاج بالتخفيف السّير أول اللّيل وبالتشديد آخره) ومن أدلج بلغ المنزل، ألا ان سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنّة. وروى البغوي بسنده عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي موقفه يوم الحساب بين يدي ربه، فمن حسب حسابه واتقى ربه في الدّنيا يكون له في الآخرة جنتان، فقلت وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق، ثم قال (لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق، ثم قال (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا لرسول الله؟ قال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبى ذر. «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ» (48) أغصان مستطيلة كثيرة، والفنّ الغصن من الشّجرة المستقيمة طولا قال: ومن كلّ أفنان اللّذاذة والصّبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر وفي كلّ غصن من أغصان تلك الجنان فنون من الفواكه، مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ومن هنا أخذ تطعيم الأشجار المتقاربة في الثمر الذي عرفه خبراء الزراعة حديثا وطبقوه؟ فأمكن لهم أن يطعموا شجرة واحدة بأنواع مما يشابهها فتأكل من الشّجرة الواحدة أصنافا من الفاكهة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» (50) على أرضهما بلا أخدود الأولى التسنيم المذكورة

[سورة الرحمن (55) : الآيات 51 إلى 60]

في الآية 27 من المطففين المارة في ج 2، والثانية السّلسبيل المبين في الآية 19 من سورة الإنسان الآتية «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» (52) رطب ويابس كما يوجد الآن في البرتقال فإنه قد يجتمع فيه ثمر السّنة الماضية والحالية وفي الآخرة كلّ أشجارها كذلك فترى فيها العتيق والجديد بآن واحد، فلا يضر الثمر قدمه ولا يغير لونه وطعمه بخلاف ما في الدّنيا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ» فيهما «عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ» ديباج ثخين من الحرير وقد أخبرنا الله عن البطائن التي تلى الإنسان بأنها من ذلك النّوع فما بالك بالظهائر التي تبرز للعيان، اللهم أرناها ومتعنا والمؤمنين فيها برضاك المؤدي إليها برحمتك يا أرحم الرّاحمين. «وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» (54) قريبا من يد المتناول القاعد والقائم والمضطجع سواسية في تناوله، لأن الأثمار التي فيها القديم والحديث هي التي تدنو من طالبها حتى تصير أمامه «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن لا ينظرن غيرهم وجمع الضّمير مع أنه يعود إلى الجنتين، لأن كلا منهما فيها قصور ومجالس متعددة أو أنه من قبيل إطلاق الجمع على ما فوق الواحد كما مرّ في الآية 78 من سورة الأنبياء في ج 2 وفيما ترشدك إليه «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ» يمسسهن وينلهن أو يقربهن «إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (56) قال الفرزدق: خرجن إلي لم يطمئن قبل ... وهن أصح من بيض النّعام تشير هذه الآية إلى أن الجن كالإنس في مقاربة النّساء وأن لهم نساء من جنسهم، وهو كذلك، لأنهم يتوالدون في الدّنيا. وقيل إن منهم من يتزوج بإنسي، كما أن من الإنس من يتزوج بجنية، ولهذا قالوا إن بلقيس أمها من الجن، راجع الآية 45 من سورة النّمل في ج 1 «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ» (58) صفاء وبياضا وحمرة، أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن المرأة من نساء أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة يرى مخها، وذلك أنك إذا أدخلت سلكا في الياقوت رأيته من ورائه وكذلك سوق النّساء من أهل الجنّة، وروى البخاري

[سورة الرحمن (55) : الآيات 61 إلى 70]

ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول زمرة تلج الجنّة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، ثم الّذين يلونهم على أشد كوكب في السّماء إضاءة، لا يبصقون ولا يمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوة (أي مباخرهم وبخورهم فيها العود ولكن ليس كعود الدّنيا) رشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللّحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشية، وزاد البخاري ولا يسقمون. قال سعيد بن جبير هذا من جملة ما قال تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية 17 من سورة السّجدة في ج 2 «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ 59 هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (60) روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان الآية، ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنّة؟ وذلك لأن من أتى بالحسن يقابل بمثله وأحسن عند أهل الدّنيا للمنصفين فكيف عند رب العالمين «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (61) وقال بعض المفسرين أن الجنتين المتقدمتين واحدة للإنس وواحدة للجن، ولكن ما جرينا عليه أولى لما تقدم في الآية 27 من سورة الأعراف ج 1 بأن الجن يكونون بفناء الجنّة. ثم ذكر الله تعالى جنتين أخريين بقوله «وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ» (62) أي أمامها وقبلها أفضل منهما، لأن الجنتين الأوليين لأصحاب اليمين وهاتين للمقربين اللهم أهلنا لأيهما شئت «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (63) روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في عدن. ثم بدأ يصفهما كما وصف أولاهما آنفا فقال «مُدْهامَّتانِ» (64) لشدة خضرتهما صارا يقربان إلى السّواد «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ» (66) فوارتان تدفعان الماء إلى العلو مثل المضخات الموجودة الآن، ولكن هذه بآلة وتعب وتكاليف ومعرضة

[سورة الرحمن (55) : الآيات 71 إلى 78]

للخراب ولمسافة معلومه وتلك بقدرة القادر أبدية طبيعية مسافتها كما يشتهي طالبها والنّاظر إليها إن أراد أن ترتفع مدى النّظر ارتفعت وإن أراد أن تنحط انحطت حسبما يستحسنه الرّائي ويتمناه المتمني ولا تحتاج إلى شيء «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» (68) ومن أنواعهما ألوان، وإنما خصهما لأن التمر فاكهة وغداء والرّمان فاكهة ودواء وفائدة عطفهما على الفاكهة مع دخولهما فيها لما ذكرنا ولفصلها على جميع الفواكه كما يشير إليه تنوين التنكير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ» بالأخلاق والآداب حِسانٌ» (70) بالوجوه وتناسب الأعضاء ويظهرن لأزواجهن حسبما يرغبون وهذا من بعض نعم ربك عليك أيها الإنسان «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (71) وهؤلاء الموصوفات «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» (72) المنسوجة من الذهب والفضة الموشاة باللؤلؤ والدّرر والزبرجد والمرجان وغيرها، لا يخرجن منها لكرامتهن وشرفهن يبقين في خدورهن، وهذه الخيام ليست كخيام الدّنيا لأنها واسعة مدى النظر، وفيها الجنان والمياه ومحال التنزه غير السّكن. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن للمؤمن في الجنّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السّماء، وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، فلا يرى بعضهم بعضا «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» (73) وهؤلاء الحسان أيضا كالأول من حيث «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» (74) أي قبل زواجهن أي أنهن أبكار ولا يعدهن أيضا لأنهم لا يتركونهن ولا يطلقونهن وحذف من الثاني بدلالة الأوّل كما يحذف من الأوّل بدلالة الثاني، راجع الآية 35 من سورة الرّعد المارة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ» وسائد «خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ» (76) أي زرابي وطنافس جميلة جدا وكلّ نفيس جميل تسمية العرب عبقري نسبة إلى عبقر، قيل هي أرض تسكنها الجن، فصارت مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع فاخر عجيب، وذلك أن العرب تعتقد في الجن كلّ صنعة غريبة، وينسبون كلّ شيء عجيب إليهم لاعتقادهم بأنهم يأتون بكل عجيب لما بلغهم عن أعمالهم لسيدنا سليمان

تفسير سورة الإنسان عدد 12 - 98 و 76

عليه السّلام المشار إليها في الآية 39 من سورة النّمل ج 1 والآية 12 من سورة سبأ ج 2 وغيرهما من المواضع، حتى إنهم ينسبون الرّجل الطّيب لها فيقولون فلان عبقري، والقرآن نزل بلغتهم، وحتى الآن يضرب المثل بهذه الكلمة لكل ما يستحسن «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» (78) ختم جل جلاله نعم الآخرة بهذه الآية الجليلة إشارة إلى تمجيده وتحميده، كما ختم نعم الدّنيا المتقدمة بمثلها إعلاما بأنه الباقي وإنها فانية ولا يخفى أن وصف الجنتين الأخيرتين أبلغ وأعظم من الأوليين وما فيهما، كذلك لأنهما للمقربين وهم أقوم وأقدس من أصحاب اليمين كما علمت، روى مسلم عن ثوبان قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثا وقال اللهم أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. وأخرج أبو داود والنّسائي مثله بزيادة لم يقعد بعد السّلام إلّا مقدار ما يقول اللهم أنت السّلام إلى آخره. ولذلك ذهب أبو حنيفة إلى سنة قراءة الأوراد الواردة بعد الصّلوات بعد أداء السّنة إذ لم يثبت لديه أنه صلّى الله عليه وسلم قعد بين الفريضة والسّنة بأكثر من ذلك وذهب الإمام الشّافعي إلى قرائتها بين الفريضة والسّنة لأنه صلّى الله عليه وسلم فصل بينهما بتلك الكلمات، ولكل وجهة. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدّين. والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الإنسان عدد 12- 98 و 76 نزلت بالمدينة بعد سورة الرّحمن، وهي إحدى وثلاثون آية، ومئتان وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وخمسون حرفا، وتسمى سورة الدّهر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «هَلْ أَتى» قال أكثر المفسرين معناه قد مضى. وظاهره استفهام للحمل على الإقرار بما دخلت عليه هل الاستفهامية، أي مضى عليه زمن كثير ولم يدر ما هو على المعنى الأول، والمقرر به من ينكر البعث لأنهم يقولون مضى على انسان دهور وهو كذلك، أي قولوا

لهم إن الذي أوجده بعد أن لم يكن، كيف يمتنع عليه إعادته بعد موته؟ ثم بين كيف كان وما آل إليه فقال عز قوله مرّ «عَلَى الْإِنْسانِ» آدم عليه السّلام في بداية خلقه «حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ» مدة كثيرة وهي من معاني الحين «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» (1) ولم يدر ما هو وما يراد به لأنه عبارة عن هيكل مصنوع من طين لا حراك به. وهذا الاستفهام على المعنى الثاني تقريري يجاب ببلى أي أنه مر عليه زمن طويل وهو مجندل مصور من الطّين لم يذكره ولم يعلم بأنه سيكون بشرا، وتتولد منه هذه الخلائق وما قيل أن آدم صور وطرح بين مكة والطّائف ينفيه ما رواه مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما صور الله آدم في الجنّة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشّهوات، وإذا كان كذلك فمن الممكن التسلط عليه وإغواؤه، قال تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» المذكور بعد أن كوناه من التراب جعلنا ذريته مخلوقة «مِنْ نُطْفَةٍ» حقيرة «أَمْشاجٍ» ممزوجة من ماء المرأة والرّجل يقال مشجت الشّيء بمعنى مزجته وخلطته، وإنا بعد أن خلقناه على هذه الصّورة «نَبْتَلِيهِ» فنختبره ونمتحنه بأوامرنا ونواهينا بعد أن نركب فيه العقل ونصيّره قادرا على تمييز الخير من الشّر «فَجَعَلْناهُ» بعد تمام خلقه وكمال حواسه على الصّورة المبينة في الآية 17 فما بعدها من سورة المؤمن ج 2 «سَمِيعاً بَصِيراً» (2) قدم السّمع على البصر لأنه أفضل منه، لأن الأعمى يمكن التفاهم معه بخلاف الأطرش، وخصّ هاتين الحاستين من بين الحواس العشر المشار إليها في الآية 73 من سورة يوسف ج 2 لعظم فضلهما «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» السوي في دنياه وبينا له عاقبة الخير والشّر وأعطيناه عقلا يميز به النّفع من الضّر، وجعلنا له الخيار فيما يريد «إِمَّا شاكِراً» يكون لنعمنا هذه مقدرها حق تقديرها موحدا لإلهيتنا مؤمنا بقدرتنا آخذا بإرشاد رسلنا «وَإِمَّا كَفُوراً» (3) بذلك جحودا لما أوليناه من النّعم كافرا برسلنا وكتبنا. هذا، وقال ابن عباس إنه بقي مئة وعشرين سنة، يريد أربعين سنة طينا وأربعين صلصالا، وأربعين حمأة، وقال الفخر إن الحين له معنيان الأوّل أنه طائفة

مطلب في الحين والنذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه:

من الزمن الطّويل الممتد وغير مقدر في نفسه، والثاني مقدر بأربعين سنة وبالنظر للأحاديث الواردة في هذا الشّأن المعبرة للأول وهو الأولى، والله أعلم «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» بنا في الآخرة «سَلاسِلَ» يوثقون بها بأرجلهم «وَأَغْلالًا» تربط بها أيديهم وأعناقهم «وَسَعِيراً» (4) نارا موقدة تحرقهم «إِنَّ الْأَبْرارَ» الشاكرين لنعمنا قد هيأنا لهم الجنّة يدخلونها مع الشّهداء «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ» راجع معناه في الآية 18 من سورة الواقعة في ج 1 «كانَ مِزاجُها كافُوراً» (5) من حيث بياضه ورائحته وبرده وهذا اسم لعين الماء التي يخلط بها شرابهم لا الكافور المعروف، لأنه لا يشرب، ومما يدل على ما ذكرناه قوله تعالى «عَيْناً» بدل من كافور «يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» (6) إلى حيث شاءوا وأرادوا من قصورهم وخيامهم، لأن التفجير شق الشّيء بان يجروها جداول إلى حيث شاءوا في مساكنهم وغيرها بمجرد إشارتهم إليها، وقد أعطوا هذا الشّيء العظيم في الآخرة لأنهم في الدّنيا كانوا «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» الذي أوجبوه على أنفسهم لذلك فإن الله تعالى وفّى لهم ما وعدهم به وأوجبه على نفسه تفضلا منه إذ لا واجب عليه. مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه: روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها وفي هذا دليل على وجوب الوفاء بالنّذر أما إذا كان معصية فلا، فقد روى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصيه فلا يف به. وعنها قال، لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين- أخرجه الترمذي- وأبو داود والنّسائي «وَيَخافُونَ يَوْماً» عظيما لأن تنكيره يدل على هول ما فيه من الفزع «كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» (7) منتشرا على الخلائق والسّموات والأرضين وما فيهما «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ» في الدّنيا قصد الثواب ابتغاء مرضاة الله تعالى «عَلى حُبِّهِ» وحاجتهم إليه ويؤثرون على أنفسهم «مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» (8) ويقولون لمن يتفضلون عليهم «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ

[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 إلى 20]

لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً» (9) لئلا يعزم المحتاجون على مكافتهم وتكون طيبة أنفسهم ويتأثمون من المن والأذى بنفقاتهم قائلين «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً» وجه أهله المفرطين بدنياهم «قَمْطَرِيراً» (10) شديد الا كفهرار تتغير فيه الوجوه حتى لا تكاد تعرف وعليه قوله: واصطليت الحروب في كلّ يوم ... باسل الشّر قمطرير الصّباح أي إنما يقصدون بإحسانهم الوقاية من هول ذلك اليوم فقط لا لأمر آخر «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ» جزاء إطعامهم واعتقادهم وإحسانهم للوقاية من هوله وحسن ظنهم بالله والله عند حسن ظن عبده «وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً» بهاء وبهجة في وجوههم «وَسُرُوراً» (11) في قلوبهم أشرق لمعانه على وجوههم، لأن فرح القلب يبعث الانطلاق على الوجه فيظهر الابتسام عليه وهو نوره «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا» على إيثار الفقراء على أنفسهم وعلى فعل الطّاعات والكف عن المعاصي وأذى النّاس إليهم «جَنَّةً وَحَرِيراً» (12) يلبسونه في تلك الجنّة «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة الجميلة خلال الحجال، ولا تسمى أريكة إلّا وهي فيها «لا يَرَوْنَ فِيها» أي تلك الجنّة «شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» (13) لا حرا ولا بردا مزعجين وليسوا بحاجة إلى ضوء الشّمس والقمر لأن الجنّة مضيئة بنفسها بنور ربها المشرق عليها قال تعالى وأشرقت الأرض (أي أرض الجنّة) بنور ربها الآية 69 من سورة الزمر ج 2، والزمهرير هو القمر على لغة طيء وعليه قولهم: وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر أي ما درّ وما طلع «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» الحاصلة من أشجارها بدليل قوله «وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (14) أي سخرت للتناول تسخيرا كما يشاء طالبها بحيث يتمكن من قطعها على أي حالة كان راجع الآية 54 من سورة الرّحمن المارة، وقيل المراد بتذليلها ثقل حملها وليس بشيء إذ لا فضل لهم به، والقصد هنا تفضيلهم وإكرامهم حتى في مثل هذا «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ» بواسطة الجوار الحسان «بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ» كؤوس ملأى من الشّراب اللّذيذ لها عرى «وَأَكْوابٍ» كيزان لا عرى لها «كانَتْ» هذه الأوان والأكواب «قَوارِيرَا» (15)

شفافة لطيفة ليست بجام بل هي «قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» جامعة بين بياض الفضة وحسنها وصفاء الجام ولطافته بحيث يرى الشّراب من خارجها وتتلون بلون ما فيها «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» (16) لدى الرّجل الواحد بلا زيادة ولا نقص وهذا يكون في غاية اللّذة، وهكذا كلّ ما في الجنّة كامل طيب «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً» ملأي خمرا لم تمزج بماء بل «كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» (17) اسم لعين ماء خاص لمزج شراب الأبرار، ولهذا أبدل منه «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» (18) كانت العرب تضع الزنجبيل في شرابهم لما فيه من الرّائحة واللّذع، قال المسيب ابن علس: وكأن طعم الزنجبيل ... إذا ذقته وسلافة الخمر وقال الأعشى: كان القرنفل والزنجبيل ... باتا بقيها وأره مشورا الأرى العسل، والمشور المستخرج من بيوت النّحل. وقد ذكره الله تعالى لأنه كان مستطابا عند العرب، والآن يضعون اليانسون في شرابهم قبح الله شاربيه إذا ماتوا مدمنين عليه، وسميت هذه العين سل سبيلا كأنها تقول لأهل الجنّة اختاروا أي طريق تريدون أن أجري فيه إلى قصوركم وخيامكم. وقدمنا وصف خمرة الآخرة في الآية 18 من سورة الواقعة في ج 1 والآية 25 من المطففين في ج 2 فراجعهما «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» راجع الآية 17 من سورة الواقعة المذكورة في معنى مخلدون، لأن معنى الخلد هنا لا يتم عن كبير معنى، لأن الخلود في الجنّة لمن فيها محقق وكلّ ما فيها خالد فلا حاجة لذكر خلود خدمها وهي دار الخلد، بل معناه مقرطون، وقيل مسوّرون أي لابسون أقراطا وأسورة من ذهب كالمخدومين، راجع الآية 24 من سورة الحج الآتية فيشابهون أسيادهم من هذه الجهة، وان إلباس العبيد يشير إلى عظمة الأسياد في الدّنيا، لأنا نرى بعض الشيوخ يلبسون عبيدهم أحسن منهم، فلأن يكون في الآخرة من باب أولى «إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» (19) في البياض والحسن والكثرة و «إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» هناك يا سيد الرّسل في تلك الجنان الباهرة «رَأَيْتَ نَعِيماً»

[سورة الإنسان (76) : الآيات 21 إلى 30]

عظيما لا يوصف بهاؤه «وَمُلْكاً كَبِيراً» (20) لا يقدر قدره وإن أهل هذه الجنان «عالِيَهُمْ» لباسهم الفوقي كالعباءة والملحفة والجبة وهو مبتدأ خبره «ثِيابُ سُندُسٍ» هو ما، رقّ من الحرير «خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» هو أثخنه «وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ» وقد مر في سورة فاطر يحلون فيها من أساور من ذهب الآية 23 في ج 2 وفي آية الحج الآتية في ذهب ولؤلؤ الآية 23، وعليه يكون المعنى أن كلا من أهل الجنّة يلبس اسورة من فضة وذهب ولؤلؤ، ومن هنا تعلم أن أهل الدّنيا لما صاروا يوسون اللّؤلؤ بالذهب ويتحلون به أخذوه من كتاب الله «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» (21) لم تلمسه يد ولم تدنسه رجل، لأنه صنع الله بكلمة كن «إِنَّ هذا» المذكور كله وأضعافه «كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون «جَزاءً» لأعمالكم الصّالحة «وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» (22) عند ربكم محمودا مرضيا، لأن أعمالكم في الدّنيا كانت مرضية عنده، ولأنكم قلتم للفقراء لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، لمثل هذا فليعمل العاملون أيها النّاس، وبه فليتنافس المتنافسون. نعمت جزاء المؤمنين الجنه ... دار الأمالي والمنى والمنه من الزرابي فرشها أي صاح ... ترى بها الحرام كالمباح وهذه الآيات عامة في كلّ مؤمن يعمل مثل هذا العمل، وإن سبب نزولها على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا كرم الله وجهه كان عمل ليهودي بشعير، فأصلحوا هو وزوجته فاطمة رضي الله عنهما وخادمته فضة قسما منه ليأكلوه، فجاءهم مسكين فأعطوه إياه، ثم أصلحوا القسم الآخر فجاءهم يتيم فأعطوه إياه، ثم أصلحوا باقيه وعند ما تم نضجه أتاهم أسير فدفعوه له، وباتوا طاوين شاكرين الله على ذلك، لأنهم تصدقوا بما عندهم مع احتياجهم إليه، وهذا معنى قوله تعالى (عَلى حُبِّهِ) إذا صح لا يخصصها فيه عليه السّلام دون غيره بل يشمل عمومها كل من عمل عمله لعموم اللّفظ، ويدخل فيها هو دخولا أوليا، كيف وهو من بيت الكرم، لأن أول من سن القرى جده ابراهيم عليه السّلام وأول من هشم الثريد جده هاشم، وأول من أفطر جيرانه على مائدته في الإسلام عمه عبد الله

بن عباس، وهو أول من وضع الموائد على الطّريق وكان إذا خرج الطّعام من بيته لا يرد منه شيئا بل يتركه لمن يأكله وهو أول من وضع الطّعام على الطّرق للمسافرين والقافلين، وهذه سنة لم يسبقه بها أحد من أجواد الجاهلية والإسلام مثل حاتم وهرم بن سنان وكعب بن مامه وغيرهم. قالوا وقد جدد هذه السّنة الأخيرة من أكارم العرب صفوك الجرياء شيخ عشائر شمر في الجزيرة جد مشعل باشا الموجود الآن وجد عجيل الياور القاطن في الموصل كثر الله الكرام وأدام نعمه عليهم في الدنيا والآخرة. ومما قاله معدن الكرم عبد الله بن عباس: إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى ... واعمل فكر اللّيل واللّيل عاكر وباكرني في حاجة لم يجد بها ... سواي ولا من نكبة الدّهر ناصر فرجت بما لي همه من مقامه ... وزايله هم طروق مسافر وكان له فضل عليّ بظنه ... بي الخير إني للذي ظن شاكر ومن مروءة ابن عمه عبد الله بن جعفر أنه أسلف الزبير الف درهم، فلما توفي الزبير قال ابنه عبد الله له اني أجد في كتب أبي أن له عليك الف الف درهم قال هو صادق فاقبضها إن شئت، ثم لقيه بعد ذلك، فقال يا أبا جعفر اني واهم المال لك على أبي، قال فهو له، فقال لا أريد ذلك، قال فاختر إن شئت فهو له، وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت، فانظروا أيها النّاس أين هؤلاء الكرام ألا يوجد من يتأسى بهم فينال الثناء من النّاس في الدّنيا والثواب من الله في الآخرة، ولكن النّاس ويا للأسف حرصوا على الدّنيا بحبّهم لحطامها الذي يسهل لهم كلّ شيء كما قيل: وإذا رأيت صعوبة في مطلب ... فاحمل صعوبته على الدّينار وابعثه فيما تشتهيه فإنه ... حجر يلين قوة الأحجار فخير للناس من أن يجمعوه ويتركوه فيحاسبوا عليه أن يصرفوه في طرق الخير، وينالوا ثوابه، اللهم وفقنا لما فيه خيرنا وفلاحنا. قال تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» (23) كثيرا، المرة بعد المرة لأن التشديد يفيد التكثير والتضعيف، إذ أنزل آية آية، وخمس خمس، وسورة سورة، كما اقتضته حكمة الله.

وفي هذه الآية ردّ على الكافرين والمنافقين القائلين إنه سحر وكهانة وشعر واختلاق وتعلم وخرافات «فَاصْبِرْ» يا حبيبي على أذى قومك وتحمل ثقلهم، فقد آن أن يأتيك الفرج العام والنّصر المبين، فانتظر «لِحُكْمِ رَبِّكَ» بهذا إلى أن يأتي الوقت المقدر للفتح العظيم الذي وعدناك به «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» (26) وإنما وصمهم بهاتين الخصلتين لأنهم أحد رجلين: إما كثير الإثم كأهل الكتابين أو مشرك كأهل مكة وحلفاهم من العرب، وإن كلا منهم يدعو إلى ما هو عليه. هذا ولا يصح نزول هذه الآية في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة أو في أبي جهل كما قاله بعض المفسرين، لأنهم قتلوا قبل نزولها ولا قائل بأنها مكية أو أن هذه الآية مستثناة منها، وكون مجيئها مسوقة على ما كان منهم عند حدوث ذكرهم بعيد أيضا، ولهذا فإنها عامة مطلقة في كلّ من هو كذلك. قال تعالى «وَاذْكُرِ» يا سيد الرّسل «اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (25) أول النّهار وآخره، وهذا إشارة إلى صلاة الصّبح والظّهر والعصر «وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» (26) وهذه اعلام بصلاة المغرب والعشاء والتطوع، والقصد منها إدامة ذكر الله تعالى ليل نهار وفي كلّ حال، واعلم يا سيد الرّسل «إِنَّ هؤُلاءِ» الكفرة والمنافقين «يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ» متوغلين في الدّنيا متهالكين عليها ولذلك يعرضون عنك لأنك تدعوهم إلى ضدها، ولكنهم لا يريدون الآخرة التي تدعوهم إليها لأنهم لم يصدقوا بوجودها ويرون إجابة طلبك بالرشد والنّصح صعبا عليهم قال: ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلّب في الماء جذوة نار وهيهات ذلك لأن الآخرة لمن يؤمن بالغيب الذي تخبر به وهم جاحدون له كافرون به مقتصرون على الدّنيا «وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» (27) عليهم وقعه شديدا بلاؤه، ولو علموه لجعلوه أمامهم صباح مساء ولكن لم يعرفوه فتركوه وراءهم، ولم يلتفتوا إليه، قال تعالى «نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ» مفاصلهم بالأعصاب ليتمكنّوا من القيام والقعود والأخذ والدّفع والقبض والبسط ولولا هذا الرّبط المحكم بهذا النّظام البديع لما انتفعنا بجوارحنا وحق لمن فعل هذا معنا أيها النّاس الشّكر والطّاعة لا الكفر والمعصية «وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ

[سورة الإنسان (76) : آية 31]

تَبْدِيلًا» (28) فجعلناهم على صور أخرى وأهلكناهم وخلقنا قوما غيرهم يشكرون ويطيعون ليعلموا أنا قادرون على إحيائهم بعد الموت، كما نحن قادرون على تبديلهم الآن، وهذه الآية بمعنى الآية 27 من سورة النّساء المارة «إِنَّ هذِهِ» الآيات المندرجة في هذه السّورة «تَذْكِرَةٌ» عظيمة وعظة بليغة لمن يوفقه الله لامتثالها والقيام بمقتضاها «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» (29) بالتذكر فيها واتباع سبيل النّجاح الموصل إلى النّجاة «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» لأن الأمر كله له وحده فلا تقدرون على طاعته إلّا بتوفيقه وإرادته ولا ينكفون عن معصيته إلّا بمشيئته وأمره «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً» بأحوال خلقه وما يؤل إليه حالهم في الدّنيا والآخرة «حَكِيماً» (30) مصيبا بما يفعله بخلقه «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» بهدايته لدينه القويم وتأهيله لها «وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ» باختيارهم المعاصي وظلمهم أنفسهم وغيرهم «عَذاباً أَلِيماً» (31) في الآخرة لا تطيقه قواهم لأنه علم إصرارهم على الكفر فلم يوفقهم للتوبة ولم يهديهم لسلوك طريقة السّوي فاستحقوا العذاب الدّائم بسوء نيتهم. هذا والله أعلم. وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الطّلاق عدد 13- 99- 65 نزلت بالمدينة بعد الإنسان، وهي اثنتا عشرة آية ومئتان وتسع وأربعون كلمة والف وستون حرفا، ومثلها في عدد الآي وسورة التحريم فقط. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» المختار لرسالتنا الأمين على وصيتنا المأمور بتبليغ أوامرنا ونواهينا، قل لأمتك «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي بعد تمام الحيض أول الطّهر لئلا تطول عليهن العدة المانعة من زواجهن بغيركم، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه طلق زوجته وهي حائض فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتغيظ منه رسول الله، ثم قال مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا

له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النّساء، ففعل كما أمر. واعلموا أيها النّاس أن هذا هو الطّلاق المأمور به من يريده وهو عند الله ورسوله وعلى غير هذه الصّورة يكون بدعيا مخالفا للسنة مؤاخذا عليه عند الله لما فيه من قصد الإضرار بالزوجة، قال بعض العلماء لعل هذه الآية هي النّاسخة للمتعة الواردة في الآية 24 من سورة النّساء المارة لأنها متأخرة عنها ولأنها تنص على لزوم إيقاع الطّلاق للعدة أي لزمانها والمتعة لا عدة فيها، راجع الآية المذكورة في سورة النّساء فيما يتعلق في هذا البحث وقد ذكرنا فيها أنها إنما ثبتت بالسنة ونسخت بها لأن السّنة تنسخ بمثلها ولا تنسخ القرآن، فالقول الصّحيح أنها لم تنسخ بالقرآن، وإنما نهى عنها رسول الله كما أنها ثبتت بإجازته، وامتثال أمره ونهيه واجب على الأمة لأنه لا ينطق عن هوى، وقال تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 58 من سورة النّساء المارة وقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية من سورة الحشر الآتية لذلك فإنها محرمة على القطع بتحريم رسول الله كما وتحريمه تحريم الله القائل «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ» ليعلم أنه إذا أراد زواجها المطلق ضمنها كان له ذلك إذا كان الطّلاق رجعيا وتتزوج بعدها إذا انقضت عدتها له أو لغيره وليتزوج هو بعدها أيضا إذا كان له ثلاث زوجات غيرها إذ لا يجوز لها الزواج قبل نفاد العدة كما لا يجوز له، وهنا إذا قيل لك أيها العاقل هل يعتد الزوج أم لا فقل يعتد في هذه الحالة ولحفظ النّفقة فيها «وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» أيها المطلقون «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» حتى انقضاء عدتهن ولا تطلقوهن إلا بزمانها «وَلا يَخْرُجْنَ» من تلقاء أنفسهن إلّا لحاجة ماسة وليبقين في بيوتهن لا يخرجن منها «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» فلكم حينئذ أن تخرجوهن منها كما لورثتكم ذلك على الوجه المبين في الآيتين 235 و 240 من سورة البقرة المارة «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» نبينها لكم في الطّلاق هنا وفي الآيات 226 و 244 من سورة البقرة وفي الآيات 19 و 20 و 34 و 138 من سورة النّساء المارة، وقد حدّ لكم حدودا في ذلك فإياكم ومجاوزتها «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» فيخالف ما أمره ويقدم على ما نهاه «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وأوردها مورد الهلاك

واعلم أن الله تعالى إنما نهاك عن الطّلاق البت مع أنه جازه لك لأنك أيها المطلق «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» لم يكن بالحسبان بأن يوقع في قلبك حبها كما أوقع فيه كراهيتها فتندم ولات حين مندم إذا كان الطّلاق بنا كما مرّ في الآية 19 من سورة النّساء، وكذلك على المرأة أن لا تطلب الطّلاق البت بسبب كراهتها لزوجها لاحتمال تبدل الحال معها أيضا كذلك يستحب للرجل أن لا يوقع على زوجته أكثر من طلقتين رجعيتين يبقى له مجالا للرجوع، وعليها أن لا تطلقه بأكثر من ذلك ليبقى لها الطّريق مفتوحا فيتراجعا متى أرادا ضمن العدة، فإذا أعلقاه بأيديهما وقد أوقع الله في قلوبهما محبة العودة يعظم ندمهما، وقد يبغيان جهلا طريق التحليل وهو خبيث أثيم منهي عنه، فالمحلل ليس بهذه النّية زوجا. وقد جاء في الخبر عن سيد البشر لعن الله المحلل والمحلل له. فما بالكم أيها النّاس يريد الله لكم الأصلح وتريدون الأصعب يريد الله لكم اليسر وتريدون العسر يريد الله أن يخفف عنكم وتريدون التثقيل، راجع الآيتين 185 في البقرة و 27 في النّساء المارتين، وإذا تشاددتم وأبيتم إلّا الطّلاق البات فليكن بطلقة واحدة بائنة ففيها يحصل المقصود لأن الزوجة تملك عصمتها ولا يحق للزوج الرّجوع عليها إلا برضاها، حتى إذا بدل الله ما في القلوب وتزجها بعقد ومهر جديدين. مطلب كراهة الطّلاق والنّهي عن البت فيه والعدة على الزوج أو الزوجة. التوكل على الله المانع من الانتحار: أخرج أبو داود عن محارب بن درثّا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطّلاق وله. عن ابن عمر أبغض الحلال إلى الله الطّلاق وله. وللترمذي عن ثوبان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أيما امرأة سألت زوجها الطّلاق من غير ما بأس حرام عليها رائحة الجنّة، فأحذروا أيها المؤمنون من أن توقعوا أنفسكم فيما لا خلاص لكم منه، وقد جعل الله لكم سبيلا ومخرجا لما به صلاحكم، فالله الله في أنفسكم قال تعالى «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» وكان ما وقع من الطّلاق منكم ليس بتا وعنّ لكم الرّجوع إلى أزواجكم «فَأَمْسِكُوهُنَّ» بالمراجعة في العدة أو تجديد العدة بعدها أو فيها إذا كان الطّلاق بتا وكان دون الثلاث «بِمَعْرُوفٍ»

وإحسان لا لقضاء الشّهوة فقط فيكون مكروها، وإذا كان للإضرار فحرام «أَوْ فارِقُوهُنَّ» اتركوهن يتزوجن غيركم إذا لم ترغبوا بالرجوع إليهن «بِمَعْرُوفٍ» أيضا قال تعالى (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الآية 28 من سورة البقرة المارة وتزوجوا غيرهن «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» على الطلاق وعلى تجديد النّكاح لئلا يقع تجاهد بينكم في ذلك، وفي النّفقة والزواج بالغير اشهدوا أيضا لئلا يدع أحد ميراث لآخر على فرض موت أحدهما «وَأَقِيمُوا» أيها الشّهود «الشَّهادَةَ لِلَّهِ» بأن تؤدوها على صحتها راجع الآية 283 من سورة البقرة لتقف على ما يتعلق بالشهادة والآية 221 منها فيما يتعلق بالزواج والطّلاق «ذلِكُمْ» الذي بيناه لكم مما «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» في ذلك كله، وجميع أوامر الله ونواهيه فيما يتعلق بينه وبين النّاس وبين ربه فمن يفعل ذلك «يَجْعَلْ لَهُ» مولاه ومالك أمره «مَخْرَجاً» من كل ما يحذر منه ويتعسر عليه وكلّ ضيق «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» ولا يعن على فكره ولا يخطر على باله ولا يرجوه «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» ومنفذه وممضيه ومبرمه لا بفوته مراد ولا يعجزه مطلوب، وعلى العبد أن يسلم لأمر الله ويسعى ولا يستبطئ ما طلبه، لأنه لا يقع فيهما إلّا بالوقت الذي قدره «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» أجلا وزمنا لا ينخرمان فيقع فيهما حتما دون أن يتوقف على شيء أو يعوقه شيء إذا حان أجله المقدر عنده. هذا ومن أجال النظر في هذه الآية وعرف مغزى (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وما شاكلها من الآيات والأحاديث المؤيدة لها هانت عليه الدّنيا، وفرج كربه، ونفس همه، وانشرح صدره، وتوسع فيضه، ولو أنعم فكره إلى مرمى هذه الآيات الواردة في الذكر الحكيم من حدثته نفسه بالانتحار لما انتحر لأنه يعلم أن الله تعالى لا بد أن يبسط عليه من فضله ويمنّ عليه من جوده فيفرج همه ويزيل كربه ويكشف ضيقه، ولكن أين المتذكرون، أين المتوكلون يقول الله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) وأنتم تعرضون عنه فمن أين يستجاب لكم؟ ويقول الرّسول لو توكلتم على الله حق

التوكل لرزقكم كما يرزق الطّير. وأنتم لا تلتفتون بل تشكون وتجحدون ولا تصدقون، فمن أين يأتيكم الخير وكيف يدفع الله عنكم الضّر؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله. روي أن عوف بن مالك أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له إن العدو أسر ابني مالكا وشكا إليه فاقته، فقال اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلّا بالله، ففعل فلم يحس إلّا وابنه وإبلا جاء بها ممن أسروه، فجاء به إلى الرسول فأخبره وقال أيحل أكل ما أتى به؟ فقال نعم أفتاه بحله لأنه من العدو في الدّين وكلّ ما كان فيه نقص أموالهم ورجالهم جاز فعله بأي صورة كانت، لأن الحربي لا ذمة له ولا عهد ولا أمانة له فيجوز أخذ ما لهم سرقة وقمار أو خلسة وبأي صورة كانت قال ابن عباس غفل عنه العدو فاستاق أنعامهم، وأنا أقول بسبب توكل أبيه وتفويض أمره لربه وأخذه بقول رسوله وأمره له بالصبر والحوقلة كان له ذلك وأعمى عنه أعداءه. هذا وقد عدّ بعض المفسرين هذه القصة من أسباب نزول هذه الآية، ولا مانع وهي باقية على عمومها. ثم لما بين الله تعالى أحكام ذوات الحيض من النّساء المدخول بهن ذكر ما يتعلق بغيرهن فقال عز قوله «وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ» في أحكامهن وشككتم في عدتهن «فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ» فقط «وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ» لصغرهن أو لعدم طرء الحيض عليهن بعد فكذلك عدتهن ثلاثة أشهر «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» سواء في ذلك عدة الطّلاق أو الوفاة لاطلاق النّص ولو كان يوما واحدا. روى البخاري الوداع ومسلم عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خوله فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها نجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السّنابل ابن بعلها، فقال لها مالي أراك تجملت للخطاب ترجين النّكاح وأنت بعد في العدة، والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرة أيّام، قالت سبيعة فلما قال ذلك جمعت على ثيابي حتى أمسيت أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأن قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي. وهذا لا يعني أن الآية نزلت وقت السّؤال لأنه واقع في حجة الوداع بل بعد

نزولها بأقل من سنتين، ولكن السّؤال والحادثة وقعت في ذلك، والفتيا تابعة لها. وهذه الآية ليست بناسخة للآية 234 من سورة البقرة بل مخصصة لها، فتلك باق حكمها في غير ذوات الحمل، وهذه مقتصرة على الحوامل فقط، فلو وضعت حملها بعد الطّلاق أو الوفاة بيوم واحد فقد حلت للأزواج، لأن دم النفاس لا يمنع الزواج، وكذلك الحيض، ولا تكون ناسخة أيضا للآية 229 من البقرة أيضا، والآيات الأخر المتقدمة فيها، لأن حكمها باق في غير الحوامل من ذوات الحيض، وهذه مخصصة بالحوامل، لأن النّسخ هو رفع الحكم بالمرة، وهذا غير موجود هنا، وكذلك الآية 49 من سورة الأحزاب فإنها غير ناسخة لآية البقرة ولا هذه ناسخة لها، ولا يوجد في القرآن نسخ بمعنى ابطال الحكم بالكلية كما قاله بعض المفسرين، وإن بقاء الآية المنسوخ حكمها للتلاوة فقط، بل النّسخ يكون بالمعنى الذي ذكرناه من التخصيص والتقييد والتدريج بالأحكام والتخفيف فيها ولهذا فإنك دائما ترى في القرآن العظيم إذا تتبعته بحسب نزوله العام والمطلق سابقين على الخاص والمقيد، أما النّسخ بمعنى إبطال الحكم بالكلية من أنه مناقض له بحيث لا يمكن التأليف بينهما فغير موجود بالقرآن حتما، وكذلك ما قيل إن بعض الآيات قد نسخ حكمها وتلاوتها مع بقائها في القرآن لا صحة له البتة، راجع ما بيناه في المقدمة في بحث النّسخ والآية 107 من البقرة تجد ما يقنعك. قال تعالى «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» (4) بأن يسهل عليه أمر الدّنيا والآخرة «ذلِكَ» الحكم المنوه به هو «أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ» أيها النّاس لتعملوا به، فخذوه واحذروا أن تخالفوه «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» ويعمل بما أمره به «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» (5) كثيرا إذ يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى مالا نهاية. ثم بين جل بيانه كيفية التقوى بأمر النساء فقال عز قوله «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ» بحسب ما تجدونه من السّعة والطّاقة، لأن الله لم يكلفكم فوق قدرتكم «وَلا تُضآرُّوهُنَّ» فتؤذوهن ولو بالكلام «لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» كى يخرجن من بيوتهن كرها، بل عاملوهن بالحسنى مدة عدتهن، وتذكروا وصية الله فيهن،

واجعلوا نصب أعينكم ما جاء في الآية الأولى المارة والاية 18 من سورة النّساء، بأن تبغوا طريقا للألفة كي يتيسر لكم الرّجوع إذا عنّ لكم «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» غير مقدر بقدر لأنه بالوضع تنتهي العدة وترفع عنكم كلفة نفقتها أما ذوات الحيض والآيات واللائي لم يحضن فلكل منهن قدر معلوم بينه الله لكم وألزمكم النفقة بقدره، أما ذوات الأحمال فإنه قد يتأخر الحمل إلى سنتين في مذهب أبي حنيفة، وإلى أربع في مذهب الشّافعي لذلك أوجب الله النّفقة على المطلق إلى حين الوضع، وإنهما رضي الله عنهما لم يقولا بذلك إلّا لما ثبت لديهما بالاستقراء، ولا قيمة لقول بعض الأطباء بأن الحمل لا يتأخر عن تسعة أشهر بعد أن ثبت حسا بأقوال الثقات. ومبنى قول الأطباء على العادة والعادة قد تنخرم أحيانا لأنها تكون أغلبية والله خرق العوائد. هذا وإن هؤلاء المطلقات إذا وضعن حملهن عندكم «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ» أولادكم باختيارهن إذ لا يجبرن على الإرضاع إلّا بالصورة المبينة في الآية 238 من سورة البقرة «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» عليه لأنهن غير مكلفات إرضاع أولادكم، وفي حالة التكليف لهن الاجرة المتعارفة عليكم «وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» لايق بالمروءة، فعلى الأب أن لا يماكس بقلة الأجرة ويماطل بدفعها، وعلى الولي عند فقده أن يقوم مقامه، وعلى المرأة أن لا تعاسر بطلب أكثر من أجر المثل أو تمنع عن الإرضاع في حالة عدم قبول الولد ثدى غيرها حفظا لحق الولد «وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ» بأن أصر كلّ منكم على ما يريده ولم يتساهل أحد منكم فلم تتفقوا على قدر معلوم وكان الولد يقبل ثدى المرضعات «فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى» (6) رفعا للنزاع والتشاحن، وإلّا فإن لم يقبل غير ثدي أمه فتجبر على إرضاعه بأجر المثل رضيت أم لم ترض كما بيناه في الآية الآنفة الذكر من سورة البقرة، لأن الله تعالى يقول «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» على قدر حاله ونسبة أمثاله «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» وضيق كسبه ولم يكن له مال «فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» بقدر ما يتمكن عليه لا على ما تطلبه المرضعة إذ «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» الغني بحسب غناه، والمتوسط بمقتضى حاله، والفقير على

مطلب الحكم الشرعي في الإشهاد على أن الطلاق والرجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدالة على أن الأرضين سبع كالسماوات:

ما تيسر له. فإذا فعلتم هذا أيها النّاس ولم تتجاوزوا الحالة التي أنتم عليها فاعلموا أنه «سَيَجْعَلُ اللَّهُ» لكم «بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» (7) وهذا وعد من الله للفقير بالسعة إذا لم يتعد قدره فيه، وللمكروب بالفرج، إذا لم ييأس، أما إذا بذخ المتوسط واستدان وأفرط، وكذلك الفقير إذا فرط وتجاوز حده في النّفقة، فمصيرهما الهلاك لمخالفتهما قوله تعالى «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» الآية الأخيرة من البقرة، فراجعها تقف على ما تريد في البحث. مطلب الحكم الشّرعي في الإشهاد على أن الطّلاق والرّجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدّالة على أن الأرضين سبع كالسماوات: أما الحكم الشّرعي بالإشهاد على الطّلاق والرّجعة فظاهر القرآن أنه واجب فيهما وقد اختلفت أقوال العلماء في ذلك، منهم من قال بوجوبه، ومنهم من قال بندبه أخرج أبو داود عن عمران بن حصين أن سئل عن رجل طلق امرأته ثم يقع عليها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال طلقة بغير سنة ورجعة بغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد أي أن ذلك جائز وموف بالمقصود إلّا أنه مخالف للسنة. وقد اختلفت آراء العلماء في مثل هذا، فذهب أبو حنيفة لندب الإشهاد فيهما لقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فهو على النّدب أيضا، وقال الشافعي مندوب في الطّلاق واجب في الرّجعة. وفي هذا الزمان أرى أن يكون واجبا فيهما لما يرى من التجاحد الذي لازالت تقام فيه الدّعاوى. قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ» راجع بحث كلمة كأين في الآية 146 من آل عمران المارة «عَتَتْ» طغت وبغت فتجاوزت وأعرضت فجنحت «عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً» على عتوّها «وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً» (8) فظيعا لا قبل لها به «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها» الذي فعلته في الدّنيا من الطّغيان «وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» (9) في الآخرة كما كان في الدّنيا، وأهل هذه القرية المعتاة وأمثالهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» فنالوا أهونه في الدّنيا وسينالون أشده في الآخرة. واعلموا أيها النّاس أن من يعمل عمل أهل تلك القرية منكم ولم يتب ويقلع عنه فإنه سيناله ذلك العذاب أيضا «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي

[سورة الطلاق (65) : الآيات 11 إلى 12]

الْأَلْبابِ» أن تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم. وفي هذه الآية من التهديد مالا يخص لمن لم يرجع عن غيه، والمراد تخويف أهل مكة خاصة وغيرهم عامة بأنهم إذا لم يؤمنوا وينقادوا لأوامر نبيهم بوقع بهم ما أوقعه بأهالي القرى السّالفة التي أصرت على كفرها من عذاب الاستئصال، كقوم عاد وثمود ولوط وشبههم، فاحذروا عباد الله من الإصرار على الكفر والبغي والتعدي على النّاس، ولا توقعوا أنفسكم فيما يدمركم «الَّذِينَ آمَنُوا» اسم الموصول هنا منصوب على الاختصاص، أو بتقدير أعني أولى الألباب الّذين آمنوا «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» 10 قرآنا وأرسل إليكم «رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» لما أحله لكم وحرمه عليكم «لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» من ظلمة الجهل وظلمة الشّرك وظلمة النّفاق إلى نور الإيمان والعلم والتوحيد والصّدق والإخلاص، فيهديهم للاسلام والإيمان وأعمال البر «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ» الموصوف بهذه الصفات «رِزْقاً» (11) فيما أعطاه وفي هذه الآية معنى التعجب والتعظيم لما يرزق المؤمن من الثواب الجسيم «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» في العدد، وهذه أوضح آية في القرآن تبين أن الأرضين سبع كالسموات على أنه لا يبعد أن يراد بها الأقاليم السّبعة التي أشرنا إليها في الآية 4 من سورة الرعد المارة، لأن الله تعالى قال في الآية 15 من سورة نوح المارة في ج 2 سبع سموات طباقا، والمثلية تقتضي أن تكون مثل المثل به بأن تكون الأرض سبعا طباقا أيضا، وكلّ ما لم يكشف لنا العلم عنه فالله أعلم به. قال الإمام الغزالي في كتابه المضنون به على غير أهله الأولى كرة النّار، والثانية كرة الهواء، والثالثة كرة الطّين المجفف الذي هو فوق الماء، والرّابعة الماء، والخامسة الأرض البسيطة، والسّادسة الممتزجات من هذه الأشياء، والسّابعة الآثار المعلومة كما أن السّيد عبد الكريم الجبلي ذكر في كتاب الإنسان الكامل مثل هذا. والله أعلم. وهو القائل «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» أي وحي الله لرسله واجراء

تفسير سورة البينة عدد 14 - 100 و 98

مقدراته وأحكامه على خلقه يكون بين السّموات والأرضين «لِتَعْلَمُوا» أيها الناس كلكم «أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» لا يعجزه شيء وبعد أن رأيتم أيها الناس خلقة السّموات والأرض وما فيها وعليها وتحتهما وفوقهما، واعتقدتم ذلك فلا يليق بكم أن تشكوا بإعادة الخلق كما بدأه بعد إبادته، ولا ترتابوا بأنه يعلم الجزئيات من أعمالكم كما يعلم كلياتها، وكيف يتطرق لكم ذلك الشّك «وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» (12) فلا شيء فيهما إلّا وهو عالم به، قليله وكثيره خفية وجليه. هذا والله أعلم، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة وقد بدئت سورة التحريم والأحزاب بما بدئت به فقط. واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة البينة عدد 14- 100 و 98 نزلت بالمدينة بعد سورة الطّلاق. وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة، وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا. لا ناسخ ولا منسوخ فيها وتسمى سورة: لم يكن ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به ولا بما ختمت فيه، ومثلها في عدد الآي الانشراح والتين والزلزلة والتكاثر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «لَمْ يَكُنِ» فعل مضارع من كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر ومعناه الدّوام والاستمرار بمعنى لا يزال لأنه من طائفة مازال وما فتىء وما دام اللاتي تلازم النّفي أي لا يزال «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» أي ليسوا من اليهود القائلين بالبداء وأن عزيرا ابن الله، ولا النصارى القائلين إن الله هو المسيح أو المسيح ابن الله أو ثالث ثلاثة منفكين عن كفرهم هذا «وَ» من «الْمُشْرِكِينَ» أناس لم يكونوا أيضا «مُنْفَكِّينَ» عن شركهم وكلمة منفكين هذه واقعة خبر ليكن واسمها الّذين المارة بصدد (الْآيَةَ) أي غير تاركين ولا زائلين عنه، بل لم يبرح الأولون ملازمين على الكفر بذلك والآخرون على عبادة الأوثان وإنكار البعث «حَتَّى

تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ» (1) الواضحة على إبطال معتقدهم ذلك، وهذه البينة «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ» وهو محمد صلّى الله عليه وسلم «يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» (2) عما يلوكه كفرة أهل الكتابين والمشركون «فِيها» في هذه الصّحف المقدسة «كُتُبٌ» مكتوبات «قَيِّمَةٌ» (3) عادلة مستقيمة ناطقة بالحق، وإنما سمي عليه السّلام بيّنة هنا لإتيانه بالقرآن العظيم الذي هو أبين من جميع الكتب والصّحف السّماوية، وقد أوضح وأبان ما فيها وأراد بالصحف القرآن العظيم لأنه مسطور عند الله على صحف جليلة في لوحه المكنون العالي، وأراد بالكتب كتب الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، لأن معناها كله مندرج في القرآن الكريم لاشتماله على معنى جميع ما أنزله على الرسل قبله، فصارت كأنها فيه، قال تعالى (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) الآية الأخيرة من سورة الأعلى في ج 1 ويأتي لفظ كتب بمعنى مكتوبات أي أحكام عظيمات قاسطة مدونة فيها. قال تعالى «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» أي ما كان اختلاف اليهود والنّصارى وتفرق آرائهم في أمر محمد عليه الصّلاة والسّلام ورسالته وكتابه «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» (4) في كتبهم وظهر لهم ظهور نار على علم وتوضح لديهم أنه نبي آخر الزمان الموصوف في كتبهم والذي أخذ عليهم العهد بالإيمان به من قبل أنبيائهم، وكانوا قبل ظهوره مجمعين على تصديقه حتى انهم يستنصرون به كما مر في الآية 90 من سورة البقرة ويستسقون باسمه ويقولون لا ننفك على ما نحن عليه من الدّين ولا نترك شيئا منه حتى يبعث النبي الموعود به على لسان الرّسل المكتوب منه في التوراة والإنجيل، فلما بعث صلّى الله عليه وسلم تفرقت كلمتهم واختلفوا عليه، فمنهم من آمن به بتوفيق الله إياه، ومنهم من كفر به بخذلانه له، وكذلك المشركون لتوغلهم في حب الدّنيا وزخارفها وحرصهم على بقاء الرّياسة لهم فيها، وصار الأمر على العكس بأن كان تفرقهم وبقاؤهم على ما هم عليه واختلافهم بمجيء الرّسول الذي كانوا ينتظرونه. ونظير قولهم هذا قول الفاسق الفقير لمن يعطيه لا أنفك عما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغني فإذا أغناه ازداد فسقا فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توصر وما غمست رأسك بالفسق إلّا بعد اليسار، فيذكره ما كان يقوله قبلا توبيخا

مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز:

له وإلزاما للحجة عليه، وهؤلاء حكى الله عنهم أولا بأنهم لم يزالوا على كفرهم حتى تأتيهم البينة الموجودة في كتبهم، ثم أخبر الله جل شأنه عن الواقع بقوله (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) فيكون المعنى أن الذي وقع منهم قبل بعثة الرّسول مخالف لما ادعوه بعد مجيئه، فلا مناقضة بين الآية الأولى القائلة لم يكن الّذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرّسول وحتى في الآية لانتهاء الغاية، فتقضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيانه وهو خلاف الواقع (ولا في الآية الثانية) لأنها تفيد أنه لم يحصل التفرق إلّا بعد مجيئه على ما أوضحناه لك آنفا فلا مناقضة من حيث الظّاهر ولا من حيث المعنى البتة. قال الواحدي هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا. وهذا الذي جرينا عليه أحسن الأقوال في هاتين الآيتين، ولا يستقيم النظم الكريم على خلافه، ولا يصح معناه إلّا به، والله أعلم، وهو ولي التوفيق قال تعالى «وَما أُمِرُوا» هؤلاء الكفار قبل بعثة الرّسول محمد عليه السّلام وبعدها «إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» وحده «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» متبرئين من الشرك والرّياء قلبا وقالبا لسانا ونية. مطلب المراد بالإخلاص وأهل الكتابين والمشركين وغزوة بن النّضير وسبب إسكان اليهود في الحجاز: والمراد بالإخلاص هنا هو أن يأتي المكلف بالشيء الحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، وينتهي عن القبيح لقبحه والسّيء لسوئه، ويفعل كما أمر الله رغبة فيه، وينتهي عن كلّ ما نهاه كراهية فيه وطاعة لله تعالى. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم. لأن الإسلام اللّساني لا قيمة له، والمعوّل على ما في القلب عند الله القائل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الآية 38 من سورة ق ج 1 والقائل أيضا (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) الآية 22 من سورة الرّعد المارة. وجاء عنه صلّى الله عليه وسلم في حديث صحيح طويل: التقوى هاهنا- كررها ثلاثا- مشيرا إلى صدره الشّريف أي ليست التقوى بشقشقة اللّسان، ولا بالأعمال الظّاهرة، بل

بالإخلاص راجع الآية 28 من سورة البقرة تجد بحثا وافيا في التقوى قد لا تجده في غيرها. ثم وصف الله تعالى المخلصين بكونهم «حُنَفاءَ» حالة كونهم في عبادتهم مائلين عن كلّ الأديان الباطلة إلى الدّين الحق دين الإسلام، مؤمنين بجميع الرسل والكتب السّماوية «وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ» المفروضتين عليهم «وَذلِكَ» أي عبادة الله والإخلاص فيها ودعمها بإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة هو «دِينُ الْقَيِّمَةِ» (5) الملة المستقيمة العادلة القاسطة كما يريده ربّ هذا الدّين السّوي «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» المشار إليهما أول هذه السورة الّذين انفكوا عن هذا الدّين القويم دين محمد صلّى الله عليه وسلم واختلفوا فيه وتفرقوا بعد ما جاءهم به وتلى عليهم كتاب الله الذي أنزله عليه في هذه الدّنيا ولم يتبعوه يكونون في الآخرة «فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» (6) وانما قدم كفرة أهل الكتاب لأن جنايتهم في الكفر أعظم من المشركين الكافرين في الأصل، إذ لا يعلمون شيئا عن محمد ورسالته، لأن رسولهم إسماعيل تقادم عهده فلم يبلغهم عنه شيء من أمر الدّين، ولم يترك لهم كتابا يعملون به، ولم يرسل لهم رسولا بعده، أما أهل الكتابين فيعلمون ذلك بإخبار رسلهم المتتابعة وبيان كتبهم، حتى أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته صلّى الله عليه وسلم كما أشرنا إليه في الآية 89 من سورة البقرة المارة، وكانوا يقرون نبوته، فلما جاءهم كذبوه وجحدوه وأنكروا ما كانوا يذكرون عنه ويذكّرون به، وبدل أن يؤمنوا به فقد ازدادوا كفرا وصدوا غيرهم عن الإيمان به، عتوا وعنادا ترجيحا لحطام الدّنيا على نعيم الآخرة. هذا والمشركون وإن كان جرم اشراكهم أعظم كفرا من كفر أهل الكتاب، لأن الشّرك أعظم أنواع الكفر، إلا أنهم لم يعرفوا ما يعرفهم أهل الكتابين من أمر الرّسول محمد، لأنهم جهلة لما ذكرنا آنفا، وعدم وجود شيء من آثار النّبوة عندهم وكونهم أميين لم يتعلموا، وهذا فقد أذل الله هذين الفريقين وأخزاهم في الدّنيا والآخرة «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» (7) عند الله في الدّنيا والآخرة، ويكون «جَزاؤُهُمْ» في الدنيا الذكر الجميل والسّمعة الحسنة، وفي الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي

تفسير سورة الحشر عدد 15 - 101 - 59

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» رضوا به أن يكون ربا لهم ومدبرا لأمورهم، ورضوا عنه بما يقضي عليهم ويدبر لهم «ذلِكَ» الجزاء المبارك الطّيب الحسن يكون «لِمَنْ خَشِيَ عليهم رَبَّهُ» (8) في الدّنيا عن علم وإدراك ويقين، لأن خشية الله هي الأساس المتين المانعة عن كل ما لا يرضيه، راجع الآية 28 من سورة فاطر في ج 1، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال النّبي صلّى الله عليه وسلم لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) السورة قال أبي وسماني يا رسول الله؟ قال نعم، فبكى فرحا وسرورا وخشية وإجلالا لله تعالى. وفي رواية البخاري زيادة وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال نعم، فذكر أن فاضت عيناه. ففي هذا الحديث بشارة عظيمة في فضل أبي بن كعب رضي الله عنه، وإعلام بمعرفته لقراءة كتاب الله كما يريده الله، وهي منقبة خص بها لم يشاركه فيها أحد من الأصحاب، وإيماء إلى أن هذه السّورة التي اختارها الله بأن يقرأها رسوله على أبي جامعة معانيها لأصول وفروع وقواعد تتعلق بأمر الدّين والدّنيا، خطوات جليلات ومهمات عظيمات، على قلة مبانيها. واعلم أن الحكمة من قراءتها من قبل النّبي صلّى الله عليه وسلم على أبي هو في الحقيقة تعليمه ألفاظها وكيفية النّطق بها ووزن كلماتها، ليأخذها النّاس عنه كما تلقاها من حضرة الرّسول لأنه هو أحد القراءة المشهورين الّذين يؤخذ عنهم القرآن وإيذان للناس بلزوم قعله ولو ممن هو دونهم بالفضل، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، واعلام باحترام حملة القرآن ومعلميه وتعظيمهم. هذا والله أعلم. واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الحشر عدد 15- 101- 59 نزلت بالمدينة بعد سورة البينة. وهي أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة والف وتسعمئة وثلاثة عشر حرفا. وقد بينا السّور المبدوءة بما

[سورة الحشر (59) : الآيات 1 إلى 10]

بدئت به أول سورة الأعلى في ج 1، ويوجد سورة التغابن مختومة بما ختمت به ولا يوجد مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (1) في مبدعاته فيها القاهر والغالب لكل من فيهما وبينهما وعليهما وفوقهما وتحتها. وقد بينا معنى التسبيح وأقسامه أول سورة الحديد المارة فراجعها وما ترشدك إليه «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ» ذكرنا في المقدمة في بحث النّزول أن نزول الآيات والسّور قد يتقدم على سببه وقد يقارنه وقد يتأخر عنه حسبما تقتضيه الإرادة الرّبانية. وهذه السّورة في القسم الثالث، لأنها تمثلت في بني النّضير الّذين رئيسهم كعب بن الأشرف الذي كان عاهد حضرة الرّسول ونقض عهده، لهذا نعتهم الله بالكفر مع أنهم من أهل الكتاب الّذين لا يطلق عليهم لفظ الكفر وكان عاهدهم الرّسول في المدينة على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فلما غزا رسول الله بدرا على الصّورة المبينة في الآية 15 من سورة الأنفال المارة وظهر فيها على المشركين قالوا والله هذا هو النّبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة الذي لا تردّ له راية، فلما تلتها غزوة أحد المشار إليها في الآية 139 من آل عمران المارة أيضا ارتابوا وأظهروا العداء وأول جناية فعلوها هي حينما جاءهم الرّسول يستعينهم في دية الرّجلين اللّذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري في منصرفه من بئر معونة، المارة قصّتهم في الآية 169 من آل عمران أيضا، هموا بطرح حجر عليه من الحصن ليقتلوه، فعصمه الله تعالى كما سيأتي بيان هذه الحادثة في الآية 10 من سورة المائدة الآتية، ثم نقضوا العهد علانية وتحالفوا مع المشركين على مناوأة الرّسول، وبعد غزوة حمراء الأسد وغزوة بدر الأخرى المشار إليها في الآيتين 172 و 173 من آل عمران أيضا حرض رسول الله على قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة على الصّورة المارة في الآية 186 منها أيضا، فراجعها لتقف على كيفية اغتياله وكيف احتمال عليه الّذين قتلوه، وما قالت زوجته عند خروجه إليهم وما رد به عليها. وخلاصة هذه القصة التي وعدنا بذكرها في الآية 27 من سورة

الأنفال المارة هي أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بعد قتل رئيسهم كعب في بضعة أشهر في شهر ربيع الأوّل السّنة الرّابعة من الهجرة الشّريفة غزاهم بأصحابه الكرام فوجدهم لم يزالوا ينوجون على رئيسهم، فأمرهم بالخروج من قريتهم المسماة الزهرة، فقالوا له الموت أقرب، وكان المنافقون عبد الله بن سلول وأصحابه دسّوا لهم بأن لا يخرجوا وتعهدوا لهم بالمعونة والنّصرة على قتال محمد وأصحابه وانهم لا يخذلونهم أبدا فحصّنوا أزقة المدينة، وأجمعوا على الغدر برسول الله، وتنادوا في الحرب فيما بينهم، وقالوا لحضرة الرّسول، أخرج علينا في ثلاثين من أصحابك وليلقاك ثلاثون حبرا منا، فإن آمنوا بك آمنا، فخرج الفريقان إلى براز في الأرض، وإنما وافقهم رسول الله على هذا، وهو إنما جاء عامدا لقتالهم حرصا على دخولهم في الإيمان، فلما خرجوا قال اليهود بعضهم لبعض كيف نخلص إليه وكلّ أصحابه يحب الموت دونه؟ فاتفقوا على أن يخرج الرّسول في ثلاثة من أصحابه فقط ويقابله ثلاثة من أحبارهم، لأن التفاهم لا يحصل بين ستين رجلا، فخرج إليهم صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه ولم يدر ما دبروه إليه من الكيد، ولم يخبره ربه بشيء، فتقدم أحبار اليهود مدججين بالسلاح ليفتكوا به، فأخبرت امرأة منهم أخاها المسلم بما دبّروه له من الكيد والمكر، فأقبل مسرعا وأدرك الرّسول قبل أن يتصل باليهود وأخبره الخبر، فرجع صلّى الله عليه وسلم وعرفوا ذلك، فرجعوا أيضا ولم يكلموه، إذ علموا أنه اطلع على مكرهم قالوا فلما كان الغد صبحهم رسول الله بالكتائب وألقى الله في قلوبهم الرّعب، فلم يخرجوا إليه فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وهم ينتظرون نصرة المنافقين الّذين وعدوهم بالمعونة ولما أيسوا منهم طلبوا الصّلح من رسول الله، فأبى إلّا أن يخرجوا من ديارهم على ما يأمرهم به، فقبلوا، فأمرهم بالجلاء على أن لهم ما أقلت إبلهم من أموالهم عدا السّلاح، فخرجوا وهاجروا إلى أذرعات من أرض الشّام وأريحا من أرض فلسطين، (والجلاء هو الخروج بالأهل من الوطن إلى مكان آخر عنوة) وتركوا ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم غنيمة للمسلمين، أما آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب منهم فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، وأنزل الله هذه السّورة بعد الواقعة بسنتين يعدد فيها نعمه على عبده، ويذكره بأن إخراجهم

كان «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» والحشر إخراج جمع من مكان وسوقه إلى غيره، وهم أول من أخرج من جزيرة العرب المحاطة من القبلة والشرق والغرب ببحري الحبشة وفارس، ومن الشّمال بنهري دجلة والفرات، وفي قوله تعالى (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) إشارة إلى أنهم يحشرون ثانيا، وقد كان ذلك في زمن خلافة عمر رضي الله عنه، لأنه أجلى بقايا اليهود من خيبر إلى الشّام، وذلك لما بلغه قول صلّى الله عليه وسلم لا يبقين دينان في جزيرة العرب، وإشارة أخرى إلى أن الحشر يوم القيامة بأرض الشّام، وأن أريحا وأذرعات اللّتين هاجر إليهما اليهود من أول الأرض المتاخمة إلى أراضي الشّام وهو كذلك، قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية، ولأن الرسول لما قال لهم اخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. وبنو النّضير هؤلاء وبنو قريظة الّذين تقدمت قصتهم في الآية 26 من سورة الأحزاب من أولاد الكاهن ابن هرون عليه السّلام، وسبب نزولهم وبني قينقاع في أرض الحجاز هو أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق المتوطنون في يثرب والجحفة، فوجه إليهم موسى عليه السّلام جيشا من أبناء هؤلاء اليهود فأهلكوهم عن آخرهم، إلا ابن ملك لهم، كان غلاما حسنا فرقوا له واستوطنوا مكانهم وتناسلوا فكثروا، وبعد سيل العرم جاء الأوس والخزرج من اليمن إلى يثرب ونزلوا بجوارهم وبقوا جميعا إلى أن جاء الإسلام. قال تعالى يا أيها المؤمنون «ما ظَنَنْتُمْ» أولا «أَنْ يَخْرُجُوا» هؤلاء اليهود من مدينتهم لشدة تحصّنهم فيها وتهالككم عليها لما لهم فيها من الأموال وقدم السّكنى «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ» بأس «اللَّهِ» فلم يفكروا بالخروج من وطنهم «فَأَتاهُمُ اللَّهُ» هذه الجملة من آيات الصّفات التي أشرنا إليها أول آل عمران أي حل بهم بلاؤه وألقى في قلوبهم الخوف وتحقق الإهلاك والدّمار من قبل الرّسول وأصحابه «مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» ولم يخطر ببالهم أن رئيسهم يقتله أخوه لأمه، وأن محمدا يحيط بهم ويقسرهم على الخروج، وقد هددهم بالقتل إن لم يخرجوا «وَ» أن الله «قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» حتى صاروا بحالة «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ» لئلا يسكنها أحد من بعدهم «وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» تخرّب بيوتهم أيضا ليدخلوها

عنوة ويزيلوا تحصينها لتزداد النّكاية بهم «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (2) كيف فعل الله بأعدائه فهو فعل عظيم يؤخذ منه عبرة جليلة وعظة خطيرة، وقدمنا في الآية 13 من آل عمران المارة أن هذه الآية مصدر أخذ القياس في الأحكام الذي بيناه في الآية 35 من سورة الإسراء ج 1 «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ» الذي هو أهون عليهم من القتل ورضائهم به «لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا» بأعظم منه وهو الأسر والسّبي والقتل كما فعل في بنى قريظة الّذين حكموا سعدا فيهم، راجع قصتهم المذكورة في الآية 27 من آل عمران المارة تطلع على ما عد خيانة على سفير رسول الله وهذا عذابهم في الدّنيا «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» (3) على ما فعلوه بالدنيا «ذلِكَ» الذي كتب عليهم «بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بنقضهم العهد وإرادتهم الغدر بحضرة الرّسول «وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (4) إذا عاقب قال تعالى «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ» نخلة كريمة بسبب دخولكم على أولئك الكفرة «أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ» قطعها وتركها لأنكم لا تقتدرون أن تتحركوا بحركة إلّا بعلمه وإرادته «وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» (5) المذكورين لأنهم خرجوا عن طاعة الرّسول والقطع الذي وقع كان أثناء الحصار. وسبب نزول الآية هو أن منهم من نهى عن قطع النّخيل تأثما، ومنهم من أمر به تشفيا لما حاكوه من الكيد بحق الرّسول، ولذلك فإن الأصحاب المجاهدين منهم من امتنع، ومنهم من دوام لإغاظة المحصورين وإلجائهم إلى التسليم، فأنزل الله هذه الآية بتصديق نهي الناهي وتحليل قطع القاطع من الإثم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال حرق رسول الله صلّى الله عليه وسلم نخل بني النّضير وقطع أشجار البويرة وهي اسم موقع لهم فنزل (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) الآية، وفيها قال حسان بن ثابت: وهان على سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير وهذا والله أعلم قبل إسلامه وإلّا لمدحهم على ذلك، لأن في هذا البيت معنى التأنيب وعدم الرّضى بالفعل. الحكم الشّرعي يجوز هدم حصون الكفار وديارهم وحرقها وتدميرها وقطع أشجارهم وفعل كلّ ما يغيظهم لحملهم على التسليم وإذلالهم

وإهانتهم وكسر شوكتهم. قال تعالى «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ» يكون خاصة لحضرة الرّسول يضعه حيث شاء، لأن الذي يقسم على الجيش هو الذي يحصل بالمقاتلة أو المشقة، وهذا ليس كذلك، لأن قريتهم على ميلين من المدينة، وقد جاؤا مشيا على الأقدام ولم يتجشموا من جرائهم تعبا ولا نصبا. قال تعالى مبينا ما هو المراد من صدر الآية وموضحا كيفية تقسيم الغنائم واختصاصها بقوله جل قوله «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ» الوجيف سرعة السّير أي فما أجريتم على اغتنامه «مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» حتى تستحقوا منه شيئا، وذلك ان بني النّضير لما أجلوا وتركوا رباعهم وضياعهم وخيلهم، طلب بعض المسلمين الّذين كانوا مع حضرة الرّسول قسمتها بينهم كما فعل بغنائم خيبر، فأنزل الله هذه الآية يعلمهم فيها أن ليس لهم بشيء منها من حق لأنهم لم يتجشموا من أجلها متاعب ولم يقطعوا فيها مشقة، ولذلك خصصها لحضرة رسوله، أما الذي يكون بشيء من ذلك فحكم تقسيمه ما أوضحناه في الآية 10 من سورة الأنفال، وهكذا كلّ مدينة يسلم أهلها بلا قتال على شيء أو بدون شيء، والتي تدخل صلحا في حوزة المسلمين فإن ما يحصل منها في الفيء يكون للامام يضعه في بيت مال المسلمين وينفقه بعد في حوائجهم ومصالحهم وعلى الطّرق والثعور وفي السّلاح وغيره مما يراه نافعا وعلى المذكورين في الآية الآتية «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» فيأخذهم بالرعب دون قتال وسوق جيش يناله مشقة بالوصول إليهم كهؤلاء «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (6) يأخذ أناسا بقتال وأناسا بغيره، ومع هذا فإن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم قسمه بين المهاجرين والأنصار كما رواه البخاري عن عن مالك ابن أوس الفهري، وقد أشار الله إلى هذا بقوله «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» لأن مجيئها بلا أداة العطف دليل على أنها بيان للآية قبلها وهي إيضاح من الله للرسول فيما يضع بما أفاء الله عليه خاصة، وأمره له بان بضعه حيث يضع الخمس من الغنائم، وقد بينا الفرق بين الفيء والغنيمة هناك فراجعه، وقد أمر الله تعالى رسوله بذلك «كَيْ لا يَكُونَ» الفيء

مطلب أمر الرسول أمر الله وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشح وعمل أبي طلحة رضي الله عنه وحب الأصحاب حب الرسول:

الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها «دُولَةً» بضم الدّال وهي يتداوله ويتداوره النّاس بينهم في الملك بالكسر وبفتح الدّال ما يتدابره النّاس في الملك بضم الميم في النّصرة والجاه، وقيل قسمته تقسيم وتنداول «بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» فيكاثر به بعضهم بعضا ويغمطون حق الفقراء، وهكذا، فلا يجوز للسلاطين والملوك والأمراء أن يختصوا بمثل ذلك لأنفسهم بل ينبغي أن يتركوه لمنافع المسلمين كالسلاح وعمارة الجسور ومحافظة الثغور وإصلاح الطّرق وآلات الحرب ولوازم المجاهدين والإنفاق على المرضى والعجزة والأرامل والأيتام وتعليم الفقراء والمساكين وما شابه ذلك. مطلب أمر الرّسول أمر الله وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي الله عنه وحب الأصحاب حب الرّسول: قال تعالى «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» أيها المؤمنون سواء كان من الفيء أو الغنيمة، ولا تطلبوا زيادة منه، ولا تسألوه لم أعطى ولم منع «وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» من الغلول وغيره، وامتثلوا أمره. وهذه الآية عامة في كلّ ما يأمر به حضرة الرّسول وينهى عنه، لأنه لا يقول إلّا حقا ولا ينطق إلّا صدقا ولا يتكلم عن هوى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تتهاونوا بأمره ونهيه كله لأنكم مأمورون بطاعته، قال تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية 58 من سورة النّساء المارة فطاعة الله طاعة رسوله وبالعكس «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (7) على من يخالف أمر رسوله في قول أو فعل أو عمل، ولذلك ختم الله هذه الآية في هذه الجملة المهددة للمخالف الموعدة له بسوء العاقبة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أنه قال لعن الله الواشمات والمستوشمات (أي الطّالبات الوشم) وهو غرز الإبرة بجسم الإنسان وحشوه بالكحل أو شيء من الصّبغ فيصير أسود أو أزرق والمتنمّصات (اللائي ينتفن الشّعر من الوجه وغيره) والمتفلجات (اللائي يتكلفن تفريج ما بين ثناياهن بضاعة) للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته؟ فقال عبد الله ومالي لا ألعن من

لعن رسول الله وهو في كتاب الله، فقالت المرأة لقد قرأت الوحي (المصحف) فما وجدته، فقال إن كنت قرأته لقد وجدته، فإن الله عز وجل قال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) يعلمها في هذه الآية أن ما يقوله حضرة الرسول واجب اتباعه مثل الذي يقوله الله في كتابه. وما رويا عن عائشة قالت قال صلّى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وفي رواية: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا ألفين أحدكم منكبا على أريكته يأتيه أمر ما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه يؤيد هذا ويؤكده. إذا فلا محل للقول فيما قاله حضرة الرّسول بأنه ليس في كتاب الله، ولذلك لا نتفيد به بل هو من كتاب الله، لأن كلّ ما أخبر به رسول الله هو من الله، وفي كتاب الله، وبأمر الله، وعليه فإن من يتعدى لمثل هذا القول هو معاند زنديق لا يؤمن بكتاب الله ولا يصدق رسوله، لأنه لو آمن لما تجرأ على مثل هذا، ثم ذكر الله تعالى أصحاب الحقوق في الفيء بقوله «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ» قسرا من قبل كفار قريش لأنهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» لإعلاء كلمته ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم لمرضاة الله لا لأمر آخر «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (8) في هجرتهم المخلصون بإيمانهم المستحقون للفيء أكثر من غيرهم. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنّة بأربعين خريفا «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ» اتخذوا المدينة مسكنا لهم ومأوى للمهاجرين من أهل مكة قبل قدوم النّبي صلّى الله عليه وسلم «وَالْإِيمانَ» لزموه وأخلصوا لله به على حد قوله علفتها تبنا وماء باردا. وذلك لأنهم آثروه على الكفر «مِنْ قَبْلِهِمْ» وقيل المهاجرين وهم الأنصار الّذين آمنوا بمحمد قبل هجرته إليهم، وهم الّذين «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ» من إخوانهم المسلمين المهاجرين حيث شاطروهم بأموالهم ومنازلهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم زواجا لهم، وذلك أن منهم من كان عنده نساء متعددات ولم يكن

عندهم بنات فصار يطلق من قضى نهمته منها ثم يزوجها أخاه المهاجر، وهذا مما لا بأس به شرعا «وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» أي حزازة أو غيظا أو حسدا «مِمَّا أُوتُوا» من الفيء دونهم لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أعطى المهاجرين أموال بني النّضير ولم يعط منها إلّا ثلاثة من الأنصار، هم أبو حارثة سماك بن خراشة وسهيل بن حيف والحارث بن الصّمة، لم يغتاظوا وبقيت نفوسهم طيبة بذلك ولم يقولوا لم يعطنا مثل المهاجرين وكنا معه سواء «وَيُؤْثِرُونَ» أولئك الممدوحون أي يفضلون المهاجرين «عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» أي حاجة وفقر، قال ابن عباس قال صلّى الله عليه وسلم يوم النّضير للانصار إن شئتم قسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وتشار كونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة، فقالوا بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فأنزل الله هذه الآية. ومما جاء في الأخوة الصّادقة المخلصة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قالت الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النّخيل، قال لا، فقالوا تكفونا المئونة ونشرككم في التمر، قالوا سمعنا وأطعنا. وما روى البخاري عن أنس ابن مالك قال دعا رسول الله الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، فقال اما لا فاجروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي (الأثرة بفتح الهمزة والثاء) أي يستأثر عليكم في أمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم بسبب فساد الزمان، إذ يوسد الأمر إلى غير اهله، ويسود القوم أرذلهم. وقيل نزلت هذه الآية في أبي طلحة لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني مجهود (أي شديد الجوع) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلّا الماء، ثم أقبل على الأخرى فقالت مثل ذلك، وقلن كلهن مثل ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم من يضيفه يرحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلّا قوت صبياني، قال فعلليهم بشيء ونوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا أهوى بيده فقومي إلى

السراج فاطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضّيف وباتا طاوبين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال عليه الصّلاة والسّلام لقد عجب الله أو ضحك من فلان وفلانة وفي رواية: وأنزل الله هذه الآية. وقدمنا ما يتعلق بالأخوة الصّادقة وفوائدها في الآية 67 من سورة الزخرف ج 2 فراجعها. قال تعالى «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» ويخالف هواها ويميل إلى كرم النّفس يفوز بخيري الدّنيا والآخرة، ولذلك قال تعالى «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (9) والشّح اللّؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع، وقيل في ذلك: يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا والكزّة القبيحة، والكزازة اليبس والانقباض، ويقال للبخيل كزّ اليدين. والبخل شدة الحرص لخوف الفقر وعدم اليقين بخلف الله عليه لتغلب تسويلات الشّيطان عليه. قال تعالى: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) الآية 269 من البقرة المارة. ولا يزال البخيل يبخل حتى يحمله بخله على الحرص، حتى أنه ليبخل على نفسه بما في أيدي الغير، لأن من معاني البخل مطلق المنع. روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال اتقوا الظّلم فإن الظّلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشّح فإن الشّح أهلك من كان قبلكم وحملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال شرّ ما في الرّجل شح هالع (الهلع شدة الجزع على ما يفوت) وجبن خالع أي (يخلع الفؤاد لشدة الفزع) . وأخرج النّسائي عنه قال قال صلّى الله عليه وسلم لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشّح والإيمان في قلب عبد أبدا. وأشرنا إلى ما يتعلق لهذا آخر سورة محمد عليه السّلام فراجعه، قال تعالى «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ» أن الفيء المار ذكره يكون أولا للمهاجرين، ثم للأنصار، ثم للّذين يأتون من بعدهم وهم التابعون إلى يوم القيامة، لأن هذا الفيء يكون بيد من يتولى أمر المسلمين فينفقه عليهم، وهؤلاء المستحقون ذلك هم الّذين «يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ

رَحِيمٌ» (10) فعلينا معاشر المؤمنين أن ندعو لمن قبلنا ومن بعدنا أسوة بهؤلاء الصالحين الّذين وصفهم الله بالآية السّابقة، فالّذين لا يتصفون بتلك الصّفات لا يستحقون شيئا من الفيء والغنيمة، وليس لهم حق أي نصيب وحظ في فيء المسلمين، لأن المسلم يجب أن يكون مؤمنا وأن يدعو للمؤمنين ممن سبق زمنه بالمغفرة، وأن لا يكون في قلبه غيظ على أحد منهم، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. وروى مسلم عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة يا ابن اختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله فسبوهم وأخرج الترمذي عن عبد الله بن معقل قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول، الله الله في أصحابي، لا تتّخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه فيطرحه في جهنم. قال تعالى (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) الآية 103 من سورة هود في ج 2 فعلى العاقل أن لا يذكر أصحاب الرّسول إلّا بخير، ولا ينتقدهم، ولا يقبح رأيهم، ولا يعيبهم بشيء أبدا. وقال جابر قيل لعائشة إن أناسا يتناولون أصحاب رسول الله حتى أبا بكر وعمر، فقالت وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل وأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر. أي أن الله تعالى يثيبهم بسبب غيبتهم، وقد يأخذ من حسنات مغتابيهم فيضعها إليهم، ويأخذ من سيئاتهم فيطرحها على المغتابين وهم لا سيئات لهم إلّا أنه قد يقع منهم مما هو خلاف الأولى فيحسب عليهم سيئة بالنسبة لمقامهم الرّفيع. وقال مالك بن أنس من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآية. وسمع ابن عباس رجلا ينال من أصحاب رسول الله فقال له من المهاجرين الأولين أنت؟ قال لا، قال فمن الأنصار أنت؟ قال لا، قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان. وقال مالك بن مغول وفي نسخة بن مفعول، قال قال الشّعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنّصارى على الرّافضة بخصلة، سئلت اليهود من

[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 20]

خير أهل ملتكم قالوا أصحاب موسى، وسئلت النّصارى من خير أهل ملتكم قالوا حواري عيسى، وسئلت الرّافضة من شر أهل ملتكم فقالوا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم والسّيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حجتهم، أعاذنا الله من الأهواء المضلّة. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا» فدسّوا على بني النّضير وتعهدوا لهم بالمعونة والنّصرة على الرّسول وأصحابه كما مر أول السّورة «يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً» بخذلانكم وعدم القتال معكم ولنكونن معكم «أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (11) في وعدهم هذا وعهدهم لهم. ثم أقسم جل قسمه على عدم قيامهم بذلك فقال «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ» على الفرض والتقدير «لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ» عنهم منهزمين إلى الوراء «ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (12) البتة لأن الخذلان مقدر عليهم «لَأَنْتُمْ» أيها المؤمنون «أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» أي أن بني النّضير يخافونكم أكثر من خوفهم من الله لقلة يقينهم «ذلِكَ» إيقاع الرّعب منكم في قلوبهم دون ربكم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (13) عظمة الله ولو علموها لخافوا الله أكثر منكم. واعلموا أنهم «لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً» أي اليهود والمنافقون «إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ» لشدة جبنهم وخوفهم منكم، فلا يبرزون إلى ميدان القتال ولا يقدرون على مقابلتكم فيه ولكنهم إذا قاتلوا بعضهم يكون «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» لسوء طويتهم وشدة حقدهم بعضهم على بعض ولكن إذا قاتلوكم جبنوا وألقي في قلوبهم الرّعب منكم لما أوقع الله في قلوبهم من هيبتكم «تَحْسَبُهُمْ» أيها الرّائي عند ما تراهم «جَمِيعاً» متحدين مؤتلفين كلا بل هم متفرقون متنافرون «وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» متفرقة يبغضون بعضهم ويتحاسدون على القليل والكثير، وهذه الواو للمحال أي والحال على خلاف

مطلب قصة برصيصا الراهب وكفره وجريج الراهب وبراءته، وتسبب العلماء لإهانة أنفسهم:

ما ترونهم وتظنون بهم «ذلِكَ» اجتماعهم في الأجسام وتفرقهم في القلوب وشدة بأسهم على بعضهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» (14) أوامر الله ونواهيه فيبهتون ويتحيرون ولو عقلوا لما كان هذا شأنهم، مثلهم يا سيد الرّسل «كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أهل مكة ومن حذا حذوهم «قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» في حادثة بدر وهذا عذابهم في الدّنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ أَلِيمٌ» (15) لاتقواه قواهم ومثل المنافقين الّذين وعدوهم بالمعونة وتعهدوا لهم بالنصرة ثم خذلوهم «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» (16) من عاقبة الكفر الوخيمة ولهذا «فَكانَ عاقِبَتَهُما» أي الشّيطان المغوي للانسان والإنسان التابع لإغوائه «أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» (17) أنفسهم باتباع أهوائهم وشياطينهم، وبئس الجزاء. مطلب قصة برصيصا الرّاهب وكفره وجريج الرّاهب وبراءته، وتسبب العلماء لإهانة أنفسهم: هذا والمراد بهذا الإنسان على ما رواه عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة اسمه برصيصا، عبد الله في صومعته سبعين سنه لم يعص الله طرفة عين فجمع إبليس مردته وقال لهم أيكم يكفيني أمره؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء أنا أكفيكه فذهب إليه وناداه فلم يجبه لانشغاله في صلاته، فقام الملعون يصلي أيضا، فلما انفتل برصيصا من صلاته رأى رجلا على هيئة الرّهبان يصلي فلام نفسه وقال له إنك ناديتني وأنا مشغول بصلاتي فما حاجتك؟ قال جئت أتأدب بأدبك وأتعبد معك فتدعو لي وأدعو لك، قال له إني لفي شغل عنك، وأقبل على صلاته وأقبل الخبيث على الصّلاة أيضا وبقي أربعين يوما معه لم يلتفت إليه، ثم قال له برصيصا ما حاجتك معي؟ قال تجعلني معك في صومعتك فجعله لما رأى من عبادته وأقام معه سنة لا ينظر إليه إلّا في كلّ أربعين يوما مرّة، ثم أعجب برصيصا حاله فقال الأبيض لبرصيصا كان بلغنا عنك غير الذي رأيت منك، وإن لي صاحبا هو أشد اجتهادا منك، وإني منطلق إليه، وسأعلمك كلمات يشفي الله بهن السّقيم،

فعله وتركه، وقد عرف الخبيث أنه لا يمكن إغواؤه إلّا من قبل النّساء لأنهن من أوثق الخدع لصيد الأتقياء، ثم ذهب فتعرض لرجل وقال لأهله إن به جنونا انطلقوا به إلى برصيصا، فأخذوه إليه فدعا إليه بتلك الكلمات فبرىء من ساعته، وصار الخبيث يتعرض للناس ويرشد أهليهم لمراجعة برصيصا حتى تعرض لبنت الملك وقال لأهلها لا يبرئها إلّا برصيصا، اذهبوا بها إليه واتركوها عنده، فإذا عوفيت فردوها، فأخذوها إليه فبرئت، فأرادوا إبقاءها عنده لئلا يعود إليها الجنون، فلم يفعل، فجاءهم الخبيث وقال لهم ابنوا لها صومعة بجانب صومعته وضعوها فيها وقولوا له هذه أمانتك واجعلوها تشرف عليه حتى إذا عاد عليها ما بها دعا لها فتبرا، ففعلوا وتركوها فصار كلما انفتل في صومعته رآها فوقع في قلبه حبّها لما هي عليه من الجمال، فوجد الخبيث فرصة وصار يتعرض لها الفينة بعد الفينة وبرصيصا يدعو لها فتبرأ، ثم وسوس له أن يواقعها ويتوب، فلم يزل به حتى واقعها، فحبلت فقال له الشّيطان ويحك انفضحت اقتلها وتب، وقل لأهلها ذهب بها شيطانها، ففعل ودفنها ورجع إلى صلاته، فجاء إخوتها فسألوه عنها فقال لهم ذلك، فرجعوا فجاءهم الشّيطان بالمنام وأخبرهم بالقضية فلم يكترثوا، فوالى عليهم مجيئه، فانطلقوا فرأوا الأمر كما رأوا، فأنزلوا برصيصا من صومعته مكتفا وهدموا صومعته وعلقوه فجاء الخبيث وقال أنا الذي علّمتك الكلمات اسجد لي وأخلصك، فسجد له بطرفه فقال له كفرت بربك إني بريء منك، إني لست مستحقا للسجود، إني أخاف الله من أن أشرك أحدا في عبادته. قالوا ومنذ ذلك اليوم طمع أهل الفسق بالرهبان والأحبار ورموهم بالبهتان حتى كان من أمر جريج الرّاهب ما كان فبرأه الله تعالى. وخلاصة قصته أن أمه نادته وهو في صلاته فلم يرد عليها، فجاءته من الغد ونادته فلم يرد عليها فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكانت بنو إسرائيل تعجب من عبادته فقالت لهم الباغية إن شئتم فتنته لكم، قالوا نعم، وهذا من جملة حسدهم، قاتلهم الله، فبدل أن يعملوا عمله ويتبركوا بأمثاله أرادوا ردّه عن هداه ليس إلّا حسدا أخزاهم الله، فذهبت تلك المومسة ومكنت من نفسها راعيا فحملت منه، فلما ولدت قالت هو من جريح، فأنزلوه من صومعته وهدموها

وصاروا يضربونه ويعنفونه ويقولون له زنيت! وأرادوا رجمه، فقال لهم أمهلوني أصلي وافعلوا بي ما شئتم فأمهلوه، فصلى وانفتل إلى الغلام، فقال له من أبوك؟ قال الرّاعى، فأقبلوا عليه يعتذرون منه ويستسمحونه وأعادوا له صومعته كما كانت. ولهذا حتى الآن والنّاس يسيئون الظّنّ بعلمائهم والحق معهم، لأن العلماء الآن لا يتورعون عن مخالطة الفسقة من ولاة الأمور وغيرهم، بل صاروا يتنافسون بصحبتهم، وأمثال هؤلاء لا يتسمّون علماء حقيقة لأن العالم من يخشى الله فلا ينافق ولا يداهن، ولهذا فإنه قد يقع من أناس متصفين بهيئة العلماء ما لم يقع من أفسق الفاسقين، فيكثر القول في العلماء العاملين تبعا للضالين من غير تفريق. فلو أن أهل العلم صانوه صانهم من رمي أمثال هؤلاء ولو عظموه فلم يبذلوا أنفسهم لأهل الدنيا لعظمهم في أعينهم، ولكنهم لم يفعلوا ففعل بهم ما أهانهم، فلا حول ولا قوة إلّا بالله، راجع الآية 23 من سورة ابراهيم المارة في ج 2، والآية 50 من سورة الأنفال المارة فيما يتعلق بكيد الشّيطان مع البشر والآية 29 من سورة يوسف في ج 2 فيما يتعلق بمن نطق بالمهد. روى أبو هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لم يتكلم في المهد إلّا ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج والرّضيع الذي قالت له أمه اللهم اجعله مثل هذا. تريد رجلا أعجبها هيئته فترك ثديها وقال اللهم لا تجعلني مثله. في حديث طويل أخرجه مسلم بتمامه والبخاري مفرقا ولم بعد شاهد يوسف في هذا الحديث لاختلاف العلماء فيه كما بيناه في الآية المذكورة من سورته بصورة مفصلة فراجعها. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أداء ما أوجبه عليكم والتجافي عما نهاكم عنه قبل حلول يوم القيامة لأن الدّنيا يوم وغدها الآخرة فتزودوا من الأعمال الصالحة إليه فينبغي للعاقل أن ينظر ما يقدم لغده من أيّام الدّنيا إن كان خيرا زاد منه، وإن كان غير ذلك أقلع عنه، لأن الدّنيا مزرعة الآخرة وإن كل إنسان يحصد ما يزرعه من حلال وحرام فينال خيره وشره، لا يعزب عن علم الله منه شيء «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (18) في هذه الدّنيا سرا وعلانية وما تدخرونه لآخرتكم «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ» فلم يذكروه في

[سورة الحشر (59) : الآيات 21 إلى 24]

الرخاء والسّرّاء «فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» ولم يوفقهم لعمل الخير ولم ينظر إليهم حال الشّدة والضّراء، قال صلّى الله عليه وسلم تعرّفوا إلى الله بالرخاء يعرفكم بالشدة «أُولئِكَ» الناسون ربهم «هُمُ الْفاسِقُونَ» (19) الخارجون عن طاعته «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ» الغافلون عن الله الجاحدون رسله وكتبه واليوم الآخر «وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ» المصدقون بذلك كله المديمون ذكر الله «أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (20) برضاء الله ونعيم الآخرة والشّرف برؤية ربهم وأصحاب النّار الخاسرون الدّنيا والآخرة المحرومون من نعيم الجنّة المعذبون فيها «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ» وجعلنا فيه التمييز كما جعلناه فيكم أيها النّاس «لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» فيجدر بكم أيها المؤمنون أن تخشعوا وتخضعوا لتلاوته وأوامره. راجع الآية 142 من الأعراف وانظر كيف دك الجبل بمجرد تجلي الله تعالى عليه مع أنه لا يعقل ولكن الله تعالى يضع فيه العقل إذا شاء حتى انه إذا أنزل عليه كلامه خشع وتصدع وهذا مثل ضربه الله لكم أيها النّاس لتعتبروا لأنكم أنتم الّذين يجدر بكم أن يصدر منكم ذلك «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (21) فيها فيعتبرون ويتعظون، تشير هذه إلى قساوة قلوب النّاس وفيها تهديد لهم، قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الآية 12 من سورة الزمر ج 2 وبعد أن بين الله عظمة كتابه ذكر بعض عظمة أسمائه فقال تعالى «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» (22) الذي أنزل عليكم كتابه رحمة بكم وأرسل إليكم رسله نعمة لكم فقدروا رحمته واشكروا نعمته ليتفضل عليكم بجنته واعلم أن الغيب كلّ ما غاب عن الخلق فكل ما لا يعملونه هو عالم به كالمشاهد له لا فرق عنده بين الغائب والحاضر إذ لا يعزب عن علمه شيء ولا غيب عليه والغيب بالنسبة لنا، أما هو جل شأنه فالغيب والشّهادة عنده سواء «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» المتصرف بالأمور خفيها وجليها «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ» الطاهر المنزه عن سمات خلقه المبرأ من كلّ عيب ونقص في الماضي والحال والمستقبل «السَّلامُ» الذي لا يطرأ عليه شيء مما يطرأ على خلقه من الحوادث سابقا وآنا ولاحقا وهو اسم مبالغة المسالم «الْمُؤْمِنُ» خلقه

المؤمنين من عذابه وغير المؤمنين من ظلمه «الْمُهَيْمِنُ» الرقيب الشّهيد القائم على خلقه وعلى هذه المعاني جاء قوله: ألا إن خير النّاس بعد نبيه ... مهيمنه التالية في العرف والنّكر ويأتي بمعنى الحافظ العلي وبمعنى الآخر قال العباس يمدح رسول الله في أبيات منها: حتى احتوى بينك المهيمن من ... حنذف علياء زانها النّطق واحتوى هنا بمعنى جمع والمهيمن العلي والحنذف وصف امرأة الياس بن مضر ليلى بنت حلوان بن عمران والحنذفة الهرولة والمشي بتبختر وليس مرادا هنا وقال بعضهم لا يعلم معناه إلّا الله وأنشد: جل المهيمن عن صفات عبيده ... ولقد تعالى عن عقول أولي النّهى راموا بزعمهم صفات مليكهم ... والوصف يعجز عن مليك لا يرى «الْعَزِيزُ» الذي لا يغلبه غالب ولا يفلت منه هارب الواجب الطّاعة فيما يأمر وينهي النّادر الذي لا مثيل له القوي الذي لا يجارى «الْجَبَّارُ» العظيم الشّأن في القدرة والسّلطان والقهر الذي لا يدانى ولا يحجزه عن إرادته حاجز «الْمُتَكَبِّرُ» البليغ في كبريائه الذي لا يحيط به شيء وهذه والتي قبلها صفتان ممدوحتان في الخالق مذمومتان في المخلوق «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (23) به من خلقه من لا يستحق شيئا من هذه الصّفات الجليلة ولا يقدر على خلق شيء من مخلوقاته ولا على حفظ نفسه من العاهات تنزه عن الشّريك والمثيل والنّدّ والشّبيه «هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ» للوجد الأعيان من العدم إبداعا واختراعا وإنشاء «الْمُصَوِّرُ» خلقه في الأرحام والبيض والأكمام والطّين وغيرها ومكونها بما هي عليه كما شاء الذي جعل لكل منها ميزة على الآخر على كثرتها واختلافها فسبحانه من إله قادر متكبر «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» الكريمة الشّريفة الدّالة على معان كثيرة راجع الآية 8 من سورة طه ج 1 تجدها كلها هناك مع ما يخطر ببالك عنها وإن له تعالى أسماء غيرها لا تعد ولا تحصى حيث يشتق له من كلّ ما يقع في ملكه اسم «يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من كلّ نام وجامد بلسان القال والحال «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (24) في أفعاله وأقواله وآثاره وقد ختمت

تفسير سورة النور عدد 16 و 102 و 24

هذه السّورة بالمعنى الذي بدئت به وهو من بديع النّظم ويوجد سورة التغابن مختومة بما ختمت به فقط والله أعلم. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم. تفسير سورة النّور عدد 16 و 102 و 24 نزلت بالمدينة بعد سورة الحشر عدا الآية 55 على القول بأنها مكية. وهي أربع وستون آية والف وثلاثمائة وستّ عشرة كلمة وخمسة آلاف وتسعمئة وثمانون حرفا. لا يوجد سورة مبدوءة بما بدأت به، وقد ختمت سورة النّساء والأنفال بما ختمت به، ولا يوجد مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «سُورَةٌ» عظيمة جليلة مشتملة على قصص وأحكام وعبر ومواعظ وحدود وأمثال قد «أَنْزَلْناها» على رسولنا محمد ليتلوها على قومه وجميع خلقنا «وَفَرَضْناها» أوجبناها وكلفناه وأمته بما فيها من الأحكام «وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ» أيها النّاس «تَذَكَّرُونَ 1» بما فيها فتتعظون وتعتبرون بها فهي ظاهرة لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير. ثم بين أول أحكامها فقال عز قوله «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» من أي ملة كانا وقد رفع أمرهما إليكم أيها الحكام «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما» إذا لم يكونا محصنين «مِائَةَ جَلْدَةٍ» ضربة على جلده مباشرة دون حائل ما، وبهذا القيد يمتاز عن الضّرب لأنه يكون مع الحائل وغيره، وما يستر العورة من البزّ الرّقيق لا يعد حائلا لأنه لا يقي ألم الضّرب «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ» عليهما فتتأثروا أو تجرءوا على الشّفاعة بهما، لأنها لا تجوز بوجه من الوجوه في حد من حدود الله تعالى، لأنها تقتضي إلى تعطيل الأحكام فيفشو الفساد في الأرض وتكثر الجرأة على محارم الله إذا تهاون النّاس بها ولم ينفذوها، وهذا لا يجوز «فِي دِينِ اللَّهِ» الذي يجب التصلب فيه والقيام بشعائره والمحافظة عليه «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا تتقاعوا عن تنفيذ أوامره وتهملوا حدوده «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (2) لا يقلون عن أربعة وذلك نصاب شهادة

الزنى، وإنما أمر بالإشهاد زيادة في الرّوع والزجر وتشهيرا لحال الزناة وتحذيرا من الإقدام عليه وتنفيرا من قربانه. ويشترط لإقامة هذا الحكم الشّرعي على الزاني أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما غير محصن، ثابت عليه بأربعة شهود عيان، وكذلك المرأة، وسيأتي أن الإسلام ليس بشرط لإقامة هذا الحد. وعلى العبد والأمة غير المحصنين نصف ذلك، أما المحصنان من الأحرار فيرجمان بالأحجار والعظام وشبهها حتى بموتا، أما العبد والأمة فلا يرجمان لأن الموت لا ينصف إذ يشترط للرجم الحربة والإسلام والإحصان والعقل والبلوغ والنّكاح الصّحيح والدّخول، فإن فقدوا واحدا منها فلا رجم، بل يصار إلى الحد أي الضّرب للحر أو الحرة مئة وللعبد والأمة خمسون. مطلب كيفية الجلد وشروطه وتحوله لأهل الكتاب وغيرهم وما قيل فيه والاختلاف الواقع بين الخراج وما نسب إلى عمر رضي الله عنه في الرّجم وغيره: وكيفية الجلد أن بجرد الرّجل ويضرب قائما، ويرمى عن المرأة الفرو والحشو وما شاكلهما فقط، وتضرب قاعدة ويجتنب الضّارب الرّأس والوجه والمذاكير والبطن والظّهر، ولا يضرب ضربا مبرّحا يتعدّى إلى اللّحم بأن يفطر الجلد بل يقتصر على ما يؤثر في الجلد. وهذه الآية مقيدة لآية الحبس المار ذكرها في الآية 14 من سورة النّساء، وهذا هو السّبيل الذي وعد الله به هناك وشرعه في الزانية والزاني الذي أوجب عليهما الأذى أولا في الآية 15 منها أيضا لأنها مخصصة لها أيضا وللتعذيب الوارد في السّنة، ولا يجري حد الرّجم والجلد على أهل الكتاب وغيرهم إلا إذا تحاكموا عندنا لنبوته في التوراة التي هي مرجع عام لمن كان قبل نزول القرآن، أما الإنجيل فلا أحكام فيه كافية لما يتعلق بأمور العباد جميعها، ولذلك يرجع للتوراة فيما لم ينص عليه الإنجيل المعدل لبعض أحكامها، وقد جاء في الصّحيحين في حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا، فقال صلّى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرّجم؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام كذبتم فيما زعمتم إن فيها الرّجم، فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع عبد الله بن صوريا يده على آية الرّجم وقرأ ما قبلها وما

بعدها، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرّجم فقالوا صدق يا محمد، فأمر بهما النّبي صلّى الله عليه وسلم فرجما، ومن هنا لم يشترط الإسلام، وما جاء في بعض الأحاديث من اشتراط الإسلام لم نثبت صحتها، والمختار في علم الحديث أنه إذا تعارض الرّفع والوقف حكم بالرفع عند صحة الطّريق إليه، وما ورد في هذا الشّأن لم يصح طريقه صحة معتبرة. هذا وإن سؤال حضرة الرّسول اليهود لا ليعلم حكم الرّجم لأنه معلوم عنده، بل لتبكيتهم وإظهار كذبهم على ملأ النّاس وعامتهم. ومن قال إن الرّسول حينما جاء إلى المدينة أمر بالحكم بالتوراة قول لا صحة له باطل لا يوجد ما يؤيده، وإنما كان يعمل بشرعه الذي أنزل إليه، والشّرائع الإلهية متشابهة، ولأن شريعته صلّى الله عليه وسلم لم تنسخ التوراة كافة بل ما هو مخالف لما في القرآن فقط، وأن كثيرا من أحكامها موافق للقرآن، وان شرع من قبلنا إذا وافق شرعنا فهو شرع لنا أيضا، والعمل فيه لا يعني أنه عمل بالتوراة بل بالقرآن هذا وإن ما رواه اسحق بن راهويه في سنده قال أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبد الله عن نافع عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال من أشرك بالله فليس بمحصن، وإذا كان ليس بمحصن فلا رجم عليه، ولذلك استدل به على شرطية الإسلام بالرجم إلا ان هذا الحديث فضلا عن الاختلاف الوارد في رفعه ووقفه ورجوع راهويه نفسه عن رفعه، فلم يعرفه هل هو مقدم على حديث ابن عمر المار ذكره الذي لا مرية فيه، أم مؤخر عنه؟ وقال أئمة الحديث إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر فيقدم القول لأن الدّلالة القولية غنية عن الدّلالة الفعلية لا العكس، إذ لا يخفى ان دلالة القرآن العظيم لفظية. هذا وإن تقديم القول موجب لدي الحد، وتقديم الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحدود، والأولى في الحدود ترجيح الرّافع عند التعارض، ولا يخفى ان كلّ مترجح محكوم بتأخيره اجتهادا، وعلى هذا يكون المعول عليه في هذا الباب حديث ابن عمر الوارد في الصحيحين إذ لو كان الإسلام شرطا لما رجم حضرة الرّسول اليهودي واليهودية وعلى القول أن فعله ذلك على شريعتهم فيكون شرعا له، ولأنه لا فرق بين زنى المسلم والكتابي والكافر من حيث هو زنى، وإن قول الرّسول ان لهم ما للمسلمين وعليهم

ما عليهم يؤيد هذا. وقد خالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله الشّافعي واشترط الإسلام، وإن صاحبه أبا يوسف وافق للشافعي بعدم الاشتراط، والأحسن أن يقال إن الشافعي وافق أبا يوسف لأنه متقدم عليه، وخالف أبا حنيفة لهذه العلة أيضا. ولما عاب الخوارج على عمر بن عبد العزيز قوله بالرجم لأنه ليس في كتاب الله ألزمهم بأن أعداد ركعات الصّلاة ومقادير الزكوات ليسا في كتاب الله، فقالوا له ثبت أعدادهما ومقاديرهما بفعله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين بعده، فقال لهم والرّجم أيضا ثبت بفعله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين بعده، فألقمهم الحجر وأخرس ألسنتهم، لأن فعل الرّسول وكلامه مفسر للقرآن وواجب العمل بهما. وما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حسبما رواه البخاري خشيت أن يطول زمان حتى يقول قائل لا نجد الرّجم في كتاب الله عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل ألا وإن الرّجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، فمن باب الكشف لمعارضة الخوارج وغيرهم فيه، وهذا غير كثير على الفاروق الذي طفحت الكتب بفضائله، وقد ألمعنا إلى بعضها في الآية 44 من سورة الاسراء في ج 1 فظهر من هذا أن الرّجم ثبت بالسنة الصّحيحة واجماع الصّحابة والأمة الاسلامية من بعدهم لا بالقرآن، وليس هذا من باب النّسخ، لأن الآية لها محمل على غير المحصنين، ومن قال أن الرّجم ثبت بالآية المنسوخ تلاوتها وهي (الشيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما) لا يصح لعدم القطع بقرآنيتها وتلاوتها، فضلا عن أنها على غير نمق كلام الله الذي لا يشبهه كلام خلقه من كلّ وجه. وإن ما جاء في الحديث الذي رواه أبو ذر من أن سيدنا عمر تلا هذه الآية على المنبر وقال لولا أن يقال إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتها على حاشية المصحف، وأن أحدا لم يرد عليه فطريقة ظنية لا يعتمد عليها، لأن عمر لا يخشى مقالة أحد في الحق في زمن حضرة الرّسول وزمن صاحبه أبي بكر، فكيف يخشى وهو أمير المؤمنين الذي لا يرد له أمر، فلو ثبتت قرآنيتها عنده لكتبها لا سيما وهو في زمن لم يجمع فيه القرآن أو لم يدون في المصاحف ولقال في المصحف نفسه، لأنه إذ ذاك وهو صاحب الأمر والنّهي ومعدن العلم بعد صاحبيه، الذي قال فيه ابن مسعود وهو أمين الأمة عند موته

لقد مات تسعة أعشار العلم. ومما يدل على عدم صحة هذا أن ليس هناك مصحف ليكتبها على هامشه، لأن المصاحف دونت زمن عثمان رضي الله عنه، أما سكوت من سمع خطبته المزعومة من الأصحاب على فرض وقوعها لا يعد حجة لأن الإجماع السكوتي مختلف في حجيّته، بل الأرجح عدم حجيّته، ومن هذا القبيل الطّلاق الثلاث بلفظ واحد، إذ نسب إلى سيدنا عمر إيقاعه بتّا، وإنه أمر بذلك لكف تهاون النّاس بالطلاق، وإن الأصحاب لم يردّوا عليه فلم يعتد بسكوتهم لما ذكرنا، ولهذا اختلفت آراء المحدثين في ذلك، فمنهم من أبرم إيقاعه ثلاثا، ومنهم من عده واحدا، وعلى التسليم جدلا بحجية الإجماع السّكوتي لا يقطع بأن المجتهدين من الأصحاب كانوا حضورا لأن حضور عوامهم لا يكفي، ولهذا قال علي كرم الله وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ تلاوته، وهو أعلم من غيره بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يقال جمع بين الجلد والرّجم لأنه جلدها بصفتها غير محصنة، فلما تبين له إحصانها رجمها، وإن رأيه الصّائب عليه السّلام أن جلد غير المحصن حكم زائد ثبت بالسنة هو الرّأي المعمول به الموافق لكتاب الله وسنة رسوله، وبذلك قال أهل الظّاهر وهو رواية عن احمد واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلم الثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة، وفي رواية غيره ويرجم بالحجارة. ومن هذا الذي يقدم على معارضة أولى النّاس بحدود الله بعد رسوله؟ هذا وإن أوهى الأقوال قول من قال إن الآية المنسوخة نسخت هذه القاضية بالجلد وهي غير موجودة ومطعون في وجودها أي نزولها، فالعجب كلّ العجب من جرأة البعض على كلام الله تعالى ورغبتهم بالنسخ حتى توصلوا إلى هذا الحد الذي لا يقوله من عنده لمعة من ورع أو ذرة من تقوى أو لمحة من إيمان، وقد أشرنا غير مرة إلى أن لا قرآن إلا ما هو بين الدّفتين لم يسقط منه حرف واحد أبدا، فهذا الحكم الأوّل من الآيات البينات، والحكم الثاني بينه بقوله «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» لأنها دونه وشر منه «وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ» لأنه دونها وشر منها أيضا، ولهذا قال تعالى «وَحُرِّمَ ذلِكَ» أي نكاح الزانية

التي لم تتب والمشرك الباقي على شركه «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (3) التدنيس بمثلهن لأن طهارتهم ومروءتهم تأبى ذلك، ولما أراد بعض فقراء المهاجرين ومن لا مال له ولا عشيرة أن يتزوج ببغايا المدينة لينفقن عليهم من مالهن استأذنوا رسول الله فنزلت هذه بالمنع، لأن الزانيات رجس ونجس، والمؤمن طاهر نظيف، فلا يليق بكرامته أن يلوثها بالعاهرات ويدنس مروءته بهن، أما باب الجواز فيكون فيما فيه بأس وما لا بأس فيه، وعليه فإن العاهرة إذا تابت جاز نكاحها كما لو أسلمت المشركة، والزاني والمشرك كذلك، لعموم قوله تعالى في الآية الآتية وهي (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) إلخ وقدمت الزانية على الزاني في الآية الأولى لأنها لو لم تطمع الرجل نظرا أو كلاما أو ملامسة أو غمزا أو إشارة أو تبسما أو غيره ولم ترخص له وتمكنه من نفسها لم تقع الجريمة من الرّجل، وأخرت في الثانية لأنها مسوقة لذكر النّكاح، والرّجل أصل فيه لأنه الخاطب، ومنه يبدأ الطّلب، ومن قال أن المراد بالنكاح هنا الوطء لأن غير الزاني يتقذر الزانية ولا يشتهيها، وهو صحيح إلا أن المعنى يكون حينئذ الزاني لا يزني إلّا بزانية، والزانية لا تزني إلّا بزان وهو خلاف المراد لأن هذه الآية على حد قوله تعالى (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) الآية الآتية عدد 26، والمراد بها هنا تزهيد النّاس في نكاح البغايا لأن الزنى عديل الشّرك في القبح، والإيمان قرين العفاف في الحسن، وقد سئل صلّى الله عليه وسلم عمن زنى بامرأة ثم تزوجها، فقال أوله سفاح وآخره نكاح، فالعفيف يتباعد عن دنسهنّ، والشّريف يتنزه عن حقيرهن قال: إذا وقع الذباب على طعام ... كففت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية، ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان فلأن يتزوجها غير زان فمن باب أولى قال تعالى «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ» بالزنى «ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» على فعل الزنى بهن عيانا «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» كما تقدم في حد الزنى في الآية الثانية المارة. هذا إذا كان الرامي حرا، أما إذا كان عبدا فأربعون جلدة، وإن كان المرمي غير محصن فعلى

الرامي أي القاذف التعذير فقط، وهو يختلف باختلاف الأشخاص، وإن قذفها بغير الزنى كقوله يا فاسقة يا سارقة يا خبيثة فيكفي فيه شاهدان، وفيه التعذير أيضا، والتعذير إذا كان بالجلد فلا يبلغ أقل الحد أي الأربعين بل دونها ولو بضربة واحدة. وشروط إحصان القذف الحربة والإسلام والعقل والبلوغ والعفة عن الزنى. والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ» أي القاذفين بعد إقدامهم على القذف «شَهادَةً أَبَداً» مدة حياتهم لورودها على التأييد لثبوت فسقهم بقوله تعالى «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (4) الخارجون عن طاعة الله تعالى. تدل هذه الآية على أن القذف من الكبائر، وقد عده صلّى الله عليه وسلم من الموبقات السّبع في الحديث الذي رواه الشّيخان وأبو داود والنّسائي بلفظ: اجتنبوا السّبع الموبقات الشرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس التي حرم الله إلّا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات. قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» أنفسهم وثبت لديكم صلاحهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (5) بعباده الرّاجعين إليه بغفران ذنوبهم السّابقة وإزالة اسم الفسق عنهم وقبول شهادتهم. ويفهم من هذه الآية أن التوبة وحدها لا تكفي من القاذف حتى يقرنها بعمل صالح، وهو كذلك. وقيل لا تقبل شهادتهم ولو تابوا، وإن الاستثناء يرجع إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) والأول أولى، لأن الاستثناء راجع إلى رد الشّهادة كما قاله عمر وابن عباس وغيرهم من كبار الصحابة، ومن هنا أخذت قاعدة الاسقاط من الحقوق المدنية على مرتكبي الجنايات، وقاعدة رجوع هذه الحقوق إليهم باستحصالهم على قرار من الحكومة، وهذا الحكم الثالث من الآيات البينات، والحكم الرّابع بينه بقوله «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ» على صحة قولهم «إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ» على رميهم «أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» (6) في رميه زوجته «وَالْخامِسَةُ» يزيد فيها جملة «أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» (7) فيما رماها به، وبهذا ينجو من إيقاع حد القذف عليه، والحكم الخامس هو «وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ» الحد الذي ترتب عليها بشهادات زوجها المخمسة المقرونة

باللعن «أَنْ تَشْهَدَ» هي أيضا على نفسها «أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» (8) فيما رماها به «وَالْخامِسَةَ» تزيد فيها ما أشار الله إليه بقوله «أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ» زوجها «مِنَ الصَّادِقِينَ» (9) فيما رماها به من الزنى لا في شهاداته المخمسة، وهو كذلك يقرن اللعن في الشّهادة الخامسة فقط، وجعل الغضب في جانبها بمقابل اللّعن الذي بجانبه لأنهن يستعملنه كثيرا، فربما جر أن عليه لكثرة جريه على لسانهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن ليكون رادعا لهن. أخرج في الصّحيحين عن سهل بن سعد السّاعدي أن عويمر العجلاني جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال له أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقنلونه أم كيف يفعل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها، قال سهيل فتلاعنا وأنا مع النّاس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله أن مسكنها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره، فكانت تلك أي قضية الطلاق بعد التلاعن سنة للمتلاعنين. وفي رواية: ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انظروا ان جاءت به اسحم أدعج العينين عظيم الإليتين خدلج السّاقين، ولا أحسب عويمرا إلا صدق عليها، وان جاءت به اسحم أحيمر كأنه دحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النّعت الذي نعت صلّى الله عليه وسلم من تصديق عويمر، وكان بعد بنسب إلى أمه. هذا مختصر من حديث طويل، وروى البخاري عن ابن عباس أن هلال ابن أمية قذف امرأته خولة عند النّبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سمعاء، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحد على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النّبي صلّى الله عليه وسلم يقول البينة أو حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه هذه الآية، فأرسل إليهما فجاءا فقام هلال بن أمية فشهد والنّبي صلّى الله عليه وسلم يقول يعلم الله أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت الخامسة وقفها وقال إنها موجبة أي ان هذه الشهادة الخامسة المقرونة باللعن والغضب توجب وقوعه عليها إن كذبت، وإن غضب الله عظيم أجارنا الله منه، وذلك ليحملها على الصّدق قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت لا أفضح قومي

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 20]

سائر اليوم فمضت، فقال صلّى الله عليه وسلم أنظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدليج السّاقين فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. وفي رواية غير البخاري أطول من هذا الحكم الشّرعي قذف الزوج زوجته كقذف الأجنبية بالشروط المارة الذكر، والحد أو الرّجم كذلك، إلا أن المخرج مختلف، ففي الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء يحدّ إذا لم يقرّ المقذوف، وفي الزوجة يسقط عنه بأحد الأمرين الشّهادة أو الاعتراف أو بالملاعنة، وصفتها أن يلقنه الإمام أو نائبه بان يقول أشهد بالله إني لمن الصّادقين فيما رميت به زوجتي هذه فلانة من الزنى بفلان، إذا كان يعرفه وإلّا لا حاجة لا سمه. وإذا أراد نفي الحمل أو الولد يقول زيادة على ذلك وان الحمل أو الولد ليس منى إنما من الزنى، وفي الخامسة يقول بعد لفظ الشّهادة عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين فيما رماها به، فإذا فرغ وقعت الفرقة بينهما وحرمت عليه على التأييد وسقط عنه الحدّ وانقضى عنه نسب الحمل أو الولد ووجب على المرأة حد الزنى، فإذا أرادت إسقاطه عن نفسها فتلقن أيضا بأن تقول أشهد بالله أنه من الكاذبين فيما رماني به من الزنى بفلان أو بمطلق رجل، وإن الحمل أو الولد من زوجي لا من غيره. وتزيد في الشّهادة الخامسة فتقول عليها غضب الله إن كان زوجها من الصّادقين فيما رماها به من الزنى، وكلّ من صح يمينه صح لعانه حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا، فإذا أكذب نفسه لزمه الحد ولحقه الولد، ويجوز له نكاحها هذا هو المختار الذي عليه الاعتماد وما جاء على خلاف هذا فهو مخالف لظاهر القرآن. قال تعالى «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» لفضحكم أيها النّاس حالا ولكنه ستّار يحب ستر عباده، ولهذا اشترط أربع عدول سدا للباب لئلا يقدم كلّ أحد على ذلك فتظهر مفاسد لا تحمد عقباها «وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ» على من يتوب من عصيانه «حَكِيمٌ» (10) فيما فرضه من الحدود والأحكام على عباده، وهذا الحكم السّادس من الآيات البينات. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ» أي هذا البهت المختلق «شَرًّا لَكُمْ» عند الله يا آل محمد «بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»

عنده لا نزال سبع عشرة آية في البراءة منه وهذا الخطاب لحضرة الرّسول وزوجته عائشة وأبيها أبي بكر وصفوان المتهم بها ويدخل في هذه الآية كلّ من استاء من المؤمنين لأجله «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ» من العصبة الّذين صبروا على هذه القرية «بقدر مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ» عقابا «وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ» وهو رأس المنافقين بن سلول «لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ» (11) لأنه هو الذي أشاعه وخاض فيه ولم يتب حتى مات على نفاقه والعصبة والعصابة ما بين العشرة إلى الأربعين. قال تعالى «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ» الإفك المذكور والقول الزور «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» عفافا وإخلاصا لا أن يسارعوا إلى الشّر إذ كان عليهم أن يكتموه أو يكذبوه ويحسنوا الظّن بحسب الظّاهر على الأقل في تلك الطّاهرة الزكية ربة العفاف والصون النّقية، وكذلك فيمن عرفوا عفته وطهارته من أصحاب رسول الله المبرئين ولا يبادروا إلى التهمة بل يجب عليهم أن ينكروه ويجحدوه ويقولوا ما أشار الله إليه بقوله عز قوله «وَقالُوا» متبرئين منه ومتنزهين عنه «سبحانك هذا» الإفك المختلق في حق تلك الطّاهرة هو «إِفْكٌ مُبِينٌ» (12) ظاهر لا خفاء فيه ولولا هنا بمعنى هلا، وكذلك هي كلما وليت الفعل لا إذا وليت الاسم كقوله تعالى لولا أنتم فتكون على معناها الأصلي أي حرف امتناع لوجود. وقيل إن هذه الآية نزلت في خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، إذا قال لزوجته ماترين فيما يقال فقالت لو كنت بدل صفوان، كنت تظن ذلك؟ قال لا، قالت عائشة ولو كنت بدل عائشة ماخنت رسول الله لأنها خير مني، وصفوان خير منك، ولما استفاض هذا الخبر بكثرة ترداده من الأفاكين الآتي ذكرهم وتكريرهم إياه في كل مجلس دون جدوى بقصد انتشاره. استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه في ذلك فقال عمر رضي الله عنه انا قاطع بكذب المنافقين، لأن الله عصمك من وقوع الذباب على جلدك، لأنه يقع على النّجاسات وتتلطخ بها، فلما عصمك عن ذلك القذر من التعذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون ملطخة بمثل هذه الفاحشة؟ وقال عثمان رضي الله عنه إن الله ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يقع إنسان قدمه

على ذلك الظّل، فلما لم يكن أحدا من وضع القدم على ظلك، فكيف يمكن أحدا من تلويث عرض زوجتك؟ وقال علي كرم الله وجهه إن جبريل أخبرك ان على نعلك قذرا وأمرك بإخراج النّعل عن رجلك بسبب مالنصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراج زوجتك بتقدير أن تكون متلطخه بشيء من الفواحش؟ فاطمأن لقولهم وهو مطمئن من قبل، ولكن ليختبر ما عندهم. قال تعالى مكذبا لأهل الافك «لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ» أي بهتهم ذلك «بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» ليعلم صدقهم الظّاهري «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» (13) تشير هذه الآية إلى توبيخ كلّ من سمع بالإفك ولم يجدّ في دفعه وفيها احتجاج على المفترين بما هو ظاهرا الشّرع من وجوب تكذيب القاذف بلا بينة، وترمي إلى التنكيل به إذا قذف مطلق امرأة، فكيف بالصدّيقة حرم رسول الله وخيرته من خلقه وأم المؤمنين «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» أيها النّاس بامهالكم للتوبه وعدم تعجيل العقوبة بالدنيا «وَالْآخِرَةِ» بالمغفرة والعفو بحلمه وكرمه «لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ» من الإفك رجما بالغيب من غير علم ولا وثوق «عَذابٌ عَظِيمٌ» (14) لعظم ما خضتم فيه. واعلم أن لولا الأولى بمعنى هلا للتحضيض وهذه لا متناع الشّيء لوجود غيره والآتية كالأولى للتحضيض أيضا والرّابعة كهذه لا متناع الشّيء لوجود غيره، والخامسة أيضا مثلها واذكروا أيها الأفاكون «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ» من بعضكم ليس إلا «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» إنه حق أو صدق إذ لم يرسخ في قلوبكم صحته، لأن الشّيء يقع أولا علمه بالقلب، ثم يترجم عنه اللّسان، وهذا الإفك ليس إلّا قولا يدور على الألسنة، كذلك فيده الله بأفواههم وعظم وقوعه وهدد وأوعد عليه بقوله «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً» أيها المختلقون فتذيعونه في نواديكم وتشيعونه بالطرقات وتتفوهون به في سموكم في بيوتكم وغيرها بقصد إفاضته لدى العامة كأنه ليس بشيء «وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» (15) وزره كبير حوبه خطير عذابه، لأنه طعن في حب حبيبه التي يعلم طهارتها من كذبكم «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ» على طريق التعجب والاستفهام «ما يَكُونُ لَنا أَنْ

[سورة النور (24) : الآيات 21 إلى 30]

نَتَكَلَّمَ بِهذا» بمجرد السّماع من قوم أفاكين قد تفوهوا به فيما بينهم وأشاعوه تقصدا بل كان عليكم أن تقولوا بلسان واحد «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (16) وإنما أمروا أن يقولوا هذا بهتان مبين بالآية الأولى، وفي هذه هذا بهتان عظيم مبالغة في التبرّي مما خاضوا فيه، ثم نبههم الله أيضا إيقاظا لما يقع من نوعه في المستقبل بقوله «يَعِظُكُمُ اللَّهُ» وهذا أبلغ من قوله ينهاكم «أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً» لا قولا ولا إشارة ولا رمزا ولا تخطرا ولا استماعا مقصودا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (17) بعفة الله تعالى، واعلموا أن الله لا يعفكم فيحذركم ويمنعكم معاتبا من الخوض بكل ما يؤثمكم ويؤدي إلى هلاكم «وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» لتهذيب أخلاقكم وتحسين آدابكم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بكذبكم وافترائكم وبراءة السّيدة عائشة التي اتهمتموها، ونزاهة صفوان الذي ألصقتم به هذه الفرية الكاذبة المختلقة، ولذلك أظهر براءتهما بوحيه كما هو مدون في كتابه الأزلي لعلمه أزلا في هذه الحادثة المزعومة كبقية الحوادث المتقدمات والحقيقة الراهنة «حَكِيمٌ» (18) فيما يقضي ثم أكد وعيده وتهديده في أصحاب الإفك ومن يصغي لأقوالهم أو يحبذها بقوله في الحكم السّابع «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا» عائشة وصفوان الطّاهرين الزاكيين، واللّفظ عام فيشمل كلّ مؤمن ومؤمنة «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا» بالذم والشّتم والسّب والحد والسّقوط من العدالة، وقد أوقع صلّى الله عليه وسلم الحد في عبد الله بن أبي سلول وحسان ومسطح وحمنه، ثم ان صفوان قعد لحسان وضربه بالسيف فكف بصره «وَالْآخِرَةِ» العذاب الشّديد لمن يموت منهم مصرا على نفاقه وقذفه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» حقيقة كذبهم فيما فاهوا به «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (19) إن الله يعاقب على ذكر هذه الفاحشة محبة إشاعة السوءى، فعليكم معاقبة من يتفوه بها ظاهرا في الدّنيا، والله يعاقب على ما في القلوب من حب ذكر هذه الفاحشة إذا شاء في الآخرة أيضا «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» لعجل عقوبتكم ولم يمهلكم للتوبة لتستحقوا عذاب الآخرة كاملا «وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (20) بعباده ثم حذر تعالى عن اتباع ما يحوك في النّفس ويتردد في الصّدر من الوساوس القبيحة التي يدسها

الخناس في صدور النّاس عند الغفلة عن ذكر الله، فقال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» بإصغائكم إلى هذا البهتان، وهذا الخطاب عام أيضا للمؤمنين الموجودين عند نزول هذه الآية كافة وهو عام أيضا في كل من يأتي من المؤمنين إلى يوم القيامة «وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ» فيميل إليها «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» كالشيطان، ومن كان كذلك فمأواه جهنم إذا لم يتب «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» أيها الخائضون في الإفك «ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» ولا قبلت توبته، بل بقي ملوثا بسوئها «وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» من الذنوب بتوفيقه إلى التوبة وقبولها منه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم خيرها وشرها سرها وجهرها «عَلِيمٌ» (21) بأحوالكم وما في صدوركم قبل إظهارها، ويعلم ما تستحقونه من الثواب والعقاب. ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه بان لا ينفق على مسطح لا شتراكه بالإفك أنزل الله جل شأنه الحكم الثامن والتاسع من الآيات البينات بقوله جل قوله «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ» من الاليّة وهو القسم أي لا يحلف، والمراد بالضمير على ما أجمع عليه المفسرون أبو بكر رضي الله عنه، ولا يمنع خصوصها فيه عمومها في غيره، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب «أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الّذين منهم مسطح المذكور ابن خالته، وهو مسكين مهاجر «وَلْيَعْفُوا» عمّا صدر منهم «وَلْيَصْفَحُوا» عما بدر منهم من السّوء «أَلا تُحِبُّونَ» أيها المؤمنون «أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» بمقابل ما تغفرون بعضكم لبعض «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (22) لمن يجرؤ عليه وينسب له الشّريك والولد والصّاحبة وينكر وعده ويكذب رسله ويجحد كتابه إذا تاب وأناب، ألا فتخلقوا بأخلاق ربكم وليرحم بعضكم بعضا ابتغاء وجه الله وطلبا لمرضاته وطمعا في ثوابه. قال أكثر المفسرين إن المراد بهذه الآية أيضا ابو بكر رضي الله عنه والخطاب له خاصة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأها عليه فقال بلى والله أحب مغفرة الله، وارجع نفقة مسطح التي كنت أنفقها عليه ولا أنزعها عنه أبدا. وهذه الآية في فضل أبي بكر على غيره

مطلب في كفر من يقذف السيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السورة إلى هنا وقصة الإفك:

بعد محمد صلّى الله عليه وسلم، لان الله تعالى ذكرها في معرض المدح وفي لفظ الجمع مما يدل على علو شأنه عند ربه، ويدخل في عمومها كلّ من حذا حذوه. ومن هنا أخذ الحكم الشّرعي وهو من حلف على يمين ورأى خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه بنص هذه الآية. وقد جاءت أحاديث الرّسول بمثلها كما قدمناه في الآية 222 من البقرة المارة. والحكم العاشر هو قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ» عن الفاحشة العفيفات عن قربانها نقيات القلوب من كل سوء، الطاهرات من كلّ عيب، كعائشة رضي الله عنها «الْمُؤْمِناتِ» بكل ما جاء عن الله المصدقات لرسوله وكتابه بعد نزول هذه الآيات المبرئات للسيدة عائشة مما رميت به «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (23) فيها أيضا، وهذا المعنى الكبير الغليظ خاص بمن يرمي السّيدة عائشة بعد إعلان نزاهتها من الله تعالى حقا وجمع الضّمير باعتبار ان رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين ويدل على التخصيص قوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» بما أشاروا فيها «وَأَرْجُلُهُمْ» على المشي بها لبعضهم المتفوه بالإفك جزاء «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24) من القبيح، لأنه رمي أي قذف يستوجب العقوبة سواء أكان بالكلام أم بالإشارة. مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك: ومما يدل على تخصيص هذه الآيات بالسيدة عائشة لأن رميها بما بهت عليها كفر ورمي سائر النّساء من غير أمهات المؤمنين لا يعد كفرا، وإن رميها رضي الله عنها بعد نزول هذه الآيات كفر بلا خلاق، لأنه جحد لكلام الله، أما قبل نزولها فلا يعد كفرا بل يستحق الحد الشّرعي المار ذكره أول السّورة، ولأن رميها بعد النّزول يعد استباحة بقصد الطّعن بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، مثل الخبيث عبد الله بن سلول الممعن في عداوة حضرة الرّسول، إذ كان مصرا على رمي السّيدة عائشة قبل نزول الآيات وبعدها، قاتله الله ولهذا لم يوفقه الله للتوبة ولا للإيمان ومات على نفاقه وإصراره، أما حسان ومسطح وحمنه فإنهم لم يستبيحوا ذلك ولم

يقصدوا الطّعن بحضرة الرّسول، ولهذا وفقوا للتوبة والقبول، والأعمال بالنيات قال تعالى «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ» وينالهم جزاؤهم بالعدل «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» (25) إذ ترتفع الشّكوك في ذلك اليوم، ويحصل العلم الضّروري لكل أحد بما أخبرت به الرّسل، هذا وإن الله تعالى لم يغلظ في القرآن شيئا من المعاصي تغليظه في رمي السّيدة عائشة، وفأوجز وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وما ذلك إلّا لعلو منزلة بعلها صلّى الله عليه وسلم، والتنبيه بفضلها وكرامة أبيها، وقد برأها في هذه الآيات العظام. ثم بين تعالى استحالة وقوع هذه القرية على السّيدة عائشة على الظّنون والأفكار، وتنويها بطهارتها وطيب عنصرها بقوله عز قوله «الْخَبِيثاتُ» من النّساء «لِلْخَبِيثِينَ» من الرجال «وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» لأن المجانسة من دواعي الانضمام والطّيور تقع على أشباهها «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» ولما كان حضرة الرّسول أطيب الطّيبين وأطهر الطّاهرين اختار له السّيدة عائشة من أطيب الطيبات وأزكى الزاكيات، وقد أظهر أن ما نسب إليها اختلاق باطل وزور محض وإفك مفترى وخرافة تافهة، ولذلك برأها الله تعالى بآيات بينات تنويها بعلو شأن بعلها وأبيها ونفسها مع انه جل ذكره برأ السّيد يوسف عليه السّلام بشاهد من أهل زليخا وبرأ موسى عليه السّلام باعتراف الباغية وبرأ مريم عليها السّلام بانطاق ابنها فكانت براءة عائشة أعظم للأسباب المارة «أُولئِكَ» إشارة إلى السّيدة عائشة وصفوان فقط والجمع يطلق على الاثنين فصاعدا كما نوهنا به في الآية 45 من سورة النمل ج 1 والآية 78 من سورة الأنبياء ج 2 وسيأتي نحوه في الآية 19 من سورة الحج «مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ» الأفاكون الخبثاء وأولئك «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (26) في الآخرة، وهذا الحكم الحادي عشر وهو آخر ما نزل في السّيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، وهي تلك الدّرة المصونة التي قبض حضرة فالرسول في حجرها، ودفن في بيتها، وكان ينزل الوحي في فراشها دون سائر نسائه، ولم يتزوج بكرا غيرها، وقد نوه حضرة الرّسول بفضلها، وأنزل الله الآيات بطهارتها وطيبها، فهل بعد هذا من فضل وكرامة

واعلم أن تفسير (لا يَأْتَلِ) بصدر الآية 22 المارة كان جريا على ما قاله بعض المفسرين وهو لا يستقيم إلّا إذا قدر (لا) على فعل (يُؤْتُوا) المفيد للمنع من الحلف على الإعطاء، والمراد بالآية- والله أعلم- المنع من الحلف على ترك الإعطاء كما هو المفهوم من الآية، فيكون قد وضع النّفي مكان الإيجاب، ويجعل المنهي عنه مأمورا به وهو غير مراد، والأحسن الأولى بل الأصح الأعدل أن يؤوّل فعل (لا يَأْتَلِ) بفعل لا يقصر بالإحسان إذ يجوز لغة أن تقول افتعلت مكان فعلت لا العكس راجع الآية 22 من سورة البقرة في بحث حذف (لا) ولبحثها صلة في الآية 93 من سورة المائدة الآتية. وخلاصة قصة الإفك على ما ورد في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة بن المصطلق في هذه السّنة السّابعة من الهجرة وكانت عادته إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها أخذها معه، ولذلك فإنه استصحب السّيدة عائشة رضي الله عنها فيها لخروج سهمها، وذلك بعد نزول آية الحجاب، ولما قفل من غزوتة ودنا من المدينة قالت عائشة عند ما آذن أي أعلم بالرحيل مشيت حتى جاوزت الجيش فقضيت حاجتي ورجعت، التمست صدري فإذا العقد مقطوع، فرجعت ألتمسه، فحبسني ابتغاؤه، واحتمل الرّهط هودجي ورحلوه على بعيري يحسبون أني فيه، وساروا فوجدت عقدي ورجعت فعدت إلى منزلي الذي كنت فيه وقعدت لظني أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فغلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السّهي قد عرّس (أي نزل آخر اللّيل) وراء الجيش فادّلج (بالتشديد بالدال وهو السّير آخر اللّيل والدّلجة بضم الدّال وفتحه السير أول اللّيل وبالتخفيف السّير كلّ اللّيل أو آخره راجع الآية 46 من سورة الرحمن المارة) فأصبح عند منزلي، فعرفني لأنه كان يراني قبل نزول الحجاب فاستيقظت على استرجاعه (أي قوله حين رآها متأثرا من نسيانهم إياها إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فخمّرت وجهي بجلبابي، فأناخ راحلته ووطئ على يدها، فركبتها وانطلقت بي الرّاحلة حتى أتينا الجيش، وو الله لم يكلمني، ولا سمعت منه غير استرجاعه، فهلك من هلك في شأني، ولما قدمنا المدينة اشتكيت (أي مرضت) والنّاس يفيضون بالإفك فيّ من حيث لا أشعر، وقد رابني أني لا أرى اللّطف

الذي كنت أراه من النّبي صلّى الله عليه وسلم، فلمّا نقهت (أي شفيت) خرجت وأم مسطح ليلا إلى المتبرز «محل قضاء الحاجة» قبل اتخاذ الكنف، فعثرت في مرطها، فقالت تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا شهد بدرا، فقالت أولم تسمعي ما قال؟ قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا، واستأذنت رسول الله أن آتي أبوي، فأذن لي، فقلت لأمي ماذا يتحدث النّاس؟ فقالت هوني على نفسك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر الا أكثرن عليها، قلت سبحان الله ويتحدث النّاس فيه، فبكيت اللّيل كله، ثم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا عليا وأسامة يستشيرهما، فقال أسامة لا نعلم والله إلّا خيرا، وقال علي غير مقالته الأولى لما رأى الرّسول قد أجهده الأمر، ولم ينزل عليه وحي من الله بذلك (لم يضيق الله عليك يا رسول الله والنّساء غيرها كثير واسأل جاريتها) فاستدعاها، وقال لها أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت لا والذي بعثك بالحق، ثم استدعى زينب بنت جحش وكانت تساميني من أزواجه فسألها فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلّا خيرا، فعصمها الله بالدرع (وهذه المقالة من علي كرم الله وجهه لما بلغت عائشه رضي الله عنها، أغاظتها وصارت منذ ذلك اليوم لم تسم عليا باسمه بل تقول جاء النّبي ورجل وذهب ورجل) قالت ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرفأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما حتى ظنّا أن البكاء فالق كبدي، فدخل رسول الله وجلس عندي وكان لم يجلس من يوم قيل ما قيل، فقال يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن ألمت بذنب فتوبي إلى الله، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فقلص (أي انقطع) دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله، فقال والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي أجيبي رسول الله قالت والله ما أدري ما أقول، فقلت لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به النّاس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فئمن قلت إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني بريئة منه لتصدقني فو الله ما أجد لي ولكم مثلا

إلا أبا يوسف إذ قال فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي وظننت بأن الرّسول سيرى رؤيا ببراءتي لا أن ينزل الله فيّ قرآنا، لأني أحقر من أن يتكلم الله فيّ قالت والله مارام رسول الله مجلسه ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل الله هذه الآيات، فقال أبشري يا عائشة أما الله فقد براك، فقالت أمي قومي إلى رسول الله (أي لتقدم لحضرته الشّكر اللائق بمقامه تجاه بشارته لها) فقلت والله لا أقوم ولا أحمد إلّا الله الذي أنزل براءتي، وقالت أن الرّجل الذي قيل له ما قيل يعني صفوان بقول سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف (أي ستر) أنثى قط، ثم قتل في سبيل الله. ومن قوة دينها رضي الله عنها أنها كانت تكره أن يسب حسان بحضرتها مع أنه من أهل الإفك ولقوله رحمه الله في ذلك: هجرت محمدا وأجبت عنه ... وعند الله في ذلك جزاء فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم فداء (وفي رواية وقاد) أتشتمه ولست له بكفء ... فشر كما لخيركما الجزاء (الفداء) لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدّلاء وقد اعتذر عما وقع منه في حديث الإفك الذي نقله الملعون ابن سلول، وقال رضي الله عنه فيها: حصان ماتزنّ (تتهم) بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل أي جائعة لا تغتاب أحدا أبدا. حليلة خير النّاس دنيا ومنصبا ... نبيّ الهدى ذي المكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤى بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها «1» وطهرها من كلّ سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعموا ... فلا رفعت سوطي إلي الأنامل وكيف وودي ماحيبت ونعرتي ... لآل رسول الله زين المحافل

_ (1) خيمها: طبيعتها وسجيتها، والخيمة معروفة.

مطلب آداب الدخول على الدور وطوق الباب والدخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدار وحومة النظر إلى من فيها:

له رتب عال على النّاس كلهم ... تقاصرت عنه سورة المتطاول فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ لي ما حل (يقال محل به إذا سعى به إلى السّلطان فهو ماحل) ولاط بمعنى أصاب وأمر واقتضي وابتغي، والمراد به هنا الأوّل، أي ليس بصائب. مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها: هذا إنهاء قصة الإفك ذكر الله شيئا من تأديبه إلى خلقه للمناسبة فقال أولا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا» تستأذنوا، وأصل الاستئناس الاستعلام والاستكشاف، أي حتى تعلموا أيؤذن لكم أم لا، وطريقة الاستئذان بالدخول لدار الغير تكون بما هو متعارف بالبلدة من الألفاظ كالكلام والتسبيح والتكبير والتحميد والتصفيق والتنحنح وطرق الباب «وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» بعد الاستئذان «ذلِكُمْ» الاستئذان قبل الدّخول والتسليم بعده «خَيْرٌ لَكُمْ» من أن تتهجموا البيوت بغتة على حين غرة من أهلها، ولا تدروا ما يصادفكم من القبول أو الرّد إذا دخلتم حال غفلة أهلها، فانتبهوا لهذا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (27) هذه الآداب فتنقيّدون بها وتعلمونها غيركم «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً» يأذن لكم كأن يكون فيها امرأة شابة لأنها لا تأذن عادة بالدخول للبيت الذي هي فيه إذا كانت وحدها أو تكون خالية من أهلها «فَلا تَدْخُلُوها» لما في الدّخول من الرّيبة والتهمة في المرأة أو مظنة السّرقة أو الاطلاع على ما في البيت، ولهذا فاحذروا من الدّخول «حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ» من قبل من يملك الاستئذان والأذن من الخدم وأصحاب الدّار لا غيرهم، ولو فرض أن الشّابة الموجودة وحدها أذنت له فلا يجوز له الدّخول عليها خشية الفتنة أو تقول النّاس فيما لا يرضى، وكذلك لا يدخل بمطلق اذن العبد والجارية والصّغير حتى يستأذنا من أسيادهما وأهله لأنهم لا يملكون حق الأمر بالدخول، والصّغير والصّغيرة لا يعقلان ولا يعرفان المحاذير الناشئة عنه، وعلى هذا فليس لأحد الدخول إلّا إذا تحقق صدور الإذن من أهل

القول في البيت، فلعله إذا دخل على اذن من لا يملك الإذن يلاقي ما لا يحب أو ما يكره من أهل البيت من وجود معذرة أو أمر ما، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا» حالا ولا تقفوا ولا تتفجروا أو تغتاظوا أو تغتضبوا. واعلموا أن رجوعكم بسبب تلك الأعذار وبمطلق عذر يصدر عن أهل البيت «هُوَ أَزْكى لَكُمْ» وأطهر وأصلح لما فيه من البعد عن مواقع التهم وعن منع أهل البيت من أشغالهم، وقد تكون معذرتهم لا تمكنهم من قبولكم لأن للناس أحوالا يكرهون اطلاع الغير عليها أو تأخير إنجازها أو تهيثهم للقبول «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» (28) لا يخفى عليه شيء من أمر الدّاخل والمدخول عليه وصدقهما ونيتهما، ولما نزلت هذه الآية قالوا كيف بالبيوت بين مكة والشّام والمدينة ليس فيها مساكن، يريدون الخانات المعدة لنزول المسافرين وكانت تعمر من قبل أهل الخير ويوضع فيها الماء وتترك ماوى للغادين والبادين دون أجر ما بخلاف ما عليه الحالة الآن اللهم إلّا ما بقي من الخانات الموقوفة لهذه الغاية وما أحدثته وجددته الدّولة العثمانية على طريق الحاج من آثار من تقدمها من الحكومات التي كانت تعمل محلات هكذا لتسهيل أمر الحجاج والتيسير عليهم تأمينا لراحتهم، فأنزل الله ثابتا فيما هو غير مسكون فقال جل قوله «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ» بغير استئذان إذا تحققتم أن ليس فيها أحد لأن الأذن شرع على البيوت لوجود المخدرات فيها أو وجود أناس في حالة لا يجوز أن يطلع عليهم أحد معها، فإذا لم توجد هذه المحاذير فلا حاجة للاستئذان إذ قد يأتي الرّجل إلى أهل بيت لا يحبون دخوله عليهم مطلقا أو لا يريدون الزائر نفسه أو لوجود أحد يكرهه أو لا يحب أن يجلس معه أحد، فإذا أتقنت هذه الأعذار وغيرها مما يصح أن يكون عذرا جاز لكم الدّخول، ولا سيما إذا كان «فِيها مَتاعٌ لَكُمْ» وضعتموه قبلا أو وضعه أحد لكم كما هي العادة الآن أيضا، حيث يتركون في المنازل الواقعة على الطّرق وبالخاصة التي يرجعون إليها بعد قفولهم، حتى أن بعض النّاس في بلادنا يضعون بعض أثقالهم عند قبور الصّالحين وفي قببهم لاعتقادهم أن أحدا لا يجرؤ على أخذها، وهو كذلك لأن العقيدة فيهم والحمد لله

سائدة، ففي هذه المواقع لا حاجة للاستئذان إذ لا يوجد فيها أحد غالبا، وإذا كان فيها قيما أو خادما فإنهم قد يودعون عنده بعض أشيائهم عند ظهورهم إلى المراعي ونزولهم للقرى وهكذا المساكن التي يأوون إليها بقصد اتقاء الحر والبرد أو الاستراحة والنّوم، فلا حاجة أيضا للاستئذان وهكذا كلّ محل يتحقق لكم أن لا أحد فيه جاز الدّخول إليه لمطلق منفعه، أما عبثا فلا، لصريح الآية وتقييدها بالمتاع، إذ قد يجد العابث مالا يحب، وقال صلّى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما يريبك «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من أموركم وأعمالكم «وَما تَكْتُمُونَ» (29) من أسراركم ونياتكم. هذا هو الحكم الشّرعي في ذلك ولها آداب أخر منها أن لا يقف أمام الباب لئلا يطلع على من في الدّار بل على يمينه أو شماله أي الجهة التي لا يفتح إليها لئلا ينظر لمن يأذن له ولا ينظر من شقوقه فيطلع على من هو داخل الدّار، وإذا كان الباب مفتوحا فليرده ثم يطرقه، بتؤدة وسكون لا بشدة وغضب لما فيه من قلة أدب المستأذن وعدم احترام صاحب البيت وإيقاع الرّيب في قلبه، ولا يصح يا فلان، وإذا قيل له من أنت؟ فليقل فلان بن فلان أو يذكر شهرته إن كان معروفا بها ليعلم صاحب الدّار هويته، حتى إذا لم يحب دخوله أو عنده من لا يحبه اعتذر، أما إذا كان مجيئه مع الرسول فلا حاجة للاستئذان لأن الرّسول هو الآذن وإنما ذهب ليأتي به بإذن المرسل، وإذا كان في البيت محارمه ليستأذنهم أيضا لعلهم في حالة لا يحبون اطلاعه عليها، وإذا وقع بصره على صاحب الدّار يسلم عليه أولا ثم يستأذن بالدخول، ولا يستعجل بل ينتظر قليلا لعلهم يصلحون شأنهم ومحلهم لأجله أو أنفسهم من تبديل لباس لا يليق بهم لقاؤه به أو يزيلوا ما يكرهون أو ما يكرهه هو النّظر إليه وغير ذلك. ويجوز الدخول بلا استئذان إذا رأى حريقا أو طفلا على شفا حفرة أو رأس جدار أو أعمى عليهما أو سمع استغاثة داخلها أو علم وجود منكر فيها وكان يقدر على إزالته لإطفائه وتخليصه ومنعه، أو رأى عقربا او غيرها قريبا من نائم او غافل او صغير او مجنون، ففي هذه الأحوال له أن يدخل وان يستعين بغيره لدرأ هذه الأشياء، أخرج ابو داوود عن عبد الله بن يسرة قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا

أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن او الأيسر ويقول السّلام عليكم. وذلك إن الدّور لم يكن عليها يومئذ ستور فإذا كان لها وراء الباب مانع من الاطلاع على داخلها وما وراءها فيجوز ان يقف أمامه لعدم المحذور، وأخرج ابو داود عن ابي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإن ذلك إذن له. وأخرج مالك في الوطأ عن عطاء بن يسار ان رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال استأذن على أمي قال نعم، فقال إني معها في البيت، فقال صلّى الله عليه وسلم استأذن عليها، فقال الرّجل إني خادمها، فقال صلّى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب ان تراها عريانة؟ قال لا، قال فاستأذن عليها وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال اطلع رجل من حجر باب النّبي صلّى الله عليه وسلم ومع رسول الله مدري يرجل، وفي رواية يحك به رأسه، فقال صلّى الله عليه وسلم لو علمت انك تنظر لصقت به فيك، إنما جعل الإذن من أجل البصر، والمدري المشط والقرن وهنا يراد به الثاني لمناسبة الحال والله اعلم. ورويا عن ابي هريرة ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم ان يفقؤا عينه قال تعالى في الأدب الثالث «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ» عما لا يحل النّظر إليه قصدا روى مسلم عن جرير قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نظرة النّجأة قال اصرف بصرك، وأخرج ابو داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي يا علي لا تتبع النّظرة النّظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى مسلم عن ابي سعيد الخدري ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يقضي الرّجل إلى الرّجل في ثوب واحد، ولا تقضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد أي لما في ذلك من الملامسة والنّظر إلى المنهي عنهما وفي ذكر الرّجل والمرأة إشارة إلى أن ذلك معفو في الأولاد والبنات الّذين هم دون البلوغ بل التمييز كما سيأتي في آخر هذه الآية «يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» عما لا يحل من الزنى واللّواطة والاستحلاب والسّحاق وابدائها للنظر إليها «ذلِكَ» غض البصر عن المحرمات وحفظ الفروج عن الزنى ودواعيه «أَزْكى لَهُمْ»

مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النظر إليها والنكاح:

من دنس الإثم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» (30) في اجالة النّظر وحركات الحواس والجوارح، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم ونياتكم. مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح: هذا ويجوز النّظر إلى وجوه المحارم وشعورهن واثديتهن واعضائهن وأقدامهن وكذلك الجواري المعروضات للبيع وإلى وجه الأجنبية وكفيها إذا أراد خطبتها، او كان شاهدا او حاكما يقضي عليها، أو إذا كانت محترفة، فلمن يشتري منها او يبيعها جواز النّظر إلى وجهها لمعرفتها فيما إذا كان وجب الرّدّ بالعيب والإشهاد على العقد او على نقد الثمن وغيره من متعلقات العقود. قال تعالى «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» عما لا يحل من الزنى والسّحاق وإبدائه للنظر له كما تقدم في الأدب الثالث «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ» الخفية التي لم يبح كشفها للاجانب «إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ» المؤمنات بدليل الإضافة ولم يذكر في هذه الآية العم والحال مع أنهما من المحارم في جواز النّظر أيضا وهو قول الحسن البصري وقال لأن الآية لم يذكر فيها الرّضاع وهو كالنسب وجاء في آية الأحزاب 54 لا جناح عليهن في آبائهن ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم، وقد ذكروا هنا إذ قد يذكر البعض لينبه به على الجملة، قال الشّعبي إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفهم العم والخال عند أولادهما، ومعناه ان القرابات تشارك الأم والأب في المحرمية إلّا العم والخال وأبناءهما فإذا رآها العم والخال فلربما يصفانهما لا بينهما فيقربان تصورهما إليهما بالوصف من نظرهما إليهما وهو ليس بحرام، إلا أنه من الدلالات المبغية على وجوب الاحتياط عليهن في التستر وهي من المروءة والغيرة، أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال صلّى الله عليه وسلم احتجبا منه، فقلنا يا رسول

الله أليس بأعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصران وذلك لأن النّظر كما هو محرم على الرّجال محرم على النّساء. وأخرجه ابو داود أيضا وقدم غض البصر على حفظ الفرج، لأن النّظر بريد الزنى ورائد الفجور وبذر الهوى طموح العين، وفيه قيل: كل الحوادث مبداها من النّظر ... ومعظم النّار من مستصغر الشّرر والمرء مادام ذا عين يقلّبها ... في أعين العين موقوف على الخطر كم نظرة فعلت في قلب فاعلها ... فعل السّهام بلا قوس ولا وتر يسر ناظره ماضر خاطره ... لا مرحبا بسرور جاء في الضّرر والمراد بالزينة هنا الأساور والخلاخل في الأيدي والأرجل والخضاب فيها والقرط في الأذنين والخواتم في الأصابع والقلائد في الأعناق والصّوافن في الشّعر والشّعر نفسه سواء المسترسل وغيره، ومن هذا بدوا الأعضاء بسبب تضييق اللباس وما يضعنه على الثدايا والأرداف بقصد تصغيرهما وتكبيرهما وكلّ ما يطلق عليه اسم الزينة. واعلم أنه كما لا يجوز إبداء شيء من ذلك لا يجوز النّظر إليه ممن لا يحل له وقد يجوز إبداء شيء من ذلك للحاجة كأن كانت تمتهن أو للضرور كالشهادة والحكم والحاكم والطّبيب المسلم، لأن إبداء الوجه بشيء من ذلك يستلزم إبداء الكحل في العينين، وإظهار الكفين يستوجب إظهار الخواتم والخضاب في ظاهرهما وباطنهما، ولا يعني هذا جواز نظر الأجنبي الى هذا الظّاهر دون حاجة كلا بل لا يجوز النّظر مطلقا لما فيه من الفتنة ولما يجر وراءه من العواقب السّيئة فكم نظرة أحرقت قلب ناظرها في الدّنيا وجسمه في النّار بالآخرة باتباع نفسه هواها، وإذا كان إبداء الزينة منهن عنه فإن إبداء الوجه الذي كله زينة خلقة وحلية يكون منهى عنه من باب أولى فيثبت بهذا وبما قدمناه في الآية 59 من سورة الأحزاب أن ستر الوجه واجب، والنّظر إليه غير جائز، والسّفور حرام بالكتاب والسّنة واجماع الأمة تدبر، ولا تلفت الى أقوال الزائغين عن السّداد من أهل العتو والفساد بلا حجة ولا برهان اتباعا لما تسوله أنفسهم الخبيثة وما يوسوس له إليهم قرناؤهم من الجن والإنس والشّياطين وأهل البغي والعناد أولئك

الّذين غضب الله عليهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، والمراد بالجيوب في الآية هو شق الثوب مما يلي الصّدر وكانوا يتوسعون بذلك لإخراج الثدي لإرضاع الولد حتى تبدو صدورهن منها وكن يسدلن الخمر سدلا وهي الملافع وراءهن، فأمرهن الله في هذه الآية أن يسدلن بعضها على صدورهن كي تكون كالمقانع يغطين النّحر والعنق والصّدر والأذان وما فيهما من الأقراط وما على صدورهن من الحلي وعلى أكتافهن من الشّعر حتى لا يبقى إلّا تدويرة الوجه فيسدلن عليه شيئا من طرفه الآخر لأن الوجه والكفين وإن كانا ليسا من العورة في الصّلاة ففي خارجها عورة يحرم النّظر إليها خشية الافتتان. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت يرحم الله نساء المهاجرين الأوّل، لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ) إلخ الآية، شققن مروطهن فاختمرن بها. والمرط كساء من صوف أو خز او كنان «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» من الجواري، فكل هؤلاء يجوز النّظر لهم إلى محارمهم عدا ما بين السّرّة والرّكبة، أما المملوكون المذكورون فلهم النّظر للزينة الظّاهرة فقط سواء كانوا فحولا أو خصيين أو عنينين، قال سعيد بن المسيب لا تغرنكم سورة النّور فإنها في الإماء دون الذكور، وظاهر القرآن يؤيد ذلك، لأن الآية مسبوقة لما قبلها أي معطوفة على نسائهن، والمراد بهن الأحرار فناسب عطف النّساء المملوكات عليهن. وقال بعضهم إذا كان العبد عفيفا جاز له الدّخول على سيدته والنّظر إليها إلّا ما بين السّرّة والرّكبة مستدلين بأن السّيدة عائشة رضي الله عنها أباحت لعبدها النّظر إليها، ويروى ذلك عن أم سلمة أيضا، وروى أنس أن الرّسول أتى فاطمة بعبد وقال إنه ليس عليك بأس إنما هو غلامك، إلا أن هذه الرّوايات لم تثبت صحتها ثبوتا يركن إليه ويمكن جعلها حجة للاستدلال، وعلى فرض صحتها فأين العفة المطلوبة بالعبد الآن، وأين عبيدنا وخدمنا من عبيدهم وخدمهم، ونساؤنا من فاطمة وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهن، على أن قوله صلّى الله عليه وسلم للسيدة فاطمة لا بأس عليك إنه غلامك على فرض صحته يصرف إلى نظر الوجه واليدين إذ لا يمكن حجبهما عن الخادم الأمين لضرورة الأخذ والعطاء، أما نساء الرّسول صلّى الله عليه وسلم فلا قياس عليهن، لأنهن أمهات المؤمنين أجمع ولا يمنع النّاس من النّظر إلى أمهاتهم، ومع هذا كن

يحتجبن. إن هؤلاء المارين كلهم بمثابة قسم واحد ممن يباح النّظر إليهم من الأقارب ثم بين القسم الثاني من الأجانب بقوله عز قوله «أَوِ التَّابِعِينَ» الّذين يتبعون الناس لأجل تناول فضلات طعام وخلقان ملابسهم من الشّيوخ الطّاعنين في السنّ الّذين قنت شهواتهم والمسوحين الّذين قطعت مذاكيرهم أو خصائهم، والبله الّذين لا يعرفون أمر النّساء والمعتوهين والمجانين وأشباههم المرادين في قوله تعالى «غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ» الّذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن ولا تحثهم أنفسهم بفاحشة ما، ولا يصفون للأجانب ما يرون منهن، فهؤلاء لا بأس بان ينظروا من النّساء ما ينظر منهن محارمهن، أما المجبوب الذي قطع ذكره فقط والمخصى والمخنّث الذي لا ينتشر ذكره فهم من أولي الإربة أي الحاجة بالنساء، فلا يجوز تمكينهم من النّظر إلى النّساء لأنهم يشتهون ويعرفون أمور النّساء ويصفونهم للأجانب ولبعضهم، ثم بين الأجانب الآخرين الّذين هم من القسم الثاني الّذين يجوز لهم النّظر بقوله جل قوله «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» أي لم يقدروا على الوطء لعدم الشّهوة ويدخل فيهم كلّ من لم يبلغ سن المراهقة والتمييز وهو الأولى لأن المراهقين قد يعرفون شيئا من ذلك فينبغي التحاشي عن اطلاعهم على الأجانب وعدم التساهل بشأنهم، والشّر أوله نظرة والنّار أولها شرارة، والحرب أولها كلام، ألا فليحذرن اللائي يذهبن إلى الحمام من ذلك، «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ» معطوفة على ولا يبدين لأنهن إذا ضربن الأرجل حال مشيهن بأرجلهن «لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» وهو ظهور الخلخال وصوته إذ في باطنه حصى ليصوت عند ضرب الرجل بالأرض فتتنبه الرّجال للنظر إليهن فيكن كأنّهن قد عرضن أنفسهن بذلك «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً» رجالا ونساء أحرارا وعبيدا «أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ» مما صدر منكم من ذلك، ولا تعودوا اليه أبدا، وان ما وقع منكم من ذلك قبل صدور هذه الآية فهو عفو، أما بعدها فلا، إذ جاءكم النّهي من ربكم، فاتعظوا أو لا تفعلوا منه شيئا، واعملوا بما أمرتم به «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (31) فتفوزون بخير الدّنيا والآخرة، وانما وصى الله عباده بالتوبة

لأنهم لا يخلون من خطأ وإن حرصوا كلّ الحرص، وقد وعدهم بالفلاح ترغيبا لملازمتهم التوبة وأحوج النّاس إليها من يرى نفسه أن ليس له حاجة بها، لأنه غافل لاه والغافل أكثر النّاس وقوعا بالخطا. وبعد أن ذكر الله تعالى هذه الآداب الثلاثة المحتوية على آداب ثلاثة شرع يبين احكاما أخر غير الأحد عشر الأولى فقال جل قوله «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى» الغير متزوجين رجالا أو نساء «مِنْكُمْ» أيها الأحرار «وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ» عبيدكم المذكورين «وَإِمائِكُمْ» عبداتكم الصّالحات «إِنْ يَكُونُوا» هؤلاء الأيامى «فُقَراءَ» لا مال لهم فاعطوهم على فقرهم وزوجوهم «يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» الوافر العميم، واحذروا أن يمنعكم الفقر من التزويج والزواج، فإن الله وعد عليهما الغنى «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (32) ؟؟ بهم قادر على سد حاجتهم بل على إغنائهم من فضله وكرمه وإعطائهم أكثر منكم، الا لا يمتنع الرّجل أن يزوج ابنته من الفقير لأن الله قد يغنيه بمقتضى هذه الآية، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال قال صلّى الله عليه وسلم يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي قطع لمادة الشّهوة، لأن الوجاء رض الخصيتين وهو نوع من الخصاء. والباءة النّكاح. وأخرج أبو داود والنّسائي عن معقل بن يسار قال قال صلّى الله عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة وروى مسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الدّنيا متاع وخير متاعها المرأة الصّالحة. وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) أي مع المرأة الصّالحة كما أشرنا بهذا في الآية 98 من ج 2 هذا وإن الله تعالى كما وعد على الزواج الغنى وعد على الطّلاق الغني أيضا، راجع الآية 130 من سورة النساء المارة الحكم الشّرعي يسن على التأكيد لمن تتوق نفسه الجماع أن يتزوج، وإذا خاف من عدم الوقوع بالحرام وجب عليه إذا كان قادرا على المهر والنّفقة بنسبة أمثاله، وإلّا فعليه إدامة الصّيام كسرا لشهوته، ومن لا تتوق نفسه ذلك وهو في أمن من الوقوع في الحرام فهو بالخيار قال تعالى «وَسَيِّداً وَحَصُوراً» يمدح سيدنا يحيى عليه السّلام لأنه لا يأتي النّساء ولا يرغب فيهن مع قدرته على الزواج

مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إن أردن تحصنا) . ومعنى قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض) :

وتغلبه على نفسه، وهو عليه السّلام مخصوص بذلك من عموم الأنبياء قال تعالى (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) أي اللاتي لا يتزوجن كما سيأتي بحثهن في الآية 91 من هذه السّورة ويفهم من حمد سيدنا يحيى وعدم ندب القواعد للزواج جواز عدمه للقادر عليه الحافظ لنفسه، إلا أن الزواج أفضل لما فيه من التكاثر الذي ندب إليه حضرة المصطفى بحديثه الآنف الذكر، يؤيده الخبر الوارد لا رهبانية في الإسلام. وتفيد هذه الآية ان أمر تزويج الأيامى منوط بأوليائهم، والعبيد والإماء إلى ساداتهم، بدليل مخاطبتهم بذلك بقوله جل قوله (وَأَنْكِحُوا) وعليه فلا يجوز زواجهم بغير إذنهم وهو كذلك، ويدل عليه قوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الآية 15 من النّساء المارة وهذه تؤكد تلك لشمولها الأحرار أيضا وبما أخرجه ابو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا نكاح إلّا بولي، ولهما عن عائشة عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن تشاحّوا فالسلطان ولي من لا ولي له. ولهذا قال الإمام مالك عليه الرّحمة إن كانت المرأة دنيّة يجوز لها تزويج نفسها، أي لأن أوليائها منها براء لدناءتها وإن كانت شريفة فلا. مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) . ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : قال تعالى «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» فيتزوجوا حينذاك وإلا فعليهم ملازمة التقوى والصّبر والصّيام ومداومة العمل والتكسّب، حتى إذا من الله عليهم تزوجوا «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ» بلا أجل أو الى أجل قليل أو كثير «مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والإماء «فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» قدرة على الكسب وأمانة على الوفاء وديانة تحفظهم من النّكث والنّقض وتجربة ليطمئن لها المكاتب. وعلى هذا إذا وثقتم بهم وكاتبتموهم فأعينوهم امتثالا لأمره تعالى المنوه به في قوله «وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ» أي من الزكاة، لأنهم من

الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية 62 من سورة التوبة إعانة لهم على أداء بدل المكاتبة لكم، ومن الإعانة أن تحطوا عنهم منها ابتغاء وجه الله، وقد نزلت هذه الآية في صبيح غلام حويطب بن عبد العزّى حين سأل مولاه أي يكاتبه فأبى فلما نزلت كاتبه على مئة دينار، ثم وهب له منها عشرين فأداها له، وقتل في واقعة حنين في السّنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة، وقد أشار الله تعالى إليها بقوله جل قوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) الآية 27 من سورة التوبة الآتية، وسيأتي ذكر القصة بحذافيرها هناك إن شاء الله. والحكم الشّرعي هو ان الأمر بالمكاتبة على طريق النّدب والاستحباب، لأن الأمر معلق على فعل الخير والصّارف له من الوجوب التقييد لأن الأمر لا يكون للوجوب إلّا إذا كان خالصا من القيد والتخصيص والتعليق، لهذا فإن الأحب للسيد ان يكاتب عبده طلبا لتحريره وابتغاء لوجه الله، لأن المكاتبة تقدمة للعتق الذي رتب عليه الأجر الكثير. روى أن سيرين أبا محمد العابد المشهور دفين الزبير من أعمال ولاية البصرة في العراق، سأل سيده أنس بن مالك ان يكاتبه، فأبى عليه، فراجع عمر رضي الله عنه فاستدعى أنا وأمره بمكاتبته، فلم يفعل، فضربه بالدرة وتلا عليه هذه الآية، إلا أن هذا لا يستدعي الوجوب لأن غاية ما فيه أن عمر توهم فيه الصّلاح وأحب ان يعتق فكان منه ما كان من الزهد والتقوى والمؤلفات، رحمه الله رحمة واسعة ورضي الله عن سيدنا عمر ما أحد نظره وأصوب فراسته. وكيفية المكاتبة ان يقول السيد لعبده كاتبتك على الف درهم تؤديها لي أقساطا كلّ شهر كذا او كلّ سنة فإذا أديتها كاملة فأنت حر فإذا أدى له تمام المبلغ عتق وصار حرا في كسبه وولده، والأولاد الّذين يحصلون له زمن هذه المكاتبة أحرارا ايضا تبعا له، أما الّذين قبل عقد المكاتبة فعبيد إلّا إذا نص على حريته في عقد المكاتبة، وإذا لم يؤد تمام المبلغ المكاتب عليه فسخ العقد وبقي وأولاده مملوكين على حالتهم الأولى وما كسبه من المال لسيده، لأن كسب العبد وما يملك من مال وولد لسيده أخرج ابو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال صلّى الله عليه وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأخرج الترمذي والنسائي عن ابي هريرة ان رسول صلّى الله عليه وسلم

قال ثلاث حق عليّ الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والنّاسخ الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله هذا وإذا مات المكاتب قبل إيفاء بدل المكاتبة وقبل مضي مدتها ووجد عنده ما يكمل البدل أخذه سيده ومات حرا ويكون ولده من بعده أحرارا وإلّا فيموت على رقه ويبقى أولاده مملوكين بعده كما كانوا قبل والأحب ان يترك السّيد ما بقي عليه طلبا لمرضاة الله تعالى، فإذا وفقه الله وفعل مات المكاتب حرا وصار أولاده أحرارا بعده. أخرج مالك في الموطأ ان عبد الله بن عمر كاتب غلامه على خمسة وثلاثين الف درهم، فوضع في آخر كتابته خمسة آلاف وهكذا يستحب ان يضع عنه من آخر الأقساط لأن الوضع من أولها قد يحمله على الكل ويؤدي به إلى الأمل فيعجز عن الأداء ويبقى رقيقا وهو المتسبب، لأن عدم الوضع من الأول ينشط المكاتب على العمل ويحمله على الأداء ويزيد في عزمه وحزمه على خلاص نفسه ويحزم على أداء تمام المبلغ، إذ يحتم على نفسه انه مطلوب منه، فإذا ترك له القسط الأخير كان عونا له في امره وكان صدقة تصدق بها عليه فيطيب خاطره ويقدر فضل سيده فلا يدعه «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ» إنما قال فتياتكم لأنهن المتوقع منهن بخلاف العجائز والصّغار، والمراد بهن هنا العبدات، لما جاء في الخبر لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فناي وفتاتي، لأن الكل عبيد الله فلا يليق ان تنسب العبودية لنا ونحن العبيد. والبغاء الزنى في النّساء خاصة «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» عنه «لِتَبْتَغُوا» بإكراههن على الزنى «عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» من الاحتواء على كبهن الخبيث وأولادهن الحاصلين من الزنى ليكونوا عبيدا لهم تبعا لأمهاتهم «وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ» على ذلك فيفعلنه مكرهات بعد هذا النّهي فهو آثم، وهؤلاء إذا تبن بعد هذا عن تعاطي هذا الفعل القبيح «فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ» لهن ولهم ايضا إذا عدلوا عن إكراههن «رَحِيمٌ» (33) بهم جميعا إذا تابوا وأتابوا وإلّا فيكون الإثم على المكره إذا تحققت شروط الإكراه، لأن آمر المطيعة المواتية للبغاء لا يسمى اكراها، ولا أمره أمر إكراه. وفي هذه الحالة يكون الإثم على الاثنين لا فترافهن الزنى ولرضاء السّيد فيه. واعلم ان في إيثار

لفظ (إن) على (إذا) إيذان بأنهن كن يفعلن ذلك برغبة ورضا منهن، وان المشتكيات منه نادرات شواذ. روى مسلم عن جابر قال عبد الله بن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية ان جاريتين له يقال لهما سكينة وأمية كان يكرهما على الزنى فشكناه لرسول الله فنزلت. وكان لهذا الخبيث ستّ جوارهاتان اللّغتان ما كانتا ترغبان بالزنى ومعاذه واروى وعمرة وفتيلة اللاتي كن يرغبن فيه. والآية عامة في كلّ من يفعل ذلك، وخصوص السّبب إذا كان اللّفظ عاما لا يقيده. ولا إشكال في قوله تعالى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لأن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية المارة، فخرج النّهي على صيغة السّبب نفسه وان لم يكن النّهي شرطا فيه لأن الشّرط في ارادة التحصن حيث لا يتصور الإكراه إلّا عند إرادته، فإن لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعا، إذ من المعلوم أنه لا يجوز إكراههن على الزنى أردن التحصن أم لا، وفي هذه الآية توبيخ الموالي لأنهن إذا رغبن بالتحصن فهم من باب أولى ان يرغبوا فيه وأحق ان يحبذوه. وليعلم أن هذا ليس لتخصيص النّهي بصورة ارادتهن التعفف عن الزنى وإخراج ما عداها من حكمه، كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن لخصوص الزنى او لخصوص الزمن او المكان او لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل للمحافظة على عاداتهم المستمرة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك وتقبيح حالهم وتشنيع قبائحهم، لأن من له أدنى مروءة لا يرضى بفجور من في حوزته من الإماء، فضلا عن أمرهن به وإكراههن عليه، لا سيما إذا كن يردن التعفف. هذا ويجوز ان تكون (ان) هنا بمعنى إذ على حد قوله تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية 133 من آل عمران أي إذ كنتم وهنا ينتفي الشرط تأمل. أما من قال ان في الآية تقديما وتأخيرا ويريد بذلك ان يكون نظم القرآن العظيم هكذا (وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) بعيد جدا، وان كان حسنا، لأن تلك آية على حدة لا علاقة لها في هذه الآية والله أعلم بنظم كتابه. ولم يثبت عن حضرة المنزل عليه ما يدل على ذلك ولم ينقلها أحد من خواص الصّحابة، لذلك لا يلتفت اليه وهناك قول

آخر بان هذا الشّرط في الآية هذه من معطل المفهوم على حد قوله (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) الآية 6 من سورة الأعلى في ج 2، أي فذكر وان لم تنفع لقوله تعالى (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 57 من سورة الذاريات في ج 2 أيضا لأن مفهوم الأولى إن لم تنفع لا تذكر والتذكير مطلوب لا يعدل عنه للتأكيد عليه في الآية الثانية وتأييده بالأحاديث الصّحيحة، فعلى هذا لو أبطلنا مفهوم تلك الآية المفسرة يكون المعنى جواز الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله، لأن المفهوم اقتضى ذلك وانتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع على عدم جواز الزنى بحال من الأحوال وعدم جواز الأمرين مطلقا، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة أو عدم طلب الكف عن الإكراه عند عدم الإرادة وإنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذ، لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكرهن على البغاء والإكراه إنما هو الزام فعل مكروه، وإذا لم يكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة، والأوّل أولى تدبر قال تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لحلالكم وحرامكم وطيبكم وخبيثكم «وَمَثَلًا» من أمثال «مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» لشبه حالكم بأحوالهم، لأن قصة عائشة رضي الله عنها عجيبة كقصة يوسف وموسى ومريم عليهم السلام لأنهم اتهموا وهم براء منزهون مما رموا به، راجع الآية 26 المارة «وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» 34 ربهم المنتفعين بمواعظه لأن تقديم ما فيه عظة لذوي الألباب نافع لهم. وترمي ألفاظ لولا ولولا ويعظكم الى التنبيه والتحذير عن كل ما نهى الله عنه والترغيب والتحبيذ لكل ما أمر به لمن كان له قلب حي أو القى سمعه ليأخذ به ويقبله، ثم شرع جل شرعه في ضرب الأمثال العظيمة فقال «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» منورهما لمن فيهما «مَثَلُ نُورِهِ» العجيب الشّأن الغريب الإمكان في الإضاءة على أربعة أوجه: الأوّل نور يظهر الأشياء للأبصار وهو لا يراها كنور الشّمس وأمثالها، لأنه يظهر الأشياء الخفية في الظّلمة ولا يراها نور البصر. الثاني نور البصر يظهر الأشياء للإبصار ويراها فهو أشرف من الأوّل الثالث نور العقل يظهر الأشياء المعقولة المخفية في ظلمة الجهل للبصائر وهو يدركها

ويراها. الرابع نور الحق وهو يظهر الأشياء المعدومة المخفية في العدم للأبصار والبصائر من الملك والملكوت وهو يراها في الوجود في عالم النّاسوت واللاهوت كما كان يراها في العدم، لأنها كانت موجودة في علمه وان كانت معدومة في ذواتها، لأن علم الله تعالى لا يتغير، وكذلك رؤيته باظهارها في الوجود بل كان التغير راجعا الى ذوات الأشياء وصفاتها عند الإيجاد والتكوين فيتحقق قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بأنه مظهرها ومبديها وموجدها من العدم بكمال القدرة الأزلية ومنورهما بالكواكب في السّماء وبالأنبياء والعارفين والعلماء في الأرض، وهذا النّور الجليل العظيم بالنسبة لعقولنا وما يمكن ان نفهمه على طريق ضرب المثل، ذلك النّور في التمثيل والتقريب لعقول البشر «كَمِشْكاةٍ» كوّة طاقة في جدار حجرة لا منفذ لها باللغة الخشبية الموافقة للغة العربية راجع الآية 182 من سورة الشّعراء في ج 1، وقيل إن المشكاة ما يكون فيه الزيت والفتيلة من الأواني، والأوّل أولى وهو ما عليه الجمهور «فِيها مِصْباحٌ» سراج ضخم ثاقب نوره وماج تنتشر منه الأجزاء العظيمة «الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ» بضم الزاي وفتحها بتخليس أي قنديل من الزجاج الصّافي الأزهر، وإنما خص دون غيره لأنه أحكى للجواهر من غيره لما فيه من الصّفاء والشّفّافية كما خصّت الكوة الغير نافذة لأن المكان كلما ضاق أو تضايق كان أجمع للضوء والنّور «الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ» ينلألأ وفادا في صفاء الدّر وزهرته والكوكب يتضاعف نوره إذا درأ منقضا أي اندفع فكأنه يدرأ الظّلام بضوئه، ودرّ الكواكب عظامها مثل السّيارات الخمس، ولم يشبه بالشمس والقمر لأنهما يكسفان بخلاف الكواكب فإنها لا تكسف، والزجاجة مثلثة الزاي كالنخاع والقصاص والوشاح والزوان والجمام والصّوان وغيرها من المثلثات التي يجوز فيها الضّم والفتح والكسر، وذلك المصباح «يُوقَدُ» وقرىء توقد فعل ماض شدد القاف، وهذه القراءة جائزة لأن فيها التصحيف فقط، أي ابدال التاء بالياء فلا توجب زيادة في اللفظ ولا نقصا. واعلم أنه كما توقد النّار بالحطب توقد الأنوار بالأدهان «مِنْ» زيت «شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ» بدل من شجرة وبركتها كثرة منافعها

مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار:

وهي أول شجرة نبتت بالأرض بعد الطّوفان وتعمر أكثر من جميع الأشجار المثمرة ويسرج من زيتها ويدهن به ويؤتدم منه ويدخر ثمرها ولا يسقط ورقها. مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار: أخرج الترمذي عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة، والزيت من أصفى الأدهان إذا أتقن عمله «لا شَرْقِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند شروقها فقط «وَلا غَرْبِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند غروبها فقط ولا هي في غرب يضرها برده ولا في شرق يضرها حرّه ولا في مفيأ لا تصببها شمس البتة ولا في مفحاة لا يصببها ظل البتة لأنها إذا كانت شرقية بحتة أو غربية صرفة لا يكون ثمرها جيدا لأن الشّمس لها دخل عظيم في النّباتات وأثمارها أجمع بما أودعه الله فيها من قوة بل تصاحبها الشّمس طول النّهار تكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيخرج ثمرها من أحسن الأثمار من نوعها وحسن الزيت تابع لحسن الثمر بالدرجة الأولى فيكون والله أعلم المراد بها كونها شامية قدسية لأنهما وسط بين الحرارة والبرودة بالنسبة لبلادنا وأرضها لا شك مباركه طيبة، راجع الآية 76 من سورة الأنبياء ج 2، وزيتونها أجود من غيره لاعتدال الهواء والحرارة والبرودة فيهما غالبا «يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ» بذاته لشدة صفاته «وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ» قبل أن تشتعل ذبالة مصباحه أي فتيلته وإذا كان يضيء قبل مس النّار له فإنه يتضاعف عند مسها له ويزيد ضياؤه كأنه «نُورٌ عَلى نُورٍ» نور صفاء الزيت على نور صفاء المصباح في الزجاجة الدّرّية فيصير نورا متضاعفا من غير تحديد، وليس المراد أنه نور فوق نور ولا مجموع نورين بل نور غير متناه، وهذا هو النّور الذي شبه الحق جل جلاله نوره لخلقه بالنسبة لمداركهم ولما يرونه من أنواعه لا للواقع، لأنه ليس لمثل نوره نور كما ليس لمثله مثل، وكما أن ذاته لا تدرك ولا تكيّف فكذلك نوره جل جلاله، وذلك لأن مدارك العقول فيه عقال، وغاية السّعي لمعرفة كنهه كما هي ضلال. واعلم أن أبا تمام لما مدح المأمون بقوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس

وقيل له إنك أنقصت الخليفة لتشبيهه بالسوقة وهو فوق ما وصفت وان أحدا منهم لا يدرك بعض مقامه ولا جزء رتبته ولا شيئا مما هو عليه من الرّفعة والعزة ارتجل لهم بيتين قال فيها: لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا ... شرودا في النّدى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس أي القنديل، ولهذا فلا يقال كيف يشبه الأدنى بالأعلى، لأن التشبيه نسبي بقدر ما يعلم المخاطب من الأشياء الحسية ليكون أوقع في النّفس، لأن التشبيه بشيء لا يعرفه المخاطب لا يكون له قيمة عنده ولا يتعجب منه. واعلم أن هؤلاء الّذين شبه الخليفة بهم لهم ذكر حسن شائع بين النّاس أكثر من بعض الملوك فالتشبيه بخصلة عند رجل قد لا تكون عند المشبه به مدح له وان كانت عند من هو دونه فالاعتراض على أبي تمام في غير محله. واعلم ان الله تعالى جلت قدرته وتعالت عظمته إنما أضاف النّور الى السّماوات والأرض الدّلالة على سعة اشراقه ونشو اضاءته فيها، فيستضيء به أهلهما لأن الضّياء منتشر من النّور، قال الامام السّهيلي في المعنى: ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية ان يموجا وقال تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) الآية 17 من البقرة المارة وقال جل قوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) الآية 5 من سورة يونس ج 2، لأن نور القمر لا ينتشر مثل ضوء الشّمس، لا سيما في طرفين، وهذا يدل على أن نور القمر مستفاد من الشّمس في مقابلة المضيء منها، لأن اختلاف تشكلات القمر بالبعد والقرب من الشّمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل بان نورها فائض عليه، وهذا من معجزات القرآن لأن في عهد نزوله لا يوجد من يعرف ذلك، ولهذا قالت الفلاسفة أيضا ما يكون للشمس من ذاته والنّور ما يفيض عليه من مقابلتها، وهذه الدّلالة ظنية، وهي أحد أقسام الخمس اليقينات التي أشرنا إليها في الآية 43 من سورة النّساء المارة. هذا ومن قال ان هذا المثل ضربه الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم وقال المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح

ثبوّته فليس بشيء، وهو منقول عن كعب الأحبار وأضرابه، وانما لم يعتمد على نقل كعب هذا لأنه غالبا ينقل عن التوراة لكثرة تبحره فيها، فيظن من ليس له خبرة بالأحاديث والسّير أنه ينقل عن حضرة الرّسول، وهو رحمه الله لم يشاهد الرسول صلّى الله عليه وسلم لأن إسلامه كان زمن عمر رضي الله عنه، وكلّ ما قيل فيه من تشبيه كعب أو غيره فهو فوقه قال ابن رواحه: لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك عن خبره وقال الأبوصيري: لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرّمم فما تطاول آمال المديح الى ... ما فيه من كرم الأخلاق والشّيم أيمدح من أثنى الإله بنفسه ... عليه فكيف المدح من بعد ينشأ إلى آخر ما قال في بردته وهمزيته اللّتين لم يمدح بأحسن منهما كما قيل. وما قيل بأنه مثل لعبده المؤمن وحواسه السّيارات السّبع أو أنه مثل للقرآن يخالفه ظاهره وان كان فيه ما ذكروه من المعاني، وان سبب عدولهم عن ظاهر القرآن زيادة في تنزيه الحق جل ذكره بان يكون لنوره مثل، وهو كذلك، إلا أن الله تعالى يضرب الأمثال بما يفهمه خلقه ويشاهدونه كي يستدلوا به عليه ليس الا، وضرب المثل لا يكون الا بالمحسوس، وإلّا فلا فائدة به، لأن الله تعالى خاطب عباده بما يعقلون، وأمر رسوله أن يكلمهم بما يفهمون، راجع الآية 26 من البقرة المارة وما ترشدك اليه في معنى ضرب المثل «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ» الموصوف هداية خاصة موصلة الى المطلوب حتما «مَنْ يَشاءُ» من عباده بالهام منه فيوفقه لاصابة الحق بأقواله وأفعاله وإشارته وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ» تقريبا لا فهامهم وتسهيلا لسبل ادراكهم ليستأنسوا بالمحسوسات الى المعقولات، وبالمشاهدات الى الغائبات «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (35) من ضرب الأمثال وما تدركه مخلوقاته وما لا، ويبين لكم ما يمكن أن تعلموه، وتلك المشكاة الموصوفة «فِي» جدار «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ لها أَنْ تُرْفَعَ» وتعظم وتفخم، فلا يذكر فيها الغير وهي المساجد، لأنها أشرف بقاع الأرض غير ما ضم أجساد الأنبياء منها عليهم

الصلاة والسّلام، ومن احترامها أن يذكر الله فيها ولا يخاض فيها حتى في المباح لأن الكلام فيها ما عدا الذكر يحبط العمل «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» جل شأنه ويتلى فيها كتابه وتقام فيها الصّلوات والأذكار آناء اللّيل وأطراف النّهار «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها» أي يصلي، وأطلق التسبيح على الصّلاة لأنه جزؤها، ويطلق الجزء على الكل أحيانا راجع الآية 20 من البقرة المارة، وهؤلاء الكرام يديمون هذا التسبيح «بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (36) أوائل النّهار وأواخره، وكذلك الليل، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية 62 من الفرقان في ج 1، وهؤلاء المديمون ذكره صباح مساء ابتغاء خيره «رِجالٌ» عظام وأي رجال كبار فخام، ورفع على أنه فاعل يسبح، ولذلك وصفهم بأنهم «لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ» لا عن «إِقامِ الصَّلاةِ» بوقتها وإيتاء الزكاة لمستحقها بزمنها «يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» (37) لذلك، فإنهم لا يؤخرون شيئا عن وقته كما أمروا به عدا ما هم عليه من الأعمال الصّالحة المذكورة لعلمهم بشدة هول يوم القيامة وتوغل معرفتهم بالله وخالص يقينهم بأنهم مهما عبدوه لم يؤدوه حقه ولا بعض حقه، وأن أعمالهم كلها لا تؤهلهم دخول الجنّة إذا لم يشملهم برحمته ولعلمهم أنه تعالى لا ينقيد بشيء ولا يسأل عما يفعل، وقد وفقوا للخوف والخشية منه بفضله «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» على أحسن أعمالهم بأكثر مما يأملون «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» الذي لا حد له ولا مقدار بأكثر مما يتوقعونه منه «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (38) لأن الحساب من شأن المخلوقين الّذين يخشون النّفاد، لا من صفات الخالق صاحب الجود الكامل والإحسان الواسع والفضل العميم الذي لا يدخل تحت حساب الحاسبين ولا نهاية له. هذا وان قوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ) إلخ ليس نهيا عن التجارة ولا يفيد معنى المنع منها ولا كراهيتها، بل تشير إلى النّهي عن التهافت بها والاشتغال فيها عن عبادته جلت عبادته. وما قيل أنها نزلت في أهل الصّفة لا يصح، لأنهم فقراء لا مال لهم حتى يؤمروا بالزكاة، ولأنهم تركوا الأشغال الدّنيوية كافة وانكبوا على عبادة

ربهم، وإنما نزلت في أهل الأسواق الّذين إذا سمعوا النّداء تركوا أشغالهم وبادروا إليها ليقتدي بهم من بعدهم ويا حسرتاه الآن تراهم لا هين باللعب والشّغل عن الصّلاة ولا يجيبون المنادي، فإنا لله وإنا إليه راجعون من أناس لا يخافون أن يدخلهم الله في قوله في المثل الثاني المخيف المزدوج «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ» التي عملوها في الدّنيا تكون يوم القيامة «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ» جمع قاع وهي ما انبسط واستوى من الأرض «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً» فيقصده ليشرب منه لشدة عطشه حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» فيخيب ظنه ويظهر له وهمه وسبعتبين له خطأه «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ» أي السّراب الذي توهمه ماء «فَوَفَّاهُ حِسابَهُ» على ما كان منه في الدّنيا فعاقبه عليه وأحبط عمله الصّالح الذي كان يرجو ثوابه، إذ لم يبتغ فيه وجه الله «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» (39) يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة رجل واحد بأسرع مما يتصوره المنصور كطرف العين وقل «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» عميق جدا «يَغْشاهُ» يغطي ذلك البحر «مَوْجٌ» عظيم وهو ما ارتفع من الماء بسبب الهواء «مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ» آخر تراكم عليه «مِنْ فَوْقِهِ» أي الموج الثاني «سَحابٌ» كثيف جدا فصارت كأنها «ظُلُماتٌ» أربعة ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السّحاب وظلمة الليل «بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» بحيث يكون الواقع فيها «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» من تراكم الظّلمات الأربع مع أنها أقرب شيء منه، فكيف يمكن أن يرى غيرها «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً» يهتدي به في الدّنيا «فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40) في الآخرة، وهذان المثلان ضربهما الله تعالى للكافر إذ شبّه عمله الحسن الذي كان يتوحّى ثوابه بالسراب والقبيح بالظلمات، فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يأمله، لأنه عمله للرياء والسّمعة، فكان حاله كالظمآن المحتاج إلى الماء إذا رأى سرابا تعلق قلبه به، فإذا ذهب إليه ولم يجد ماء اشتدت حسرته وعظم غمه وتناهى فجره ولم تكفه خشية تلك بل وجد عنده عذاب الله الذي لا يطاق وزاده غضبا مشاهدة قبائحه من ظلمة عقيدته وظلمة أقواله وظلمة أفعاله وظلمة نيته، إذ جسّمت له في ذلك اليوم العظيم ليتضاعف

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 50]

عذابه فيه، أجارنا الله من ذلك. ثم طفق يقص علينا جل قصصه من بعض بدائع مصنوعاته، فقال أولا يا أيها الإنسان «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كل بلسان حاله أو قاله «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أجنحتها في الهواء «كُلٌّ» من تلك المسبحات والمسبّحين يسبحونه بلغات مختلفات وأحوال متباينات لا يعلم بعضها البشر، وهو جل شأنه «قَدْ عَلِمَ» من كل «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» وتعلم هي أيضا أنها تصلي وتسبح له «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» (41) من تسبيح وغيره قبل أن يفعلوه «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (42) بعد الفناء فيحاسب ويكافى ويجازى كلا على قدر عمله. مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء: وقال تعالى ثانيا «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» يسوقه حيث يريد «ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ» لأن الرياح أول ما تثير السّحب تكون قطعا متفرقة «ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» بعضه فوق بعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» بصورة بديعة طلا ووائلا وخفيفا وسحّا «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ» المطر الذي نراه فوقنا «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» مما يتكاثف من الماء ويتجمّد في الهواء البارد ويبقى عائما بقدرة القادر الحكيم، ثم يتهاطل بانتظام عجيب إلى الأرض صغارا وكبارا وبين ذلك، واعلم أن لفظ من الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء نزوله من السّماء، ومن الثانية للتبعيض لأن ما ينزل هو بعض تلك المياه المتجمدة الشّبيهة بالجبال من حيث الكثرة، ومن الثالثة للتجنيس لأنها تفيد أن تلك الجبال من برد لا من جنس آخر «فَيُصِيبُ بِهِ» أي البرد (مَنْ يَشاءُ» من خلقه فينتفع به أناس ويهلك به آخرون إذا شاء من إنسان وحيوان وزرع وغيره «وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» فلا يقربه شيئا من ذلك ولو كان نازلا عليهم أو لا ينزله على أراضيهم البتة حسب مقدراته الأزلية «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» الحاصل من تصادم السّحب المنكاثفة ببعضها لشدة ضوءه «يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» (43) فيعميها «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» باختلافهما وطولهما

وقصرهما «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإزجاء والإزجاء والإنزال والاصابة والصّرف والتقلب «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (44) الحية المتفكرة يتعظون بها ويخافون منزلها ويتأثرون ويتدبرون بنعم الله ونقمه وبدائع مكوناته، لأن هذه الآية تشير إلى مسألة دقيقة وهي الألفة، لأن السّحاب لا يأتلف صدفة بل على قاعدة منتظمة فنية اطلع عليها علماء عصرنا من أهل الدّنيا فقالوا إن قطع السّحاب لا تأتلف إلّا بتغاير نوع الكهربائية التي تحملها كلّ قطعة منه، فالتي تحمل كهربائية سلبية ينسنى لها الائتلاف مع قطعة كهربائية ايجابية، لأن تماثل قواها يقضي بتدافعها وتشتتها كما يشاهد عند تفرقه وتلاشيه في أيّام الصّيف وغيره، سواء أكان ثقالا أو جهاما. وقالوا إن قسما من أو كسجين الهواء يتحد مع الهدروجين بواسطة الشّرارة الكهربائية الحاصلة من البرق فيتولد الماء، وهذا الاتحاد يسميه الكيمائيون بالألفة الكيميائية وهي سر من أسرار الغيب، وهؤلاء الّذين يولدون الكهرباء الّذين توصلوا بعقولهم وأفكارهم تدريجا إلى الإبداع في الاختراع بسبب هذه القوة لا يعلمون ما هي، فسبحان القادر الجاعل من المحسوسات ما هو غائب، ومن المشاهدات ما هو منكر، ومن البسيطات قوى عظيمة. قال تعالى ثالثا «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» من كل مادب على وجه الأرض البارزة والمغمورة بالماء ويخرج من هذا العموم الملائكة لأنهم خلقوا من النّور والجن لأنهم خلقوا من النّار، وكلّ من هذين النّوعين لم يشاهده البشر على صورته الحقيقية إلّا من اختصه الله بذلك أما آدم عليه السّلام فإنه خلق من الطّين، والطّين لا يخلو من ماء فيكون داخلا في هذه الآية، وهذا الماء المشار إليه نسبيّ بنسبة المخلوق منه، ففي الإنسان وبعض الحيوان نطفة، وفي غيرها ما يقابلها، ويطلق على الكل ماء، قال تعالى (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية 31 من الأنبياء ج 2 فالمخلوق من نطفة لا تسمى ماء لا بد أن يكون متكونا من شيء آخر، وذلك الشّيء لا بد أن يكون أصله مركبا من الماء، فيكون الكل من الماء اجمالا، لأن فيه حياة كلّ نام، وان ما خلق من التراب المتحجر كالفأر، وما خلق من الزبل كالخنافس، وما خلق من الطّين كالديدان وما خلق من النّار كالسمندل، وما خلق من الثلج كاليخ أيضا داخل في هذه

الآية، لأن كلا منها فيه ماء، قال تعالى «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ» كالحيات والدّيدان والأسماك وغيرها «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ» كالإنسان والطّير وغيرها مما لا نعرفه «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» كالبهائم والوحوش وغيرها كثير. ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرّتيلات وأم أربع وأربعين وأم سبع وسبعين وغيرها لقلتها بالنسبة لذوات الأربع، ولأن اعتماد هذه الحشرات في المشي على أربع فقط وبقية الأرحل تبع لها «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ممن يعقل ومما لا يعقل وما يعلم وما لا يعلم مما رآه البشر ومما لم يره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ» من أنواع الخلق وأجناسه وأصنافه «قَدِيرٌ 45» لا يعجزه شيء يكوّنه بكلمة كن كما يريده. هذا وقد غلب في في هذه الآية اللّفظ اللائق بمن يعقل على مالا يعقل لشرفه، فجعله أصلا واتبع به ما لا يعقل لخسّنه، وهو أولى من العكس، وقدم من يمشي على بطنه لأنه أعجب ممن يمشي على رجلين وأربع. قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لكل شيء ليعتبر الخلق ويتعظوا بما وقع على الأقوام المخالفين من قبلهم ويرشدوا إلى طريق الهدى، ويعرضوا عن الضّلال «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (46) ويضل من يشاء عنه فيدعه يتخبط في غياهب الجهل طبق ما قدره وقضاه في الأزل ثم أراد أن يقص علينا شيئا من أحوال خلقه فبين جل بيانه أن النّاس بعد بيان هذه الآيات المبينات افترقت إلى ثلاث فرق، واحدة صدقت ظاهرا وكذبت باطنا وهم المنافقون المشار إليهم في قوله تعالى «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» بألسنتهم دون اعتقاد صحيح «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن الطّاعة ويعرض عن الإيمان «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الاعتراف بهما «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (47) راجع الآية 8 فما بعدها من سورة البقرة المارة تقف على أحوال المنافقين لأن من يوافق قوله عقيدته ولسانه قلبه هو المؤمن المخلص حقا وصدقا «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» بشرع الله «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» (48) عنه ومن هؤلاء المنافقين بشر المار ذكره وقصته في الآية 65 من سورة النّساء فراجعها. أما من قال إن هذه

[سورة النور (24) : الآيات 51 إلى 60]

الآية نزلت فيه فقد ذهل، وإنما هذه الآية حكاية حال عنه وعن أمثاله وهي عامة في كلّ من هذا شأنه لورودها مورد العام، فيدخل فيها المذكور وغيره ممن هو على شاكلته «وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» (49) لحكمه لم تكرر هذه الكلمة بالقرآن أي راضين بقضائه «أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك أو ريبة أو شبهة في حكمه «أَمِ ارْتابُوا» بنبوّته فلم يصدقوه وجحدوا كتابه «أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ» يجوز عمدا «اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ» بالحكم فيظلمهم وهو ينهى عن الظّلم ورسوله، «بَلْ» لا شيء من ذلك وإنما «أُولئِكَ» المتوقعون شيئا منه مخالفا «هُمُ الظَّالِمُونَ» (50) أنفسهم باعراضهم وتوهمهم «إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا» قوله وقبلناه «وَأَطَعْنا» أمره وامتثلناه «وَأُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم فيما يحكم الله ورسوله لهم وعليهم «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (51) في الدنيا والآخرة «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» (52) الناجحون عند الله في الدّارين. ثم ذكر حالة ثانية من أحوالهم فقال «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» يقال لمن بلغ في الحلف غايته وشدة تأكيده جهد أي بلغ أقصى ما يحلف به «لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ» بالخروج من ديارهم وأموالهم «لَيَخْرُجُنَّ» امتثالا لأمرك يا رسول الله «قُلْ» لهم «لا تُقْسِمُوا» كذبا فإن طاعتكم هذه المزيفة «طاعَةٌ» قولية «مَعْرُوفَةٌ» بلا فعل، لأنها ناشئة عن غير اعتقاد واخلاص، بل عن رباء وخداع، وقد أشار الله إليهم في الآية 166 من آل عمران بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وفي الآية 11 من سورة الفتح الآتية (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وذلك لأن إيمانهم غير صحيح، وفي الآية 47 من المائدة الآتية أيضا أخبر الله عنهم بقوله (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» 53 وإنه يخبر رسوله به ليفضحكم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» طاعة صادقة مخلصة بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عن تقديم هذه الطّاعة الحقيقة «فَإِنَّما» الله الذي أرسله إليكم يقول وهو أصدق القائلين «عَلَيْهِ»

أي الرّسول المأمورين بطاعته «ما حُمِّلَ» من تبليغ الرّسالة التي كلف بها وأمر باعلانها، وقد قام بذلك وخرج عن عهدة ما كلف به «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» أيها المؤمنون من الإجابة والامتثال حالة كونكم مخلصين بهما صادقين، وإلّا فقد عرّضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه «وَإِنْ تُطِيعُوهُ» فيما يأمركم وينهاكم «تَهْتَدُوا» إلى الحق وترشدوا إلى النّجاة «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (54) وليس عليه أن يقسركم على نفعكم بالسيف لأن ذلك خاص بالمشركين وفرقة ثالثة صدقت ظاهرا وباطنا وهم المؤمنون المخلصون المذكورون في قوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» فيجعل منهم ملوكا وأمراء وحكاما ويورثهم أراضي الكفار والحكم عليهم «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» عليها كداود وسليمان عليهما السّلام وكما استخلف بني إسرائيل وسلطهم على الجبارين بمصر والشّام وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم بعد أن كانوا أضعف النّاس وأهونهم إذ كانوا تقتل رجالهم وتستحيا نساؤهم للخدمة وغيرها كما أشار إليه في سور طه والشّعراء والنّمل والقصص والأعراف وغيرها في ج 1 ويونس وهود والمؤمن وغيرها في ج 2 وفي سورة البقرة أيضا «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره فيسود الأرض إن شاء الله وتثبت دعائمه فيها، فيظهر حكمه على أهلها طوعا أو كرها «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ» الذي كانوا فيه الذي كانوا ولم يزالوا بشيء منه «أَمْناً» على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وقراهم بحيث يخافهم النّاس ولا يخافونهم، وإنما فعل ويفعل الله تعالى إن شاء لهم ذلك لأنهم «يَعْبُدُونَنِي» أنا الله وحدي علنا في كلّ مكان «لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» من الأوثان وقد أنجز الله تعالى لهم هذا الوعد والحمد لله شكرا على ما فعل وسيمضيه إن شاء الله إلى آخر الدّوران «وَمَنْ كَفَرَ» بعد انجاز ذلك الوعد الذي رأوه بأعينهم ولمسوه بأيديهم وذاقوا ثمرته «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» 55 الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون الحدود التي حدها لهم كان صلّى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة من بدء البعثة إلى يوم الهجرة صابرين على أذى الكفار واضطهادهم، ولما حلّوا

مطلب في معجزات الرسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم:

المدينة كانوا في بداية أمرهم لا يفارقون سلاحهم وأمروا بقتال الكفرة وهم لا يزالون على خوفهم، فقال رجل منهم أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السّلاح عن عاتقنا، فأنزل الله هذه الآية. مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلّى الله عليه وسلم: روى البخاري عن عدي بن حاتم قال بينا أنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع النّسل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها ولقد أنبئت عنها، قال فإن طالت بك الأيام فلترى التطعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلّا الله (قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعّار طيء الذي قد سعّروا البلاد) ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز؟ قال كسرى بن هرمز؟ ولئن طالت بك حياة لترين الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضة فيطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلتين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولنّ ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى يا رب، فيقول ألم أعطك ما لا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلّا جهنم. قال عدي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اتقوا النّار ولو يشق تمرة، فمن لم يجد تمرة فبكلمة طيبة. (قال عدي فرأيت الظّعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلّا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز) ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلّى الله عليه وسلم يخرج الرّجل ملء كفه من ذهب أو فضة إلخ. وفي هذا الحديث والآية دليل على صحة خلافة الخلفاء لأن الفتوحات كانت في أيامهم، ودلالة على أن هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وإنها من أوائل ما نزل بالمدينة. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية. وهي من جملة المغيبات التي أخبر الله بها رسوله كما أشرنا إليه في سورة القمر ج 1، والسّبب المذكور أعلاه في نزولها ينطبق عليها تماما، عدا كون القول الواقع بالمدينة إذ قد يوشك أنه بمكة والله أعلم. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا

الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (56) أيها النّاس وفرقة كذبت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون الّذين قال الله فيهم «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ» وانا لا تقدر عليهم «فِي الْأَرْضِ» بلى قادرون عليهم، وهم في قبضتنا لا يستطيعون أن يفتلوا منا، وسنذلهم بالدنيا بالجلاء والأسر والقتل والسّبي وضرب الجزية «وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة «وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (57) هي لأهلها. ولما انتهى من بيان الفرق الثلاث وحال كلّ واحدة ومصيرها طفق يأمرنا جل أمره بما إن تمسكنا به من الآداب الدّاخلية فيما يخص العائلة نفسها هذبت نفوسنا وحسنت أخلاقنا وكفينا سوء آداب خدمنا وتعلقاتنا، بقوله عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه إذا خلوتم بأزواجكم في الأوقات الثلاثة الآتية فنبهوا خدمكم وأولادكم إذا أرادوا الدّخول عليكم «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والخدم ذكورا كانوا أو إناثا «وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» من أولادكم وبنانكم الّذين لم يحتلموا بعد ممن هم دون سن التمييز في اليوم واللّيلة «ثَلاثَ مَرَّاتٍ» بأوقات معينة أولها «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ» لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النّوم ووقت العود إلى الأهل «وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ» وهذا الوقت الثاني زمن القيلولة في الصّيف إذ تضعون ثيابكم التي لبستموها للقاء النّاس أو لأعمالكم إذ قد تبدو عورتكم أثناءها وقد تخللون باهلكم «وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ» وهو الوقت الثالث لأنه زمن النّوم والتجرد له ومداعبة الأهل، فهذه «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» لأنكم تحتاجون فيها إلى ما ذكر، وكلّ منها عوره للمذكورين لأنه فضلا عن رؤية ما لا تحبون رؤيته منهم قد يتكلمون فيه بعضهم لبعض ولغيرهم وما عدا هذه الأوقات الثلاثة «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ» أي الخدم والعبيد والأولاد «جُناحٌ بَعْدَهُنَّ» إذا دخلوا عليكم بغير استئذان لأنهم «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» قد يدخلون ويخرجون بصورة دائمة لخدمتكم والتمتع برؤيتكم ولما تقتضيه خدمة البيت، ولهذا يطوف «بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» لحاجة المخالطة «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشّافعي المعلم للآداب العالية والأخلاق الفاضلة

والعادات السّامية «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» التي أنتم بحاجة شديدة لمعرفتها والتحلي بها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (58) فيما يأمر وينهي بما ينفعكم ويضركم ويعلمكم محاسن الأخلاق ومعالي الآداب مع النّاس ومع أنفسكم. قالوا دخل على أسماء بنت مرشد غلامها في وقت كرهت فيه دخوله، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، وكان صلّى الله عليه وسلم وجه مدلجا غلاما أنصاريا إلى عمر بن الخطاب وقت الظّهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك، وأخبر حضرة الرّسول فنزلت هذه الآية. فما روي عن ابن عباس أنه قال لم أر أحدا يعمل في هذه الآية في الخبر الذي رواه عن عكرمة وأخرجه أبو داود، وإلى قوله أن السّتور أغنت عن الاستئذان لا يفهم منه على فرض صحته ان هذه الآية منسوخة، وكذلك ما حكي عن سعيد بن المسيب بأنها منسوخة لا وجه له، وما هو وجه النّسخ يا ترى وبأي آية نسخت ولماذا نسخت؟ لا أدري روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت سألت الشّعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال لا والله، قلت إن النّاس لا يعملون بها قال الله المستعان. وقال سعيد بن جبير في هذه الآية ان أناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنها ممّا تهاون به النّاس. ومن تهاونهم الآن عدم مبالاتهم بدخول الحمال والسّائل والعامل والقروي فضلا عن الخادم ولا حول ولا قوة إلّا بالله. قال تعالى مؤيدا ما تقدم في الآية السّابقة «وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» في جميع الأوقات لأنهم خرجوا من سن الطّفولة والتمييز وصار حكمهم حكم الكبار «كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الأحرار الكبار، لأنهم صاروا مثلهم «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» ليهذّبكم وينقيكم من كلّ ما ينتقد به «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بخلقه وبما يصلحهم ويحسن أمورهم «حَكِيمٌ» (59) فيما شرعه لهم وبعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلق بالآداب ذكر أحكاما تتعلق بالأحكام المارة، فقال جل قوله «وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ» اللاتي قعدن عن الحيض والحبل بكرهن وعجزهن وقطع أملهن من الزواج، وهن «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» بعد ما وصلن إليه من الحال «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ»

[سورة النور (24) : الآيات 61 إلى 64]

الظاهرة كالملاءة والجلباب الذي فوق الخمار أمام الرّجال، إذ لا مطمع فيهنّ على شرط أن يكنّ «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» ما حيث يجب عليهن ستر النّحر والسّاق والمقعد وما فيها من الحلي، راجع قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) في الآية 35 المارة «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ» عن وضع تلك الثياب فيغطين أنواع الزينة ومواضعها كافة بأن يسترنها كلها فهو «خَيْرٌ لَهُنَّ» لئلا يرمين بسوء أو يغتبن بسبب ذلك لأن الشّيخ والعجوز إذا تزينا بما هو من شأن الشّاب والشّابة تلوكهما ألسنة النّاس كما قيل: عجوز ترجّى أن تكون صبية ... وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر تدس إلى العطار ميرة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدّهر وما غرني فيها إلّا خضاب كفوفها ... وكحل بعينيها وأثوابها العطر نبيت بها قبل المحاق بليلة ... فكان محافا كله ذلك الشّهر «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يجري بينهن وبين الرّجال من القول «عَلِيمٌ» 60 بما يقصدونه ويتوونه، وفي هذا نوع ترهيب، لأن من القواعد من فيها بقية جمال ولا تخلو من شهوة الرّجال، كما أنه يوجد من الرّجال، لذلك فالأجدر بها أن تستتر كالعادة، وأن لا تخالط الرّجال ولا تجالسهم، ويوجد فى هذه الأحوال بقية عند البدو وأعراب الأرياف وبعض الأمكنة في المدن، إذ أن مثل هؤلاء القواعد يجلسن مع الرّجال ويتعاطين القهوة ويتسامرن معهم ويتولين الضّيافة بأنفسهن، وإن أزواجهن وأوليائهن لا يرون بأسا بذلك، وهذه من بقايا عوائد الجاهلية الأولى. هذا ولما كان من النّاس من يتحرج الأكل عند بعضهم بعد نزول آية (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (189) من البقرة المارة إذ توسعوا في معناها إلى هذا الحد، وكان المجاهدون إذا خرجوا للغزو يضعون مفاتيح بيوتهم عند العجزى والعرج والعمى والمرضى وعند أقاربهم ويأمرونهم بالأكل من بيوتهم وهم يمتنعون أيضا، وقيل كان العميان والعرج والمرضى يتزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأنهم يرونهم يتقذّرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وقد يقول الأعمى ربما أكل الأعرج أكثر مني، والمريض ربما جلس مكان اثنين، والأعرج والأقطع كذلك من أنهم يضيّقون بالجلوس على

غيرهم، وكان أمثال هؤلاء يأتون إلى الرّجل فلا يجد ما يكفيهم فيأخذهم لبيت أخيه أو بيت من سمى الله في الآية الآتية فيتأثمون من ذلك، فأنزل الله جل شأنه ثانيا «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أيها الأصحاء حرج «أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» بيوت أزواجكم وأولادكم، لأن بيوت الأزواج والأولاد بيوت الزوج والأب، إذ الزوجان نفس واحدة، فبيت الزوج بيت المرأة وبالعكس وبيت الولد بيت الوالد وبالعكس، لقوله صلّى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك. فيكون بيت الولد بيت الوالد، ولهذا لم يذكرهما الله «أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» من وكلائكم والقيمين على مصارفكم وأموالكم وماشيتكم وضياعكم وعبيدكم وخدمكم وإماءكم، لأن العبد وما ملكت يداه لسيده «أَوْ صَدِيقِكُمْ» الذي يصدقكم وتصدقونه في المودة، لأن الأكل عند الصّديق والهدية له ومنه تزيد في المحبة، وتقوي عرى المودة، وتعظم الثقة، وقد كان السّلف الصالح يدخلون دور أصدقائهم فيأخذون منها ما يشاءون، وإذا جاءهم ضيف ولم يجدوا ما يقدمونه، دخلوا دور أصدقائهم وأخذوا منها ما يقرون به ضيفهم دون استئذان بالأخذ لا بالدخول لأن ذلك واجب عليهم، وهم أولى بأن يتحاشوا عنه ويتقيدوا بشروطه المارة في الآية 39، وإذا كانوا غائبين وأخبرهم عبيدهم وأهلهم بما فعل صديقهم من هذا يسرّون به، وقد يعتقون عبيدهم لعدم معارضتهم فيما أخذه أصدقاؤهم من بيوتهم. أما الآن فقد غلب الشّح على النّاس، فلا يفعل شيء من هذا إلّا بإذن، وقد لا يحصل إلّا باستدانة أو قرض وقد لا يحصل أبدا. وقال ثالثا «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً» مع المرضى والعرج والعميان وغيرهم «أَوْ أَشْتاتاً» متفرقين إذا لم تسمح لكم أنفسكم بمؤاكلتهم، كان بنو ليث لا يأكلون وحدهم حتى يجدوا أضيافا، وربما قعد أحدهم ينتظر أضيافا والأكل أمامه حتى الصّباح ومن الصّباح حتى الرّواح ينتظرون أيضا حضور من يأكل معهم

وربما كانت معهم الإبل الجفل لا يشربون ألبانها حتى يأتي من يشاربهم، فإذا أمسى أحدهم ولم يجد أحدا اضطر فأكل وحده، وكان قوم من الأنصار كذلك، وكان الغنى لا يأكل عند الفقير تعففا [وهذا من سجايا العرب الّذين بعث إليهم محمد صلّى الله عليه وسلم ولا يزال النّاس يقولون إجلالا وإنما هم شم الأنوف وعندهم عوائد كريمة لا توجد عند غيرهم، ليت الأمة الآن منصفة ببعضها، أما ما كان منهم من نهب وسلب وقتل وحرمان النّساء والأولاد الصّغار من الإرث ووأد البنات وغير ذلك فمن عدم وجود المرشد وعدم وجود كتاب يرجعون إليه] فنزلت هذه الفقرة من تلك الآية. ثم ذكر جل ذكره ما يتعلق بالآداب أيضا فقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ليسلم بعضكم على بعض إذا دخلتم تلك البيوت لتأكلوا فيها أو بسلم صاحب البيت على أهله الّذين هم فيه لأنهم أحق بالسلام من غيرهم وإذا لم يكن فيها أحد فليقل السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين «تَحِيَّةً» منصوب بيسلموا لأنها بمعنى السّلام مصدر من غير جنس الفعل على حد قعدت جلوسا وقمت وقوفا «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» بيانا كافيا شافيا واضحا «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (61) فوائدها وتعلمون ما ترمي إليه من المعاني النّافعة الموجبة للألفة وغيرها فتزداد بينكم المحبة وقوة الإيمان بالله ورسوله، فتنمو المودة بينكم، ويأمن بعضكم بعضا على مساله وعرضه ونفسه ويربو اليقين بما أنتم عليه من الدّين القويم. قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتخلقوا بما يتلقونه عنهما وتأدبوا بما يأمرونهما وتمسكوا بأخلاقهما «وَإِذا كانُوا مَعَهُ» أي الرّسول حال المذاكرة «عَلى أَمْرٍ جامِعٍ» يجمع له أهل الحل والعقد للمشاورة في أمور المسلمين والمداولة بمصالحهم وفيما يتعلق بأمر الحرب والغزو والصّلح أو مطلق تدبير فيما يخص دينهم ودنياهم «لَمْ يَذْهَبُوا» عنه ويتركوه وحده أبدا، وإذا طرأت لهم معذرة ماسة لا يذهبون «حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» لأن ذلك مما يهم المسلمين أجمع وما يتعلق بالعامة يرجح على الخاصة، فضلا عن أن المؤمن لا تطيب نفسه بمفارقة صاحبه لا سيما عند الحاجة، فلربما عنده رأي صائب يأخذ به المجتمع كله، فيعود نفعه للمسلمين

كافة. واعلم يا محمد «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ» للذهاب لشأن ألمّ بهم ولم يستبدوا فيتركوك ويذهبوا من تلقاء أنفسهم «أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» أما الّذين ينصرفون لحالهم دون أخذ رأيك ويتركونك في مداولات هكذا تستلزم أخذ رأي الجماعة فلم يكن إيمانهم صحيحا ولا مقبولا «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ» يا سيد الرّسل «لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» ممن يستغنى عن حضوره ورأيه. أما الّذين ترى لزوما لأخذ رأيه فلك ألا تأذن له، لأن ما أنت فيه أهم مما يذهب إليه «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ» إن رأيت لهم عذرا مقبولا في الاستئذان على جرأتهم لطلب الأذن في وقت عليهم ألا يطلبوه إذ ينبغي لهم بل يجب عليهم ألا يتخلوا عنك في مثل هذه الحالات، لأن الأهم يقدم المهم «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لخطأهم ذلك الواقع قبل نزول هذه الآية «رَحِيمٌ 62» بهم ولذلك يرشدهم لطرق التوبة عما سلف منهم، ولا يعجل عقوبتهم. وهذه الآية تنبه على أن الأجدر بهم البقاء مع حضرة الرّسول وعدم الاستئذان ولو كان لهم عذر، لأن فوات وقت الاجتماع به صلّى الله عليه وسلم لا يتلافى وأشغالهم يمكن تلافيها، بل الاستغناء عنها، وإن ترك ملازمة الرّسول وقت اللّزوم مخالف للآداب الواجب اتباعها معه اللازم مراعاتها أمامه. قال تعالى فيما يؤدب به عباده تجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم خامسا «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» لأنه فوقكم في كلّ شيء، فلا يقابل بجميعكم، وهو عند الله ليس كأحدكم، فإذا دعاكم إلى شيء، أو أمركم به فواجب عليكم امتثاله ولا يجوز لكم الإعراض عنه أبدا، ولا يليق بمن أجاب الدّعوة أن ينصرف دون استئذان، فكل ذلك حرام قطعا، فاحذروه أيها النّاس، ولا تتساءلوا في شيء من ذلك، لأنه يؤدي إلى اغبراره منكم، فيدعو عليكم وهو مجاب الدّعوة، تدل هذه الآية الكريمة على وجوب توقيره عليه الصّلاة والسّلام وتعظيمة وإجلاله، لأن الله تعالى وقره وعظمه وأجله، ومن تفخيمه عند ربه الذي أوجبه على خلقه ألّا يسموه باسمه، فلا يقولوا يا محمد يا أحمد بل يا رسول الله، يا حبيب الله، في حالتي القرب والبعد، لأن الله تعالى خاطبه بيا أيها النّبيّ يا أيها الرّسول، لذلك لا يليق بالأمة أن يسموه إلّا بما

يريد الله، ومن احترامه ألّا يرفعوا صوتهم بندائه، وإذا علم المنادي أن حضرة الرسول سمعه ولم يرد عليه فلينظر ولا يكرر النّداء فلعله شغل عنه بفكر أو بمخاطبة غيره أو كان في حالة تستدعي عدم الرّد كنزول الوحي أو حالة الوعظ وشبهها وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة الحجرات الآتية إن شاء الله. وتشير أيضا إلى احترام المعلمين والمدرسين والأساتذة وسائر أهل الفضل، لأنهم يعلمون النّاس الخير وهذه الآيات من 58 إلى هنا والآية 29 إلى 35 المارات في آداب القرآن التي يريد الله تعالى أن يتأدب عباده بها صونا لأخلاقهم من المفاسد المذمومة. ثم ذم الله المنافقين المخالفين لهذه الآداب بقوله «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ» واحدا بعد واحد فيتسللون «مِنْكُمْ لِواذاً» فيلوذ الواحد بالآخر ويستتر به لئلا يحس بانسحابه من المجتمع، وذلك أنهم قاتلهم الله كان يثقل عليهم المقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويملّون من استماع خطبه ومواعظه القيمة ومحاضراته النّافعة، لأن وغر النّفاق أوقر قلوبهم، ودين الحسد أصدا صدورهم، وضيّقها عن سماع الحق وقبوله وعن نصحه وإرشاده، فصارت قلوبهم ضيّقه حرجة مظلمة لا تستطيع الاكتساب من نوره الفائض على القلوب الطّاهرة، وأين للخفاش من مصاحبة النّور راجع الآية 12 من سورة المؤمن في ج 2 وما ترشدك إليه مما يتعلق في هذا البحث. ثم هددهم الله تعالى وأوعدهم بقوله «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» فيعرضون عنه ويصدون غيرهم من «أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ» بلاء ومحنة في الدّنيا لا يتخلّصون منه «أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 63» في الآخرة يلازمهم فيها لا يطيقونه. ثم نبّه عباده عما لا بد لهم من التفكر فيه فقال «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وأنتم أيها النّاس من جملة ما فيها فاحذروا مخالفة خالقهما الذي لا يعجزه شيء. واعلموا أن مخالفته موجبة لإيقاع الفتنة بينكم بالدنيا والعذاب بالآخرة وأنه جل علمه «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» من الإيمان الخالص والمشوب بالنفاق ويعلم منكم الطّيب والخبيث علما حقيقيا وهو من بعض معلوماته. قد المفيدة للتقليل أحيانا كما هنا «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ» يعلمه الله بل يعلم اللحظة التي تفارقون بها هذه الدّنيا وتمتثلون بها أمام عظمته في الموقف العظيم،

تفسير سورة الحج عدد 17 - 103 - 52

وهناك «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» من طاعة وعصيان وكفر وإيمان ونفاق واخلاص «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (64) لا تخفى عليه خافية، يوجد أربع سور مختومة بهذه اللّفظة هذه والنّساء والأنفال والطّلاق. روي أن ابن عباس قرأ سورة النّور في الموسم على المنبر وفسرها على وجه لو سمعت به الرّوم لأسلمت. وأخرج أبو عبد الله بن السّبع في صحيحه عن عائشة رضي الله قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تنزلوا النّساء الغرف. أي لأنهن يعرضن أنفسهن لنظر الأجانب. فيا أيها النّاس تقيدوا بتعاليم الله القائل في كتابه (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) راجع الآية 26/ 27 و 60 من سورة النّساء واختر ما تشاء لتفوز من الله بالرضاء. هذا والله أعلم. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الحج عدد 17- 103- 52 نزلت بمكة بعد سورة النّور. وهي ثمان وسبعون آية والف ومئتان وإحدى وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمس وسبعون حرفا. ومنها الآيات من 52 إلى 55 نزلن بين مكة والمدينة ومثلها في عدد الآي سورة الرّحمن. وتقدمت السّور المبدوءة بما بدئت فيه سورة النّساء ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ» واحذروا مخالفته «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ» التي أمرها بيده «شَيْءٌ عَظِيمٌ» (1) جدا ولا أعظم بمن وصفه الله بالعظمة. ثم ذكر من أهوالها ما أوجب وصفها بالعظمة بقوله جل قوله «يَوْمَ تَرَوْنَها» أي الزلزلة وهي حركة الأرض بشدة هائلة واضطرابها بقوة فظيعة، عند اذن الله تعالى بخراب الأرض وانقراض هذا الكون، وحينذاك «تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ» فتنساه كأنه ما كان لما يلحقها من الدّهشة المزعجة «وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها» من كبير الفزع وجليل الخوف على فرض وقوع هذه الزلزلة في الدّنيا فإن المرضعة

المعلّق قلبها عند رضيعها تغفل عنه وتتركه بل تنساه ولا يخطر ببالها وإن الحاصل لعظيم ما ترى تسقط ما في بطنها وهي لا تشعر به قبل تمام مدته، وهو لا يسقط بذلك إلّا بأسباب باهظة وعمليات متعبة منهكة. «وَتَرَى النَّاسَ» أيها النّاظر إليهم إذ ذاك إذا تأتي منك النّظر «سُكارى» بلا شراب حياري لهول ما يشاهدون من الخوف القاطع للقلوب «وَما هُمْ بِسُكارى» حقيقة، ولكنهم على هيئة وصورة الثمل الغافل الحائر مما يشاهد ما يحل به وبغيره في ذلك الموقف العظيم، إذ تتفتت فيه الأكباد، وترتعد فيه الفرائض، وتتلجلج فيه القلوب، فتبلغ الحناجر لأن ما هم قادمون عليه ليس بملك ظالم ولا سلطان غاشم يؤمل الخلاص منهما «وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (2) لا مخلص منه، لذلك قد أرهقهم خوف لحوقة بهم وأذهب عقولهم رؤياه، فأفقدهم رشدهم، وأضاع تمييزهم، وأزال معرفتهم حالهم، وأشغل كلا بنفسه. مطلب في أهوال القيامية وكيفية الخلق وترتيبه وما قاله صاحب الجمل: روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك، فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج بعث النّار، قال يا رب وما بعث النّار؟ قال في كلّ الف تسعمائة وتسع وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى النّاس سكارى الآية، فشق ذلك على النّاس حتى تغيرت وجوههم، قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرّجل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسع وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في النّاس كالشعرة السّوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار (الرقمة معروفة وهي كالفلس في ذراع الحمار والبغل أيضا) (وإني لأرجو أن تكونوا رباع أهل الجنّة، فكبرنا، ثم قال ثلاث أهل الجنّة، فكبرنا، ثم قال شطر أهل الجنّة، فكبرنا. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» لشدة جهله «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» (3) متشيطن مضلّ عات في جداله. واعلم أنه لا يوقف على مريد لأن ما بعده صفة له، ولذلك

ينبغي للقارىء وصلها بما بعدها ولا يغتر بعلامة الوقف في المصاحف ويظن الوقف عليها لازم، لأن الوقف يكون على تمام المعنى، لأن كثيرا من الآيات يجب وصلها بما بعدها، أما علامات الوقف التي وضعها القراء على كلمات القرآن مثل م وط ج وغيرها فهي المعتبر مراعاتها، وعلى القارئ أن يتقيد بها فيعرف الواجب واللازم والجائز والممتنع، واتقن هذه الإشارات الموضوعة على الكلمات في المصاحف المصرية التي طبعها فؤاد الأوّل ملك مصر رحمه الله «كُتِبَ عَلَيْهِ» أي ذلك الشيطان «أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ» أي تبعه من النّاس فأطاعه انقيادا لوساوسه «فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ» عن الحق ويرمه في الباطل ويوقعه في دسائسه «وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» (4) إذ ما بعد الحق إلّا الضّلال، ولا مرجع للضال إلّا جهنم المتسعرة بأهلها، كما لا مصير إلى المحق إلّا الجنّة النّاعمة بأهلها «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ» بعد الموت، ولكم شكّ في الحياة الآخرة، وإنكم تستعظمون وجودها، «فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ» راجع الآيتين 64 و 67 من سورة المؤمن في ج 2 تجد تفصيل مراتب الخلق وعددها هناك. واعلم أن العطف بثم في هذه الآية يفيد أن بين كلّ حالة وأخرى من البعد ما لا يخفى أما عطف ثم الأخير فهو لتباعد ما بين الخلقين كما يشير إليه قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) راجع الآية 14 من سورة المؤمنين والآية 54 من سورة الرّوم في ج 2 تقف على ما تريده من هذا البحث. «مُخَلَّقَةٍ» صفة للمضغة أي تامة لا نقصان فيها ولا عيب «وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» أي قد تكون ناقصة معيبة في بعض الحواس والجوارح والتخطيط، راجع الآية 9 من سورة الرّعد المارة. قال صاحب الجمل على الجلالين هذا تقسيم على سبيل التسمح فإن كلّ مضغة تكون أولا غير مخلقة ثم تصير مخلقة ولو جاء النظم هكذا ثم من نطفة غير مخلقة ثم من نطفة مخلقة لكان أوضح. ثم قال وكان مقتضى الترتيب السّابق المبني على التدريج من المبادئ البعيدة على القريبة أي تقديم غير المخلقة على المخلقة. وهذه جرأة عظيمة منه وهفوة كبيرة كما وقع مثل هذا وأعظم من الخطيب الشّربيني في تفسير الآية 65 من سورة يونس في ج 2 عفا الله

عنهما وبصرنا بعيوبنا «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ» أيها النّاس كمال قدرتنا وبالغ حكمتنا ولتعلموا أن من يقدر على هذا الخلق ابتداء يقدر على الاعادة لا محالة «وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» من هذه النّطفة المخلقة فنبقيها فيه ونحفظها ونربتيها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عندنا فنسقط منها ما نشاء حسبما اقتضته حكمتنا قبل تمام خلقه ونبقي منها ما نريد بمقتضى إرادتنا «ثُمَّ» تقضي قدرتنا الأزلية با كماله وبعد تمام الأجل المقدر له من علمنا «نُخْرِجُكُمْ» من بطون أمهاتكم بواسطة وبغير واسطة «طِفْلًا» ولا تزالون برعايتنا حتى تشبّوا «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» من كمال العقل والقوة والتميز وأنتم بأعيننا «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى» قبل ذلك «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» وهو حالة الهرم والخوف، ومنكم من يعمر كثيرا وهو مالك لحواسه كافة، عالم ما علمه، كالأنبياء وبعض العلماء والعارفين، لأنهم لا يتناولهم النقص ، أما غيرهم فقد يرجعون لحالة الطّفولة «لِكَيْلا يَعْلَمَ» شيئا «مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ» كان يعلمه قبل الكبر «شَيْئاً» أبدا لأنه ينساه ولا يخطر بباله حيث يفقد العقل والتمييز، راجع نظير هذه الآية الآية 71 من سورة النحل في ج 2 ونظيرتها الآية 68 من سورة يس في ج 1 تجد ما به الكفاية في هذا الشّأن. وهذا دليل حسي على البعث بعد الموت، وفي الدّلائل الحسية أيضا «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً» ميتة يابسة لا شيء فيها ونظيرتها آية فصلت 40 خاشعة راجعها في ج 2 أي ذليلة وهما من حيث المعنى سواء «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ» بالنبات والأزهار «وَرَبَتْ» انتفخت وارتفعت لتغلغل الري فيها وخروج النّبات منها «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (5) يسر الناظر حسنه واستواؤه وجماله راجع الآية 67 من سورة المؤمن في ج 2 تجد ما يتعلق بهذا البحث بصورة واضحة «ذلِكَ» الذي ذكر من كيفية بدء الخلق وإحياء الأرض والنّبات لتعلموا أيها النّاس «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» لا ريب فيه في ذاته وأفعاله وأوامره لا من غيره «وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (6) لا يعجزه شيء وإن إعادة من خلقه هي أهون عليه من خلقه ابتداعا «وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي

[سورة الحج (22) : الآيات 11 إلى 20]

الْقُبُورِ» (7) أحياء كما كانوا في الدّنيا قص الله في هذه الآية على أهل المدينة حالة النضر بن الحارث الذي كان يكثر الجدل بانكار البعث ويقول إن الملائكة بنات الله وقد أنزل الله في مكة بحقه الآيات الكثيرة ليعلموا حال المنكرين أمثاله كأبي ابن خلف وأضرابه العريقين في الشّرك والمخاصمة، كما أنه جل شأنه قصّ حال أبي جهل واضرابه كعيقة بن معيط الّذين أنزل الله تعالى فيهم الآيات الكثيرة الحاكية بغضهم وعنادهم وكفرهم وعداوتهم لحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم في مكة أيضا في هذه السّورة المدنية على شأنهم، فقال جل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» (8) بل جهلا وضلالا وعتوا وعناد «ثانِيَ عِطْفِهِ» لاوي عنقه وجنبه عن حضرة الرّسول متبختر متكبر آنفا معرضا عن الله «لِيُضِلَّ» بعمله هذا النّاس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وعن الإيمان وكتبه ورسله فمثل هذا الخبيث الصّادر عن ذلك «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» من أنواع الهوان والذل والمهانة والرّذالة، وقد قتل في بدر صبرا تحقيرا له «وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» (9) الذي لا تطيقه القوى البشرية ويقال له «ذلِكَ» الذي لا قيته من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة أصابك «بِما قَدَّمَتْ يَداكَ» من تكذيب محمد والتكبر عن دينه والاستهزاء به واختيارك الشّرك على التوحيد وإنكارك هذا اليوم والحياة فيه. وما وقع عليك من هذا ليس بظلم لك، بل جزاء عملك باختيارك واقترافك القبائح «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (10) بل يجازي المسيء بحسب إساءته ويكافيء المحسن بأحسن من إحسانه. هذا، وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآيات نزلت في النّضر وأبي جهل أراد أن شبهها نزل فيها في مكة، وإن هذه الآيات نزلت في المدينة تبعا لسورتها حكاية عن تلك الآيات المكيات وقد تلاها حضرة الرّسول على أهل المدينة بيانا لحال أولئك الكفرة لا إنها نزلت فيها ثانيا، لأنهم قتلوا قبل نزولها، ولأن شيئا من القرآن لم ينزل مرتين كما ذكرناه غير مرة وأوضحناه في سورة الفاتحة ج 1، ولهذا قال بعضهم إنها مكيات. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ» وطرف من الدّين لا في وسطه وقلبه، لأن الإيمان إذا لم يتغلغل في القلب ولم يذق صاحبه

حلاوته ولم تخالط بشاشته الفؤاد كان دخوله فيه من غير عقيدة راسخة ولا رغبة كاملة ومحبة صادقة، وكان شاكا مترددا دخله على طريق التجربة «فَإِنْ أَصابَهُ» حال تلبسه فيه «خَيْرٌ» من سعة وصحة وولد وجاه «اطْمَأَنَّ بِهِ» بسبب الخير الذي رآه بدخوله فيه «وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ» من فقر أو مرض أو عقر أو حقارة «انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» القهقرى وارتد كافرا تشاؤما منه، ولهذا جعل الله مثله مثل المتحيّر المضطرب، ومن كان هذا شأنه في الدّين «خَسِرَ الدُّنْيا» ففاته عزّها وكرامتها وأهين بالجلاء والأسر والسّبي والقتل أو بالجزية والمذلة «وَالْآخِرَةَ» خسرها أيضا لأنه لم يعدّ لها شيئا من الأعمال الصّالحة والأقوال والنّيات الحسنة «ذلِكَ» خسران الدّارين «هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (11) الذي لا يخفى على أحد لشدة ظهوره فقيه النّدامة الفارغة والحسرة المحرقة والأسف العقيم. وقرئ خسر بالفتح على الحال، وقرئ خاصر بالضم على الفاعلية، ومثل هذه القراءة التي لا زيادة فيها ولا نقص جائزة إذ لا شيء فيها سوى مد الخاء، وأن المد والقصر والإدغام والفك جائز، والمد قد يستعاض عنه بالفتحة القائمة كما في رسم بعض المصاحف، تدبر. وهذا المرتد الخامس. مطلب ظهور غبن الكفرة وأهل الأديان السّتة والسّجود لله تعالى وضرب المثل به: «يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ» إن عصاه «وَما لا يَنْفَعُهُ» إن أطاعه «ذلِكَ» دعاؤه من دون الله «هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (12) ، عن الصواب لأن هذا الخاسر الضّال «يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ» في طاعته وعبادته «أَقْرَبُ» له «مِنْ نَفْعِهِ» الذي كان يتوخاه منه في الدّنيا ويتوقع نفعه في الآخرة من الشفاعة وغيرها، أي أنه يدعو لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا، ويقال له في ذلك اليوم أن المولى الذي تدعوه «لَبِئْسَ الْمَوْلى» أي الناصر الذي ترجو معونته فيها «وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» (13) المصاحب والخليل المرافق هذا وقد ظن بعضهم أن هنا تناقضا، وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) إذ نفى النّفع والضّر عن الأصنام، وقد

أثبتها لها في هذه الآية إذ قال (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) وهذا ظن باطل ناشيء عن عدم قديره في كنه كلام الله المبرأ من كلّ ظن وشك وزعم ووهم وريب وشبهة، فضلا عما يزعمه من التناقض، لأن من أدرك المعنى وعرف المغزى زال عنه ما توهمه من إثبات النّفع والضّر في هذه الآية ونفيهما في الأولى لأن الله تعالى صفة الكافر على عبادته في الدّنيا جمادا، لا يملك ضرا ولا نفعا، وهو يعتقد فيه جهلا وضلالا أنه ينتفع فيه حين يستشفع به، ثم قال يقول هذا الكافر يوم القيامة بدعاء وصراخ حين يرى استقراره بسبب الأصنام وإدخاله النّار بعبادتها ولا يرى أثرا للشفاعة التي ادعاها له في الدّنيا لمن ضره إلخ تدبر. واعلم أن هذه اللام الدّاخلة على من ليست بزائدة كما ذكره بعض المفسرين إذ لا زائد في كتاب الله كما أشرنا إليه غير مرة، وما قيل إن ابن مسعود قرأ بدون اللام لا يستدل به على زيادتها، وأحسن الأقوال فيها أنها موطئة للقسم أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه إلخ. هذا ويتجه انطباق الآيتين على رؤساء الكفرة الّذين كانوا يفزعون إليهم، لأنهم قد يضرون وينفعون، وذلك لأن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضر ولا تنفع، والآية الثانية تقضي كون المذكور فيها ضرا نافعا، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض، فثبت أنهم الرّؤساء بدليل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ إلخ) وهذا الاتجاه كما ترى والأوّل أولى وأسلم، والله أعلم. واعلم أن هذه الآيات الثلاث نزلت في أعراب المشركين الّذين كانوا يأتون المدينة من البادية فيدخلون بالإسلام ويقطنون فيها، فإذا رأوا صحة بأجسادهم ونتاجا في مواشيهم ونسائهم وزيادة في أرزاقهم قالوا دين حسن فيركنوا إليه، وإذا كان على العكس قالوا لم يصبنا من هذا الدّين إلّا الشّر، فيتركون المدينة ويرجعون إلى باديتهم مرتدين، وذلك لأن دخولهم في الإسلام لم يكن لمرضاة الله ولا لابتغاء وجهه ولا لأنه دين الحق، بل لمطامع دنيويّة يزول بزوالها، إذ لو كان إيمانهم عن رغبة صادقة ونية خالصة وحب قلبي طلبا لما عند الله في الآخرة لما ارتدوا مهما أصابهم من البلاء ونابهم من العناء وذاقوا من الفتن، فلم يثنهم عنه شيء حتى القتل ولم يزدهم الامتحان فيه إلّا تمسكا به وشوقا بلقاء الله، أملا

بإنالة وعده للصادقين بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» (14) لأوليائه في الكرامة كما يفعل ما يشاء لأهل معصيته من الهوان، هذا ولما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوما من أسد وغطفان إلى الإسلام وكان بينهم وبين يهود المدينة حلف، وقالوا تخاف ان أسلمنا أن لا تنصر ولا يظهر أمرك على اليهود، فتنقطع المحالفة بيننا وبينهم، فيقطعون عنا الميرة ولا يؤوننا ان نزلنا عليهم، أنزل الله تعالى انزاله «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» أيضا ليس في الدّنيا فقط كما ظن هؤلاء «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ» حبل «إِلَى السَّماءِ» أي يعلق حبلا لجهة العلو كالسقف وغيره، لأن كلّ ما علاك فأظلك هو سماء، فيجعله في عنقه ويخنق نفسه خير له من هذا الظّن الفاسد في ربه. وهنا عدل عن الحقيقة، إذ صرف لفظ السّماء عن حقيقته الظّاهرة إلى المجاز وهو السّقف الذي يطلق عليه لفظ السّماء مجازا لاستحالة تعلق الحبل بالسماء الحقيقة لئلا يتعطل اللّفظ تأمل «ثُمَّ لْيَقْطَعْ» ذلك الحبل أي يخنق نفسه فيه وسمى الإخناق قطعا، لأن المختنق يقطع نفسه يحبس مجاريه وبعد ذلك «فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ» ذلك بنفسه «ما يَغِيظُ» (15) أي الذي يغيظه وهو نصر الله له كلا لا يرد من خنقه شيئا بل يبقى كيده في نحره، وفيه قيل: ان لم تكوني بهذا الحال راضية ... فدونك اليوم هذا الحبل فانشنقي وهذه الآية عامة في معناها لكل من ظن هذا الظّن السّيء بربه، وتفيد أن الله تعالى ناصر نبيه في الدّنيا والآخرة على رغم حسّاده وأعاديه، وناصر أنصاره وأتباعه إلى يوم القيامة إذا صدقوا وداوموا على سنته «وَكَذلِكَ» كما أنزلنا على من قبلك من الرّسل كتبا وصحفا «أَنْزَلْناهُ» أي هذا الكتاب الحاوي على معنى كلّ ما نزل قبل عليهم. عليك يا سيد الرّسل وجعلناه «آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي» به إلى دينه «مَنْ يُرِيدُ» (16) من عباده الّذين سبقت لهم السّعادة في علمه الأزلي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ» لم تذكر هذه الكلمة في القرآن كله إلّا هنا «وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا»

وهؤلاء أصحاب الأديان السّتة الموجودون على وجه الأرض عند نزول القرآن لا غيرهم، أما الفرق الأخرى الموجودون الآن فقد افترقوا بعد وانشقوا بعضهم على بعض وتشعبوا من هذه الأديان السّتة كما أخبر حضرة الرّسول، وقد ذكرهم صاحب المواقف في أواخر الجزء الثالث على وجه التفصيل فمن أراد الاطلاع عليهم ومعرفة أديانهم وأهلها والوقوف على كنههم فليراجعه. فهؤلاء ومن كان على شاكلتهم من المختلفين في أمر الدين المنزل عليك يا أكمل الرّسل لا تعبا بهم الآن «إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ» وبينك وأتباعك ومن اقتفى أثرك ومشى على طريقك «يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (17) تقدم تفسير مثله في الآية 62 من سورة البقرة المارة وسيأتي ما يقاربها في الآية 77 في المائدة عدا كلمة المجوس قال تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» كل بما يناسبه بما أراده الله منه، وبما أن من النّاس من يسجد قولا وفعلا، قال جل قوله «وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» لأن بعضهم يتركه ظاهرا وتكبرا وتمردا وهو في الحقيقة ساجد خاضع منقاد لله تعالى بكليته. سئل الحجاج هل قتلت أحدا بحق؟ قال بلى، قتلت ثلاثة وإني لأرجو أن أدخل الجنّة بسبب قتلهم، وعدّ منهم رجلا أمره بالصلاة فقال ما يمنعني منها إلّا سجودها وركوعها لما يبدو من ذلك من تمثل العورة، أي أنه يأنف من ذلك ولو كان أمام الله، فقتله لذلك وما ذلك على الله بعزيز إذا حسنت نية الحجاج «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» لكفرهم وابائهم عن السّجود مثل هذا الذي ذكره الحجاج لأن من يستكبر أن يسجد لله فهو كافر «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ» بالشقاوة الواقعة منه عن رغبة واختيار «فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» بالسعادة التي أعرض عن أسبابها فسببت له الذل، ومن يذلّه الله لا يكرمه النّاس ولا يصيرونه مكرما عندهم، لأنه مهان عند ربه «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» (18) من إكرام أناس وإهانة آخرين بمقتضى أعمالهم ومنهم يسجد قولا ويأنف فعلا كالمار ذكره، ومنهم من لا يسجد قولا ولا فعلا كالكفرة، أما الطّيور والحيوانات والكواكب والجبال والأشجار والنّبات فتسجد

[سورة الحج (22) : الآيات 21 إلى 30]

بحسبها كما أنها تسبحه بحسبها، راجع الآية 45 من سورة الاسراء في ج 1. ثم أشار تعالى لأهل الأديان السّتة المار ذكرهم بقوله «هذانِ خَصْمانِ» بلفظ التشبه لأنهم في الحقيقة صنفان أهل كتاب ومشركون، وبما أن أهل الكتاب لم يعملوا به ولم يؤمنوا بمحمد فيكون الصّنفان مؤمنين وكافرين، لأن الأصناف الخمسة متساوون بمعنى الكفر، فهم بمثابة واحدة فيكونون صنفا والمؤمنون صنف، وقد جمع الضّمير بقوله «اخْتَصَمُوا» كل منهم «فِي رَبِّهِمْ» في الدّنيا أي اختلفوا في دينه الذي شرعه لهم على لسان أنبيائه المرسلين إليهم راجع الآية 26 من سورة النّور المارة. وقد بين الله كيفية الفصل بينهم فيما تقدم من الآيات وفي قوله تعالى «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» (19) الماء الشّديد الغليان المتناهي في الحرارة. ثم بين مبالغة تأثيره فيهم بقوله «يُصْهَرُ» يذاب «بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ» من الشّحوم والأحشاء والأمعاء «وَالْجُلُودُ» (20) يذيبها أيضا «وَلَهُمْ» عذاب آخر وهو «مَقامِعُ» سياط «مِنْ حَدِيدٍ» (21) يضربون بها «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ» من غمومها الكثيرة وحاولوا الهرب للتخلص من كربها وصعوبة بلائها «أُعِيدُوا فِيها» أعادتهم ملائكة العذاب إليها عنفا وقسرا بالضرب والكبح ويقولون توبيخا لهم وتقريعا حال ضربهم وردهم إليها «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» (22) وهذا حكم الله تعالى يوم القيامة على فريق الكافرين أهل النّار، أما حكمه على المؤمنين أهل الجنّة فهو ما ذكره بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» (23) ويسميه العراقيون إبريسم، وهو المفتول منه عرفا «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ» وهو ما ذكره الله تعالى (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية 25 من سورة فاطر ج 1 وبقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الآية 75 من سورة الزمر ج 2 «وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ» (24) الطريق المحمود الموصل إلى جنته بسلام. هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في

علي كرم الله وجهه وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين بارزوا عتبة وشيبة بنى ربيعة والوليد بن عتبة في بدر فغير وجيه، لأن هذا الاختصام المشار إليه في هذه الآية تفريع عما جاء في الآية السّابقة التي أشرقا إليها وهو اختصام في الدّين لا في الحرب، وهي متأخرة في قصة بدر ولم تأت بسباق قصة حكاية الحال حتى يصبح القول بما ذكر، كما أن ما قيل إن هذا الاختصام بين الجنّة والنّار قول واه أيضا، وإن ما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرّحمن يوم القيامة لا يقصد منه هذه الخصومة، وقد يراد بها- والله أعلم- ما وقع بينه وبين معاوية مع ابنه الحسن وبين الحسين ويزيد إلا أن وقوع هذا بعد وفاته يبعده عن الواقع، تدبر. وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال تحاجت الجنّة والنّار فقالت النّار اوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنّة فمالي لا يدخلني إلّا ضعفاء النّاس وسقطهم- الحديث- لا ينطبق علي هذه الآية وجوب حمل معناها على غير ظاهرها دون موجب أو صارف وهو غير جائز وما رواه قيس بن عبادة من أن أبا ذر أقسم أن هذه الآية نزلت في الّذين برزوا يوم بدر لا يصلح للاستدلال، لأنه خبر واحد وأخبار الآحاد لا تكون حجة لدحض مثل هذا، وإنما المراد في هذه الخصومة والله أعلم ما وقع من الاختلاف في أمر الدّين بين أهله المذكورين في هذه الدّنيا، وأنه يجاء بهم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل فيفصل بينهم على الوجه المذكور فيها، كما ينبيء عنه ظاهر التنزيل. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بما جاء به محمد «وَيَصُدُّونَ» الناس مع كفرهم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فيمنعونهم من الدّخول في الإسلام «وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ» فيمنعونهم من دخوله وهو «الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ» عامة لا يختص به واحد دون آخر، فهو قبلة ونسك وتعبّد إلى جميع الخلق «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ» المقيم القاطن «وَالْبادِ» الذي يأتيه من البادية، فلا يجوز لأحد أن يمنع أحدا من دخوله والطّواف به. وخبر إن هذه محذوف تقديره (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بدلالة خبر «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» أي أي مراد كان في أنواع الكفر والظّلم بدلالة التنوين والتنكير

مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية:

نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (25) في الآخرة فضلا عما يصيبه من الهوان في الدّنيا أخرج الترمذي وأبو داود والنّسائي عن جبير بن مطعم أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلّى أي ساعة شاء من ليل أو نهار. هذا ومن قال إن المراد بالمسجد جميع الحرم يترتب عليه عدم جواز بيع بيوت مكة وإن النّاس فيها سواء، وهذا ينافيه قوله تعالى (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) الآية 41 الآتية إذ أضاف الدّيار إلى مالكيها. وقوله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. إذ نسب الدّيار إليهم نسبة ملك، فلو كانت من الحرم لما نسبت إليهم، وشراء السّيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه دار السّجن بأربعة آلاف درهم يدل على جواز بيعها، فلو كانت من الحرم لما جاز له ذلك ولم يقروه عليه، أما ما قاله عبد الرّحمن بن سابط من أن الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهلها بأحق في منزلة منهم، وما روي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة في المعنى الذي ذكره عبد الرّحمن، لا يدل على أنها من جملة الحرم الذي يشترك فيه النّاس أجمع وإنما يدل على كرم أخلاق أهل مكة وحسن قراهم للضيف، ومساواتهم له بأنفسهم وجعلهم الضّيف كأحد في منازلهم، وهو على حد قوله: يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا ... نحن الضّيوف وأنت رب المنزل مطلب إظهار قواعد البيت، وعمارته، والحج إليه، وفوائد الحج، والدّبائح وما يتعلق فيها المادية والمعنوية: قال تعالى «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» أي واذكر يا سيد لرسل لقومك زمن إظهار البيت لجدك ابراهيم وجعلنا إياه له متوأ ومسكنا يسكن يه ومأوى يرجع إليه، وذلك حين أمره الله ببنائه بعد الطّوفان، وكان لم يدر مكانه الذي كان فيه قبل الطّوفان لا ندثاره، قالوا بعث الله ريحا خجوجا هي لشديدة الحر أو المتلوية في هبوبها. ومعنى الحج الدفع والشّق والالتواء والجماع، وله معان أخر غير هذه، فكنست ما حوله حتى ظهر وبرز أساسه، فعمره على النّحو الذي ذكر في سورة البقرة في الآية 136 المارة، وقلنا له «أَنْ لا تُشْرِكْ

بِي شَيْئاً» من الأشياء سماويا أو أرضيا «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» من أقذار الأوثان وأوساخ الكفر ليكون نظيفا طاهرا من الأرجاس والأنجاس كما كان من قبل حين بنته الملائكة وآدم من بعدهم، وأبحه «لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ» فيه «وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (26) لجلالي وعظمتي «وَأَذِّنْ» أعلم وناد «فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» قالوا فقال يا رب وما يبلغ صوتي في وسيع ملكك، فقال تعالى عليك الأذان وعلينا الإسماع والإبلاغ، فقام عليه السّلام على المقام المعروف اليوم وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، وقال بأعلى صوته أيها النّاس ألا إن ربكم قد بنى بيتا وكتب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم، فأجابه كلّ من يحج إلى يوم القيامة من الموجودين على ظهر الأرض إذ ذاك، ومن أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ممن كتب الله له الحج، قائلا لبيك اللهم لبيك. ولا يقال في هذا لأن المستمع هو الذي خاطب خلقه في عالم الذرّ بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كما تقدم في الآيتين 172 و 173 من سورة الأعراف المارة في ج 1. وإياك أن تستعبد هذا الإسماع أيها الإنسان أو تشك فيه فإذا كان الرّاد المحدث الآن يسمع أهل المشرق والمغرب بآن واحد بثانية واحد، وإن اهتف يخاطب به كذلك وهو من صنع خلقه، فكيف بخالق هذا الخلق أيعجزه ذلك، كلا ثم كلا، وهو القادر على كلّ شيء. وإذا ناديتهم يا خليلي ستراهم «يَأْتُوكَ رِجالًا» مشاة «وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ» ركبانا والضّامر البعير المهزول من نصب السّير وتعب الثقل وقلة الأكل والشّرب. ومما يدل على بعد الشّقة قوله «يَأْتِينَ» تلك الإبل الضّوار بركابها «مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (27) طريق بعيد والفج الطّريق في الجل وغلب على غيره وعمقه بنسبة علو الجبل المنشق منه عن يمينه وشماله، وهؤلاء المدعون يأتون لهذا البيت «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» دينية ودنيوية مختصة في هذا البيت لا يشهدونها في غيره ولا توجد إلّا به، راجع الآيتين 158 و 96 من سورة البقرة والآية 97 من آل عمران المارات «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» على ما سينحرونه من الهدى «فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» ويكبرون عليها إذا أريد ذبحها يوم النّحر وأيّام التشريق بدليل قوله تعالى «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ

الْأَنْعامِ» أضحية وهديا، وإذا فعلتم هذا أيها النّاس امتثالا لأمري «فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» (28) الذي لا شيء عنده. كانت العرب في الجاهلية لا تأكل لحوم ضحاياها وهداياهم، فأمر الله تعالى بمخالفتهم وأباح لعباده الأكل منها، أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال وقدم علي كرم الله وجهه ببدن من اليمن وساق رسول الله مئه بدنة فنحر منها ثلاثا وستين بيده الشريفة صلّى الله عليه وسلم، ونحر عليّ ما نحر أي ما بقي، وأشركه في بدنه، وفي عدد ما نحره صلّى الله عليه وسلم إشارة إلى مدة حياته إذ توفي في الثالثة والسّتين من عمره، وفي هذا يعلم أن حضرة الرّسول قد أعطى من القوة ما لم يعطها غيره قط، لأن أحدا لا يقدر على نحر عشر من الإبل دفعة واحدة، فهو أكمل الخلق مادة ومعنى وخلقا وخلقا وقلبا وقالبا وروحا وجسما. ثم أمر من كلّ بدنة ببضعة أي قطعة فجعلت في قدر وطبخت، فأكل منها وشرب من مرقها، مما يدل على جواز الأكل من لحوم الأضحية دون قيد أو شرط. وقد اختلفت الأئمة في ذلك فمنهم من جوز الأكل من الهدايا الواجبة كدم التمتع والقرآن وما جبر بإفساد شيء من واجبات الحج وجزاء العيد، واتفقوا على جواز الأكل من جميع هدايا التطوع والأضحية إذا لم تكن منذورة ، وإذا أريد بالأيام عشر ذي الحجة يراد بالذكر مطلقه وما يتلى غالبا في أيّام الحج. قال تعالى «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» أي لينتهوا من إزالة أدرانهم وأوساخهم ويقصوا شعورهم وأظفارهم ويستحدوا (يحلقوا عانتهم) وينتفوا آباطهم ويغيروا ما أحرموا به بالثياب النّقية، لأن الحاج مادام محرما أشعث أغبر «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم. وهذه الآية عامة في الحاج وغيره وإن ورودها في معرض الحج لا يقيدها بالحاج، وهذا الأمر للوجوب وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية 7 من سورة الإنسان والآية 170 من البقرة المارتين «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (29) يكثروا الطّواف فيه بدليل تضعيف الفعل وسمي عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس كما مر في الآية 97 من آل عمران المارة والمراد بهذا الطّواف طواف الإفاضة وأول وقته يوم النّحر بعد الرّمي والحلق، ويسمى طواف الزيارة وهو أحد فرائض الحج الثلاثة وأولها الإحرام وثانيها

[سورة الحج (22) : الآيات 31 إلى 40]

الوقوف بعرفة، أما طواف القدوم وهو أول وصوله إلى مكة فهو سنة، وطواف الوداع وهو عند قرب خروجه منها واجب «ذلِكَ» شهود المنافع وذكر الإله والأكل من لحوم الهدي وإطعام الفقراء منهما وقضاء التفث وإيفاء النّذور والطّواف بالبيت كلها من تعظيم حرمات الله «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ» بالاجتناب لكل ما لا يحل هتكه وإثبات جميع ما كلف الله به الحاج من مناسك وغيرها «فَهُوَ» أي ذلك التعظيم «خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» عظيم نفعه لا يقدر قدر خيره إلّا هو. ومما يدل على عظمة تفكيره «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ» الإبل والبقر والغنم وغيرها- أكلا وذبحا واقتناء- فمن الأنعام ما يركب ويؤكل وهي الإبل، ومنها يؤكل ولا يركب كالأغنام وشبهها. واعلم أن الخيل والبغال لا تدخل في معنى الأنعام ولا يشملها لفظها. ثم لستثنى جل جلاله من عموم ذلك فقال «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» تحريمه مما يأتي ذكره وتفصيله في الآية 4 فما بعدها من سورة المائدة بصورة أوضح مما تقدم في الآية 149 فما بعدها من الأنعام إن شاء الله، فهذا المستثنى حرام نجس «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» كما تجتنبون ما حرّم عليكم أكلهم لاشتراكها في الرّجسية، بل عبادة الأوثان أعظم وزرا وتلويثا للانسان من تلويث النّجاسة، لأن فيها الإشراك بالله وهو كفر محض وليس في أكل المحرم إلّا الحرمة التي يفسق فاعلها إذا لم يستحله، وأعظم أنواع الكفر الشّرك. جاء في الإصحاح 15 من إنجيل متى ليس ما يدخل في الفم ينجّس الإنسان بل ما يخرج من الفم. وقال في الإصحاح 13 من فضلة القلب يتكلم الفم «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (30) الافتراء والكذب والبهتان وشهادة الزور ومأخوذة من الزور وهو الانحراف وكفى به إثما إنها عدلت الإشراك بالله راجع الآية 72 من سورة الفرقان ج 1 فاتركوا هذا أيها المؤمنون وكونوا مخلصين «حُنَفاءَ لِلَّهِ» عادلين عن غيره مائلين له «غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» أحدا ولا شيئا «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره من صنم أو وثن «فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ» فسقط على الأرض «فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ» بسرعة وتذهب به «أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ» فتميل به وتطرحه في «مَكانٍ سَحِيقٍ» (31) بعيد فيصير

مسحوقا مكسرا ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن، والمعنى أن المشرك بالله يهلك نفسه إهلاكا ما بعده إهلاك ويدمّر نفسه تدميرا فظيعا شنيعا «ذلِكَ» الذي يجتنب الرّجس ويخلص لله فقد عظم شعائر الله «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها» خصلة التعظيم ما تكون في الإنسان إلا «مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (32) التي هي مراكز التقوى وملاك القوى. والشّعائر جمع شعيرة وهي العلامة من الأشعار الذي هو الأعلام وكلّ ما هو من معالم الحج يسمى شعيرة، ومنها الهدايا والضّحايا وتعظيمها استحسانها واستسمانها «لَكُمْ فِيها» أي الهدايا المشعرة وذلك أنهم كانوا يطعنونها في سنامها من أيمنه أو أيسره حتى يسيل منها الدّم فيعلم من يراها أنها هدي فلا يتعرض لها «مَنافِعُ» في نسلها ودرعا وصوفها ووبرها وركوبها وبيع أولادها ما زالت عندكم تنتفعون بها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو وقت نحرها إذا سماها هديا أو أوجبها ضحية وبعد التسمية لا حق له بشيء منها ولا بمنافعها، إلا أنه يجوز ركوبها فقط لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها، فقال يا رسول الله إنها بدنة، فقال اركبها ويلك- أخرجاه في الصّحيحين- فيظهر من هذا أن جعلها هديا لا يمنع من ركوبها «ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (33) وأن منفعتها العظمى بعد تلك المنافع تكون عند منحرها بالحرم المنتهية إليه إذ تذبح هناك وينال صاحبها منفعتها الكبرى الدائمة عند الله تعالى في يوم يكون صاحبها أحوج منه إلى غيره. أما منفعتها الدنيوية ففانية، والمراد بالبيت هنا ما يشمل الحرم كله على حد قوله تعالى (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) الآية 98 من سورة المائدة الآتية وهي كلها منحر. قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم «جَعَلْنا مَنْسَكاً» بفتح السّين لإراقة الدّم وذبح القرابين خصصنا موضعا «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» عليها عند ذبحها شكرا لجلاله «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» التي يتقرب بها إليه دون غيرها ولذلك أضاف لها الأنعام لأن البهيمة مبهمة في كلّ ذات أربع في البر والبحر مما يؤكل ومالا «فَإِلهُكُمْ» أيها الحاضرون وإله الّذين من قبلكم ومن بعدكم إلى يوم القيامة وبعدها «إِلهٌ واحِدٌ» عالم قدير خالق رازق محيي مميت منعم معذب

«فَلَهُ أَسْلِمُوا» وانقادوا أيها النّاس لعظمته وأخلصوا لكبريائه والهجوا بذكره وحده على الذبح وغيره، ولا تذكروا شيئا سواه أبدا «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» (34) له الخاشعين لهيبته الخاضعين لعبادته «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ» أمامهم وبمسمعهم «وَجِلَتْ» خافت أشد الخوف «قُلُوبُهُمْ» ورجفت لعظمته فيها وهيبته عليها فبشر هؤلاء يا سيد الرسل «وَالصَّابِرِينَ» بشرهم «عَلى ما أَصابَهُمْ» من البلاء والمحن الواقعة عليهم من الله ومن خلقه، لانهم يعلمون أنها بقضائه وقدره «وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ» بأوقاتها الموفين بأركانها وواجباتها وسنتها بشرهم أيضا «وَ» بشر الّذين «مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (35) على المستحقين وخاصة الّذين يؤثرون الفقراء على أنفسهم بشرهم برضوان الله ورحمته. قال تعالى «وَالْبُدْنَ» جمع بدنة تطلق على الإبل والبقر فقط لبدانتهما «جَعَلْناها لَكُمْ» أيها النّاس ملكا، وجعلنا ذبحها في الحرم للحاج وغيرهم أضحية تذبحونها فيه ليتناولها أهله المحتاجون «مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» واعلام دينه «لَكُمْ فِيها خَيْرٌ» في الدّنيا بالذكر الحسن وفي الآخرة بالثواب العظيم إذا هديتموها وذبحتموها وتصدقتم بها على أهل الله وعياله، وإذا أردتم ذبحها «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ» بالفتح دون تنوين، وقرئت منوّنة على لغة من يصرف مالا ينصرف، قال الرّاجز والصّرف والجمع أتى كثيرا ... حتى ادعى قوم به التخييرا وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن أيضا. أي اذبحوها قائمة على ثلاث ويدها اليسرى معقولة. روى البخاري ومسلم عن زياد بن جبير قال رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة لينحرها، قال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلّى الله عليه وسلم، وهذه السّنة قل من يفعلها الآن لأنهم لا يذبحون البدن إلّا مناخة معقولة من الأربع «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها» بأن سقطت على الأرض بعد الذبح بدليل قوله جل وعلا «فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ» المتعفف «وَالْمُعْتَرَّ» الملحف بالسؤال «كَذلِكَ» مثل ما سخّرناها لكم بأن تذبح وهي قائمة «سَخَّرْناها لَكُمْ» للركوب والحمل وذللناها لكم حتى صارت تنقاد للطفل لكمل استفادتكم منها، ولولا هذا التسخير لما استفدتم منها شيئا من ركوب وحمل وحليب رجزّ وبر وغيرها لأنها أقوى منكم،

وقد فعلنا هذا لكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (36) نعمة ربكم على ذلك وغيره. واعلموا أيها النّاس أن هداياكم وضحاياكم ونذوركم هذه وجميع صدقاتكم «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها» بما تفعلونه، وذلك أنهم كانوا إذا نحروا الهدايا والضّحايا لطخوا الكعبة بدمائها ويزعمون أنه قربة وليس بقربة، ولم تزل هذه العادة الجاهلية جارية عند الجهلاء في المدن والقرى حتى اليوم، وذلك أنهم عند ما يذبحون نذرا أو خيرا أو عند إرادتهم البناء تبركا أو عند إكماله شكرا بزعمهم يلطخون باب الدّار والجدران بدم ما يذبحونه تقليدا على فعل الجاهلية بالكعبة المعظمة، فرد الله عليهم بأن هذا العمل ليس من القربة المراد بها وجه الله والتي يثاب العبد على فعلها، لأن اللّحوم والدّماء لن ترفع إلى الله تعالى بل يرفع ثوابها إذا كانت على وجه شرعي «وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» أي يرفع إليه العمل الصّالح والإخلاص فيه المعبر عنه بالتقوى التي يجب ان تنحلوا بها فهي التي يراد بها وجه الله ويثاب عليها. قال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الآية 40 من سورة فاطر ج 1 «كَذلِكَ» مثل هذا التسخير البديع «سَخَّرَها» أي البدن «لَكُمْ» أيها النّاس للاستعمال والذبح «لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ» عند ذبحها على ما هداكم لمعالم دينه وأرشدكم إليها «وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (37) بالثواب العظيم عند الله تعالى إذا فعلوا ما أمروا به واجتنبوا ما نهوا عنه في هذه المناسك التي سماها الله تعالى منافع. هذا وليعلم أن الحج من العوامل القوية على تآلف المسلمين واتحادهم على توثيق عرى المحبّة والعون على إجراء الحق بينهم وتوحيد كلمتهم. قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية العاشرة من سورة الحجرات الآتية ويدعو إلى تعاضدهم وتآزرهم بما يتعلق بجميع شؤنهم وإصلاح كيانهم وإعلاء شأنهم حتى تكون العزّة لهم. قال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 138 من سورة النّساء المارة وهو العامل الأقوى على لمّ شعثهم وتقويم اعوجاجهم حتى يكونوا الأمة الكريمة التي عناها الله بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 130 من آل عمران المارة. وإنما فرضه الله تعالى على المستطيع من عباده ليرى حكمته البالغة، ويقدر فوائده العظمى التي تعود على المسلمين بالخير الوافر والنّعم

الجزيلة، إذا قدره حق قدره، وعرف المغزى من فرضه، واستغل ما وضع له وحاول جني ثماره، لأن هذا الرّكن العظيم من أركان الإسلام يرمي إلى الاتحاد والتوثيق حتى يشعر بأن النّاس كلهم روح واحدة على ما هم عليه من بعد الشّقة، ونفس واحدة على ما هم عليه من الاختلاف باللغة واللّون والسّعادة والسّكن. قال تعالى (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية 28 من سورة لقمان في ج 2 وإن الفطن ليلمس هذا القصد فى دعوة النّاس إلى الاجتماع في صعيد واحد متجهين لقبلة واحدة بزيّ واحد وغرض واحد، فإذا فقه المسلمون وتيقظوا لهذا وانتهزوا الفرصة بزيارة هذا البيت، وعرفوا ضالتهم المنشودة ومطلبهم السّامي منه، فتعاونوا بعضهم مع بعض وتعرّف بعضهم إلى حوائج البعض، وعرفوا كيفية الوصول إلى سبيل التعاون إذا ألم بهم حادث أو طرات عليهم مصيبة كيف ينقذون أنفسهم منها، فيذرقون حلاوة هذا الاجتماع ولا يكونون كمن ذمهم الله في قوله (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» الآية 19 من سورة الحشر الآتية أجارنا الله من ذلك. ثم أنهم إذا رأوا الأسود والأبيض والأحمر والأسمر متساوين في الخشوع لرب ذلك البيت، لا فضل لعجمي على عربي، ولا لغني على؟؟ لا لشريف على حقير، وشاهدوا الملك والمملوك والجهلة والعلماء، والرّعية والأمراء سواسية، وقفوا هناك على كلمة قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية 13 من سورة الحجرات الآتية لأنهم كلهم متساوون في تركهم بلادهم، وفراق أهلهم وأولادهم، وإجابة دعوة ربهم إلى بيته المطهر، قال تعالى (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) الآية 136 من البقرة المارة ونظيرتها الآية 27 المارة إذ لم يفرق الله تعالى بدعوته بين واحد دون آخر، ولم يكلف الفقير رحمة بحاله ليس إلا، فإذا تجشم ذلك فله ما للغني من الثواب، وقد يزيده ربه إذا حسنت نيته، وإذا كان كذلك علم كلّ منهم أن هذا المؤتمر الإسلامي الجامع إنما عقد للخضوع إلى الله تعالى وللتّعاون في مصالح الدّين والدّنيا، وتيقن إن هذا الدّين لا يدعو إلّا الى خير واحسان. قال تعالى (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الآية 30 من سورة الروم في ج 2. فمن أجاب دعوة الله كان هو المتمسك بعروته

الوثقى ومن حزب الله (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الآية 22 من سورة المجادلة الآتية، ولا شك أنهم هم الفائزون بقوله تعالى (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) الآية 159 من المائدة الآتية. أما المتقاعسون عنه مع القدرة، فهم الّذين (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) الآية 19 من المجادلة الآتية. هذا من جملة منافع الحج المعنوية أما منافعه المادية المحسوسة فمنها مشاهدة تلك البقاع المباركة التي ظهر فيها حضرة الرسول الكريم ومواقف الأنبياء قبله، ذلك المرسل الى النّاس كافة (شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) الآيتين 44 و 45 من سورة الأحزاب المارة بدليل قوله جل قوله (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) الآية 158 من الأعراف ج 1، وفيها ما يرشدك الى ما يتعلق فيها التي لبث فيها ثلاثة عشر عاما يدعو النّاس الى توحيد الله وتنزيهه عن الشّرك، وكان يعاملهم بالرفق واللّين والرّحمة مع ما هم عليه من الجفاء والغلظة والشّدة تبعا لقوله تعالى (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية 125 من سورة النّحل ج 2، ويشاهد مواقع مكة المكرمة فيعتبر بما وقع فيها لسيدنا ابراهيم وابنه إسماعيل عليهما السّلام والأنبياء من قبلهما وبعدهما وما تركوه من آثار للاتعاظ والاعتبار، فيعمل ويخشع. قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية 16 من سورة الحديد المارة، فرؤية هذه المواقع المقدسة تعين القلب وتذكر الرّوح بما كان فيها من إعطاء العهد لربها في الآيتين 171 و 172 من الأعراف في ج 1 فتجهد نفسها للوفاء به وتستمد من غيرها المعاونة على العمل الصّالح للدنيا والآخرة وتعتبر بمصير من نكث عهده مع الله ونقض ميثاقه كيف حل بهم عذابه في الدّنيا وما أوعدهم به من العذاب الأخروي ومن منافع الحج المغفرة الواسعة الشّاملة لأشياء لا يمحوها إلا الحج، قال صلّى الله عليه وسلم الحج مبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة وجاء أن من الذنوب ما يكفرها إلّا الحج، وقال عليه الصّلاة والسّلام من حجّ ولم يرفث ولم يفسق

رجع كيوم ولدته أمه. وقد ضمن له الرّسول عن ربه عز وجل أن يرجعه سالما أو يدخله الجنّة. قال تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) الآية 100 من سورة النّساء المارة وذلك لأنه لم يخرج إلّا لله، والأعمال بالنيات. ومن منافعه أنه وسيلة للتوبة لأن من لم يتب في مثل ذلك المكان ولم يخلص فيه الملك الدّيان يخسر الدّنيا والآخرة. ووسيلة إلى الانتهاء عن المعاصي جميعها، قال تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الآية 297 من البقرة المارة، لأنه إذا كان ينهى عن ملامسة الزوجات الحلال فلأن ينهى عن غيرهن من باب أولى، وذلك أو الحاج زمن الإحرام منهي حتى عن ملاذ اللّباس وزخارف الحياة، وما ذاك لتجنب الفتنة بجميع أنواعها، وهناك لا يشغل الغني جاهه ووجاهته، ولا تفتن الفقير حاجته وفاقته، فلا هو يحسد الأغنياء، ولا هم يمتهنون الفقراء، والكل أمام ان سواء حاسبين حساب المال، تائبين بطبيعة الحال، لا يعتبرون أنفسهم إلّا عبيد آبقين، قد آبوا إلى مولاهم مخلصين، راجين القبول والعفو عما مضى وإنه تعالى لا يخيب عبيده، ومن كمال رأفته بهم لا يسعه ردهم، وقد يتجلى عليهم بصفت الرحمانية وفضله الوافر، وهو المنان عليهم، فيبدل شرهم خيرا، وعسرهم يسرا قال تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) الآية 70 من سورة الفرقان ج 1. اللهم مهد لعبيدك أسباب الوصول إلى رحمتك وافتح لهم أبواب القبول، ويسر لهم القيام بخدمتك (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) الآية 38 من سورة إبراهيم عليه السّلام. مطلب المدافعة عن المؤمنين من قبل الله وأول آية نزلت في الجهاد: قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» فلا يمكّن أعداءهم منهم إذا كانوا مؤمنين حقا، لأنه جل شأنه وعد بذلك فقالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية 48 من سورة الرّوم وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 من سورة المؤمن وقال تعالى (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية 172 من سورة الصّافات ج 2 راجع هذه الآيات تعلم كما أنت

عالم من قبل أن وعده منجز إن الله لا يخلف الميعاد الآية 9 من آل عمران المارة وقال عز قوله (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) وقال جل قوله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) الآيات الآية 112 من سورة التوبة الآتية والآيتين 112 و 152 من سورة النّساء المارة، كلا لا أحد أوفى وأصدق البتة، وحاشاه من الخلف، وإنما يقع منا نحن المسلمين المؤمنين اسما لا فعلا، فلو كنا مؤمنين حقيقة إيمانا صحيحا كما أراده الله منا لكانت كلمتنا هي العليا دائما ولكنا أعزاء بعزة الله تعالى ورسوله المنوه بهما بالآيتين آنفا، ولكنا تركنا فتركنا ونسينا فأهملنا، قال تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) الآية 68 من سورة التوبة الآتية وقال تعالى محذرا ومنذرا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الآية 19 من سورة الحشر المارة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) راجع هذه الآية 54 من سورة الأنفال المارة ونظيرتها الآية 11 من سورة الرّعد المارة أيضا وإنا والله قد غيرنا وبدلنا وخنا أنفسنا وإخواننا لأنا لم نساعدهم عند ما يتجاوز عليهم إذا كنا بأمن مما يصيبهم، وهذه هي الخيانة العظمى، لذلك تبع الله هذه الجملة بقوله «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» (38) لحقوقه ومن حقوقه نصرة المؤمنين ومعونتهم بعضهم لبعض، لأن المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ولا يتخلى عنه إذا وقع في شدة أو أحاطت به الأعداء، بل يجب عليه نصرته مالا وبدنا، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا لم يساعد بعضهم بعضا تفرقوا وانهاروا كما يتهار البناء غير المتقن أساسه، هذه فلسطين ينتابها العدو فيخذل أهلها، ويسلب مالهم وملكهم، ويقتل رجالهم، ونحن نسمع ونرى ونقعد عنهم ونعد أنفسنا مؤمنين، بل نحن القاعدون كالّذين أشار الله إليهم في الآية 82 من سورة التوبة الآتية المتخلفون عن مساعدة إخواننا ولا نتأذى لأذيتهم، والمؤمنون الصّادقون كالجسم الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالسهر والحمى، فإذا تناصر المؤمنون فتعاونوا وتشاركوا بالضر والنّفع وأخلصوا لربهم دافع عنهم ونصرهم ورفع كلمتهم وأعلى شأنهم، كيف والله يقول (كَتَبَ

اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية من آخر سورة المجادلة، وإنه تعالى يوفي لهم وعده المشار إليه في الآيات المارة، ومتى ما تخاذلوا وتقاطعوا ولم يبال بعضهم ببعض أهينو كلهم، واسترقوا وهلكوا أو ندموا من حيث لا ينفعهم النّدم، راجع الآية 102 من آل عمران فما بعدها، قال تعالى «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» من قبل أعدائهم بأن يقاتلوهم بالمقابلة، وإنما أذن الله لهذا الصّنف بقتال أعدائهم «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» من قبلهم وتوالت عليهم تعدياتهم القولية والفعلية وكانوا يشكون أمرهم لحضرة الرّسول فيأمرهم بالصبر إذ لم يؤذن لهم بالقتال حتى خرج قوم من هذا الصنف مهاجرين بدينهم من مكة إلى المدينة قاصدين الالتحاق بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم فاعترضهم قوم من مشركي مكة فاعتدوا عليهم فأنزل الله هذه الآية وهي أول آية نزلت بالقتال بعد أن نهى عنه رسوله في نيف وسبعين آية أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) الآية 197 هذه من سورة البقرة المارة، وإنما رجح في الآية بأنها أول آية نزلت في القتال لأن نزولها قبل هذه الآية التي نحن بصددها، ولأنها مقيدة بقتال من قاتل، والآية التي نحن بصددها أكثر إطلاقا منها، فمن هذه الحيثية يقال إنها أول آية نزلت في القتال على الإطلاق، راجع الآية 54 من سورة النّساء المارة، لأن الّذين نزلت هذه الآية بحقهم هم من ذلك القبيل: أما ما جاء في الإكليل للحاكم من أن أول آية نزلت في القتال (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فلا يصح، لأن هذه الآية 113 من سورة التوبة التي لم تنزل بعد لأنها متأخرة في في النّزول عن ذلك كله، وهي نزلت جملة واحدة تأمل «وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (39) تشير هذه الجملة إلى الوعد لهم بالنصر دون معونتكم لهم ولكن الله تعالى يريد أن تتناصروا على العدو ليزداد التآلف بينكم ولتكونوا يدا واحدة على الأعداء لتهابكم وتعظموا بأعينهم فلا يجرأوا على إيقاع شيء فيكم. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» وما كان سبب إخراجهم «إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» لا غير، وهذا يوجب إبقاءهم فيها وإكرامهم وصيانتهم واحترامهم، لا إخراجهم وإهانتهم «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ

[سورة الحج (22) : الآيات 41 إلى 50]

النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» وتسليط أولياءه على أعدائه لاستولى المشركون على الموحدين الأقدمين من أمم الأنبياء الأوّل فضلا عنكم أيها المؤمنون المخاطبون ومن بعدكم، ومنعوهم عن عبادة الله المفهومة من قوله عز قوله «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ» هي معابد الرهبان في الوادي، وتطلق على معابد الصّابئين أيضا «وَبِيَعٌ» هي معابد النّصارى التي يطلقون عليها الآن لفظ كنائس «وَصَلَواتٌ» اسم العبراني معناه كنائس وهي معابد اليهود، ويسمونها الآن بيعا، وهو عربي «وَمَساجِدُ» هي معابد المسلمين وتطلق على الجوامع التي لا تقام بها الجمع وتختص الجوامع بما تقام فيها، وإنما خص الله تعالى هذه المواطن المقدسة لأنها «يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» أي لولا ذلك لهدم في زمن كلّ نبي مكان عبادته، ولكن الله تعالى أبى ذلك إذ سلط الرّسل وأتباعه على المشركين فمنعوهم منه إدامة لذكر الله الذي أوجب بقاءه في أزله إلى خراب هذا العالم «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» من الرّسل وأتباعهم ليعظم لهم الأجر، وإلّا فهو غني عن نصرة أحد منهم «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» 40 منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب ولا يفلت من قبضته هارب. ثم وصف الله تعالى ناصريه بقوله «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» وثبتناهم فيها وجعلنا لهم فيها السلطان على أهلها «أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» (41) ومرجعها إليه، وفي هذه الآية توكيد لما وعد به أولياءه من الظهور على أعدائهم. قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا حبيبي بعد ما تبين لهم من الحق الذي أنت عليه، فما هو بمستبعد منهم «فَقَدْ كَذَّبَتْ» الرسل «قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ، وَكُذِّبَ مُوسى» أيضا مع وضوح ما جاء به من الدّلائل الحسية، وإذا كان كذلك فلا يحزنك تكذيبهم، وإني ممهلهم حتى إذا علم النّاس أن الامهال لم ينجح بهم وأصروا على استكبارهم أهلكتهم شأن الّذين قبلهم «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ» السالفين مثل ما أمليت لهؤلاء «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» على الصّورة المارة كما يؤاخذ هؤلاء إن لم يرجعوا إلي ويفردوني بالعبادة، فآخذهم بأنواع

مطلب في قصة قوم صالح عليه السلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:

العذاب والنّكال وأهلكهم إهلاك استئصال، وإذ ذاك يقول القائل متعجبا من عظيم صنعي بهم ومبتهرا من كبير تعذيبي لهم ومتحيّرا من كيفية أخذه «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» (44) عليهم، إذ أبدلت نعمهم نقما، وراحتهم محنة وحياتهم موتا، وعمارتهم خرابا، وجنايتهم خربا. وفي هذه الآية تخويف عظيم لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم السّابقين واللاحقين بأنهم إذا لم يخلصوا لربهم يكون مصيرهم مصير أولئك قال تعالى «فَكَأَيِّنْ» راجع الآية 60 من سورة العنكبوت وما ترشد إليه في معناها وتركيبها «مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ» أي زمن تلبسها بالظلم حال ظلم أهلها «فَهِيَ خاوِيَةٌ» في هذه الآية حذف كلمتين أخالية من السّكان ساقطة «عَلى عُرُوشِها» أي سقوفها «وَ» كم من «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» متروكة هلاك مستعمليها من أهل البوادي. والقرى عطف على قر «وَ» كم من «قَصْرٍ مَشِيدٍ» (45) أخليناه بتدمير أهله من المدن والحواض والعواصم معطوفة أيضا على قرية. تفيد هذه الآية أن أهل البوادي والمدن؟ أصروا على كفرهم وتكذيب رسلهم أهلكهم الله إهلاك استئصال ودمرته ومساكنهم وما يأوون إليه في البوادي. مطلب في قصة قوم صالح عليه السّلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات: قالوا إن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السّلام لما نجوا من العذاب جاء إلى بئر من أرض اليمن في سفح جبل عليه قصور. ولما حضروا فيها مات صا؟ عليه السّلام فسميت تلك البلدة (حضرموت) وكذلك لما قلبت المؤتفكة ومن أهلها مئة نسمة سميت (سلمية) وكذلك لما حل نوح عليه السّلام ومن معه أرض الجزيرة قرب الجودي وكانوا ثمانين نسمة بنوا قرية هناك فسميت قرية الثمانين ولما هاجر من العرب مئة نسمة إلى أراضي ماردين أنزلوهم بمحل سموه (محلمية وأطلق عليهم هذا الاسم حتى الآن، أما بعلبك فسميت باسم الصّنم (بعل) وصاحبه (بك) ثم انهم بعد موت صالح بنوا بلدة هناك سموها حاضوراء فاقاموا؟ وغنوا وكثروا، ثم بغوا وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان

فقتلوه، فأهلكهم وعطل بئرهم وقصورهم ولم يبق منهم أحدا كما ذكر الله القائل «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» هؤلاء الّذين لا يؤمنون بك يا محمد فينظروا إلى آثار الأمم المهلكة قبلهم بسبب تكذيبهم أنبيائهم «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» كيفية إهلاكهم وسببه «أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» ما كان منهم وما وقع من أفعالهم وما كانوا يعاملون به أنبياءهم من الجفاء والإهانة فيتذكرون ويتعظون ويعتبرون، ولكن لو فعلوا ذلك لم ينفعهم لأنهم لم يوفقوا للخير لسابق شقائهم «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ» عن الرّؤية لتلك الآثار ولو عميت فإن عماها لا يضر في الدّين ولا يمنع التفكر والتذكر «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46) فهي التي عماها يضرّ في ذلك ويمنع من الاعتبار ولهذا فلا تنفعهم الذكرى. تشير هذه الآية الجليلة إلى أن هؤلاء عمي القلوب ويقال عمه القلوب بالهاء لا ينتفعون بشيء من الآيات لأن ما تراكم عليها من صدأ الكفر وظلمته حال دون النّظر إليها والتفكر بها من الأبصار التي في الرّأس لأنها لا تفيد بلا بصيرة قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» يا سيد الرّسل «بِالْعَذابِ» الذي تعدهم به وتهددهم بعظمه فقل لهم إنه لآت لا محالة، لأنه مما وعد الله «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» لأنه مقدر عنده إلى يوم وأيّام الله طويلة ليست كأيامكم «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (47) وأيّام العذاب من هذا القبيل ترى طويلة لشدة ما يقاسيه العذاب، فلا تستعجلوا بطلبه وكيف تريدون أن ينزل بكم وأنتم تعلمون أن أيّام الشّدة في الدّنيا طويلة على ما تعلمون من قصرها وانتهائها، فكيف بأيام الآخرة التي لا غاية لها معلومة، فانتظروا ولا تغتروا بالإمهال «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ» فأدررت عليها الرّزق والولد والجاه لتستدرج لما هي عليه من الشّر لأنها خلقت شريرة لا ينفعها النصح، فاغترت وتمادت بالعصيان، حتى ظنت الإهمال لطول الإمهال، وإنها لم تؤخذ «ثُمَّ أَخَذْتُها» على غرّة «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (48) لا إلى غيري مهما طال أمدهم وأمهلهم، ترمي هذه الآية إلى تحذير الأمة من التمادي في المعاصي، وعدم الاغترار بما يملي لهم. وهم ما هم على ما هم عليه، وإنها إذا لم ترجع إلى الحق

[سورة الحج (22) : الآيات 51 إلى 60]

يكون مصيرهم مصير من قبلهم. ألا فليقلع الظّالم عن ظلمه ويتيقن أنه مهما طال أجر وإمهاله فإنه لا يمهل ويؤخذ على غفلة فيخسر الدّنيا والآخرة، لأنّ عمله في الدّنيا لم يقصد به وجه الله، ولم يطلب به مرضاته، ولم يتصرف بما من الله عليه بما يرضيه. فيا أكمل الرّسل «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (50) ما أرسلت به إليكم ومبلغ لا مسيطر ولا جبار ولا مكره «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» منكم في هذه الدّنيا «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوب السابقة «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (50) في الجنّة بالآخرة جزاء أعمالهم الطّيبة «وَالَّذِينَ سَعَوْا» أفسدوا «فِي آياتِنا» المنزلة على رسولنا «مُعاجِزِينَ» مثبطين النّاس عن الإيمان بها، ما نعيهم عن سماعها، مشاقين لها، معاندين لقدرتنا، ظانين لا نطيق صدهم في الدّنيا وتعذيبهم في الآخرة «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (51) فليفعلوا ما يشاؤون في هذه الدّار الفانية، ومرجعهم إلينا في الآخرة الباقية، وهي أول الآيات المكيات في هذه السّورة، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى» قرأوا عليه قوله: تمنى كتاب الله أو ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل وقال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) أي قراءة راجع الآية 78 من سورة البقرة المارة فلا ينظرون المعنى وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمني حصولها له، وإذ انتهى إلى آية عذاب: عفوه منها. والتمني نهاية التقدير، ومنه المنية وهي الموت باليوم المقدر والأمنية الصورة الحاصلة بالنفس من التمني، وتكون بمعنى حديث النّفس أي خطر وتمنى بقلبه وهو المراد هنا والله أعلم. ومما يؤيد هذا المعنى قوله جل قوله «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي مخيلته النّفسية مما يخطر بباله «فَيَنْسَخُ اللَّهُ» يمحو ويزيل ويعدم وينسى «ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» من تلك التمنيّات الحاصلة في الصّورة النفسية بأن يبطلها ويذهبها حتى لا يبقى لها أثرا في تلك التصوّرات «يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ» يثبتها ويحفظها من الإلقاءات الشّيطانية والتسويلات النّفسية، فلا يلتحق

بها ما ليس منها لسابق عهده تعالى بحفظ القرآن من غيره، راجع الآية 9 من سورة الحجر المارة في ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما أوحاه لرسوله يحميه من خلط الشّيطان «حَكِيمٌ» 52 في تمكين آياته وصوتها من غيرها وفي امتحان عباده بها. واعلم أن ذلك الإلقاء والنّسخ والإلهام ما هو إلا «لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً» محنة وبلاء واختبارا وامتحانا «لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة فتأخذهم أهواءهم غير مأخذ لخبثها «وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ» عطف على الّذين في قلوبهم مرض يريد بهم المشركين الجافية قلوبهم عن قبول الحق ليزدادوا شبهة ومرية فيه وشكا وريبا فيمن أنزل عليه وكفرا وجحودا بمن أنزله «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ» من هؤلاء الكفرة «لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» (53) عن الحق «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» بالله ورسوله وما أنزل عليه «أَنَّهُ الْحَقُّ» الصريح والصّدق البالغ منزل عليك يا سيد الرّسل «مِنْ رَبِّكَ» الذي رباك وشرفك في هذه الرّسالة وهذا القرآن العظيم، ذلك الإله الذي أحكم آياته وصانها عن غيرها وهذه الجملة معطوفة على جملة ليجعل، ثم فرّغ عنها قوله «فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ» تطمئن وتسكن وتخضع وتخشع «لَهُ قُلُوبُهُمْ» فيذعنوا له ويعلموا أنه الحق فيهتدوا به «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (54) عدل سوي لا يميلون إلى غيره ولا ينحرفون عنه ولا يشكون فيه «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ» . وشك فيمن جاءهم به وريب من إنزاله ومنزله «حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ» التي يموتون بها «بَغْتَةً» لا تمهلهم طرفة عين ليتمكنوا من الرّجوع عن كفرهم وشكهم «أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» (55) لا ليلة بعده ولا له مثل وهو يوم القيامة. ولا وجه لمن قال أن في جعل اليوم يوم القيامة تكرارا لأن المراد بالساعة هو يوم القيامة، ولأن السّاعة وقت يوم كلّ أحد، ولأن اليوم الذي ذكر فيه العذاب، ولأن السّاعة من مقدمات القيامة واليوم يومها، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) هذا والله أعلم.

مطلب قصة الغرانيق وإثبات وضعها وما جاء فيها بالكتاب والسّنة والإجماع والقياس والعقل: وقد نزلت هذه الآيات الأربع بمكة بعد سورة والنّجم كما أوضحناه بآخرها في ج 1 وسبب نزولها هو تسلية الرّسول صلّى الله عليه وسلم عما أشاعه قومه من ذكر أصنامهم وتذكير له بأن السّعي لإبطال آيات الأنبياء أمر معهود من قبل لوقوعه مع الأنبياء السالفين، وانه سيء مردود وهباء لا بقاء له ولا أثر، واعلام بأن الأنبياء هو ومن قبله عليهم الصّلاة والسّلام إذا قرأوا شيئا من آيات الله ألقى الشّيطان بحسب طبعه وجبلّته الشّبه والتخيلات فيما يقرؤونه على اتباعه الخبثاء النّفوس مثله ليجادلوا به بالباطل، ويردوا ما جاء به الرّسل قال تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الآية 121 من سورة الأنعام وقال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية 141 منها أيضا ج 2 وقال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الآية 32 من الفرقان ج 1 ومن ذلك قولهم عند سماعهم قول الله تعالى بتحريم الميتة انظروا كيف يحرم ذبيحة الله لأنه هو أماتها، فكأنه ذبحها ويحل ذبيحة لنفسه وغيره. وعند سماعهم قوله جل قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية 99 من الأنبياء المارة في ج 2 يلقون في قلوب أوليائهم أن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا من دون الله، وان محمدا يعدّهم من حصب جهنم، راجع تفسير هذه الآية واخساء ابن الزبعري فيها. وعلى هذا يحرز أنه صلّى الله عليه وسلم عند ما قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الآية 19 من سورة النّجم المذكورة آنفا وكان صلّى الله عليه وسلم يرتل القراءة ويفصل بين الوقفات بسكنة قصيرة فترصد الرّصاد الملعون تلك الفواصل، قدسّ الكلمات المشهورة المبينة هناك بين سكتاته محاكيا صوته عليه السّلام وألقاها في أذن أوليائه الكافرين فطبعت في قلوبهم الميّالة لها، فظنوها من قراءته صلّى الله عليه وسلم فراقت لهم، ولذلك لما سجد صلّى الله عليه وسلم سجدوا كلهم معه تبعا لأصحابه عند قراءة آية السّجدة من السّورة المذكورة، ولم يقدح هذا السّجود بالمسلمين لأنهم لم يسمعوا ما سمعه الكفار، وإنما سمعوا السّجدة فسجدوا كعادتهم

وكانوا عارفين ما يتلى عليهم لأنهم يصغون لكلامه بكليتهم ليحفظوه عنه، وهم يعرفون كراهية الأصنام من حال الرّسول وذمّه لها وتحقيرها وأهلها، فلا تخطر ببالهم، وهذا أحسن ما قيل في هذا الباب وأصدقه وأحقه. وما قيل إنه صلّى الله عليه وسلم نطق بتلك الكلمات سهوا أو خطأ أو نسيانا أو أنه تمنى أن ينزل عليه مدح آلهتهم فممتنع قطعا وحاشاه من ذلك، وساحته براء مما هنالك، ولا يوجد دليل أو أمّارة يميل إليها الفطن أو برهان أو إشارة ينحاز إليهما الفكر، لأنه عليه الصّلاة والسّلام معصوم ومنزه عن أن يقول أو يخطر بباله أو يتصور بخياله شيئا من ذلك ولا يتقول بهذا القول ويزعم وقوعه منه إلّا منافق زنديق كافر، ولا ينقل هذه الترهات إلّا من لا نصيب له من الهداية، ولا يصغي إلى هذه الخزعبلات إلّا أهل الشكوك الّذين في قلوبهم مرض، إذ لم يرد نقل أو خبر أو سند صحيح أو ضعيف أو غريب بذلك ليطمئن أو يركن إليها أو رواية يمكن أن يستند لها أصلا، ويدلك على اختلافها اختلاف الرّوايات. ومباينة الأقوال ومناقضة الأخبار وضعف ناقليها واضطراب رواتها وانقطاع أسنادها وتضارب عباراتها وتلفيق ألفاظها بصورة لا تقبل التأويل ولا التأليف أبدا، وهذا كاف لردّها وإنكارها. هذا وما قاله بعض العلماء بأن هذه الآيات الأربع نزلت بين مكة والمدينة بعيد عن الثبوت إذ لا مناسبة بينهما وبين ما وقع في الطّريق أثناء الهجرة، وكذلك لا يصح القول بأنها نزلت يوم بدر لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الآية المارة، لأنه من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر كما أن ما جاء في تفسير بعض المفسرين بأن هذه السّورة مكية عدا الآيات الخمس 12 و 13 و 40 و 41 و 78 والآيات من 20 الى 25 غير سديد لأن الحج لم يفرض بمكة والحوادث المشيرة إليها بعض الآيات منها لم تقع في مكة، ومن المعلوم أن كل ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا، كما أن كلّ ما نزل قبلها يسمى مكيا. واعلم أن السّبب الدّاعي لعدّها مكية بدؤها بيا أيها النّاس، وتكرار هذه اللّفظة بها أربع مرات، وإن هذه من مميزات المكي على المدني على أننا أشرنا في المقدمة بان المكي لا يوجد فيه يا أيها الّذين آمنوا البتة، والمدني لا يخلو من لفظ يا أيها النّاس،

واشارة بعض الآيات الى أحوال أهل مكة، وإلّا في الحقيقة هي مدنية عدا الآيات الأربع التي نحن بصددها، وأنهن على القول نزلن بعد سورة النّجم كما أشرنا إليه آنفا في هذه السّورة وفي سورة النّجم أيضا، كما هو الواقع والله أعلم. قال تعالى «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم العقيم الذي لا ليل بعده ولا يوم من أيّام الدّنيا «لِلَّهِ» وحده، وهو قبل ذلك اليوم كله لله أيضا، إلا أن ملوك الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون الدّنيا تدعيه مجازا في الدّنيا، أما في الآخرة فلا يدعيه أحد سواه، إذ يكونون مملوكين فيه لله هم وما ملكوا كما كانوا في الدّنيا في الحقيقة هكذا مملوكين لله الذي «يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» في ذلك اليوم العظيم. ثم بين نتيجة هذا الحكم بقوله عز قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (57) هذا وقد أشبعنا هذا البحث في سورة النّجم، وأثبتنا أن القول بغير ما ذكرناه باطل موضوع فراجعه تعلم ان القرآن والسّنة والإجماع والقياس والعقل يأبونه، أما القرآن فلقوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآيتين 44 و 45 من سورة الحاقه في ج 2 وقوله تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) الآية 5 من سورة يونس ج 2 أيضا وقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) الآيتين 4 و 5 من سورة النّجم في ج 1 فلو قرأ صلّى الله عليه وسلم تلك الكلمات لظهر الكذب في الحال، وهذا لا يقوله مسلم وقوله تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الآية 174 وقوله (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية 75 من سورة الاسراء وكلمة كاد عند البعض بمعنى قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشّيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الرّكون لم يحصل أيضا، وقوله تعالى (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) الآية 32 من سورة الفرقان في ج 1 وقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) الآية السّابعة من سورة الأعلى ج 2، فكيف بعد هذا يتصور منه النّسيان في تبليغ الوحي، وقد نفاه الله عنه وأخبر بنثبيت فؤاده بما يوحيه إليه. وأما السّنّة

فمنها ما روي عن محمد بن اسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النّقل وأن رواتها مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قرأ سورة والنّجم وسجد فيها وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق، وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة وليس فيها حديث الغرانيق البتة. وأما العقل فمن المعلوم ضرورة أنه صلّى الله عليه وسلم كان أعظم سعيه في تبكيت الأصنام والأوثان وأن نسبة ما ذكر إليه صلّى الله عليه وسلم يوجب تعظيمها ومن جوز عليه تعظيمها فقد كفر، لأنه بعث لرفعها من على وجه الأرض وقتل من يعبدها إذ لو جوز ذلك عليه صلّى الله عليه وسلم لارتفع الأمن عن شريعته، ويجوز أن يكون مثل ذلك في جميع الأحكام والشّرائع وهو باطل لا يجوز في شيء منها وحينئذ يبطل حكم قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية 70 من سورة المائدة الآتية إذ لا فرق عقلا بين نقصان الوحي والزيادة فيه، وإن الإجماع فقد أجمع على هذا الأولون والآخرون والقياس يأبى عدمه. فبهذا وبما ذكرناه في الصّفحتين المارتين وما أثبتناه في سورة والنّجم يثبت وضع هذه القصة التي ذكرها بعض المفسرين بناء على خبر الواحد الذي لا يعارض هذه الدّلائل النّقلية والعقلية المتواترة هذا والله أسأل ونبيه أتوسل أن ينقي قلوب هذه الأمة المحمدية من كلّ ما يضرها في الدين والدّنيا والآخرة، ويثبت عقيدتها في دينها القويم انه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. لما قال بعض أصحاب رسول الله قد علمنا ما اعطى الله الشّهداء ونحن نجاهد معك، فإذا لم نقتل ومتنا حتف أنفسنا فمالنا عند الله غير سعادة الدنيا أنزل الله قوله «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً» في الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (58) لأن رزق النّاس بعضهم بعضا ورزق السّلطان أعوانه وجنوده له نهاية، ورزق الله عباده دائم لا من فيه. ورزق هؤلاء بعضهم بعضا على طريق المجاز لأن الرّازق الحقيقي هو الله الذي سخر بعضهم لبعض. ثم أقسم جل قسمه

[سورة الحج (22) : الآيات 61 إلى 70]

«لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ» ويسرون منه، إذ لم يروا مثله ولا ينالهم فيه مكروه ولا يحتاجون لاحد يتوسط لهم به، ولا كلفة بتناوله «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ» بنيات هؤلاء المجاهدين المهاجرين الذي سيعطيهم هذا الجزاء الجزيل «حَلِيمٌ» 59 بإمهال من قاتلهم عنادا على ما هم عليه من الحق «ذلِكَ» الأمر الذي قصصناه عليك يا سد الرّسل هو الحق الذي لا مرية فيه «وَمَنْ عاقَبَ» غيره «بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ» بأن أوقع على من ظلمه بمثل ما وقع منه «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» بعد ذلك الاقتصاص الذي لا جناح عليه بفعله بمقتضى قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من البقرة المارة وقوله جل قوله (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 43 من سورة الشّورى ج 2 «لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» لأنه مظلوم حق على الله نصرته «إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ» عما فعل بمن اعتدى عليه على طريق المقابلة، لأن ذلك حقه قد رخص الله له استيفاءه منه «غَفُورٌ» 60 لأمثاله المؤمنين لأخذه بالرخصة التي منحه الله إياها، وعدم أخذه بالعزيمة، وجنوحه للأخذ بالرخصة فعل لا مؤاخذة عليه ولا عتاب. «ذلِكَ» نصر الله للبغي عليه «بِأَنَّ اللَّهَ» الذي «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» قادر على نصرته مهما كان ضعيفا وخصمه قويا. والإيلاج إدخال الشّيء بالآخر مع اضمحلال المدخول فيه، لأن الليل إذا دخل على النّهار صار ضياءه ظلاما وكذلك النّهار إذا دخل على اللّيل صيّر ظلامه ضياء، بحيث لا يبقى للمدخول عليه أثر، ويحصل من هذا الإيلاج الزيادة والنّقص فيهما، وهذا لا يقدر عليه إلّا الله «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» بكل ما يقع في كونه «بَصِيرٌ» (61) بجميع المبصرات ومن جملتها قول المعاقب وفعله «ذلِكَ» الإيلاج البديع بذلك أيها المفكر المعتبر المتعظ «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» المستحق للعبادة وحده لا شريك له الواجب الوجود الممتنع النّظير «وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» من الأوثان «هُوَ الْباطِلُ» المفترى من اختلاق قليلي العقول «وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» (62) في سلطانه وبرهانه ونظير هذه الآية الآية 30 من سورة لقمان ج 2.

مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة.

مطلب تعجيب الله رسوله وخلقه في بعض أفعاله وضرب الأمثال وكون شريعة محمد ناسخة لكل الشّرائع وعجز الأوثان وسجود التلاوة. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» أيها الإنسان العاقل «أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» بالنبات من بعد ما كانت يابسة قاحلة من غير فعل أحد في بذره وحرثه ومناظرته «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» بإخراجه وجعله رزقا لمخلوقاته «خَبِيرٌ» 63 بالنافع منه للإنسان والحيوان والضّار منه لهما وحاجتهما إليه «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا يتصرف فيهما وبما فيهما كيف يشاء وكلهم محتاج إليه «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ» عنهم «الْحَمِيدُ» 64 بإنعامه على عباده ومخلوقاته كلها، المستحق لأنواع الحمد بآلائه المتواترة عليهم، ولا غنى لهم عنه «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ» أيها النّاس (ما فِي الْأَرْضِ) من الدّواب والمعادن وغيرهما «وَالْفُلْكَ» سخرها لكم «تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» على الماء بالرياح وسخر لكم ما في بطنه من الأسماك والجواهر «وَيُمْسِكُ السَّماءَ» بقدرته البالغة من «أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا» إذا أراد وقوعها فإنها تقع «بِإِذْنِهِ» عند خراب هذا الكون بالوقت المعين له عنده، راجع أول سورة الانفطار المارة في ج 2 «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (65) بالغ الرّحمة بعباده. وفي هذه الآية ردّ على من يقول إن السّماء متمسكة بنفسها أي بذاتها لأنها كسائر الأجرام بالجسمية فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها وليس كما زعم بل هي ممسكة بامساك الله إياها، راجع الآية 42 من سورة فاطر في ج 1 وهي نظير هذه الآية في المعنى، والله أصدق القائلين وهو أعلم بما يقول. وما يقوله الغير في هذا الهيكل العلوي وما فيه من الكواكب ما هو إلا عن ظن وتخمين لا عن حقيقة راهنة. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ» في أرحام أمهاتكم بعد أن لم تكونوا شيئا «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم في الدّنيا «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ثانيا يوم القيامة بعد انقضاء أمد وجودكم في البرزخ «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» 66 لهذه النّعم كثير الجحود لها وما ينبغي له ذلك قال تعالى «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً» مذهبا وطريقة وشريعة «هُمْ»

أهل هذا المنسك المخصّص لهم لا بد «ناسِكُوهُ» مقتفون أثره وعاملون به ومقيدون بما فيه دون الأمم الأخرى، لأنه تعالى شرع لعباده شرائع على لسان رسله ليتعبّدوا بها لا ليجادلوا ويخاصموا من أجلها، فالأمم التي قبل موسى منكم صحف إبراهيم ومن قبله، ومن موسى إلى عيسى منسكهم التوراة، ومن عيسى إلى محمد التوراة والإنجيل المعدل لبعض أحكامها، ومن بعثة محمد صلّى الله عليهم أجمعين وسلم إلى يوم القيامة منسكهم القرآن يعملون به دون غيره. قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية 52 من المائدة الآتية «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» يا سيد الرّسل أهل الكتابين الموجودين في زمنك بأن شريعتهم ما كان عليه آباؤهم لأن كلّ شريعة تنتهي بإنزال ما بعدها من الشّرائع السّماوية على لسان رسل الله، بنقض العمل بها عند ما تحل محلها شريعة إلهية أخرى، فشريعتهم لمن كان قبل بعثتك وقد نسخت بشريعتك التي نسخت كلّ الشّرائع المخالفة لها سواء بالذبائح المعبر عنها بالنسك أو غيرها، وقد جاءت جامعة لأصول وفروع جميع الشّرائع، حاوية لأحسنها. قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية 107 من البقرة المارة «وَادْعُ» يا سيد الرّسل جميع النّاس إلى شريعتك هذه، لأنا أرسلناك إليهم كافة، راجع الآية 39 من سورة سبأ ج 2 وما ترشدك إليه من المواقع وأمر النّاس كافة بالإخلاص «إِلى رَبِّكَ» بان يطيعوك ويعملوا بما أنزل عليك وعزتي وجلالي «إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» (67) وهم على ضلال معوج في نزاعك «وَإِنْ جادَلُوكَ» بعد ما تبين لهم هداك وأصروا على منازعتك في أمر الدّين «فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» (68) من مخالفتي مع علمكم أني على الحق، وإذا أصروا على جدالهم فأعرض عنهم، وقل «اللَّهُ يَحْكُمُ» بَيْنَكُمْ» وبيننا وبين الخلق أجمع «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (69) وإذ ذاك يظهر المحق من المبطل. ولا نسخ في هذه الآية لأن الله تعالى لم يأمر نبيه بقسر أهل الكتابين على قبول دينه، بل بالاكتفاء بأخذ الجزية منهم وقد ضربها عليهم ولم تزل تؤخذ منهم إلى يوم القيامة، لأن الأتراك المسلمين لا يزالون يتقاضونها منهم، وهكذا بعض ملوك المسلمين، أما ما يقع

[سورة الحج (22) : الآيات 71 إلى 78]

في تنفسات الزمن من إعفاء بعضهم من ذلك وحمايتهم من قبل الغير فلما انقضاء عند ما يعود المسلمون إلى التمسك بدينهم وينبذون التقاليد الأجنبية ويوحدون كلمتهم. قال تعالى «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» كلية وجزئية جلية وخفية «إِنَّ ذلِكَ» العلم مثبت «فِي كِتابٍ» عظيم عند الله تعالى هو الوجه المكنون الحاوي على ما كان وسيكون قبل كونه «إِنَّ ذلِكَ» العلم العظيم جميعه «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7) سهل كعلم شيء واحد «وَيَعْبُدُونَ» بعض خلقه مع علمهم بأن شيئا لا يستحق العبادة غيره وأن لا ربّ على الحقيقة سواه «مِنْ دُونِ اللَّهِ» الجليل الذي خلقهم وسواهم وعلمهم «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» عليهم من حجة أو برهان أو دليل أو أمارة «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن يعبد بل جهل مركب، لأنهم يزعمون ما يعبدونه من الأوثان يشفع لهم عند الله يوم القيامة وينصرهم في الدّنيا من النّاس «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (71) ينصرهم من عذابه إذا حل بهم في الدّنيا والآخرة. وإنما سماهم ظالمين لظلمهم أنفسهم بذلك الاعتقاد فيما تعمله أيديهم من الأصنام. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ» عند سماع تلاوتها أي تظهر على وجوههم علائم الكراهة فتراها عابسة مكفهرّة «يَكادُونَ يَسْطُونَ» يثبون ويبطشون «بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا» أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ والحنق عليهم، وهذه حكاية حال من أحوال بعض الكفرة المشركين وكفرة أهل الكتابين القائلين بنبوة عزير وعيسى وآلهتهما والملائكة وكونه ثالث ثلاثة «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ» لكم «مِنْ ذلِكُمُ» الخير الذي تكرهونه الآن وتعرضون عن سماعه هو «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أمثالكم فهي مصيركم ومصيرهم «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (72) هي لمن يصير إليها «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ» حال مستغربة جديرة بأن تسمى مثلا تشبها ببعض الأمثال السّائرة «فَاسْتَمِعُوا لَهُ» وأصغوا إليه وتدبروه واعقلوه، وهو أن المشركين جعلوا لي شبيها يعبدونه من دوني ويستغيثون به عند شدتهم ويرجون شفاعته بآخرتهم، وأقول لهم «إِنَّ

الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ «دُونِ اللَّهِ» ربكم الواحد الفرد الصّمد. من جميع أوثانكم «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» ولا أقل منه وأحقر «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» كلهم وتعاونوا على خلقه لما استطاعوا البتة. والأنكى من ذلك أنه إذا وقعت على شيئهم لا يقدرون على منعه، ولكن لأنه كلما ذب آب إلّا إذا قتلوه «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ» على ضعفه وهوانه «شَيْئاً» من الأشياء أو جزءا قليلا منه «لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» أيضا ولا يقدرون على استخلاصه منه مع عظمهم بالنسبة إليه إذ قد «ضَعُفَ الطَّالِبُ» الذباب السّالب «وَالْمَطْلُوبُ» 73 المسلوب منه وهي أوثانهم لأن منها ما هو جماد وهو أضعف من الذباب بدرجات كثيرة وعابدوها أجهل من كلّ جاهل داخل من كلّ مثال، لأن الذي لا يحمي نفسه من الذباب كيف تطلب منه الحماية، وكيف يعبد، وكيف يرجى منه جلب نفع أو دفع ضر؟ وإن كان حيوانا فهو كذلك أيضا بل أكثر شرا لاحتياجه للأكل والشّرب والحراسة، وإن كان إنسانا فكذلك، لأنه لا يقدر أن يحرس نفسه من أقدار الله ولا يتحرك إلّا بإذن الله وإرادته، وهو متبرئ من عبادتهم، وان الله خالقهم وخالق كلّ شيء، أفلا يعبدونه مع كمال عظمته وبالغ قدرته ويركنون إليه عند حاجتهم في الشّدة والرّخاء، ولهذا فاتركهم يا سيد الرّسل فإنهم جهال «ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ولا عرفوه حق معرفته ولا مجدوه حق تمجيده وما علموا غاية قبح فعلهم إذ أشركوا به وسموا باسم ما هو أبعد الأشياء عنه، تقدم مثل هذه الجملة في الآية 68 من سورة الزمر والآية 91 من الأنعام ج 2 ولفظ الذباب لم يكرر في القرآن «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ» على خلق الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات كلها «عَزِيزٌ» 74 غالب قاهر لجميع الأشياء وهذه الجملة تعليل لما قبلها من نفي معرفتهم له تعالى. قال ابن عباس كانوا يطلبون الأصنام طيبا فيقع الذباب عليها فيسلبها طيبها فلا تقدر على منعه ولا يقدر الكفرة حراسها على استرداد ما سلبه منها فكيف يقدرون على خلقه، ثم ساق حكاية أخرى من أحوال الكفرة من قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) الآية 22 من سورة الفرقان ج 1 وقولهم (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) الآية 31 من سورة

المؤمنين ج 2 وهي مكررة كثيرا في القرآن، فأخبرهم الله بمعرض الرّد عليهم بأنه يجتبي من هؤلاء وهؤلاء ما يشاء بقوله «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» كجبريل وإخوانه «وَمِنَ النَّاسِ» رسلا أيضا كمحمد وإخوانه عليهم الصّلاة والسّلام ومن قبلهم ممن شاء وخصته السّعادة ولهذا لا يعبا بأقوالهم التافهة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لها وعالم بوقوعها منهم قبل خلقهم «بَصِيرٌ» بمن يختصه للملكية والرّسالة. قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 135 من الأنعام ج 2 وهو «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» وجميع ما هو كائن وما سيكون من رسل الفريقين والمرسل إليهم أجمع «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (73) كلها ويحاسب أهلها عليها قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» بجميع أنواعه وأصنافه وأجناسه قولا وفعلا ونية «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (77) فتفوزون بأنواع الخير عند الله في الدّنيا والآخرة. واعلم أن الخير كله مجموع في أربعة: النظر والحركة والنّطق والصّمت، فكل نطق لا يكون في عبرة فهو غفلة، وكلّ حركة لا تكون في عبادة فهي فترة، وكلّ نطق لا يكون في ذكر فهو لغو، وكلّ صمت لا يكون في فكر فهو سهو. هذا وتقدم البحث فيما يتعلق بالسجود في الآية 15 من سورة الرّعد المارة، وفيها ما يرشدك لبحثه في غيرها. واعلم أن السّجدات المتفق عليها في القرآن العظيم أربع عشرة ليس منها هذه، والسّجود فيها واجب وقال بعض الأئمة بسنية السّجود عند تلاوة هذه الآية مستدلا بما أخرجه الترمذي وأبو داود عن عتبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما. وأخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قرأ الحج فسجد فيها سجدتين، وقال ان هذه السّورة، فقلت بسجدتين وناهيك به قدوة، وقد أخذ بهذا الشّافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة ومالك والحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري إنها سجدة صلاة بدليل اقترانها بالركوع، ولو كانت سجدة تلاوة لما اقترنت به كسائر سجدات القرآن، وقد مرت السّجدة الأولى في الآية 16 منها قال تعالى «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ» بأن تستفرغوا جهدكم تبذلوا طاقتكم

ووسعكم فيه. ومن الجهاد أن لا يخاف الرّجل في قول الحق لومة لا ثم وتقدم بيان فضله في الآية 191 من سورة البقرة «هُوَ اجْتَباكُمْ» أيها النّاس واختاركم لدينه وخدمته، والاجتباء رتبة عظيمة ومنقبة كريمة خصنا الله بها، فهي سعادة ما فوقها سعادة، قال الأبوصيري: بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا ... من العناية ركنا غير منهدم وهذا الاختيار من عناية الله تعالى بهذه الأمة ومن عنايته اختيار محمد صلّى الله عليه وسلم رسولا لنا واختيارنا لشريعته، ولهذا قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية 110 من آل عمران والحمد لله على أفضاله وعلى هذه المزية الكريمة والمنحة المثلى، وعلى قوله جل قوله «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لأنها ميزة جليلة لنا أيضا إذ لم يصيق وبشدد علينا فيما عرضه، بل رخص وسهل، ويسر عليكم أيها المؤمنون في صومكم وصلاتكم وحجكم وزكاتكم وتوبتكم وطهارتكم وجعل ملّتكم «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» سمحة نقية وهذا الخليل جدكم «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» (78) لقوله تعالى حكاية عنه وعن ابنه إسماعيل عليهما الصّلاة والسّلام. (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) الآية 138 من البقرة وهذه التسمية ثابتة لكم «مِنْ قَبْلُ» في الكتب المتقدمة «وَفِي هذا» القرآن لأنها مذكورة في اللّوح المحفوظ، ولهذا فضلكم على سائر الأمم وجعل دينكم الإسلام وسماكم المسلمين «لِيَكُونَ الرَّسُولُ» محمد صلّى الله عليه وسلم «شَهِيداً عَلَيْكُمْ» يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته «وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» بأن الرّسل بلغو أممهم رسالات ربهم بناء على أخبار نبيكم لكم في كتابكم واخباره حق أكثر من المشاهدة وأقوى، لأن العين قد تخطئ المبصر فلا تعرفه حقيقة، والرّسول لا يخطى في التبليغ البتة لعصمته من قبل الله تعالى، وهذا من المخصوص، لأن الشّهادة لا تكون إلّا في هذا عن الغيب، وقد تكون على السّماع في أمور مخصصة أيضا كما أشرنا إليها في الآية 143 من سورة البقرة المارة «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» في كلّ أموركم وثقوا بما وعدكم به على لسان رسولكم «هُوَ مَوْلاكُمْ» وناصركم وحافظكم لا مولى لكم غيره «فَنِعْمَ الْمَوْلى» هو

[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 إلى 10]

لمن يتولى أموره «وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (79) لمن يفوض أمره إليه، فإنه ينصره ويسدد أموره ويسبغ عليه رحمة ويمده من فضله ويوفقه لما به صلاحه ونجاحه. ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة المنافقين عدد 18- 104- 63 نزلت بالمدينة بعد سورة الحج. وهي إحدى عشرة آية، وثمانون ومئة كلمة، وتسعمائة وستّ وسبعون حرفا. وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت به في سورة الانفطار ج 2 ومثلها في عدد الآي العاديات والقارعة والضّحى والجمعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذا جاءَكَ» يا محمد «الْمُنافِقُونَ قالُوا» لك بلسانهم «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» حقا بما علمنا في كتبنا فلا تعبأ يا حبيبي بقولهم هذا، ولا تصغ لشهادتهم، وقل لهم إني رسول الله إن شهدتم وإن لم «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» فأنت في غنى عن شهادتهم الكاذبة الصّورية «وَاللَّهُ» الذي أرسلك بشيرا ونذيرا لخلقه كافة «يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ» الّذين جاءوا إليك بشهادتهم عفوا «لَكاذِبُونَ» 1 في شهادتهم لأنهم أضمروا عكسها في قلوبهم وان من أخبر بشيء وهو معتقد خلافه فهو كاذب وإن هؤلاء المنافقين الّذين لا تتجاوز شهادتهم حناجرهم «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ» التي يحلفونها لك على صدق شهادتهم المزورة من قولهم لك قبل انهم لمنكم وانهم معكم وقولهم الآن نشهد والشّهادة يمين كلها «جُنَّةً» وقاية يتقون بها السّبي والجلاء والقتل وما يتخيلون إيقاعه بهم من قبلك وأصحابك «فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم ومنعوا غيرهم من أتباعه «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (2) من الكذب والبهت والنّفاق والإعراض عن دين الله وصد النّاس عنه مع علمهم بأحقيته «ذلِكَ» إقدامهم على هذه الأعمال القبيحة «بِأَنَّهُمْ آمَنُوا» بألسنتهم فقط ولم يظهروا ايمانهم الا عند مشاهدة المؤمنين «ثُمَّ كَفَرُوا»

صرا بحضورهم وعلنا فيما بينهم «فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» حتى لا يدخلها الإيمان الخالص جزاء إيمانهم المزيف «فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (3) معنى ما يتلو عليهم الرّسول ولا يتدبرون مغزاه، لأنهم لا يتلقونه عن قبول وإذعان، بل عن ردّ واعتراض وإنكار وكراهية «وَ» هؤلاء الفجار «إِذا رَأَيْتَهُمْ» أيها الرّائي «تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» طولا وامتلاء وحسنا وهيئة وقامة «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» لما هم عليه من الفصاحة والمعرفة بمواقع الكلام، ولكنهم في الحقيقة ليسوا بشيء «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام، لأن الذي ترى منهم من البلاغة وحسن النّطق كله فيما يتعلق بأمور الدّنيا أما ما يتعلق بالدين وأمور الآخرة فهم عنه بمعزل قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، لأنهم متغلغلون فيها منهمكون في زخارفها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لاهون عنها طارحوها وراءهم. راجع هذه الآية 8 من سورة الرّوم ج 2 في بحث الغافلين عن الآخرة المنصرفين إلى الدّنيا فتراهم يا سيد الرّسل من حيث الدّين أشباه رجال كما يتخيل من سماة بعض المتعممين الّذين يقال فيهم: يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخا على كرسيه معهما وبعض الملتحين في القول فيهم: ألا ليت اللّحى كانت حشيشا ... فنعلفها دواب المسلمينا ومما يدلك على هذا أن الرّعب قد ملأ قلوبهم وصاروا بحيث «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» وانهم المرادون بها ويظنون منها إيقاع الشّر فيهم وتوقع الضّر بهم سواء كانت من ناشد ضالته أو ممن ندت له دآبة أو مناد في المعكر، حتى أنهم من شدة خوفهم يلقون الخوف في غيرهم لسوء ما يراهم عليه من الاضطراب، وهؤلاء الجبناء «هُمُ الْعَدُوُّ» اللدود لك ولأصحابك «فَاحْذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ولا تأمنهم على شيء ولا تغتر بأيمانهم الكاذبة وإيمانهم الصّوري «قاتَلَهُمُ» اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (4) جملة تعجبية من أنواع افترائهم وانصرافهم عن الحق وإصرارهم على النّفاق «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ» ربه عما سلف منكم وأخلصوا إيمانكم له «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» أمالوها إعراضا

عن سماع هذا القول «وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ» عما دعوا إليه أنفة منه «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» (5) عن الإجابة إلى استغفارك مع أنك تدعوهم لخيرهم، ولهذا فاتركهم يا حبيبي «سَواءٌ عَلَيْهِمْ» الأمر «أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» لأنهم خرجوا عن الطّاعة «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (6) الخارجين على رسولهم ودينهم. راجع الآية 81 من سورة التوبة لآتية الدّالة على قطع أملهم والآيات قبلها وبعدها التي فضح الله بها أحوال المنافقين كلها، فلم يبق لهم خصلة مكتومة من أفعالهم القبيحة تجاه الرّسول وأصحابه إلا أوضحها، وهؤلاء «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ» لبعضهم ولمن هو على شاكلتهم «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» من النّاس «حَتَّى يَنْفَضُّوا» عنه وقد خاب ظنهم فإن الله مغنيه عن نفقتهم وكيف يحتاج لهم: ولله خزائن السّموات والأرض، وبيده مفاتح الرّزق وهو مولاه يكفيه عن كلّ خلقه على رغم أنوفهم، وكيف يحتاج إليهم وقد كلفه الله أن يجعل له جبال مكة ذهبا تلك الجبال التي شاهدناها التي سيكون لها شأن عظيم عند ترقي العلم الدّنيوي ويستخرج منها معادن إن لم تكن ذهبا تأتي بالذهب «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» (7) أن الأرزاق بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده ويمنعها عمن يشاء «يَقُولُونَ» أيضا هؤلاء المنافقون «لَئِنْ رَجَعْنا» من غزوة بني المصطلق بطن من خزاعة بن جذيمة وهو المصطلق وتسمى غزوة المريسيع اسم لماء من مياههم وغزوة محارب وغزوة الأعاجيب لعظم ما وقع فيها كما سنقصها بعد «إِلَى الْمَدِينَةِ» وانتهينا من غزوتنا هذه «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا» أي من المدينة يربدون أنفسهم قاتلهم الله «الْأَذَلَّ» يريدون حضرة الرّسول وأصحابه أذلهم الله، وقد خسئوا وخابوا «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» لا لهم «وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» (8) ذلك لخبث عقيدتهم وسوء نيتهم. مطلب غزوة بني المصطلق وما وقع فيها وما فاه به عبد الله بن سلول على حضرة الرّسول وأصحابه وما رده عليه ابنه: وخلاصة هذه القصة هو أنه كان ضرار أخو جويرية أم المؤمنين بنت الحارث

بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع جموعه لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما بلغه ذلك خرج اليه بأصحابه رضي الله عنهم سنة ستّ من الهجرة لليلتين خلتا من شهر رمضان فلقيهم على المريسيع من ناحية قديد الى السّاحل، فتزاحم النّاس واقتتلوا فهزمهم الله وأمكن رسوله منهم واستاق أبناءهم ونساءهم وأموالهم غنيمة. ومن وقائع هذه الغزوة التي وعدنا بذكرها آنفا ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد بات معه أناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان منهم رجل لعاب فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا، وقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فخرج رسول الله فقال ما بال دعوى الجاهلية، ثم قال ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجر للأنصاري، فقال دعوها فإنها خبيثة. وقال عبد الله بن أبي بن سلول قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر رضي الله عنه ألا أقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ بارك الله فيك يا سيدي يا عمر كلما تكون قضية فيها ما يغضب الله ورسوله إلّا قوّم نفسه لينتقم لله ورسوله. راجع أول سورة الممتحنة المارة وقصة الفتح الآتية والآية 60 فما بعدها من سورة النّساء المارة، فقال صلّى الله عليه وسلم لا يتحدث الناس إنه كان يقتل أصحابه، أي لا تفعل حتى لا يترنم النّاس في ذلك فيقولوا إنه كان يقتل أصحابه إذ لا يعلمون أحقية القتل لمثله. وفي رواية مسلم فقال لا بأس، ولينصر الرّجل أخاه ظالما كان أو مظلوما، أي إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره، وزاد الترمذي، فقال له ابنه عبد الله لا تنقلب حتى تقرّ أنك أنت الذليل ورسول الله العزيز، ففعل. وقد ذكرنا في الآية 43 من من سورة النّساء إن هذه الحادثة كانت سنة خمس، والصّحيح سنة ستّ كما جاء هنا والله أعلم. وروى البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم قال خرجنا مع رسول الله في صفر أصاب النّاس فيه شدة، فقال عبد الله بن سلول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل، قال فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك، فأرسل إليه فسأله فاجتهد يمنه ما فعل، فقالوا كذب زيد رسول الله، قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة

حتى أنزل الله بتصديقي (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ثم قال دعاهم رسول الله ليستغفر لهم، قال فلووا رؤوسهم، قال أصحاب السّير جاء عبد الله رضي الله عنه بن عبد الله بن أبي بن سلول فقال لحضرة الرّسول إن كنت تريد قتله يا رسول الله فدعني آت لك برأسه، لأن النّاس تعلم أني أبرّ النّاس به، فإن قتله غيري يا رسول الله يصعب علي ما تلوكه بعد ألسنة النّاس، وأنا ما أنا عليه من البر بالوالدين والغيرة على السّمعة، لذلك يا سيدي أحشى أن لا تدعي نفسي أنظر إلى قاتله غيرة منها وخشية من تقول النّاس، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النّار، فقال له صلّى الله عليه وسلم بل لترفق به وتحسن صحبته ما كان معنا، وقال أسيد بن حضير يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وقومه يعملون له التاج كي يتوجوه، وأنه يرى أنك سلبته ملكه قال أصحاب السّير ولما قرب عبد الله بن أبي من المدينة وأراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله رضي الله عنه وأرضاه وقال له وراءك، قال ويلك مالك، قال والله لا تدخلها أبدا إلّا أن يأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأزل فشكاه إلى رسول الله، فأرسل إليه أن خلّ عنه، فقال إذا جاء أمر الرّسول فقم فدخل المدينة. وقيل قالوا اذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فقال أمرتموني أن آمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد، فأنزل الله هذه السّورة. وذكر قصة المريسيع فيها لا يعني أنها نزلت بوقتها بل كانت في سنة ستّ كما ذكرنا وقد أنزل الله في هذه الغزوة فرض التيمم كما أشرنا إليه في الآية 42 من سورة النّساء المارة وأشار إليها جل شأنه في هذه السّورة كغيرها من القصص فإنها قد تقع في زمن يخبر عنها في زمن آخر قبل وقوعها أو بعده أو زمنه، كما أن أسباب النّزول كذلك، فإنه قد يرافق الحادثة وقد يتقدمها أو يتأخر عنها. قالوا ثم اشتكى عبد الله ولم يلبث إلّا أياما ومات على نفاقه كما سيأتي ذكره في الآية 84 من سورة التوبة الآتية إن شاء الله. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (9) في الدّنيا بسبب عقلتهم وانهما كهم في حب أموالهم وأولادهم المؤدي إلى خسارتهم في الآخرة

[سورة المنافقون (63) : آية 11]

قال تعالى «وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» أيها النّاس «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» فيتعذر عليه الإنفاق في حياته وفيما يؤتى به يوم القيامة في الموقف ويسأل عن تقصيره هذا يعتذر «فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» ولم تمتني بغتة «فَأَصَّدَّقَ» بمالي على عيالك فلا يقبل منه، لأنه أمهله أعواما كثيرة ولم يفعل وكان يمكنه التصدق قبل حلول أجله لو كان صادقا فيما يقوله ويتمناه، وكان بوسعه التصدق ولكنه كان كاذبا يسوف طيلة السّنن التي قضاها حال صحته وقدرته على التصدق ولم يفطن لهذا ولم يذكره، وكذلك قوله «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» (10) لا صحة له، لأن الله يعلم لو أمهله فيما أراد لا يفعل شيئا من ذلك لاغتراره بالدنيا ولهوه في زخارفها فلم يخطر بباله حال الرّخاء ما خطر بباله حال الشّدة، فوقع في الأسف والدّامة والحسرة بعد فوات وقت قبولها فلم يصلح لإجابة طلبه بل للقاء النّار. وهذه الآية من تتمة ما نزل في المنافقين لأن المؤمن لا يسأل الرّجعة عند حلول الموت، ولأن ما بعده خير له مما قبله، وهو يحب لقاء الله والله يحب لقاءه، فلا يغتر بالدنيا ولا بطول العمر والتمتع بالعافية والرّفاه فيمنع الزكاة ويسوف بالتوبة ويصر على المعاصي كالكافر والمنافق، بل يتوب ويتصدق وهو صحيح صحيح، ولهذا قد ردّ الله على المنافق قوله وتمنيه بقوله عز قوله «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» أبدا لما ثبت باللوح هكذا ولا يقدم ولا يؤخر عن وقته المقدر له «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) بالدنيا لو ردّكم إليها لاستمريتم على أفعالكم القبيحة وحرصكم على المال وتقاعسكم عن فعل الخير كما كنتم واكثر، قال تعالى (لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية 27 من الأنعام ج 2 وهذه الآية عامة في كلّ من هذا شأنه، ونزولها في المنافقين لا يمنع شمولها لغيرهم ولا يخصصها فيهم، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب فنسأل الله العفو والعافية والتوفيق إلى أقوم طريقها وأقول: إليك بسطت الكف في فحمة الدّجى ... نداء غريق في الذنوب غريق رجاك ضميري كي تخلص حجتي ... وكم من فريق شافع لفريق فاشفع يا رسول الله بعبدك الجامع لهذا. ويا رب وفقه لإكماله وانفع به عبادك،

تفسير سورة المجادلة عدد 19 و 105 - 58

واجعله خالصا لوجهك الكريم، إنك على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير. هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين. تفسير سورة المجادلة عدد 19 و 105- 58 نزلت بالمدينة بعد سورة المنافقين وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة والف وسبعمئة واثنان وتسعون حرفا. ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت غير سورة الجن كما لا يوجد سورة مختومة بما ختمت غير آل عمران ومثلها في عدد الآي سورة البروج. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» مبادلتكما الكلام ومراجعتكما فيه يا سيد الرّسل أنت والمرأة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لمن يناجيه «بَصِيرٌ» (1) بأمر من يشتكي إليه يجيب دعاء المضطر من عباده، وسبب نزول أوائل هذه السّورة هو أن خولة بنت ثعلبة قالت يا رسول الله إن زوجي أديس بن الصّامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلى وكبر سني ظاهرني وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به؟ وذلك أن الظّهار الآتي بيانه كان زمن الجاهلية مما تحرم به المرأة على البتات، ولذلك لم يفتها حضرة الرّسول لأنه لم يتلق من ربه ما يبطله وقال لها صلّى الله عليه وسلم حرمت عليه، فقالت والذي بعثك بالحق وأنزل عليك الكتاب ما ذكر الطّلاق وأنه أبو ولدي وأحب النّاس إليّ، فقال حرمت عليه، فقالت أشكو إلى الله فاقني ووحدتي، ثم قالت يا رسول الله قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني، فقال ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر بشأنك بشيء، فجعلت تراجع الرسول، وكلما قال لها حرمت قالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وشدّة حالي ثم قالت يا رسول الله إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه

ضاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السّماء وتقول اللهم إليك أشكو فأنزل الله أوائل هذه السّورة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول، فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) وذم الظّهار بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» حتى يجعلوهن مثلهن «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» لا زوجاتهم «وَإِنَّهُمْ» المظاهرون الّذين يجعلون زوجاتهم كأمهاتهم «لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» كذبا باطلا لأن الأمهات محرمات على التأبيد بتحريم الله تعالى، والزوجات لا يحرمن بمجرد تشبيههن بالأمهات «وَإِنَّ اللَّهَ» المنفرد بأمر عباده كثير الصّفح والسّماح والمنّ والعفو عنهم وعما سلف مما وقع من المظاهرين «لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» . مطلب في الظّهار وحكمه والمخلص منه وكيفيته والمشاورة والنّجوى والتكلم بغير لغة القوم: الحكم الشّرعي هو أن الظّهار من طلاق الجاهلية كالإيلاء راجع الآية 227 من البقرة تجد بحثه وهو أن يقول الرّجل لزوجته أنت علي كظهر أمي، ومعناه علوّي عليك حرام كعلوي على أمي، وعلوه على أمه حرام لأنهم يريدون بهذا العلو الجماع، لأن الرّجل يعلو المرأة فيه، وكذلك لو قال كبطن أمي أو شبه عضوا منها بعضو أمه، وكذلك إذا شبهها بإحدى محرماته بلفظ من هذه الألفاظ فيكون مظاهرا من زوجته، ثم بين الله تعالى المخرج من مأزق هذا اليمين مما يجعله حلّا منه ويسترد به زوجته لعصمته فقال «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» أي يرجعون عن أقوالهم لنسائهم من الألفاظ التشبيهية لهن بأمهاتهم أو غيرهن من محارمهم ليحلوا ما حرموا على أنفسهم منهن، وكيفية العود أن يبقيها عنده ولا يخرجها من بيته، ولكن لا يعاملها معاملة الأزواج حتى يكفر عن يمينه بما ذكره الله، فيعد هذا رجوعا وندما على ما وقع منه. ثم ذكر الله تعالى الكفارة التي يتحلى بها يمينه بقوله أولا «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» عتق عبد من عبيده إذا كان له عبيد، وإلّا فيشتري عبدا ويعتقه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا»

إذ يجب عليه العتق أولا ثم يعامل زوجته معاملة الأزواج إذ لا يجوز له قربانها قبل التكفير «ذلِكُمْ» الحكم الشّرعي شرعه الله لكم في تحليل المظاهرات «تُوعَظُونَ بِهِ» أيها المؤمنون وتتأدبون من أن تعودوا لمثله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (3) لا يحتاج إلى إخبار لأن أعمالكم كلها من جملة معلوماته الأزلية وإنها معروفة عنده «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» رقبة يعتقها ولم يقدر على شرائها لضيق ذات يده فصيام شهرين متتابعين تكون كفارته تخفيفا عليه وتبسيرا من ربه، وهذا الصّيام أيضا يجب أن يتمه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» مثل كفارة العتق «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» أن يصوم لكبره أو مرضه المزمن «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» كفارته تسهيلا عليه من لطف الله تعالى والإطعام يكون لكل مسكين نصف صاع من البر أو صاع من غيره وهو ما يغذي الرّجل يوما واحدا من أوسط الطّعام كما سيأتي بيانه مفصلا في الآية 92 من سورة المائدة، وكذلك يجب أن يتصدق بهذا الإطعام قبل المجامعة «ذلِكَ» البيان الشّافي والتخفيف الكافي «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتزدادوا إيمانا وشكرا وحمدا إذ لم يجعل عليكم حرجا فيما شرعه لكم إكراما لرسولكم كما هو مدون في أزله وتعملوا بما أمرتم به عن اعتقاد ويقين وصدق وحزم وتتركوا ما كان عليه أسلافكم من أمور الجاهلية التي قلدتموهم بها. واعلم أن هذه لا تعد ناسخة لما كان في الجاهلية، لأن الظّهار لم يقرر في الإسلام كشرع ولم يعمل به كمأمور به، وإنما كان عادة مستقة من عوائد الجاهلية، والنّسخ لا يدخل إلا على ما كان مشروعا كما أشرنا إليه في الآيتين 17 و 150 من سورة البقرة، وما كان عليه عمل الجاهلية لا يسمى شرعا لأنهم لم يأخذوها من شرع قديم أو يكتسبوها من تعاليم الأنبياء، إذ لا شرع ولا كتاب لهم بل من عوائد آبائهم، لأن نبيهم إسماعيل عليه السّلام اندرست شريعته ولم يترك لهم كتابا يرجعون اليه، ولهذا لم يفت به حضرة الرّسول، لأنه حكم من الأحكام ولم ننزل عليه فيه شيء، وهو لا ينطق عن هوى. قال تعالى «تِلْكَ» الأحكام المتلوة عليكم أيها النّاس في «حُدُودُ اللَّهِ» التي لا يجوز تخطيها المفروض عليكم اتباعها «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» (4) يوم القيامة عدا ما ينالونه في الدّنيا تدل هذه الآية دلالة قاطعة

على أن من لم يقبل شيئا من أحكام الله منكرا صحته فهو كافر، وعليه فإن من يصلي بلا وضوء جاحدا فرضيته فهو كافر، وإلّا فيستحق العقاب، لأن الله أمره به عند الإقدام على الصّلاة كما سنبينه في الآية السّادسة من المائدة الآتية، وقد مر نهي الجنب عن الدّخول فيها في الآية 23 من سورة النّساء، ولهذا عبّر ممن لم يتقيد بحدوده بالكافرين، وأعقبها بقوله عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بمخالفة أمرهما وانتهاك حرماتها ومعنى المحادة المعاداة والمشاقة لله ورسوله «كُبِتُوا» أحزوا وذلّوا وهلكوا منكبين على وجوههم «كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» بمعاداتهم الله ورسله رمشافقتهها هم «وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ» بمنع المخالفة والانقياد للشريعة والتباعد عن الشّقاق «وَلِلْكافِرِينَ» بها الجاحدين حقيقتها «عَذابٌ مُهِينٌ» (5) لهم يشينهم مرآه بين النّاس في المشهد العظيم «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» للحساب «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في دنياهم من خير أو شر جهرا أو سرا مباحا أو حراما إذ أَحْصاهُ اللَّهُ» عليهم كله فحفظه في كتابهم وَنَسُوهُ مع أنهم اقترفوه لعدم مبالاتهم به «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» بما يعمله خلقه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم خفيها وعلانيتها كيف وهو القائل (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية 285 من البقرة ولا تكون المحاسبة إلّا عن علم أي يعلمه ويحاسبكم عليه. فيا أيها الغافل «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» خفية وجلية لا يعزب عن علمه شيء وانه «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى» تشاور وأسرار بين «ثَلاثَةٍ» من الخلق وحدهم «إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ» حاضر معهم يعلم ما يتناجون به كما هو عالم به أزلا من قبل مناجاتهم «وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ» اثنين أو واحد «وَلا أَكْثَرَ» سبعة فما فوق إلى ما لا نهاية «إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا» في الأرض أو السّماء أو فيما تحتها وفوقها وبينهما وما فوق الماء وتحته «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في مناجاتهم ومكانها وزمانها كسائر أعمالهم الأخرى «يَوْمَ الْقِيامَةِ» حينما تنشر الأعمال بالصحف على أربابها كي يتحقق لديهم ذلك ويقولوا بعد أن كانوا ينكرون «إِنَّ

اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (7) لا تخفى عليه خافية، وإنما خص الثلاثة والخمسة في المشاورة لأن العددين أقل ما يكفي في المشاورة، ولأن الاثنين يوشك أن يتفقا على غلط أو يتخالفا في الرّأي فالثالث يكون كالحكم. ويوشك أن ينقسم كل اثنين من الخمسة فيذهب إلى رأي فيكون الخامس كالحكم أيضا يرجح رأي من ينضم إليها، فينم الغرض الذي من أجله شرعت المشاورة. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى» وهم اليهود والمنافقون إذ كانوا إذا رأوا المؤمنين طفقوا يتناجون بينهم قصدا كي يظن المؤمنون أنهم قد علموا سوء بسراياهم وغزاتهم فيحزنون، فشكوهم إلى الرّسول فمنعهم من ذلك ولم يمتنعوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ» من النّجوى ولم يمتثلوا أمر الرسول «وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ» إساءة له ولأصحابه «وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ» أولئك الخبثاء «بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» فيقولون السّام عليك بدل السّلام وراعنا بدل انظرنا واسمع غير مسمع كما مر في الآية 104 من البقرة ومع هذا فإن الرّسول يغض عنهم ولا يرد عليهم مع علمه بنياتهم بذلك، ولذلك تمادوا في مثل هذه الألفاظ المراد بها غير ظاهرها المعروف «وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ» في شأن محمد وأصحابه وعليهم وهو يزعم أنه نبيه لفعل إذ لا يعجزه شيء ولا يغفل عما نقول، فلو كان نبيا لانتقم له منا ولكنه ليس بني قاتلهم الله، بلى والله إنه لنبي وإن الله معذبهم على ذلك ومنتقم لنبيه منهم إذ يقول جل قوله «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ» عذابا يوم القيامة «يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (8) هي لمن يصلى بها، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت عليكم السّام واللّعنة، قالت فقال رسول الله مهلا يا عائشة ان الله يحب الرّفق في الأمر كله، فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم أي أنه سمع ويرد عليهم قولهم بحيث كأنه لم تحاشيا عن المقابلة بالسوء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم «إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ

الرَّسُولِ» وهذا مما يؤيد ويؤكد أن المراد بهؤلاء المؤمنين، المنافقون لا المخلصون لأنهم لا يتصور عنهم مشاورة بمعصية الرّسول، وإنما سماهم مؤمنين بحسب الظّاهر وبمقتضى زعمهم، راجع الآية 159 من آل عمران المارة وما ترشدك اليه من المواضع في بحث الشّورى والمشاورة. والنّهي عام يدخل فيه المنافق دخولا أوليا وغيره بالتبعية، كما أن قوله تعالى «وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (9) يوم القيامة فيحاسبكم على ما وقع منكم عام أيضا. قال تعالى «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ» إذا كانت بالسوء وإنها لا تضر المؤمن وانه يسوق اتباعه على فعلها «لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لأنهم يظنون أنها فيهم أو فيمن يتعلق بهم، ولذلك تغضبهم «وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ» أي نجوى الشّيطان واتباعه المتناجين لا تضر المؤمنين «شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» لأن الضّر والنّفع منه وبيده أمرهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (10) لا على غيره، وعليهم ألّا يلتفتوا إلى نجواهم، ولا يلقوا لها بالا، لأن من يتوكل على الله لا يخيّب أمله ولا يبطل سعيه. واعلم أن النّجوى تطلق غالبا على الشّر والمشاورة على الخير ويجوز استعمال كلّ منهما موضع الآخر، وهي من سوء أدب المجالسة التي نهى الله عنها وأدب عباده بها، ولذلك لا ينبغي أن يتشاور اثنان بحضرة واحد أو يتكلما بلغة لا يعرفها أو يرامزان بأي نوع من أنواع الإشارة، لأن هذا مما يقلقه ويغيظه ويسلب راحته، ولذلك نهى الشّارع عنه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا كانوا ثلاثة فلا يتنج اثنان دون الثالث. زاد ابن مسعود في رواية فإن ذلك يحزنه. وهذه الزيادة في سند أبي داود والكلام الذي لا يعرفه الثالث بمثابة المشاورة لما ورد من عرف العربية وتكلم بغيرها فذلك علامة النّفاق، أي إذا تكلم بغيرها اثنان بحضور ثالث لا يعرفها، أما إذا كان الكل يحسنونها فلا بأس. وهذا لا يعني تقبيح تعليم اللّغات الأجنبية، كلا، بل هو مطلوب، فقد ورد من تعلم لسان قوم أمن مكرهم. ولا يخفى أن كل لسان يتكلم به الرّجل بمقابلة انسان آخر لا يعرفه، فهو نصّ عنه، أما بحضور من يعرفه أو بحضور جماعة فلا بأس به. وقد نهى عنه إذا كان ينافق فيه ويتبجح

مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:

به أمام من يعرفه. أو أمام صاحب تلك اللّغة ليبين له أنه يعرف لغته وأنه يميل إليها بقصده التقرب منه، أما إذا كان التكلم بين جماعة لحاجة فجائز، والمذموم التكلم بها لغير حاجة يخشى من اطلاع الغير عليها بحضور من لا يعرفها، لأنه من علائم النّفاق. روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلمن بالفارسية فإنه يورث النّفاق. ويدل هذا الحديث على أن جميع اللّغات غير العربية إذا تكلم بها بلا موجب من تعليم أو تفاهم أو حاجة كما مر يورث النّفاق، وإنما اختار الفارسية بحديثه صلّى الله عليه وسلم دون غيرها من اللّغات لأنها أقدس منها وأكثر أهل الشّرق يتكلمون بها. مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ» التي أنتم جالسون بها لقدوم غيركم عليها «فَافْسَحُوا» وسعوا لهم ليجلسوا بينكم لأن هذا من آداب المجالسة وكرم الأخلاق التي يهذبكم الله بها ويريدكم إليها ويأمركم بها فإذا فعلتم ذلك «يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» في جميع أموركم من الأمكنة والأعمال والأرزاق وغيرها لاطلاق اللّفظ «وَإِذا قِيلَ» لكم أيها المؤمنون «انْشُزُوا» ارتفعوا وانهضوا عن مواقعكم ليجلس فيها إخوانكم القادمين عليكم الّذين يرى النّاس لهم فضلا من علم أو فصاحة أو أدب أو شجاعة أو أمارة أو فعل ما «فَانْشُزُوا» وأخلوا لهم مواضعكم وأكرموهم بالجلوس فيها ولا تضاموا أو تغضبوا، وليكن ذلك عن طيب قلب منكم محافظة على التفاضل الذي سنة الله في خلقه المنوه به في قوله «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» على غيرهم بكثرة الطّاعة وامتثال الأوامر «وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» كثيرة يرفعهم على غيرهم في الدّنيا والآخرة قال تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية 9 من سورة الزمر ج 2، والآية 254 من البقرة المارة، وهي مكررة في القرآن العظيم باللفظ وبالمعنى وهذا التفاضل نسبي بين النّاس أجمعين، حتى الأنبياء، قال تعالى (لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الآية 56 من

سورة الإسراء ج 2، وقال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) الآية 253 من البقرة المارة وفي الرّزق أيضا قال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية 71 من سورة النّحل ج 2 «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (11) وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء أناس من المهاجرين والأنصار إلى مجلس الرّسول فسلموا فرد عليهم السّلام ثم سلموا على الجالسين فردوا عليهم السّلام وبقوا قائمين حيال رسول الله لعدم وجود محل يجلسون فيه، لأن المجلس غاص بالناس، فشق قيامهم على حضرة الرسول لمكانتهم عنده، فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس يقدر أولئك النّفر وأجلسهم، فشق ذلك على الّذين أقامهم وعرف الكراهية في وجوههم، فلما أنزل الله هذه الآية طابت نفوسهم وركنت إلى أمره الذي هو من أمر الله وفيها تعليم لعباده واخبارهم بأنهم متفاضلون، وإن من الأدب أن يحترم الأدنى الأفضل، قال صلّى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت. ومن كمال الآداب احترام من هو دونه أيضا بالملاقاة والتكلم والمجالسة على أن لا يتجاوز فيه الحد بالنسبة له، مثل أن يقوم العالم أو الفاصل لمن هو دونه، فيقدم له الحداء فهذا بعد تخاسا لا أدبا، إذ لكل شيء حد يجب الوقوف عنده، لأن الإفراط والتفريط قد يقضيان للحط من كرامة الرّجل ويوجبان الغيبة له، ورحم الله امرأ جبّ الغيبة عن نفسه، بأن يتحاشى أن يفعل ما يغتاب عليه به فيقطع ألسنة الناس عنه، ومما جاء في فضل العلم ما أخرجه الترمذي عن بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدّرداء وهو بدمشق، فقال ما أقدمك يا أخي؟ قال حديث بلغني انك تحدثه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة؟ قال لا، قال ما جئت إلّا في طلب الحديث؟ قال نعم، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء،

وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر. وأخرج أبو داود نحوه وهذا الفضل لا يختص بمن يأتي لطلب العلم من مكان بعيد، بل إذا ذهب لطلبه من دار لأخرى في بلده أو حيه ينال هذا الأجر، والله ذو الفضل العظيم يضاعف لمن يشاء بحسب بعد المكان وقربه وحسب نية الطّالب، فأين من يطلبه ويتعرض لنفحاته. وجاء في بعض الأخبار كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرّابعة فتهلك، أجارنا الله من الهلاك. وروى البخاري ومسلم عن معاوية ابن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين . وأخرج الترمذي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل. وإنما بعثت معلما. ثم جلس فيهم. مطلب في تقديم الصّدقة عند مناجاة الرّسول وعفوها وبعض أحوال المنافقين في الدّنيا والآخرة: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ» أي إذا أردتم مناجاته والتكلم معه «فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» أي قبل مناجاتكم له تصدقوا ثم ناجوه «ذلِكَ» التصدق قبل المناجاة لحضرته «خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم لما فيها من احترام الرّسول والثناء الحسن والأدب الوافر والأخلاق الكاملة والاعتراف بالفضل والمحبة الصّادقة لحضرته وفي آخرتكم لما فيها من طاعة الله ورسوله وامتثال أوامره عن طيب قلب «وَأَطْهَرُ» لأن الصدقة زكاة المال والمتصدق «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا» ما تنصدقون به «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (12) بعباده الفقراء، ومن رحمتة بهم عفوهم من تقديمها ولهم أن يناجوه بلا تصدق. لما أكثر النّاس من سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصّغيرة والكبيرة وشق ذلك عليه أراد الله تعالى أن يخفف عنه ويثبط النّاس عن ذلك فأمرهم

بالتصدق عند إرادة مناجاته لا عظامها ونفع الفقراء ولئلا يقوم كلّ أحد فيما أهمه وما لم يهمه على سؤاله وليختصروا على الأهم الذي لا بد لهم من معرفته أو القضاء به إلّا ببيان الرّسول، فنزلت هذه الآية، فتوقف النّاس لأنهم لم يعرفوا بعد هذه الجهة ولم يعلموا ما هي هذه الصّدقة وكم هي، قال علي كرم الله وجهه قال لي الرسول ما ترى في قدر هذه الصّدقة أدينار؟ قلت لا يطيقون، قال فكم؟ قلت شعيرة أي وزنها ذهبا، قال إنك لزهيد أي قليل المال قدرت على قدر حالك فتصدق علي بدينار، ونزلت الرّخصة في الآية الآتية، فكان عليه السّلام يقول في خفف الله عن هذه الأمة، وقال آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد غيري وفيها منقبة عظيمة له عليه السّلام وهو أبو المناقب، وليس فيها طعن على أحد لأن الزمن لم يتسع للعمل بها، إذ نزلت الرّخصة بتركها فور اذاعة أمر الصّدقة بين النّاس والتحدث بها على أثر تصدق سيدنا علي كرم الله وجهه لأن القصد منها زيادة احترام حضرة الرّسول، وقد حصلت بمجرد نزول الآية ووقر في قلوب النّاس معناها وعرفوا المراد من مغزاها وتحاشوا عن كثرة المراجعة له. قال الكلبي ما كان إلّا ساعة من نهار، وقال مقاتل كان بين هذه الآية وبين آية الرّخصة عشرة أيّام. وهو الأصح إذ لا يمكن إذاعتها للآفاق دون هذه المدة بالنسبة لذلك الزمن. قال تعالى «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ» مع حضرة الرّسول «صَدَقاتٍ» أي خفتم العيلة والفاقة أم بخلتم بهذه الصّدقة أو خشيتم من أدائها «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به من التصدق فقد خفف الله عنكم ويسر عليكم وأزال عنكم المؤاخذة على عدمها وسهل لكم مناجاة الرّسول بدونها وجعلها لكم مجانا كما كانت إذا حصل المقصود منها وهو تعظيم حضرة النّبي واحترامه والتباعد عن الإفراط في سؤاله والميزة بين المؤمن والمنافق من حيث تلقي هذا الأمر بالقبول «وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في عدم مسارعتكم إلى فعل هذه الصّدقة. وتشير هذه الآية إلى تأخرهم عن أداء تلك الصّدقة حال نزول هذه الآية ذنب بالنسبة لمن هي لأجله وإلى زيادة تعظيم قدر الرّسول عند ربه عز وجل، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»

تداركا لما فاتكم في المسارعة لإنقاذ أمره قبل إنزال التخفيف والترخيص بعدمه أي إذ فاتكم التصدق في المناجاة وفرطتم بها فلا تفرطوا بإقامة الصّلاة وأداء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمركم وينهاكم، بعد بل سارعوا له واغتنموا فعله ولا تقاعسوا ولا تتوانوا عنه أو تعتذروا منه وفيها إشارة إلى فعل أحد هذه الثلاثة قبل المناجاة لحضرة الرّسول بدلا من الصّدقة «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (11) وهذه إحدى الآيات الثلاث التي نوهنا بها في المقدمة في بحث النّاسخ والمنسوخ وبينا توجيهها هناك وإنها غير ناسخة للآية قبلها والآية الثانية مرت في سورة المزمل ج 1 والثالثة في سورة الأنفال المارة، راجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة ج 1 ولما اختلا المنافقون باليهود ونصحوهم (بل غشوهم) عن موالاة الرّسول ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين وقالوا لهم نحن نتولاكم من دونه أنزل الله عز وجل «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وهم اليهود «ما هُمْ» أولئك المنافقون «مِنْكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان «وَلا مِنْهُمْ» أي اليهود الّذين ولوا أمرهم المنافقين وهم كما وصفهم الله مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء الآية 43 من سورة النّساء المارة «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ» بأنهم مؤمنون مثلكم «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (14) انهم كاذبون يحلفهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة لكذبهم وحلفهم على الكذب إنه ليس بكذب «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (15) في دنياهم هذه إذ «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» وقاية يتقون بها حفظ أنفسهم من الجلاء والأسر والقتل وأموالهم وأولادهم ونسائهم عن الاستيلاء عليها والسّبي «فَصَدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وأعرضوا عن رسوله في الدّنيا «فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (16) جزاء ذلك، قالوا إن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم قال لأحدهم عبد الله بن نبتل في قولهم لليهود لا توالوا الرّسول إلخ كما مر آنفا فحلف أنه لم يقل وجاء بأصحابه فحلقوا كذلك فكذبهم الله تعالى في هذه الآيات التي أنزلها على رسوله فيما وقع منهم قاتلهم الله ما أكذبهم، وهؤلاء أشد من مغالاتهم، لأن حب المال والدّنيا هو الذي حدا بهم إلى ذلك، ولا ريب أن الّذين لا يؤمنون بالآخرة يغريهم حب المال والرّئاسة

قال تعالى «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ» المنافقون المتولون لليهود والحالفون كذبا متخذون إيمانهم وقاية لصون دمائهم وأموالهم وأولادهم، الصادون النّاس عن سبيل الله المعرضون عنه هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (17) أبدا لا يتحولون عنها. واعلم يا حضرة الرسول أن هؤلاء المنافقين وأصحابهم اليهود «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» في الموقف المهيب فيسألهم عما وقع منهم في الدّنيا من هذه الأحوال وغيرها وهو غني عن سؤالهم لأنه يعلم كلّ ما وقع منهم أزلا ولكن ليفضحهم على رؤوس الأشهاد «فَيَحْلِفُونَ لَهُ» في ذلك المشهد العظيم «كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» يا أكمل الرسل بأنهم صادقون وهم كاذبون «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» من قبول أيمانهم الكاذبة عند الله كما كانت تقبل منهم بالدنيا ظاهرا، كلّا ليسوا على شيء من ذلك أصلا «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» (18) في الدّنيا والآخرة تشير أداة التنبيه في مطلع هذه الآية والتوكيد بأن واللام على توغلهم بالنفاق والكذب وتعودهم عليهما وفساد ظنهم على رواج إيمانهم بين يدي علام الغيوب وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ» أي استحوى واستولى عليهم فملك قلوبهم وغلبهم على أمرهم وأحاط بهم من كلّ جانب، وجاء هذا الفصل على خلاف قاعدة اللّغويين من أن الواو إذا تحركت بالفتحة تقلب الفاء على هذه القاعدة يكون استحاذ إلّا أنه جاء على الأصل، ومثله استصوب واستشوف، والأحوذي السّائس الضّابط للأمور، قالت عائشة رضي الله عنها كان عمر أحوذيا أي مدبرا للأمور ضابطها وهؤلاء الّذين استولى عليهم الشّيطان «فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ» إذ أشغل ليهم عن التفكير والمراقبة بجمع حطام الدّنيا وتدبير شئونها، فأشغل حواسهم الظّاهرة والباطنة وحصرها في أمور الدّنيا وصرفها عما يتعلق بالآخرة فلم يبق في قلوبهم خطرة للتفكير في آلاء الله أو لمحة لشكر نعمائه أو حركة للنظر في ملكوت أرضه وسمائه وأشغل ألسنتهم عن ذكر الله بالغيبة والنميمة وقول الزور في الكذب والافتراء والبهتان، فلم يترك لها فسحة لتلاوة شيء من ذكره ولا فرجة لتحميده وتسبيحه، وأشغل جوارحهم بالأكل والشّرب واللّباس والمساكن

[سورة المجادلة (58) : الآيات 21 إلى 22]

فلم يفسح لهم طريقا للانفاق وعمل الخير ومساواة الفقراء والمساكين «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم هم «حِزْبُ الشَّيْطانِ» وأولياؤه وحلفاؤه وأنصاره «أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» (19) في الدّارين. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» يعادونهما وأوليائهما ويتعدون حدودها ولا يعملون بأوامرها «أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» (20) في جملة من أذلهم الله في الدّنيا وإن ما هم عليه من النّعم الفانية لا قيمة لها لأن مرجعهم للآخرة التي سيهانون فيها ويحقرون ويعلمون أن ما رأوه في الدّنيا هو ذلّ أيضا بسبب تكالبهم على جمعها وعدم مبالاتهم بجمعه إذ لا يتورعون عن مغصوب وحرام، فالعز الذي نالوه من هذا المال هو ذل أيضا من حيث النّتيجة. قال تعالى «كَتَبَ اللَّهُ» في لوحه المحفوظ أذلا «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» المحادين والمخالفين والمعرضين مهما كانوا عليه من قوّة ومنعة «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ» لا يغلب منيع لا ينال «عَزِيزٌ» (21) لا يدرك عظيم لا يرام راجع الآية 172 من الصّافات في ج 2 والآية 56 من المائدة الآتية واعلم يا سيد الرّسل انك «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فإذا رأيت متصفا بالإيمان موادا لهؤلاء فاحكم بنفاقه وبأن إيمانه صوريّ لا ينتفع به، لأن المؤمن لا يوالي الكافر ولا يخالف الله ورسوله ولا يحب أعدائهما، لذلك من الممتنع جدا أن تجد قوما مؤمنين متصفين بتلك الصّفات «وَلَوْ كانُوا» أي المحادون «آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» فلا ينبغي أن يوالوهم، بل يجب عليهم أن يخذلوهم ولو كانوا أولى الناس بهم. ولهذا البحث صلة في الآية 34 من سورة التوبة الآتية فراجعها. ولهذا فإن عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه يوم أحد، وعبد الله استأذن حضرة الرّسول بقتل أبيه عبيد الله أبي بن سلول كما مر في الآية 8 من سورة المنافقين، وأبا بكر الصّديق رضي الله عنه أراد قتل ابنه يوم بدر فمنعه حضرة الرسول من مبارزته، ومصعب ابن عمر قتل أخاه عبد الله وأبو عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وعلي كرم الله وجهه قتلوا عتبة وشيبة بن ربيعة، والوليد ابن عتبة يوم بدر وهم من عمومتهم، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام

تفسير سورة الحجرات عدد 20 - 106 و 29

ولم تثنهم قراباتهم لهم عن عزمهم لأجل الله وصرفهم في الله فقتلوهم ابتغاء مرضاة الله وهذا من قوة إيمانهم بالله وشدة الصّدق لرسوله وغاية الوثوق بوعد الله ونهاية التمسك بنصرة الله رغبة فيما لهم عند الله وأمثال هؤلاء هم الّذين تكفل الله بنصرتهم ولو يوجد الآن من هؤلاء عصبة لما حل بالمسلمين ما حل من الذل والهوان والقتل والأسر والجلاء والاستيلاء على أوطانهم وأموالهم وذراريهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم ألهم أمة محمد رشدهم ووحد كلمتهم على الحق وانصرهم على عدوهم «أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم الّذين لا تأخذهم في الله قرابة ولا صداقة ولا لومة لا ثم في ارحم أو حبيب فيعادون من حادّ الله ورسوله ويوالون من والاهما ويحبون من وادّ الله ورسوله هؤلاء الأبرار المخلصون «كَتَبَ» الله وأثبت «فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» للكامل الخالص «وَأَيَّدَهُمْ» قواهم وأعزّهم «بِرُوحٍ مِنْهُ» قذفه في قلوبهم فنورها وقوى عزائمهم وألقى الخوف في قلوب أعدائهم والرّعب فيمن يناوئهم فينصرهم في الدّنيا «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة «خالِدِينَ فِيها» لا يتحولون عنها أبدا إذ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ» الراضون المرضيون العاملون المخلصون هم «حِزْبُ اللَّهِ» المؤيد بتأييده المنصور بنصره «أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (22) الناجحون الفائزون الرّابحون فيعملهم فليعمل العاملون وبأوصافهم فليتنافس المتنافسون اللهم اجعلنا، منهم هذا والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم وسلم. تفسير سورة الحجرات عدد 20- 106 و 29 نزلت بالمدينة بعد المجادلة وهي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة والف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا، تقدم بيان السّورة المبدوءة بما بدأت به أول سورة الممتحنة المارة، ويوجد أربع سور مختومة بما ختمت به هذه النّمل والمنافقون وهود ومثلها في عدد الآي التغابن فقط لا ناسخ ولا منسوخ فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» نهى الله تعالى عباده، بعدم التقدم على نبيه لأن التقدم بين يدي رسوله تقدم بين يدي الله وقد أراد وهو أعلم بهذا التقدم مطلقه فيشمل التقدم بالقول والفعل وهذا من جملة تأديب الله تعالى عباده احتراما لحبيبه صلّى الله عليه وسلم الذي قدمه على خلقه أجمع وقد حذر ومنع جل جلاله في هذه الآية من أن يتكلم أحد قبل أن يتكلم أو يمشي إذا كان معه قبل أن يمشي أو يفعل شيئا ما قبل أن يفعل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في محافظة حقوق نبيكم وتأدبوا بين يديه أي بحضوره، لأن الحاضر أمام الرّجل كأنه واقف أو قاعد بين يديه «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولونه «عَلِيمٌ» (1) بما تفعلونه وهذه الآية عامة في جميع الأحوال لا يخصصها ما روي عن جابر بأنها نزلت حينما أراد صلّى الله عليه وسلم الذبح يوم الأضحى أي لا تذبحوا قبل أن يذبح لأن أناسا ذبحوا قبله فأمرهم بإعادة الذبح لما روي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النّسك في شيء- أخرجه الترمذي. ولا يقيده أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها من أنها نزلت في النّهي عن صوم يوم الشّك لما جاء عن عمار بن ياسر قال: من صام يوم الشّك أي في اليوم الذي يشك فيه النّاس (هل هو من شعبان أو من رمضان) فقد عصى أبا القاسم. أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح بل مطلقة جارية على عمومها في كلّ ما من شأنه معنى التقدم عليه صلّى الله عليه وسلم، ومن جملة الآداب التي علمها الله لعباده وأمرهم بها تجاه حضرة رسوله الأعظم قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» أي تأدبوا عن هذا أيضا لا تفعلوه لأنه ليس مثلكم إلّا في البشرية، أما في غيرها فهو فوق خلق الله أجمع، قال الأبوصيري: فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم دع ما ادعته النّصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

أي اجتنب هذا وقل في مدحه ما شئت، لذلك يجب عليكم حينما تخاطبونه أن تخاطبوه بصوت منخفض بقدر ما تسمعونه لأن الزيادة على ذلك مخلّة بالأدب معه والاحترام تجاهه والتوقير لمقامه. واعلموا أن جعل كلامكم أعلى من كلامه أو زيادة على الحاجة المقتضية للاسماع نقص للتعظيم المطلوب منكم أمامه، وموجب لوصمكم بقلة الأدب وسوء الأخلاق، ومفض لإحباط أعمالكم ومحق ثوابها، ولهذا قال تعالى «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» (2) بذهاب أجرها بسبب عدم تفخيمكم نبيكم وإخباتكم له، فلو علمتم أن رفع الصّوت والجهر به أمام رسولكم يذهب ثواب أعمالكم ويصفكم بسوء الأدب وأنه يقضي لإزعاج حضرة الرّسول ويؤدي لكراهته لما فعلتموه، ولهذا ينهاكم الله ويحذركم لتتعظوا وتحترزوا من كل ما يؤدي لعدم توقيره. فنقيدوا بهذه الآداب ولا تخطرها لتكونوا على بصيرة من أمركم لقاء نبيكم، لأن هذه الآية تشير إلى ذم من يصدر منهم مثل ذلك، كما أن قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» تفيد المدح لمن يغض صوته ويخضع له هؤلاء الّذين اختبرهم الله بذلك قد هيأ أفئدتهم لتقراه وجعلها مخلصة له موقنة به «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (3) عند ربهم. مطلب في خطيب وشاعر بني تميم وما رد عليهما خطيب وشاعر حضرة الرّسول وفي سرية عتبة الفزاري وسرية الوليد بن عقبة: قال جابر: إن سبب نزول هذه الآيات هو لما جاء بنو تميم نادوا يا محمد أخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين، فقال صلّى الله عليه وسلم إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين، فقالوا جئنا نشاعرك ونفاخرك، قال لا بالشعر ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا، فقام منهم عطاء بن حاجب فذكر فضله وفضل قومه، فقال صلّى الله عليه وسلم لخطيه ثابت بن قيس أجبه، فأجابه بما أسكته وفند قوله وأثبت أنهم دون ذلك بكثير، ولم يزل به حتى أفحمه وعرّفه أنه دون ما قال، ثم قام شاعرهم الزرقاوي وأنشد بإطراء قومه فقال: أتيناك كيما يعرف النّاس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإن رءوس النّاس من كلّ معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وان لنا المرياع في كلّ غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهائم ولما انتهى أمر صلّى الله عليه وسلم شاعره حسانا أن يجيب شاعرهم، فقال: بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... بصير وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم فقال صلّى الله عليه وسلم لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن النّاس قد نسوه، فكان قوله عليهم أشد من قول حسان الذي ذكرهم بما هو واقع منهم، ومعلوم لديهم، لأنه تأييد له وتأكيد، ثم رجع حسان لشعره فقال: فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن يقسموا في المغانم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تفخروا عند النّبيّ بدارم وإلّا ورب البيت قد مالت القنا ... على هامكم بالمرهفات الصّوارم فقام منهم الأقرع بن حابس وقال إن خطيبهم أحسن من خطيبنا وشاعرهم أجود من شاعرنا وأسلم. ثم أعطاهم رسول الله وكساهم وتخلف عنهم عمرو بن الأهشم فأعطاه مثلهم، فأزرى به بعضهم بسبب تخلفه وارتفعت أصواتهم وكثر لغطهم عند رسول الله، فنزلت. واعلم إنما يصح هذا إذا كانت هذه الحادثة قبل إسلام الأقرع وقبل سنة الوفود أما بعدهما فلا يصح أن يكون سببا للنزول لأن إسلام الأقرع كان قبل واقعة حنين والوفود كانوا سنة تسع فليراجع. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال أنا من أهل النّار، واحتبس عن النّبي صلّى الله عليه وسلم فسأل عنه سعد ابن معاذ فقال يا أبا عمر ما شأن ثابت أيشتكي فقال سعد يا رسول الله إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال ثابت أنزلت هذه، ولقد علمتم اني من أرفعكم صوتا على رسول الله، فأنا من أهل النّار، أي ولذلك احتجب عن رؤية حضرة الرّسول لأنه علم أن رفع الصّوت قلة أدب وعدم احترام لحضرته الكريمة، فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله بل هو من أهل الجنّة، ثم صار ابو بكر وعمر وغيرهما لا يكلمون حضرة الرّسول إلّا كأخي السّرار

وصار حضرة الرّسول يستفهم مخاطبه من شدة ما يخفض صوته، ثم أنب الله قوما آخرين لم يتقيدوا بآداب الله التي يريدها من عباده أمام رسوله، فقال عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (4) إن ذلك سوء أدب منهم وقلة احترام لنبيهم، وانهم مؤاخذون عليه، ولكن سفههم وقلة عقولهم وعدم مبالاتهم حدا بهم إلى هذا الحد. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ» ولم يجرءوا على مناداتك كما ينادون أحدهم «لَكانَ» صبرهم مراعاة لحسن الأدب وتوقيرا للمنادى «خَيْراً لَهُمْ» في دنياهم لئلا يوصموا بسوء الأدب تجاه نبيهم المعظم عند الله، وفي دينهم الموجب عليهم احترامه وتمييزه عنهم وفي آخرتهم، لأن ما وقع منهم من قلة الأدب يدون في صحيفتهم ويعد من جملة سيئاتهم، وسيذكرون بها يوم الحساب وقد يشملها عفو الله «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لما وقع منهم لأنه عن جهل لا عن قصد «رَحِيمٌ» (5) بهم إذا تابوا وأنابوا. قال ابن عباس بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية إلى ابن العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما بلغهم ذلك تركوا أهلهم وهربوا، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله، فجاء رجالهم ليفدوهم، فوافقوا رسول الله قائلا وصارت ذراريهم تبكي فجعلوا ينادون يا محمد أخرج إلينا، فخرج إليهم وحكم فيهم الأعور بن يشامّه من أهل دينهم بطلبهم، فحكم أن يعتق النّصف ويفادي النّصف، فرضي صلّى الله عليه وسلم ورضوا هم أيضا. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» أي خبر سوء وهو المراد به هنا ويكون في الخير كما يكون في الشّر راجع الآية 94 من سورة النّساء المارة «فَتَبَيَّنُوا» أطلبوا البيان لذلك الأمر المخبر به ذلك الفاسق واستكشفوا حقيقته ولا تعتمدوا على قوله فتقعوا في الخطأ إذا نفذتم ما يقتضي لذلك الخبر، فإياكم أن تعجلوا في إنفاذه واحذروا عاقبته من «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» فتضروهم قبل أن تقفوا على جلية أمرهم لما يلحقكم من الغضب الموجب للمسارعة بالانتقام فتندموا من حيث لا ينفع النّدم «فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (6) إذ يتبين خطأكم. وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن

أبي معيط إلى بني المصطلق بعد واقعتهم الملح إليها في الآية 8 من سورة المنافقين المارة، لأخذ صدقاتهم، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فخرجوا لملاقاته تعظيما لأمر الرّسول، فحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، فرجع وقال يا رسول الله أرادوا قتلي، فغضب رسول الله وهمّ بغزوهم، ثم أنهم لمّا رأوا رسول الله رجع دون أن يصل إليهم أو يكلمهم، فطنوا لما كان بينه وبينهم من العداوة فأتوا المدينة، وقالوا يا رسول الله سمعنا بقدوم رسولك فخرجنا نتلقاه إكراما لك فبدا له الرّجوع قبل أن يلقانا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضبك، فلما سمع قولهم والعداوة التي ذكروها زال منه بعض ما كان وبعث معهم خالد بن الوليد وقال له خفية عنهم انظر إذا رأيت ما يدل على أنهم مؤمنين فخذ منهم الزكاة وإلا فالسيف، فوافاهم مسمع أذان المغرب والعشاء ولم ير إلّا الطّاعة، فأخذ صدقاتهم وقدم بها على رسول الله وأخبره بالأمر الذي رآه منهم فنزلت وهي كالآيات قبلها عامة في معناها تأمر بالتريث والأناة وترك الاستعجال، والتثبت من الأخبار وعدم الاعتماد على قول الفرد مثل الوليد المذكور، الذي ظن غير ما في نية القوم وتوهم ما ليس يخطر ببالهم بسبب عداوة تصورها في قلبه كانت قبلا فمحاها الإسلام من قلوبهم فأخطأ عليهم بكلام وفعل لم يصدر منهم، ولولا تأتي حضرة الرّسول ومجيئهم إليه وإخبارهم بما وقع من رسوله لوقع فيهم ما لا يحمد ظلما. وإذا كان مثل الوليد يقع منه هذا الغلط عند رسول الله فغيره من باب أولى عند الغير ولا سيما في هذا الزمن الذي قل فيه الأمن وفقدت منه الثقة ومحي فيه الاعتماد وفقد الصدق، وإنما سماه الله تعالى فاسقا لأنه تسارع وأخبر بما لم يتحققه، فكان بعمله هذا خارجا عن الطّمأنينة متجاوزا حدود التأني، قائلا ما لم يسمع، وباهنا قوما غافلين عما خطر بباله. ألا فلينتبه العاقلون، ولينته الجاهلون عن التسرّع فيما ينقل إليهم، وليحققوا حتى لا يتسببوا لظلم البريء بإخبار فاسق، وليسمحوا مهما وجدوا طريقا الصّلح. واعلم أن لفظ فاسق يطلق على من تعدى الحدود وخرج عن ملاك الأمر. قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ» الواجب تعظيمه وتوقيره واحترامه، فاحذروا أن تخبروه بباطل فإن الله مولاه يطلعه على

خبايا الأمور وما تكنه الصّدور فيفضحكم ويكشف ستركم ويظهر ضغائنكم «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ» الذي تحدثونه به ويأخذ برأيكم دون تأن وتروّ «لَعَنِتُّمْ» أنمتم وهلكتم، ولكنه، لم يطعكم، وذلك أن بعض الناس زينوا لحضرة الرّسول الإيقاع ببني المصطلق بسبب إخبار الوليد بأنهم أرادوا قتله مع أن إخباره غير مرتكز على حقيقة، وناشىء عن سوء ظنه وعدم ترويه وتصوره ما لم يكن عند القوم من خوفه الذي استولى على قلبه وارجعه عن تنفيذ أمر الرّسول وسول له ما قاله له، وقد مدح الله حبيبه بقوله «وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» فتربصتم، ولم تأخذوا بقوله المجرد العاري عن الصّحة، وفعلتم ما علمتم به من خطأ المختبر وصواب التروي والأناة في الأمر، لأن لإيمان الصّادق يمنع صاحبه من العجلة ويأمره بالتأني والمراد بتزيين الإيمان زيادته لأنه يزداد في كلّ لحظة عند المؤمن المخلص حسنا وثباتا ولا يسأم منه بخلاف سائر المحبوبات فإن السّأم قد يلحقها، مثله مثل كتاب الله كلما كررت قراءته ازداد قلبك رغبة فيه بخلاف سائر الكتب، قال الأبوصيري: فلا تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسأم على الإكثار بالسأم يريد أن آيات الله تعالى لا توصف بالملل ومهما كررتها تزداد رغبة فيها على حد قوله: يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا «وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ» وهذه الجملة فيها من محسنات البديع المقابلة على حد قوله: ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس في الرّجل لأنه قابل كره بحبّب، وزيّن، والفسوق والعصيان بالإيمان، وهذه الكلمات الثلاث جاءت بمقابلة الإيمان الكامل وهو ما اجتمع فيه ثلاثة أمور تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان فذكر جل ذكره بمقابله حبب إلخ ... وهو التصديق بالجنان، وذكر الفسوق الجامع لأنواع الكذب وغيره بمقابلة الإقرار باللسان وذكر

مطلب في الصلح ومراعاة العدل بين الطرفين من قبل المصلحين والسخرية والظن والتجسس والغيبة والشعوب وتفرعاتها:

العصيان بمقابلة العمل بالأركان، وعليه البيت قابل ما أحسن بقوله وأقبح، والدّين بالكفر والدّنيا بالإفلاس، لأن علم البديع كغيره من العلوم التي أخذت من القرآن العظيم فهو أصل لجميعها وهي فرع عنه قال تعالى «أُولئِكَ» الّذين حبب إليهم الإيمان فأحبوه وتمسكوا به فتغلغل في قلوبهم «هُمُ الرَّاشِدُونَ» (7) المهتدون إلى الأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة الّذين يطيعون أوامر الله ورسوله ولا يقفون أمام أمره كخالد بن الوليد رضي الله عنه إذا تلقى أمر الرّسول برحابة صدره وذهب إلى القوم فوجدهم على غير ما عزي لهم فحقن الله دماهم وصان أصحاب الرسول من الوقيعة في إثم قتالهم لأنهم راسخون على إيمانهم وأن خروجهم لم يكن كما زعم الوليد بل احتراما لرسول الله الذي أرسله إليهم وتكريما له فكان تحبب الإيمان الذي منه التأني والتروي في الأمور وتكريه الكفر الذي فيه العجلة والمسارعة «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» لكم أيها المؤمنون «وَنِعْمَةً» عليكم زائدة على نعمه في تحسين أخلاقكم وتهذيب آدابكم وخيرا كثيرا وأدبا كريما «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما بينهما من التفاضل العظيم «حَكِيمٌ» (8) فيما يفعل من تفضيل أناس على آخرين كما هو حكيم في جميع أفعاله وفي جملة تأديب الله تعالى نفوس عباده وتهذيبها قوله جل قوله «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» جمع الضّمير باعتبار معنى الطائفتين على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية 41 من سورة النمل ج 1 ولبحثها صلة في الآية 26 من سورة النّور المارة وما ترشدك اليه من المواضع. مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها: ثم أمرهم جل أمره بما هو من شأن المؤمن وحق المسلم على المسلم بقوله «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» أيها المؤمنون لأنّ في قتالهما نقصا من عددكم وإثارة لغرس العداوة فيكم والبغضاء التي يتوارثها الأبناء عن الآباء بينكم «فَإِنْ بَغَتْ» تعدت واستطالت «إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى» فلم تنتصح ولم تقبل الصّلح وأصرت على بغيها ومواصلة عداوتها «فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي» يا أيها الحكام وأديموا مقاتلتكم

لها «حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» وترجع عن غيها وتسلم لما في كتاب الله الموجود بأيديكم من الصّلح وإزالة الشّحناء وقطع مادة البغض «فَإِنْ فاءَتْ» عدلت ورجعت عن مواصلة العداء وجنحت للسلم «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ» الذي يحملها على الإنصاف والرّضى بحكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما القتال لئلا يكون بينهما قتال آخر، لأن القتال الصّحيح يزبل حزار الصّدور ويمحو مادة الحقد، وإنما قيد الصّلح بالعدل ليعلم أنه بعد خضوعهما لحكم الله لا يجوز أن يميل المصلحون عليهما أو على أحداهما بسبب عدم قبولهما الصّلح مبدئيا، لأن تسليمها لأمر الله أزال ذلك وأوجب أن تعامل مع الفرقة المقابلة لها معاملة حقية متساوية، ولهذا أكد الله تعالى تلك الجملة بقوله «وَأَقْسِطُوا» أيها الحكام وولاة الأمور والمتوسطون بين النّاس بالصلح بينهما ولا يحملنكم عدم الرّضاء بالصلح أولا أن تحيفوا بهم أو تجوروا عليهم بل يجب عليكم أن تمحوا ذلك من صدوركم ولا تتحظروه بقلوبكم «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (9) في أحكامهم وأقوالهم وأعمالهم وسائر أمورهم. واعلم أن فعل أقسط ضد فعل قسط راجع الآية 23 من سورة الجن في ج 1 ثم بين المادة الموجبة للعدل بقوله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» في الدّين والولاية لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى فإذا تنازع هؤلاء الاخوة «فَأَصْلِحُوا» أيها الاخوان المؤمنون «بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» المختلفين وهذه الجملة تقرير للأمر بالصلح بين المتقاتلين ثم أكد تحذيرهم من الميل لطرف دون آخر بقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن ترجحوا أناسا على آخرين ولو كانوا أولي قربى منكم وأحسنوا نيتكم بالإصلاح بين النّاس كلهم وعاملوهم سواسية «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (10) من قبل الله فتنالوا رحمته الواسعة التي حملتكم على التدخل بالإصلاح بين إخوانكم رحمة بكم وبهم من أن يتجاوز أحدهما على الآخر أو يأخذ ماله بغير وجه شرعي لأن الجزاء من جنس العمل. أخرج به جرير عن السّدى قال. كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد، فأرادت أن تزور أهلها، فحبسها في علية، فبعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، وكان الرّجل قد خرج فاستعان بأهله، فجاء بنو عمهم ليحولوا بين المرأة وأهلها فتراجعوا

واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية. وقال قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة بحق فقال أحدهما للآخر لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، فتدافعوا بينهم وتناولوا بعضهم فنزلت. وكلّ هذا جائز لأن يكون سببا للنزول، لأن الآية عامة في جميع المسلمين وحكمها باق إلى يوم القيامة، وكذلك الآية التي بعدها فهي عامة في كلّ من يقع منه شيء مما نهى عنه فيها وفي كل الآيات لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب. أما ما رواه البخاري ومسلم عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم لو أثبت عبد الله بن أبي الحديث إلى أن قال فبلغنا أنها نزلت فيهم. وما روياه عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركب على حمار إلى أن قال: وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن سلول قبل واقعة بدر فلا يصحان أن يكونا سببا للنزول. ومما يدل على ضعف القول الأوّل كلمتا قيل وبلغنا المشيرتان إلى توهين الرّواية، وعلى ضعف الثاني أنه قبل إسلام عبد الله لأن هذه نزلت بعد إسلامه بكثير وعبد الله منافق لم يزل على نفاقه وما كان إسلامه إلا صوريّا ومات على نفاقه كما أشرنا إليه آخر سورة المنافقين، وهو أحقر من أن ينزل الله فيه قرآنا أو يسميه مؤمنا، وقد تسامح من عدّ ما جاء في هذين الحديثين سببا للنزول، لأن هذه الآية متأخرة عن حادثة بن سلول المارة في سورة المنافقين فظهر أنها نازلة في طائفتين من المؤمنين وفي اقتران هذه الآية بالشرط إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يصدر القتال من المؤمنين لا أن ذلك لم يقع، بل وقع حقيقة، وإن المقاتلة تستعمل مجازا المضاربة ولم تزل تستعمل لغة حتى الآن يقول الرّجل لابنه وغيره لأقتلك وهو يريد أضربك، لا القتل بمعنى الذبح، من لفظ البغاة يطلق على الخارجين على الإمام والحكم فيهم أن يرسل الإمام إليهم من ينصحهم ويكشف شبهتهم ويقف على الأسباب الدّاعية لخروجهم ويدعوهم إلى الطّاعة والانقياد لحكم الله، وإذا علم عذرا بخروجهم من ظلم ونحوه وجب على السّلطان إزالته، فإن لم يكن شيء من ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أمر الدّنيا أيضا وأصروا على بغيهم بقصد قلب الحكم أو الانحياز لدولة أخرى فله أن يقاتلهم حتى يركنوا إلى الطّاعة ويسلموا تسليما مطلقا. واعلم أن قتال الخوارج يمتاز على قتال الكفار بثلاثة أمور، أن لا يتبع مدبرهم إذا هرب، ولا

[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 إلى 18]

يقتل أسيرهم إذا استسلم، ولا يذقف أي لا يجهز على جريحهم بأن يقتل أو يضرب مرة أخرى ليموت بل يترك وشأنه حتى يشفى أو يموت. ومن جملة ما أدب الله به هذه الأمة وهذبها وحسن أخلاقها هو قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ» عند الله وبعض خلقه وعدم معرفتكم بالأخيرية لا يكفي «وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» من حيث لا يعلم السّخر فضيلة المسخور منه، وقد يعرفها غيره، قال عليه السّلام إن أحدكم ليرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» لا تطغوا ولا تحضروا أو تعيبوا بعضكم بعضا ولو بالاشارة أو الرّمز، لأن من عاب أخاه فقد عاب نفسه، ولا يخلو أحد من عيب، فكيف يعيب المعيب غيره؟ ورحم الله امرأ شغله عيبه عن عيوب النّاس راجع أول السّورة الهمزة في ج 1. قال ابن عباس جاء ثابت بن قيس بن شماس حتى انتهى إلى حضرة الرّسول، فقال لرجل كان بينهما تفسح، فقال له الرّجل أصبت مجلسا فاجلس، فسئل عنه فقال الرّجل أنا فلان، فقال له ثابت بن فلانة وذكر أما له كان يغيرها في الجاهلية، فاستحى الرّجل ونكس رأسه، فنزل أول هذه الآية وقال أيضا أن حفصة رضي الله عنها قالت إلى صفية بنت حيي رضي الله عنها، يهودية بنت يهوديين، قال أنس فشكتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لها، إنك لابنة نبي، يريد اسحق عليه السّلام، وإن عمك لنبي يريد إسماعيل عليه السّلام وإنك لتحت نبي يريد نفسه صلّى الله عليه وسلم، فكيف تفتخر عليك؟ فنزل الشّطر الثاني منها. وقال جبير بن الضّحاك قدم علينا رسول الله وليس منا رجل إلّا وله اسمان او ثلاثة، فجعل رسول الله يقول يا فلان فيقولون يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فنزل آخرها وهو قوله تعالى «وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» أي لا يدعون أحد أخاه بلقبه الذي يكرهه ولا ينبغي ان يقال لكتابي أسلم يا يهودي يا نصراني، وكذلك غير الكتابي فلا يقال يا مشرك يا مجوسي يا بوذي يا صابئي لقوله تعالى «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ» لكل أحد ويكون أشد قبحا شؤما وأعظم وزرا إذا كان «بَعْدَ الْإِيمانِ» لأن المؤمن لا يليق ان

يدنس إيمانه بما يؤثمه عند ربه، وإذا وقع منه فعليه ان يسارع للاستغفار والاستسماح ولهذا قال تعالى «وَمَنْ لَمْ يَتُبْ» بعد هذا النّهي فيسخر من أخيه أو يسميه بما يكره أو يعيبه او يحقره فيكون مخالفا لأمر الله في ذلك، وإذا كان له اسمان فليسمه بأحبهما إليه، ولذلك أتيهم الله بقوله «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (11) أنفسهم بتعديهم عليها ومخالفتهم أمر الله تعالى وتجاوزهم على إخوانهم لأن من يسمى بما يكره فكأنما عيّره وعابه، ومن عيّر أخاه فقد ظلم نفسه واستحق العقاب على او العتاب على ذلك وكذلك كلّ ما يحزن المسلم من قول او فعل وعليه ان يسره فمن حسن إسلام المرء إدخال السّرور على أخيه المؤمن، ومن جملة تأديب الله تعالى عباده والسّير بهم الى المثل الأعلى قوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» يوقع صاحبه بالسوء ويستحق العقوبة عليه وإذا كان بعضه إثما فعليه ان يتباعد عنه كله لأنه لا يعرف الذي يأثم به منه، وينبغي أن يظن خيرا أو يترك لئلا يقع فيما يكره أو يثلب ولهذا قال تعالى «وَلا تَجَسَّسُوا» على عيوب النّاس ولا تتبعوا عوراتهم التي سترها الله عليهم فتفضحوهم والله يحب السّتر، وجاء عنه صلّى الله عليه وسلم من كشف ستر أخيه كشف الله ستره «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» بما فيه وبما ليس فيه لاطلاق النّص، فليقل أحدكم خيرا أو ليصمت. وتوجد أشياء مستثناة من هذه الآية سيأتي ذكرها بعد. ثم إن الله تعالى لما مثل لخلقه ما يناله المعتاب من عرض أخيه بقوله «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» كأنهم قالوا لا يحب أحدنا ذلك، فلما استجوبهم واعترفوا بأن أحدا لا يحب جيفة أخيه بغير ضرورة وأنه لا يمكنهم إنكار كراهيته. قال تعالى «فَكَرِهْتُمُوهُ» كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فلا تغتابوا أحدا بما يكره، ولا تجسسوا عليه، ولا تظنوا فيه سوء، وإن ما وقع منكم قبل صدور هذا النّهي توبوا منه ولا تعودوا إليه «إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ» على من تاب يقبل توبته ويعفو عنه «رَحِيمٌ» (12) بعباده يبين لهم مضارهم ومنافعهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم. قيل إن رجلين من الأصحاب أرسلا سلمان الفارسي إلى حضرة الرّسول ليطلب لهم

طعاما فأرسله الرّسول إلى خادمه أسامة بن زيد، فذهب فقال ما عندي؟ فرجع سلمان وأخبرهما فقالا بخل أسامة، ثم أرسلاه لمكان آخر فلم يأتيهما بشيء، فقالا لو بعثناه إلى بئر معونة لغار ماؤها، فانطلقا يتجسسان على أسامة هل عنده شيء أم لا، فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما مالي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما؟ قالا يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما، قال ظللتما تأكلون لحم سلمان وأسامة، فأنزل الله هذه الآية. وهي عامة لم تقيدها هذه الرّواية ولم يخصصها شيء غيرهما، وباق لحكمها ما بقيت الدّنيا. وإنما مثل تعالى باللحم وخصه بالأخ ليكون آكد في المنع والكراهية، لأن العدو قد يحمله الحق على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي الله عنه، ويكون اللّحم على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي الله عنه، ويكون اللّحم ميتا لأنه أبلغ في الزجر لأن النّفس مهما كانت مضطرة لا تميل إليه بخلاف المذبوح. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إياكم والظّن، لأن الظّن أكذب الحديث، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا (كررها صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وفي كلّ منها يشير إلى صدره الشّريف، يؤمن بذلك إلى التقوى بالقلب لا بشقشقة اللّسان، لأن الله ينظر إلى القلب لا إلى الصّورة) بحسب امرئ من الشّر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم. واعلم أن الحكم الشّرعي في هذا هو أنه يحرم على الرّجل أن يغتاب أخاه أو يسمع إلى حديثه بقصد التجسس عليه وأن يظن به سوءا، ومن أكبر الكبائر وأفظعها التجسس على المسلمين وإفشاء أسرارهم الحربية إلى أعدائهم أو إلى من يوصل إليهم، ويسن للرجل أن يستر ما يراه من عيوب إخوانه روى مسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يستر عبد عبدا في الدّنيا إلّا ستر الله عليه يوم القيامة. وروي عنه قال أتدرون ما الغيبة؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره، قلت وإن كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته. وأخرج ابو داود والترمذي عن عائشة قالت

قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصرها، فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. فقال ما أجب أني حكيت له إنسانا ولي كذا وكذا، ومعنى حكى شبّه الشّيء بغيره فيما يمدح أو يذم، والظّاهر أن المراد هنا الذم. وأخرج أبو داود عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم. هذا، وما ورد: احترسوا على أموالكم بسوء الظّن، وإن سوء الظّن من أزكى الفطن، هذا مما يعود لنفس الظّان، لأن من يريد أن يدين أحدا دينا أو يزوجه بنتا أو يعقد معه عقدا فله التبصر بحاله. قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية الخامسة من سورة النساء المارة، فراجعها ففيها ما تريده في هذا البحث، ومن أين يعرف السّفيه من غيره إذا لم يحصل له الظّن الموجب للتحقيق عن حاله فهذا من الظّن الجائز حفظا لنفس الرّجل وماله من أن يقع بغير موضعه، وبنت الرّجل من ماله ووضعها عند من يكرمها خير من وضع المال عند من يرده، وقد ورد: النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته. فيكون التبصر بشأنها ألزم من غيره، وكذلك يجوز التجسس لمعرفة حال من يريد أن يدينه أو يزوجه، وأحسن انواع التجسس هو ما يعود لحفظ جيش المسلمين من العدو والتوصل لمباغتة داره وجنده، لأن حضرة الرّسول كان يرسل العيون في الغزوات ويقول الحرب خدعة، وأقبحه من يتجسس على المسلمين ليوصل أخبارهم لعدوهم فهذا ممن يخون الله ورسوله والمسلمين اجمع، وكذلك يجوز غيبة الفاسق المجاهر بفسقه بقصد ردعه وعدم اغترار النّاس فيه لما جاء في الحديث الصّحيح: أذكروا الفاجر بما فيه يحذره النّاس. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 35 من سورة الإسراء ج 1 فراجعها قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» فيما بينكم لا لتفاخروا والشّعوب رءوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، والقبائل ما تشعب منها كبكر من ربيعة وتميم من مضر، والعمائر متفرعة من القبائل كشيبان من بكر ودارم من تميم، والبطون من العمائر كبني

لؤي وغالب من قريش، والأفخاذ من البطون كبني هاشم وبني أمية من لؤي، والفضائل من الأفخاذ كبني العباس من هاشم، والعشائر من الأفخاذ أيضا، والبيت من العشيرة فتقول بيت فلان من عشيرة فلان ومن فخذ فلان إلخ وليس بعد هذا شيء يوصف أو ينسب إليه إلّا الجد، وكلّ من هؤلاء مهما بلغوا من العلو والكثرة في العدد والثروة لا ينبغي أن يتفاضل به إذا كان خاليا من تقوى الله القائل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» فلا تفاخر ولا تفاضل بين الناس في الدّنيا إلّا بها، لأنها تستوجب الكرامة من الله عند الله في الآخرة لا بالأنساب ولا بالمكاثرة «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بأنسابكم وتكاثركم وغناكم لا حاجة لأن يتطاول بها بعضكم على بعض «خَبِيرٌ» (13) بالأفضل عنده الذي يستحق كرامة. وعندكم الذي يستوجب احترامكم لما قال ثابت بن قيس للرجل الذي لم يفسح له بين فلانة كما مر في الآية 11، قال صلّى الله عليه وسلم أنظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت هذه الآية. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي النّاس أكرم؟ قال أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال فأكرم النّاس يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن اسحق نبي الله بن خليل الله، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال عن معادن العرب تسألون؟ قالوا نعم قال خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. أي تعلموا أحكام الشّرع، فإذا لم يفقه الخيار انحطت درجتهم عن غيرهم فالعبد التقي خير من الشّريف الشّقي والسّوقة العالم خير من الحسيب الجاهل، فالعاقل لا يترك التقوى اتكالا على النّسب. فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الشّرك الحسيب أبا لهب ولما قدم نفر من بنى أسد وأظهروا الإسلام لرسول الله وصاروا يمنّون عليه بقولهم أتتك العرب على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كغيرنا وطلبوا منه الصّدقة وكانت سنة مجدبة، فأنزل الله «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «لَمْ تُؤْمِنُوا» إيمانا حقيقيا «وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا»

أي استسلمنا مخافة الهلاك من الجدب والجلاء والسّبي والقتل ولو كان إيمانكم كاملا لما مننتم به عليّ «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» دخولا حقيقيا حتى الآن ولم تخلصوا فيه إخلاصا صادقا مع انه لنفعكم «وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ظاهرا وباطنا طاعة لا تريدون بها إلّا وجه الله و «لا يَلِتْكُمْ» ينقصكم الله «مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» بل يجزيكم ثوابها كاملا ويزيدكم من فضله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما بدر منكم «رَحِيمٌ» (14) بجميع عباده يريد لهم الخير ومن الخير عدم المنّة بالإسلام، لأن المنّة لله الذي اختاركم إليه ولرسوله الذي أرشدكم إليه قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» إيمانا خالصا لا لغرض ولا لعوض، ولم يقصد به إلّا ابتغاء وجه الله «ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا» في أمر دينهم كله «وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (15) بإيمانهم لأنهم أيدوه بالجهاد مالا وبدنا، ولا دليل أصدق على الإيمان من الاقتداء بالله ورسوله، والاقتداء بالنفس والمال، فلما نزلت هاتان الآيتان أتوا إليه وحلفوا أنهم صادقون بإيمانهم، وقد علم الله منهم غير ذلك فأنزل جل إنزاله «قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ» الذي أنتم عليه وهو خلاف ما تقولون، فلا تكتموا ما في قلوبكم على الله «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وأنتم من جملة من فيها «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (16) لا يحتاج إلى أخباركم، فيعلم الصّادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، ويخبر رسوله بذلك فيذكره لكم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ» يا سيد الرّسل «أَنْ أَسْلَمُوا» بقولهم المار بصدر الآية 14 «قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (17) بإيمانكم ولكنكم كاذبون به «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يخفى عليه شيء مما يقع فيها ومن ما فيها وفوقهما وتحتهما «وَاللَّهُ بَصِيرٌ» بدقائق الأمور خبير «بِما تَعْمَلُونَ» (18) سرا وجهرا، روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس، فترك منهم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت مالك عن فلان والله أني لأراه مؤمنا؟

فقال صلّى الله عليه وسلم أو مسلما، ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك، ثم قال اني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النّار على وجهه. الحكم الشّرعي: يعتبر كلّ من نطق بالشهادتين من الجن والإنس مسلما ويعامل معاملة المسلمين ويدفن في مقابرهم، وليس لنا أن نقول له انك لست بمؤمن، لأن العبرة للظاهر وأمر الباطن مفوض الى الله، ولم يقل الرّسول ما قال إلّا بإخبار الله إياه، أما نحن فليس لنا ذلك، كما أنه لو فرض أن هناك مؤمنا سرا ولم يعلن إسلامه ولم ينطق أمام أحد بالشهادتين، قال نعامله معاملة المسلمين ولا ندفنه في مقابرهم، وعدم معاملتنا له لا تضره واعلم أن الإسلام والإيمان واحد عند أهل السّنة والجماعة دون خلاف، ومنهم جعل الإسلام غير الإيمان، ومنهم على العكس مستدلا بحديث جبريل عليه السّلام إذ فرق فيه بين الإسلام والإيمان. والإسلام لم يقرّ فيه الزيادة والنّقص بخلاف الإيمان، راجع الآية الثانية من سورة الأنفال المارة وما ترشدك إليه في هذا البحث، وله صلة آخر سورة التوبة الآتية. ومنهم من جعل هذا الاختلاف بالتعبير فقط، وهو أن تعلم أن بين العام والخاص فرقا، فالإيمان لا يحصل إلّا بالقلب، والإسلام الذي هو الانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان، وعليه فإن الإسلام أعم والإيمان أخص، لأن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا غيره، فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص، متحدان في الوجود، فذلك المؤمن والمسلم. هذا، وإن البغاة المار ذكرهم في الآيتين 9 و 10 المارتين الّذين قال فيهم العلماء إن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم مؤمنين مع كونهم باغين، يدل على هذا ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو القدوة في قتال أهل البغي، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين المشركون هم فقال لا، إنهم من الشّرك فرّوا، فقيل أمنافقون هم؟ فقال لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلّا قليلا (أي وهؤلاء يكثرون من ذكر الله تعالى) فقيل ما هم إذا قال إخواننا بغوا علينا. والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم، إماما يرجعون اليه مع وجود

تفسير سورة التحريم عدد 21 - 107 و 66

الإمام الذي خرجوا عن طاعته فالحكم فيهم هو ما تقدم آخر الآية العاشرة المارة ص 425 فراجعها تقف على ما تريد مما يجب أن يعاملوا به مما هو موافق للشرع الاسلامي. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين، وعلى من تبعهم بإحسان والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة التحريم عدد 21- 107 و 66 نزلت بالمدينة بعد الحجرات، وهي اثنتا عشرة آية، ومئتان وسبع وأربعون كلمة، والف وستون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة الطّلاق وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت بها في سورة الأحزاب، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» من النّساء «تَبْتَغِي» بذلك التحريم «مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ» لما وقع منك في ذلك «رَحِيمٌ» (1) بك يحل لك ما تحرم على نفسك. مطلب في اثبات قصة التحريم وتفنيد الرّوايات فيها لأن الله تعالى لم يبين ما هو الذي سرّه الرّسول صلّى الله عليه وسلم لزوجاته: روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا قالت فتواطأت أنا وحفصة إن أتانا ودخل علينا النّبي صلّى الله عليه وسلم أن نقول هل إنا نجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له أكلت مغافير- هو صمغ حلو له رائحة كريهة ينضجه شجر المعرفط وهو نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة وثمرة خبيثة الرّائحة- فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه وفي رواية قد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا فنزلت هذه الآية. وما قيل من أن هذه الآية في قضية مارية حينما واقعها حضرة الرسول في بيت حفصة أو في بيت عائشة المذكورة في الصّحيحين فلم تأت من

طريق صحيح، والأخبار فيها متعارضة، لأن رواية ابن عباس في بيت حفصة وما نقله الكشاف أنها في بيت عائشة، وفي رواية أنس التي أخرجها الحاكم والنّسائي لم تعين الأمة ولا البيت، وإنما ذكرا فيها أن عائشة وحفصة لم تزالا برسول الله حتى جعلهما حراما على نفسه. قال النّووي في شرح مسلم الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية. وقال الخافجي نقلا عنه، الصواب أن شرب العسل كان عند زينب خلافا الحديث المروي في الصّحيحين عن عائشة أيضا بأن العسل شربه عند حفصة وإن عائشة وسودة وصفية تواطأن عليه بذلك، أي اتفقن فيما بينهن على ذلك القول، لأن الخطاب في الآية إلى اثنتين لا إلى ثلاثة. وقال الطيبي فيما نقله عن الكشاف من أنه صلّى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت ذلك حفصة، فقال لها اكتبي عليّ، وقد حرمت مارية على نفسي، وأبشرك بأن أبا بكر وعمر سيملكان بعدي أمتي. ما وجدته في الكتب المشهورة فضلا عن تضاربها واختلاف رواتها واضطرابهم بالاسم والزمان والمكان، ولا أراها إلّا موضوعة أو ملفقة فلا عمدة على شيء فيها، ولهذه الأسباب اعتمدنا الرّواية الأولى الثابتة في الصحيحين والتي لا طعن فيها، تأمل قال تعالى «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» بأن أوجب عليكم كفارة لتحليل يمينكم. وإنما جمع الضّمير تضخيما لسيد المخاطبين وإعلاما بأن هذا الحكم ليس له وحده بل لأمنه أيضا «وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ» جميعا وناصركم ومغيثكم ومؤيدكم «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بما يقع منكم «الْحَكِيمُ» (2) يحلل ويحرم ويرخص في الأمور وقد يسر عليكم في كفارة الأيمان وسهلها لكم رحمة لكم. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها، وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. وفي رواية إذا حرم امرأته ليس بشيء. والحكم الشّرعي فيها لو قال أنا عليك حرام ونوى الطّلاق يقع، ولو قال أنا حرام ولم يقل منك وعليك لا يقع، وإن نوى ولو قال لامرأته مرتين أنت علي حرام ونوى بالأول الطّلاق وفي الثانية اليمين فهو على ما نوى. راجع بحث الكنايات في فتاوى الهندية والبزّازية والخانية والأنقروي وغيرها من كتب الفتاوى والفقه كالدرر والدّر وغيرها. قال تعالى مبينا القصة

التي هي سبب التحريم «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً» لم يذكره الله ما هو، والمجمع عليه أنه قصة شرب العسل عند زينب وحلفه أو تحريم مارية، أو أمر الخلافة على ما مرّ لك، وقوله لحفصة أنه لا يعود إليه كما أنه تعالى لم يذكر التي أسر إليها إلّا أن أكثر الأخبار تدل على أنها حفصة، ولذلك خصصناها بالذكر والله أعلم «فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» أخبرت حفصة عائشة بالأمر الذي علمته «وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» بان أطلعه على اخبارها واتفاقها مع عائشة على مسألة المغافير المارة، وقد «عَرَّفَ بَعْضَهُ» إلى حفصة بأن قال لها إنك قلت لعائشة كذا وكذا مع اني نهبتك ان تبوئي بما قلته لك من شرب العسل وغيره «وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» وهو قوله إني حلفت فلا تخبري أحدا فلم يقله لها، ولم يؤنبها عليه، إلا أنه غضب من افشائها ما أسره لها، مع أنه أمرها بكتمانه وهمّ بطلاقها، فأتاه جبريل وقال له لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وانها من نسائك في الجنّة. وهذا وان كان ليس بشيء إلّا أنه بالنسبة لمقام حضرة الرّسول شيء عظيم، كما أن ما يقع منهن لو وقع من الغير لما سمي ذنبا البتة، ولكن الأنبياء يعدونه كبيرا بالنسبة لمقامهم من الله عز وجل، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. قال تعالى «فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا» النبأ الذي ذكرته مع أنه لم يطلع عليه أحد إلّا أنا وعائشة «قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» 3 بكل ما يقع في ملكه، قبل لما بلغ ذلك عمر وظن أن حضرة الرّسول طلقها قال لها لو كان في الخطاب خير لما طلقك رسول الله. قال تعالى «إِنْ تَتُوبا» على طريق الالتفات وهو أبلغ من المعاتبة، والخطاب لعائشة وحفصة لأنهما اللّتان تواطأتا على ذلك كما مر آنفا وترجعا «إِلَى اللَّهِ» عما وقع منكما من الاتفاق والتعاون على أذى حضرة الرّسول وعلى كتمان ما يأمر كنّ بكتمانه، لأنه الواجب عليكما طلبا لرضائه، لأن الله تعالى يغفر لكما ما بدر منكما، لأن ما تواطأتما به عليه «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» به أي زاغت ومالت هما هو الواجب عليكما من الإخلاص لحضرته بأن تحبا ما يحبه وتكرها ما يكرهه، وامتثال أمره مهما كان، وقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن الامتثال لما أراده منكما

مطلب استئناس عمر رضي الله عنه مع حضرة الرسول وما قاله ابو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به:

لأن ذلك مخالفة لحضرته تستوجب العقوبة، وهي إثم تجب التوبة منه عليكما، لأن طاعته واجبة، ثم هددهما بقوله «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ» وتتعاونا بما يسوءه قولا وفعلا «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» وحافظه من كيدكن وناصره عليكما وعلى كلّ من يناوئه «وَجِبْرِيلُ» وليه أيضا «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» أوليائه وفي طليعتهم أبواكما ينصرانه عليكما «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ» النصر والتولي من الله وجبريل وكلّ مخلص من المؤمنين والملائكة الكرام «ظَهِيرٌ» (4) له على كلّ من يناوئه فما يغني تظاهركما عليه. واعلمن أيها النّساء كلكن إذا أصررتن على ما أنتنّ عليه فمصيركن الهلاك فبادرون بالندم وأسرعن بالتوبة مما وقع منكن واسترضينه، فإذا رضي عنكما فلعل ربّه أن يقبل توبتكما وإذا أصررتما فما تدريان «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» لأن تصييركن بوجودكن عنده وفضلكن بما نلتنه من قربه، فإذا طلقكن زالت منكن تلك الصّفات ولم يبق لكن فضل على غيركن. ثم وصف النّساء اللاتي يبدلهن بهن بأنهن «مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ» مهاجرات وقيل صائمات لأن السّائح لا زاد له فشبه بالصائم «ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً» (5) وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون، لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه أنه لا يطلقهن، فأخبر عن قدرته بأنه إذا طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. مطلب استئناس عمر رضي الله عنه مع حضرة الرّسول وما قاله ابو رواحة إلى زوجته حتى تخلص مما اتهمته به: روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين في أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلم اللّتين قال الله عز وجل فيهما إن تتوبا إلى الله فقد إلخ حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان بعض الطّريق عدل وعدلت معه بالأدواه الرّكوة التي فيها ماء، والعدول هو الميل إلى جانب الطّريق الملوك والبراز محل قضاء الحاجة، فتبرز ثم اتاني، فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلم اللّتان قال الله فيهم إن تتوبا إلخ؟ قال عمر ووا عجبا لك يا ابن عباس قال الزهري كوه منه ما سأله عنه ولم يكتمه،

قال هما عائشة وحفصة، ثم أخذ بسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوما نغلب نساءنا، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي (هي أماكن بأعلى أراضي المدينة جمع عالية) فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك، فو الله ان أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى اللّيل، فانطلقت فدخلت على حفصة، قلت أتراجعن رسول الله، فقالت نعم، فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى اللّيل، قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمنّ إحداكن أن تغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت رسول الله ولا تسأليه شيئا وسلي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أو سم (أكثر حسنا وجمالا) وأحب إلى رسول الله منك (يريد عائشة) ، وكان لي جار من الأنصار، فكنا نتناوب النّزول إلى رسول الله فينزل يوما فيأتيني بخبر الوحي، وأنزل يوما وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث ان غسان تبعث الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني، فخرجت إليه، فقال حدث أمر عظيم، قلت ماذا حدث أجاءت غسان؟ قال بل أعظم منه وأهول طلق رسول الله نسائه، قلت قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون، حتى إذا صليت الصّبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله؟ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة (الغرفة والعلية ولها معان ليست مرادا هنا) فأتيت غلاما له أسود، فقلت استأذن لعمر، فدخل ثم خرج، فقال قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المشربة، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام، فقلت استأذن لعمر، فدخل ثم خرج فقال ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني فقال أدخل فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله، فإذا هو متكىء على رمال حصير (أي حصير مضفور، من رملت الحصير إذا ضفرته أي ليس له وطاء غيره) قد أثر في جنبه، فقلت أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلى فقال لا، فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله قد كنا معشر قريش نغلب النّساء، فلما قدمنا

المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت إذا راجعتني، فقالت ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النّبي يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى اللّيل، فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت، فتبسم صلّى الله عليه وسلم، ثم قال عمر فدخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله منك، فتبسم أخرى، فقلت استأنس يا رسول الله؟ قال نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلّا أهبة (جمع أهاب وهو الجلد) ثلاثة، فقلت يا رسول الله أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والرّوم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدّنيا، فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان أقسم لأن لا يدخل عليهن شهرا من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته أي غضبه الشّديد عليهن حتى عاتبه الله، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول الله بدأ بي، فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل شهرا وإنك دخلت في تسع وعشرين ليلة أعدهن، قال إن الشّهر يكون تسعا وعشرين، وفي رواية قلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال وأنا وأبو بكر والمؤمنون، فنزلت هذه الآية. هذا ويعلم من قوله تعالى إذ أسرّ إلخ جواز أسرار بعض شأن الرّجل لزوجته أو صديقه ممن يأتمنه ويعتمد عليه، ويلزم ذلك المسر اليه الكتمان. وتشير هذه الآية إلى لزوم حسن معاشرة الزوجة والتلطف بعتابها عند تقصيرها، ونؤمى أيضا إلى الإعراض عن زلتها. روي أن عبد الله بن رواحة أحد النّقباء كانت له جارية فأتهمته زوجته أنه واقعها حيث رأته معها فأنكر عليها ذلك تعريضا، فقالت له إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فأنشد: شهدت فلم أكذب بأن محمدا ... رسول الذي فوق السّموات من على وان أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل في دينه متقبل

وان التي بالجزع من بطن نخلة ... ومن دانها كلّ عن الخير معزل قالت زدني، فأنشد: وفينا رسول الله نتلو كتابه ... كما لاح معروف من الصّبح ساطع أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا ... به موقنات إن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا رقدت بالكافرين المضاجع فقالت زدني أيضا، فأنشد: علمت أن وعد الله حق ... وان النّار مثوى الكافرينا وان محمدا يدعو بحق ... وان الله مولى المؤمنينا وان العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الله مسوّمينا فقالت أما وقد قرأت اكثر من ثلاث آيات من القرآن فقد صدقت وصدق الله وكذب بصري. وهذا من كمال يقينها رحمها الله ورحم زوجها، وذهب بالحال وأخبر رسول الله بذلك كله فتبسم صلّى الله عليه وسلم وقال خيركم خيركم لنسائه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ» بأن تنهوهم عما نهى الله عنه وتأمروهم بما أمر به وتعلموهم ما ينفعهم ويضرهم من أمر الدّين وما لهم وما عليهم من الحقوق لله ولخلقه وخاصة أزواجكم لأنكم مسؤولون عنهم ومكلفون بتعليمهم وبذلك تخلصون من أن تصلوا «ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» وهذه نار مخصوصة لا تتقد إلّا بالناس والحجارة بان يكونا كبريتا لها، تتقد به والعياذ بالله وتقدم مثل هذه الجملة في الآية 34 من سورة البقرة «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ» لم يخلق الله رحمة في قلوبهم ولا شفقة ولا لطفا ولا رأفة وهم شديدوا الانقياد لأوامر الله تعالى «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (6) به في أعداء الله من انواع العذاب، ولم يتأثروا مما يفعلونه في المعذبين، لأن الله لم يخلق فيهم حنانا على أحد، ولم يتريثوا في إنفاذ أمره بل يوقعونه حالا كلمح البصر أو أقرب. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا» اخرسوا لا تنبسوا بينة شفة فقد انقطعت المحاججة و «لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ»

حيث تقدم لكم الإنذار والإعذار في الدّنيا فلا محل له في الآخرة «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (7) في الدّنيا من الخبائث في هذا اليوم الذي وعدتم به، الذي لا يقبل فيه عذر البتة، واعلم أنه لا يوجد في القرآن مثل صدر هذه الآية قطعا، وهذا من لطفه تعالى، إذ كان نداؤه يا أيها النّاس، يا أيها الّذين آمنوا يا بني آدم، يا أهل الكتاب، بما يشم منه عدم دخول الغير في هذا الخطاب، ولذلك خصصه بالكافرين وله الحمد، ومن عطفه أيضا على المؤمنين أنه أمر نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يعاملنا باللطف، إذ قال (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) راجع آخر سورة النّحل في ج 2 «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ» في هذه الدّنيا من جميع السّيئات «تَوْبَةً نَصُوحاً» صادقة خالصة لا عودة فيها الى الذنب قبل حلول آجالكم، راجع بحث التوبة في الآية 36 من سورة الشّورى المارة في ج 2 فإذا أتيتم توبة محضة «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» بها. واعلم أن عسى هنا وفي كلّ موضع من القرآن تفيد التحقيق كما سيأتي في الآية 103 من سورة التوبة الآتية «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» بل مكرمهم بكرامته راجع الآية 192 من آل عمران المارة، وحين يمشون على الصراط يوم القيامة يكون «نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» أمامهم «وَبِأَيْمانِهِمْ» من جوانبهم واستغنى بذكر اليمين عن الشّمال اكتفاء به، وإلا فالنور محيط بهم من جميع جوانبهم من الجهات السّت، وإذا رأوا نور المنافقين انطفا، إذ يكون لهم نور كما للمؤمنين بأول الأمر، ثم يسلب منهم زيادة في حسرتهم وأسفهم «يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» اجعله مصاحبا لنا دائما مثل إخواننا المؤمنين الكاملين الّذين هم مع الأنبياء والشّهداء «وَاغْفِرْ لَنا» ما سلف منا «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (8) فيجيب الله دعاءهم، ويبقي المنافقين في الظّلمة المستمرة، أجارنا الله منها، لأن إيمانهم كان صوريا، فيلقون عقابه من جنسه، إذ يريهم النّور ويدخلهم في الظّلمة كما كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، راجع الآيتين 12 و 13 من سورة الحديد المارة قال تعالى

مطلب في المثل الذي ضربه الله تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» بالقول فهم مخزيّون في هذه الدّنيا «وَمَأْواهُمْ» في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (9) هي لأهلها. مطلب في المثل الذي ضربه الله تعالى لنساء الأنبياء وقصة آسية زوجة فرعون ومريم ابنة عمران: قال تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ» واعلة الكافرة راجع الآية 97 من سورة هود في ج 2 لتقف على السّبب الذي غمسها في النّار، وامرأة لوط واهلة الكافرة أيضا، راجع ما وقع منها في الآية 77 من سورة هود أيضا «كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ» نبيّين كريمين خليلين «فَخانَتاهُما» بالكفر بدينهما والتجسس عليهما وإخبار قومهما بمن يؤمن بهما ومن يأتي إليهما وتحريض قومهما لا بالبغي وحاشاهما منه. قال ابن عباس ما بغت امرة نبي قط. لأن البغي يقدح فيهم ويمس جانبهم العالي النّزيه المبرأ من كل عيب، المنزه من كلّ ما به وصمة مطلقا، «فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» اي لم ينجياهما من عذاب الله مع كونهما محترمين عنده لوجود الحائل وهو الكفر «وَقِيلَ» لهما يوم القيامة «ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (10) فيها، لأن محبة الكافر للمسلم مع بقائه على كفره لا تنفعه عند الله، وكذلك حجة المعاصي، قال تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الآية 67 من سورة الزخرف ج 2، راجع تفسير الآية هذه ففيه بحث نفيس لا غنى لك عنه. وإذا كان كذلك فكيف تنفع حجة الكفرة لأوثانهم التي هي نفسها عاجزة محتاجة إلى من يحرسها؟ وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث أيضا في الآية 31 من سورة ابراهيم في ج 2 فراجعه. قال تعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» المؤمنة آسية بنت مزاحم التي كانت مصاحبة لزوجها المتناهي في الكفر «إِذْ قالَتْ» حينما عذبها على إيمانها بموسى وأرادها على الكفر ولم تفعل «رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ» لأني تركت بيت فرعون وجنته في الدّنيا من أجلك رغبة بما عندك في الآخرة «وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ»

الخبيث الذي أرادني عليه «وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» الّذين وكلهم فرعون بعذابي وصبرت حتى ماتت على إيمانها ولم يثنها عنه تعذيب المعذبين، رحمها الله رحمة واسعة، ولا شك أن الله أجاب دعاءها بفضله وكرمه. وقد بين الله في هذين المثلين أن وصلة الكافر للمؤمن لا تضره ولا تنفع الكافر مادام على كفره كما أن وصلة المؤمن للكافر لا تنفعه ولا تضر المؤمن إذا لم يمل إليه ويواليه راجع آخر سورة الممتحنة المارة ومن هذا القبيل وصلة السّيدة مريم عليها السّلام وما أوتيت من الكرامة مع قومها الكافرين فلا تنفعهم ولا يضرونها. قال تعالى في براعتها مما وصمها به قومها «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» وتمتعت بالعفة في حياتها الدّنيوية كلها «فَنَفَخْنا فِيهِ» بواسطة الأمين جبريل عليه السّلام من جيب درعها نفخة «مِنْ رُوحِنا» التي خلقناها في الأزل لحياة ابنها عيسى عليه السّلام راجع الآية 92 من سورة الأنبياء ج 2 لنقف على كيفية النّفخ هذا وقد أضاف الله تعالى الرّوح اليه إضافة تشريف، لأنه هو الذي خلقها وأبقاها عنده للوقت المقدر لبعث ابنها لأنها له، كما يقال بيت الله وهو لخلقه، وناقة الله وهي لقوم صالح عليه السّلام، وقد جرت عليها السّلام على أذى قومها وو صمهم لها وهي براء «وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» التي بشرها بها جبريل عليه السلام بما لها عند الله من الكرامة، وبإيجاد عيسى منها من غير أب، وبهذا المعنى أطلق عليه كلمة الله، لأنه خلق بلفظ كن، وهي كلمة الله التي أوجد فيها جميع الخلق النّامي منه والجامد «وَكُتُبِهِ» المنزلة على أنبيائه، صدقت بها أيضا، ومنها إنجيل ابنها الذي تلقاه عن ربه «وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» (12) لله تعالى وهي من نسل القانتين، لأن رهطها وعشيرتها من بيت الصّلاح والنّبوة، ولما كان القنوت صفة تشمل كلّ من يقنت ذكرا كان أو أنثى غلب في الذكور هنا، فيدخل فيه القانتات واعلم أن في هذين المثلين تعريضا بأمّي المؤمنين حفصة وعائشة رضي الله عنهما على ما فرط منهما في تواطئهما على ما يغيظ حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وتحذير لهما من العود إلى مثله، واعلاما لهما بأنهما إذا لم يخلصا له كاخلاص آسية ومريم إلى الله تعالى لم ينتفعا من صحبته في الآخرة، وأن لا يتكلا على كونهما

زوجتين له لان الزوجية لا تكفي للخلاص من عذاب الله كما هي الحالة في زوجني نوح ولوط لأنهما خلدتا في النّار لعدم نصحهما لزوجيهما وعدم إيمانهما بهما، وإذا أردت أن تقف على حقيقة الصّحبة ومنافعها ومضارها راجع ما ألمعنا اليه في الآية 10 المارة. أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم حسبك من نساء المسلمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم. وتقدمت قصة ما شطتها مع فرعون بالآية 10 من سورة الفجر في ج 1، وأما قصتها هي ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت من أجمل نساء زمانها، وقد قصتها هي مارواه ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت من أجمل نساء زمانها، وقد غاظها فرعون بما فعل بما شطتها المار ذكرها وقصتها، وقد عيل صبرها من هول ما رأت من الفظاعة التي أجرتها عليها شرطة فرعون بأمره فجلست تفكر ماذا تفعل معه وهي بعصمته، فدخل عليها وهي على تلك الحالة، فقال لها ما بالك؟ قالت له بالي إنك شر الخلق، فقال لها هل الجنون الذي كان في الماشطة أصابك؟ قالت ما بي من جنون ولا بها، وإن الرّب الذي لي ولها ولمن في السّموات والأرض هو الله الواحد الذي لا شريك له ولا رب غيره ولا يستحق العبادة إلا هو، فبصق عليها وضربها وأخبر أبويها بذلك لينصحاها، فجاءا وقالا لها يا آسية ألست من خير نساء العالمين وزوجك إلههم؟ قالت أعوذ بالله أن يكون فرعون إلها إن الإله الحق واحد لا شريك له في ملكه، فإن كان ما يدعيه فرعون حقّا من الألوهية فليتوخ تاجا تكون الشّمس أمامه والقمر خاتمه والكواكب حوله، ولم يزالا بها يقنعانها ويهددانها وهى ثابتة على إيمانها بالله كافرة بفرعون مؤنّبة لمن يعده إلها، وصارت تصرح بذلك بعد أن كانت تسرّ به، فلما رأى الخبيث منها هذا الإصرار ورأى أن التهديد لم يجدها نفعا ولم يثنها عن عقيدتها وصارحته بالإيمان بالله والكفر به ودعته إلى الإيمان بالله، أخرج أبويها ومدها بين أربعة أوتاد وصار يعذبها بالضرب والكي بالنار إلى أن ماتت مصرة على إيمانها بالله وحده، كافرة بما سواه، رحمها الله رحمة واسعة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة التغابن عدد 22 - 108 - 64

تفسير سورة التغابن عدد 22- 108- 64 نزلت بالمدينة بعد سورة التحريم. وهي ثماني عشرة آية، ومئتان وأربعون كلمة، والف وسبعون حرفا. ومبدأها كمبدأ الآية الأولى من سورة الجمعة فقط، وختمت بما ختمت به سورة الحشر والجاثية، ولا يوجد مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ» الدنيوي والملكوت الأخروي يتصرف فيهما كيف يشاء ويحكم بمن فيهما كما يريد «وَلَهُ الْحَمْدُ» من كافة خلقه على نعمائه راجع بحث الحمد في المقدمة وبحث التسبيح أول سورة الحديد المارة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1) لا يعجزه شيء ولا يفلت منه أحد ولا يفوته فائت لا مانع ولا مدافع له ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أيها الناس من نفس واحدة «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» في هذه الدّنيا كما أنتم في الأزل عند الله وسيعيدكم في الآخرة كذلك «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (2) قبل أن تعملوه لا يعزب عنه شيء من أعمالكم الموافقة لما هو في علمه ومدونة في لوحه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. راجع ما يتعلق في هذا البحث في الآية 58 من سورة هود في ج 2 وما ترشدك إليه من المواضع. قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» لا عبثا ولا لهوا ولا لعبا وباطلا «وَصَوَّرَكُمْ» أيها النّاس في أرحام أمهاتكم، وجعل فيكم روحا منه لارادة غيركم، وجمّلكم «فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» في هذه الدّنيا لأنها على صورته، فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق آدم على صورته. وفي رواية على صورة الرّحمن. وهذه نافية لقول من قال إن الضّمير في صورته يعود على آدم لا على الله جل جلاله، وهو بعيد جدا عن المعنى، وقد أراد هذا القائل التحاشي عن وصفه تعالى بسمات خلقه، مع أنه لا مانع من القول أن الله تعالى له وجه ويد لا كأوجه خلقه

وأيديهم، وهو ما مشى عليه الماتريدية أجمع، أما الأشعرية فلا يقولون بهذا، ويقولون ما جاء في القرآن من هذه السّمات بالقدرة والكمال والرّحمة وشبهها «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (3) في الآخرة لا إلى غيره راجع الآية 7 من آل عمران المارة في بحث الأرحام وما يتعلق بها «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من حركة أو سكون «وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ» أيها النّاس في صدوركم وتحدثون به أنفسكم ويلوح في خاطركم «وَما تُعْلِنُونَ» من أقوالكم وأفعالكم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (4) في مكامنها ودخائلها وما تحوكه من نية أو خطرة أو هاجس قال تعالى «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من الأمم السالفة كيف فعلنا بهم لما كذبوا رسلنا وأصروا على جحودنا أهلكناهم «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» جزاء ما وقع منهم في الدّنيا، فدمرناهم تدميرا فظيعا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (5) في الآخرة لا تطيقه القوى البشرية، ولا الجبال الرّاسيات، فاتعظوا أيها النّاس بما جرى بهم، واعتبروا بسوء عاقبتهم، وارجعوا لربكم كيلا يصيبكم ما أصابهم «ذلِكَ» الذي حل بهم من العذاب الدّنيوي، والذي سيجازون عليه في الآخرة «بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا» ساخرين بهم ومستهزئين «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» استفهام انكاري أي كيف يهدي البشر مثله؟ وهذا من سخافة عقولهم لأنهم ينكرون هداية البشر لمثله ولم ينكروا على أنفسهم إضلال البشر لمثله وعبادة الأوثان وطلب الخير في الدّنيا والشّفاعة في الآخرة منها «فَكَفَرُوا» بالله ورسله بما جاءوهم من عند الله ولم يأخذوا بما جاءوهم لهدايتهم «وَتَوَلَّوْا» عن الانقياد لطاعتهم والإيمان بربهم، وأصروا على الكفر والطغيان «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» عنهم وعن إيمانهم «وَاللَّهُ غَنِيٌّ» عن جميع خلقه برهم وفاجرهم «حَمِيدٌ 6» لمن آمن به وصدق رسله ثم ذكر نوعا آخر من سفههم الذي كانوا عليه، فقال «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا» بعد موتهم في الدّنيا فأنكروه ولم يصدقوا الرّسل بإخبارهم بالبعث يوم القيامة تبعا لعقيدتهم الجاهلية، إذ كان آباؤهم ينكرون ذلك ويجحدون الحساب والعقاب والثواب «قُلْ» لهؤلاء الحمقى يا سيد الرّسل «بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» من قبوركم

يوم القيامة يوم يقوم النّاس لرب العالمين مخلوقين خلقا ثانيا من أجزائهم لمتفتتة، ويعودون كما كانوا عليه في الدّنيا «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ» في ذلك اليوم «بِما عَمِلْتُمْ» في دنياكم وتعلمون جهلكم بالخلق الأوّل أدى لجهلكم بالخلق الثاني «وَذلِكَ» البعث بعد الموت والإنباء بما كان منكم وعليكم في الدّنيا «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» 7 سهل هين لا كلفة فيه، وكما أن خلقكم أول مرة بمجرد قول كن فكذلك تكون إعادتكم، وهي كلمة جزئية لا صعوبة فيها لو أنها تصدر من الخلق فكيف إذا صدرت من الخالق بلا صوت ولا حرف «فَآمِنُوا بِاللَّهِ» الذي خلقكم أيها النّاس ثم أماتكم بأنه يحييكم ثانيا «وَرَسُولِهِ» الذي أرسله لهدايتكم آمنوا أيضا «وَالنُّورِ» أي الكتاب «الَّذِي أَنْزَلْنا» عليه كما أنزلنا على من قبله من الأنبياء آمنوا أيضا، إذ لا يكفي الإيمان بالله دون الإيمان برسوله وكتابه، كما لا يكفي الإيمان بالكتاب والرّسول دون الإيمان بمنزل الكتب ومرسل الرّسل «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (8) لا يغرب عنه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض، واحذروا أيها النّاس «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» هو يوم القيامة إذ يجمع فيه الأولون والآخرون من أهل السّماء والأرض. مطلب يوم التغابن في الآخرة وفتنة الأموال والأولاد في الدّنيا والأمر بالتقوى حسب الاستطاعة وذم البخل وفضل الصّدقة: ذلك اليوم المسمى يوم الجمع هو «يَوْمُ التَّغابُنِ» الذي يظهر بالأعمال والأقوال الذي ما بعده تغابن، بخلاف تغابن الدّنيا الذي يكون بالتجارة وشبهها فإنه فان لا قيمة له، لأن هذا يضع الله تعالى به سعداء الدّنيا فقط منازل الأشقياء في الآخرة والأشقياء بالدنيا بسبب الفقر والفاقة والصّبر على الأذى فيها من أجل إيمانهم بالله ورسله الّذين ماتوا على ذلك مكان السّعداء في الآخرة، وإذ ذاك يظهر غبن الكافر بتركه الإيمان الموصل للسعادة الأخروية، فيتأسف ويندم ولات حين مندم، ويرد العود إلى الدّنيا ليعمل الخير وهيهات، وكذلك يظهر غبن المؤمن المقصر في الأعمال الصّالحة لأنه يرى من كان دونه في الدّنيا أعلى منه رتبة في الآخرة وأحسن مكانا ومكانة عند الله وأعلى درجة في الجنّة، فيندم أيضا على تقصيره

[سورة التغابن (64) : الآيات 11 إلى 18]

ويعضّ يديه على تفريطه، قال عليه الصّلاة والسّلام ما من أحد إلّا ندم يوم القيامة إن كان محسنا ندم أن لا ازداد، وإن كان كافرا ندم، أن لا أقلع عن كفره. «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً» في دنياه مع إيمانه فإنه تعالى «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ» في الآخرة «وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» لا يتحولون عنها «ذلِكَ» التكفير والإدخال هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (9) الذي لا أعظم منه لما فيه من بلوغ الغاية التي كان يتوخاها في حياته ومنتهى الأمل الذي كان يؤمله بعد وفاته «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على ذلك اليوم الذي يتغابن به النّاس «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها» أبدا لا يخرجون منها، وقد حذف من الجملة الثانية اكتفاء بوجودها في الأولى، وقدم مثله في الآية 35 من سورة الرّعد فراجعها «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (10) النار لأهلها، وهذه الجملة بمقابلة الجملة الأخيرة في الآية قبلها وهي (الفوز العظيم) وهذا تغابن لا أعظم منه، لأن أناسا ينعمون في الجنّة وآخرين يعذبون في النّار، ويرى بعضهم بعضا ويتعارفون فيها كما كانوا في الدّنيا، فهل يوجد أعظم من هذا التغابن كلا. واعلموا أيها النّاس إنه «ما أَصابَ» أحد «مِنْ مُصِيبَةٍ» سقم أو ضر أو فقر أو عناء أو عصيان أو كفر أو كلّ شر «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وقضائه وقدره وإرادته، وكذلك الصّحة والعافية والغنى والطّاعة والإيمان والهناءة وكلّ خير هو بقدره وقضائه وإرادته ورضاه، وكل ذلك مدون في لوحه قبل خلق الخلق، راجع الآية 22 من سورة الحديد المارة «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ» ويعتقد أن المصائب بقضائه وقدره، وأن من يصبر على ما أصابه ويسلم أمره إليه ويعلم أن لا محيد له عما كتبه عليه «يَهْدِ قَلْبَهُ» فيوفقه للإيقان المحض بما يقذف فيه من النّور والمعرفة، ويجعله راضيا بكل ما يصيبه فيكون من الّذين رضى الله عنهم ورضوا عنه المعلومين عنده في أزله «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (11) من كلّ ما يصيب عباده قبل أن يصيبهم، لأنه مقدره عليهم في غيبه ويعلم الصّابر والجازع والرّاضي والغضبان، راجع الآية 10 من سورة الليل، والآية 121 من سورة طه في ج 1، والآية 78 من سورة النّساء المارة

فيما يتعلق في هذا البحث، وفيهما ما يرشدك لمراجعة غيرهما من المواضع. قال تعالى «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» كرر الفعل تأكيدا وإعلاما بأن طاعة أحدهما لا تغني عن طاعة الآخر وعدم قبول إحداهما بغير الأخرى «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أيها النّاس عن هذه الطّاعة، فالوبال على أنفسكم في الدّنيا والآخرة «فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (12) فقط وقد بلغ ونصح وأرشد وأنذر وأعذر وقام بكل ما كلف به، وليس عليه أن يقسركم على الأخذ بقوله والاقتداء بفعله، بل بل يترككم وشأنكم، فاعملوا أيها النّاس الخير وتيقنوا أن ربكم «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» لا رب غيره ولا معبود سواه، هو المحيي المميت الضّار النّافع، فآمنوا به وأطيعوه «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (13) في جميع أمورهم وهو يهديهم إلى سواء السّبيل الموصل إلى جنته، ومن يتوكل على الله فهو حسبه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ» لفظ من هنا للتبعيض، لأن منهم أولياء لهم أودّاء بارّين بهم مقسطين لهم يأمنونهم كأنفسهم وإن منهم «عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» من أن يوقعوا فيكم أذى، وأنتم غافلون عنهم محسنون الظّن بهم، وذلك بسبب ما بأيديكم من حطام الدّنيا وهذه الآية عامة مستمرة شاملة ما قبلها وبعدها إلى يوم القيامة. وسبب نزولها أن رجالا منعهم أزواجهم وأولادهم من الغزو في سبيل الله خوفا من أن يقتلوا ويتركوهم وان رجالا أسلموا ومنعهم أزواجهم وأولادهم من الالتحاق برسول الله، فحذرهم الله من طاعتهم، ولما جاءوا أخبروا عند نزول هذه الآية بأن إخوانهم الّذين هاجروا قبلهم تفقهوا في الدّين، فهموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فأنزل الله هذه الآية وأردفها بقوله «وَإِنْ تَعْفُوا» عنهم «وَتَصْفَحُوا» عما وقع منهم «وَتَغْفِرُوا» زلتهم هذه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لكم ولهم ولكل من ينيب إليه ويستغفره «رَحِيمٌ» (14) بعباده يحب العفو عنهم. تحذر هذه الآية من الرّكون إلى الأزواج والأولاد، فعلى العاقل يكون شديد الحذر من غير الصّالحين من ان هذين الصّنفين، فإن كثيرا من الزوجات والأولاد قتلوا أزواجهم وآبائهم بقصد التزوج بغيره والاستيلاء على ماله ولا سيما في هذا الزمن ولا حول ولا قوة إلا

باللهِ نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» عظيمة وبلاء جسيم، يختبركم الله بهم، فهم سبب وقوعكم في تناول الحرام والاعتداء على الغير، فإياكم والافتتان بالمال والولد من أن يسوقاكم إلى ما يغضب الله وينسيكم أنفسكم فتهلكوا. وإياكم إياكم أن تستغنوا بالمال، فإن الله يفقركم، أو تعتمدوا على أولادكم إلّا بما يرضي الله، فإذا فعلتم ما أمرتم به بشأن المال والولد وانتهيتم مما نهيتم عنه فيهما وفي الأزواج سلمتم من فتنتهم وأمنتم من شرهم ونفعوكم في الدّنيا والآخرةَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (15) لمن يفوض أمره إليه ولا يعتمد إلّا عليه ولا يغتر بمال أو ولد أو جاه أو قوة، راجع الآية 29 من سورة الأنفال المارة المصدرة به بلفظ اعلموا تنبيها إلى أن ما فيها لازم الأخذ واجب التقيد فيه «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» غاية جهدكم ونهاية وسعكم، وهذه الآية كالتفسير لقوله تعالى (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) الآية 103 من آل عمران المارة لا ناسخة لها كما قاله بعض المفسرين، لأن حق التقوى تفريغ ما في الوسع من طاقة العبد لا أكثر ولا أقل كما بيناه في الآية الملح إليها «وَاسْمَعُوا» ما يتلى عليكم من كتاب الله وسنة رسوله سماع قبول واعملوا بهما طاقتكم «وَأَطِيعُوا» الله ورسوله فيما يأمرانكم به وينهاكم عنه، برغبة وطيب نفس «وَأَنْفِقُوا» مما رزقكم الله على عياله وأرحامكم لأن المال الذي أعطاكم إياه من فضله وجوده فنحكموه لتجودوا به على أنفسكم وغيركم ممن أوجب عليكم رزقهم منه وعلى الفقراء والمساكين فإذا فعلتم هذا كان «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» عند ربكم وأعظم أجرا، ولا تميلوا إلى الشّح فيما منّ به عليكم فيكون عاقبته شرا لأنفسكم «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (26) الفائزون عند الله في الآخرة المنتفعون بما خولهم به من النعم الواجدون ثوابها وجزائها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. واعلموا أيها الناس انكم «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأن تتصدقوا من حلالكم طلبا لمرضاة الله وابتغاء وجهه وتقربا إليه على فقرائه «يُضاعِفْهُ لَكُمْ» من عشرة إلى ما شاء الله، لا تحديد على الكريم الجواد الذي يعطي بغير حساب، لأنه جل شأنه لا يخشى من النّفاد ويعطي بلا عوض ولا لغرض «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم

[سورة الصف (61) : الآيات 1 إلى 10]

وما تقدم من شحكم «وَاللَّهُ شَكُورٌ» لفعل عباده المتصدقين «حَلِيمٌ» 17 بعدم تعجيل سلب نعمه من البخلاء علمهم يرجعوا ويتوبوا فيتصدقوا مما منحهم الله على عياله والله سبحانه «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» يعلم ما في النّيات والضّمائر كما يعلم الأقوال والأفعال الظّاهرة لا يختلف علمه فيهما «الْعَزِيزُ» الغالب على عباده القادر على سلب النّعم من لم يشكرها «الْحَكِيمُ» (18) بإبقائها على الشّاكرين وزيادتها لهم، وما هو مقدر على السّلب والإبقاء من حكم لا يعلمها غيره، وقد يعلمها البشر عند ظهورها. وختمت هذه السّورة بهذا الاسم الكريم لما انطوت عليه من حكم جليله. هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين. تفسير سورة الصّف عدد 23 و 109- 61 نزلت بالمدينة بعد سورة التغابن وهي أربع عشرة آية ومثنان وإحدى وعشرون كلمة، وتسعمئة حرف، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، وبينا السّور المبدوءة بما بدئت به أول سورة الحديد المارة، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من شيء «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المنيع الجانب القاهر كلّ شيء على تسبيحه وتنزيهه طوعا أو كرها قالا أو حالا، راجع الآية 45 من سورة الإسراء ج 1 وأول سورة الحديد المارة «الْحَكِيمُ» (1) بأفعاله وأوامره ونواهيه فلا يخلق إلّا عن حكمه، ولا يأمر إلّا بحكمة، ولا يفعل إلّا لحكمة، قال عبد الله بن سلام قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناها، وكانت نزلت آية الجهاد العاشرة من سورة التحريم المارة، وتباطأ بعضهم عنه، وكان يتمنى نزول الأمر بالجهاد، فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ

اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (3) وكان من عادة العرب الّذين هم عرب يفعلون ولا يقولون فيقضون حوائج المحتاجين ودين المدينين ونصرة المظلومين ولا يدرى بهم، ثم قلت المروءة عند بعضهم فصاروا يفعلون ويقولون، ثم تدانوا وتخاسسوا فصاروا لا يقولون ولا يفعلون، ثم تدنت نفوسهم ورذلت فصاروا يقولون ولا يفعلون، فذمهم الله تعالى في هذه الآية وأنبهم بأن القول بلا فعل مما يوقع العبد في غضب الله ويبعده عنه، ومن هذا القبيل من يعد بشيء وبقوله ولا يفعله، ومن يتعهد ولا يوفي، ويحلف ويخلف، ويواثق وينكث. ثم بين جل جلاله العمل الذي يحب الله فاعله عند لزومه أكثر من غيره، فقال «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ» إعلاء لكلمته وابتغاء مرضاته «صَفًّا» تجاه أعدائه لا يزولون ولا يروغون عن أماكنهم إلّا للتقدم ليكيدوا عدوهم، فتراهم في تضامنهم وتلاحقهم ومتانتهم في صفوف الحرب «كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» (4) بعضه ببعض لا ترى فيهم فرجة تمكن العدو من الدّخول فيها بينهم، أو يجعل بسببها خللا في صفوفهم، وكان التراص في ذلك الزمن مطلوبا لأن من الفرسان من يقحم بفرسه فيمزّق الصّف المخلل والذي فيه فرجة فيفتك فيه بما أوتي من عزم وحزم فيفرقه ويقع الرّعب في قلوب الآخرين فينصرون، والتراص باب من أبواب الحرب في زمن الأصحاب فمن بعدهم، أما الآن وقد أحدثت الصّواعق والقاذفات والدّبابات فقد يكون في مكان دون مكان بحسب قوة العدو وآلاته وعدده، وقد ورد عنه صلّى الله عليه وسلم أن الله يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البنيان، وهو يشير إلى التحذير من الهزيمة، لأنه من الكبائر المهلكة ولهذا يجازى عليها بالإعدام ولعذاب الآخرة أشد وأمر، راجع الآية 94 من سورة البقرة والآية 176 من آل عمران والآية 15 فما بعدها من سورة الأنفال المارات. قال تعالى «وَ» أذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي» بتعنتكم وتطاولكم على الله إذ تقولون أرنا الله جهرة ولن نصبر على طعام واحد وتتهمونني بأني آذر، وتحرضون الباغية عليّ، وتنسبون لي قتل هارون أخي وعضيدي على إرشادكم كما مر في الآيتين 56 و 62 من الأحزاب المارتين، وتنكرون رسالتي

«وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» خاصة وطاعتي عليكم واجبة تعظيما لمن أرسلني وإن الأنبياء مبرّءون من العيوب ومعصومون بعصمة الله وهم بشر مثلكم لا قدرة لهم على إجابة ما تقترحونه عليهم إلّا بإذن الله «فَلَمَّا زاغُوا» عن الحق وأسروا على عنادهم «أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» عن الهداية وخذلهم وحرمهم من نور الإيمان وأضلهم عن اتباعه وأعماهم عن سبيله فخرجوا عن السّبيل إلى السّبل فضلوا وأضلوا وخسروا، راجع الآية 152 من الأنعام في ج 2 «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5) الخارجين عن طاعته. تنبه هذه الآية إلى أن أذى الرّسل يؤدي إلى الكفر ونزع نور الإيمان بحيث لا يبقى فيه قابلية للهداية «وَ» أذكر لقومك يا أكمل الرّسل أيضا «إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» بدلالة الوصف الموجود لي في توراتكم وإخبار الأنبياء قبلى إني آتيكم رسولا من قبل الله وقد بعثت لكم «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» بالإنجيل الذي أنزله الله علي وخفف به بعض ما في التوراة من التشديد راجع الآية 50 من آل عمران المارة تقف على هذا التخفيف «وَ» كما بشرت بي الأنبياء أممها، فقد جئت «مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» قال ابو موسى في حديث طويل سمعت النّجاشي يقول أشهد أن محمدا رسول الله، وأنه الذي بشّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر النّاس لأتيته حتى أحمل نعليه- أخرجه ابو داود- راجع تفسير الآية 199 من آل عمران المارة تعرف النّجاشي وعقيدته وصلاة الرّسول عليه. وقال عبد الله بن سلام: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم، فقال ابو داود والمدني قد بقي في البيت موضع قبر- أخرجه الترمذي- أي بقي في الحجرة المدفون بها حضرة الرّسول وصاحبيه موضع ليدفن فيه عيسى بن مريم راجع الآية 62 من سورة الزخرف ج 2 وفي اسم احمد إشارة إلى أن الأنبياء كلهم حامدون لله ومحمد وأحمدهم له، وإن الأنبياء كلهم محمودون، ومحمد أكثرهم حمدا روى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال قال صلّى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا احمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر النّاس

[سورة الصف (61) : الآيات 11 إلى 14]

على قدمي يوم القيامة، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي «فَلَمَّا جاءَهُمْ» الرسول المبشر به من قبل موسى وعيسى بالبينات «قالُوا» أي المرسل إليهم «هذا» الذي جاء به محمد من الآيات «سِحْرٌ مُبِينٌ» (7) ظاهر لا يخفى على أحد، فقد كذبوا وافتروا على الرّسول من اتهامهم له بالسحر، وعلى المرسل من كونه غير نبي، والافتراء على الرّسل افتراء على المرسل، ولهذا يقول جل قوله «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ» فيقول هذا سحر يدل التصديق والإجابة إليه وهذا كذب يدل الاعتراف به، فمثل هذا لا أظلم منه البتة «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (7) أنفسهم بالإنكار والجحود عقوبة لهم «يُرِيدُونَ» هؤلاء الظّلمة بافترائهم هذا «لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ» بأقوالهم المجردة عن الصّدق «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ» بإظهاره على غيره وعلو كلمة الإسلام على سائر الأديان «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (8) رغما عنهم شاءوا أم أبو «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» فلا يبقى على وجه الأرض دين إلّا وقد نسخ به وغلب أهله من قبل الإسلام لقوة دليله وعظيم برهانه وجليل سلطانه «وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (9) ذلك، فإنه ظاهر عليهم. ونظير هاتين الآيتين الآيتان 23 و 24 من سورة التوبة الآتية. وهذا سيكون ان شاء الله، ويتم بنزول عيسى عليه السّلام إذ يحكم النّاس ويدينهم بدين محمد صلّى الله عليه وسلم فلا يبقى إذ ذاك دين على وجه الأرض يعبد الله فيه إلّا دين الإسلام، لأن الأديان السّائرة تضمحل وبنضم بعض أهلها لدين الإسلام، وكان هذا زمن الرّسول ومن بعده وإلى الآن، ثم تجتمع الكلمة على الإسلام فقط إن شاء الله فلا يبقى إلّا مؤمن وكافر. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (10) كما ينجي التاجر الرّابح من الفقر ويغنيه غنى ما بعده غنى، وكأنهم قالوا ما هي هذه التجارة؟ فأنزل الله قوله «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ» الإيمان والجهاد هما أحب الأعمال إلى الله تعالى التي تسألون عنها، وأكثر ثوابا من جميع الأعمال

فهي التجارة الرّابحة «خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (11) ما ينتج عنها لأن نتيجه الإيمان دخول الجنان ورضى الرّحمن، ونتيجة الجهاد علو الشّأن ورفعة المجد، وهذا أفضل من ربح المال مع بقاء النّفس ذليلة حقيرة بسبب تسلط عدوها عليها، لأن النّفس الأبية التي تحب الموت في سبيل عزها لتوهب لها الحياة الطّيبة التي هي أحسن من كلّ شيء، والفعلان بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا وجوابهما فعل يغفر الآتي، أي إذا فعلتم هذا فإنه تعالى «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» الدنيوية ويعزّكم في دنياكم لاختياركم طريق العز «وَيُدْخِلْكُمْ» في الآخرة «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12) لأن فيه خير الدّنيا والآخرة فلا أعظم فوزا منه لأنه مما يعمل العاقل له في دنياه ليناله في عقباه «وَ» تجارة «أُخْرى تُحِبُّونَها» وهي في الدّنيا فقط «نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ» على أعدائكم «وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» (13) لبلاد أعدائكم واستيلائكم عليها واغتنام ما لدى أهلها، وقد كان هذا والحمد لله في صدر الإسلام وبعده، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشّهوات فحرموا تلك الفتوحات والغنائم وملاذ النّصر والظّفر، لإضاعتهم أمر دينهم وتفرق كلمتهم وتكالبهم على الدّنيا وخوفهم من الموت، وعسى أن يردهم الله لاقتفاء آثار أوائلهم فينالوا ما نالوه ويذوقوا طعم العز والظّفر. ونظير هذه الآيات الآية 25 من سورة الأنفال المارة فما بعدها، وقد رتب فيها الحياة على الجهاد، زرع الله في قلوبنا حبه لإعلاء كلمته، وجعلنا من المحبين لدعوته المقصودين بفضله، وما ذلك على الله بعزيز «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» بالنصر والفتوح يا سيد الرّسل في هذه الدّنيا والفوز والسّعادة في العقبي ماداموا مؤمنين حقا، وإنما سمى الجهاد تجارة لما فيه من الرّبح العظيم والعزّ في الدّنيا ورضى الله والجنّة في الآخرة، وهذه تبشر المؤمنين حال نزولها بقرب فتح مكة إنجازا لوعد الله به لهم، وقد كان ذلك، وفيها بشارة عامة لكل مؤمن يتصف بما ذكره الله في هذه الآية بالنصر والفوز على أعدائه في كلّ مكان وزمان. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ» لنبيكم وأجيبوا دعوته ولبوا كلامه وابذلوا شيئكم له «كَما قالَ

تفسير سورة الجمعة عدد 42 و 110 و 62

عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ» أصحابه الّذين آمنوا به «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» على إعلاء كلمته وإظهار دينه وخلاص عباده مما يشينهم «قالَ الْحَوارِيُّونَ» ملبّين دعوته رغبة بما وعدهم الله على لسانه «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» جنوده المجيبون لأمره المؤدون لشعائره المعينون له على أعدائه، أي كونوا أنتم يا أمة محمد مثل هؤلاء الأبرار لتفوزوا بخير الدّنيا والآخرة، فجاهدوا بأموالكم وأنفسكم مع إمامكم مع سلطانكم مع أميركم، ولا تهنوا وقد كنتم الأعلون «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ» بالسيد عيسى عليه السّلام وأجابت دعوته وجاهدت في سبيل الله فغنمت، إذ نشرت دعوته بعد رفعه بين النّاس، فآمن بهم خلق كثير فعلى المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم أن يتعاونوا ويقوموا دائما ببث دعوته والسّعي على طريقته ليفوزوا ببغيتهم ويظفروا بأعدائهم، فتعلو كلمتهم فيحوزون خير الدّنيا والآخرة، ولا يكونون لا سمح الله مثل المعنيين بقوله جل قوله «وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ» به فلم تجب دعوته ولم تؤمن به ونصبت له العداء من أجل تكليفهم لهدى الله ونفعهم بآلائه فخسرت وخابت. فكونوا يا أمة محمد من الطّائفة الأولى التي ملأت الأرض لتعلو كلمتهم ويرفع مجدكم فتدخلوا في قوله تعالى «فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ» وعدو ربهم «فَأَصْبَحُوا» أولئك المؤمنون «ظاهِرِينَ» (14) على الكافرين اللهم أيد المؤمنين على الكافرين برحمتك يا أرحم الرّاحمين. هذا والله أعلم. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة الجمعة عدد 42 و 110 و 62 نزلت بالمدينة بعد سورة الصّف. وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثلاثون كلمة وتسعمئة وعشرون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها. بدئت سورة التغابن بما بدئت به فقط، ومثلها في عدد الآي سورة المنافقين والضّحى والقارعة والعاديات فقط، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 إلى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» من دابة وجماد وجن وإنس وملائكة وحوت وطير لهذا الإله الجليل «الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (1) في ملكه وحكمه. واعلم أن التسبيح ثلاثة أقسام خلقه وهو إذا نظرت إلى كلّ شيء من المكونات الإلهية، دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه، وأنه الخالق الموجد له ومعرفة وهو جعل الله تعالى في كلّ شيء ما يعرف به ربه، بحيث لو سألته من سماك وسواك ينطق بلسان حاله أو قاله بلا تردد أو توقف معترفا بأن الله تعالى مكونه ومميزه عن غيره، يدلك هذا قوله عز وجل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية 15 من سورة الإسراء ج 1، وضرورة بان يجري الله تعالى لفظ تسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به على كلّ جوهر أوجده في كونه من غير معرفة له بذلك، راجع أول سورة الحديد المارة. واعلم أن هذا الإله العظيم المعلوم لدى كلّ خلقه المسبح بكل لسان «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ» أهل مكة ومن حولها لأنهم لا يقرءون ولا يكتبون ولا يحسبون «رَسُولًا مِنْهُمْ» أمّيّا مثلهم ومن جنسهم فجعله «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ» التي أنزلها عليه لإرشادهم ونصحهم، وهذه معجزة دالة على تصديقه كافية عن كلّ معجزة «وَيُزَكِّيهِمْ» بذلك من دنس الشرك ودون الكفر ووسخ العصيان «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» الذي أمره الله بتلاوته عليهم ليعرفوا معالم دينهم وما يرمي إليه «وَالْحِكْمَةَ» يعلمها لهم أيضا وهي الفقه فيه ليفطنوا لمراميه ويعلموا مغازيه ويتفهموا تعاليمه الحكيمة التي ترفع شأنهم بين الأمم وتعلى كلمتهم عليهم وتهديهم إلى طرق النّجاح والفلاح «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ» بعثته إليهم «لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2) ظاهر وهم مائلون عن الحق وطرقه لا يميزون بين الحلال والحرام، غافلون عما شرعه الله لأمم الأنبياء يدينون بما تسول لهم أنفسهم يتبعون شهواتهم في ذلك، تراهم عاكفين على عبادة الأوثان مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع، مائلين إلى هوى أنفسهم، لا يدينون بدين، ولا يعرفون رب العالمين. واعلم أن هذه التي بصدر هذه الجملة مخففة من الثقيلة واسمها محذوف (أي أنهم)

مطلب الفرق بين إن النّافية والمخففة ومما يدل على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم والفرق بين لم ولما: ووجود اللام في (لَفِي) دليل عليها وتسمى اللام الفارقة بين النّافية التي هي بمعنى ما وإن المخففة، لأن اللام لا تأتي بعد إن النّافية «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ» عطف على الأميين وهم كلّ من آمن بهذا النّبي الأمي واتبع دينه إلى يوم القيامة «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» لم يدركهم وسيجيئون بعدهم، أي فكما أنه صلّى الله عليه وسلم مبعوث لأهل مكة ومن حولها في ذلك الزمن مبعوث أيضا للأجيال الحادثة الآتية بعدهم وهذه الآية أيضا فيها دلالة على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم التي المحنا إليها في الآية 28 من سورة سبأ في ج 2 وعلى كونه خاتم الأنبياء كما أشرنا في الآية 40 من سورة الأحزاب المارة، وعلى فضله العام المنوه به في الآية 253 من سورة البقرة المارة ولهذا البحث صلة في الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 فراجعها. واعلم أن النفي بلمّا متصل إلى زمن التكلم بخلاف النّفي بلم فإنه منقطع عنه، فإذا قلت جئت ولم يأت زيد مثلا فيحتمل أنه جاء بعد مجيئك، وإذا قلت ولما يأت فيكون المعنى لم يأت إلى زمن التكلم. هذا وجاء في الحديث المخرج في الصّحيحين عن أبي هريرة قال كنا جلوسا عند النّبي صلّى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم إلخ قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الّذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هولاء. راجع الآية الأخيرة من سورة القتال سورة محمد صلّى الله عليه وسلم المارة لتعلقها بهذا البحث. واعلم أن هذا الحديث لا يخصص الآية بالفرس والأكراد ولا يقيدها بهم كما قال بعضهم لأن الآية عامة فيهم وفي غيرهم إلى يوم القيامة من كلّ من يأتي بعد ويدين بدين الإسلام من الملل والنّحل كافة، لأن المسلمين أمة واحدة عربهم وعجمهم أبيضهم وأحمرهم أسودهم وسمرهم وأصفرهم «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (3) الذي أيد هذا النبي الأمي ومكّنه في أمره العظيم ونصره على من أرسله إليهم ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها «ذلِكَ» الفضل الذي خص به هذا الرّسول المحترم

هو «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده برحمته ولطفه لا بعمل ولا بقوة قال في الجوهرة: ولم تكن نبوة مكتسبة ... ولو رقى في الخير أعلى عقدة وقال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية 124 من سورة الأنعام ج 2 «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (4) على خلقه ومن أعظم فضله عليهم إرسال محمد صلّى الله عليه وسلم لهدايتهم وإنقاذهم من الظّلمات إلى النّور، وأعظم فضله على أنبيائه أن خصهم برسالته، وجعلهم هداة لخلقه. واعلم أن مطلق الفضل يمنّ به الله على من من يشاء من عباده، وقد يكون لسبب اجتهاد العبد سواء كان دنيويا أو أخرويا أما النّبوة فلا تكون بالاجتهاد أبدا ولو قام اللّيل وصام النّهار طول عمره وتصدق بجميع ما عنده. قال تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ» فكلفوا علمها والعمل بها من الحمالة بالصدر والقلب لا من الحمل على الظّهر أو الأيدي «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» فلم يعملوا بها ولم يقوموا بحقها ولم يؤدوا ما افترضه الله عليهم بها، لأن من علم الشيء ولم يعمل به فكأنه لم يعلمه، فمثله في حالة هذه «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» كتبا عظاما جمع سفر وهو الكتاب الكبير الضّخم فوبخهم الله تعالى على مبلغ علمهم فيما أنزله إليهم وصدودهم وحدهم عنه بقوله جل قوله «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله لإرشادهم «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (5) أنفسهم لعدم قبولهم نعمة الله وتكذيبهم بآياته ولا يوجد بالقرآن آية مبدوءة بكلمة بئس إلّا هذه والآية 11 من الحجرات المارة وهذا مثل ضربه الله لليهود والّذين أعرضوا عمّا في التوراة وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم، كما أعرضوا عن الإيمان بعيسى عليه السّلام إذ لم ينتفعوا بما فيها ولا بما تلقوه من آثار الأنبياء السّالفين فلم يهتدوا بهديهم، لأن من جملة هدى التوراة والأنبياء الّذين عملوا بها الإيمان بالرسل الّذين يأتون بعد موسى الّذين منهم عيسى ومحمد وقد كفروا بهما، ولذلك شبهوا بالحمار الذي يحمل الكتب على ظهره ولم يدر ما هي فلا ينتفع بها، ولا فرق عنده بين أن يحملها أو يحمل حطبا، وهذا المثل يدخل فيه من يقرأ القرآن ولم يعمل به ولم يفهم مراده من معانيه، ولا

مغازيه من مراميه، ولم يفطن لما انطوى عليه من حكم وعلوم، وكذلك من أعرض عنه اعراض من لا يحتاج إليه وهجره في بيته كالمتاع الذي لا يسأل عنه، وهؤلاء هم الّذين شكاهم الرّسول إلى ربه بقوله تعالى (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) الآية 21 من الفرقان في ج 1. ويدخل هذا في قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الآية 124 من سورة طه في ج 1. ومما يؤسف أن أكثر أهل هذا الزمن هكذا وخاصة الشّباب الّذين لا يهمهم شأنه لانصرافهم إلى الكتب الحديثة التي لا علاقة لها بالدين والقرآن وتوغلهم في الرّوايات والقصص وغيرهما مما هو كذب وتخيل، وترى الفصيح منهم يقرأ السفر فلا يغلط فيه وإذا قرأ آية من القرآن يتخبط فيها فلا حول ولا قوة إلا بالله، يا ويح آبائهم ويا خسارتهم اللهم اهدهم وسائر المسلمين إلى سواء السّبيل واحفظهم من أن يدخلوا في معنى هذه الآية قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ» محمد فمن دونه وتقولون نحن أبناء الله وأحباؤه «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (6) في زعمكم لأن ما بينكم وبين الله إلّا الموت والمحب حريص على الاجتماع مع محبوبه وسريع الطّلب إلى الالتحاق به والآخرة لأحباب الله خير من الدّنيا ولكنكم كاذبون في دعواكم قال تعالى ردا على زعمهم هذا «وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الكفر المبعد عن الإيمان بالله فضلا عن تلبسهم بالجحود والظّلم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (7) أمثالهم الّذين يكرهون الموت لما فيه من الويلات عليهم وتهالكهم على الدّنيا وتكالبهم على البقاء راجع الآية 96 من البقرة المارة المصدرة بلن وهذه بلا وكلاهما نفي للمستقبل إلّا أن لن أكد من لا بالنفي وقد جاءت الآية الأولى بالتأكيد وهذه بدونه قال تعالى «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» حتما لا ينجيكم منه أحد ولا مهرب منه راجع الآية 78 من سورة النساء «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (8) في هذه الدّنيا ويجازيكم بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:

مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» أجمعت الأمة على أن المراد بهذا النّداء الأذان بين يدي الخطيب حين جلوسه على المنبر لا الأذان الأوّل على المنائر، روى البخاري عن السّائب بن زيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر النّاس زاد النّداء الثاني على الزوراء (موقع عند سوق المدينة مرتفع) زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك ولا بي داود قال كان يؤذن بين يدي رسول الله إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد. وسمى هذا اليوم جمعة لأن الله تعالى جمع خلق آدم فيه وفرغ فيه من خلق الدّنيا بما فيها من المخلوقات فاجتمعت فيه. ورواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنّة وفيه أخرج منها ولا تقوم السّاعة إلّا في يوم الجمعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله فيها شيئا ألا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها وأول من سماه في العرب كعب بن لؤي وكان يسمى يوم العروية وأول من جمع النّاس فيه بالمدينة سعد بن زرارة قبل تشريف النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وأول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في بطن وادي بني سالم بن عوف أفتتخذوه مسجدا وقد المعنا لما يتعلق في هذا البحث في الآية 124 من سورة النّحل والآية 4 من سورة الدّخان في ج 2 والآية المذكورة تحتوي على ما يتعلق بسائر الأيام فراجعها وما ترشدك إليه من المواضع. هذا وإذا سمعتم النّداء أيها النّاس «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» امضوا وسارعوا لا تجروا وتركضوا، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصّلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا «وَذَرُوا الْبَيْعَ» دعوه واتركوه ولبّوا داعي الله، ولفظ البيع يتناول الشّراء لأنه يطلق عليه «ذلِكُمْ» المبادرة إلى صلاة الجمعة وترك العمل عند سماع النّداء «خَيْرٌ لَكُمْ» عند الله من الانشغال في الأمور الدّنيوية كلها «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (9) ما يصلح لكم في الدّنيا

ويهذب نفوسكم فيها ويوصلكم إلى خير الآخرة التي خلقتم لأجلها، قال تعالى (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية 56 من الذاريات في ج 2 واعلم أن ثمرة العبادة وما تشتمل عليه من الصّدق والأمانة والوفاء وإن كانت في الدّنيا الثناء والمدح وائتمان النّاس على أموالهم وأعراضهم، إلا أن ثمرتها الحقيقة الدّائمة التي ينعم بها صاحبها تكون في الآخرة. الحكم الشّرعي يحرم البيع والشّراء وجميع الأعمال الدّنيوية عند الأذان الأخير حتى ان الفقهاء قالوا بعدم صحة العقود كلها إذ ذاك وكلّ عقد يقع آنذاك فهو باطل، ولا يجوز السّفر فيه أيضا، بدليل ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه، قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحه في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغزا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله ثم ألحقهم، فلما صلّى رآه صلّى الله عليه وسلم فقال ما منعك أن تغزو مع أصحابك؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم، فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غزوتهم. ورأى عمر رجلا يقول لولا أن اليوم جمعة لخرجت، فقال أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر. وهذا أولى من القول بعدم جواز السّفر فيها بعد طلوع الفجر، لأن النّهي عن السّفر والبيع وغيره وقت الأذان الثاني، أما قبله فلا مانع وتنعقد في ثلاثة مع الإمام، ولا تصح إلّا في المصر، وبإذن الوالي، ويجوز تعددها إذا لم يوجد جامع يسع المصلين كافة بقدر الحاجة، فإذا كان يكفي المصلين جامعان فلا حاجة إلى الثالث، وهكذا كي تصح الجمعة بإجماع العلماء، أما إذا كان التعدد زائدا على الحاجة ففيه أقوال بعدم صحتها، وأقوال بصلاة الظّهر بعدها احتياطا، ويجوز تركها للمريض ولمن يتعاهده ولمن يخاف من عدو أو ظالم وعند المطر والوحل. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه خطب في يوم ذي أرواح (جمع ريح لا روح بمعنى النّفس والأرواح بمعنى الرّاحة والرّحمة ونسيم الريح) فأمر المؤذن حينما بلغ حي على الصّلاة أن يقول الصّلاة في الرّحال، فنظر القوم فقال كأنكم أنكرتم عليّ؟ إن هذا فعله من هو خير مني، يعني النّبي صلّى الله عليه وسلم وإنها عزيمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطّين والرّحض والزلق. وهي فرض عين على كلّ مسلم حرّ بالغ عاقل ذكر مقيم. أخرج أبو داود عن طارق

ابن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة إلا على أربعة: عبد مملوك وامرأة وصبي ومريض، وتجب على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النّداء في موضع تقام فيه الجمعة. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الجمعة على من سمع النّداء. وهي آكد من الظّهر إذ لأظهر لمن بصليها، وأوجب الحنفية صلاة أربع ركعات في البيت بنية آخر ظهر احتياطا من أن يكون التعدد لغير حاجته. ولا تصلى في الجامع لئلا يعتقد العوام فرضيتها، لأن الله لم يفرض فريضتين بوقت واحد على عباده، وأوجب الشّافعية صلاة الظّهر حالة التعدد لعدم تحققه هل هو لحاجة أم لا، والأحسن عندهم أن تصلى في الجامع بجماعة وعليه العمل في الأمصار كافة، وتفصيل هذا البحث في كتب الفقه فلتراجع. وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن جابر. قال بينما نحن نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أقبلت غير تحمل طعاما فانقتلوا إليها حتى ما بقي مع النّبي صلّى الله عليه وسلم إلّا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه وفي رواية قال والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا وأراد باللهو ما يفعلونه عند استقبال القوافل بالطبول والتصفيق. وشروط صحة الخطبة: حمد الله بما هو أهله، والصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله، وتلاوة آية من القرآن في الخطبة الأولى، والدّعاء للمؤمنين في الثانية. ويستحب عدم تطويلهما ويراعى أحوال النّاس والمواسم، وكان صلّى الله عليه وسلم يطيل الصّلاة ويقصر الخطبة وإطالة الصّلاة في الصّبح والعشاء بحسب رغبة المصلين مطلوبة وقصرها في الظّهر والعصر والمغرب مسنون، لأنها أوقات اشتغال النّاس. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما. وروى مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا، فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقال الله تعالى (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) إلخ الآية قال تعالى «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» بيعا وشراء وعملا وغيره من أسباب الرّزق «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» بعد فراغكم منها، ومن ذكر الله تعالى بعدها قائما وقاعدا ومضطجعا، فقد ذكر الله

[سورة الجمعة (62) : آية 11]

كثيرا فأديموا ذكره «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (10) بفضل إدامة ذكر الله، لأنه بنور القلب ويقذف فيه المعرفة التي توضح له سبيل النّجاح في كلّ الأمور. ثم ذمهم الله تعالى على ما وقع منهم فقال عزّ قوله «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» أي التجارة يلهون بها عن صلاة الجمعة ولقلة أدبهم انصرفوا «وَتَرَكُوكَ» يا محمد «قائِماً» على المنبر ولم يقدروا قدرك وما تلقيه إليهم من النصح والإرشاد «قُلْ» لهم يا أكمل الخلق «ما عِنْدَ اللَّهِ» من الفضل المخبوء لكم بسبب سماع خطبته «خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ» وأعظم ريحا «وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (11) لأنه يرزق بلا مقابل. روى مسلم عن جابر قال كانت خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم ويقول بعثت أنا والسّاعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السّبابة والوسطى ويقول: أما بعد فخير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلال ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا (أولادا صغارا لا أحد لهم ولا مال) فإليّ وعليّ. تفيد هذه الخطبة أن رسول الله كان يزجر النّاس في خطبته ويعلي صوته فيها أحيانا لأن الوقت يستدعي ذلك، ولأن القوم حديثوا عهد شرك، وإن منهم لا يزال في نفاق، وهو مرسل من الله لتوطيد دعائم الدّين وتوحيد رب العالمين، وقد أمر بقتال من لم يؤمن، ومن دواعي هذه الأمور الزجر وعلو الصّوت. ومما جاء في محذورات الجمعة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت. وفي رواية ومن لغى فلا جمعة له. وروى مسلم عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله يقول على منبره لينتهبنّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكوننّ من الغافلين. وأخرج أبو داود والنّسائي عن أبي الجعد الضّمري وكانت له صحبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه ومن طبع الله على قلبه يجعله في أسفل درك جهنم. وللترمذي مثله. وروى البخاري عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطّهور

ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام الا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. وفي رواية وزيادة ثلاثة أيام ومن مسّ الحصى فقد لغا أي اشتغل عن سماع الخطبة به. وأخرج أبو داود والنّسائي عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من غسّل واغتسل وبكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنى من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها. واعلم أن بعض العلماء حسن الانصراف بعد سلام الإمام محتجا بقوله تعالى (فَانْتَشِرُوا) وهو خطأ، لأن الله تعالى قال فإذا فضيت الصّلاة إذا سلم الإمام وإن صلاة سنة الجمعة البعدية والأوراد التي أمر رسول بها بعد الصّلوات من تمام الصّلاة لما يترتب عليها من الأجر العظيم عند الله تعالى كما أخبر به رسوله والتحذير من تركها حرمانه من الأجر الذي أخبر به حضرة الرّسول، وفي الأخذ بقول هذا المتطفل ترغيب لترك السّنة التي أمر رسول الله بفعلها بعد الفرائض التي منها الجمعة، وترك التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير بعد الصّلوات التي أمر رسول الله بتلاوتها أيضا، فعلى أرباب العقول أن لا يأخذوا بأقوال هكذا عندية مبنية على ما تخيلوه تأويلا وتفسيرا، وأن يتمسكوا بظاهر الشرع وما عليه السّلف الصّالح ومن تبعهم من العلماء العاملين، لأن الذي يبادر الباب بعد السّلام كأنه فارّ من قفص أو هارب مما يكره كأنه ليس له عند ربه حاجة يدعوه بها، وكأنه تخلص من كان على عاتقه في الصّلاة، والأحسن له من أن يسابق غيره إلى الخروج من المسجد ويندفع معه على الباب أو يقف ليتحين الفرصة بوجود فرجة يخرج منها أن يصلي على الأقل ركعتين بعدها ويتلو الأوراد ثم يخرج بهدوء وسكينة، فقد جاء في صحيح مسلم سنته أربع ركعات بعد الجمعة وفيه من شغله أمر فليركع ركعتين في المسجد وركعتين في بيته، لأن هذا الفعل تهاونا في الجمعة، وقد أجمعت الفقهاء على سنيتها. هذا وقد بينا ما يتعلق بالأذكار الواردة بعد الصّلوات في الآية 39 من سورة ق والآية 92 من الفرقان في ج 1 وفيهما يرشدانك إلى المواضع الأخرى. أما ما جاء في فضل التبكير للجمعة فمنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة

غسل الجنابة ثم راح في السّاعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في السّاعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في السّاعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أحرم الإمام قعدت الملائكة يستمعون الذكر. وفي رواية كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأوّل فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصّحف (وكلمة راح في الحديث السّابق بمعنى خف إلى الصّلاة ومشى إليها وأخذته الأريحية طلبا لثواب الله تعالى) وروى البخاري عن عبادة قال أدركني ابو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النّار. فقد جعل الذهاب إلى الجمعة بمنزلة الذهاب إلى الجهاد في سبيل الله. فما بال أناس يتركونها بلا عذر ويحرمون أنفسهم هذا الثواب العظيم، ويتعرضون لمقت الله؟ روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم. وعن أبي الجعد الضّمري وكان له صحبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه- أخرجه أبو داود والنّسائي- وورد عنه عليه السّلام في حديث طويل قال فيه واعلموا أن الله فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا، من تركها تهاونا واستخفافا بحقها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، الا فلا صلاة له، الا فلا زكاة له، الا فلا صوم له، الا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه. وحديث مسلم الذي أشرنا إليه آنفا هو أنه قال إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعا فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت، وسنده فيه فراجعه فما بعد هذا عذر لمن يخرج فورا، ولنا رسالة خاصة في هذا البحث، وفي الأوراد والسّنن التي ينبغي فعلها بعد الفرائض في الرّد على من منعها أو حبذ تركها. هذا والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.

تفسير سورة الفتح عدد 25 - 111 و 63

تفسير سورة الفتح عدد 25- 111 و 63 نزلت بالمدينة بعد الجمعة عدا الآيات من 10 إلى 27 فإنها نزلت في الطّريق عند الانصراف من الحديبية فتعد مدنية أيضا، لأن إقامة الرّسول كانت في المدينة وكلّ ما نزل بعد الهجرة يعد مدنيا وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمة والفان وأربعمائة حرف، وقد بينا السّورة المبدوءة بما بدئت به في سورة الكوثر ج 1 ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ومثلها في عدد الآي التكوير والحديد فقط. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ» يا سيد الرّسل بما أمرناك به من مجاهدة أعدائك بعد حادثة الحديبية وقبول الصّلح فيها لأنها مقدمة لافتتاح مكة والبلاد المقدر فتحها على يديك حيث تلاها فتح خيبر وأعقبها بحادثة الأحزاب والفتوحات الأخرى من بلاد قريظة وبني النّضير وغيرها، ومن هذا يعلم أن مقدمة الفتوح هو صلح الحديبية الذي صعب وتعذر واشتد الضّيق فيه على المسلمين حتى يسره الله تعالى بمنه وكرمه وسهله والهم رسوله قبول الشّروط المجحفة التي اقترحها المشركون وكرهها أصحاب رسول الله إذ كان ظاهرها الغبن والحيف على المؤمنين، ولم يعلموا أنها باطنا تنطوي على الرّيح والفوز لهم، إذ سبب اختلاط المشركين بالمسلمين فاطلعوا على محاسن الإسلام ومكارم الدّين الحنيف وما يأمر به من مكارم الأخلاق وفواضل الآداب فملأ قلوبهم حبه، وشارفوا على مزايا حضرة الرسول فرغبوا في صحبته ودخل منهم في دينه خلق كثير قبل الفتح. والمراد بهذا الفتح المشار إليه في هذه السّورة فتح مكة شرفها الله وأعزها كما روى عن أنس رضي الله عنه. وقال مجاهد هو فتح خيبر الواقع عقب الحديبية. مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه: ومن قال بأن الفتح هو صلح الحديبية تكلف بأن يعدل إلى خلاف الظّاهر فضلا عن أن صلح الحديبية كان سنة ستّ وهذه السّورة نزلت في السّنة الثامنة إذ وقع فيها فتح مكة كما سيأتي، ومما يؤيد أن المراد بهذا الفتح فتح مكة قوله تعالى «فَتْحاً مُبِيناً» (1) ظاهرا

واضحا ولم يكن فتح الحديبية بغاية الظّهور المشار إليه في هذه الآية، ولا فتح خيبر، ولا غيرها أيضا ولا يصح إطلاقه إلّا على فتح مكة، لأن كلّ فتح دونها ليس بشيء إذ ذاك، ولأن كلمة الإسلام إنما علت بفتحها وما رفع شأن المؤمنين إلّا بعد فتحها الذي صار قاطعا للكفر، ما حيا آثاره، معلنا كلمة الإسلام، معظما أهله، خضعت فهى صناديد قريش وطلبوا الأمان من سيد الأكوان، واستسلموا لحكمه خاشعين خاضعين. ومن قال إن المراد بهذا الفتح فتح بلاد الرّوم إذا غلبت فارس فليس بشيء أيضا وهو خلاف الظّاهر ولا علاقة لفتح الرّوم بظهور الإسلام، وكذلك القول إن المراد بالفتح فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسّيف والعنان، لأن هذا تابع للفتح الفعلي لمكة، وقد كان والحمد لله مصداقا لقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ) الآية الخامسة من سورة الحديد، وقوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الآية 139 من آل عمران المارتين، وخلاصة هذه القصة هو أنه لما صالح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية كما تقدم في الآية 10 من سورة الممتحنة دخلت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة فيه عهد محمد صلّى الله عليه وسلم. ثم إن بني بكر عدت على خزاعة وهم على ماء لهم يسمى الوتير وأصابوا منهم رجلا وتحاربوا فيما بينهم، وكان من قريش أنها ردفت بني بكر بالسلاح وقاتلت معهم، وبهذا انتقض ما كان بين قريش وحضرة الرّسول من الميثاق بسبب ما استحلوه من خزاعة حليفته، ولهذا قدم عميدهم عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله في المسجد وخاطبه على ملأ من النّاس بقوله ... يا رب إني ناشد محمدا: خلف أبينا وأبيه الأتلدا ... قد كنتم ولدا وكنا ولدا ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا ... فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا إن تمّ حسنا وجهه تريدا ... في فيلق كالبحر يجري مزيدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعوا أحدا وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتوتا في الوتير هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا ... فانصر هداك الله نصرا أيدا فقال صلّى الله عليه وسلم قد نصرت. وعرض صلّى الله عليه وسلم إلى عنان السّماء وقال مشيرا إليه لتشهد بنصر بني كعب رهط عمرو بن سالم، ثم جاء بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة وعرضوا لرسول الله بما أصابهم من مظاهرة قريش بني بكر، فقال صلّى الله عليه وسلم للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشدّد في العقد ويزيد في المدة رهبا من الذي صنعوا فلم يحسوا إلّا وأبو سفيان بالمدينة، وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلم ومن الغيب الذي أطلعه الله عليه، وقد دخل على بنته أم حبيبة رضي الله عنها فأراد أن يجلس على فراش رسول الله فطرته من أمامه وقالت له أنت رجل نجس لا أحب أن تجلس على فراش رسول الله الطّاهر المطهر، فقال لها والله لقد أصابك بعدي شرّ، فتركها ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه، فذهب إلى أبي بكر وكلمه بأن يكلم له محمدا، فقال ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر فكلمه بذلك فقال أنا أشفع لك لا والله، لو لم أجد إلّا الذي لجاهدتكم بها ثم اتى عليا وعنده فاطمة والحسن يدب بين يديهما واسترحمه أن يشفع له فقال ويحك يا أبا سفيان لقد أدى عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة واستشفعها وقال تأمري بينك هذا فيجيرني بين النّاس فيكون سيد العرب إلى آخر الدّهر، فقالت ما يجير أحد على رسول الله. فقام أبو سفيان في المسجد بمشورة من علي وقال أيها الناس إني قد أجرت بين النّاس وانما فعل هذا وهو لم يجره أحد ليعلم النّاس أنه قد أجير فلا يتعدى عليه أحد وإنما أمره علي بذلك لما رأى- كرم الله وجهه- من تلبّكه، فأرشده إلى ذلك ليأمن على نفسه إذ رأى ممن أراد أن يستجير بهم قلب الجن، فاعتراه خوف ورعب وذل وهوان، الجأه إلى فعل ما فعل، ولأنه استجار بابنه الحسن وهو طفل فأبت مروءته إن لم يجره ان يدله على ما إذا قاله ظن النّاس أنه قد أجير، وكان ذلك، ثم رجع إلى مكة آيسا مما كان يتوخاه مبلسا مما رآه. ولما وصل قصّ على قومه ما لا قاه، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس بالجهاد، وأعلمهم بأنه سائر إلى مكة، وقال اللهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نبغتها في بلادها، وإذ ذاك كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى

قريش يعلمهم بمقدم رسول الله وأصحابه، كما تقدمت قصته أول سورة الممتحنة المارة واستخلف رسول الله على المدينة أبا دهم كلثوم بن حصين بن عيبنة بن خلف الغفاري، وخرج صلّى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، وقيل اثنى عشر الفا، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار لعشر يقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، حتى نزل بحر الظهران، وقد أعمى الله الأخبار عن قريش، ولقى العباس مهاجرا بأهله في الطريق وهو آخر من هاجر، فحمله رسول الله على بغلته وقال ووا صباح قريش والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة ليكون إهلاكا لقريش إلى آخر الدّهر. قال العباس فجئت الأراك لعلي أجد من يخبر أهل مكة بمكان رسول الله ليستأمنوه إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فقلت أبا حنظلة: فقال أبا الفضل فقلت نعم، قال ما بالك فداك أبي وأمي؟ فقلت ويحك يا أبا سفيان جاءك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما لا قبل لكم به، والله ليضربن عنقك، قال فما الحيلة؟ قلت اركب عجز هذه البغلة حتى آتيك به فاستأمنه لك، فركب، قال العباس فدخلت به على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقلت هذا أبو سفيان، فجاء عمر وقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له العباس قد أجزته، فقال صلّى الله عليه وسلم ويحك يا أبا سفيان، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك يا رسول الله وأكرمك، قال ألم يأن لك أن تعلم إني رسول الله حقا، وإن الله وحده لا شريك له، وإن البعث حق، قال بأبي وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك الرّحم. أما هذه فإن في النّفس منها حتى الآن شيئا، فقال له العباس قلها قبل أن يضرب عنقك فقالها وأسلم. ثم قال العباس يا رسول الله انه يحب الفخر فاجعل له شيئا قال فليناد عند دخول الجيش المبارك مكة شرفها الله من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أعلق عليه ببابه فهو آمن. ثم قال يا عباس احبسه بمضيق الوادي حتى يرى جنود الله، قال فخرجت به حتى وقفت به حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصارت تمر القبائل، فجعل يقول كلما تمر واحدة مالي ولهؤلاء! حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء، وإنما سميت خضراء لكثرة الحديد فيها فلا يرى منهم إلا الحدق، فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله في المهاجرين

والأنصار، فقال ما لأحد ولهؤلاء من قبل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، قلت ويحك إنها النّبوة، قال نعم. ثم تركه فلحق بقومه، ولما قرب منهم صاح بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم، قالوا فمه، أي بماذا تأمرنا وماذا نفعل؟ قال من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا وما تغني عنّا دارك؟ قال من أغلق بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى المسجد وإلى دورهم، فجاء حكيم بن خزام وبديل بن ورقاء رفيقاه وأسلما وعمدا إلى مكة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أثرهما الزبير وأمره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يركز رأيته بأعلى مكة بالحجون، وقال له لا تبرح مكانك، وأمر خالد بن الوليد فيمن اسلم من قضاعه وبني سليم وأمرهم أن يدخلوا من أسفل مكة، وقال الزبير وخالد لا تقاتلا إلّا من قاتلكما وأمر سعد ابن عبادة أن يدخل في بعض النّاس من كدى، فقال سعد اليوم يوم الملحمة يوم تحل تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم المحرمة، فقال صلّى الله عليه وسلم لعلي عليه السّلام أدركه وخذ الرّأية منه وكن أنت الذي تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم وان تعلفوا بأستار الكعبة. وقيل قال لسعد بل اليوم يوم المرحمة. ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعا لربه الذي أكرمه بالفتح المبين، حتى أن رأسه الشّريف يكاد يمس واسطة رحله، ولم يقع قتال إلّا في جهة خالد، إذ عارضه المشركون بالدخول من حيث أمره الرّسول، فقتل منهم بضعة عشر رجلا، وقيل سبعين، وإن حضرة الرّسول أنبه على ذلك إن كان على ما قيل إنه أرسل إليه من قال له ضع السّلاح عنهم، وإن هذا يقول إلى خالد يأمرك رسول الله أن تضع السّلاح فيهم. وان جبريل عليه السّلام قال لرسول الله لماذا تعاقب خالدا وهو إنما فعل لإبرار قسمك، وذلك أن صلّى الله عليه وسلم لما رأي حمزة ممثلا به في واقعة أحد أخذته الحدة وقال والله لأمثلن بسبعين منهم، وهناك أنزلت الآيات من آخر سورة النّحل التي أولها (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) إلخ كما المعنا إليه في الآية 122 من آل عمران المارة فراجعها. وقتل من المسلمين ثلاثة: سلمة بن الميلاد الجهني وكرز بن جابر وخنيس ابن خالد بن الوليد. أما الّذين هدر دمهم رسول الله فهم: عبد الله بن سعد بن

أبي سرح لارتداده عن الإسلام فاستاء منه أخوه من الرّضاع عثمان بن عفان وعبد الله بن حنظلة لأنه قتل مولاه المسلم واتخذ مغنيتين تهجوان حضرة الرّسول قتلت إحداهما واستأمنت الأخرى رسول الله فأمتها، والحويرث بن فضيل بن وهب لشدة إيذائه حضرة الرّسول، ومقيس بن خبابة لقتله الأنصاري وارتداده، وسارة مولاه بني عبد المطلب لأنها كانت مبالغة في إيذائه بلسانها فاستأمنت الرّسول فأمنها وعكرمة بن أبي جهل، وقد استأمنت له حضرة الرّسول زوجته أم حكيم بن الحارث فأمنها، ثم جاءت أم هاني لنستأمن رسول الله على رجلين أراد على قتلهما فقال مرحبا وأهلا قد أجرنا من آجرت. ثم دخل صلّى الله عليه وسلم البيت المكرم فطاف به وصلّى وأخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتحها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها وطرحها ثم وقف على بابها فقال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة أو دم أو ما يدعى فهو تحت قدمي هذين، إلا سدانة البيت (التي ألمعنا إليها في الآية 58 من آل عمران فراجعها) وسقاية الحاج، الا وقتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدّية مغلظة مئة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية 13 من سورة الحجرات المارة يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم، قال فاذهبوا فأنتم الطّلقاء. فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم جلس فبايعه النّاس على الإسلام والنّصرة، وثم له الفتح على هذه الصّورة. ثم ظنت الأنصار أنه يقيم بمكة بعد أن أتم الله له وعده ويتركهم فنظر فرآهم يتنابسون بذلك، فقال لهم ما معناه كلا إن الحياة معكم والموت معكم، فاطمأنت نفوسهم وامر على مكة أسيدا وعاد إلى المدينة ومن أراد زيادة إيضاح قصة الفتح فعليه بمراجعة السّير. وهذا الفتح الواقع من طريق الغزو والجهاد «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» إذ رتب عليه هذا الأجر العظيم لك يا سيد الرّسل، لأن ثواب الجهاد أعظم ثواب، فأجدر أن يكون سببا لمحو ما فرط

منك قبله وانطماس ما سيفرط منك بعده من كلّ ما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك الكريم وإلّا فإن الله قادر على أن يفتح لك البلاد ويخضع لك العباد دون غزو أو جهاد ولكن ليكون سنة لمن بعدك ويكون ثوابه كفارة للذنوب لهم أيضا. وقد بينا ما يتعلق في ذنوب الأنبياء في الآية 16 من سورة البقرة المارة. وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي فيها هذا البحث «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» بفتح البلاد الأخرى وينصرك على كلّ من يناوئك، ويظهر دينك على سائر الأديان، ويمكنك في البلاد والعباد «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (2) في جميع أمورك الحاضرة والمستقبلة كما هي الحال فيما مضى من أمرك لتكون ظاهرا دائما «وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» (3) لم يسبق له مثيل وحيد في نوعه فريد في بابه لا ذلّ ولا خذلان بعده أبدا «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» فملأها طمأنينة وثباتا ووقارا حتى ساروا معك جميعهم فلم يتخلف عنك إلّا من أذنته بالتخلف، إذ لم يقع في هذه الغزوة معارضة ما من أحد، بل كان كل منهم منقادا عن شوق ورغبة وحزم «لِيَزْدادُوا إِيماناً» ويقينا وصبرا وطاعة «مَعَ إِيمانِهِمْ» الذي هم عليه. وكأن قائلا يقول كيف نصره الله مع قلة عدده وعدده بالنسبة إلى أعدائه؟ فقال تعالى جل قوله «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يكاثر ولا يغالب ولا يقابل إذ يجعلهم عونا للمؤمنين على أعدائهم ويكثر سوادهم ويقلل أعدائهم بأعينهم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بجنوده الموجودين فيهما وكثرتهم وقوتهم «حَكِيماً» (4) في نصر نبيه وأصحابه على أعدائهم بإراءتهم القليل كثيرا لإيقاع الرّعب والخوف والذل في قلوب أعدائه، وإذا أراد أرسل صاعقة تدمرهم أو صيحة من أحد ملائكته تقصف قلوبهم فتميتهم حالا، أو يخسف بهم الأرض أو يغرقهم في الماء فيهلكهم عن آخرهم، كما فعل بالأمم السّابقة، وهو القادر على إلقاء الرّعب في قلوب أعدائه والجبن والخوف من أوليائه، ويلقي الثبات في قلوب المؤمنين فيبيدوا أعداءهم مهما كانوا، وهو القادر على إبادة الكفار بما أراد من عذاب دون سبب، ولكنه أراد أن يقهرهم ويهلكهم بصورة ظاهرة بواسطة جيشه المبارك الذي تسلح بقوة اليقين ومتانة الايمان ووقاية العزم وحماية الحزم.

وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدّروع وعن عال من الأطم «لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» الّذين جاهدوا معه «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» بسبب طاعتهم وثباتهم وبذل أموالهم وأنفسهم فى إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ويجعلهم «خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» قبل دخولها، ثم بدخلهم فيها طاهرين مطهرين «وَكانَ ذلِكَ» التكفير والتخليد في تلك الجنّات «عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» (5) لهم لا أعظم منه، ولهذا جعل النصر والفتح على ما كان من بروزهم وجهادهم طائفين مختارين، ولا يخفى أن العطف بالواو لا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا، ولهذا جاءت جملة (وَيُكَفِّرَ) بعد جملة ليدخل. روى البخاري ومسلم عن أنس، وأخرج الترمذي، عن قتادة عن أنس قال أنزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) إلخ مرجعه من الحديبية، فقال صلّى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي اللّيلة آية أحب إلي مما في الأرض، ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم، فقالوا أصحابه هنيئا مريئا يا رسول الله، لقد بين لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) وليس المراد نزول السّورة كلها، لأن نزولها كان بعد ذلك كما ذكرنا، وأن المراد بهذه الآية آية المبايعة الآتية وما يتعلق بواقعة الحديبية المارة في الآية 10 من سورة الممتحنة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنزلت علي اللّيلة آية) ولو كان كذلك لقول سورة لهذا يحتمل أنه سمعها بعد ذلك تدبّر «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» وقدم المنافقين هنا وفي أمكنة أخرى، لأنهم أشد بلاء على المؤمنين من الكافرين لاختلاطهم معهم واطلاعهم على أسرارهم باعتبار أنهم مؤمنون ظاهرا لا يحترز منهم، أما الكافرون فيحترز منهم ويتحاشى عن إفشاء السّرّ بينهم لظاهر عداوتهم، ولذلك فإن عذابهم يكون أشدّ من عذاب الكافرين، قال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بعد قوله (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما أشرنا اليه في هاتين الآيتين 140 و 145 من سورة النّساء المارة، ثم وصفهم بما هم متلبسون به بقوله «الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ» أي بان الله لا ينصر رسوله وأصحابه ولا يرجعهم إلى المدينة في غزوتهم هذه «عَلَيْهِمْ» جزاء ظنهم هذا «دائِرَةُ السَّوْءِ»

والهلاك والعذاب الذي يتوخون أن يصيب المؤمنين «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» لما يحقدون على المؤمنين «وَلَعَنَهُمْ» زيادة على لعنهم الأوّل «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (6) ومنقلبا قبيحا لأملها «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (7) كررت هذه الآية تأكيدا، ولأن جنود السّموات والأرض منهم للرحمة قد مرّ ذكرهم في الآية الأولى قبل ذكر إدخال المؤمنين الجنّة ليكونوا معهم فيثبتوهم على الصّراط وعند الميزان، فإذا دخلوها الفوا إلى جوار الله ورحمته، فلا يحتاجون بعدها إلى شيء، ولذلك ختم تلك الآية بقوله عَلِيماً (حَكِيماً) ومنهم للعذاب فأخر ذكرهم في هذه الآية بعد ذكر تعذيب الكافرين والمنافقين ليكونوا معهم فلا يفارقوهم أبدا، ولذلك ختم هذه الآية بقوله (عَزِيزاً حَكِيماً) كقوله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الآية 20 من سورة الزمر ج 2 وقوله (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) الآية 43 من سورة القمر في ج 1 «يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» على الأنبياء قبلك وأممهم وأمتك ومن توالد منهم إلى يوم القيامة «وَمُبَشِّراً» أهل الخير بالجنة دائمة النّعيم «وَنَذِيراً» 8 لأهل الشّر بالنار دائمة الجحيم، وإنما جعلنا نبيّكم أيها العرب مخصوصا بهذه المزية «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ» تنصروه نصرا مؤزرا مع التعظيم والتبجيل «وَتُوَقِّرُوهُ» تحترموه مع الإجلال والتكريم «وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (9) وهذه الضّمائر كلها لله تعالى. وما قيل إن ضمير تعزروه فما بعده لحضرة الرّسول وضمير تسبحوه لجلالة الإله لا يصح إلّا أن يجعل الوقف على وتوقروه وقفا تاما ثم يبتدأ مستأنفا بما بعده، وهذا بعيد، لذلك جرينا على خلافه وهو الأولى والأحسن بدليل التعليل أول الآية واجراء نسق العطف على ما هو عليه وقرئت هذه الأفعال كلها بالتاء دلالة على ذلك، ويجوز قراءتها بالياء على التبعة بطريق الالتفات والمعنى على ما هما عليه. وهذه الآيات التي نزلت بالطريق بعد منصرف رسول الله من الحديبية كما أشرنا إليه أول السّورة. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» أي المبايعين والمبايع له، واعلموا أيها المؤمنون انكم ألزمتم أنفسكم في هذه المبايعة الشّريفة النّصرة

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 11 إلى 20]

لحضرة الرّسول بصورة المعاهدة والمواثقة «فَمَنْ نَكَثَ» فيها ونقض عهده الذي أعطاه لك يا سيد الرّسل «فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» ولن يضرّ الله شيئا بل يعود ضرره على نفسه «وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ» في هذه البيعة والعهد «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (10) في الآخرة وفخرا كبيرا في الدنيا. واعلم أن الهاء في عليه المارة في هذه الآية تقرأ بالضمّ، ولا يوجد في القرآن غير هذه الهاء مضمومة بعد على تفخيما للفظة الجلالة، وأجمعت القراء عليه بالتلقي من حضرة الرّسول وأصحابه من بعده، ويوجد في الآية 69 من سورة الفرقان في ج 1 (فِيهِ) تقرأ بإشباع الهاء كسرا، كذلك وردت بالتلقي أيضا فلا يجوز كسر الأوّل ولا تخفيف الثاني تبعا لقواعد الإعراب والنّطق لأنهما مستقاة من القرآن والمنزل عليه. واعلم أن هذه البيعة هي الواقعة تحت الشّجرة في الحديبية المشار إليها في الآية 17 من سورة الممتحنة المارة، ومعنى المبايعة هي العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل طاعته للسلطان ويلزمه الوفاء بها وبكل عهد ألزم نفسه به، راجع الآية 92 من سورة النّحل في ج 2 وما ترشدك إليه. وتسمى هذه البيعة بيعة الرّضوان لابتداء الآية بقوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ) إلخ كما سيأتي بعد في هذه السّورة، والمبايعة مع الرّسول مبايعة مع الله تعالى، كما أن المبايعة مع السّلطان المسلم مبايعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال تعالى «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ» من غفار ومزينه وجهينة وأشجع وأسلم، وذلك حين رجوعه من غزوته هذه إلى المدينة، أي غزوة الحديبية معتذرين من تخلفهم عن الذهاب معه، وهذا من الإخبار بالغيب أيضا لأن هذه الآيات نزلت في الطّريق قبل وصوله المدينة وتقدم المعتذرين لحضرته بالاعتذار وهو قولهم لك إنا لم نتخلف عنك كلا ولا جبنا ولا لأمر آخر وإنما «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» عن استصحابك إذ ليس لنا من يخلفنا عليهم ويقوم بأمورهم فيكون خليفتنا فيهم «فَاسْتَغْفِرْ لَنا» يا رسول الله، لانا معترفون بالإساءة والتقصير مع عذرنا هذا راجع الآية 64 من سورة النّساء المارة، فأكذبهم الله بقوله «يَقُولُونَ» لك يا أكمل الرّسل هذا القول «بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي

قُلُوبِهِمْ» من حقيقة التخلف لأنهم أرادوا به تقليل سواد جيش المؤمنين وخذلانهم وأن يبينوا لأهل مكة أنهم ليسوا مع الرّسول بسبب ما هو كامن في قلوبهم من النّفاق والعداء للرسول وأصحابه، فهذا هو سبب تخلفهم لا ما اختلقوه من العوز الكاذب، وان طلبهم الاستغفار صورة، لأنهم لا يعتقدون منفعته وحقيقته «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الكاذبين إذا كان الأهل والمال عائقين عن الذهاب للجهاد أو لمجرد استصحابك «فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا» القتل أو الهزيمة أو خلل بالمال والأهل أو مجرد عقوبة على تخلفكم هذا «أَوْ أَرادَ بِكُمْ» ما يضاد ذلك من كلّ أنواع الخير مما يعدّ رزقا تنتفعون به «نَفْعاً» هل ينفعكم غير الله، وهل يكشف الضّر عنكم غيره؟ فسيقولون لك كلا لا أحد البتة، ولذلك فلا محل لقبول عذرهم «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (11) وقد أخبر الله رسوله بأنكم ستعتذرون في هذه الأعذار الواهية بألسنتكم وتخفون ضدها، والأمر ليس كما ذكرتم بل كما قلت لكم «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» وقلتم إن أهل مكة سيستأصلونهم جميعا فلا يرجعون إلى المدينة «وَزُيِّنَ ذلِكَ» الظن من قبل الشّيطان «فِي قُلُوبِكُمْ» وقطعتم بصدقه «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ» بأن الله تعالى مخلف وعده لرسوله فينهزم ويغلب «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» (12) بائرين هالكين «وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ويظن بهما هذا الظّن السّيء الذي يؤدي إلى كفره «فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» سماهم كافرين هنا لأنهم ظنوا بالله اخلاف وعده لرسوله، ومن يظن هذا الظّن فهو كافر ويكون مأواه «سَعِيراً» (13) نارا متأججة، لأنه لم يصدق قول الله ورسوله ولو صدق لما ظن هذا الظّن، ثم إن الله تعالى لم يقطع أمل المنافقين منه إذا تابوا وأنابوا ونصحوا، وقد فسح لهم الأمل بقوله جل قوله «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يقيم فيهما من يشاء من خلقه وكلّ من وما فيهما ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ويختار طائعهم وعاصيهم «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (15) بخلقه لا يزال يقبلهم

إذا رجعوا إليه مخلصين، ثم ان حضرة الرّسول بعد أن وصلوا المدينة صار يعرض بغزو خيبر لأن الله فتحها وتخصيص غنائمها بالّذين شهدوا الحديبية وأخبره الله بما سيقول الّذين لم يشهدوها معه بقوله «سَيَقُولُ» لك «الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» وقد أظهر الله تعالى كذب عذرهم في قولهم هذا لأنهم لم يحتجّوا بأشغالهم وأموالهم وأهليهم كما ذكروا قبل عند طلبهم الاستغفار لما في هذه الغزوة من أمل الغنيمة، بخلاف الحديبية لأنها كانت للزيارة فقط، وبان بهذا أن مبنى حالهم على الطّمع ليس إلا «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا» بطلبهم هذا الالتحاق معكم «كَلامَ اللَّهِ» الأزلي القاضي بعدم ذهابهم وباختصاص غنائم خبير لأهل الحديبية، فإذا قبلتم طلبهم فينبغي أن تشركوهم بالغنائم، والله تعالى لم يرد ذلك، فكأنهم غيروا كلام الله، وهذا هو قصدهم ليس إلّا فيا سيد الرّسل «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» أبدا ما دمتم على نفاقكم لا مطلقا لمنافاته لما يأتي بعد «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ» وأوحى إلى نبيه به «مِنْ قَبْلُ» وصول المدينة أثناء رجوعه من الحديبية لا الآن «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا» على ما يصيبنا مما تعنونه. قال تعالى «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (15) من كلام الله مما فيه نفع لهم فقط وهذا هو الذي سبب حرمانهم لا من كون المؤمنين يحمدونهم. فيا أكمل الرّسل «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى» قتال «قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» وعزم قوي، فإن أطعتم «داعيكم إلى قتالهم كنتم مؤمنين حقا ولكم الأجر من الله والنّعمة والمغفرة كما سبق من ذنوبكم كلها إلى يوم تلبيتكم هذه الدّعوة، وإذا أعرضتم وثبّتم على نفاقكم فلكم العذاب الأليم على ما اقترفتموه وهؤلاء الّذين ستدعون إلى قتالهم «تُقاتِلُونَهُمْ» فتقتلونهم «أَوْ يُسْلِمُونَ» فيسلمون لكم ويؤمنون بالله ورسوله ولكم بذلك الثواب الذي ما فوقه ثواب، لا يقاس بكل الغنائم، قال صلّى الله عليه وسلم لأن يهدبك الله رجلا خير لك من حمر النّعم. وفي هذه الآية بشارة لتحقيق أحد الأمرين النّصر والظّفر أو الإسلام والإيمان «فَإِنْ تُطِيعُوا» من يدعوكم لقتالهم «يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً لقاء إطاعتكم هذه وكذلك كلّ طاعة لرسولكم وإمامكم وأميركم

يكون لكم فيها الأجر الحسن والثواب الجليل «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ» عن واقعة الحديبية «يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» (16) لا تطيقه أجسامكم، وهؤلاء القوم الّذين وصفهم الله بالحزم البالغ هم هوازن وثقيف لأنهم من أشد العرب بأسا، وقد نزلت هذه الآية فيهم، والله أعلم، والدّاعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا التفسير والتأويل أنسب بالمقام لأنه بمعرض الامتحان للمنافقين المذكورين، وان قوله تعالى (لَنْ تَتَّبِعُونا) مقيد بأمرين في غزوة خيبر لما سبق من أن الله تعالى خصص غنائمها لأهل الحديبية، واستمرارهم على النّفاق، وعليه فإنهم إذا آمنوا وصدقوا بقلبهم ولسانهم ونصحوا الله ورسوله فلا مانع من اتباعهم لحضرة الرّسول في غزواته الأخر. وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بهم فارس والرّوم حينما دعاهم إلى حربهما عمر رضي الله عنه زمن خلافته وإن هذه من قبيل الأخبار بالغيب بعيد عن المعنى المراد بسياق الكلام وسياقه، وأبعد منه القول بأنهم بنو حنيفية أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب حينما دعاهم لحربهم أبو بكر رضي الله عنه في خلافته، لأن ما نحن فيه ينافي هذين الأمرين لما فيه من عود الكلام إلى غير مذكور، ولا يوجد ما يدل عليه، ولا هو معلوم أو مشهور راجع الآية 22 من سورة ص في ج 1 وما هو في معناها مما رمزنا إليه في تفسيرها وإن عود الكلام إلى ما سبق له ذكر كما جرينا عليه أولى بالمقام وأنسب للمعنى المراد وأحسن، ولأن هاتين الحادثتين وقعتا بعد نزول هذه الآية بسنتين وكونها من الأخبار بالغيب جائز ككثير من أمثالها، ولكن مناسبتها لما قبلها يبعد ذلك والله أعلم، واعلم أن كلّ من تخلف عن دعوة الإمام إلى الحرب دون عذر شرعي فهو منافق يدخل دخولا أوليا في هذه الآية، لأن تخلفه دليل على عدم نصحه لامامه، وإن ما في قلبه مخالف لما في لسانه، وإن حضرة الرّسول لو لم يدعهم إلى جهاد هوازن وثقيف حينما استنفر النّاس لحرب حنين وبني المصطلق الآتي ذكرهما بعد في سورة التوبة الآتية التي قصد بها اختبارهم وإظهار رجوع من رجع منهم عن نفاقه لما جاز، بل لا متنع أبو بكر وعمر من الاذن لهم بالخروج معهم إلى الجهاد كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لا متناع رسول الله من أخذها منه، وكما

امتنعا من إعادة مروان بن الحكم من منفاه لأن حضرة الرّسول طرده من المدينة لأنهم لا يخالفون رسولهم قيد شعرة قولا ولا فعلا حيا كان أو ميتا، وهذا مما يدل على صحة ما ذكرناه وعلى أن الدّاعي هو حضرة الرّسول لا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. واعلم أن من قال أن الدّاعيين أبو بكر وعمر استدل على صحة خلافتهما، إذ وعد المدعوين بالثواب على طاعة الدّاعين وليس بشيء، وخلافتهما لا يمتري فيها إلّا منافق أو حسود فاسق. ولما سمع الزمنى والمرضى والعرج والعميان هذه الآية قالوا كيف حالنا يا رسول الله؟ فأنزل الله جل شأنه «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» في التخلف عن الجهاد لعدم قدرتهم على الكر والفر ويدخل في هذه الآية الفقير الذي لا يمكنه استصحاب ما يلزمه من أدوات الجهاد ولم يمنحه الإمام أو الأمير شيئا يكفيه لذلك ويدخل في هذه الآية من يمرض المريض كما سيأتي في الآيتين 93 و 94 من سورة التوبة الآتية، أما ما جاء في آية النّور 62 المارة المضاهية لهذه الآيات من حيث اللّفظ فهي في حق الأكل لا في حق الجهاد إذ كلّ منها جاءت لمناسبة ما قبلها «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن أمرهما ويعرض عنهما «يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» (17) في الدنيا والآخرة. قال تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من الصّدق والإخلاص في بيعتهم لك والوفاء بما عاهدوك به وواثقوك عليه، لأنهم صرحوا بالموت وعدم الفرار في مبايعتهم وما بعد هذا من وفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من الشّك والنّفاق والظّن السّيء «فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ» وثبتهم واطمأنت نفوسهم «وَأَثابَهُمْ» على ذلك «فَتْحاً قَرِيباً» (18) لأراضي خيبر وقراهم «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها» منها ومن غيرها فيما يأتي من الزمن إلى يوم القيامة إن شاء الله «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (19) ولم يزل كذلك على الدّوام والاستمرار «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ» مغانم خيبر لتسدوا حاجتكم فيها، وهي في جنب ما يأتيكم بعد قليل من كثير، وفيها إشارة إلى كثرة

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 21 إلى 29]

الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله تعالى إيّاها في المستقبل «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» أي أهل خيبر إذ وقع في قلوبهم الرّعب فلم يجرؤا على قتالكم، وكذلك حلفاؤهم أسد وغطفان كفّهم عنكم وألقى في قلوبهم الرّعب فمالوا إلى الصّلح كما سيلقيه في قلوب أهل مكة فيستسلمون لكم «وَلِتَكُونَ» هذه الفتوحات والغنائم «آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» وعبرة يعرفون بها مكانتهم عند الله وضمانة لهم بالنصر والفتح وعظة لأعدائكم كي لا يجرءوا على مقابلتكم، ودلالة على صدق ما وعد الرّسول بذلك وإيقانا بأن إخباره بالغيب حق وصدق ثابت واقع لا مرية فيه، فيزدادوا إيمانا ويقينا بما يخبر «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (20) بمنه وفضله «وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» فهي مؤخرة تأتيكم بعد «قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها» وحفظها لكم ومنع الغير من تناولها حتى وإن فتحها من قبلكم أيها المؤمنون فتأخذونها أيضا قال ابن عباس هي فارس والرّوم، لأن العرب كانت لا تقدر على قتالهما، وكان ذلك زمن الخلفاء الرّاشدين. وهذا من الإخبار بالغيب فيدخل فيه كلّ ما وقع من الفتوحات والغنائم بعد نزول هذه الآية، سواء الذي زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلم أو زمن الخلفاء الرّاشدين فمن بعدهم «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (21) بذل لعظمته كلّ شيء ولا يعجزه شيء فتشمل هذه الآية كلّ فتح وغنيمة حازها المسلمون مما وقع ويقع إلى آخر الدّوران، فنسأل الله أن يقدرهم على إعادة عزّهم وعلو كلمتهم، ويجمع شملهم، ويوحد خطتهم، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير، وما شيء على الله بعزيز. قال تعالى «وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أسد وغطفان حلفاء خيبر، وذلك لنهم قالوا لبعضهم إذا اشتغل المسلمون بحرب حلفائنا أهل خيبر نميل عليهم فنسبي ذراريهم فمنعهم الله بإلقاء الخوف في قلوبهم ولذلك قال «لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ» منهزمين «ثُمَّ لا يَجِدُونَ» لو أقدموا على قتالكم «وَلِيًّا» يواليهم عليكم «وَلا نَصِيراً» (22) ينصرهم أبدا. واعلموا أن ما يفعله الله لأوليائه من النّصر خذلان لأعدائه، وليس هذا بأمر مبتدع بل هو «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ» في نصرة أحبابه وكبح أعدائه الجارية قبل للأنبياء وأتباعهم جارية لك ولأصحابك يا محمد «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ

اللَّهِ تَبْدِيلًا» (23) ولا تغييرا بل تبقى مستمرة للرسل وأتباعهم إذا ساروا على سنتهم مادام الملوان، وإن الله كما أنجز وعده لمن قبلك منجزه لك، لا يحول دون ما يريده حائل البتة. ثم شرع يذكر حضرة الرّسول وأصحابه نعمته في صلح الحديبية، فقال «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ» في حرمها، لأن قسما من الحديبية داخل فيه ولو وقع الحرب فيها لامتد إلى نفس البيت حتما «مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» أي مكنكم منهم بالمبايعة الحقيقة الواقعة عن رغبة شديدة في القتال «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» (24) لا يخفى عليه شيء ولا يفلت منه شيء ولا يغفل عن شيء. أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة (يوم الحديبية) هبطوا على رسول الله من جبل النّعيم مسلحين يريدون الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سبايا فاستحياهم وقال عبد الله بن معقل المزني هم ثلاثون شابا، فدعا عليهم رسول الله فأخذ الله أبصارهم وأخذناهم ثم خلى سبيلهم رسول الله، فنزلت هذه الآية بمعرض المن على رسول الله من ربه عزّ وجل قال تعالى «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ومنعوكم من دخوله «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» محبوسا وممنوعا عن «أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ» الذي يذبح فيه تقربا إلى الله «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ» ستضعفون عند أهل مكة «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» أثناء القتال لو فرض إيقاعه فيوشك «أَنْ تَطَؤُهُمْ» فتوقعوا بهم القتل لعدم معرفتكم بهم بسبب اختلاطهم مع أعدائكم أو تتسببوا بقتلهم من قبل أعدائكم انتقاما «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» اثم عظيم بسبب قتلهم وتغريمكم دينهم والزامكم الكفارات بسبب قتلكم إياهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» منكم بأنهم مؤمنون لاختلاطهم مع الكفار، فلولا هذا لما القى في قلوبهم قبول الصّلح الذي فيه اجحاف عليكم فقبلتموه على علاته، والا لأذن لكم بالقتال في بطن مكة ليس في حرمها فقط، ولدخلتم مكة عنوة بإذن الله وحاربتموهم في عقر دارهم وتوفقتم عليهم وأديتم الزيارة التي جئتم لأجلها رغما عنهم، ولكن لم بأذن الله لكم في ذلك وحال دون هذه الواقعة المنصورة خوف إضرار أولئك

المساكين وعدم تأثيمكم، ولوجود أناس من الكفار علم الله أنهم سيؤمنون بعد، إذ لم يحن الوقت المقدر لإيمانهم، كما أن فتح مكة لم يأت أجله ولم يفعل الله تعالى ذلك إلا «لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» من أهل مكة الّذين ما نعوكم من دخولها فيهديهم للأسلام، وقد كان ذلك، أما إنهم «لَوْ تَزَيَّلُوا» تفرقوا وامتازوا المؤمن من الكافر وأمن ذلك المحذور «لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (25) بأن هديناكم للقتال ومنعناكم من قبول الصّلح ونصرناكم عليهم سبيا وجلاء وقتالا، ولكن لم يرد الله هذا لما ذكر. ثم ذم الله الكفرة على ما وقع منهم أثناء كتابة الصّحيفة بما اتفق عليه من الصّلح بقوله «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ» الأنفه والاستكبار، إذ لم يقروا بسم الله الرّحمن الرّحيم، ولا محمد رسول الله محتجين بعدم اعترافهم بهما، مع أنهما حق صريح لأن الله أنزل البسمة على رسوله وشرفه بالرسالة، وقد أخبرهم بذلك، ولكن تعاظمهم أبى عليهم قبول الحق حتى في الكتابة ثم أنهم لم يتركوهم ليزوروا البيت ويذبحوا هديهم فيه لئلا يقال أنهم غبنوا في ذلك ورغموا عليه ثم انهم اشترطوا على محمد أن يرد من جاءه منهم ولم يردوا من جاءهم من أصحابه. فكانت هذه الشروط المجحفة «حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ» استولت عليهم فأخذت على قلوبهم بها ليس إلا، وإلّا فماذا يضرهم لو تركوهم يزورون ويذبحون نسكهم ويكتبون اسم الله ورسوله ويقابلونهم بالمثل فيمن يأتي من الطّرفين، ولهذا اغتاظ المؤمنون وأبو ألا أن يكون ما رفضوه أو يقاتلونهم «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنيته ووقاره وانائته «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» فأزال غضبهم وحنقهم ووسع صدورهم حتى خضعوا لذلك وعصمهم الله من أن يداخل قلوبهم شيء من الأنفة التي أخذت سهيلا ورفاقه الّذين تولوا تدوين شروط المعاهدة المشار إليها في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة وقبولها مع الكراهة. قال تعالى (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) الآية 18 من سورة النّساء المارة، وكان كذلك كما ذكرناه في الآية 75 من سورة النّساء أيضا فراجعها «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» المندرج تحتها السّمع والطّاعة والإخلاص والثبات والصّبر والوفاء وكل

خير «وَكانُوا» أصحاب محمد أهل بيعة الرّضوان «أَحَقَّ بِها» بتلك الكلمة المنطوية على فروع كثيرة من كفار المتلبسين بكلمة الكفر «وَأَهْلَها» المؤمنون المتلبسون بها، لأنهم الموحدون الله المتصفون بتقواه فهم أولى بالتّسربل بها، لأن الله كتبها لهم في علمه الأزلي «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (26) ومن جملتها علمه بأن هذا الصّلح الذي يراه المؤمنون مجحفا فيهم خير لهم لما فيه من الفوائد التي سيطلعهم الله عليها بعد، والنّوائب للكافرين التي سيريهم إياها. هذا وكان صلّى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحديبية رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، فقصها على أصحابه، فلما كان الصّلح ورجعوا دون أن يدخلوها قال المنافقون أين رؤياه التي رآها؟ فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله على طريق الحكاية عن رسوله صلّى الله عليه وسلم قوله عز قوله «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه، ثم أقسم جل شأنه تأكيدا لإنجاز وعده هذا لنبيه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ» لا يقوتكم وإرادتكم ولتكونن «آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» منها «لا تَخافُونَ» أحدا أبدا، وهذا الاستثناء في قوله تعالى مع أن وعده حق واخباره صدق لا شبهة فيه عبارة عن تعليم عباده الأدب لئلا يجزموا بشيء مهما كان محققا ومهما كان عزمهم فيه جازما بإنجازه، لأنهم لا يعلمون ما يقدر الله من الحوائل دون تنفيذ ما صمموا على إجرائه، ولذلك أراد منهم الاستثناء في كلّ أمورهم بان لا يقسموا على فعل شيء أو يجزموا على اجرائه إلّا أن يقرنوا مشيئه الله معه، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الآية 24 من سورة الكهف في ج 2 «فَعَلِمَ» الله تعالى من الخير في هذا الصّلح لكم «ما لَمْ تَعْلَمُوا» أنتم ولا غيركم عاقبته الحسنة، ولو علم أعداؤكم نتيجته كما وقعت لما فعلوه، لأن الله كادهم فيه «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ» قبل نهاية أجل تلك المعاهدة «فَتْحاً قَرِيباً» (27) عظيما هو فتح مكة المذكور في الآية 75 من سورة النّساء المارة، وقد شرح فيه صدور المؤمنين وروج ما فيها من الاغبرار، ثم رجعوا من العام

مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء:

المقبل ودخلوا مكة محلقين ومقصرين، وأعقبه الله بفتح مكة قبل مرور سنتين على ذلك الصّلح، وقد مر سبب نقضه وكيفيته في قصة الحديبية في الآية 10 من سورة الممتحنة المارة، وقصة خيبر وقصة الفتح مرتا آنفا، وإلى هنا تنتهي الآيات النازلة في الطّريق، وإنما كانت متوالية وموضحة للحادثة، ولم تكن بالاشارة والتعريض كغيرها لازالة ما في قلوب المؤمنين من الغيظ الذي لحقهم بسبب تلك الشروط التي أدرجت في صك المعاهدة، لأنهم رأوها منقصة لقدرهم وضارة بهم لعدم علمهم بعاقبتها، إذ وقع الخسار والخيبة والذل لأعدائهم فيها مما لم يتصوروه ولهذا قال بعض المفسرين إن هذه السّورة نزلت كلها في الطّريق تسامحا لنزول هذه الآيات. مطلب فيما امتاز به أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه ووصف أصحابه والتوقي من ذكرهم بسوء: قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ» دين الإسلام دين ابراهيم عليه السّلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره، وسيكون هذا بعد نزول عيسى عليه السّلام فعلا إن شاء الله، أما بالقوة فقد ظهرت تعاليمه وعمت وجه الأرض ودان به أهلها من حيث لا يعرفونه، وهذه شهادة من الله تعالى لهذا الدّين الحنيف «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (28) على ذلك فلا قيمة لإنكار المنكرين وتكذيب المكذبين مع هذه الشّهادة القيمة. ثم صرح باسم هذا الرّسول الذي أظهره دينه على الأديان، فقال عز قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» كما صرح باسمه الشّريف في الآية 144 من آل عمران والآية 2 من سورته المارات أي أن هذا الرّسول العظيم صلّى الله عليه وسلم «وَالَّذِينَ مَعَهُ» من أصحابه الكرام والمؤمنين الصّادقين «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» أوداء رؤفاء بعضهم على بعض بمثابة الوالد على الولد، لا يثنيهم عن مقاتلة الكفار أحد لشدة إيمانهم بالله ومتانة عزمهم وقوة شكيمتهم واتفاق كلمتهم، وبمقابلة هذه الأوصاف الرّقيقة يقابلون أعداءهم بتلك الأوصاف الغليظة، ومع هذا فإنك «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» لمرضات ربهم «يَبْتَغُونَ» بتواددهم بعضهم وعبادتهم

لربهم جل وعلا «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» لا سمعة ولا رياء ولا غرضا ولا عوضا «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ» نورا ساطعا يوم القيامة «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» غرّة في جباههم وتجميلا في أيديهم وأرجلهم، يسطع نورا أيضا من آثار الوضوء فإنهم يحشرون غرا محجّلين كما جاء في الحديث الصّحيح، لأعضائهم بريق ولمعان يعرفون بهما بين النّاس «ذلِكَ» المثل الموصوف به محمد وأتباعه في هذا القرآن هو «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أيضا، وقد تم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه ثم يبتدأ القارئ مستأنفا بقوله تعالى «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» فراخه وما تفرع عنه في جوانبه أي شواطئه «فَآزَرَهُ» عضده وقواه ومكنّه «فَاسْتَغْلَظَ» ذلك الزرع وقوي وتمكن «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» أصوله وقصبه وجذوعه وصار «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» بادي الرّأي لحسن نباته وكثرة فروعه وقوة جذوره، وهذا مثل ضربه الله تعالى إلى سيدنا محمد وأصحابه في الإنجيل بان قوما يخرجون بعد فينبتون نبات الزرع أي يكونون قليلين ثم يكثرون، فالزرع محمد والفروع أصحابه والمؤمنون به، وإنما جعلهم الله كذلك «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» ويوقع في قلوبهم الرّعب منهم بسبب اتحادهم ومحبتهم بعضهم لبعض، وتعاونهم على عدوهم، وبذلك «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» لذنوبهم وسترا لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْراً عَظِيماً» (29) في الآخرة، وهذا مما يزيد غيظ الكافرين فضلا عن أنه تعالى وعدهم النصر في الدّنيا والعزة في العقبى. وفي هذه الآية ردّ لقول الرّوافض بأنهم كفروا بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم فحاشا ثم حاشا، وهل يعد الله هذه المغفرة والأجر إلّا لأوليائه الّذين ثبتوا على ما عاهدوا الله عليه وماتوا على ما واثقوا رسوله به، راجع الآية 10 من سورة الحشر المارة تقف على ما يتعلق في هذا البحث. أما ارتداد من لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ولم تتشربه جوارحهم عند وفاته صلّى الله عليه وسلم ولا يكون دليلا لقولهم، كيف وقد أخبر رسول الله عنهم فيما أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن عرف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أبو بكر في الجنّة وعمر في الجنّة وعثمان بن عفان في الجنّة وعلي بن أبي طالب في الجنّة وطلحة في الجنّة والزبير في الجنّة وعبد الرّحمن

ابن عوف في الجنّة وسعد بن أبي وقاص في الجنّة وسعد بن زيد في الجنّة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة. وأخرج عن سعيد بن زيد مثله وقال هذا أصح من الأوّل وعن أنس بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرأهم أبيّ بن كعب، ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة عبيدة بن الجراح، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه، قال عمر فتعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم- أخرجه الترمذي في موضعين- وروى البخاري عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال أثبت أحد (قال أنس أراه ضربه برجله) فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان وهذا من الإخبار بالغيب ومن جملة معجزاته صلّى الله عليه وسلم لأن عمر وعثمان ماتا شهيدين وقضية قنلهما معروفة ومشهودة رضي الله عنهما وأرضاهما راجع الآية عشرة من سورة الحشر تجد ما يتعلق بهذا- وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه فبعد هذا أيها النّاس أيليق بمسلم أن يذكر أصحاب محمد بسوء، وهل يجوز أن يقال فلان منهم أخطأ وفلان أصاب ولو فعل كذا لكان كذا وقد جفت الصّحف ورفعت الأقلام بما وقع منهم، وهم أعلم النّاس وأحسنهم وأرضاهم لله بعد رسوله، فعلى العاقل أن يكف لسانه وسمعه عن ذكرهم إلّا بخير، ويعتقد أن ما وقع منهم مجرد اجتهاد تحروا فيه الحق، وإن ساحتهم براءة مطهرة من كلّ ما هو خلاف الأولى بحسب اجتهادهم رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم، والله يتولى المغالين بعد له وينصر المؤمنين بفضله، ويمكنهم من أعدائهم بقوته، ويعلي كلمتهم برحمته آمين. هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.

تفسير سورة المائدة عدد 26 و 112 و 5

تفسير سورة المائدة عدد 26 و 112 و 5 نزلت بالمدينة بعد سورة الفتح عدا الآية (5) المذكور فيها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ، فإنها نزلت في عرفات في حجة الوداع والتي واقف فيها. وهي مئة وعشرون آية، وأربعة آلاف ومئة وثلاثون كلمة، وعشرة آلاف وخمسمائة حرف، تقدمت السّور المبدوءة بما بدئت في سورة الكافرين ج 1، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» العهود والمواثيق والإيمان والوعود وكلّ ما ألزمتموه أنفسكم مما يسمى عقدا ويدخل فيه عقود الأنكحة والبيع والشّراء والرّهن والشّركة وغيرها مما أحله الله لكم وحرمه عليكم. ثم شرع بتفصيلها فقال عز قوله «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» يدخل فيها كلّ بهيمة لأن النّكرة إذا أضيفت عمت، ولكن هذه الإضافة على تقدير من أي بهيمة من الأنعام المحلل أكلها فيخرج من عمومها ذوات الحوافر وما لم يعرف من الأنعام كالضواري والسّباع وبقية الوحوش مما لم يؤكل أما الظّباء وبقر الوحش وحماره وما يؤكل من أمثالها فتؤكل، وقال ابن عباس ومن بهيمة الأنعام الجنين والحكم الشّرعي فيه هو إذا ذبحت أمه وخرج حيا ذبح وأكل بلا خلاف، وإن خرج ميتا فلا، وما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أي كذكاتها بأن يذبح مثلها لا أن ذبح أمه ذبح له ولو خرج ميتا، وقال الشّافعي يؤكل ولو خرج ميتا، لما جاء في بعض الأخبار أنه ككبدها، وكأنه رضي الله عند تلقى الحديث برفع ذكاة، فيكون المعنى ذكاته هي ذكاة أمه وتلقاه أبو حنيفة ومن تبعه بالنّصب، وعليه يكون المعنى ذكاته كذكاة أمه رحم الله الجميع ورضي عنهم وأرضاهم فكل ما يطلق عليه لفظ بهيمة على ما ذكر أعلاه حل لكم أيها النّاس «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» تحريمه فيما يأتي فهو حرام عليكم، وهذا التحليل ليس على إطلاقه أيضا فيما أحل لكم، إذ قد يستثنى منه في بعض

الأحوال منها ما هو في قوله تعالى «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ» لأنه وان كان حلالا إلا أنه يحرم عليكم «وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» في حرم مكة شرفها الله، إذ لا يجوز لكم صيد شيء من تلك البهائم ولا أكله تبعا لحرمة صيده، وليس لكم أن تعترضوا على أحكام الله فيما يحلل ويحرم «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» (1) في شؤون خلقه لا يسأل عما يفعل، ولا راد لحكمه، ولا معقب لما يحكم، فله أن يتعبدكم بما تعلمون سببه ونفعه وضره ومالا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» بسبب أنكم لا تعقلون المراد منها ولا فائدتها ولا نتيجتها، بل عليكم أن تعتقدوا ما حرم عليكم لمجرد تحريمه، وحل ما أحله لكم بمطلق تحليله، بقطع النّظر عن الأسباب الداعية لذلك. وسبب نزول هذه الآية أن الخطيم شريح بن هند بن ضبة البكري أتى المدينة وحده وترك خيله وراءها ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال إلام تدعو النّاس؟ فقال إلى شهادة أن لا أله إلّا الله وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة، فقال حسن الا إن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وخرج فقال صلّى الله عليه وسلم دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر، وما الرّجل بمسلم، فلما ذهب مرّ بسرح المدينة فاستساقه، فلما كان العام القابل خرج حاجّا مع بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة وقلد الهدي، فقالوا يا رسول الله هذا الخطيم فخلّ بيننا وبينه فقال إنه قلد الهدي، فقالوا هذا شيء كنا نفعله بالجاهلية، فأبى صلّى الله عليه وسلم، فنزلت بمنع التعرض لمن يقدم البيت بأحد شعائر أعلام الدّين ومناسك الحج والعمرة، إلا أن هذا على فرض صحته لا يقيد الآية بما ذكر ولا يخصصها فيه بل هي عامة في النهي عن استحلال كلّ شعيرة من شعائر الله «وَلَا» تحلوا أيها النّاس «الشَّهْرَ الْحَرامَ» بأن تقاتلوا فيه من لم يقاتلكم فيه، أما إذا بدأكم أحد بالقتال فيه فقاتلوه لأنه يكون دفاعا مشروعا. راجع الآية 192 من البقرة «وَلَا» تحلوا «الْهَدْيَ» المساق إلى البيت الحرام «وَلَا الْقَلائِدَ» البدن المقلدة إعلاما بأنها مهداة إلى البيت، إذ لا يجوز أخذها بوجه من الوجوه لاختصاصها بالحرم «وَلَا» تحلوا قتال «آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» أي قاصدينه «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً» منه في الآخرة وربحا في الدّنيا بتجارتهم فيه. تشير

مطلب في النسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:

هذه الآية إلى تحريم ذلك كله وتحذير النّاس من استحلال شيء منه لما فيه من إهانة البيت الواجب تعظيمه الذي جعله الله أمنا للناس ومخالفة أمر الله في ذلك. مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة: قال علماء النّاسخ والمنسوخ لم ينسخ من المائدة إلّا هذه الآية، والنّاسخ لها قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية 5 من التوبة فتكون ناسخة لقوله تعالى (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) الآية المارة فقط، وإن قوله (وَلَا آمِّينَ) الفقرة منها منسوخة بقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) الآية 30 من التوبة أيضا. وقال بعضهم لم ينسخ منها إلّا جملة (وَلَا آمِّينَ) والنّاسخ لها الآيتان المذكورتان من التوبة الآتية. وقال بعضهم لم ينسخ إلّا كلمة القلائد لأنها من أعمال الجاهلية لأنهم كانوا يقلدون الهدي بشيء من لحاء الشّجر وشبهه، وقد ترك هذا بالإسلام. والقول الحق أن لا نسخ لشيء من ذلك أبدا كما ذهب إليه الواحدي وجماعة من علماء التفسير. وهذه الآية كلها محكمة كسائر السّورة، ومما يرد على القائلين بالنسخ هو أن الله تعالى لم يندبنا إلى إخافة من يقصد بيته من أهل شريعتنا، لا في الشّهر الحرام ولا في غيره، وهو الأوجه، لأن الآية مطلقة وليس لنا أن نقيدها بغير المؤمنين فنصرفها عن ظاهرها ونقول بالنسخ، ولأن آية براءة في المشركين خاصة فنصرفها إليهم كما صرفها الله، لأن المشرك لو قلد نفسه بجميع ما يدل على الشّعائر الإسلامية لا يؤذن له بالدخول إلى المسجد الحرام بعد نزول تلك الآية وإلى الأبد حتى يسلم، والقول الحق هو أنه ما دام يوجد للآية محمل على إحكامها فلا يليق أن نصرفها لغيره وننتحل طرقا للنسخ فنخرج عن صدد ما ترمي إليه آيات الله، فرحم الله علماء النّاسخ والمنسوخ ما أغلاهم فيهما، ولو صرفوا جهدهم هذا لغيره لكان خيرا لهم «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» هذا أمر إباحة كقوله تعالى (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) لأن الله حرم الصّيد على المحرم حالة إحرامه بالحرم وحرم البيع حالة النداء إلى الجمعة، فإذا أحل المحرم جاز له الصّيد كما إذا قضيت الصّلاة حل له البيع، راجع آخر سورة الجمعة المارة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويكسبنكم

ويوقعنكم في الجريمة «شَنَآنُ» بغض وكراهة «قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» في حادثة الحديبية وغيرها «أَنْ تَعْتَدُوا» عليهم بعد أن فتح الله عليكم وأظهركم عليهم وأعتقهم رسولكم لقوله أنتم الطّلقاء بعد أن استسلموا اليه، ولهذا صدر الله هذه السّورة بالأمر بالوفاء «وَتَعاوَنُوا» أيها المؤمنون «عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» فيما بينكم واعفوا عمن أساء إليكم وغضوا عن مساويهم ومنهم الخطيم المذكور، لأن مجيئه إلى الحرم متلبسا باعلام الحج قبل نزول آية منع المشركين منه، فلا تتعرضوا له «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» بقصد الانتقام والتشفي بل اجتنبوا كلّ ما يؤثمكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» بجميع أموركم وفيما بينكم وبين غيركم واحذروا عقاب الله أن تقدموا على شيء من محارمه «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (2) لمن يتعد حدوده فلم يتمثل أوامره ويجتنب نواهيه ثم بين المراد من قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المذكورة في الآية الأولى بقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» والمراد بالميتة الميتة حتف أنفها، لأن الموت في غالب الأحوال لا يكون إلّا عن مرض وهو يقلل من نفع الحيوان وكثيرا ما يجعله ضارا وقد يصاب آكله من نوع ذلك المرض، وإذا كان الموت عاديا فإن دمه يبقى في عضلاته بما يحمل من مواد ضارة وأخرى سامّة قد تؤدي إلى وفاة الآكل، أما ما يقال بان الطّبخ يذهب ذلك فليس بصحيح لأن من المواد ما لا ينهكها الطّبخ مهما بولغ فيه، وقد ذكرنا أن طاعة الله واجبة فيما له سبب وما لا، وعلينا أن نعلم أن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلّا لدفع ضرر عنا أو قصد منفعة لنا وذلك حفظا لسلامتنا وراحتنا وكياننا، ولئلا نصاب بأمراض جسمية وعقلية بأنفسنا. واعلم أن المراد بهذا الدّم هو السّائل في الحيوان الحي أو غيره والمتجمد في الميت لأنه نسيج أعد لنقل ما تحتاجه العضلات من الأوكسجين والمواد الغذائية والتخلص من النّقايات مثل ثاني أكسيد الكربون وحمض اليولينا وغير ذلك من المواد الضّارة بالجسم التي يحملها الدّم في أعضاء الإخراج، وبذا يكون ضرره عظيما، ويشتد ضرره إذا كان الحيوان المأخوذ منه الدّم مريضا، وإذا مات الحيوان احتبس الدّم في عروقه فتفسد حالا لأنه أسرع أجزاء الجسم

فسادا للطافته. واعلم أنه قد يحصل من أكل لحم الميتة والدّم ضرر عظيم لأن جميع مكروباته تتجمد في العروق المتخلطة في اللّحم، يدلّك على هذا انه بصير كالمصل وهو دليل تسممه ويراد بهذا الدّم في هذه الآية المسفوح المبين في الآية 145 من سورة الأنعام المارة في ج 2 لأن القاعدة أن المطلق يحمل على القيد، والذبح الشّرعي يصفى الدّم ويخرج ما هو في العروق فيتخلص اللّحم من المواد الضّارة وقدمنا المستثنيات من الميتة والدم في الآية 173 من سورة البقرة المارة فراجعها، وقد وعدنا ببيان أسباب التحريم ومعاني هذه المحرمات والمراد منها في هذه السّورة لذلك ذكرنا ما وفقنا عليه من ذلك في الدّم والميتة، أما الخنزير فينطوي تحريم أكله على حكم بالغة أيضا لأنه ينقل أمراضا خطيرة لآكله أهمها (الدويدات) المعروفة الآن (ترانكنيلا) ، فإذا أكل إنسان لحم خنزير قد يصاب بحدوث هذه الآفة فتسبب له مرضا فظيعا، وأوله الإسهال والحمى مع آلام شديدة في جميع العضلات، وقد يعتريه هذا عند أقل حركة لأنه ناشيء عن وجود ديدان هذا الطّفيل في الألياف العضلية، وقد يزداد الألم في عضلات النّفس فيؤدي إلى وقف حركتها ويسبب الموت اختناقا ولم يعرف حتى الآن علاج هذا المرض ومرض السّرطان، والأطباء منهمكة فيها وعسى الله أن يطلعهم عليه أو يرشدهم لتحريم أكله طبا كما هو محرم شرعا. هذا ومع شدة مراقبة اللّحوم في البلاد الأجنبية فإن المصابين في هذا المرض كثيرون، وخاصة في البلاد المتمدنة الرّاقية بزعمهم فما بالك إذ في المدن الصّغيرة والقرى التي لا احتياط فيها. وينقل أيضا الدّودة الوحيدة المسماة (ألتبنا) التي لا ينقلها من الحيوان إلّا الخنزير فهو العائل لها دون غيره، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير ولم ينهك جيدا في الطّهي أصابه ذكل ولهذا ترى المصابين من أكلته كثيرين لأنهم اعتادوا أن يأكلوه على درجة غير كافية من النّضج لا تكفي لقتل ذلك الطّفيل، وقد يورث آكله على هذه الحالة الجذام والعياذ بالله، وقد انتشر في هذه السّنة في بيروت بسبب أكله لأن الإفرنسيين سببوا كثرته فيها وعوّدوا أكله من لم يعتده، بما حدا بالمفوض الإفرنسي فيها أن أذاع بلاغا نقلته الجرائد بلزوم أنهاك لحم الخنزير بالطبخ وعدم أكله دون ذلك. واعلم أن الأمراض

التي تنشأ عن أكله تنتقل إلى الغير فلا يقتصر ضررها على المصاب بل يكون مصدرا للعدوى. وإنما يلازم ذلك الطّفيل الخنازير خاصة لأنها متوغلة بأكل الجيف والعفونات والأقذار، فضلا عن أن أكله يورث قلة المروءة والغيرة لأنك لا تجد حيوانا يشاهد مثله حين ينزو على الأنثى إلّا حاربه غير الخنزير فإنه يعينه على الفعل إذ يسنده بظهره حالة نزوّه ويركيه على الأنثى، ولهذا نجد المدمنين على أكله لا يبالون بما يصيب أعراضهم ولا يهمهم شأن نسائهم لأن الله تعالى أزال مادة الحياة منهم، أجارنا الله وحمانا من كلّ سوء ووقانا بفضله ولطفه. قال تعالى «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» أي ذبح على غير اسم الله بأن يبتدأ باسم الموثن عند الذبح، وهذا أمر تعبدي تعبدنا الله به صونا لألوهيته من أن يشرك بها غيرها. قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية 121 من سورة الأنعام في ج 2 ولا حق لنا أن نقول لماذا بعد أن صرح لنا بتحريمه لأن أفعال الله لا تعلل «وَالْمُنْخَنِقَةُ» الميتة خنقا بدل الذبح كما يفعله الهندوس وغيرهم، وبعضهم يضربون الحيوان ضربة قوية على رأسه بآلة حديدية فيخر ميتا «وَالْمَوْقُوذَةُ» المقتولة ضربا «وَالْمُتَرَدِّيَةُ» الواقعة بنفسها أو المطروحة من مكان عال أو جبل شاهق فتموت «وَالنَّطِيحَةُ» من شاة أو بقرة أو غيرهما حتى تموت، فهذه كلها حكمها حكم الميتة وفيها ما فيها، إلا أنه لما كان موتها بسبب أفردها بالذكر لئلا يتذرع أحد بأنها لا تسمى ميتة ولا تدخل في حكمها «وَما أَكَلَ السَّبُعُ» بأن أكل بعضه فمات، والسّبع يطلق على كلّ حيوان له ناب يعدو على النّاس والدّواب كالأسد والذئب والنّمر وغيره، فكذلك أيضا حكمها حكم الميتة، ثم استثنى تعالى شأنه من هذه الأحوال فقال «إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ» بأن أدركتموه حيّا حياة مستقرة كعين تطرف أو ذنب يتحرك أو رجل ترفس فذبحتموه قبل أن يموت فيحل لكم أكله، لأن الذكاة كما ذكرنا آنفا تصفى تلك الدّماء السّامة وتخلص اللحم من المواد الضّارة بحكمة الله تعالى، أما الحياة غير الثابتة في الحيوان مما يرى في حركاته بسبب تفلص الدّم في عروقه أو اختلاج أطرافه وجوانبه فلا تعد حياة مجيزة لأكله لأن هذه الحركات والاختلاجات قد تكون في الحيوان بعد الذبح

بل بعد السّلخ، لذلك لا عبرة بها ولا يحل أكلها لأن جمود العين وعدم تحرك الذنب ورفس الرّجل مما يدل على عدم وجود حياة حقيقة في الحيوان تحل أكله «وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» التي كانت تعظمها الجاهلية وهي أحجار منصوبة حول الكعبة بزمنهم كانوا يذبحون عليها لأصنامهم، فهذه وما هو في حكمها الآن كالذبح على الأحجار لأجل البناء خاصة الذي لا يقصد به وجه الله ولا يسمى عليه اسمه بل ذكر اسمه الشّيخ الفلاني أو الولي الفلاني فأكله حرام، أما إذا قال لله وذكر عليه اسمه تعالى ثم قال وثوابه إلى الشّيخ أو الولي أو حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم فلا بأس بأكله، وهذا الأمر بعدم أكل المذبوح على النّصب تعبديّ أيضا لصيانة اسم الإله من الإشراك بغيره وتعظيم ما لم يكن معظما، وهذا يشمل جميع ما يؤكل لا يختص بشيء من الأنعام. قال تعالى «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» القداح السبعة المستوية التي يتفاءلون بها عند إقدامهم وإحجامهم، على أمر من الأمور، وقد كتبوا على أحدها (أمرني ربي) وعلى الثاني (نهاني) وعلى الثالث (منكم) وعلى الرّابع (من غيركم) وعلى الخامس (ملصق) وعلى السّادس (العقل) والسّابع مغفل لا شيء عليه، فإذا أرادوا سفرا أو زواجا أو تجارة أو اختلفوا في نسب أحد أو أمر قتل أو تحمل دية أو غير ذلك جاءوا إلى هبل أكبر أصنامهم وأعطوا مئة درهم لصاحب القداح حتى يحملها لهم فيجيلها ثم ينشرها أمامه، فإذا خرج أمرني ربي فعلوا السّفر والزواج والتجارة وشبهها، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإن خرج منكم فالولد المختلف عليه في النّسب يكون منهم، وإن خرج من غيركم فليس منهم، وإن خرج ملصق كان على حاله، وإن خرج العقل فيتحمل الدّية، وإن خرج المغفل الذي ليس عليه كتابة نشروها ثانيا، وهكذا حتى يخرج المكتوب عليه مما يريدون ويوافق ما نشروها لأجله. وقال بعضهم ان الأزلام ثلاثة فقط واحد مكتوب عليه أمرني ربي، والآخر نهاني ربي، والثالث مغفل لا شيء عليه، وعلى الأوّل عندهم المعول «ذلِكُمْ» العمل الذي اخترعتموه محرم عليكم فعله لأنه «فِسْقٌ» خارج عما أحل لكم أيها المؤمنون لأنه من مفتريات الجاهلية «الْيَوْمَ» بعد أن شرفكم الله بالإسلام وتمكن فيكم الإيمان، فقد

«يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» أن ترجعوا إليه ثباتا، لأنكم تركتم الكفر وعوائد الجاهلية وركنتم إلى الإسلام وانقطع أملهم منكم، إذ لو بقيتم على عوائدهم لبقي لهم أمل فيكم، لذلك يجب عليكم ترك عاداتهم كلها كما تركتم دينهم الباطل لأنها أشياء باطلة من مخترعاتهم الدّاهية «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي» أنا الله الذي أحيي وأميت وأجازي وأكافي، لا رب غيري ولا إله سواي يعبد، الحلال ما أحللته والحرام ما حرمته. والجملة نزلت بعرفة في حجة الوداع هي قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» حدوده وأحكامه حلاله وحرامه فرائضه وسننه «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فلم أدع شيئا يتعلق بأمر دينكم ودنياكم إلّا بينته لكم «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» من سائر الأديان فلا يقبل منكم غيره (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية 86 من آل عمران المارة. (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الآية 19 منها أيضا، وهذه الجملة واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كسائر الآيات المتقدمة والمتأخرة في النّزول عن سورها فإنها تكون معترضة كذلك «فَمَنِ اضْطُرَّ» لتناول شيء مما حرم عليه «فِي مَخْمَصَةٍ» شدة جوع فأكل مما حرم عليه لعدم وجود شيء حالة كونه «غَيْرَ مُتَجانِفٍ» مائل «لِإِثْمٍ» مما أكل بأن كان زيادة على سد الرّمق «فَإِنَّ اللَّهَ» الذي رخص لكم هذا «غَفُورٌ رَحِيمٌ» (3) لا يؤاخذكم على ذلك بل يغفر لكم ذنبكم رحمة يحالكم لأن الضّرورات تبيح المحظورات، أما إذا استعمل الإنسان شيئا من هذه لغير ضرورة أكل أو زيادة على سد الرّمق غير مستحل له فيفسق شرعا لخروجه عن الطّاعة لما حده الله عليه، وإذا استحل شيئا منها يكفر، وقد بيّنا ما يتعلق في هذا وما قبله من المحرمات والمستثنيات في الآية 174 من سورة البقرة المارة. روى البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا، قال فأي آية؟ قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة من شهر ذي الحجة سنة

عشر من الهجرة، والنّبي واقف بعرفة، فقرأها في خطبته وقال أيها النّاس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها. وإنما قال تعالى يوم نزلت هذه الآية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) مع أنه كان ولم يزل راضيا عن دين الإسلام قبل وبعد لبلوغه إذ ذاك رتبة الكمال، إذ بلغ أقصى درجاته من أصول وفروع، وليحثنا على التمسك به وزيادة المحافظة عليه، روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال جبريل قال الله عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السّخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه. وروى أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه، ولهذا حفظ زمانها ومكانها إذ قال له صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ قال إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص، قال صدقت. وفي رواية أن الذي بكى هو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فعلى فرض صحتها لا ينافي بكاء عمر أيضا إذ يجوز أن كلاهما وقع منه ذلك، ولكن هذه الحادثة تؤيد ما جرينا عليه من أن الذي بكى هو عمر لأن السّؤال وقع من اليهودي له لا لأبي بكر. وقد أخذ من هذه الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدّين ولم يعش بعدها إلا واحدا وثمانين يوما إذ كانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام ولا فرض ولا سنه عدا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية 282 من البقرة إذ تأخر نزولها عن سورتها، وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث عند تفسيرها فراجعه، وذكرنا آنفا أن هذه الآية لا تعدّ مكية وإن كان نزولها بمكة لأن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا. هذا وإنما قال صلّى الله عليه وسلم أحلوا حلالها وحرموا حرامها وكلّ سور القرآن يجب أن نحل حلالها ونحرم حرامها لزيادة الاعتناء على حد قوله تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الآية 36 من سورة التوبة، على أنه لا يجوز الظّلم في شيء ما في جميع الأشهر، وإنما خص الحرم بعدم الظّلم لزيادة الاعتناء ولاشتمال هذه السّورة على ثمانية عشر حكما لا توجد في غيرها، أولها للمنخنقة وآخرها (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية 106 الآتية قال

مطلب في أحكام الصيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصيد بالبندقية والعصا وغيرهما.

تعالى يا سيد الرّسل «يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ» من المأكولات «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» من كلّ ما تستطيبونه مما لم يرد نص بتحريمه والطّيب ما استطابته العرب أولو القوى الطّيبة والعقول السّليمة، لأن هذا الصّنف لا يستلذ إلا بالطيبات. مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما. «وَ» أحل لكم صيد «ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ» الكواسب للصيد كالكلب والنّمر والفهد والعقاب والصّقر والبازي والشّاهين والباشق وغيرهما أحل لكم صيدها حالة كونها «مُكَلِّبِينَ» أي مؤدبين هذه الحيوانات ومعلميها على الاصطياد بأن تمسكه لكم ولا تأكله لأنها لا ترسل إلى الصّيد ولا يجوز أن يؤكل من صيدها إلّا إذا كانت معلّمة، ولهذا قال تعالى «تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» به من العلم بأصول إرسالها والاصطياد بها، فإذا تعلمن «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» من الصّيد فهو حلال «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» حين إرسال الحيوان والطّير عند الذبح إذا أدركتموه حيا «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تخالفوا تعاليمه هذه وغيرها فإنه محاسبكم عليها «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» 4 إذا حاسب وسرعة حسابه هو أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم محاسبة رجل واحد مثل طرفة عين أحدكم. تنبه هذه الآية إلى أنه تعالى يحاسبكم إذا أقدمتم على خلاف تعاليمه، قال عدي بن حاتم وزيد الخيل بن المهلهل يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب و (باليزادة) العصا العظيمة فماذا يحل لنا؟ نزلت هذه الآية. واعلم أن شروط التعليم في الحكم الشّرعي هي أنك إذا أوسدت الكلب أو غيره على الصّيد أي أغربته به (وأوسد بمعنى أسرع) وإذا أشليته أي دعوته شلى بمعنى رجع، وإذا زجرته عن الصّيد انزجر، وإذا أخذت الصّيد أمسكت عنه فلا تأكل منه شيئا، وأن لا ينفر منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه، فإذا وجد هذا التأديب في الجوارح مرارا أقلها ثلاث كانت معلمة يحل قتلها وأكل صيدها وإلّا لا. روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم

فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال إذا أرسلت كلبك المعلم ذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلّا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. وفي رواية. لا تدري أيها قتل. قال وسألته عن صيد المعراض فقال إذا أصبت بحده فكل وإذا بعرضه فقتل فاوقذ فلا تأكل لأنه يصير بحكم الميتة ضربا وهو حرام. وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر الميتة ضربا وهو حرام. وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر إذا لم يمت بها كما تقدم بالآية الثالثة المارة آنفا وإذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلّا أثر سهمك فكل فإن وقع في الماء فلا تكل لاحتمال أنه مات خنقا بسبب الغرق فيه، وأما صيد البندقية فإنه يؤكل سواء أدركه حيا فذبحه أو ميتا، وقد أفنى بهذا شيخ الإسلام المرحوم زنبلي على أفندي في فتاواه ج 2 ص 244 في كتاب الصّيد استدلالا بما مر. روى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني، قال قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا بها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل. على أنه إذا سمي التسمية وكان مسلما فلا بأس، قال في فتاوى الفيضية: وإن تركها ناسيا يحل، والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء- كذا في الكافي ج 2 ص 230- هذا وإن القرآن العظيم لم يتعرض لنجاسة الكلب وأكله، وقد جاء في الحديث الصّحيح: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب. وهذا مما يدل على نجاسته وحرمة أكله، ولهذا بالغ المسلمون في تجنب الكلاب، لأن إرشاده صلّى الله عليه وسلم ينطوي على فوائد كثيرة من النّاحية الطّيبة، لأن الكلاب تسبب أمراضا بملامستها لأنها تحمل جراثيم كثيرة أهمها داء الكلب والعياذ بالله، وهو لا يظهر مبدئيا على الكلب فإذا عض إنسانا انتقل ذلك الدّاء العضال اليه، وإذا لا مس شخص شعر

كلب مصاب بدودة (الأكيزكوس) فيلتصق بعض بويضاتها المتناثرة من براز الكلب على شعره، فإذا تناول الشّخص طعاما بعد ذلك تكونت في الحوصلة في كبده أو في الرّئتين أو في المخ، وقد ينشأ عنه الموت، ولهذا فإن البلاد التي يكثر فيها احتكاك الإنسان بالكلب يكون هذا المرض فيها متفشيا، حتى انه بلغ عدد المصابين بذلك في ايسلندا ومراعي اوستراليا 15 في 100، وقد حفظ الله البلاد الإسلامية من هذا الدّاء لتجنب أهلها مباشرة الكلاب اتباعا لتحريض الشّرع الشّريف عن مقاربتها، وهذا من جملة الحكم البالغة فهنا لها ديننا الحنيف الذي أنجبت تعاليمه العظماء الّذين دان لهم الدّهر بالفضائل، وإن الأمة الإسلامية العربية لم تصل إلى العزّة والمجد وتملك الشّرق والغرب إلّا بفضل تمسكها بتعاليم دينها السّامية ولم ينحط قدرها ويتسلط عليها عدوها إلّا عند ما تقاعست عن تلك التعاليم حتى صاروا على ما هم عليه الآن من ذل وهوان واستعمار، اللهم وفقهم للعود الى دينك كما أردت، واهدهم لما فيه رشدهم. واعلم أن تحريم أكل الميتة لا يسري الى عدم الانتفاع بشعرها وجلدها وعظمها كما جرى عليه أبو حنيفة رضي الله عنه خلافا لما ذهب اليه الشّافعي رحمه الله في ذلك، وأجاز مالك الانتفاع بعظمها فقط، وإن تحريم أكل الحيوان المنصوص عليه في هذه الآية مؤيد بقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية 146 من سورة الأنعام والآية 116 من سورة النّحل في ج 2 وآية البقرة 172 المارة، فالتنزيل المكي والمدني اقتصر على تحريم الميتة والدّم والخنزير، وما في آية المائدة هذه يدل على أن تناول غيرها من الحيوان جائز بدليل قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية 40 من البقرة، وهذه الآية الكريمة وإن كانت تفيد الإطلاق إلّا انها تقيدت بما ورد في الآيات الأخر المذكورة أعلاه وهو ظاهر القرآن، فلا يحتاج لتأويل أو تفسير أو قياس، والمطلق يحمل على المقيد كما أشرنا إليه آنفا. هذا وقد أورد الفقهاء في كتبهم أحاديث صحيحة جاءت عن حضرة الرّسول بتحريم أكل كلّ ذي ناب من السباع وكلّ ذي مخلب من الطّير والحمير الأهلية، فعلى الورع أن يتقيد بما جاء عن حضرة الرّسول لأنه لا ينطق عن الهوى، وقد أمر الله بذلك فقال عز قوله

(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 8 من سورة الحشر المارة على شرط أن يوثق بصحة ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم قال تعالى «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» التي سألتم عنها وقد كررها تأكيدا «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» فلا حرج بالأكل عندهم ومعهم وعلى مائدتهم مما يحل أكله عندكم وشربه، أما المجوس والمشركون ومن ليس لهم كتاب سماوي فلا يحل أكلهم للمؤمنين ولا جناح على المؤمنين أن يطعموهم من طعامهم، ولا قيمة لقول من قال أن المراد بالطعام هو الحبوب المطحونة غير المطبوخة ويحرم طعام أهل الكتاب ويعتقد نجاستهم المذكورة في الآية 28 من سورة التوبة الآتية نجاسة حسية لا معنوية لمخالفة صراحة هذه الآية والإجماع وما كان عليه عمل الأصحاب، كما لا وجه لقول من قال إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية 122 من سورة الأنعام في ج 2 لأنها مطلقة، وليس الأمر كذلك، لأن الأصل أنهم يسمون عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا. قل إنا إذا تيقنا أنهم يذبحون على غير اسم الله فلا يحل لنا الأكل منه، وليس علينا أن نسأل عن هذا، ولا يجوز أن نأخذ بقول لا يعتمده الكتاب ولا السّنة. على أن أبا حنيفة رحمه الله قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وعلى أي دليل استندنا. وقال الشّافعي رضي الله عنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وقال غيره تأويلا لقوله إذا صح الحديث فهو مذهبي بما يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط «وَالْمُحْصَناتُ» العفيفات الحرائر أحل لكم أخذهن سواء كن «مِنَ الْمُؤْمِناتِ» أو من غيرهن لقوله تعالى «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أيضا «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» أي متزوجين غير زانين «وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» صاحبات يفجرون بهن، وهؤلاء الصّديقات اللائي هنّ في الحقيقة عدوّات قد تنفرد الواحدة منهن لأن يبغي بها صاحب واحد تخلص اليه فقط فلا تزاني غيره، ومنهن من تزاني غيره أيضا، وهذا حرام قطعا لا فرق بالزنى بها وبالمسب لة، راجع الآية 25 من سورة النّساء المارة فيما يتعلق في هذا البحث

ففيه كفاية «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ» فيما أحل الله وحرم ويتخذ أشياء محرمة بزعمه أنه لا بأس بها «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» محق ثوابه وحرم من أجره إذا مات على حالته تلك دون توبة. واعلم أن قيد المؤمنات بالحرائر ليس بشرط إذ يجوز له أن يتزوج بالإماء كما أوضحناه في الآية 32 من سورة النّور المارة. واعلم أن اتخاذ الأخدان للزنى بهن يدل على الاستحلال، ومن استحل شيئا مما حرم الله فهو كافر، ولهذا قال تعالى «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (5) واعلم أن لفظ المحصنات يطلق على المتزوجات كما أشرنا اليه في الآية 23 من سورة النساء المارة، وعلى الحرائر كما هنا، ولفظ الأجور يطلق على المهور كما في هذه الآية وآية 25 من النّساء والآية 11 من سورة الممتحنة المارة أيضا، وقد ذكرناه أن ما ذهب اليه بعض المفسرين من كون لفظ أجورهن الواردة في الآية 24 من سورة النّساء هي بدل المتعة هو الذي دعا أكثر المفسرين وحدابهم على تفسير قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) الآية 24 منها بان المراد في هذا الاستمتاع هو المتعة، ولولا هذا التفسير لم يقل أحد بأن المتعة ثبتت بالقرآن ونسخت بالسنة، لأن القول الحق انها ثبتت بالسنة ونسخت بها كما بيناه هناك، فراجعه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» إذا أردتم القيام إلى فعلها إذ لو أريد فعل الصّلاة لزم تقديم الصّلاة على الوضوء، وما قيل بأنه يوجد قراءة شاذة بعد لفظ الصّلاة (وأنتم محدثون) باطل لا أصل له ويحرم القول به، لأن القراءة لما بين الوقتين ثابتة بالتواتر، فإذا جوزنا قراءة ما لم يثبت تواتره لزم الطّعن في القرآن وهو براء من كلّ طعن، وهذا يفضي إلى القول بأن القرآن كان أكثر مما هو في المصاحف كما قيل في سورة الأحزاب التي أوردنا على القائل فيها بما هو أهله، راجع هذا البحث في آخرها ففيه كفاية. ويفهم مما يأتي بعد أن المراد من مفهومه وأنتم على غير طهارة شرعية، وأن حذف ما هو مفهوم المعنى من اختصارات القرآن وإيجازاته وكثيرا ما يحذف جملة أو كلمة أو حرف بناء على ذلك بدلالة جملة أو كلمة أو حرف عليها، وهو من أنواع البديع المحسن للكلام وجواب إذا «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ

مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته:

إِلَى الْكَعْبَيْنِ» وبهذا يرتفع الحدث الأصغر، ثم ذكر ما به يرتفع الحدث الأكبر بقوله «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» أي اغسلوا جسدكم كله، لأن التضعيف في الفعل يدل على المبالغة. وإذا كان الحرج منفيا في هذا الدّين الحنيف وعلم الله أزلا أن الماء قد يضر استعماله أحيانا وقد لا يوجد، ويوجد مع الحاجة اليه لنفس أو حيوان أو طبخ، فرخص الله تعالى في عدم استعماله في قوله عز قوله «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» المكان المنخفض مطلقا ويطلق على المختص بقضاء الحاجة غالبا، ولذلك استعير لها كما استعير عن كلمة الجماع ب «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» فاجنبتم «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» كافيا لهاتين الطّهارتين أو أحدهما أو كان ولم تقدروا على استعماله لخوف أو مرض أو حاجة، فلم يجعل الله عليكم ضيقا ويلزمكم باستعماله لأداء عبادته، بل جعل لكم من فضله خلفا عنه إذا تعذر عليكم بقوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» طاهرا نقيا، راجع الآية 43 من سورة النّساء في بحث التيمم ومعنى الصّعيد. مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته: ثم بين كيفية التيمم بقوله «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» أي التراب المعبر عنه بالصعيد الذي معناه وجه الأرض بدلا من الوضوء والغسل وإنما أباح لكم هذا لأنه «ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» في الطهارة كما لم يجعل عليكم حرجا في غيرها «وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» عند ما تقومون لعبادته بالماء طهارة حقيقة وعند فقده بالتراب طهارة حكمية تعبّدكم بها «وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» برخصه كما أتمها بعزائمه «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (6) نعمه وتعلمون أنه لم يكلفكم بشيء إلّا أثابكم عليه قولا أو فعلا هذا واعلم أن لا محل للقول بان ظاهر الآية يدل على لزوم الوضوء لكل صلاة لما ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد، وجاء في الصحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. على أنه يسن

أن يجدد الوضوء لكل صلاة، أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات. وما قبل إن النّبي وأصحابه كانوا يتوضئون لكل صلاة لا دليل عليه، إذ لو كان المراد وجوب الوضوء لكل صلاة لما جمع حضرة الرّسول بين أربع صلوات، وفي رواية خمس صلوات بوضوء واحد، ولما قال في هذا الحديث من توضأ على طهر، ولأن كلمة إذا لا تفيد العموم، إذ لو قال رجل لامرأته إذا دخلت الدّار فأنت طالق فدخلت طلقت لأول مرة فقط، فإذا دخلت ثانيا وثالثا لا يقع عليه شيء، فدل هذا على أن كلمة إذا لا تفيد العموم. هذا وإن فروض الوضوء المتفق عليها أربعة الأوّل غسل الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن طولا، وما بين شحمتي الأذنين عرضا وإذا كان له لحية خفيفة وجب إيصال الماء إلى أصول الشّعر، وإذا كانت كثيفة بأن لا ترى بشرة ما تحتها كالخفيفة كفى إمرار الماء على ظاهرها، الثاني غسل اليدين إلى المرفقين والغاية داخلة في المغيا، الثالث مسح ربع الرّأس لأنه أقل حد الإطلاق على الكل يؤيده فعل الرّسول صلّى الله عليه وسلم بالحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة، ورأى الشافعي رحمه الله بكفاية مسح شعرة واحدة لأن الباء للتبعيض فيصدق على الشّعرة وهي بعض شعر الرّأس لا بعض الرّأس، والأوّل أولى لسنية مسح جميعه عند الكل، الرابع غسل الرّجلين إلى الكعبين فالكعبان داخلان، كدخول المرفقين باليدين، لأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية، لأن المرفق والكعب من جنس اليد والرّجل، أما إذا كان من غير جنسه فلا يدخل كما في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) الآية 180 من البقرة لأن اللّيل ليس من جنس النّهار راجع تفسير هذه الآية وما ذكرناه مؤيد بفعل الرّسول وزاد الشّافعي استنباطا من مفهوم هذه الآية المفسرة فرضين آخرين الأوّل ويكون الخامس النّية عند غسل الوجه لأن الوضوء مأمور به وكلّ مأمور به يجب أن يكون منويا، مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات، والثاني وهو السّادس الترتيب بحسب نسق الآية، وقال أبو حنيفة إن الله لم يوجب النّيّة في هذه الآية وإيجابها زيادة على النص، والزيادة على النّص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد أو بالقياس أو بالحديث

غير جائز، وكذلك الترتيب لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا بلا خلاف عند اللّغويين كافة، ولم تأت الآية بالفاء أو ثم المفيدين لذلك، أما حديث النّيات فيفيد كمال الأعمال لا نفسها، ولا الفاء في قوله فاغسلوا ملتصقة بذكر الوجه واقعة في جواب إذا ليس إلا، فظهر من هذا أن فروض الوضوء أربعة لا غير، وما قيل أن الوضوء كان واجبا لكل صلاة ثم نسخ قيد واه لا حقيقة له، وقد قال صلّى الله عليه وسلم المائدة في آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها، وحديث سنيّة الوضوء على الوضوء لم يقصد منه إلّا زيادة الأجر، وان ما قال الإمامية أن الرّجلين ممسوحة لا مغسولة استنادا لما جاء عن ابن عباس أنه قال الوضوء غسلتان ومسحتان ووافقه عليه قتادة وقول أنس نزل القرآن بالمسح والسّنة بالغسل، وقول عكرمة ليس في الرّجلين غسل انما نزل فيها المسح، وقول الشّعبي ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أهمل، وقول ذوو الظّاهري يجمع بين الغسل والمسح، وقول الحسن البصري يخير المكلف بين الغسل والمسح فهذا كله أخذ على ظاهر القرآن من قراءة الجر غير المتواترة، أما على قراءة النّصب المتواترة والتي عليها المصاحف المجمع عليها فلا يتجه. ولهذا قال جمهور العلماء من الأصحاب الكرام والتابعين والأعلام والأئمة الأربعة بكونها مغسولة بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلم والتحديد الوارد في الآية، لأنه جاء في المغسول لا الممسوح، ولهذا لم يجعل الله تعالى حدا لمسح الرّأس كما جعله في الأيدي والأرجل، فلو كانت الأرجل ممسوحة لما قال الى الكعبين، وهذا كان في الغسل لا يقابله قول ما، وأما من قال ان الجر في (وَأَرْجُلَكُمْ) من عطف المجاورة مثله في (هذا حجر ضب ضرب) بجر ضرب على أنه نعت لحجر لا لضب فليس بجيد، لأن الجر على المجاورة انما يكون لضرورة أو عند حصول الأمن من الالتباس كما في المثل على حد قولهم خرق الثوب المسمار برفع الثوب ونصب المسمار لمعلومية عدم الالتباس، وفي الآية ليس كذلك، ولم تنطق به العرب مع حرف العطف، فظهر أن الغسل ثابت بنص القرآن المفسر بفعل الرّسول صلّى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما أن عثمان دعا بإناء فأفرع على كعبه ثلاث مرات

فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فتمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه الى المرفقين ثلاثا، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثا إلى الكعبين، ثم قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلّى ركعتين لا يحدث بهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ورويا عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري نحوه ببعض زيادات. وأخرج أبو داود عن عبد خير عن علي كرم الله وجهه بزيادة: واستنشق ثلاثا فتمضمض ونثر من كف واحد وزيادة، فمن سره أن يعلم وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو هذا وأخرج أبو زيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص مثله بزيادة فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم على اللّف والنّشر المرتب. وفي رواية فقد تعدى وظلم. وإنما عد مسيئا أو متعديا لزيارته على الحد الأعظم من فعل الرّسول، وظالما لأنه نقص عن حد الكمال، فحرم نفسه من الأجر المرتب عليه. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصّلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته ويل للأعقاب من النّار مرتين أو ثلاثا. ورويا عن أبي هريرة نحوه. وأخرج مسلم عن جابر قال أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النّبي صلّى الله عليه وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك، قال فرجع فتوضأ ثم صلّى وأخرج أبو داود عن خالد عن بعض أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يصلي وفي قدميه لمعة قدر الدّرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصّلاة، فهذا كله مأثور عنه صلّى الله عليه وسلم وكله يؤيد أن الرّجلين مغسولة لا ممسوحة، وأن غسلها فرض وقد ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر قال كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشى فأدركت رسول الله قائما يحدث النّاس فأدركت من قوله ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلّا وجبت له الجنّة. فقلت ما أجود هذا، قال قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت، فإذا عمر قال رأيتك جئت آنفا، قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله

مطلب تذكير رسول الله ببعض النعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السلام مع الجبارين:

إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيهما شاء. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من كلّ خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كلّ خطيئة كان بطشتهما يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كلّ خطيئة مشتهما رجلاه مع الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب. ويراد بهذه الذنوب والله أعلم التي لم يتعلق بها حق الغير، على أن الله تعالى قادر على عفو الجميع وإرضاء النّاس من فضله وكرمه وجوده الواسع. ورويا عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال إن من أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. وفي رواية أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء. وفي رواية لمسلم قال سمعت خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء. ورويا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ كما يتوضأ الصّلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء يخلّل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه الماء ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على سائر جسده. هذا وأما ما يتعلق بالتيمم فقد تقدم بيانه في الآية 43 من سورة النّساء فراجعها. ومما يدلّ على أن المراد بالملامسة في هذه الآية الجماع لا اللّمس باليد مما ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ويصلي، فلو كان المراد منها مطلق اللّمس لما فعل ولتوضأ عند وقوع مثل ذلك منه، ولهذا قال به أبو حنيفة ولكن الشّافعي رحمه الله قال المراد اللّمس باليد وكأنه لم يثبت لديه ما ثبت عند أبي حنيفة من فعل حضرة الرّسول وكان أقدم منه، لأنه ولد يوم وفاته يوم الثلاثاء سنة 150 من الهجرة، ولهذا ترى العلماء يعطلون قراءة الدّرس فيه احتراما لوفاة الأوّل وولادة الثاني. مطلب تذكير رسول الله ببعض النّعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السّلام مع الجبارين: قال تعالى «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» أيها المؤمنون بالإيمان

والعافية والرّزق وثواب الله على أعمالكم الحسنة «وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ» حين أخذ العهد عليكم في الأزل، وهو اعترافكم بالربوبية حين خاطبكم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) كما مر في الآية 172 من سورة الأعراف ج 1 أي تذكروا هذا أيضا فذكره يحدو بكم على القيام بعبادته، ولذلك نبه جل شأنه عليه بقوله «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» يحثهم على الوفاء به لأنهم التزموا بذلك العهد، قال بعض المفسرين أن المراد بالميثاق هنا المبايعة لحضرة الرّسول على السمع والطّاعة، وإنما اضافة لحضرته مع صدوره من نبيه لكون المرجع إليه ولقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) الآية 11 من سورة الفتح المارة والأوّل أولى لما في الثاني من عدم الانطباق على ظاهر الآية إلّا بتأويل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها النّاس بالمحافظة على هذا الميثاق لأنكم مطالبون به ومحاسبون عليه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (7) لا يخفى عليه شيء يعلم المحافظ على عهده بقلبه ولسانه والنّاكث فيهما والمعترف بلسانه دون قلبه وبالعكس. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ» في كلّ ما يلزم القيام به من العمل بطاعته والاجتناب عن نهيه قولا وفعلا حالة كونكم «شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» العدل من غير محاباة لأحد بود أو قرابة ومن غير حيف من بغض أو عداوة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويدعونكم «شَنَآنُ» بغض أو عداوة «قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا» في أحكامكم وشهاداتكم، وقد عدّي فعل يجرمنّكم بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى فعل يتعدى فكأنه قال لا يحملنكم بغض المشركين ومنهم الخطيم شريح بن شرحبيل المار ذكره في الآية الثانية النّاهية على عدم ترك العدل والتعدي عليه بارتكاب ما لا يحل بل «اعْدِلُوا» بشأنه وشأن كلّ أحد سواء كان قريبا أو بعيدا، صديقا أو عدوا، وضيعا أو رفيعا، شريفا أو سخيفا، غنيا أو فقيرا لأن إجراء العدل مع الجميع «هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» الموجبة لقرب الله تعالى الموصلة لجنته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أقوالكم وأفعالكم وحركاتكم وسكناتكم سركم وجهركم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (8) من العدل والحيف في الأحكام والشّهادة والجد والهزل بأقوالكم وأفعالكم وإشاراتكم ورمزكم ونياتكم، وهو

[سورة المائدة (5) : الآيات 11 إلى 20]

الأمر للوجوب لأنه لم يقيد ولم يعلق على شيء وما كان كذلك فهو واجب امتثاله لا مندوب، والعدل أساس الملك وهو مبعث الرّاحة للعامة والخاصة، وملاك كل شيء وقوام الأمور بين النّاس، وهو الأصل الذي يرجع إليه في الدّنيا والآخرة قال تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بما عاهدهم عليه وواثقهم به وماتوا على ذلك فيكون «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عامة لذنوبهم وستر شامل لعيوبهم في الدّنيا «وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (9) في الآخرة لا أعظم منه، وناهيك به أنه من الرّب العظيم ولا يعطي العظيم إلّا العظيم. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» ونكثوا عهودنا ونقضوا مواثيقنا وخانوا أمانتنا «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (10) لجورهم في الأحكام وكتمهم للشهادة وميلهم عن الحق في أقوالهم وأعمالهم خبيثو النّيات الّذين يموتون مصرين على قبائحهم يحرفون فيها لأنهم أهلها كما أوعدهم الله على لسان أنبيائهم وفي هذه الجملة اشارة الى خلودهم في النّار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة، وفيها دلالة على أن غيرهم لا يخلدون في النّار قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» كررت هذه الجملة للتأكيد بلزوم تذكر النّعمة وشكر المنعم والشّكر بمقابل النّعمة واجب ولغيرها مندوب، وهذه النّعمة غير تلك المذكورة في الآية السّابقة لأنها لمطلق التذكر وهذه بمقابل ما أزاله عنهم ورفعه المبين بقوله «إِذْ هَمَّ قَوْمٌ» هم بنو ثعلبة وبنو محارب «أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» بأن يهلكوكم حينما أحرمتم بالصلاة إذ أجمعوا على الغدر بكم إذ ذاك «فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» وحماكم من كيدهم وحال دون غيرهم بكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» الذي وقاكم من مثل هذه الأمور دون حول منكم ولا قوة ولا علم ولا مشاهدة لتراقبوه في جميع شؤونكم وتوكلوا عليه حالة الشّدة والرّخاء «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (11) به المصدقون بوعده، وهذه حادثة قديمة يذكر الله بها رسوله وأصحابه المؤمنين عند ما أراد بنو كاسب وبنو ثعلبة أن يفتكوا به وبأصحابه حين اشتغالهم بالصلاة، فاطلع الله رسوله على سريرتهم، وأنزل صلاة الخوف المار ذكرها في الآية 111 من سورة النّساء، والحادثة التي أنعم الله بها على رسوله مثل الحادثة

الأخرى يوم حاصر حضرة الرّسول غطفان بنخل إذ جاءه رجل من المشركين وقال يا محمد أرني سيفك، فأعطاه إياه، ثم شهره عليه وقال له من يمنعك مني؟ فقال، الله، فسقط السّيف من يده، ونحو حادثة يهود بنى النّضير حينما ذهب إليهم بطلب إعانته على دية الرّجلين الّذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري بعد انصرافه من بئر معونة فتلقوه بالترحاب وأجلسوه ليجمعوا له الدّية فتآمروا على أن يطرحوا عليه، حجرة من أعلى الحصن فأنزل الله جبريل عليه السّلام وأخبره بنيتهم وما أجمعوا عليه فقام من مكانه وتركهم بعصمة الله تعالى إياه في هاتين الحادثتين، وعصمه وأصحابه في الحادثة الأولى المشار إليها في هذه الآية والمشار إليها في الآية 173 من آل عمران المارة المنبئة عن مثل هذه النّعم، لأن سياقها ينطبق على هذه الحوادث وغيرها مما فيه عصمة الله لرسوله وأصحابه وحادثة بن النّضير الأخرى حينما طلبوا منه الصّلح وقرروا الغدر به المار ذكرها في الآية 12 من سورة الرّعد المارة، وما ضاهى هذه الحوادث، إذ تصلح هذه الآية أن تكون سببا للنزول في كل منها لموافقتها المعنى، وقد ذكرنا غير مرة بأن سبب النّزول يجوز تعدّده ومقارنته للحادثة وتأخره عنها، وقد يطلق لفظ القوم على الواحد كلفظ النّاس المار ذكره في الآية 173 من آل عمران المذكورة آنفا وإن ضرر الرّئيس ونفعه يعود على المرءوس، وما يراد به فهو مراد بهم. قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» لما ذكر الله تعالى بعض غدر قوم محمد بمحمد ونقضهم عهده اردف بذكر غدر قوم موسى بموسى ونكثهم ميثاقه تسلية له صلى الله عليهما وسلم فقال «وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» رئيسا وعمدة وشريفا وعميدا وزعيما «وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ» أنصركم وأعينكم وأحفظكم من كلّ سوء يراد بكم «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي» الحاضرين معكم موسى وهرون ومن قبلهم «وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» ووقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم على أعدائي «وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» بأن تعطوا قسما من أموالكم للفقراء عن طيب نفس بلا من ولا أذى، فإذا قمتم بهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية المؤذنة بالقسم وعزتي وجلالي «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ

سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» جزاء قيامكم بها هذا هو جواب القسم العظيم ثم فرّع عنه بقوله «فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ» العهد «مِنْكُمْ» ونقضه «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» (12) واستحق العقاب المرتب على ذلك. وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أن الله تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وكانت مسكن الجبارين من الكنعانيين، وأمره أن يسير إليها وأن يأخذ من كلّ سبط كفيلا على امتثال ما يأمرهم به، ففعل وسار بهم حتى قارب أريحا، فأرسل النّقباء عيونا، فلقيهم عوج بن عنق وعنق أمه من بنات آدم عليه السّلام، فأخذهم بحجزته أي شدهم على وسطه، والحجزة معقد الإزار وموضع التكة من السّراويل، وقال لزوجته هؤلاء يريدون قتالنا إلّا أطحتهم برجلي، فقالت لا بل أتركهم ليخبروا قومهم بما رأوه من قوتك فيهابوك، فتركهم، ولما رجعوا قالوا إذا أخبرنا بني إسرائيل بما رأينا من هذا الرّجل يرجعون ولا يقاتلون، بل نخبر موسى وهرون فقط، وأخذوا على بعضهم العهد في ذلك، ولما وصلوا قومهم نكثوا وأخبر كلّ نقيب سبطه، عدا يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهما لم يخبرا سبطهما، ولم ينكثا عهدهما، وسيأتي تمام هذه القصة عند قوله تعالى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) الآية 23 الآتية. قال تعالى «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» الذي أخذ منهم ونكثهم عهدهم «لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً» لا تؤثر فيها المواعظ ولا تلينها الزواجر ولا ترققها العبر وصاروا فضلا عن ذلك «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» بالتبديل والتغيير والتأويل والتفسير على ما هو خلاف المراد وضد المعنى «وَنَسُوا حَظًّا» نصيبا وافرا «مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» من أحكام التوراة التي فيها خيرهم وخلاصهم، ولم يعملوا به لأن من جملة ما ذكّروا به الإيمان بعيسى بن مريم ومن بعده بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام، وهذا من بعض خياناتهم «وَلا تَزالُ» يا سيد الرّسل «تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ» بعد خائنة مثل نقضهم العهود ومعاهدتهم أهل الشّرك ضدك وهمهم بقتلك غدرا كما كانوا مع أنبيائهم الأوّل موسى وهرون فمن بعدهما «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» يوشك أن يحافظوا على العهود

ويتذكروا بما أمرهم الله في التوراة، فيدخلون في دينك «فَاعْفُ عَنْهُمْ» الآن يا حبيبي «وَاصْفَحْ» عن زلاتهم كلهم لأنك لا تعلم الذي يؤمن بك من غيره، لذلك أحسن إليهم وعاملهم باللين «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (13) في أقوالهم وأعمالهم. وبمناسبة ذكر غدر قوم موسى بموسى ومحمد بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام تطرق إلى ذكر بعض غدر قوم عيسى بعيسى عليه السّلام، فقال «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ» أيضا على السّمع والطّاعة والإيمان بالرسل كما أخذناه على من قبلهم ومن جملة ذلك الإيمان بك يا محمد، وكذلك لم يوفوا بشيء منه ونكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم كالّذين من قبلهم «فَنَسُوا حَظًّا» قسطا جزيلا وجانبا كبيرا «مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» في الإنجيل المنزل على رسولهم من لزوم الإيمان بك ونصرتك «فَأَغْرَيْنا» أوقعنا وألصقنا ومكنّا «بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» بسبب الاختلاف بينهم في أمر دينهم وجعلنا كلّ فرقة منهم تفسق بالأخرى بالدنيا «وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ» في الآخرة «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (14) مع أنفسهم وقومهم وأنبيائهم ويجازيهم عليه قال تعالى «يا أَهْلَ الْكِتابِ» اليهود والنّصارى «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أخذنا على رسلكم العهد بالإيمان به وألزمناهم أن يأخذوا عليكم مثله بلزوم الإيمان به، وقد فعلت الرّسل ذلك وبلغوكم ولكنكم أبيتم وصددتم أنفسكم وصنعتم غيركم عن الإيمان به أيضا وخالفتم أمر الله وأمر رسلكم وأمر هذا الرّسول الذي أرسلناه بالهدى إليكم، وقد جاءكم «يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ» أل فيه للجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل وما قبلهما وأني أطلعته على ما فيهما من ذلك، وأن لا يؤاخذكم على ما سبق منكم فيسامحكم «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» مما تفعلونه وتخفونه ولا يتعرض له، فيجدر بكم أن تصدقوه وتؤمنوا به بعد أن أراكم هذه المعجزة وهي علمه بما في كتبكم، وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب، فآمنوا به لتفلحوا فإنه «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ» ببعثته وهدى لتقتدوا به لأنكم في ظلمة وعماء من أمر دينكم، ومن كان في الظّلمة يريد طرق الاهتداء

إلى النّور فاهتدوا بهذا النّور الذي جاءكم به «وَكِتابٌ مُبِينٌ» (15) للحق من الباطل، والرّشد من الضّلال، والحرام من الحلال، ألا وهو القرآن العظيم الجامع لما في الكتب السّماوية كلها، فاغتنموا أتباعه فإنه «يَهْدِي بِهِ» بهذا الكتاب «اللَّهُ» تعالى كل «مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ» بسلوك الطّرق التي يرضاها والتي تكون لهم «سُبُلَ السَّلامِ» من الآفات الدّنيوية المؤدية إلى طرق النّجاة من عذاب الله الأخروي «وَيُخْرِجُهُمْ» أي الّذين اتبعوه وسلكوا سبل رضوانه «مِنَ الظُّلُماتِ» التي هم غارقون فيها ظلمة العقيدة وظلمة العصيان وظلمة التكذيب التي أصدأت قلوبهم فمنع تكاثف رينها وصولهم «إِلَى النُّورِ» الذي هو التصديق به والطّاعة له والإيمان بجميع ما جاءكم به، وتلك الهداية لا تكون لأحد إلا «بِإِذْنِهِ» جل جلاله إذ لا يقع في الكون شيء إلّا بأمره وإرادته «وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (16) لا عوج فيه. وهذه الآية تدل دلالة ظاهرة لا غبار عليها أن محمدا صلّى الله عليه وسلم مرسل من الله تعالى إلى أهل الكتاب كغيرهم من الأمم، بصريح الخطاب وتخصيصه بهم، فهي وحدها كافية للرد على من يقول أن رسالته صلّى الله عليه وسلم خاصة للعرب المشركين فضلا عن بقية الآيات، راجع الآية 28 من سورة سبأ والآية 5 من سورة الكهف في ج 2. ولما بين الله تعالى اختلاف النصارى. ذكر الفرقتين الكافرتين منهم وهم اليعقوبية والملكانية، فقال جل قوله مبينا سبب كفرهم «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» وذلك أنهم يقولون إن الله تعالى وتنزه حل في بدن عيسى، ثم ذكر ما يدل على فساد قولهم وعقلهم وعقيدتهم هذه بقوله عز قوله يا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء القائلين بالحلول «فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» فهل يوجد من يقدر على دفع إهلاكه عنهم أو من يحول دونه؟ كلا كيف «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما» من الخلق كلهم عبيده وعيسى واحد من جملتهم، ولا يقال بما أنه لا أب له نسب إلى الله، لأن الله تعالى «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» من غير أبوين كآدم ومن غير أم كحواء ومن غير أب كعيسى ومن أبوين مثل

سائر الخلق، راجع الآية 46 من سورة النّور المارة فيما يتعلق في هذا البحث، ومنه تعلم أن لا اعتراض على الله فيما يخلق لأنه لا يسأل عما يفعل «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (17) لا يعجزه شيء وإذا كان المخلوق من غير أب يسمى إلها فمن باب أولى أن يكون آدم ثم حواء لأن الإيجاد من الأم أهون من الإيجاد من الأب فقط، والإيجاد من الأب أهون من الإيجاد بلا أم ولا أب، ولم يسبق أن سمى أحد آدم إلها ولا حواء، فكيف يسمون عيسى إلها، راجع الآية 64 من آل عمران المارة للاطلاع على هذا البحث، وحكاية أسير الرّوم. ثم ذكر ما يتبجح به أهل الكتابين مما ليس كائنا بقوله عز قوله «وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى» فيما سبق «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» خاصة من دون النّاس فيا أكمل الرّسل «قُلْ» لهؤلاء الكذبة إذا كنتم تزعمون ذلك «فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» التي ترتكبونها، لأن المحب لا يعذب حبيبه ولا يوقعه بما يوجب تعذيبه، ولهذا ردّ الله عليهم بقوله «بَلْ» ليس الأمر كما ذكرتم لأنكم «أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» لا أبناؤه ولا أحباؤه وهو المختار بأمر خلقه «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» من عباده كما تقتضيه كلمته الأزلية لا مانع لما يريد، ولا راد لحكمه، «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (18) لا إلى غيره. وبسبب هذه المقالة أن اليهود يقولون إن الله أوصى إلى إسرائيل إني أدخل ولدك النّار أربعين يوما بقدر مدة عبادتهم العجل، ثم أخرجهم، فلذلك يعنون أن الله يعطف عليهم كعطف الأب على ولده، وهذا معنى ما حكاه الله عنهم في قوله (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية 80 من البقرة المارة وهي مكررة في غيرها، وإن النّصارى تأولوا قول المسيح أثناء حديثه لهم (إني أذهب إلى أبي وأبيكم) وقوله لهم (إذا صليتم قولوا يا أبانا الذي في السّماء تقدس اسمك) ، فذهبوا إلى ظاهر هذا القول وقالوا إن المسيح ابن الله؟ راجع الآية 32 من سورة التوبة الآتية، لأنهم لم يعلموا مراد المسيح إذا صحت هذه المقالة عنه بأن الأب الأكبر لهذا البشر كله هو الله ربه ومربيه ومدبر أمره وهو أشفق عليهم من أبيهم الصّلبي، فلهذا وبسبب انتسابهم لأسلافهم الأوائل

مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:

رأى اليهود والنّصارى لأنفسهم فضلا على غيرهم من الأمم، وعظموا أنفسهم وفضلوها على من سواهم حتى قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، على أن الأناجيل الأربعة الموجودة بأيدي النّصارى قد جاء فيها مرة أرسلني أبي الذي هو في السّماء، وطورا أرسلني إلهي الذي هو في السّماء، مما يدل على أن المراد بالأب في قوله هو الله إذا كان في الأصل هكذا، لأن الأناجيل لم تدون زمن المسيح بل بعده بمائة سنة وقد تطرقتها التراجم المختلفة فأول بعضهم الإله بمعنى الأب، والأب بمعنى الإله وأثبته كذلك، وهذه الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متّى ويوحنا ومرقس ولوقا لا يعرف على الحقيقة من دونها أولا، لذلك لا تخلو من الدّسّ اليهودي، وهناك إنجيل برنابا قد جاء على ما في القرآن، ولكن النّصارى لم تعتبره مع أنه حواري من أنصار المسيح الّذين يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل، وإن بولص وغيره قد اهتدوا بعده وهو الذي عرف التلاميذ به، فيكون إنجيله هذا هو الواقع، إذ تلقاه بنفسه من السّيد عيسى عليه السّلام ودوّنه كما تلقاه بوقته خلافا للأناجيل الأربعة الموجودة الآن، فإنها لم تدون في زمنه ودونت على طريق التلقي من الغير بعد مائة سنة، وقد يكونون غير موثوقين أو خانهم حفظ ذاكرتهم. مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه: قال تعالى «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «يُبَيِّنُ لَكُمْ» أحكام الدّين الحق والشّرائع الصّحيحة «عَلى فَتْرَةٍ» انقطاع طويل «مِنَ الرُّسُلِ» وهي 571 سنة ما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلم وبين ميلاد عيسى وبعثة محمد 911 وبين ميلاده وهجرة محمد 924 وبعد الميلاد والوفاة 934 ورفع إلى السماء 904، وعليه يكون بين رفع عيسى وميلاد محمد 538 سنة، وبين رفعه والبعثة 578، وبين رفعه والهجرة 591 وبين رفعه والوفاة 604 وقد وقع التحريف والتبديل بالكتب السّماوية المتقدمة على القرآن خلال هذه الفترة بسبب اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم واختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق، وتطرق من هذا الاختلاف شيء إلى العبادات والعقائد مما ليس منهما لتقادم العهد.

[سورة المائدة (5) : الآيات 21 إلى 30]

فصار عذرا ظاهرا لاعراض الخلق عن معرفة كيفية عبادة الخالق وماهيتها، وصارت الحاجة ماسة إلى إرسال من ينقذ الخلق من هوتهم، فأرسل الله تعالى حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم لإزالة ذلك كما أشرنا إليه في المقدمة آخر الخاتمة، بشريعة سمحة موافقة لمصلحة البشر أجمع وملائمة لعصرهم فليس لكم يا أهل الكتاب ويا أيها المشركون «أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» إنما أرسلنا محمدا إليهم مرشدا ومجددا لئلا يحتجوا بهذه الحجة ويقولوا هذا القول «فَقَدْ جاءَكُمْ» الآن «بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» بين لكم أمر دينكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (19) ومن قدرته إرشاد الخلق بلا إرسال رسل وإنما أرسلهم لئلا يتذرعوا بالمعاذير راجع الآيات 271 و 272 من سورة الأعراف المارة ج 1 قال تعالى «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ» أي اذكر لقومك يا سيد الرّسل قول السّيد موسى «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ» كثيرين فلم يبعث في أمة من الأمم كما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء منهم «وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» بعد ان كنتم خدما وخولا للقبط أذلاء مخذولين «وَآتاكُمْ» من النعم المترادفة «ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (20) قبلكم ولا في زمانكم وقد عددها الله تعالى في مواقع كثيرة من القرآن منها في الآية 47 إلى 74 من البقرة وعدد تعاليمهم في الآية 75 فما بعدها في آيات كثيرة من البقرة وغيرها وما وقع منهم من عناد وكفر فيها وفي آل عمران وغيرها. ومن جملة مخالفتهم نبيهم قوله تعالى حكاية عنهم «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» المطهرة المباركة قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومهبط الوحي الإلهي «الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» دخولها وأباح لكم سكناها وأمركم بالسير إليها، وهي أراضي الطّور وما حولها من أريحا وفلسطين ودمشق وبعض الأردن، وهذا أمر منه بالجهاد مع الجبارين الكنعانيين كما سبق في الآية 12 المارة «وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ» فترجعوا القهقرى منهزمين مولين أعداءكم ظهوركم خوفا منهم، فترتدوا عن دينكم بعصيانكم أمر رسولكم وعدم وثوقكم بما وعدكم ربكم، فتخالفوا أمره «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (21) الدنيا والآخرة وإنما حصل لهم التردد بعد أن ساروا معه وامتنعوا

عن الجهاد لأن نقباءهم أخبروهم بما رأوا من عوج بن عنق الذي أشرنا إليه في الآية 12 المارة، ولهذا «قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ» لا طاقة لنا بقتالهم ولا قوة لنا على بطشهم «وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها» إن شئت أو أبيت «فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» (22) إليها معك ثم صاروا يبكون ويلومون أنفسهم على طاعة موسى بخروجهم من مصر يقولون يا ليتنا متنا فيها وبقينا على ما كنا عليه، وهموا بالانصراف والرّجوع إلى مصر، وإنما لحقهم هذا الرّعب قبل الوصول وقبل نشوب الحرب لأنهم قوم تعودوا الذلّ والاستعباد وخساسة النّفس والرّضاء بالهوان، ولم يذوقوا لذة العزّة والمهابة والحرية وأن السّيد موسى عليه السّلام يريد أن يرفعهم من حضيض الأرض إلى أوج السّماء دفعة واحدة، ولكن: وإذا كانت النّفوس صفارا ... خسئت في مرادها الأجسام ولم يعلموا بعد أنه: وإذا سخّر الله سعيدا ... لأناس فإنهم سعداء فلما رأى موسى عزمهم على الرّجوع وخبتهم عن اللّقاء وفضلوا أن يكونوا خدما للقبط كما كانوا على صيرورتهم ملوكا وأنبياء، وخافوا أن تقتل أولادهم وأنفسهم في الجهاد، وأن يغنم أموالهم العدو، ولم يخافوا من القبط الّذين قتّلوا ذكورهم واستحيوا نساءهم للخدمة خرّ موسى وأخوه هرون ساجدين لله ليريهما ما يقدر لهما وماذا يعملان مع قومهما، وصار يوشع وكالب يخرقان ثيابهما خوفا من نزول العذاب لما رأيا من غضب موسى وهرون، وهما المعنيان بقوله تعالى «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ» مقت الله وعقابه الّذين «أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا» بالثبات على الإيمان والوفاء بالعهد، إذ لم يخبرا سبطيهما بما رأياه من الجبار عوج ابن عنق المار ذكره في الآية 12 «ادْخُلُوا» يا قومنا «عَلَيْهِمُ» أي الجبارين «الْبابَ» باب مدينة أريحا ولا تهابوهم، فإذا دخلتموه «فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» (23) عليهم لأن الله وعدكم النّصر فهلم ادخلوا «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (24) به وبوعده، قالوا فلما سمعوا هذا القول من كالب ويوشع أرادوا

أن يرجموهما بالحجارة فضلا عن عدم الالتفات إلى قولهما، والتفتوا إلى موسى ثم «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها» أي الجبارون المذكورون فإذا أردت يا موسى «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا» هؤلاء الجبارين «إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (25) ننتظر ما ينجم عن قتالكم، فإن ظفرتم بهم دخلنا وإلّا فقد سلمنا من بأسهم «قالَ» موسى بعد أن رفع رأسه وأخوه من السجود ورأيا ما هموا به على كالب ويوشع وما أراداه منهما وما أرادوه هم من وجود من يرأسهم ويرجعهم إلى مصر وعلم إياسه منهم «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» الذي هو في طاعتي أينما وجهته لتنفيذ أمرك «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (26) وهذا دعاء عليهم، لأنه طلب الحكم من الله فيما بينهما وبينهم، وكان هرون يؤمن على دعائه، فأوحى الله إليه بإجابة دعائه الذي ألهمه أثناء سجوده «قالَ» الله عز وجل يا موسى أتركهم «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» لا يرون هذه الأرض المقدسة بل يبقون متحيرين في أمرهم، وهذا التحريم على الأسباط العشرة الّذين نقضوا العهد وأخبروا قومهم بما رأوا من بأس الجبارين وان عوجا اقتلع صخرة من الجبل عظيمة وأراد إلقاءها عليهم فبعث الله لهدهد فثقبها فوقعت في عنقه فصرعته أما يوشع وكالب، فقد دخلاها، فلما سمع موسى كلام ربه استاء على قومه شفقة منه عليهم مع إساءتهم له فقال له ربه «فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (27) الخارجين عن الطّاعة فإنهم يستحقون أكثر من هذا، وقد أراد الله تعالى وهو أعلم بهذه المدة أمرين الأوّل جزاء شؤمهم وتمردهم على نبيهم وعصيانهم أمره مدة أربعين يوما التي كان يعالجهم فيها لدخول الأراضي المقدسة وهم يمتنعون، فجعل عليهم التّيه والتشرد مثل تلك المدة سنين عقوبة لهم، والثاني حتى ينقرض كبارهم الّذين ألفوا الرّقّ والذل والهوان وتعودوا الخدمة والمهانة فصغرت نفوسهم عن مستواها وحقرت ولم يبق فيها حب الطموح إلى العزّة والكرامة، وينشىء الله بعدهم منهم من ينشأ جديدا في تلك الصحراء التي لا يد عليهم فيها إلّا يد الله، فيربون أحرارا أعزاء بنفوس أبية لا تعرف الضيم والرّق والذل الذي كان عليه آباؤهم، فلا تلمس أنوفهم ولا يداس حماهم ولا

مطلب موت هارون وموسى عليهما السلام وقصة ولدي آدم عليه السلام:

توطأ أرضهم، فيقدمون على الجهاد بحزم وعزم، فيبطشون ويظفرون، فيكون منهم الملوك والأمراء والأنبياء. قالوا إن الله أوحى إلى موسى عليه السّلام حين سجد وأخوه (بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب، ولآتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كلّ يوم سنة، ولألقين جيفهم في هذا الفضاء، أما أبناؤهم الّذين لم يعملوا الشّر فسيدخلونها) قالوا وكانت أرض التيه تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا، وكان القوم ستمئة الف، وكانوا يرحلون اليوم كله فإذا أمسوا وجدوا أنفسهم بمكانهم، وهذا من باب فوق العادة لأنه معجزة لرسولهم عقابا لعنادهم وجزاء لعصيانهم، قالوا ثم شكوا إلى موسى الضّنك الذي لا قوة في تيههم من الجوع والعطش والتعب، فدعا الله ربه، فأنزل عليهم المنّ والسّلوى وظللهم بالغمام وأمر موسى بضرب الحجر فضربها فتفجرت عن اثنتي عشرة عينا لكل سبط عين، وجعل كسوتهم قائمة معهم لا تخلق وتكبر مع كبرهم وهذه أيضا من جملة المعجزات التي أظهرها الله لنبيهم في التيه، ومن خوارق عوائد الله تعالى ولا شيء عليه بعزيز، فانظر رعاك الله تلطف موسى بقومه ورحمته بهم على ما هو عليه من الشّدة وما هم عليه من التعنت والخلاف لأمره وأمر ربه، وهذا مما يطمع العباد في ربهم، اللهم لا تغفلنا عن مكرك، ولا تنسنا ذكرك، واسبل علينا سترك، وانشر علينا رحمتك، ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا وأفعال السّفهاء منا برحمتك يا أرحم الرّاحمين. مطلب موت هارون وموسى عليهما السّلام وقصة ولدي آدم عليه السّلام: قالوا ومات في التيه كلّ من دخله مجاوزا عمره العشرين سنة غير يوشع وكالب ولم يدخل أريحا منهم ممن قال لن ندخلها أبدا، وكان موسى وهرون ممن مات في التيه أيضا، قالوا ولما أراد الله وفاة هرون أوحى الله إلى موسى عليهما السّلام أن ائت بهارون إلى جبل كذا، فلما أتاه به وجد هارون شجرة ومبيتا فيه فراش على سرير فيه رائحة طيبة، فأعجبه ونام عليه، فلما أحس بالموت قال يا موسى خدعتني، وقبض الله روحه ورفع إلى السّماء ورجع موسى إلى بنى إسرائيل، فسألوه عن هرون فقال لهم مات فاتهموه بقتله، فدعا الله فأنزل لهم ذلك السّرير

وعليه هرون ميتا فصدقوه، ثم رفع ولم يعلم موضع قبره في الأرض أي محل قبض روحه، ثم نبأ الله يوشع عليه السّلام فصار موسى يغدو ويروح عليه حتى كره الحياة وأحب الموت بعد أن كان يكرهه، قالوا إن الله تعالى قال لموسى ضع يدك على متن ثور فلك بكل ما غطست يداك من شعرة سنة، قال أي رب ثم مه؟ قال ثم الموت، قال إذا فالآن، وسأل ربه أن يدنيه من الأراضي المقدسة رمية حجر، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير أحسن منه؟ فقال لمن هذا؟ قالوا لعبد كريم على ربه، فقال هذا العبد من الله بمنزلة ما رأيت كاليوم قط مثلها، فقالوا يا صفي الله أتحب أن يكون لك، قال وددت، قالوا فأنزل فنزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربه عز وجل ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله روحه الطّاهرة عليه الصّلاة والسّلام، ودفن فيه وهو تحت الكثيب الأحمر، وكان عمره مائة وستة وعشرين سنة، وهرون أكبر منه، قالوا وبعد مضي الأربعين سنة دعى يوشع بني إسرائيل لحرب الجبارين فلبوا دعوته فسار بهم وكان معه تابوت الميثاق، فأحاط بأريحاء ستة أشهر حتى أسقط سور المدينة، ودخلوها عتوة، وقتلوا الجبارين وهزموهم، قالوا وقبل أن يقضوا عليهم قاربت الشّمس على الغياب، وكان يوم جمعة فدعا يوشع عليه السّلام ربه فأخرها حتى تم له الانتقام من أعدائه قبل دخول السّبت المحرم عليهم فيه القتال. وقال مشيرا إلى هذا أمير الشّعراء السّيد شوقي المصري بقوله: شيعوا الشّمس ومالوا بضحاها ... فانحنى الشّرق عليها فبكاها ليتني في الرّكب لما أفلت ... يوشع همت فنادى فثناها إلى آخر الأبيات التي رثى بها سعد زغلول رحمهما الله، وقال الآخر: فحدثت نفسي أنها الشّمس أشرقت ... وإني قد أوتيت آية يوشع بما يدل على أن قضية رد الشّمس شائعة متواترة مشهورة لسيدنا يوشع كما هي لسيدنا داود عليهم الصّلاة والسّلام، راجع ما قدمناه مما يتعلق في هذا البحث في الآية 31 من سورة ص، وأول سورتي القمر والإسراء في ج 1، ثم تتبع ملوك الشام فاجتاح منهم واحدا وثلاثين ملكا واستولى على بلادهم وصارت كلها لبني

إسرائيل، وفرق العمال في نواحيها، وجمع الغنائم فأطلق عليها النّار فلم تأكلها، فقال إن بكم غلولا أي سرقة من الغنائم لأنها لم تبح لهم ولا لغيرهم إلّا لمحمد وأصحابه وأمته بعده، راجع الآية 41 من سورة الأنفال وأولها تجد هذا البحث مستوفى فيهما، ولمعرفة السّارق أمر سيدنا يوشع بحضور رجل واحد من كلّ قبيلة ليبايعه فتهافت النّاس ولم يزل يصافحهم واحدا بعد واحد حتى لصقت يده بيد رجل منهم، فقال له أن الغلول فيكم، فأتوا به ثم جازا له برأس ثور من ذهب مكلل بالجواهر كان اختلسه رجل منهم فأحضر فوضعه هو والرّأس في القربان فأكلتهم النّار، قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا سيد الرّسل «نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ» هابيل وقابيل، وهذه قصة أخرى يقصها الله على رسوله من أمر غيبه اخبارا «بِالْحَقِّ» ليذكرها لقومه «إِذْ قَرَّبا قُرْباناً» هو اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من صدقة أو ذبيحة أو نسك أو غيره «فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما» هابيل بأن جاءت نار من السّماء فأكلته «وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ» قابيل إذ بقي قربانه في الأرض فأكلته الطّير والسّباع «قالَ» قابيل حاسدا لأخيه هابيل إذ تقبل قربانه دونه «لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ» ولم ولم أخطئ؟ قال لردّ قرباني وقبول قربانك «قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (27) بأسه التمثيل أمره ثم قال له بعد أن ذكره عقاب الله إن فعل ما أراده وعذابه العظيم عليه، لأن ردّ القربان ليس له به دخل إنما هو أمر الله، واستعطفه واسترحمه فلم ينجح به فقال «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي» من أجل عدم قبول قربانك الكائن من الله وحده، فافعل ما بدا لك، فإني لا أقابلك «ما أَنَا بِباسِطٍ» مادّ «يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» كما انك مادّها لتقتلني «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» (28) وذلك لأن الدّفاع عن النّفس لم يشرع بعد، وإلّا فهو أقوى منه على ما قالوا، ثم قال له على طريق التخويف من العاقبة «إِنِّي أُرِيدُ» بعدم إرادتي قتلك وعدم الذبّ عن نفسي «أَنْ تَبُوءَ» تحتمل وترجع إلى الله «بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» الذي لم يقبل لأجله قربانك، كما سيأتي بالقصة «فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» الخالدين فيها كما يفهم من معنى الصّحبة «وَذلِكَ» الجزاء

[سورة المائدة (5) : الآيات 31 إلى 40]

الفظيع عند الله هو «جَزاءُ الظَّالِمِينَ» (29) أمثالك الّذين يقدمون على قتل النفس عمدا بلا حق، فلم يؤثر ما أبداه له ولهذا قال تعالى حاكيا حاله وإصراره على الشّر «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ» ولم يلق بالا للنصح والتهديد والوعظ، فتحين فرصة للغدر به بغياب أبيهما «فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» (30) الدنيا لغضب أبيه وأمه وفقد أخيه والآخرة بغضب الله وعذاب النّار والحرمان من الجنّة، ولما فعل فعلته لم يعلم ماذا يفعل بجثته فحمله على ظهره لأنه أول قتيل أهريق دمه على وجه الأرض من بني آدم، لذلك لم يعرف ما يفعل به بعد قتله «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» وكان معه غراب مقتول (ولم يكرر لفظ الغراب ويبحث في القرآن) كان تقاتل معه فقتله، فحفر الأرض برجليه ودفنه فيها، وإنما بعثه الله إليه «لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» فتنبه لذلك وفعل بأخيه ما فعل الغراب، ثم قال مؤنبا نفسه على فرط جهله وحمقه، إذ علم أن الغراب أفطن منه «قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» خير من أظل حاملا له، ولما دفنه رأي نفسه وحيدا «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (31) على قتل أخيه وحمله إياه مدة سنة على ما قيل ولم ينتبه لأن يعمل فيه ما عمله الغراب بأخيه الذي قتله مثله وزاد عليه بالمعرفة، إذ دفنه حالا. قال تعالى «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» القتل العمد ظلما «كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ» بغير «فَسادٍ فِي الْأَرْضِ» كقطع الطّريق والنّهب والسّلب فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» في الغدر لأنه يستوجب غضب الله تعالى والعذاب الدائم في جهنم، فلو فرض أنه قتل جميع النّاس لا يزاد على عذابه هذا شيء إذ ما بعد التخليد في النّار من عذاب، وذلك لأن الجناية على النّفس عمدا من أعظم المحرمات بعد الإشراك بالله، ولهذا كان مثل تخريب العالم، وعليه قوله صلّى الله عليه وسلم: لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم. وقال: سباب المؤمن فسق وقتاله كفر «وَمَنْ أَحْياها» استخلصها من أسباب الهلاك وأنقذها من العطب من قتل أو حرق أو غرق أو غيره من هدم أو ترد أو ظالم وشبهه «فَكَأَنَّما

أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» وفي هذه الآية ترغيب من الله لمن يتسبب من عباده في إنقاذ النّاس من الهلاك، ولهذا شرع الدّفاع عن النّفس والمال والعرض وغيره، وإذا قتل في هذا السّبيل قتل شهيدا، وإذا قتل لا شيء عليه، وإن القوانين الأرضية استقت هذا من القوانين السّماوية، فأعفت المعتدى عليه في نفسه وماله وعرضه من العقاب، حتى إنه لو فعل ذلك من أجل غيره يعفى في بعض الحالات ويعد معذورا في أخرى، فيخفف عنه الجزاء، وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون أن حواء عليها السّلام كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى، ولدت في عشرين بطنا أربعين، عشرين ذكورا ومثلهم إناثا، أولهم قابيل وتوءمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوءمنه أم المغيث، ولم يمت آدم حتى بلغ ولده أربعون ألفا، ولم يمت منهم أحد، وكانوا يتزاوجون على الخلف بأن لا يأخذ الأخ توءمته بل التي بعدها وتوءمها يأخذ النّبي قبله وهكذا، فأمر الله آدم أن يزوج قابيل لودا أخت هابيل، وهابيل إقليما أخت قابيل لأنهما متقاربان في السنّ، فقال قابيل لأبيه عند ما كلفه بذلك إن أختي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها لأني وإياها حملنا وولادتنا في الجنّة وهابيل وأخته حملها وولادتها في الأرض، فقال له آدم وإن كان كذلك فلا يحل لك أن تخالف أمر الله، فأبى أن يقبل ولم يصغ لوعظ أبيه وزجره وتهديده، فقال إذ عققتني فقرّبا أنت وأخوك قربانا فأيكما قبل قربانه أخذ أقليما، ففعلا ولكن قال قابيل في نفسه إن تقبل قرباني أو لم يتقبل فلا أتزوج إلا أختي، وقال هابيل في نفسه ما يكون من الله فأنا راض به، ولهذا والحكمة الأزلية قربا تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل كما مر في الآية 28 وتقدم في الآية 183 من آل عمران كيفية قبول القرابين فراجعها، فصارح قابيل إياه بعدم قبوله، وقال إن فعلت يتحدث بين الملأ أنه خير مني فيفتخر ولده على ولدي، وأضمر الشّر لأخيه وتهدده وتوعده بالقتل، ولما سنحت له الفرصة حال غياب أبيه حمل حجرا ليرضّ بها رأسه، فاستعطفه وزجره كما تقدم ولم ينجح به فوطن هابيل نفسه للاستسلام طلبا للثواب، وتركه ولم يقابله بشيء، قالوا ولم يعرف أولا أحد كيفية القتل، فتمثل له الشّيطان عليه اللّعنة وقد أخذ طيرا فوضع

رأسه على حجر ورضه بحجر آخر فقتله، فلما رأى قابيل ذلك فعله بأخيه هابيل إذ رض رأسه بين حجرين حالة نومه فقتله غيلة، ثم انه تاب ولكن لم تقبل توبته، لأن النّدم وحده لا يعد توبة إذ ذاك، وإنما هو من خصائص هذه الأمة، راجع الآية 57 من سورة البقرة في كيفية توبة بني إسرائيل، على أن غالب ندمه كان على حمله أخيه بعد قتله مدة سنة، حتى رأى الغراب وعمله بأخيه فعمل مثله، ولم يصرح بالندم إلّا بعد الدّفن، ولأن قتله تعمدا عنادا بالله وبأبيه وعدم ارتداعه بعدم تقبّل القربان من الله، وقالوا إنه تركه بالعراء مدة، فلما رأى تقرب السّباع منه لتأكله حمله على ظهره، ولما أنتن وتحير في أمره ولم يدر ماذا يفعل به ليتخلص منه بعث الله له الغراب ليعلمه كيفية دفنه. قالوا ولما قتله رجفت الأرض سبعة أيّام، واسود جلده إعلاما بغضب الله عليه والعياذ بالله، قالوا ولما رجع آدم عليه السّلام من مكة إذ كان غيابه فيها ولم يجد هابيل سأل قابيل عنه، فقال ما أنا عليه بوكيل، قال بل قتلته، ولذلك اسود جلدك، فمكث آدم مائة سنة لا يضحك، ورثاه بكلمات سريانية ووصى شيئا يحفظها، ولم تزل الكلمات تنقل حتى زمن يعرب بن قحطان فعرّبها على ما قيل بهذه الأبيات: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبّر قبيح تغير كلّ ذي لون وطعم ... وقل بشاشة وجه مليح ومالي لا أجود يسكب دمع ... وهابيل تضمنه الضّريح أرى طول الحياة عليّ غما ... فهل أنا من حياتي مستريح لأنه كان يعرف السّريانية والعربية ومن قال أنه من نظم آدم فقد أخطأ لأن الأنبياء منزهون عن الشّعر، ولأن لغة آدم السّريانية فضلا عن ركاكة هذه الأبيات وإن هذا لفي شك أيضا، لأن الإسرائيلات التي بعد هذا بكثير لا يوثق بصحتها لطول الزمن وعدم الضّبط وقلة الكتاب، فكيف بما صدر عن آدم ولم يدون، وإن قوله ولد هو وأخته في السّماء كان لعدم ثبوت هذا المكان كما ذكر، وإن الله لم يذكر عن ذلك شيئا وهي كما ذكرها الله فقط، وإن شيث عليه السّلام

ولد بعد بلوغ آدم مئة وثلاثين سنة، وبعد قتل هابيل بخمسين سنة، واسمه هبة الله بالعربية لأنه خلف عن هابيل، وعلمه الله ساعات اللّيل والنّهار، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم من بعده وولي عهده، قالوا وبعد أن عرف آدم أن قابيل قتل هابيل طرده وشرّده وهدده بالقتل إن بقي، فأخذ أخته أقليما وهرب إلى عدن خوفا من القتل الذي سنّه في الأرض، فتصور له إبليس وقال له إنما أكلت النّار القربان الذي قربه أخوك لأنه كان يعبدها، فبنى له بيتا وأوقد فيه نارا وصار يعبدها من دون الله، فهو أول من عبدها، وأول من سنّ القتل على وجه الأرض، وأول من خالف أمر الله بتزوجه أخته الشّقيقة، واقتدى به من بعده بهذه الخصال القبيحة، فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة ثم انتقم الله منه إذ مات برمية من ابن له أعمى، فقال له ابنه قتلت أباك فلطمه وقتله أيضا، قال صلّى الله عليه وسلم بشر القاتل بالقتل. قتلوا واتخذ أولاده من بعده آلات الطبل والمزامير وانهمكوا في الملاهي والمعاصي ولم يزالوا حتى أغرقهم الله بالطوفان فلم يبق من نسله أحد. قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ» الواضحات من اخبار من قبلهم فلم يتعظوا بها «ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ» الذي كتبناه عليهم من التشديد في عقاب القاتل وشرعنا القصاص على جميع الخلق، وبالغنا فيه بحقهم بان جعلنا قتل النّفس الواحدة كقتل الجميع، ولم ينجح بهم ولم يزالوا وهم «فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» (32) أي أكثرهم متجاوزون الحد في العصيان ودائبون على اخلاف الوعد ونقض العهد في حق الله تعالى، واستحلوا محارمه وحرموا ما أحله لهم، فلأن يخالفوا أمرك يا سيد الرّسل من باب أولى لأنهم قتلوا طائفة من الأنبياء بغير حق، وهم الآن يترصدون لقتلك مع أنهم مأمورون باتباعك، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفن من دمها لأنه أول القتل من سنّ سنة وقال صلّى الله عليه وسلم من سن سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق:

مطلب في حد المفسدين في الأرض ومن تقبل توبتهم ومن لا تقبل وحكاية داود باشا حاكم العراق: قال تعالى «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا» إذا قتلوا الأنفس فقط «أَوْ يُصَلَّبُوا» إذا أخذوا المال مع القتل تشديدا للعقوبة «أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ» اليمنى مع الرّجل اليسرى أو الرّجل اليسرى مع اليد اليمنى إذا أخذوا المال فقط «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» إذا وجدوا في الطّريق وأخافوا النّاس أو في البرية أيضا لغاية القتل والنهب والسّلب ولم يقع منهم قتل ولا أخذ مال فينفوا إلى مكان لا يتمكنون معه من القيام بهذه المفاسد، وفي حبسهم معنى النّفي وأبلغ «ذلِكَ» الذي كتبه الله على هؤلاء المفسدين من الحد يكون «لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا» وهوان بين المجتمع الإنساني، وذل يأنفه كلّ ذي عقل، ويتباعد عنهم كلّ ذي مروءة، وينفر منهم كلّ شهم «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (33) عند الله إذا ماتوا قبل توبتهم، فإذا تابوا وكانوا مسلمين أو كانوا كافرين فأسلموا وسلّموا أنفسهم لإجراء الحد عليهم فعقوبتهم الدّنيوية هي ما ذكر في الآية وهي كفارة لهم، وإن لم يسلموا أنفسهم وبقوا على طغيانهم فهم في خطر المشيئة، أما الكفار إذا أسلموا بعد ذلك فإسلامهم كفارة لهم لأن الإسلام يجبّ ما قبله، وإنما يلزم بعده أداء الحقوق الشّخصية فقط «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» من كفرهم ومحاربتهم لله ورسوله وتركوا الإفساد في الأرض «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» بأن أمسكتموه وكانوا في قبضتكم، فهؤلاء لا سبيل لكم عليهم على مطلق الإضافة، أما إذا كانوا قاتلين أو ناهبين، فأولياء القتيل لهم طلب القصاص أو العفو وأخذ الدّية وأهل المال لهم طلبه منهم أو تركه، والله تعالى يقبل توبتهم فلا طريق لأولي الأمر عليهم إذا أقلعوا عما كانوا عليه من تلقاء أنفسهم ولهذا قال تعالى منبها على ذلك «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (34) لأمثال هؤلاء وبعد مغفرة الله لا حقّ لأولياء الأمر أن يعاقبوهم لأنهم وكلاء الله في أرضه وليس للوكيل أن يفعل شيئا نهاه عنه موكله إذا أسقطه. هذا وإذا كان النّائبون

قبل القبض عليهم كفرة فلا يطالبون بالقصاص لما ذكرنا من أن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تدرا الحدود الواجبة حال الكفر، وذلك ليكون داعيا للاسلام، وإذا علم أنه مطالب بما فعل حال كفره، بعد الإسلام لا يسلم. وحكم هذه الآية عام ومستمر الى يوم القيامة وإن نزولها بحق جماعة مخصوصين كان شأنهم ذلك لا يقيدها بهم ولا يخصصها فيهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من عكل وعرينة قدموا على النّبي صلّى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة. فأمر لهم صلّى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعى النّبي صلّى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلم فبعث الطّلب في أثرهم فحلقهم وأخذهم، فاعترفوا لحضرة الرّسول بجرمهم، ولم يبدوا عذرا يدرا الحد عنهم، فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة (محل بظاهر المدينة تحت واقم) حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصّدقة وينهى عن المثلة، زاد في رواية قال قتادة فحدثني بن سيرين أن ذلك قبل أن تنزل الحدود قال أبو تلابة فهؤلاء قوم كفروا وقتلوا وسرقوا بعد ايمانهم وحاربوا الله ورسوله فأنزل الله فيهم هذه الآية وصار العمل عليها حتى الآن والى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذا وينبغي صلب مثل هؤلاء المفسدين على الطّريق العام ليكون أبلغ في الزجر، ويختار الحبس على النّفي إذا تيقن أنه يؤذي في المحل الذي ينفى اليه، وإذا تاب هؤلاء المفسدون بعد القبض عليهم فلا تقبل توبتهم لأنها لا تكون خالصة بل للتخلص من الحد وهي توبة لا قيمة لها كالتوبة حال اليأس، لذلك يجب أن تقام عليهم الحدود المذكورة في هذه الآية، قالوا إن داود باشا حاكم العراق في القرن الثاني عشر للهجرة قد اشتهر بالعدل والتقوى وأعمال الخير وأفعال البر وإنشاء الجسور وإصلاح الطّرق وعمارة البيوت للفقراء وبناء المساجد والجوامع والتكايا، وصار يصرف جميع واردات العراق في هذه الجهات وشبهها، وكان له خادم فقتل نفسا فأمر بقتله، فاختفى ثم دخل عند الشّيخ خالد النّقشبندي ذي

الجناحين دفين دمشق، فبلغ الشّرطة خبره فحضروا ليأخذوه، فلم يسلمه للشرطة فحضر داود باشا بنفسه وتحاجّ مع الشّيخ وتلا عليه هذه الآية، فقال له الشّيخ إنه تاب قبل أن تقدروا عليه، وتوبته مقبولة بحكم هذه الآية، فلم يقبل الحاكم وطلب تسليمه ليقتله بحكم الآية الأولى، فصاح عليه الشّيخ لا أرسله لك يحكم الآية الثانية، فأغمي عليه ولما أفاق قبل يدي الشّيخ واستعفاه وقبل توبته وأدى الدّية لأهله بعد أن عفا أهل القتيل عنه وقالوا إنه حينما صاح الشّيخ رأى الحاكم نفسه بين يدي سبع يريد أن يلتقمه كرامة من الشّيخ، ولهذا فعل ما فعل، وهذا الحاكم غضب عليه السّلطان لعدم رفع شيء من واردات العراق إلى الخزينة العامة وأرسل من يقتله إذا لم يسلم نفسه اليه، ولما سلم نفسه اليه لم ير السّلطان ما يوجب قتله إذ تبين له أنه صرفها بصورة شرعية، فعفا عنه وأرسله إلى المدينة خادما للحرم الشّريف، فليحسنه فصار يكسو الحجرة الشّريفة بعد المكسة إلى أن توفي رحمه الله رحمة واسعة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» بفعل الطّاعات والعمل بما يرضيه جل شأنه من صلة الرّحم والتصدق على الأرامل والفقراء وقضاء حوائج العاجزين والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فهذه وما يشبهها كلها وسائل إلى الله تعالى تقرب العبد منه وتطلق الوسيلة على الحاجة قال عنترة: إن الرّجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخصّبي وعلى هذا يكون المعنى اطلبوا حاجاتكم من الله لا من غيره فإنه بيده مقاليد السموات والأرض، والوسيلة منزلة في الجنّة، قال صلّى الله عليه وسلم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنّة لا ينالها إلّا عبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو. وجاء في حديث آخر من قال حين يسمع النّداء (الأذان) اللهم رب هذه الدّعوة التامة والصّلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة. واستدل بعض النّاس بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة فيما بينهم وبين الله تعالى، وتحقيق الكلام في هذا أن الاستغاثة بالمخلوق الحي وجعله وسيلة بمعنى أنه يطلب الدّعاء منه لا شك في جوازه ولا يشترط

مطلب في الرابطة عند السادة النقشبندية وفي حد السارق ومعجزات الرسول والقصص وما يتعلق به:

فيه أن يكون أفضل من المستغيث به لما صحّ أنه صلّى الله عليه وسلم لما استأذن عمر في العمرة قال له لا تنسنا من دعائك، وأمره أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وأمر أمته بطلب الوسيلة له وأن يصلوا عليه، وقد استسقى الأصحاب بالعباس رضي الله عنهم، وإذا كان المستغاث به ميتا فلا يجوز لأنه بدعة، إذ لم ينقل عن السلف الصّالح أنهم استغاثوا أو طلبوا شيئا من الأموات. أما التوسل بجاههم لما يعتقد فيهم من التقرب إلى الله وعند الله ومن الله فلا بأس به، وكذلك زيارة قبورهم كما ذكره صاحب المدخل رحمه الله في الجزء الأوّل في باب زيارة القبور، وجواز شد الرّحال إليها، أما ما قاله صلّى الله عليه وسلم لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجده والمسجد الأقصى والمسجد الحرام فلما فيها من التفاوت بالأجر، أما بقية المساجد فلا تفاوت فيها، لهذا لا يشملها ولا يدخل فيه زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، إذ فيهم تفاوت لأن منهم من هو أقرب إلى الله من غيره فيجوز شد الرّحال لزيارتهم والتبرك بهم أمواتا كما يجوز أحياء لأن مجالستهم بركة وقد تنزل الرّحمة عليهم فيستفيد منها من كان عندهم، وقد حبّذ هذا العارفون كلهم ولم يمنعه منهم أحد وهم أدرى من غيرهم، فمنهم يؤخذ وبهم يقتدى وعنهم يتحدث، وحديث شد الرّحال خاص بالمساجد الثلاثة ولا يصلح أن يكون حجة للمنع من زيارته المحلات الأخر التي يتبرك بها، تدبر «وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ» أعداءه لإعلاء كلمته «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (35) في دنياكم في العز والوقار وفي آخرتكم في الفوز والنّجاة من النّار. مطلب في الرّابطة عند السّادة النّقشبندية وفي حد السّارق ومعجزات الرّسول والقصص وما يتعلق به: واعلم أن من هذه الآية الكريمة ومن قوله صلّى الله عليه وسلم إن أرواح المؤمنين لتلتقي على مسيرة يوم وما رأى أحد صاحبه، ومن قول الفقهاء ينبغي لمن يقول في التحيات أثناه الصّلاة السّلام عليك أيها النّبي ورحمته وبركاته أن يتصور النّبي أمامه كأنه يخاطبه في التحية، ومن أمر الشارع باستقبال القبلة وتقبيل الحجر الأسود أخذ السادة الصّوفية الرّابطة وأجمعوا عليها وأمروا بها، وقد أشرنا إلى هذا في الآية

58 من سورة الإسراء في ج 1، ومن أراد تفصيل هذا البحث فليراجع كتاب الهداية والعرفان للصاحب، وكتاب البهجة السّنية للخاني، ووضعت الرّابطة للاستعانة بالشيخ الكامل الذي إذا رئي ذكر الله لدفع الخطرات الشّيطانية عن القلب وطلب الواردات الإلهية إليه، لأنه بيت الرّب القائل جل قوله ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن. فهات هذا المؤمن المخلص الذي صار قلبه محلا الرّحمن وتوسل به إليه، أما لا فلا، فحسنوا رحمكم الله نياتكم وطهروا بيت الرّحمن من كلّ ما لا يليق به، وظنوا بالناس خيرا ليحصل لكم الأمان فتدخلوا الجنان والله من وراء القصد. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» من المال والملك والولد «وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ الله يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» ذلك الفداء على فرض ان لكل كافر ملك الدّنيا هذه ودنيا أخرى معها، ثم قدمها ليفدي بها نفسه من عذاب الله في ذلك اليوم لم يقبل منه «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (36) لا سبيل للنجاة منه وتراهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ» لشدة ما يقاسون من عذابها «وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها» لعدم استطاعتهم الخروج لأن عليها ملائكة غلاظ شداد لا رحمة في قلوبهم يمنعونهم من الخروج راجع الآية 6 من سورة التحريم المارة لتقف على وصف هؤلاء الملائكة «وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» دائم ثابت لا ينقص ولا يتحول عنهم، قال تعالى «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا» ما لا يحل لهما أخذه من مال الغير، وهذا القطع يكون جزاء «نَكالًا» عقوبة عظيمة «مِنَ اللَّهِ» الذي نهى عن السّرقة ليرتدع النّاس عن فعلها «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» قوي في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره «حَكِيمٌ» في ترتيب هذا الحد على السارق ليقطع دابر السّرقة، هذا وقد ذكر الله تعالى من أول هذه السّورة إلى هنا ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها كما أشرنا آنفا وهي المنخنقة 2 والموقوذة 3 والمتردية 4 والنّطيحة 5 وما أكل السّبع 6 وما ذبح على النّصب 7 والاستقسام بالأزلام 8 والجوارح المعلمة 9 وطعام أهل الكتاب 10 والمحصنات منهم 11 وبيان

الطهارة والتطهير 12 والوضوء عند إرادة الصّلاة 13 وجزاء قطاع الطّريق إذا قتلوا 14 وعقابهم إذا قتلوا وسلبوا 15 وجزاؤهم إذا سرقوا فقط 16 وعقابهم إذا لم يسرقوا ولم يقتلوا 17 وجزاؤهم إذا تابوا 18 وقبول توبتهم قبل القبض عليهم مع ما يلزمهم في هذه الأحوال كلها. ثم بين سبعة أحكام أخر كذلك لم تذكر في غيرها وهي 1 حكم السّارق والسّارقة 2 حكم قتل الصّيد 3 البحيرة 4 السّائمة 5 الوصيلة 6 الحام 7 حكم الوصية والإشهاد عليها قبل الموت بما يدل على عظيم هذه السّورة والقرآن كله عظيم، إلا أنه ما من عموم إلّا وخصص لا سيما الآيات التي فيها أحكام فهي أهم من غيرها وقد جعل في القرآن الحسن والأحسن، راجع الآية 55 من الزمر والآية الثانية من سورة يوسف في ج 2، روى البخاري ومسلم عن عائشة أن قريشا أهمها شأن المخزومية التي سرقت فقالوا، من يكلم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حب رسول الله؟ فكلمه أسامة، فقال صلّى الله عليه وسلم أتشفع في حدّ من حدود الله ثم قام فاختطب، ثم قال إنما أهلك الّذين من قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. ورويا عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعن الله السّارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده. والحكم الشّرعي إذا سرق السّارق ما يساوي ربع دينار تقطع يده وان البيضة الواردة في الحديث يراد بها بيضة الدّرع، والمراد بالجمل ما يساوي ربع دينار ويشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا عالما بالتحريم، فلو كان حديث عهد بالإسلام لا يعلم حرمة السّرقة لا يقطع، وكذلك الصّبي والمجنون، ويشترط أن يكون المسروق في محل محرز كدور السّكن والخيم، أما إذا كان من البادية والبساتين والدّور غير المأهولة وغير السورة المنقطعة من السّكان والزروع والكروم فلا قطع فيها، وكذلك لا قطع على من يسرق مال أبيه وأمه والعبد من سيده والشّريك من شريكه لوجود الإباحة في البعض معنى وهي ما يدرأ بها الحد، وإذا سرق بعد أن قطعت يده تقطع رجله من مفصل القدم على الخلاف، وهكذا إذا سرق ثالثا، وإذا سرق رابعا لا تقطع يده الأخرى بل يحبس، لأن في قطعها

تعطيلا له عن الأكل والعمل بصورة بانه مما يؤدي إلى هلاكه ولم يجعل الله الهلاك في هذا الحد، فلو أن المسلمين ساروا على ما حده الله لا نقطع دابر الفساد كله، لأن النّاس إذا رأوا عار قطع اليد الملازم للسارق يرتدعون عن السّرقة، أما الحبس الذي عليه أحكام هذا الزمن بنوعيها الجناية والجنحة فلم تكن رادعة لقطع دابر السّرقات مهما شدد فيها لصعوبة أسباب ثبوتها، فلذلك ما زالت السّرقات تتكاثر، وما زال السّراق يتبرمون، ولهذا شدد الشّارع فأوجب قطع اليد عند الثبوت، لأن هذا يزيد في الزجر ويقطع دابر السّرقة وتتأثر النّاس في عارها ويتحاشون أن يلصق بهم. قال تعالى «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ» لنفسه بالسرقة وظلم غيره بأخذ ماله «وَأَصْلَحَ» نفسه بعدها بالعمل الصّالح «فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» ويقبل توبته «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لعباده الرّاجعين إليه «رَحِيمٌ 39» بهم يريد لهم الخير، وليعلم أن هذه التوبة لا تسقط عنه الحد، لأنه جزاء لما فعل، أخرج أبو داود وابن ماجه والنّسائي عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى بلصّ قد اعترف اعترافا لم يوجد معه متاع فقال له إخالك سرقت، فقال بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا كلّ ذلك يعترف، فأمر به فقطع، ثم جيء به فقال له صلّى الله عليه وسلم أستغفر الله وتب اليه، فقال الرّجل أستغفر الله وأتوب اليه، فقال صلّى الله عليه وسلم اللهم تب عليه. وهذا إذا كان مؤمنا، أما إذا كان كافرا وأسلم فقد سقط عنه الحد ويبقى المال فقط، وإذا حاول السّرقة فلم يسرق لأمر ما فلا حدّ عليه، لأن الله فرض الحد على الفاعل القاصد، وهكذا القتل إذا قصده ولم يقتله أو قتل خطأ أو مناولا فلا شيء عليه، راجع الآية 92 من سورة النّساء، قال تعالى «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (40) قدم تعالى في هذه الآية التعذيب على المغفرة لأنه بمقابلة قطع السّرقة على التوبة، وهذه الآية تبطل زعم القدرية والمعتزلة القائلين بوجوب الرّحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأنها تدل على أن التعذيب والرّحمة مفوضان للمشيئة، والوجوب ينافي ذلك، وبما أن الكل في ملكه والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء فلا

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 50]

معنى للوجوب، وقد أكد ذلك بختم الآية بجملة (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يعذب ويغفر بسبب وبلا سبب قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» فإنا نكفيك شرهم فلا تبال بهم ولا تهتم بشأنهم لأنهم «مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» أي منافقون «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» أي طائفة منهم وهؤلاء لا يعبأ بهم لأنهم «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ» افتراء من أنفسهم وذلك أنهم كانوا يجلسون عند حضرة الرسول فيقولون قال كذا وكذا ولم يقله فهم «سَمَّاعُونَ» عيون وجواسيس «لِقَوْمٍ آخَرِينَ» منهم «لَمْ يَأْتُوكَ» لينقلوا كلامك لهم على صحته بل «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» التي وضعها الله من فرض فرائضه وتحليل حلاله وتحريم حرامه. اعلم أنه لا يوجد في القرآن آية مصدرة بيا أيها الرّسول غير هذه الآية 70 الآتية، أما الآيات المصدرة بيا أيها النّبي فهي اثنتا عشرة، ثلاث بالأنفال 65 و 66 و 71 وخمسة بالأحزاب 1 و 28 و 45 و 50 و 59 وواحدة بالتوبة 74، وواحدة في الممتحنة، وواحدة في الطّلاق، في التحريم 12. واعلم أن الفرق بين قوله تعالى عن مواضعه في الآية المارة وبين قوله من بعد مواضعه في هذه الآية أنهم في هذه الآية يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النّصوص الصّحيحة وليس فيها بيان أنهم يحرفون تلك اللّفظة من الكتاب، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ من الكتاب، وفي الآية السّابقة يجمعون بين الأمرين التأويلات الفاسدة وتحريف اللّفظ، ففي قوله تعالى (عَنْ مَواضِعِهِ) إشارة إلى التأويل الباطل وفي قوله (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) رمز الى إخراجه من الكتاب بالكلية، أما آية البقرة 46 التي عبارتها (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فهي في تبديل كلام الله الذي أسمعهم إياه في المناجاة حينما ذهبوا مع موسى عليه السلام، تدبر. ثم بين تعالى وجه هذا التحريف بقوله جل قوله «يَقُولُونَ» لقومهم «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا» المحرف المزال عن مواضعه «فَخُذُوهُ» واعملوا به لأنه حق بزعمهم «وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ» عينا وأتاكم محمد بما يخالفه «فَاحْذَرُوا» أن تأخذوه وتعملوا به، لأنه من عنده لا من عند الله قاتلهم الله، وهذا من بعض ما يفتنون به بعضهم بقصد صدهم عن الدّين الحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلم

«وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ» وإضلاله عن الهدى «فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» تقدر به على إخلاصه لسلوك الحق، لأن كلا ميسر لما خلق له في الأزل لا تبديل لخلق الله، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف، راجع الآية 29 من سورة الأعراف ج 1، وفي هذه الآية دلالة على قطع رجائه صلّى الله عليه وسلم من إيمانهم به وعدم الالتفات إليهم والمبالاة بهم، والاهتمام بشأنهم «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» من اهوان الكفر لسابق علمه في اختياره له وأمثال هؤلاء «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» وهوان على ما هم عليه من النّفاق والتجسس والتحريف لكلام الله وكلام رسوله «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41) جزاء عملهم هذا. ثم كرر ما هم عليه من الصّفات الذميمة تأكيدا لسوء حالهم فقال «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» وكلّ ما لا يحل كسبه سحت، وجاء في الحديث بمعنى الرّشوة، لأنهم كانوا يحللون ويحرمون بها، وتقرأ بضمتين كالعنق وبالفتح على المصدرية «فَإِنْ جاؤُكَ» يا سيد الرّسل لتقضي بينهم فيما يختلفون فيه بعضهم مع بعض «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» ولا يمنعك ما تراه منهم أن تحكم بينهم «أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» إن شئت ألا تحكم، وهذا أمر تخييري «وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ» فلم تقض بينهم بسبب صدودهم عنك وعدم إيمانهم بك ونصب العداء لك فإنهم لا يقدرون عليك بشيء ما فاتركهم «فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً» لأن الله عاصمك منهم كما هو عاصمك من غيرهم «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل الذي شرعناه لك «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (42) بأحكامهم الّذين لا تأخذهم في الحق لومة لا ثم، فلا يجوزون، ولا يميلون لقوي أو غني، ولا يميزون بين الخطير والحقير، ولا يحيفون لعداوة أو كراهية ما. وخلاصة هذه القصة أن رجلا وامرأة من أشراف اليهود بخيبر زنيا وكانا محصنين، وفي شرعهم يجري عليهم الحد وهو الرّجم، بمقتضى حكم التوراة، فكره اليهود رجم المرأة لشرفها، فقالوا إن هذا الرّجل بيثرب يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم يقضي بين النّاس وليس في كناية الرّجم فاذهبوا اليه واسألوه عما يجب عليها، فبعثوا رهطا وقالوا لهم اسألوه عن الزانيين المحصنين ما حدهما، فإن أمركم بالحد فاقبلوا، وإن أمركم

بالرجم فلا، فذهبوا اليه فسألوه فقال عليهما الرّجم، فأبوا قبول حكمه، ونفوا وجوده في التوراة فنزل جبريل فقال يا محمد اجعل بينك وبينهم ابن حوريا حكما منهم، وذكر له وصفه، فقال صلّى الله عليه وسلم هل تعرفون فيكم شابا أمره أعور يسكن فدك يقال له ابن حوريا! قالوا نعم، قال فأي رجل هو فيكم، قالوا علم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة، قال فأتوني به، فأتوا به، قال أترضونه حكما بيننا؟ قالوا نعم، فقال صلّى الله عليه وسلم ناشدتك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون وبالذي ظللكم بالغمام وأنزل عليكم المن والسّلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرّجم على المحصن؟ فقال اللهم نعم والذي ذكرتني به لولا أني خشيت أن ينزل علينا العذاب إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابكم قال إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليها الرّجم، فقال والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة، فقال ما كان أول ما ترخصتم به؟ قال زنى ابن عم الملك فلم نرجمه، ثم زنى بعده رجل فقال قومه لا ولله حتى يرجم ابن عم الملك، فلم يمكنوا أحدا من رجمه، فاجتمعنا ووضعنا الجلد والتحميم، (تسويد الوجه) مكان الرّجم، راجع الآية 9 من سورة النّور المارة تجد حديث البخاري ومسلم بهذا الشّأن، وهذا من معجزات حضرة الرّسول ومن الأخبار بالغيب، لأنه ذكر لهم ابن حوريا باسمه ووصفه ومكانه وهو لم يره ولم يسمع به قط، قالوا ثم أمر رسول الله برجمها، وقال اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأنزل الله هذه الآيات في حكام اليهود، وروى مسلم عن البراء بن عازب، قال مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حدّ الزنى في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال له ناشدتك الله هكذا تجدون حسد الزنى في كتابكم؟ قال لا وكرر ما قاله ابن حوريا. الحكم الشرعي إذا كان المتحاكمون معاهدين كما في هذه الآية فالحاكم مخيّر بين أن يقضي بينهم وبين ألّا يقضي، لأن المعاهدين غير ملزمين بأحكام المسلمين أما

غيرهم فيجب على الحاكم أن يحكم بينهم سواء كانوا كافرين أو ذميين أو مسلمين أو مخالفين ويجب أن يكون الحكم بمقتضى ما أنزل الله. قال تعالى «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» الرجم للزاني المحصن كغيره من الأحكام الأخر المتعلقة بأمر دينهم ودنياهم وآخرتهم «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ» عن حكمك الموافق لما في كتبهم ويعرضون «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» التحكيم الذي لجأوا اليه ورضوا به، وهذا تعجيب من حالهم لأنهم يعلمون يقينا أن الزاني المحصن يرجم بنص التوراة ثم يطلبون من حضرة الرّسول أن يحكم لهم بخلاف ما شرعه الله له ولأمته الموافق لما في التوراة، ولذلك كان يحكم في الرّجم وهو لا ينطق ولا يتأول ولا يفعل شيئا عن هوى، ولكن لا عجب لأنهم لا يصدقون بكتابك ولا يؤمنون بك وانهم يحكمون على ما يلائم المصلحة بحسب الأشخاص «وَما أُولئِكَ» الّذين هذه حالتهم «بِالْمُؤْمِنِينَ» 43 بكتابهم ولا نبيهم، فلو آمنوا بها لآمنوا بكتابك، لأن الحكم بالكتابين واحد، فلا معنى إذا لقولهم إنهم آمنوا بالتوراة وبموسى، لأن من مقتضى الإيمان بهما الإيمان بك وبكتابك. قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» لمن اتبعها وآمن بها فتكشف له الشّبهات وتوضح له المشكلات، وكان «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا» لحكم الله فيها كموسى وهرون ومن بعدهما إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم «لِلَّذِينَ هادُوا» أي اليهود، وسموا بذلك لقولهم «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» الآية 156 من الأعراف في ج 1 وفي قوله تعالى (أَسْلَمُوا) إشارة إلى أن الأنبياء لم يكونوا يهودا ولا نصارى بل كانوا مسلمين على ملة ابراهيم عليه السّلام، راجع الآية 67 من آل عمران المارة «وَالرَّبَّانِيُّونَ» الزهّاد التحصين في العبادة، راجع الآية 80 من آل عمران أيضا يحكمون بها «وَالْأَحْبارُ» أيضا جمع حبر بفتح الحاء وكسرها العلماء والعارفون «بِمَا اسْتُحْفِظُوا» أوئتمنوا واستودعوا «مِنْ كِتابِ اللَّهِ» وقد أخذ عليهم العهد أن يحفظوا كتابه ويعلّموه النّاس ويقضوا فيه بينهم «وَكانُوا» أولئك الأنبياء والرّبانيّون والأحبار «عَلَيْهِ شُهَداءَ» بأن كتاب الله حق وصدق أنزله على موسى «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ» لتعملوا

بأحكام اليهود وتكتموا ما في كتاب الله من أجلهم ولأجل نفعكم منهم «وَاخْشَوْنِي» أنا الله القادر على عقابكم إن خالفتم «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» من الرشاء الذي تأخذونه وحب بقاء الرّئاسة والجاه، فتستبدلوا بآياتي غيرها، أو تحرفوا بعضها، أو تغيّروا معناها بهتا منكم وافتراء علي، واحكموا بما أنزلت عليكم في التوراة «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» جحودا وكفرانا «فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (44) بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. قال تعالى «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» تقتل إذا قتلت غيرها عمدا، وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن الرّجل يقتل بالمرأة وعدها ناسخة لقوله تعالى (الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) الآية 179 من البقرة المارة، مع أن هذه الآية حكاية حال عما في التوراة وخبر من الأخبار فيها، والأخبار لا تكون ناسخة للأحكام، وعلى هذه لا يقتل الرّجل بالمرأة، ولا الحرّ بالعبد، والآية في هذا محكمة غير منسوخة البتة، ودعوى من ادعاه لا قيمة له للسببين المذكورين أعلاه، ولكن العمل الآن في المحاكم على هذه الآية 45 من هذه السّورة، والحق أن يكون العمل على آية البقرة 179 لأن هذه الآية 45 عبارة عن اخبارنا بما كتبه الله على بني إسرائيل ليس إلا، وليس كلّ ما فرضه عليهم نكلف به لأن شريعتنا جاءت ناسخة لما قبلها في كلّ ما يخالفها، فما وافق شرعنا عملنا به، وما خالفه فلا، تأمل. «الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» تفقا «وَالْأَنْفَ» يجدع «بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ» تقطع «بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ» تقلع «بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» فيما يمكن أن يقتص من الجارح كاليد والرّجل والذكر والأنثيين، أما فيما لا يمكن فيه كالرّض والجرح في البطن والكسر الملتئم وبقية الجراحات مما لا يمكن إجراء القصاص فيها ففيها حكومة عدل، إذ قد يخاف التلف في اجراء القصاص، فيخرج عن كونه قصاصا كما أمر الله، ويسمى ما دون الدّية هكذا جروح ارشا، وهذا التعميم يعد تخصيصا لأن الجروح تعم الكل «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ» أي القصاص فعفى عن أخيه «فَهُوَ» التصدق المراد به العفو «كَفَّارَةٌ لَهُ» عن ذنوبه التي كان اقترفها قال عليه الصّلاة والسّلام من تصدق

بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه. وأخرج الترمذي عن أبي الدّرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدّق به إلا رفعه الله درجة وحط عنه به خطيئة. وأخرج أبو داود والنّسائي عن أنس قال ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم رفع اليه بشيء فيه قصاص إلّا أمر فيه بالعفو «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (45) أنفسهم وأتباعهم وقدمنا ما يتعلق بالقصاص في الآية 179 من البقرة فراجعها وقدمنا أنواع القتل والدّيات في الآيتين 92 و 93 من سورة النّساء المارة فراجعها. قال تعالى «وَقَفَّيْنا» عقبنا واتبعنا «عَلى آثارِهِمْ» أي النّبيّين «بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» وكلّ ما هو أمام الرّجل هو بين يديه «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ» معدلا لبعض أحكامها، يوافق عصره ويصلح لأمته «فِيهِ هُدىً» للناس وتخفيف على أمته وتيسييرا لما هو عسير وتسهيل ما هو شاق «وَنُورٌ» يستضيء به من آمن وصدق بعيسى في زمانه حتى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» ولا تكرار هنا لأن ضمير مصدقا في الآية الأولى يعود إلى عيسى، وفي هذه يعود إلى الإنجيل «وَهُدىً» يهتدي به من اتبع أحكامه إلى طريق الصّواب، ولأن فيه بشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلم يهتدي بها ممن وفقه الله للسداد «وَمَوْعِظَةً» لما فيه من الأمثال والزواجر والعبر «لِلْمُتَّقِينَ» (46) لأنهم هم الّذين ينتفعون فيه «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ» على أنفسهم وغيرهم على السّواء «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (47) الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون حدود الله. أخرج مسلم عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى ومن لم يحكم ومن لم يحكم ومن لم يحكم إلخ الآيات في الكفار كلها. وقال العلماء إن الآيات المذكورات نزلت في الكفار وفيمن غير حكم الله من اليهود ومن ترك الحكم بكتاب الله ردا لكتاب الله، ومن يدل حكم الله وحكم بغيره عمدا مختارا فيخرج المخطئ والسّاهي والمكره، ويفسق غير الجاحد، وهذا هو الموافق لعموم الآيات، فكان في الحديث الأوّل اقتصار، وجاء التخصيص فيما أخرج أبو داود

عن ابن عباس أنها أي تلك الآيات في قريظة والنّضير خاصة. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرّسل «الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ» آل فيه للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرها «وَمُهَيْمِناً» شاهدا «عَلَيْهِ» أي الكتاب المذكور الدّاخل في معناه جميع الكتب الإلهية المنطوي على معانيها كافة ومما يدل على أن مهيمنا بمعنى شاهد ما قاله حسان: إن الكتاب مهيمن لنبيّنا ... والحق يعرفه ذو الألباب ويأتي بمعنى آمين أيضا وله معان أخر ذكرناها آخر سورة الحشر المارة «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ» يا سيد الرّسل أي بين أهل الكتاب إذا تخاصموا عندك عفوا من أنفسهم دون تكلف وطلب منك كما تحكم بين قومك «بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك فيه «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» أي اليهود برجم الضّعيف وجلد القوي والشّريف إذا زنيا كما يدون بل أجر على كلّ أحد من المحصنين الرّجم مهما كان، وإياك أن تنحرف «عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» في هذا الكتاب كما فعل اليهود، وهذا الخطاب وإن كان موجها لحضرة الرّسول إلّا أنه مراد به غيره من الأمة كما سبق تنفيده في سورة الزمر الآية 65 ج 2 وغيرها هو ممائل لهذا، لأن إيقاع أهواء اليهود وغيرهم محال عليه صلّى الله عليه وسلم ولكنه خاطبه به على طريق الإلهاب ليتعظ الغير به «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ» أيها اليهود والنّصارى والإسلام «شِرْعَةً» ترجعون إليها في أموركم الدّينية فيما بينكم وبين ربكم والدّنيوية فيما بينكم وبين غيركم من جميع النّاس على الإطلاق «وَمِنْهاجاً» طريقا واضحا نسلكونه في أحكامكم وأموركم يؤدي بكم للفوز والنّجاح في الدّنيا والآخرة، فقد جعل الله تعالى التوراة والإنجيل والقرآن شرائع لخلقه أحل لهم ما شاء، وحرم عليهم ما شاء، وأمرهم بالعمل بها ليعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه ويظهر ذلك للناس لأنه جل جلاله عالم من قبل، بما يقع منهم من طاعة وعصيان وكفر وإيمان ويعلم أن الدّين كله واحد وأصوله واحدة، وهي التوحيد لله وتصديق الرّسل والاعتراف بالمعاد، وإن جميع الأديان السّماوية من لدن آدم إلى آخر الدّوران ترجع إلى هذه الأصول، وإن طرق الرّسل واحدة وإرشادهم لهذه الأصول واحدة ودعوتهم واحدة لا تباين ولا

تخالف فيها، لأن المرسل واحد، قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ... ) وقال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وأمر بعدم التفرق راجع الآيات 90 من الأنعام و 13 و 52 من الشّورى والمؤمنين في ج 2 و 156 من الأعراف ج 1 و 162 من النّساء المارة وما تشير إليها من المواقع، وإن ما جاء على زعم من لا خلاق له من التباين هو في فروع الدّين لا في أصوله وأن الله تعالى له أن يتعبد عباده بما شاء لما شاء في كلّ وقت «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» على شريعة واحدة ودين واحد، ونظير هذه الآية الآية 119 في سورة هود في ج 2 أي متفقين لا مختلفين «وَلكِنْ» لم يشأ ذلك، وإنما جعلكم باختلاف وتفرق في أمر الدّين «لِيَبْلُوَكُمْ» يختبركم وليمتحنكم «فِي ما آتاكُمْ» من الشّرائع وتعبدكم بها بمقتضى حكمته فيها من الاختلاف في معالم الدّين وفروعه المتباينة تخفيفا ونثقيلا ليبين للناس المنقاد لأمره كيف كان من المعرض عنه وفق ما هو ثابت في أزله تعالى «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» يا أمة محمد بالأعمال الصّالحة المقربة إلى الله قبل انقضاء آجالكم لتنتهوا «إِلَى اللَّهِ» هو «مَرْجِعُكُمْ» ومصير جميع الخلق اليه «جَمِيعاً» إسلامكم ويهودكم ونصاراكم وكفاركم على اختلاف مللكم ونحلكم ويوم ترجعون إليه «فَيُنَبِّئُكُمْ» على رءوس الأشهاد في الموقف العظيم «بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (48) من الشّرائع وغيرها فيظهر إذ ذاك المحق من المبطل والموافق من المخالف والصّادق من الكاذب ظهورا مبينا لا شبهة فيه. قال تعالى «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» عليك في هذا القرآن «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» بسائق شهواتهم النّفسية الرّديئة ذات المقاصد الدّنية «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ» بما يرجونه منك من اجراء ما لا يرضي الله مما يخالف أحكامه التي أنزلها إليك فيميلوك «عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» فيحملوك على ترك العمل به أو بشىء منه مجاراة لأهوائهم الباطلة وهذا الخطاب لحضرة الرّسول على سبيل التوبة ويراد منه الزجر والرّدع للغير من أن يراجعوا حضرته بما يراه من الحق أو يطلبوا منه مراعاة بعضهم في الأحكام حسب مطامعهم العاطلة وآرائهم الباطلة، لأنه صلّى الله عليه وسلم معصوم من الافتتان بالكلية،

راجع الآية 74 من سورة الإسراء في ج 1 «فَإِنْ تَوَلَّوْا» واعرضوا عنك ولم يرضوا بحكمك الذي أنزله الله عليك وأمرك بالعمل به لنفسك وغيرك «فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ» وهو إرادتهم الحكم بغير ما أنزل الله فيعاقبهم عليها في الدّنيا كما عاقبهم على بعضها قبل بالقتل والأسر والسّبي والجلاء «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» (49) خارجون عن طاعتنا متجاوزون حدودنا. هذا ولم يختم الله تعالى هذه الآية الخاصة بأمة محمد بما ختم به الآية في أمة موسى والآيتين في أمة عيسى لأمر أراده الله فله الحمد والشّكر. ولا تكرار في هذه الآية أيضا، لأن الأولى عدد 44 المارة كانت في مسألة الزنى، وهذه في قضايا القصاص والجروح إذ راجع رؤساؤهم حضرة الرّسول وقالوا يا محمد قد عرفت بأنا سادات قومنا وأشرافهم وإنا إن اتبعناك اتبعك كلّ اليهود وان بيننا وبين النّاس خصومات نريد أن نتحاكم إليك فيها، فإذا قضيت لنا عليهم آمنا بك وصدقناك، لأن قتلانا أفضل من قتلاهم، ولسنا سواء بالجروحات أيضا لأنها كانت بيننا على التضعيف، وذلك أنه كان بنو النّضير إذا قتلوا رجلا من قريظة أعطوهم ديته سبعين وسقا من التمر، وإن قتل بنو قريظة رجلا من النّضير أعطوهم مئة وأربعين، وكذلك الجراحات، فقال صلّى الله عليه وسلم إن القرض بالنضيري وفاء، لا فضل لأحدكم على الآخر فنهضوا وقالوا لا نرضى بحكمك، فنزلت هذه الآية قطعا لأطماعهم من أن يراجعوه في مثلها على سبيل المنع ليعلموا أن ما أوصى الله إليه من الحدود واجبة التطبيق على الشّريف والوضيع، وإنه لا يزيغ عنه قيد شعرة، وإنه يقيمه على كلّ أحد على السّواء على حدّ كلكم من آدم وآدم من التراب. وانظر إلى قوله صلّى الله عليه وسلم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، راجع الآية 38 المارة. قال تعالى ردّا عليهم وتقريعا بهم وتوبيخا لهم «أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ» منك يا سيد الرّسل وهو ظلم وجور وحيف ويعرضون عن حكم الله المسوي بين الكبير والصّغير القاضي بالإنصاف والانتصاف «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (50) أن لهم ربا عدلا، ودينا قيما، وحكما حقا، كلا لا أحسن ولا أقوم ولا أصدق ولا أقسط من حكم الله، كيف وهو الآمر

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 60]

بالقسط، فأعرض يا سيد الرّسل عن أمثال هؤلاء ولا تقبل مطالبهم الواهية، ولا تصغ لأقوالهم المزيقة، وأنت لست بحاجة إلى إسلامهم وولايتهم، فأنا كافيك عنهم وعن كلّ من لا يوقن بك، ولا يستسلم لحكمك. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» لكم من دون الله فإنهم لا يصدقونكم في ولايتهم ولا يميلون إلى نصرتكم «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» لأن طريقتكم غير طريقتهم، والبون بينكم شاسع، فلا تتولوهم أبدا راجع الآيتين 28 و 118 من آل عمران والآية 57 الآتية «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا المنع «فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» وليس منكم لرضائه بدينهم ومعاملتهم وأحكامهم المجحفة، فيظلم نفسه مثلهم، ويضل عن طريق الصّواب وسبل الهوى «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (51) أنفسهم وغيرهم. كان المنافقون لضعف قلوبهم وقلة يقينهم وشدة تجنيهم يقولون فيما بينهم إذا اشتد الأمر على المؤمنين ودال عليهم الكفار نلحق باليهود، فنأخذ أمانا منهم ويقول بعضهم إنا نلحق بالنصارى ونأخذ أمانا منهم كما وقع من أمثالهم في حادثة أحد المارة في الآية 122 من آل عمران وكما سيأتي في الآية 24 من سورة التوبة الآتية، فأنزل الله هذه الآية، ثم بين حال هؤلاء المنافقين بقوله «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» يريد المنافقين لخلو قلوبهم من الإيمان «يُسارِعُونَ فِيهِمْ» أي في مودة اليهود والنّصارى وموالاتهم عند بدر أيّ ضائقة عليهم «يَقُولُونَ» أولئك المنافقون وأشباههم «نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» من دوائر الدّهر وحوادثه، فيصيب الكافرون المؤمنين ويستولوا عليهم، ولا يتم الأمر لمحمد فنغلب على أمرنا، قال تعالى مخسئا لهم ومكبر رأيهم الفاسد وردا لما ينصرونه من الغلبة إذ وقعت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا كاليهود الّذين جبلوا على الجبن والبغضاء بينهم زيادة على الذلة والمسكنة راجع الآية 62 من البقرة المارة تقف على مثالبهم التي من جملتها ما مر في الآية 65 من الأعراف ج 1، وسيأتي بعد كثير منها في هذه السّورة والتي بعدها أكثر «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» المطلق للبلاد والنّصر العام على الكافرين أجمع، وإظهار دين الله في البرّ والبحر وإعلائه على سائر الأديان ونصرة المؤمنين على الخلق، هذه

على القول بأن هذه الآية نزلت مع سورتها في محلها هذا وهو الأولى. وقال بعض المفسرين أن المراد بالفتح هنا فتح مكة لأن هذه التفوهات وقعت من المنافقين قرب فتح مكة إذ كان حضرة الرّسول يعرض به لأنه كلما رجع من غزوة يعرض بالأخرى ليكون المؤمنون على أهبة الغزو دائما، وعلى هذا القول تكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وهي صالحة للقول بقيد نزولها في فتح مكة، والقول الأوّل على التعميم فيصدق مفعولها على سائر الفتوحات، وقد ذكرنا أن سبب النّزول قد يتقدم ويتأخر ويقارن الحادثة «أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» بقتل هؤلاء المنافقين المرجفين وسبيهم وإجلائهم وكافة اليهود وقطع أملهم من الأراضي الحجازية «فَيُصْبِحُوا» هؤلاء المذمومون «عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ» من طلب موالاة الكفرة «نادِمِينَ» (52) ولا شك أن لفظ عسى من الله للتحقيق والكريم إذا أطمع في خير فعله، وقد كان والحمد لله وندم من ندم على ما أسرّ وأعلن من تلك التفوهات «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» بعضهم لبعض أو لليهود على القول الآخر بعد إنجاز ما وعد الله من الفتح «أَهؤُلاءِ» المنافقون «الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» كناية عن المبالغة في الحلف ليصدق المحلوف له أي إيمانا مكررة موثقة «إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» أيها المؤمنون على الكافرين أو أيها اليهود على المؤمنين وأنصاركم عليهم، كيف أظهروا الميل إلى موالاة اليهود وهم قد عظموا الإيمان أنهم معكم. وقال بعض المفسرين إنهم أجهدوا إيمانهم أن يكونوا مع اليهود كما حكى الله عنهم بقوله (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) الآية 21 من سورة الحشر المارة، وعليه يكون المعنى أنهم لمعكم أيها اليهود بالموالاة، وإنهم يرجون أن تكون لكم الدّولة، ولم يفعلوا أيضا ما تعهدوا به إليهم، لذلك «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» في شأن الموالاة على كلا القولين، وبغتوا بما صنعوا من المساعي عند مشاهدتهم خيبة رجائهم وانعكاس ما تصوروه وترقبوه «فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» (53) الدنيا، إذ لم يوفوا المؤمنين ما تعهدوا به لهم من النّصرة، ولم تكن لليهود الّذين عاهدوهم على القتال دولة يلجأون إليها معهم. والآية صالحة للمعنيين المذكورين، والأوّل أولى لظاهر الخطاب في حقكم، والله أعلم. وخسروا الآخرة أيضا لأنهم

مطلب في الذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرسول وبعد واخبار الرسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:

لم ينصحوا لله ورسوله، قال أبو موسى الأشعري لعمر بن الخطاب إن لي كاتبا نصرانيا، فقال مالك وله قاتلك أما سمعت قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية 51 المارة، ألا اتخذته حنيفا، قال له دينه ولي كتابته، فقال لا أكرمهم إذا أهانهم الله ، ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أدينهم إذا أبعدهم الله، قال له أبو موسى لا يتم أمر البصرة إلّا، فقال له عمر رضي الله عنه مات النّصراني والسّلام أي هب أنه مات النّصراني فما تصنع بعد موته فاصنعه الآن، واستغنى عنه بغيره، وهذه الآية عامة في جميع المؤمنين السّابقين واللاحقين، لأن خصوص السّبب لا يمنع عموم الحكم. مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» إلى دين آخر، فإنه لن يضر الله شيئا وإنما يضر نفسه «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ» بدلهم ثابتين على الإيمان «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» وهذه الآية من الأخبار بالغيب إذ كان في علم الله الأزلي إن أناسا بعد فقد الرّسول صلّى الله عليه وسلم يرجعون عن الإسلام ومنهم من يرتد عن دينه في زمنه، فأعلمه الله بذلك قبل وقوعه، ومن هؤلاء الأسود العنسي ذو المجاز رئيس بني مدلج إذ تنبأ باليمن واستولى على بلاده فيها وأخرج عمال رسول الله منها، فكتب النّبي إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فيه، فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الدّيلمي، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بقتله قبل ورود خبره، وقبض رسول الله في الغد وقد أتى خبر قتله آخر ربيع الأوّل سنة 11 من الهجرة بالوقت الذي ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذه معجزة أيضا، لأنه من الإخبار بالغيب، وكذلك مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله أما بعد. فإن الأرض مناصفة بيني وبينك، فكتب له حضرة الرّسول إنها لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وتنبأ طلحة بن خويلد رئيس بني أسد فبعث اليه صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله وانهزم إلى الشّام ثم أسلم بعد ذلك. ومن الّذين ارتدوا بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم فزارة الّذين رأسهم عيينة بن حصن، وغطفان الّذين

رأسهم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم الّذين رأسهم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع الّذين رأسهم مالك بن نويرة اليربوعي، وكندة الّذين رأسهم الأشعث بن قيس وبنو بكر قوم الخطيم بن زيد وقوم سجاح بنت المنذر من بني تميم التي ادعت النبوة وتزوجت بمسيلمة الكذاب، وقد أهلكهم الله جميعا على يد خليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقتل وحشي بن عدي قاتل الحمزة مسيلمة الكذاب، فقال قتلت خير النّاس في الجاهلية يريد حمزة، وشرهم في الإسلام يريد مسيلمة، وهؤلاء الّذين يحبهم الله ويحبونه احياء من أهل اليمن من النّخع وكندة وبجيلة وغيرهم ممن دخل في الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الفاروق وجاهدوا في حرب القادسية. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية. ومن دخل في الإسلام بعد ذلك من فارس الّذين قال الرّسول فيهم لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس. راجع الآية الثالثة من سورة الجمعة المارة، وآخر سورة محمد عليه الصّلاة والسّلام أيضا. ثم وصف الله جل شأنه هؤلاء بقوله «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» من شدة رحمتهم تراهم خافضي الجناح لهم متواضعين مترفقين فيهم مشفقين عليهم، يعاملونهم باللين معاملة الوالد ولده «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» غلاظ شداد عليهم مظهرين قوتهم وألفتهم عليهم كالأسد على فريسته «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مع إخوانهم المؤمنين من عادى الله ورسوله من الكافرين والمنافقين والموالين إليهم الّذين إذا أرادوا الخروج مع الرّسول خافوا مواليهم أن يلوموهم، فلا يجاهدون معه خشية لومهم لضعف دينهم وعدم مبالاتهم به، وهذه الآية تضاهي الآية الأخيرة من سورة الفتح المارة في المعنى فلا يبالون بهم «وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» ولا عذل عاذل في نصرة دينهم من أحد ما، لأنهم أقوياء فيه حريصون عليه، روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصّامت قال بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السّمع والطّاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف بالله لومة لائم. ذلك الإيمان الخالص وقوة الجأش وشدة البأس هو «فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده،

ويسلبه عمن يشاء من أهل عناده، «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (54) بمن يستحق فضله فيهبه له من كرمه العميم. فيا أيها المؤمنون الرّاسخون في الإيمان «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» الذينهم من حزب الله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» المفروضين عليهم «وَهُمْ راكِعُونَ» (55) لله ساجدون لهيبته «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» ويخلص لهما إخلاصا حقيقيا «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ 56» الفائزون بخيري الدّنيا والآخرة. نزلت هذه لآية في عبادة بن الصّامت رضي الله عنه لمقالته الآنفة الذكر في عبد الله بن سلام حين قال يا رسول الله إن قومنا قريضة والنّضير هجرونا وأقسموا أن لا يجارونا ولا يجالوسنا. وهي عامة في جميع المؤمنين المخلصين، ولا وجه لقول من قال بتخصيصها في سيدنا علي كرم الله وجهه لأنها نزلت وهو راكع لأنه من جملة المؤمنين الموصوفين فيها وهو سيدهم. واعلم أن مجموع حروف هذه الآية (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ) إلخ بحسب الجمل (1379) وتقدم أن آية الصّافات (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) إلخ أن مجموعها 1360 وآية المؤمن الأخيرة وهي (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) في ج 2 كذلك مجموعها 1360 فنسأل الله أن يجعل فتحا للاسلام وسبيلا إلى النّصر والتوفيق لهم ما بين هذين التاريخين، وأن يتم لهم وحدتهم ويزيل عنهم أعداءهم، ويجمع كلمتهم، ويوفقهم لما له النّجاح والفلاح. وقد بينا في تفسير هذه الآيات والآية 58 من المجادلة المارة التي مجموعها 1958 بحساب الميلادي ما يتعلق بهذا البحث فراجعها، واسأل ربك أن يمحق كلمة الكفر ويكسر شوكتهم، وأن يكون الأمر كله في الأرض لعباد الله الصّالحين، وأن يطيل عمرنا مع حسن العمل وقوة الجوارح والاستغناء عن شرار النّاس، حتى نرى أياما زاهرة بالإسلام عامرة بالإيمان قبل ذلك التاريخ وما ذلك على الله بعزيز. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» من اليهود والنّصارى «وَالْكُفَّارَ» عبدة الأوثان الّذين كفرهم أغلظ من كفر غيرهم «أَوْلِياءَ» لكم ونصراء وأحباء «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تفعلوا شيئا من ذلك أبدا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (57) بالله

ورسوله إيمانا خالصا، راجع الآية 51 المارة. ثم ذكر بعض مساويهم فقال «وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» وأذنتم لاقامتها «اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً» استخفافا بدينكم «ذلِكَ» صدور الهزؤ واللّعب منهم على شعائركم ومناسككم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» (58) معنى الصّلاة والأذان ولا يفقهون المراد منها ولا يعلمون مكانة فاعلها عند الله لجهالتهم وسفههم. نزلت الآية الأولى في سويد ابن الحارث ورفاعة بن سويد بن التابوت اليهودي، لأنهما أظهرا الإسلام ووالاهما بعض المسلمين مع علمهم أنهما يبطنان الكفر ويظهران الإسلام استهزاء بهم، فحذرهم الله من موالاتهم، والثانية في اليهود الّذين يتضاحكون عند سماع الأذان، ورجل نصراني في المدينة كان إذا سمع الشّهادتين يقول حرق الله الكاذب، فطارت عليه شرارة ذات ليلة من يد خادمه وهو نائم فأحرقته وأهله في بيته. قال تعالى يا سيد الرّسل «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا» أي هل تجدون ما ينقم به علينا ويتكبر عليه من الأعمال والأقوال «إِلَّا» شيئا واحدا تزعمونه موجبا للنقمة وهو «أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ» على الأنبياء السّالفين، وهذا مما لا ينكر عليه ولا يوجب الانتقام على حد قوله: ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ... ينسى بهم أهليه والولدا أي أن هذا ليس بعيب مما يستوجب الذم لينتقم من فاعله وإنما هو أمر جليل وفعل كريم يستوجب المدح والتعظيم، ولهذا وصمهم الله بقوله عز قوله «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» (59) خارجون عن منهج الصّواب متجاوزون الحد في الاعتدال، وذلك أنهم سألوا حضرة الرّسول عمن يؤمن به من الرّسل فعد من آدم إلى عيسى، فقالوا والله لا نؤمن بمن يؤمن بعيسى. وإنما قال أكثركم لعلمه تعالى أنه يؤمن أناس منهم «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» الذي نقمتم به علينا وأنكرتم نبوّته «مَثُوبَةً» أي عقوبة وقد وضعت المثوبة موضع العقوبة تهكما وتبكيا كما توضع البشارة موضع النّذارة قال تعالى فبشرهم بعذاب اليم الآية 8 من سورة الجاثية وعلى طريقة قول القائل

[سورة المائدة (5) : الآيات 61 إلى 70]

تحية بينكم ضرب وجيع «عِنْدَ اللَّهِ» هو «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ» يعني أنتم أيها اليهود أشر النّاس إذ مسخ الله أسلافكم قردة وخنازير بسبب عدم طاعتهم أوامر الله ورسوله، إذ نهاهم عن صيد السّمك يوم السّبت فاحتالوا وحفروا حياضا قريبة من السّاحل وشرعوا منها ساقية، فصارت الأسماك تدخل إلى الحياض يوم السّبت حتى إذا امتلأت سدوها من جهة البحر وتركوا الأسماك فيها حتى إذا دخل يوم الأحد أخذوها من الأحواض وأكلوها، فمسخهم الله تعالى عقوبة لاحتيالهم عليه «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» منهم أيضا وهو العجل الذي صاغه لهم السّامري وقال لهم هذا الحكم الذي ذهب اليه موسى قد نسيه هنا وعكفوا على عبادته من دون الله الذي أنجاهم وأغرق أعداءهم على مرأى منهم، ومنحهم النّعم العديدة، راجع الآية 88 من سورة طه المارة في ج 1 والآية 156 فما بعدها من الأعراف أيضا «أُولئِكَ» الّذين فعل بهم المسخ هم «شَرٌّ مَكاناً» من غيرهم عند الله «وَأَضَلُّ» من سواهم «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» (60) الطريق السّوي المستقيم التائهين في وسطه. ولا يقال هنا إن الموصوفين بالدين الحق محكوم عليهم بالشر، لأن الكلام خرج على حسب اعتقادهم لأنهم قبحهم الله حكموا بأن دين الإسلام بسبب اعتقاده بنبوة غيره، عيسى عليه السلام الذي هو من أولي العزم شر، ولم يعلموا أن عدم الإيمان به يستوجب عدم الإيمان بغيره من الأنبياء، لأن اليهود أيضا ينكرون نبوة غيره، كما أن النصارى كذلك، وكلّ ذلك كفر وشر، وهذا أشر بكثير من كلّ شر فيقال لهم إذا سلمنا جدلا أن الأمر كما تقولون فإن الأشربة كلها متمحضة بمن لعنه الله وغضب عليه إلخ، فهؤلاء هم أشر مما تقولون على زعمكم الباطل لو فرض صحته فكيف وهو كذب وافتراء. ثم التفت إلى فضح حال المنافقين الموالين لليهود الأشرار فقال عز قوله «وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا» عليكم حين مجيئهم متقمصين «بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا» متلبسين «بِهِ» أيضا كما دخلوا لم يعلق بقلوبهم شيء من الإيمان «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» (61) منه وما يظهرون.

مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته:

مطلب في مثالب اليهود والتفرقة في الدّين وما ينشا عنها وأن تبليغ الرّسول مقصور على القرآن وأمره بترك حراسته: «وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ» يا حبيبي «يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» من الكذب والظّلم والتهور والحيف وسائر أنواع الإثم واصناف العداء «وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» الرشوة في الأحكام وكلّ ما لا يحلّ تناوله يسارعون إليه والله انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (62) من الجنايات والرّذائل «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» أي هلا نهوهم عن ذلك وهو واجب عليهم منعهم عن تناوله وتعاطيه ولكنهم لم يفعلوا أيضا والله انهم «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (63) بسبب سكوتهم عن الحق وكتمهم إياه وإقرارهم البطل وعدم نهيهم عما نهى الله عنه بكتابهم. قال ابن عباس ما في القرآن آية أشد توبيخا لعلماء اليهود من هذه الآية قال الضّحاك لا آية أخوف عندي منها يريد أن العالم إذا لم ينته دينه النّاس عن المعاصي يكون مثل هؤلاء يضلون أنفسهم وغيرهم. قال تعالى «وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» عن الإنفاق على عباده أي أنه يبخل عليهم «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» لأعناقهم وهذه كلمة دعاء عليهم أي غلت أيديهم بالدنيا بالبخل ولذلك تراهم أبخل النّاس وفي الآخرة بالأغلال الحديدية والطّرد من رحمة الله الدّال عليه قوله «وَلُعِنُوا بِما قالُوا» على الله الجواد الكريم الواسع العطاء، وهذا قريب من قولهم (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) في الآية 181 من آل عمران المارة قاتلهم الله وأخزاهم. قال ابن عباس ان الله تعالى بسط على اليهود حتى صاروا أكثر النّاس أموالا فلمّا لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم ضيّق عليهم إذ ذاك (ولما أصروا على ما هم عليه بسط الله عليهم الدّنيا فتراهم أكثر النّاس أموالا حتى الآن) فقال فنخاص الخبيث لما سمع كلام ابن عباس أرى يد الله مغلولة أي ينسب إليه البخل بسبب ذلك، تعالى الله علوا كبيرا عنه وتنزه، ولم ينكر عليه أحد من اليهود بل رضوا بمقالته القبيحة هذه، فكأنهم قالوها كلهم، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، أي قل لهم يا سيد الرّسل ليس الأمر كما تتهمون الحضرة الإلهية «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» كرما منه لأحبابه ورأفة وجودا على جميع خلقه بما فيهم أعداؤه ينزل لكل منهم

رزقه بنسبته وبمقتضى ما تراه حكمته «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» على من يشاء ولا يصح هنا قول من قال إن معنى مغلولة مكفوفة عن العذاب إلّا بقدر تحلة القسم لمنافاته سياق الآية ولعدم ذكر ما يتعلق بالعذاب المشار إليه في قوله تعالى (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية 80 من سورة البقرة المارة أي بقدر مدة عبادتهم العجل، وهذا القول شبيه بقولهم هذا وكلاهما لا أصل له «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ» من اليهود ومن اقتفى أثرهم أو والاهم وسار على طريقتهم «ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهو القرآن الذي كذبوا به «طُغْياناً وَكُفْراً» لإقامتهم على البغي وتماديهم في الغي، لأنهم كلما أنزلت آية كفروا بها فيزدادون كفرا على كفرهم، وقد اغريناهم بعضهم على بعض «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» بسبب اختلافهم بأمر الدّين، لأنهم فرق كالنصارى، منهم قدرية، ومنهم جبرية، ومنهم مشبهة، وكذلك مع الأسف افترق المسلمون بعد عصر الخلفاء الرّاشدين فرقا كثيرة اسماعيلية ونصيرية ودرزية وشيعة ورافضة ومغفلة ويزيدية وغيرهم خلافا لما أمرهم الله راجع الآية 32 من سورة الرّوم في ج 2 وما ترشدانك إليه فنسأل الله أن يجمع شملهم ويوحد كلمتهم على الحق، وهذا التفرق مصداقا لقوله صلّى الله عليه وسلم افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النّار إلّا ما انا عليه وأصحابي. وقد أشرنا إلى هذا في الآية 19 من سورة الحج المارة فراجعها. ثم وصف الله تعالى أولئك اليهود بقوله عز قوله «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» أي انهم كلما حاربوا غلبوا، وهكذا الى الأبد إن شاء الله لم تقم لهم قائمة، كيف وقد اخبر الله عنهم بقوله «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» الآية 62 من البقرة المارة وهي مكررة، فتراهم كلما فسدوا بعث الله عليهم من يهلكهم، فقد فسدوا قبلا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي، ثم رجعوا الى الله، حتى إذا كثروا ونعمرا أفسدوا ثانيا، فبعث الله عليهم طيطوس الرّومي، ثم رجعوا الى الله حتى أنستهم نعمته ذكره أفسدوا أيضا، فسلّط الله عليهم المجوس أي الفرس، ثم أفسدوا وطغوا وبغوا وتعدوا واعتدوا فسلط الله عليهم المؤمنين، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم هتلر الألماني فشتتهم

وأوقع بهم البلاء، ولم يزالوا إنشاء الله تحت الرّق والعسف الى يوم القيمة كيف وقد قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الآية 167 من سورة الأعراف ج 1 فراجعها. وإن هذا الزعيم الألماني بعد أن اطلع على سوء نيتهم وعدم رعايتهم المعروف لبلاده مع أنهم ساكنون فيها أباد كثيرا منهم ونفى وأجلى وسلب وقتل وشرد وشدد عليهم، حتى إنهم صاروا يهاجرون مع الأسف إلى بلاد العرب إذ لا يحملهم أحد غيرهم لصفاء قلوبهم وتمسكهم بدينهم الموصي بمراعاة أهل الكتاب واحترامهم وصايا الله ورسوله بهم القائل، لهم مالنا وعليهم ما علينا. ولكنهم الآن ليسوا بأهل كتاب ولا يستحقون هذه المعاملة الحسنة لأنهم يتربصون بالمؤمنين الدّوائر، وقد ساعدهم الإنكليز والأمير كان ففتحوا لهم طريق فلسطين وأباحوا لهم شراء الأملاك فيها فصاروا يشترون من الفقراء أراضيهم وكرومهم وحتى مساكنهم بأضعاف قيمتها حتى يطمعون الآخرين والأغنياء أيضا، لا بارك الله فيمن يملكهم أو يساعدهم أن يمدهم، لأنهم جرثومة فساد لا يطأون أرضا إلّا أفسدوها، وقد أغروا شبان فلسطين حتى استردوا ما أخذوه من ثمن أملاكهم بواسطة عواهرهم وملاهيهم التي فتحوها لهم وخز عبلاتهم التي من طرق الفجور، وسيلقون عليهم الويل والثبور بذلك، ولا حول ولا قوة إلّا بالله القائل «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» بالمكر والخديعة والغدر والغش والإغراء والحيل، وهذا ديدنهم إلى الآن وإلى الآن وإلى أن يهلكهم الله «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (64) كافة من كلّ الأمم ومن لا يحبه الله يبغضه، ومن يبغضه الله يا ويله. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ» يهودهم ونصاراهم لعموم اللّفظ «آمَنُوا» بمحمد وكتابه «وَاتَّقَوْا» الله وتركوا ما هم عليه وتمسكوا بدين محمد النّاسخ لدينهم وغيره من الأديان «لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» التي عملوها قبل، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ويمحو كلّ ذنب ويمحق وزره «وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (65) جزاء إيمانهم. واعلم أن هذه الآية والتي بعدها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الآية 96 من الأعراف ج 1 فراجعها «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» وعملوا بما فيهما ونفذوا أحكامهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ»

على أشعيا وأرميا وداود وغيرهم «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ» من ثمار الأشجار المظللة عليهم كالنخل والعنب والزيتون والرّمان وغيرهما «وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» من الزروع والحبوب والخضر وغيرها وذلك بإنزال الغيث وجعل البركة فيه توسعة لأرزاقهم، لأن من مقتضى الإيمان بتلك الكتب ومن أنزلت عليهم الإيمان بالقرآن، ومن أنزل عليه لأنها تأمر بذلك. واعلموا أيها النّاس أن أهل الكتابين ليسوا سواء «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ» غير مغالية ولا معاندة ولا مخاصمة قد تذعن للحق وتسلم «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ» على العكس فقد «ساءَ ما يَعْمَلُونَ» (66) من كتم الحق وإظهار الباطل والعناد والغلو والتكذيب والافتراء والبهتان قبلا وحالا ومستقبلا، إذ لا يرجى منهم الخير. تفيد هذه الآية أن طاعة الله ورسوله والعمل بما جاء عنهما سبب لسعة الرّزق بدلالة آية الأعراف الآنفة الذكر في هذه الآية المفسرة وآية نوح عليه السّلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) الآية 11 فما بعدها وقوله تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) الآية 15 من سورة الجن في ج 2، هذا ولا يقال هنا إن كثيرا من المطيعين فقراء، لأنا لا نعلم حقيقة طاعتهم ولا صحة فقرهم فكم من فقير بلباس غني وغني بلباس فقير، وقد اتضح لنا أن كثيرا من هذين الصنفين على غير ظاهرهما، وإذا كان يوجد شيء من ذلك، فاعلم أن الله تعالى يعطي كلّا بحسبه ومقتضى حكمته، فكم من غني أفسده غناه، وفقير أكفره فقره، ولو اطلعتم على الغيب أيها النّاس لاخترتم الواقع لأنكم لا تعلمون ما هو مقدر عليكم من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلّا الله، فرب غني يتمنى أن يكون أفقر النّاس، ولا يكون بما هو عليه من المصائب، وكم من فقير لا يصلحه إلّا الفقر فاحمدوا الله واسألوه العافية واشكروه على ما هداكم اليه وأقامكم فيه ومنّ به عليكم تنجحوا وتفوزوا، وقد جاء عنه صلّى الله عليه وسلم: إذا أصبحت معافى في بدنك آمنا في سربك عندك قوت يومك فعلى الدّنيا العفا. قال تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» واجهر به ولا ترعو من أحد، فاصدع بما آتيتك ولا تترك شيئا من الوحي أبدا «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ» ما أمرت به كله

وأبلغته لأمتك إذا «فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» حق تبليغها، لأن من كتم شيئا فكأنما كتم الكلّ، فداوم على التبليغ ولا تخش أحدا مهما كانت قوته ومكانته «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» ويحفظك ويمنعك من أن يصل إليك أذاهم. والمراد بالناس هنا الكفرة لأنهم هم الّذين كانوا يريدون قتله ليتخلصوا منه، وهو إنما جاء لخيرهم رحمة لهم ونعمة عليهم وهم كثيرو الأذى عليه في القول والفعل وهو يقول اللهم اهدهم فإنهم لا يعلمون وذلك بسائق شدة عداوتهم له ولذلك لم يهتدوا إلى ما جاءهم به من الحق «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (67) لإنزال أي أذى فيك ويعمي أبصارهم من أن ينالوك بسوء كان صلّى الله عليه وسلم إذا دعا اليهود إلى الإسلام يستهزئون به ويقولون تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النّصارى عيسى. يريدون إلها، راجع الآية 13 من سورة مريم ج 1 فيسكت عن دعوتهم، وإذا أمر المنافقين بالجهاد وكرهوه أمسك عن أمرهم، وإذا سأله اليهود عن بعض الأحكام أحجم عن اجابتهم لعلمه أن سؤالهم عبارة عن تعنت ومكابرة فيضيق ذرعه من ذلك ويحجم عن إبلاغهم بعض الآيات لعدم ميلهم إليها، فشجعه الله في هذه الآية وأمره بلزوم تبليغهم ما يتلقاه من الوحي كله سمعوا له أو أعرضوا عنه وأن لا يبالي بما يراه من الصّدود والسخرية، وأعلمه بأنه هو الكفيل لحضرته من أذاهم وفقا لما هو مدون في لوحه المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير يقال إن حضرة الرّسول لما أوذي من قبل الكفار وشجّ وكسرت رباعيته في حادثة أحد نزلت عليه هذه الآية تشجيعا له مما أصابه، لأن هذه الآية بعد تلك الحادثة بسنتين، وسورة المائدة هذه من آخر القرآن نزولا، ولم تكن هذه الآية مسنثناة منها، إذ لم يقل بذلك أحد يعتد بقوله، ولا يوجد نقل صحيح فيه، ولا خبر واحد عدل أيضا، فهو قول واه وإن الإمام فخر الدّين الرّازي ذكر في تفسيرها عشرة آخرها أنها نزلت في فضل علي كرم الله وجهه، وعند نزولها أخد صلّى الله عليه وسلم بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وهذا قول ابن عباس والبراء ومحمد بن علي رضي الله عنهم. تدل هذه

الآية على أن حضرة الرّسول لم يكتم شيئا من الوحي، خلافا للأمامية القائلين بذلك من أنه كتم بعضه تقية، وحاشاه من ذلك، لأن الإمساك المار ذكره كان عن جماعة مخصوصين مكابرين آنفين لا عن غيرهم، ومع هذا قد أمره ربه بإبلاغهم وحيه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت من حدثك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحي إليه فقد كذب، ثم قرأت هذه الآية- أخرجاه في الصّحيحين- وفي رواية قالت لو كتم شيئا لكتم قوله تعالى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) الآية 37 من سورة الأحزاب المارة في قصة زيد رضي الله عنه. أما ما خصّ به من علم الغيب مما ليس بقرآن وقد تلقاه عن ربه بواسطة الأمين جبريل مما لا يسعه عقول النّاس إذ ذاك، فهذا مما لم يؤمر بتبليغه إذ لم يكن من القرآن، لأن وجوب التبليغ عليه مقصور على القرآن فقط لأنه له ولأمته، أما غيره مما أوحى إليه فمنه ما هو واجب إبلاغه للناس لتعلقه بهم، ومنه ما هو خاص به فقط، ومنه ما هو مخيّر بين تبليغه وكتمه. قال تعالى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) الآية 10 من سورة النّجم أي شيئا عظيما أوحاه إليه وأسرّه بأشياء جليلة لا تظهر لنا في الدّنيا بل حينما يعطي الشّفاعة الكبرى بالآخرة، وإنما لم يظهرها لنا لأنا قد لا نعيها ولا ندرك ما ترمي إليه، ولا نقدر أن نتصورها، وقد أشار سيد العارفين الامام زين الدّين الحديث الذي رواه البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال حفظت من رسول الله دعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني الحلقوم، وقال: إني لأكتم من علمي جواهره ... كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا وقدمنا في سورة الإسراء ج 1 ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. واعلم أن حضرة الرّسول لو أعلم أهل زمانه معنى قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) من هذه الطّائرات والسّيارات والكهرباء والرّاديو والهاتف والصّواعق والذرة وغيرها لما

وسعته عقولهم، ولأدى ذلك إلى عدم إيمان بعضهم، ولو سمعوا منه ما هو أقرب من ذلك للعقل لو صموه بالسحر والكهانة ولم يصدقوه، اللهم عدا خواص الأصحاب كأبي بكر رضي الله عنه إذ صدقه بالإسراء وما رآه فيه، والمعراج وما وقع له فيه وهو أعظم من هذا، ولذلك سمي الصّدّيق، وقد ارتد بعض النّاس حينما قص عليهم ما كشف له في الإسراء والمعراج، مع أنه أظهر لهم الدّلائل عليه، فكيف لو أباح لهم بما هو من هذا القبيل؟ قالت عائشة: كان صلّى الله عليه وسلم يحرس فلما نزلت هذه الآية استغنى عن الحراسة. وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت سخر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة، فقال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسنى اللّيلة، قالت فبينما نحن كذلك سمعت خشخشة السّلاح، فقال من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص، فقال له صلّى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له صلّى الله عليه وسلم ثم نام. ويدل هذا الحديث على صلاح المؤمى إليه وكونه من أهل المعرفة والكشف وهو كذلك، وهو من عرفت حادثته مع أمه في إسلامه، وقد بشره الرّسول بالجنة، إذا فلا ينكر على بعض السّادة الصّوفية العارفين ما يخبرون به من هذا القبيل أسوة بذلك والله تعالى واسع الفضل يمن بما يشاء على من يشاء من عباده، وهو الجواد الكريم. أخرج في الصّحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذات الرّقاع فإذا أتينا شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين (وقال البخاري هو غورث بن الحارث) وسيف رسول الله معلق بالشجرة، فاخترطه، فقال تخافني؟ فقال لا، فقال من يمنعك؟ قال الله، فتهدده أصحابه وعصمه الله كما عصمه من الحوادث التي ذكرناها في الآية 11 المارة، كيف وقد قال تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء المكابرين من اليهود والنّصارى «يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ» يعتد به من الدّين ولستم على شيء مما تدعونه مما جاءكم به موسى وعيسى عليهما السّلام لأنكم غيرتم وبدلتم، وإنما أنا بريء مما أحدثتموه بعدهما في أمر دينكم «حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» كما أنزلا، وتعملوا بما فيهما حقيقة، وترجعوا عن كل

ما حرّفتموه وغيّرتموه منهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» من الكتب الأخرى فتقيمونها أيضا على ما كانت عليه. واعلموا أن إقامتها لا تكون إلّا بإعادتها على ما كانت عليه عند نزولها ومراعاتها والمحافظة عليها والعمل بما فيها الذي من جملته الايمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم وكتابه الذي أنزل إليه من ربه الذي أنزل تلك الكتب على أنبيائكم الأوّل، فإذا لم تؤمنوا بمحمد وتصدقوا كتابه فلستم بمؤمنين بشيء منها، ولهذا قال تعالى «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهو القرآن «طُغْياناً وَكُفْراً» زيادة على ماهم عليه لعدم الإيمان به، وإذا كانوا كذلك وأصروا على ماهم عليه فهم كفرة «فَلا تَأْسَ» يا حبيبي ولا تحزن «عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (67) بك وبكتابك، فإن ضرر كفرهم عليهم وإن عدم إيمانهم بك وجحدهم كتابك وعدم إقامتهم ما في كتبهم كفر، والكافر لا يعبأ به، وقدمنا في سورة فصلت الآية 42 ج 2 أن القرآن نور لأناس، ضلال لآخرين، فراجعها. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم كالمنافقين «وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ» قال في شذور الذهب رفع باعتباره معطوفا على محل ان الّذين آمنوا إلخ، لأنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك، فكأنه قيل إن الّذين آمنوا بألسنتهم من آمن منهم بقلبه إلخ فلا خوف عليهم إلخ والصّابئون والنّصارى من آمن منهم إلخ فلا خوف إلخ، وقد حذف من الثاني بدلالة الأوّل، ومثل هذه الآية من جهة أشكال الإعراب الآية 162 من سورة النّساء المارة، وهي (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ) إلخ، فإنها نصبت على المدح، تقديره وأمدح المقيمين، وإنما قطعت هذه الصّفة عن بقية الصّفات لبيان فضل الصّلاة على غيرها. وقرأ أبي بن كعب الصّابئين بالياء، وعلى قراءته لا أشكال في الاعراب وهناك أوجه أخرى في إعراب هاتين الكلمتين من الآيتين المذكورتين أعرضنا عنها لأنها دون ما جرينا عليه كما سيأتي، ونظير هذه الآية 62 من البقرة المارة وكذلك آية طه 63 وهي (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) فيها أشكال من حيث الاعراب بيناه فيها، فراجعه. واعلم أن من يعرف العربية يجد لكل وجهة في الاعراب فلا

يغلّط أحدا ولا ينتقد كلاما. «وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ» إيمانا مخلصا «بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وثبت على إيمانه «وَعَمِلَ صالِحاً» معه وآمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلّا به وماتوا على هذا الإيمان الجامع «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في هذه الدّنيا «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) » على مافاتهم فيها في الآخرة لما يرون من نعيمها الدّائم لأنه ينسيهم الدّنيا وما فيها. وإنما خص اليوم الآخر في هذه الآية لأن الايمان به بعد الايمان بالله ورسوله وهو أشرف الإيمان، ومن لم يؤمن به لا يسمى مؤمنا، وإن أهل الملل السّت المبينين في الآية 17 من سورة الحج المارة ليسوا على شيء إذا لم يؤمنوا به مع الإيمان بالله ورسوله وكتبه، لأنه أحد أصول الدين الثلاثة التي لا يقبل الإيمان إلّا بها، وقراءة كلمة الصّابئين بالرفع على الابتداء هي قراءة الجمهور من القراء وجارية على نيّة التأخير، أي والصّابئون كذلك إذا آمنوا، فقدم المبتدأ وحذف الخبر على حد قوله: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيّار بها لغريب أي فإني لغريب وقيار كذلك، وإنما كان رفع الصّابئين مع أن الحالة تقتضي نصبها لأنهم أشد الفرق ضلالا، وسموا صابئين لأنهم خرجوا عن كلّ الأديان إلى اتباع هواهم وشهواتهم. وحبا بمعنى خرج، وقد ذكرنا أن صاحب شذور الذهب أرى العطف على محل أن الّذين إلخ. وقال غيره لا يصح هذا العطف ولا يجوز ارتفاع الصّابئين بالعطف على محل ان واسمها، وعلى قوله بأن العطف على المحل يصح إذا فرغ من الخبر فيجوز أن تقول أن زيدا منطلق وعمرو بالعطف على محل أو اسمها، ولا يجوز أن تقول أن زيدا وعمرو منطلقان، وقرأ أبي بن كعب وابن كثير بالنصب تخلصا من هذه الإشكالات، وهم إنما قرأوها بالتلقي لا من أنفسهم، ولذلك ينبغي قراءتها على ما هي عليه. ونظير هذه الآية الآية 62 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 17 من سورة الحج بزيادة المجوس والمشركين قال تعالى «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» على العمل بالتوراة وامتثالهم أمر رسولهم «وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا» بعد موسى وهرون لا قامة أحكامها، فنقضوا الميثاق وصاروا لشدة تعنّدهم وكثرة تعنتهم «كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ

[سورة المائدة (5) : الآيات 71 إلى 80]

بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ» من الأحكام والأوامر والنّواهي فترى «فَرِيقاً كَذَّبُوا» بعيسى ومحمد ومن تقدمهما من الرّسل «وَ» كتبهم «فَرِيقاً يَقْتُلُونَ 70» الأنبياء كيحيى وزكريا وبعض من تقدمهم من الرّسل بغيا وعدوانا وجرأة على مخالفة أمر الله ورسوله. راجع نظير هذه الآية الآية 87 من البقرة المارة وما يقاربها في المعنى الآية 29 من الأعراف في ج 1. وهذا دأبهم في كتب الله وديدنهم في رسله، إذ يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، راجع الآية 85 من البقرة «وَحَسِبُوا» علموا وتحققوا، ويدل على أن معنى حسب هنا علم تعقيبا بأن المخففة من الثقيلة لأن فعل الظّن بمعناه لا يدخل على التحقيق تدبر. على أن هنا نافية لا مخففة لأن المخففة يعقبها اللام ولا لام هنا، تدبر. أي إلى هؤلاء الّذين كذبوا الرّسل وقتلوهم تيقنوا «أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» بلاء وعذاب بذلك عليهم كلا بل يكون بأشد مما يتصوره العقل «فَعَمُوا» عن الحق وقتلوا زكريا ويحيى وبزعمهم عيسى فكذبهم الله وأخزاهم وأعم قلوبهم وأعمى أبصارهم عنه بدلالة ما جاء في الآية 158 المارة من سورة النّساء وكذبوا محمدا بزعمهم أن كلّ رسول يأتيهم بغير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله قاتلهم الله «وَصَمُّوا» عن سماع الحق منهم كما صموا عن سماع قول هارون عليه السّلام ومن معه حينما نهاهم عن عبادة العجل، راجع الآية 90 من سورة طه في ج 1 «ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بعد ذلك «ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا» زمن الرّسل من بعد موسى ولم يصغوا لأوامرهم، ثم أبدل من ضمير عموا وصموا على طريق بدل البعض من الكل قوله جل قوله «كَثِيرٌ مِنْهُمْ» أي أن أكثر اليهود كانوا كذلك، وإن القليل منهم رأى وسمع وأذعن وآمن «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) » لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وأقوالهم. قال تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» تقدمت هذه الجملة بعينها في الآية 15 المارة وكررت بمناسبة تبرأ عيسى من قولهم هذا كما حكى الله عنه بقوله عز قوله «وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا فرق بيني وبينكم في عبوديته وربوبيته فاعبدوه مثلي لأني عبد له، واعترفوا بربوبيته، لأنه ربي وأنتم كذلك ثم حذرهم

عن الإشراك به بما حكى الله عنه «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ» غيره أو أشركه في عبادته فعبد غيره من إنسان وحيوان وجماد وكوكب وملائكة وجن وانس «فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» إذا مات على شركه ومن يحرم الله عليه الجنّة يغضب عليه «وَمَأْواهُ النَّارُ» في الآخرة بسبب كفره وظلمه لنفسه «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) » يمنعونهم من عذاب الله ويحولون دون تنفيذه فيهم ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من كفرهم فقال «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ» وهم عند نزول القرآن المرقوسية والنّسطورية من فرق النصارى ويريدون بقولهم هذا أن الله تعالى ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والإلهية مشتركة بينهم، وكلّا منهم إله، كما سيأتي تفصيله آخر هذه السّورة عند قوله تعالى (أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية الآتية، فيكون المعنى على قولهم هذا أن الله أحد ثلاثة آلهة أو واحد منها، وفي تفسير آخر أنه جوهر وأحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 17 من سورة النّساء المارة، والأقنوم هو الأصل، فيكون المعنى أن مجموع هذه الثلاثة إله واحد كما تقول إن الشّمس تتناول القرص والشّعاع والحرارة وكلها شمس، ويعنون بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبروح القدس الحياة، وإن الكلمة التي هي قول الله اختلطت بعيسى اختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله والابن إله والرّوح إله والكل واحد، وكلّ من هذين التفسيرين باطل بداهته لأن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة «وَما» في الوجود «مِنْ إِلهٍ» البتة يعبد بحق «إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» وهو الله الفرد الصّمد لا ثاني له ولا شريك ولا ولد ولا صاحبة ولا والد له وهو واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا معين أبدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ثم هددهم بقوله عزّ قوله «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» من الإشراك بالذات الواحدة المقدسة المبرأة المنزهة عن كلّ شيء «لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) » لا تطيقه قواهم، وإنما قال تعالى منهم لسابق علمه بإيمان بعضهم، قال تعالى فيها لهم بالكف عن خطتهم هذه «أَفَلا

يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ» من مقالتهم هذه القبيحة وعقيدتهم الخبيثة فيفردون الإله بالعبودية ويؤمنون به وحده ايمانا خالصا حقيقيا ويصدقون رسوله محمد بكل ما جاءهم به من عنده ليغفر الله لهم ما سبق منهم «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (74) بعباده التائبين يريد لهم الخير لتنالهم رحمته ، قال تعالى ردا لمزاعمهم الفاسدة «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» ليس بإله ولا بابن للإله كما أن الرّسل كلهم لم يدعوا دعوى الافتراء هذه البتة «وَأُمُّهُ» مريم بنت عمران ليست بإله ولا بأم للإله، وإنما هي «صِدِّيقَةٌ» مخلصة لربها وليست بنبية ولم يرسل الله من النّساء نبيا قط: ولم تكن نبيا قط أنثى ... ولا عبد وشخص ذو افتعال وهي وابنها «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» كسائر النّاس والذي يحتاج إلى الطّعام لا بد أن يبول ويتغوط ويمرض ويحتاج لغيره، ومن كان هذا شأنه لا يصح أن يكون إلها إذ لا يليق بالإله أن يتصف بما يتصف به خلقه، لأنه نقص، والإله مبرأ من النّقص، ومن كان محتاجا لغيره كان عاجزا والعجز لا يليق بالإله القادر على كلّ شيء فيا محمد «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ» الدالة على فساد عقولهم وآرائهم وقلة إدراكهم وقصر نظرهم «ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (75) ويصرفون أنفسهم عن استماع هذه الآيات البديعة واعلم أن إعراضهم عنها أبدع وأعجب «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» وتدعون عبادة الله المالك لذلك المحي المميت «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده خفيها وجليها «الْعَلِيمُ» (76) بما في ضمائرهم ونياتهم فهل يكون هذا ممن له عقل «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» فتجاوزوا الحدود التي حدها لكم «غَيْرَ الْحَقِّ» الذي هو بين الافراط والتفريط راجع الآية 171 من النّساء المارة نظيرة هذه الآية في المعنى لأن مجاوزة الحق مذمومة كالتقصير فيه، وإن المغالاة في الدّين مذمومة كالاهمال فيه والصّد عنه، لأن ذلك من هوى النّفس، ولذلك يقول الله تعالى «وَلا تَتَّبِعُوا» يا أهل الكتابين «أَهْواءَ قَوْمٍ» من قبلكم «قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ» ضلالكم واضلالكم هذين لأن مغالاة النّصارى أوصلتهم إلى أن قالوا إن عيسى ابن الله وإله

أيضا، ومغالاة اليهود حدت بهم إلى أن قالوا عزير بن الله، ووصموا حضرة الإله بالبداء أي النّدم، تعالى عن ذلك كله، فزاغوا عن طريق الحق «وَأَضَلُّوا» أناسا «كَثِيراً» غيرهم بذلك عن أتباعهم ومواليهم «وَضَلُّوا» هم أيضا «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» (77) ببغيهم واتباعهم أهواءهم. تشير هذه الآية إلى أن كلّا من اليهود والنّصارى بغوا على الله بتقولاتهم تلك، وتفيد أن المغالاة في الدّين قد تؤدي إلى الكفر، ولهذا نهى الله ورسوله عن المغالاة وأمرا بالقصد، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال إن الدّين يسر ولن يشاء الدّين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة. قال تعالى «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ» حيث قال لهم لما اصطادوا الحيتان بالحيلة، اللهم العنهم واجعلهم خنازير وقردة، فكانوا بأمر الله تعالى حالا، وقدمنا ما يتعلق بلعنهم وبعض أعمالهم التي استحقوا عليها اللعن في الآية 64 المارة والآية 164 من الأعراف في ج 1 فراجعهما «وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» لعنوا على لسانه أيضا وهم أصحاب المائدة حين أكلوا منها وادخروا ولم يؤمنوا ويصدقوا، فقال اللهم العنهم واجعلهم خنازير، فكانوا أيضا، كما سيأتي في الآية 115 الآتية إن شاء الله، ولأن داود وعيسى بشرا أمتهما بمحمد صلّى الله عليه وسلم ولعنا من يكفر به فكفروا به «ذلِكَ» اللعن الواقع عليهم «بِما عَصَوْا» أنبياءهم «وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (78) أي بسبب اعتدائهم عليهم وعلى أتباعهم «كانُوا» هؤلاء الملعونون «لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» فيما بينهم ولا ينهى بعضهم بعضا عنه «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» (79) ويقولون. وهؤلاء اليهود «تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ» أيها الرّائي «يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ويطلعونهم على خبيئة أمرهم، وهؤلاء الخبثاء الّذين هذا شأنهم «لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ» من العمل لآخرتهم «أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» بأعمالهم تلك في الدّنيا «وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» (80) في الآخرة تشير هذه الآية إلى نوع من أعمال المنافقين بموالاتهم الكافرين، لأنهم مثلهم بل أقبح، لأن أولئك كافرون ظاهرا وباطنا يجتنبهم النّاس، فلا يركنون إليهم، ولا يفشون لهم أسرارهم

[سورة المائدة (5) : الآيات 81 إلى 90]

ولا يغترون بهم، وهؤلاء بحسب إيمانهم الظّاهر قد يغتر بهم النّاس فيفشون لهم أسرارهم فينقلونها للكفار فيكونون أشد فتنة على المسلمين من الكافرين، ولهذا قال تعالى «وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ» محمد صلّى الله عليه وسلم «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» من الكتاب «مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ» يتقوون بهم على المؤمنين الصّادقين، ولما استمالوهم لكشف أسرارهم لينقلوها لهم «وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (81) خارجون عن طاعة الله ورسوله غير مؤمنين بهما، راجع الآية 51 المارة، ولهذا اتخذوا الكفار أولياء مع علمهم بأن المؤمنين خير لهم منهم. مطلب أشد النّاس عداوة وأقربهم مودة للمسلمين وان التشديد في الدّين غير مشروع ولا ممدوح وكفارة اليمين: قال تعالى يا سيد الرّسل «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» لأن هذين الصّنفين أكثر عداوة للمسلمين من غيرهم «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ» القرب لمودة المسلمين «بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً» يأمرونهم بالخير وينهونهم عن الشّر، ومنهم من يعترف بأحقية دين الإسلام فيركن لأهله ويميل لطاعته، ومنهم من يعتقد به ويعمل بما فيه خفية عن قومه «وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (82) عن قول الحق بل يذعنون له ويتواضعون لأهله ويستكينون لمجالستهم «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ» من كلام الله يؤثر في قلوبهم ولشدة تأثيره فيهم «تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ» لرقة أفئدتهم وخشوعها لسماعه و «مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ» فيه، ولذلك فإنهم فيما بينهم «يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا» به وبمن أنزل عليه «فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (83) عليه بأنه حق وصدق «وَ» يقولون عند سماعه أيضا «ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ» وحده ونترك التثليث وغيره، لأن عيسى بشر وقد بشر بمحمد لنؤمن به «وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ» على لسان رسوله محمد لنؤمن به أيضا «وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ» (84) من أتباعه وأمته فنكون مثلهم «فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا» من الإيمان بالله وحده والتصديق برسوله محمد وما جاء به «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ» الجزاء الحسن والثواب

الكريم هو «جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» (85) عند الله تعالى في الآخرة الدّائمة إذا فعلوه بأنفسهم وإخوانهم وجميع الخلق في الدّنيا «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا» المنزلة على أنبيائنا «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (86) في الآخرة لا يبارحونها. قال بعض المطلعين إن مذهب اليهود وجوب إيصال الأذى بأي طريق كان إلى من خالف دينهم وخاصة المسلمين حكى الله عنهم في قوله (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» الآية 76 من آل عمران المارة، والنّصارى بخلاف ذلك فإنه يحرم عليهم أذى الناس أجمع، وإن أول ما دخل فيه اليهود من الخوض بآيات الله تغاضيهم عن إقامة حدوده في التوراة، أخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرّجل يلقى الرّجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم لعنهم بالآية المارة، والمراد بالمعنى الطّرد من رحمة الله تعالى والعياذ بالله، ثم قال: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظّالم ولتأطرنه (أي تردنه) على الحق أطرا وتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم. ويدخل في هذه الآية من آمن من النّصارى قبلا كالنجاشي وأصحابه ومن بعدهم إلى يوم القيامة، وإن المدح فيها بحق النّصارى ليس على إطلاقه لأنه في مقابلة ذم اليهود والمشركين. ولا يتجه قول من قال إن هذه الآية نزلت في النّجاشي حين الهجرة الأولى الواقعة سنة خمس من البعثة، وقد أشرنا إليها في الآية 203 من آل عمران المارة فراجعها لأنها عامة فيهم وفي غيرهم ممن هذا شأنه، والنّجاشي بأولهم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» من الطّاعم الطّيبة والمشارب اللّذيذة والرّوائح الكريمة والملابس الفاخرة والمساكن الواسعة والمطايا المطهمة الجميلة والسّلاح المحلى «وَلا تَعْتَدُوا» ما حده الله لكم مما أحله إلى ما حرمه «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (87) حدوده فتحرموا حسب أهوائكم ما لم يحرمه ربكم، وتحللوا ما حرمه، راجع الآية 93 من آل عمران المارة «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ

حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ» تأكيدا للوصية بما أمروا به، وأكد هذا التأكيد بقوله «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» (88) تدل هذه الآية على أن الله تعالى تكفل برزق خلقه، ولذلك قال كلوا، وإذا كان كذلك وهو كذلك فعلى العبد أن يجمل في طلب الرّزق، قال صلّى الله عليه وسلم أجملوا في طلب الرّزق. وفي رواية في طلب الدّنيا فإن كلا ميسّر لما كتب له منها. يعني أن الرّزق المقدر للعبد سيأتيه سواء ألحف بطلبه أو أجمل، وإذا كان كذلك فليرفق بالسعي وليتعفف بالطلب فهو أحسن له وأحشم وأوقر. قال علماء التفسير إن النّبي صلّى الله عليه وسلم ذكر النّاس يوما وشدد في وصف القيامة حتى رق النّاس وبكوا فاجتمع أبو بكر وعلي وعبد الله ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون الجهني واتفقوا على أن يترهبوا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدّهر ويقوموا اللّيل ولا يأكلوا اللّحم والودك ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان فلم يجدهم فقال لا مرأته أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب، وكرهت أن تبدي سرّ زوجها، فقالت، يا رسول الله إن كان أخبرك أحد فقد صدق، فلما سمعوا بمجيء الرّسول إليهم ذهبوا إليه، فقال لهم ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلّا الخير، فقال إني لم أومر بذلك ثم قال إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا، وقوموا وتاموا، فإني كذلك وآكل اللّحم والدّمم، وآتي النّساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، ثم جمع الناس وخطبهم وقال ما بال أقوام حرموا النّساء والطّعام والطّيب وشهوات الدّنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فإنه ليس في ديني ترك اللّحم والنّساء، ولا اتخاذ الصّوامع، وسياحة أمتي الصّوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الدّيار والصوامع ، فأنزل الله هذه الآية راجع الحديث المار في الآية 77 هذا وما يرى من بعض الزاهدين في ترك الطّيبات

من الأكل والشّرب واللّباس والتجافي عن الحلال لا بطريق التحريم وحاشاهم من ذلك، وإنما يكون ذلك من بعضهم هضما لأنفسهم وكراهة في الدّنيا فيتركون التنعم فيها أملأ بما عند الله لهم من النّعيم الدّائم، لأنهم يرون التنعم في الدّنيا يشغلهم عن دوام ذكر الله والقيام بما يقتضي له من الخشوع والخضوع والإنابة لحضرته الكريمة ليس إلا، فعلى العاقل ألا يعترض عليهم، ويجالسهم، ويتبرك بهم فهم القوم الّذين لا يشقى جليسهم كما جاء في الحديث الصّحيح، قال تعالى «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» راجع نظيرتها في الآية 225 من البقرة المارة ولما كانت هذه الجملة عامة استدرك بما يخصصها بقوله «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ» أي إذا حلفتم وعظمتم حلفكم وتعمدتم عقدها وقصدتم به اليمين المستوجبة الكفارة (وقرىء عقدتم بالتخفيف) وأردتم أن تخنثوا في يمينكم المعقد لما رأيتم أن الخير في عدم الإصرار عليه، فعليكم أن تكفّروا عنه وتفعلوا المحلوف عليه، فإذا أردتم الخلاص من هذا اليمين الذي حنثتم فيه «فَكَفَّارَتُهُ» لتحليل ما حلفتم عليه قصدا لا خطأ ولا نسيانا ولا إكراها هو «إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ» غداء وعشاء بحالة وسطى غير ملتفتين لمن يسرف في إطعام أهله أو يقتر عليهم وخير الأمور أوساطها «أَوْ كِسْوَتُهُمْ» بحالة وسطى أيضا «أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» عتقها من الرّق «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» شيئا من ذلك يكفّر به عن يمينه لفقره «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» فقط عليه يكفر بها عن يمينه «ذلِكَ» المتلو عليكم أيها المؤمنون «كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ» وخلاصكم من الحنث فيها «إِذا حَلَفْتُمْ» وحنثتم باختياركم ورضاكم لأن الكفارة لا تجب إلّا بعد الحنث حقيقة «وَاحْفَظُوا» يا أيها النّاس «أَيْمانِكُمْ» من الحنث ما استطعتم وقدرتم، والأحسن لكم والأليق بكم ألّا تحلفوا أبدا تعظيما لاسم الله وتكريما لجلاله، ولهذا حذركم بالتحفظ عليها، وكانت العرب تحمد قليل الحلف والبار بحلفه المحافظ عليه، قال قائلهم: قليل ألا يا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الاليّة برّه راجع تفصيل هذا في الآية 225 المذكورة آنفا من البقرة، هذا واعلم أن

العلماء استنتجوا من هذه الآية وآية البقرة حرمة القسم على ترك الطّاعة وإن عدم المؤاخذة المشار إليه في الآية عدم إيجاب الكفارة به، وإن اللّغو باليمين هو ما يجري على لسانك من غير قصد مثل لا والله، وبلى والله على قول الشّافعي وأحمد رحمهما الله، وقال أبو حنيفة ومالك هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه لم يكن فيظهر أنه وقع بالفعل، ولكل وجه، والله أعلم بما يريد. وقد قابل جل شأنه اللغو بالقصد لينفي ما هو غير مقصود مما قالاه وغيره «كَذلِكَ» مثل ما بينا لكم كفارة أيمانكم «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» في جميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ودنياكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (89) نعمه عليكم، قال ابن عباس رضي الله عنه لما نزلت الآية السّابقة قال الّذين اتفقوا على الرّهبانية يا رسول الله كيف نفعل بأيماننا التي تحالفنا عليها؟ فأنزل الله هذه الآية وبين لهم المخرج وسهله عليهم، الحكم الشّرعي يجب أن يكون الصّيام متتابعا قياسا على كفارة الظّهار والقتل، وجوز الشّافعي تفرقها لأن كفارة الظّهار والقتل جاءت بالنص ولا نص على تتابع كفارة اليمين، أما ما احتج به من أنه ورد في بعض القراءات ثلاثة أيّام متتابعات لا قيمة لها ولا عبرة بها لأنها لم تكن متواترة، ويشترط في القرآن التواتر. وقال بعض المفسرين قراءة شاذة والشّاذ لا يصلح للاحتجاج إلّا إذا ثبتت أو رويت كتابا أو سنة، وإذ لم تثبت فهي قراءة لا أصل لها، وقد ذكرنا غير مرة أن مثل هذه الزيادات التي يعدها بعض العلماء أنها قراءة أو من القرآن لا تعد قراءة ولا تسمى قرآنا وذلك أن بعض القراء كانوا يكتبون كلمات تفسيرية على هامش مصاحفهم أو بين سطوره فيظن من لا يعرف قصدهم أنه من القرآن، فيقول قرأ ابن مسعود كذا من حيث لم يقرأ هو ولا غيره إلّا ما هو بين الدّفتين، ويحرم عد غيره قرآنا، لذلك فلا يجوز القول بذلك بتاتا، فكل ما ليس في القرآن الموجود الثابتة قراءته بالتواتر لا يكون قرآنا أبدا، راجع آخر سورة الأحزاب المارة في هذا الشّأن. هذا، وللحانث الخيار بين الصّوم والإطعام والإكساء والعتق، وتصرف هذه الكفارة إلى مسلم محتاج غير عبد مملوك. روى البخاري ومسلم عن عبد الرّحمن بن سمرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا عبد الرّحمن لا تسأل الإمارة فإنها

مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشرعي فيه وضرره في الوجود:

إن أتتك عن مسألة وكلت إليها، وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك. مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ» راجع الآية 3 المارة من هذه السّورة عن معناها ومعنى «وَالْأَزْلامُ» أيضا وكيفية استعمالها فكل هذه الأربعة «رِجْسٌ» خبث نجس مستقذر «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الذي يزبنه للناس يغويهم بها ويدعوهم إليها «فَاجْتَنِبُوهُ» تباعدوا عن هذه الأشياء كلها ولا تقربوها، وأفرد الضّمير بسبب عوده إلى الرّجس المشتمل عليها كلها «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (90) في أموركم وتفوزون بأعمالكم وتنجحون بأقوالكم وتتحفظون من كلّ ما يضركم «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ» بتزيينه لكم هذه القبائح الأربعة الخبيثة «أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي» شرب «الْخَمْرِ وَ» لعب «الْمَيْسِرِ» القمار «وَيَصُدَّكُمْ» بسببها «عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» الذي ينبغي لكم المداومة عليه قياما وقعودا وعلى جنوبكم «وَعَنِ الصَّلاةِ» المكتوبة عليكم يريد صدكم عنها فيشغلكم بذلك «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (91) عن ذلك كله أيها النّاس وتاركو هذه الأرجاس المضرة في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم؟ وهذا أبلغ من قوله (انْتَهُوا) لأن الله تعالى يقول قد بينت لكم ما فيها من المضار والصّوارف والموانع والزواجر بعد أن ذممتها لكم قبلا، أفلا تنتهون عنها بعد ذلك كأنكم لم توعظوا بعد! ثم أعقب ذلك الزجر بقوله جل قوله «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه «وَاحْذَرُوا» كل الحذر من مخالفتهما، لأنهما لم يأمراكم إلّا بما فيه نفعكم، ولم ينهياكم إلّا عما يضركم، فضلا عن وجوب الطّاعة لهما عليكم مطلقا «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» بعد هذا البلاغ وهذا الانذار ولم تنتهوا عن شرب الخمر ولعب الميسر «فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (92) وعليكم منا العقاب الأليم إذا أصررتم على تعاطيهما. ففي هذه الآية من التهديد والوعيد والزجر الشّديد والتخويف العظيم ما لا يخفى. واعلموا

أيها النّاس لما أنزل الله الآية السّالفة (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) إلخ وكانت مما يستطاب عندهم قبل الإسلام وعند من لم ينكف عنها بعد نزول الآيات الثلاث المتقدم ذكرها والتي سنشير إليها بعد، ولم ينكفوا عن الميسر أيضا لشدة توغلهم فيهما وإن بعض صغار العقول لم ينتبهوا إلى مغزاها الذي أشرنا إليه في الآية 219 من سورة البقرة، بين الله تعالى في هذه الآية الأخيرة الرّابعة الحاسمة لما في هذا الباب أنهما ليستا من الطّيبات بل من الخبائث الموبقات، ولذلك قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) لأن السّكر يفحش كلام الرّجل فيفضي إلى النّزاع ويولد العداوة والبغضاء، وكذلك المقامر قد يؤدي قماره إلى أن يلعب على أثاث بيته وملكه بل وداره التي يسكن فيها، حتى يتوصل إلى أن يلعب على بنته وزوجته بعد فراغ ذات يده، ونفاد ملكه، بل قد يفضي إلى الانتحار فينتج عنه العداوة والبغضاء والخزي والعار أيضا، فأراد الله تعالى أن يحفظ عباده من هاتين الشّائنتين فحرمهما عليهم كما أراد صون الألوهية عن الإشراك بها، وأراد صرف عباده إلى التوكل عليه في أمورهم كلها، فحرم عليهم الأنصاب والأزلام المتقدم ماهيتها في الآية السّابقة من هذه السّورة. وكان عمر رضي الله عنه يقول اللهم بين لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا، كما جاء في الحديث الذي رواه ميسرة عنه، وأخرجه الترمذي من طريقين، وقال رواية ميسرة هذه أصح، وأخرجه أبو داود والنّسائي بأبسط منه وإنما قال ما قال رضي الله عنه وأرضاه لما يرى ما يتولد عنهما من القبائح، وكرر مقالته هذه بعد نزول الآيات الثلاث الأولى 67 من سورة النّحل المارة في ج 2 والثانية من سورة البقرة الآية 219 والثالثة 43 من سورة النّساء المارتين وكانت أحكام الله تعالى جارية على التدريج في تشريعه لعباده، راجع بحثه في المقدمة ج 1 في التدريج بالأحكام فأنزل الله هذه الآية الرّابعة القاطعة بالتحريم فلما سمعها عمر رضي الله عنه قال: انتهينا انتهينا. وروى مصعب بن سعد عن أبيه قال صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا وشربنا، وذلك قبل التحريم زاد حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص المهاجرون خير منكم

فأخذ رجل لحي جمل فضرب به أنف سعد فغرزه أي نخسه، فجرحه، فأتى سعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في قبيلتين شربوا وثملوا وعبثوا ببعضهم، ولا منافاة بين هذه الرّوايات لجواز صدورها كلها، وجواز تعدد الأسباب للنزول. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال قال صلّى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرّابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال. قالوا يا أبا عبد الرّحمن وما نهر الخبال؟ قال صديد أهل النّار. وأخرجه النسائي وعنه قال قال صلّى الله عليه وسلم لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه- أخرجه أبو داود- وقد جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال كلّ شراب أسكر فهو حرام- أخرجاه في الصّحيحين- وزاد الترمذي وأبو داود: ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (والفرق إناء يسع ستة عشر رطلا برطل المدينة وهو عبارة عن مئة وثمانية وعشرين درهما) فلم يبق مع هذا قول مقبول بشرب ما لم يسكر كثيره فقليله لا بأس به، لأنه لو شرب هذا القدر لبنا لأسكره. وقيل إن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار قالوا أفتنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للمال والعقل فنزلت آية البقرة. وقد بينا الآيات النّازلة في الخمر على الترتيب آنفا وإن الإسلام عند نزول آية النّحل شربوها حلالا في مكة إذ ليس فيها ما يدل على التحريم إلّا ما يفهم من عدم وصفها بالحسن وخلاف الحسن مكروه، والمكروه يتساهل فيه النّاس. وجاء في فقه الشّافعي رحمه الله: وفاعل المكروه لم يعذب. ثم لما أنزلت آية البقرة في المدينة تركها أناس كثير نفوسهم طاهرة عرفوا منها مغزى وصف الإثم بالكبر، فانتهوا من تلقاء أنفسهم، وتسامح الغير فلم يقتفوا لما يتقفى ولم ينتبهوا لما انتبه له أولئك الكرام، فداوموا على شربها، ثم لما نزلت آية النّساء حين أولم عبد الرّحمن بن عوف لجماعة من أصحابه وسقاهم، فقاموا إلى

الصلاة فقرأ أحدهم (أعبد ما تعبدون) حرّم الله السّكر في الصّلاة فقط، فصاروا بشربونها بعد العشاء والفجر لبعد المدة بين الصّلاتين بحيث يزول أثر السّكر، ثم لما أولم عتبة بن مالك لجماعة من المسلمين منهم سعد بن أبي وقاص وسوى لهم رأس بعير وبعد ان أكلوا وشربوا ووقع بينهم ما وقع كما مر آنفا أنزل الله هذه الآية التي نحن بصددها، فكانت الحاسمة لتعاطي شرب الخمر واللّعب بالقمار، وكان نزولها بعد وقعة الأحزاب. وعلى صحة هذا فتكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها كبعض الآيات المار ذكرها ويروى أن حمزة بن عبد المطلب شرب ورأى أنصاريا بيده ناضح ويتمثل في هذين البيتين من نظم كعب بن مالك: بلغنا مع الأبواء نصرا وهجرة ... فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر فأحياؤنا من خير أحياء من مضى ... وأمواتنا من خير أهل المقابر فقال له حمزة أولئك المهاجرون، فقال الأنصاري بل نحن (وذلك أن الأنصار أول من آمن منهم بالنبي صلّى الله عليه وسلم اثنان وسبعون رجلا وامرأتان، وهم الّذين بنوا الإسلام بالمدينة وصاروا مأوى للمهاجرين من أهل مكة، وساووهم بمالهم ومسكنهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم كما ألمعنا إليه في الآية 103 من آل عمران المارة لهذا قال ما قال) فتنازعا فجرّد حمزة سيفه، فهرب الأنصاري، فضرب ناضحه (القرب التي تنضح الماء فيترشح منها مقطعه) فشكاه الأنصاري إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال عمر مقالته المنوه بها آنفا، فنزلت هذه الآية، وقد يستبعد صحة هذه الرّواية، لأن حمزة رضي الله عنه قتل في حادثه أحد قبل نزول هذه الآية، وعند فرض صحتها تنطبق على آية البقرة لا على هذه، لأن سورة البقرة من أول القرآن نزولا في المدينة، وسورة المائدة هذه من آخر نزوله، إذ لم ينزل بعدها إلّا التوبة والنّصر، وقد أشرنا في المقدمة إلى حكمة ترتيب هذا التحريم من الله تعالى جلت قدرته، ليعلم النّاس أن أوائل هذه الأمة قد الفوا شربها وكثرة انتفاعهم يبيعها وشرائها فلم يمنعهم من تعاطيها دفعة واحدة لعظم الثقل على النّفوس إذ ذاك، وأن التدريج في الأحكام هو أحد أسس التشريع الإسلامي الثلاث ألمعنا إليها في المقدمة أيضا، ولهذا ذكرنا أن النّسخ الذي تغالى به بعض علماء النّاسخ والمنسوخ ومشى

عليه بعض المفسرين في هذه الآيات وشبهها هو عبارة عن التقييد والتخصيص ونفي الملزوم في المعنى كما هو في الآية الثالثة ليس إلا، تدبر. روى البخاري ومسلم عن أنس قال ما كان لنا خمر غير فضيحتكم، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب وفلانا وفلانا، إذ جاء رجل فقال حرمت الخمرة، فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها، ولا راجعوها، ولا تأخروا عن تركها وإهراق أوانيها لحظة واحدة بعد خبر هذا الرّجل، فانظروا رحمكم الله إلى هذا الإيمان الكامل وهذه الطّاعة والانقياد لأمر الله كيف هي، فهل من مزدجر، فهل من متعظ. وقيل في ذمها: خذوا كأسها عني فما أنا شارب ... ولا أنا عن ديني ودنياي راغب لقد حرم الله المدام وانني ... إلى الله مما تستحلّون تائب أأشرب سما ناقعا في زجاجة ... تحوم حوالي شاربيها المصائب لئن شبهوا كاساتها بكواكب ... فقد أنذرتنا في النّحوس الكواكب وان عصروها من خدود كواعب ... فكم من رزايا جرهن الكواكب وقال يزيد بن محمد المهلبي في ذمها: لعمرك ما يخفى على الكأس شرها ... وإن كان فيها لذة ورضاء مرارا تريك الغي رشدا وتارة ... تخيل أن المحسنين أساءوا وان الصّديق الماحض النّصح مبغض ... وان مديح المادحين هجاء وجرّبت اخوان النّبيذ فقاما ... يدوم لاخوان النّبيذ إخاء وكيف يدوم والجامع بينهما معصية الله، والاخوة لا تكون دائمة ونافعة إلا إذا كانت على تقوى الله. راجع الآية 67 من سورة الزخرف في ج 2. والحاصل أن ما حرم من الشّراب هو أول الخراب ومفتاح الشّر لكل باب، يمحق الأموال ويهرم الرّجال، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوة، ويمحي الشّهامة فيضع الشّريف، ويهين الظّريف، ويذلّ العزيز، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث العار والشّنار، فالسعيد من اجتنبه، والشّقي من ألفه، والهالك من اعتاده وتوغل فيه. الحكم الشّرعي أجمعت الأمة على التقيد بأمر الله القاضي

بتحريمها وحدّ شاربها وتفسيقه، وإكفار مستحلها، ووجوب قتله حدا. قال ابن وهبان في منظومته: وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا ... طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر وعن كلهم يروى وأفتى محمد ... بتحريم ما قد قلّ وهو المحرر وروي عن جابر أن رجلا قدم من جيشان- وجيشان من اليمن- فسأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، فقال صلّى الله عليه وسلم أو مسكر هو؟ قال نعم، قال صلّى الله عليه وسلم كلّ مسكر حرام وإن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال عرق أهل النّار أو عصارة أهل النّار. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدّنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. والحكمة في تحريم الخمر والميسر ما بيناه آنفا لأنهما من الآفات التي تسبب أضرارا مادية ومعنوية، فتوجد الخصومات والأحقاد بين النّاس، وتفقد العدالة والثقة في المعاملات، وينشأ منها شقاء العامة. ولقاعدة الشّرعية إذا تعارض دفع الضّرر وجلب النّفع قدم دفع الضّرر على جلب النّفع. والخمرة المحرمة التي يكفر مستحلها هي المنصوص عليها في القرآن الحاصلة من عصير العنب فقط على رأي أبي حنيفة رحمه الله. وإن كلّ مسكر من غيره لا يسمى خمرا ولا يكفر مستحله إلّا أنه حرام إذا أسكر، مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم كلّ شراب أسكر فهو حرام، ولأن علّة التحريم هو ما جاء في الآية المفسرة هذه (إنما يريد الشّيطان إلخ، وذهب مالك والشّافعي وأحمد إلى أن كلّ مسكر من عصير العنب أو غيره كله حرام لقوله صلّى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولما قدمنا من الأحاديث الأخر، وشمّلوا الميسر في كلّ الألعاب من نرد وغيره لقوله صلّى الله عليه وسلم من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله. والمراهنة من القمار أيضا لما روي عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لآخر إذا أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا فارتفعا إلى علي كرم الله وجهه فقال هذا قمار، أما الرّهان في السّباق بين الخيل والإبل

وغيرها فجائز إذا كان الذي يستحق الجائزة السّابق فقط لقوله صلّى الله عليه وسلم لا سبق إلّا في خفّ حافر ونعل، ورخصوا المسابقة في الرّمي أيضا، أما ما جاء في ضررها المادي فقد أجمعت الأطباء على أن مدمن الخمر يكون كثير النّسل وأولاده عقيمين أو لا تعيش لهم ذرية وما ضرّ تناوله طبا حرم تعاطيه شرعا، ولهذا حرمته أميريكا وتركيا برهة من الزمن ثم رجعتا إليه لما يدرّ عليهم من حطام الدّنيا، وأهل الدنيا لا يتركونها من أجل الله، قاتلهم الله وإنها ستتركهم يوما ما حتما، وإذ ذاك يندمون ولات حين مندم. والمراد بالخمر هو ما يستخلص من عصير العنب وغيره نيئا قاذفا بالزبد وهي التي يسمونها الآن (انبيت) وهو ما لم تمسه النّار أصلا فهذا هو الذي قليله وكثيره حرام ويكفر مستحله. أما المطبوخ من عصير العنب والرّطب والتمر والزبيب وغيرها كالعرق من جميع المسكرات الحديثة فهي حرام أيضا على القطع، إلا أنه لا يكفر مستحلها بل يفسق ويجري عليه الحد الشرعي، وإنها إنما تفارق الخمرة المنصوص عليها في القرآن من تكفير مستحلها فقط وتشاركها في بقية الأحكام، ويحرم بيعها بسائر أنواعها وجميع أجناسها، كما يحرم تعاطيها لأنها من الأشياء النّجسة التي يحرم تناولها كالخنزير. راجع الآية الثالثة المارة من هذه السّورة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشّحوم فحملوها فباعوها. ورويا عن عائشة قالت خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال حرمت التجارة في الخمر. وروي عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما قال على المنبر منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشّعير والخمر ما خامر العقل كرر ثلاثا، ووردت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه. يحدد الكلالة وأبواب من أبواب الرّبا أخرجه البخاري ومسلم راجع الآية 16 من سورة النّساء المارة والآية 235 من سورة البقرة أيضا واعلم أن الخمر يختلف تأثيرها باختلاف كمية الغول الذي فيها، وهذه الكلمة استعملها الأجانب بلفظ (آلكول) ثم عربها العرب بلفظ (الكحول) ولم يرجعوا إلى

أصلها المذكور في القرآن العظيم وهو (الغول) وإذ كان حرف الغين لا يوجد باللغة الأجنبية، فقد قلبوها كافا، ونحن بدل من أن نقلب هذه الكاف غنيا ونعيدها لأصلها قلبناها حاء فصارت الكحول، وحتى الآن ينطقون بها. وإنما سماه الله تعالى (غولا) في قوله جل قوله (لا فِيها غَوْلٌ) الآية 47 من الصّافات ج 2 لأنه يذهب العقل، أي ليس فيها ما يذهب العقل ويغتاله كخمرة الدّنيا، راجع تفسير الآية 68 من الصّافات أيضا تجد الفرق بين خمر الدّنيا وخمرة الآخرة التي يقول فيها ابن الفارض: وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدّهر عبدا طائعا ولك الحكم وقال: على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له فيها نصيب ولا سهم واعلم أنه كلما ازدادت كمية الغول فيها ازداد ضررها وعظم شرها، وقد يتعرض شارب الخمر أحيانا إلى القيء والصّداع المؤلم ويصحبه التهاب معدوي حادّ وما قيل أن قليل الخمر يزيد في قوة التفكير لا صحة له، بل تقلل الذكاء وتضعف القوة المفكرة لأنه ينافض الواقع، وذلك أن من يهاب الإقدام على أمر أو لا تواتيه شجاعته على عمل في حالة الصّحو يقدم عليه في حالة السّكر، وهذا الإقدام في الظاهر يكون لعدم إدراكه عاقبة الأمر، فهو يفعله عن قلة عقل لا عن عقل، ومقدرته حالة السّكر دون مقدرته حالة الصّحو وقوته كذلك، ألا ترى السّكران تلعب به الجهال وبمجرد دفعة بسيطة يقع على الأرض بخلاف ما لو كان صاحيا، وذلك لأنه ينقص من قوة الاحتمال الجسماني كما ينقص من قوة الإدراك العقلي، ومما هو مشاهد ان متناول الخمرة يكون قليل النّشاط حاملا لأن قوة الجسم على مقاومة التغيرات الجوية ومقدرته على ضبط درجة حرارته تضعف من تأثير الخمر، فكثيرا ما أودت ضربة الشّمس بحياة كثير من مدمني الخمر. هذا، ومن جملة أضرار الخمر الالتهاب المزمن في الحنجرة والمعدة وقد يصاب الكبد بنوع من هذا الالتهاب المزمن ويسمونه (سروزس الكحول) وهو مرض يكثر عند مدمني الخمر، وكثيرا ما يؤدي إلى الموت إذا انحبست الدّودة اليابية في الكبد، لأن

شدة حرافته تهري هذه الأعضاء مع الرّئة أيضا فيحصل له الموت آنيا كالمسلول المنتهي. وقد ثبت طبا أن أعمار مدمني الخمر وقدرتهم على مقاومة الأمراض أقل بكثير من غيرهم، وقد جرب هذا في طائفة من الأرانب واتضح أن مقاومة الطائفة التي ألفها شراب الخمر مع الماء لهذا المرض اقل بكثير من مقاومة طائفة الأرانب التي لم يعطوها ذلك وأقل أعمارا منها وثبت أيضا أن نسل مدمني الخمر أضعف من غيرهم، وإن القلب يتأثر من كثرة الغول، وإن إدمان الشّرب يصلّب الشرايين بحالة قد تقضي إلى الموت. وثبت أيضا أن مدمن الخمر معرض لمرض عصبيّ يسبب الموت بأول صدمة ويسمّونه (ولربم ترنز) وقد يؤدي هذا المرض إلى الرّعشة والهذيان وقلة النّوم، بل يفضي لعدمه، وإذا لم يسارع إلى التداوي فإنه يجره إلى الموت المقدر له على ذلك، وقد يعتريه هذا المرض لعدم حصوله على ما يكفيه من الشّرب الذي اعتاده، أجارنا الله، لأنه كلما زاد من الشّراب تخرقت تلك الأعضاء الكريمة، فيحتاج إلى ملئها ومتى ما نقّص فرغت تلك الحروق، فيحتاج إلى أن يشرب أكثر من معتاده لملئها، إذ قد يفضي فراغها إلى وقف الدّم فتبطل حركته فيحصل الموت وهلة. وما قيل أن الخمر تدفىء الجسم حتّى يكاد شاربها يتصبب عرقا من الحرارة فهو قيل عار عن الصّحة، لأن المشاهدات الطّيبة والعادية أثبتت خلاف هذا، وعدم فائدة الجسم بالتدفئة، لأن هذه المسألة عرضت على بساط البحث في المؤتمر الدّولي التاسع عشر في بلجيكا، وظهر أن تأثير الخمر الظاهر في تدفئة الجسم عقيب تناولها إنما هو شعور كاذب، إذ يعقبه انخفاض في درجة حرارة الجسم حتى عن حالته الطّبيعية، وقد أثبت هذه الحقيقة بصورة جلية المشاهدات الحسية في جزيرة (ايسلندا) التي هي من أشد البلاد بردا، وقد كثر بين أهليها الوفيات لدرجة عظيمة وتبين أن السّبب في ذلك استغناؤهم عن مكافحة البرد بشرب الخمر الذي سبّب صعود الدّم بتأثير الغول من داخل الجسم إلى سطح الجلد فأبادته برودة الجو تدريجا وانتهت الحياة بانتهاء الحرارة من الجسم. وهذا كمن يستعمل المقويات للجماع فإن ما يراه من القوة الحسية منحوتة من دمه بسبب تلك المقويات لا منها، وهؤلاء كثيرا ما يفلجون أو يموتون فجأة. ومما يؤيد هذا

ما حدث لأصحاب الرّحالة العالمي الدّكتور (سكوت) حينما وصل بهم إلى القطب الجنوبي وكان نهاهم عن الشّرب لما شاهد من تأثيره المميت في تلك الأجواء الباردة، وان منهم حينما اشتد عليه البرد لجأ إلى الشّراب خلافا لتعاليمه التي ذكرهم بها فما كان منهم إلّا أن لقوا حتمهم، والّذين تقيدوا بتعاليمه فلم يشربوا نجوا من الموت. وجاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح، وفي رواية من الذرة، ونتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال هل يسكر؟ قلت نعم، قال فاجتنبوه، قلت إن النّاس غير تاركيه، قال إن لم يتركوه فقاتلوهم. وهذه معجزة خالدة في هذا. ومن جملة معجزاته قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها. وذلك لما أطلعه الله على ما ذكر من تأثيرها فيما سبق في هذا وغيره مما سيظهر بعد، وإنما لم يذكر حضرة الرّسول لهذا السّائل ضررها المادي لعدم إدراكهم إيّاه في زمنه، ولأنه يريد ألا يسألوا عن العلل لما أمر الله به ونهى عنه، ويريد أن يمتثلوا ما يأمرهم به من نفسه كأمر الله تعبدا وانقيادا وإذعانا لأمره أيضا دون فتح باب للسؤال عن العلّة والسّبب، لأنه لا ينطق عن هوى، بل بما يلهمه ربه، ولهذا قال تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية 7 من سورة الحشر المارة، فكان أمره أمر الله ونهيه نهيه، وان كثيرا من أفعال الله لا تعلل، وهو لا يسأل عما يفعل، وهذا ما أردنا ذكره في الخمر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وسيرى ندم الآخرة على عدم الامتثال أشد من ندم الدّنيا. وأما الميسر فقد قدمنا ما يتعلق به من المضار في الآية 22 من سورة البقرة بصورة واضحة فراجعها، وهو مشتق من اليسر، لأنه أخذ المال بسهولة، وكان النّاس في الجاهلية يقامرون على أموالهم وأهليهم، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، ولذلك نهى الله عنه وأكد رسوله نهيه، ألا فليعلم العاقل أن الله تعالى لم ينهنا عن شيء إلّا بقصد نفعنا لكونه مضرا لنا في ديننا ودنيانا وعاقبة أمرنا، ولم يأمرنا بشيء إلّا لنفعنا في الأحوال الثلاثة أيضا، وقد أباح الله لنا الطّيّبات واللهو في غير ما حرم، وليس

بعد الحلال إلّا الحرام، ولا بعد الحق إلّا الضّلال فنحمده ونشكره، وهو القائل جل قوله «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» أكلوا وشربوا مما حرم عليهم أو لعبوا بالقمار وشربوا الخمر وأكلوا من الكسب الحرام أو فعلوا كلّ محرم قبل نزول تحريمه، فكله عفو لهم لأنهم لم يخالفوا فيه إذ لم يحرم عليهم أولا «إِذا مَا اتَّقَوْا» هذه المحرمات واجتنبوها بعد تحريمها، وما هنا صلة لتقوية الكلام وتحسينه أي إذا اتقوا وسنأتي على بحثها في الآية 136 من سورة التوبة الآتية إن شاء الله، فإذا امتنعوا عنها «وَآمَنُوا» بالله ورسوله إيمانا خالصا وأذعنوا لما نهوا عنه أولا وآخرا «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» بعد إيمانهم واجتنابهم المنهيات «ثُمَّ اتَّقَوْا» جميع ما حرم عليهم في مستقبل زمنهم «وَأَحْسَنُوا» عملهم فيما بينهم وبين ربهم وخلقه أجمع فقد أحسنوا لأنفسهم وغيرهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (93) من خلقه وهنيئا لمن أحبه الله. وقد ذكرنا في سورة البقرة عند قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) الآية 23 المارة وفي الآية 38 من سورة يونس ج 1 وفي مواضع أخرى أنه لا يوجد في القرآن حرف زايد أصلا، وأن كل حرف فيه يؤدي معنى خاص، كما أن ما هنا أي في قوله تعالى (إِذا مَا اتَّقَوْا) ليست بزائدة كما يقول البعض لأنها تؤدي معنى أنهم غير واثقين بالتقوى لعدم الاعتماد على النّفس، وهذا شأن المؤمن، فقد جاء في البخاري أن بعض السّلف الصّالح عرف عددا من الاصحاب يخشون النّفاق على أنفسهم لشدة تقواهم وقلة وثوقهم بأنفسهم، فتأمل رحمك الله فائدة الإتيان بما في هذه الآية ومثلها في أمكنة أخرى، وضرر القول بزيادتها لفوات هذا من المعنى المراد فيها، عصمك الله، وسنزيدك توضيحا عن مثلها في آية التوبة الآتية إن شاء الله، أما إذا لم يتقوا وفعلوا هذه المحرمات والعياذ بالله بعد تحريمها عليهم ومعرفتهم بالتحريم وعلمهم به فهم في خطر عظيم إذا لم يتداركهم الله برحمته بإلهامهم التوبة النّصوح عنها، ويدخل في هذه الآية من يدخل بالإسلام بعدها فإن الله تعالى يعفو عما وقع منه قبله ويصير حكمه حكم المؤمنين. واعلم أن كلمة (طعم) تطلق على الأكل والشّرب والنّوم، وعلى هذا قوله:

فإن شئت حرمت النّساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا النقاخ الماء والبرد النّوم ومثلها كلمة طبخ تطلق على المأكول والملبوس وعليه قوله: قالوا اقترح شيئا تجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا أخرج الترمذي عن البراء بن عازب قال مات ناس من الأصحاب وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف بأصحابنا الّذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال لما أنزلت هذه الآية ليس على الّذين إلخ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قيل لي أنت منهم يعني قبل لرسول الله ان ابن مسعود منهم، والقائل والله أعلم جبريل عليه السّلام، وليس هذا بكثير على صاحب رسول الله وحواريه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ» يختبركم ويمتحنكم به حال إحرامكم بالحج أو العمرة، وذلك أن الله تعالى ابتلاهم بالصيد فصارت الوحوش تغشي رحالهم، فهموا بأخذها لأنها كانت منهم، كما قال تعالى «تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ» لقربه منكم كالأفراخ والبيوض وما لا يقدر أن يفرّ أو يهرب «وَرِماحُكُمْ» تنال كبار الصّيد كحمر الوحش والغزلان والطّيور لأن الله تعالى جعله عليهم بكثرة وأوقع عليه السّكينة، وهذا كابتلاء بني إسرائيل بالحيتان إذ جعلها في يوم السّبت تعوم على وجه الماء وشاطئه ليختبرهم أيضا، فلما أجرموا عليها وأخذوها هلكوا راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1 وذلك بسبب احتيالهم على صيدها «لِيَعْلَمَ اللَّهُ» أي ليعلم عباده لأنه عالم من قبل بما يقع منهم قبل إظهاره لهم «مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ» ممن لم يخفه أي من ينفذ أمره من حيث لم يره، فلم يصطد حالة الإحرام ممن يخالف أمره فيصيد، ولهذا قال تعالى «فَمَنِ اعْتَدى» أي صاد حالة الإحرام، وقال تعالى اعتدى بدل صاد لما فيه من التعدي على حدود الله إن صاد «بَعْدَ ذلِكَ» الاختبار والنّهي «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» (94) في الآخرة لأن التعرض للصيد والاعتداء عليه خروج عن طاعة الله تعالى وانخلاع عن خشيته ومكابرة وعدم مبالاة في أمره ونهيه وإن لم يراع أحكام الله في هذه المسائل الهينة لا يهابه في الأمور العظيمة، ولهذا

شدد العقوبة على مرتكبها كما شددها على بني إسرائيل، وإذ مسخهم قردة وخنازير ولكن الله لطف في هذه الأمة المحمدية ورفع عنها المسخ الظّاهري حرمة لنبيها صلّى الله عليه وسلم. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ» أيها المحرمون مناوئا أمر الله «مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ» في الدّنيا أن يتقرب إلى الله تعالى «مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» أي مثل الذي صاده في الخلقة والجثة، وإذا لم يكن له مثل فمثل قيمته. واعلم أن مثل النعامة الجمل، ومثل حمار الوحش البقرة، ومثل الضّبع الكبش، ومثل الظّبي الشاة والأرنب السّخل والضّب السّخلة واليربوع الجفيرة وهي التي بلغت أربعة أشهر من ولد الشّاة والجفر الذكر، ومثل الحمامة وكلّ ما عب وهدر من الطّيور كالفاخقة والقمري وذوات الأطواق شاة، وما سواها من الطّير ففيه القيامة بالمكان الذي أصيب فيه، وهذا الحكم عام. وما قيل أن سببه أبو اليسر كأن شد على حمار وحش وهو محرم فقتله على فرض صحته لا يخصصه فيه ولا يقيده به، فهو حكم مطلق عام إلى يوم القيامة، وعليه فلا يحل الصّيد ولا التقيد ولا التعرض له مادام الرّجل محرما وفي الحرم ولو غير محرم، والمرأة كذلك. روى البخاري ومسلم عن أبن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال خمس من الدّواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور. ورويا عن عائشة مثله. ويستفاد منه أن لا شيء في قتل السّباع من البهائم الضّارية قياسا على الكلب العقور كالذئب والنّمر والفهد وغيرها، ولا الحشرات المضرة كالحيّة والرّتيلة وغيرها. وظاهر القرآن أن الصّيد خطأ لا جزاء فيه، وبه قال سعيد ابن جبير، وعامة الفقهاء والمفسرين على خلافه على أن الحق والله أعلم معه إذ لا قياس في الكفارات، ولأن الله تعالى خصه بالتعمد صراحة، والمخطئ غير المتعمد فكيف يوجبه عباده، وقد جاء في الحديث الصّحيح عنه صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه، فلماذا نوجبه نحن؟ قال تعالى «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» إذا اختلفتم في مثله عينا أو قيمة، فحكموا أيها المسلمون العادلين منكم بذلك وافعلوا ما يحكمان به وسوقوه «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» وأصلا إلى الحرم

داخلا فيه ويذبح هناك ويتصدق به إن شاء. قالوا تفيد الآية أن المثل القيمة لا العين، لأن التقويم مما يحتاج إلى النّظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسّنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى أو بالمعنى لا بالصورة أو بالصورة لا بالمعنى، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له اجماعا فلم يبق غيرها إجماعا مرادا، ولا عموم للمشترك، إلا أن قوله تعالى من النّعم يوجب المثل لا القيمة، وهو ظاهر القرآن، ولا موجب للانصراف عنه. أما إذا أتلف شيئا لا مثل له من النّعم فيصار إلى القيمة حتما. قال تعالى «أَوْ كَفَّارَةٌ» على الصّائد عند عدم القدرة على أداء المثل أو القيمة وهي «طَعامُ مَساكِينَ» بقدر الكفاية لكل مسكين نصف صاع «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» بما يقابل الإطعام لعدم قدرته عليه فإنه يصوم عن كلّ نصف صاع يوما واحدا، وهذا الجزاء الذي رتبه الله تعالى على المخالف في الدّنيا «لِيَذُوقَ وَبالَ» عقابه وجزاء «أَمْرِهِ» جرمه الذي اقترفه في عدم امتثاله أمر الله هذا إذا وقع بعد التحريم، أما ما كان قبله فقد «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» منكم من الاقدام على الصّيد في الحرم مطلقا سواء كان محرما أو غير محرم لأن الله تعالى لا يعاقب على ما لم يأمر به عند مخالفته كما أنه لم يعاقب على فعل الصّيد خارج الحرم أو المحرم حال الإحرام «وَمَنْ عادَ» بعد أن صاد وكفّر عن فعله فصاد في الحرم أو حال الإحرام «فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» في الآخرة انتقاما عظيما «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» بالغ القوة والعظمة «ذُو انْتِقامٍ» (95) شديد فظيع ممن عصاه إذا لم يعف عنه. وتفيد هذه الآية أن لا كفارة في العود على المخالفة يعني أن من صاد وكفّر عن ائمة ثم صاد ثانيا حال الممنوعية لا تكفيه الكفارة ولا تطهره، لأن عوده بعد النّهي جريمة اقترفها باختياره تطاولا على الله تعالى، لأن عوده يعد جرأة عليه تعالى وعدم مبالاة بالكفارة التي أوجبها عليه، والله تعالى يغتاظ من عدم مراعاة حرماته. هذا، والحكم الشّرعي كذلك، والكفارة هنا على التخيير أيضا، فإن شاء ذبح من النّعم مثل الصّيد وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء قوم المثل دراهم وأنفقها، أو قوم الدراهم طعاما، وتصدق به، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوما واحدا. قال

تعالى «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ» حلوه ومالحه «وَطَعامُهُ» أكله حل لكم أيضا سواء كنتم محرمين أو في الحرم ولكم أن تتمتعوا به «مَتاعاً لَكُمْ» أيها المقيمون تنتفعون به حال إقامتكم «وَلِلسَّيَّارَةِ» المسافرين يتزودون منه أيضا حال سفرهم كما فعل موسى عليه السّلام حيث تمتع بالحوت الذي قصه الله علينا في الآية 61 فما بعدها من سورة الكهف في ج 2 «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» على أن لا تصيدوه في الحرم ولا في غيره ما دمتم محرمين وقد كرر الله تعالى تحريم الصّيد ثلاث مرات: أول السّورة في الآية الرّابعة، وهنا مرتين تأكيدا للتقيد بتحريمه، وعدم التعدّي على ما حده الله تعالى، وحذر عليه أولا بالنهي عن إحلال شعائر الله، وعدد ثانيا بالانتقام ممن يخالفه فيه خاصة، وأوعد عليه في هذه الآية الثالثة بقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (96) في الآخرة لا إلى غيره، وهناك تلقون جزاءكم على ما قدمتم وسبب التكرار هو قطع لطمع النّفوس من الإقدام على الصّيد بصورة ماقة لأن للنفس فيه حظا أكثر من قيمته، والنّاس لهوى نفوسهم أطوع، ولهذا فإن حضرة الرسول لم يأكل من صيد غير المحرم وهو محرم تورعا وتنبيها لأمته ليتحاشوه ولا يقدموا عليه. أخرج في الصّحيحين عن الصّعب بن جثامة اللّيثى أنه أهدى للنبي صلّى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال إنا لم نرده عليك إلّا انا حرم. وأخرج في الصّحيحين عن أبي قتادة في صيد غير المحرم وأكله المحرم أنه صلّى الله عليه وسلم قال هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها (أي حمارة الوحش المصيدة) قالوا لا، قال كلوا ما بقي من لحمها. فحمل الحديث الأوّل على وجود الأمر أو الإعانة للصائد غير المحرم من قبل المحرم، أو أنه صيد لأجل المحرم، وهو من باب الورع لأنه يجوز أن يأكل منه بلا سؤال أو علم. قال تعالى «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» لمصالحهم في أمر دينهم ودنياهم لأنه به يقوم الحج وتتم المناسك، وبه يجتمع إسلام الكرة الأرضية فيتعارفون فيه، ويتذاكرون فيما يصلح شأنهم ويلمّ شعثهم ويوحد كلمتهم ويقف كلّ منهم على ضروريات الآخر ومحصولاته من تجارة وبيع وشراء

وضرع وزرع وصناعات ومصارفها ويجلبون معهم من بلادهم مما يصنعون للبيع والاطلاع ويتداولون بشأنه فيما بينهم لأن كلّ غريب طريف وقد يتباهى النّاس باقتناء الأشياء الغريبة والنّادرة، ولهذا ترى في الحرم الشّريف جميع مصنوعات ومنسوجات البلاد، ويوجد فيه مالا يوجد في غيره من الأثاث والرّياش تصديقا لقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 57 من سورة القصص في ج 1 وعادة جلب الأموال والأشياء إلى الحرم عادة قديمة قبل الإسلام يؤتى بها من كل حدب وصوب وتكدس فيه حتى إذا لم تصرف كلها تركوا الباقي فيه دون حراسة لا يخافون عليه سرقة ولا نهبا، ولهذا ولكون قاتل الأبن إذا رآه الأب فيه لا يكلمه لقب بالبلد الأمين، وهو محرم بالجاهلية والإسلام، ولا يستطيع أحد أن يشاحن أحدا فيه على مال أو سرقة أو سلب أو سبي. قال تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الآية 198 من البقرة المارة هذا فيما يتعلق في أمر دنياهم ويتذاكرون أيضا في أمر آخرتهم، لأنه في إقامة مناسك الحج علو الدّرجات عند الله تعالى، وتكفير الخطايا والسّيئات، وزيادة الكرامة في الجنّات «وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» جعله أيضا لما فيه من الأمن العام على من عرف ومن لم يعرف وفي الشّهر للجنس فيشمل الأشهر الأربعة لأنها من هذه الحيثية سواء «وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» جعلها الله أيضا قياما للناس، لأن من يسوق الهدي إلى الحرم لا يتعرض له أحد، ولأن فيه وسعة على الفقراء، راجع الآية الثانية المارة وبحث الحج في الآية 193 من البقرة 26 من سورة الحج المارتين «ذلِكَ» جعل الله هذه الأشياء قواما للناس في أمورهم الدّينية والدّنيوية والأخروية «لِتَعْلَمُوا» أيها النّاس «أَنَّ اللَّهَ» تعالى عالم في الأزل بمصالحكم وحوائجكم في هذه الشّعائر، وهو جل شأنه «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» كليّاتهما وجزئيّاتهما، ظاهرهما وباطنهما، خفيهما وجليهما «أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (97) من كلّ ما كان ويكون قبل كونه ومكان كونه وزمنه ورقت إعدامه وإعادته «اعْلَمُوا» أيها النّاس «أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن انتهك حرماته «وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (98) لمن تاب وأناب ومات على

مطلب في الخبيث والطيب والنهي عن سؤال الله بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:

الإيمان والتوبة واعلموا أيضا أيها النّاس أنه «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» إليكم بلسانه مما أمره به ربه وقد قام بما أمر وبلغ وبشر وأنذر، فلزمتكم الطّاعة وقامت عليكم الحجة، فاحذروا أن تفرطوا أو تفرطوا وانتبهوا أيها المعرضون، وتيقظوا لما يراد بكم فانتهوا عما نهاكم عنه، وافعلوا ما أمركم به، فإن عليكم رقيبا منه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من علانية الأقوال والأفعال والأعمال «وَما تَكْتُمُونَ» (99) من الضّمائر والدّخائل والنّيات والخواطر وإن علمه في كلا الأمرين سواء، لا يعزب عن علمه شيء، ولا تخفى عليه خافية من أهل السّموات والأرض السرّ عندة كالعلانية. وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على بصر ممن كان له قلب راع وفكرة ثاقبة ونظر فيما يؤول إليه الأمر واستمع قول الله ورسوله سماع قبول. مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال الله بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام: يا سيد الرسل «قُلْ» للناس كافة بأنه «لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ» عند الله في الرّتبة والمنزلة فلا يعادل الحلال الحرام ولا الجيد الرّديء كما لا يستوى الحق والباطل والنّور والظّلمة والكفر والإيمان والأعوج والعدل والزين والشّين فبينهما بون شاسع، فلا تغتر أيها الإنسان بما ترى «وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» لأن عاقبته سيئة وآخرته قبيحة، فأهل الدّنيا يعجبهم كثرة المال وتسرهم زخارفها، وأهل الله يعجبهم ما عند الله ويزداد فرحهم به لأنه باق دائم وذلك زائل فان، والمزق الباقي خير من الذهب البالي «فَاتَّقُوا اللَّهَ» عباد الله وآثروا ما يبقى على ما يفنى واتركوا الشّر واطلبوا الخير «يا أُولِي الْأَلْبابِ» النافعة المفكرة العارفة ما يضرها وما ينفعها. واعلموا أن القليل الدّائم خير من الكثير الزائل، فآثروا الأحسن والأخير «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (100) في دينكم ودنياكم وآخرتكم، روى جابر عن عبد الله أن رجلا قال يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال ان عملت فيه بطاعة الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم إن أنفقت في حج أو جهاد لم يعدل جناح بعوضة، إن الله طيب لا يقبل إلّا الطّيب، فنزلت هذه الآية وهي غاية في نفي المساواة عند الله

[سورة المائدة (5) : الآيات 101 إلى 110]

تعالى بين النّوعين والتحذير من ردّيتهما. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» وتحزنكم وتكدر خواطركم لأنكم لا تقدرون على فعلها أو يعز عليكم تناولها فقد تكون لمضرتكم أقرب من منفعتكم «وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ» أي إذا صبرتم عن السّؤال عنها إلى نزول القرآن فيها فهو خير لكم وإن لم ينزل فيها القرآن فهو خير لكم أيضا، فلا تتعرضوا للسؤال عنها فلعلها محزنة لكم أو تكون تكاليف شاقة لا تطيقونها «عَفَا اللَّهُ عَنْها» عنكم فلم يكلفكم إياها فلماذا تتعجلون على الله بالسؤال عنها وتتطلبونها من حيث لا لزوم لكم بها؟ روى البخاري ومسلم ع عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان قوم يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرّجل من أبي ويقول الرّجل تضل ناقته أين ناقتي، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وروى مسلم عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا أيها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أني كلّ عام يا رسول الله؟ قال فسكت حتى قالها ثلاثا، ثم قال ذروني ما تركتكم، ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ثم سألوا عن البحيرة والسّائبة الآتيتين بعد هذه الآية وعما كان من أعمال الجاهلية وبعضهم اقترح إنزال آية، فأنزل الله هذه الآية ردعا لهم، لأن من سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه العار بان يلحقه صلّى الله عليه وسلم لغير أبيه فيفتضح ويفضح أمه وقومها ومن سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به فيصعب عليه وعلى الأمة أجمع وجوب تكرره، وكذلك من يسأل عن أشياء لم تفرض فيوشك أن تفرض بسبب سؤاله فتكلف الأمة كلها زمرة، فلهذا نهاهم الله تعالى عن السّؤال لحضرته خشية افتراض ما يسألون عنه، فيعجزون عن أدائه، فيعاقبون على تركه «وَاللَّهُ غَفُورٌ» كثير المغفرة للناس لو يعلمون ما قدرها، ولذلك لا يؤاخذكم عما يبدر منكم ويستر عليكم ما تقترفونه خفية لعلكم تتوبون وترجعون، وقد أبت رحمة الله بكم أن يفضحكم لمرة أو مرتين أو يسلط عليكم عدوا منكم وعدوا من غيركم «حَلِيمٌ» (101)

بعفوه عنكم وعدم تعجيل العقوبة وتكليفكم ما لا تطيقون أو تتحرجون منه. روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ان من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على النّاس فحرم من أجل مسألته ورويا عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال واضاعة المال وكثرة السّؤال ثم بين تعالى مدى خطأهم بما ينتج عن السّؤال بقوله جل قوله «قَدْ سَأَلَها» أي هذه المسألة المنهي عنها «قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ» (102) وذلك أن قوم صالح عليه السّلام سألوه إخراج النّاقة من الصّخرة ليؤمنوا بالله فدعا الله ربه، فأجاب دعوته وأخرجها لهم منها، فعقروها وكفروا بها، فأهلكهم الله بسبب سؤالهم، راجع قصتها في الآية 79 من الأعراف في ج 1، وقد سأل قوم موسى رؤية الله جهرة فكانت عليهم وبالا راجع قصتهم في الآية 57 من سورة البقرة المارة، وسأل قوم عيسى المائدة فلما أنزلت كذبوا بها فكانت عليهم وبالا كما سنأتي قصتها في الآية 116 الآتية فإياكم أيها المسلمون والمسألة عن شيء يتعلق بأمر دينكم ومعاملتكم من غير ما فرض الله عليكم منها فتحملون أنفسكم ما لا تقدرون عليه، لأنكم إذا سألتم عن شيء لا وقوع له فلربما يجاب طلبكم ويفرض عليكم فلا تعملون به فيعود عليكم بالوبال ثم قال تعالى ردا للسائلين «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ» هي النّاقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ، ويعمدون إلى ولدها الخامس إن كان ذكرا ذبحوه فيأكله الرّجال والنّساء، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها وخصصوا منافعها للرجال وحرموها على النّساء، فإذا ماتت حلّت للرجال والنّساء «وَلا سائِبَةٍ» هي النّاقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف فما نتجت بعد ذلك من ذكر فعلوا به كما فعلوا بابن البحيرة، وإن كان أنثى شقوا أنفها ثم سيبت مع أمها ويفعل بها كما يفعل بأمها، ومن هذا ما ينذرونه لآلهتهم فإنه يسيب ولا يركب ولا ينتفع به «وَلا وَصِيلَةٍ» هي الشّاة إذا ولدت سبعة أبطن فإذا كان السبع ذكرا ذبحوه وأكله الرّجال والنّساء، وإذا كان أنثى تركوها، وإن ولدت

ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر من أجل الأنثى «وَلا حامٍ» هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يذبح، حتى إذا مات أكله الرّجال والنّساء، هذا مما اختلفوه من أنفسهم لأن الله تعالى لم يأمر بشيء منه ولم ينزله في كتابه، ولم يكلف هؤلاء الجهلة تلك الأمور بل ابتدعوها ابتداعا، ومن هذا القبيل الأفعال المارة في الآية 139 فما بعدها من سورة الأنعام المارة في ج 2 فهي أيضا لا أصل لها في الشّرائع السّماوية ولم ينزل الله شيئا منها في كتابه على أحد من أنبيائه «وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» يحرمون ويحللون تبعا لآبائهم الّذين اخترعوا ذلك «يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» في نسبة ما يحلونه أو يحرمونه اليه تعالى «وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (103) بأن هذه الأشياء ابتدعها رؤساؤهم وقلدوهم بفعلها من غير علم بأحقيتها. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا (هو عمر بن عامر بن لحي بن قمعه بن خندق أخر بني كعب) يجرّ قصيه (أمعائه) في النّار، وهو أول من سيّب السّوائب وتبعه من بعده الناس والضّمير في أكثرهم يعود للاتباع المقلدين هذه العوائد المختلفة، لأن فيهم من يعقل إنها ليست بشيء ولكن لا يقدرون أن يستبدوا وحدهم بتركها ولا يستطيعون منع غيرهم. قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ» فاعملوا به وافعلوا عن هذه الأعمال الواهية التي لا أصل لها «وَإِلَى الرَّسُولِ» أي اركنوا إليه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى الله من هذه الأشياء وغيرها، ويوضح لكم ما حرم عليكم وأحل لكم كما أنزل الله «قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من حلال وحرام، فهو كافينا عن مراجعتكم لا نريد غيره، فردّ الله عليهم بقوله «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ» الّذين قلدوهم بها «لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً» من طرق التحليل والتحريم «وَلا يَهْتَدُونَ» (104) إلى طريق الحق ودين قويم وشريعة صحيحة وصراط مستقيم، أتقتدون بهم وهم على ضلال، أليس هذا جنونا وحمقا وسفها، لأن الاقتداء إنما يعتبر إذا كان المقتدى به عالما مهتديا عاقلا مفكرا

مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية:

لا جاهلا ضالا غبيا، ولكن إذا كان الأكثر منهم على هذا فانهم يسيطرون على الأقل لأن الحكم غالبا للأكثرية. مطلب لا يستفاد من هذه الآية ترك الأمر بالمعروف وكيفية استماع الشّهود على وصية الميت وسبب نزول هذه الآية: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» فالزموها وأصلحوها واحفظوها من الوقوع فيما لا يحل، واعملوا لخلاصها من عذاب الله وما يقربها منه وباعدوها عن الحرام، ولا تركنوا إلى الظّلم فتمسكم النّار، فإذا تقيدتم بهذا وفعلتموه فاعلموا أنه «لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» إلى ذلك وتمسكتم به وقمتم بالحق، لأن عصيان الباغي وكفر الطّاغى لا يضركم، وإنما يعود ضرره عليه إذا نصحتموه ولم يقبل نصحكم ولم يسترشد بإرشادكم، ولم يؤمن كإيمانكم وهؤلاء ان كانوا كافرين مشركين فاقسروهم على الإيمان إذ لا دين لهم، وان لم يقبلوا فاقتلوهم، وان كانوا كتابيين فاضربوا عليهم الجزية واتركوهم وشأنهم لأنكم لم تؤمروا بقتالهم على الإسلام. قال تعالى (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) الآية 257 من البقرة راجع تفسيرها تعلم أن دين الإسلام قام بالعدل لا بالإكراه، وبالرغبة لا بالرهبة، ولهذا فإن حضرة الرّسول لم يجبر أحدا من أهل الكتابين على الإيمان به، هذا وليعلم أن المطيع من هذه الأمة لا يؤخذ بذنب العاصي، كما لا ينتفع العاصي بطاعة المطيع، وان المؤمن لا يؤخذ بذنب الكافر، والكافر لا ينتفع بإيمان المؤمن، راجع الآية 10 من سورة التحريم المارة. قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في أهل الكتاب أي في عدم جبرهم على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم لأنكم وإياهم «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» في الآخرة وحينذاك «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (105) في هذه الدّنيا. واعلم أن هذه الآية لا يستدل فيها على عدم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كما زعم بعضهم وضرب بها المثل، لأن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ثابتان بالكتاب والسّنة ثبوتا قطعيا لا قول فيه البتة؟ أخرج الترمذي عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه قال أيها النّاس انكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ) إلخ ولا تضعونها موضعها

ولا تدرون ما هي، واني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن النّاس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه. وأخرجه أبو داود بزيادة ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلّا يوشك أن يعمهم الله بعقاب. قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قيل منكم فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم، إن القرآن نزل منه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن كقصص الأوّلين وأخبارهم، ومنه وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومنه أي قد وقع تأويلهن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيسير، كارتداد بعض العرب والحوادث التي وقعت، ومنها قتل عثمان رضي الله عنه، ومنه آي يقع تأويلهن آخر الزمان كأشراط السّاعة وغيرها (والأشياء المحدثة مما أشار إليها القرآن وحضرة الرّسول من البواخر والصّواعق وتقارب البلدان وكثرة القتل وغيرها) راجع الآية 8 من سورة النّحل ج 2 ومنها آي يقع تأويلهن يوم القيامة كالحساب والعقاب والنّار، فما دامت قلوبكم واحدة فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وإذا اختلفت قلوبكم وأهواءكم والبستم شيعا وأذاق بعضكم بأس بعض جاء تأويل هذه الآية ويكون على كلّ امرئ نفسه، قيل لا بن عمر لو صليت في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله يقول «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» فقال إن هذه الآية ليست لي ولأصحابي لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشّاهد الغائب، فكنا نحن الشّهود وأنت الغائب، ولكنها لأقوام بعدنا ان قالوا لم يقبل منهم. وأخرج الترمذي في حديث غريب عن أمية الشّعباني قال أتيت أبا العالية الحسني فقلت كيف نصنع بهذه الآية، قال أيّة آية؟ قلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إلخ قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيّام الصّبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. وفي رواية قبل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال لا بل أجر خمسين رجلا منكم. راجع الآية 39 من سورة الرّوم

في ج 2 في بحث التفرق في الدّين تجد ما يتعلق بتمام هذا البحث، قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إن مما أمرتم به «شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» أي أن يشهد ما بينكم «إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» قارب وقته بما يراه المريض من نفسه أو يرى أولياؤه فيه من علاماته وأراد أن يوصي بشيء فليشهد «حِينَ الْوَصِيَّةِ» على ما يوصي به من بعده «اثْنانِ» بالرفع خبر شهادة رجلان «ذَوا عَدْلٍ» موصوفان بالعدالة من أهل الصّلاح والتقوى والأمانة «مِنْكُمْ» من ملتكم المؤمنين، وإذا لم يوجد حين الوصية من أهل دينكم فأشهدوا من حضر من الملل الأخرى، وقدموا أهل الكتاب على غيرهم لشمول قوله تعالى «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» أي من أي ملة كانوا «إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ» سافرتم «فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» فإذا أدى هؤلاء الشّهود شهادتهم ور كنتم إليها فاعملوا بها، وإلّا إذا اتهمتموهم بالخيانة أيها الأولياء والورثة فلكم أن «تَحْبِسُونَهُما» توقفونها «مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ» الأحسن أن تكون صلاة العصر لما جاء فيها من الأخبار، واللّفظ مطلق يدخل فيه كلّ صلاة مفروضة، لأن أل فيها للعهد، والقصد من تحليفهما بعد الصّلاة اجتماع النّاس ليشهدوا حلفهما ويتبينوا صدقهما من كذبهما، لأن الرجل قد يحلف وحده ويستنكف عن الحلف أمام النّاس خشية سوء سمعته، وكان أهل الحجاز قبلا يقعدون للخصومة بعد العصر، هذا إذا كانا مسلمين، وإذا كانا كتابيين أو من ملة أخرى يحلفون بالوقت وفي المكان الذي يعظمونه، ولهذا كانت اللام للعهد، إذ لو كانت للجنس لكان التحليف بعد مطلق صلاة وكأن لم يشهده أحد وفي شهوده فرية للتحليف، تدبر «فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ» أمام الجمع الغفير بحضور الورثة في أعظم محل معظم عندهما، فإذا كان بالمدينة مثلا يكون التحليف في مسجد رسول الله عند المنبر الشّريف، وإن كان في المسجد الأقصى يكون عند الصّخرة الشريفة، وإذا كان في مكة يكون بين الرّكن والمقام، وفي البلدان الأخرى في أعظم مسجد عندهم، وإن كان من الكتابيين في القدس في كنيسة القيامة، أو في بيت لحم، عند محل الولادة الشّريفة، أو في ضريح موسى عليه السّلام، أو في أعظم كنيسة أو بيعة، أو عند المبكى، وكذلك إذا كانا كافرين ففي أعظم

محل يعظمونه وبحضور علمائهم وقسوسهم ورهبانهم وحاخامهم ورؤساهم، وهذا التحليف لا يكون إلا «إِنِ ارْتَبْتُمْ» في صدقهما وظننتم الكذب في شهادتهما ويكون اليمين بالله تعالى وحده، ويجوز أن يشدد الحلف بشيء من صفاته الجليلة، وإذا كانا كتابيين جاز توثيق حلفهما بالتوراة والإنجيل، أما الكفار فبالله فقط، لأن ما يعظمونه لا قيمة له عند الله، سواء كان إنسانا أو حيوانا أو كوكبا أو جمادا لأنها كلها أوثان لا يجوز تعظيمها بالحلف ولا بغيره، وتعظيم الزمان هنا مثل كونه بعد العصر مما يكثر فيه الجماعة، وفي المكان مثل الجوامع والبيوت المعدة لذكر الله عند أهل الأديان والصّيغة بأن يقول والله العظيم المنتقم الجبار الذي أنزل القرآن على محمد، أو التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، أنّا نقول الحق ونشهد به «لا نَشْتَرِي بِهِ» أي اليمين الذي هو عهد الله الذي أقسمنا به «ثَمَناً» عوضا بشيء من حطام الدّنيا، ولا نحلف كاذبين بالله لأجل عوض نأخذه، أو غرض نقصده، أو شيء نرغبه، أو حق نجحده، أو خوف نهابه «وَلَوْ كانَ» المشهود له «ذا قُرْبى» منا «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ» التي أمرنا بحفظها ونهينا عن كتمها «إِنَّا إِذاً» إن كتمناها أو شيئا منها أو أدينا هذه الشّهادة على غير ما هي، أو خنّا فيها ولم نؤدها كما سمعناها من الموصي «لَمِنَ الْآثِمِينَ» (109) عند الله المستوجبين عقوبة شهادة الزور «فَإِنْ عُثِرَ» اطلع وظهر بعد حلفهما هذا «عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً» أي عقوبة لظهور خيانتهما وبيان كذبهما (وكلّ من اطلع على أمر كتم عليه أو أخفى عنه قيل له عثر عليه «فَآخَرانِ» أي شاهدان من أولياء الميت وأقربائه «يَقُومانِ مَقامَهُما» مقام الوصيين الّذين اطلع على كذبهما في اليمين وخيانتهما فيما أوصاهما به الميت أو أشهدهما على ما أوصى به، وهؤلاء لا يكونان إلا «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ» أي جنى عليهم من أهل الميت وعشيرته وأقربائه «الْأَوْلَيانِ» بالميت في غيرهما الأحقان بإرثه «فَيُقْسِمانِ» هذان المختصان بإرث الميت، ويجب أن يراعى فيهم الأقرب فالأقرب، لأن الله تعالى وصفهما بالأولوية «بِاللَّهِ» يحلفان به جل جلاله في الزمان والمكان والصّفة المذكورة آنفا وبتعظيم اليمين بشيء من صفات الله وكتبه

وبحضور جماعة بعد الصّلاة، وحضور رؤساء الدين كما مر في الشّاهدين الأولين، لأن الله تعالى قال (يَقُومانِ مَقامَهُما) أي بكل ما هو مطلوب في الشّاهدين الأولين يطلب في هذين، ثم يزيدان في حلفهما ثلاثة شروط أخر في صيغة الحلف علاوة على الشّروط المارة، وهي ما ذكرها الله بقوله عز قوله «لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما» أي أعدل من شهادة الوصيين والشّاهدين الّذين حلفا أولا، وأيماننا نحن الوليين أصدق من أيمانهما، ويقولون أيضا «وَمَا اعْتَدَيْنا» في حلفنا هذا ولم نتجاوز الحق فيه ولم نتعد الصّدق به، ويختمون حلفهم بما قاله تعالى «إِنَّا إِذاً» إن كنا كذبنا بحلفنا أو زدنا في قولنا أو نقصنا أو غيرنا شيئا فيه «لَمِنَ الظَّالِمِينَ» (107) أنفسنا وغيرنا المستحقين عقاب الله للكاذب المعتدي المتجاوز الحق «ذلِكَ» الحكم الذي ذكرناه من رد اليمين على أولياء الميت عند الاشتباه بالوصيين بعد حلفهما «أَدْنى» أقرب وأولى «أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها» بأن يؤدوها كاملة كما سمعوها دون زيادة ولا نقص ولا تغيير ولا تبديل ولا خوف ولا خشية ولا غرض ولا عوض ولا تحوير ما كما هو الواجب على جميع الشّهود في جميع الخصومات أن يكونوا كذلك «أَوْ يَخافُوا» أي وأقرب وأولى لخوف الأوصياء والشهداء الأولين في «أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» على أولياء الميت، كما في هذه الحادثة الآتي بيانها فيفتضحون بظهور خيانتهم ويسقطون من أنظار النّاس، كما افتضح هؤلاء في الدّنيا واستحقوا عذاب الله في الآخرة كما استحقاه «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أنتم أيها الأولياء والأوصياء والشّهداء، من أن تخونوا أو تكذبوا فيما عهد إليكم به أو كلفتم بيانه «وَاسْمَعُوا» ما يعظكم الله به، وأطيعوا أمره، ولا تخرجوا عن حدوده، «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (108) المتجاوزين أمره المخالفين نهيه الحائدين عن طريق الصّواب. واعلم أن رفع (اثْنانِ) على خبر كما جرينا عليه أولى من جعله فاعلا على قول الغير إذ يحتاج إلى تقدير جملة وهي (فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان) وأولى من قراءة النّصب في شهادة، وجعل جملة (إذا حضر) ظرفا للشهادة، وجملة (حين الوصية) بدلا منه، وفي إبداله دليل على وجوب الوصية وهو كذلك حرصا على براءة الذمة فيما له وعليه، راجع الآية 8

من سورة النّساء المارة. وخلاصة هذه الحادثة على ما روي بأن تميما الدّاري وعدي بن بدا النّصرانيين خرجا في تجارة إلى الشّام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص فمرض فكتب جميع ما عنده في كتاب وجعله بين أمتعته وأوصى تميما وعديا أن يدفعا متاعه لأهله في المدينة، ومات رحمه الله ففتشا متاعه فوجدا فيه إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، وغيباه، فلما رجعا إلى المدينة دفعا متاعه لأهله، ففتشوه فوجدوا الكتاب، فقال أهل الميت لهما هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا لا، قالوا هل اتجر تجارة؟ قالا لا، قالوا هل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه؟ قالا لا، قالوا إنا وجدنا في متاعه كتابا فيه جميع ما كان معه، وقد فقدنا إناء فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، قالا لا ندري به، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتى بهما فأصرّا على الإنكار، فحلفهما رسول الله عند المنبر بطلب الورثة فحلفا وخلى سبيلهما، لأن الكتاب بخط المتوفّى لا بخطهما، ولذلك فإن حكمه لا يسري عليهما ولا توجد بينة حاضرة غيرهما، قالوا ثم بقي ورثة الميت يتحرون على ذلك الإداء، فوجدوه بمكّة عند رجل اعترف أنه اشتراه منهما. فجيء بهما أمام رسول الله فسألهما، فقالا إنا اشتريناه من بديل قبل وفاته وبعناه إلى هذا بمكة، وإذ لم يتذرعا بهذا الوضع عند سؤالهما أولا وحلفهما على عدم وجوده عد كلامهما تناقضا مانعا من سماعه، فقد طلب حضرة الرّسول البينة من أهل الميت فتقدم عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة من أهله وورثته وحلفا بعد العصر على الصّورة المذكورة في الآية، وأن الإناء لمورثهما فدفع الإناء إليهم، وأفهم المشتري أن له حق الرّجوع باسترداد ثمنه من المذكورين، ولما أسلم بديل قال صدق الله إنا أخذنا الإناء وبعناه، فنزلت هذه الآية. الحكم الشّرعي عدم وجوب الحلف على الشّهود وعليه فيراد بهما الوصيان، وهما لا يحلفان إذ لا حلف عليهما إذا أرادا براءة ذمتهما فيحلفان ليطمئن الوارث بقولهما، فلهما ذلك، والاستشهاد مطلوب على الوصية، وهذه الحادثة لم يشهد عليها لعدم وجود أحد إذ ذاك غيرهما والموصي، ومن زعم أن هذه الآية منسوخة على رأيه لأن شهادة الكافر لا تقبل على المسلم اقتباسا من قوله تعالى (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الآية 283

من سورة البقرة فهو زعم فاسد، لأن آية البقرة مقدمة على هذه، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وقد أجمعت العلماء على أن المائدة من آخر القرآن نزولا ولا نسخ فيها البتة، وهذه الآية المصدرة بيا أيها الّذين آمنوا صرحت أولا بلفظ (منكم) بما يدل على أنه يريد المؤمنين، وفي حالة عدم وجود أحد من المؤمنين قال (من غيركم) وغير المؤمنين يدخل فيه الكتابي والكافر بما يدل على قبول شهادة غير المؤمن دلالة ظاهرة لا احتمال فيها ولا تأويل، ولهذا فإن الله تعالى أوجب الحلف على المذكورين لأن الشّاهد المسلم لا حلف عليه، وغيره يحلف للتوثق منه، وإذا جاز نصا استشهاد غير المسلم فلأن تجوز توصيته من باب أولى حرصا على محافظة الحقوق وصيانته أربابها، لأن من كان بأرض لا إسلام فيها يجوز أن يشهد أو يوصي من حضر عنده كتابيا كان أو كافرا، لأن الضّرورات تبيح المحظورات، وكما يختار المسلم على غيره عند وجوده يختار الكتابي على الكافر، قال القاضي شريح: تقبل الشّهادة في مثل هذه الحالة ولو كافرا من عبدة الأصنام. أخرج أبو داود عن الشّعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري، فأخبراه وقدما تركته ووصيته، فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرّجل وتركته، فأمضى شهادتهما ولأنه لو لم يشهد في مثل هذه الحالة من حضر عنده من النّاس أيا كان يضيع المال ولربما كان له ديون أو عليه أو عنده وديعة أو أمانة فيسبّب عدم الإشهاد ضياع ذلك، ولهذا فلا مانع شرعا من ذلك، بل يطلب أن يشهد أو يوصي غير المسلم ولو كان وثنيا على وصيته عند الحاجة. مسألة: إذا ادعى الوصي أن الميت باعه شيئا من متاعه أو أوصى له به أو وهبه إياه ولا شهود لديه على ذلك، والورثة تنكر، فيحلف الوصي على ذلك، ثم ترد اليمين على الورثة الأدنياء من الميت، فإذا حلفوا على كذب الوصي الموصى له بذلك الشّيء أخذوا المال المدعى بيعه أو هبته أو الوصية به، وإذا فكلوا ترك الموصي، وهذا تصوير ما جاء

في هذه الآية لأن تميما وعديا بعد أن وجد الإناء ادعيا أنهما اشترياه من الميت ولا بينة لهما، فلذلك حلف الورثة على أنه ملك مورثهما وأنهما لم يعلموا بأنه خرج من ملك مورثهم بوجه من الوجوه الشّرعية. واعلم أن هذه الآية وأوائل سورة البينة والآية 73 من آل عمران المارتين من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وأعرابا وحكما فكانت من أصعبها تفسيرا أيضا. قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرّسل «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» يوم القيامة للسؤال «فَيَقُولُ» جل قوله لهم «ماذا أُجِبْتُمْ» من قبل أممكم حينما دعوتموهم في الدّنيا الى توحيدي وطاعتي وهذا الاستفسار بقصد التوبيخ لأقوامهم الّذين لم يلبوا دعوتهم، وإلّا فهو عالم بمن أجاب ومن اعرض «قالُوا لا عِلْمَ لَنا» يا ربنا «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (109) تعلم بما كان منهم وإنما اختاروا السّكوت عن البيان مع أنهم يعلمون بعض أحوال أممهم أدبا مع الله عز وجل، ولعلمهم بإحاطة علمه بكل شيء قد فوضوا الأمر اليه لأنه لا يعرّب عن علمه شيء مما عمله أقوامهم ولا شيء مما عملوه هم أيضا لأجلهم، وانهم وان كانوا اطلعوا على بعض ظواهر أممهم فانهم لا يعلمون بواطنهم وهو جل شأنه حليم لا يسفه وعادل لا يظلم، وانّ إجابتهم لا تدفع في ذلك اليوم عن أممهم شرا ولا تجلب لهم خيرا ما لم تتعلق به المشيئة فكأنهم قالوا لا حقيقة لعلمنا إزاء علمك البالغ ولا نعلم حقيقة أفعالهم وأقوالهم تجاه علمك بذلك حال حياتنا معهم ولا ما أحدثوه بعد وفاتنا فعلم ذلك كله مختص بعلمك. واذكر يا أكمل الرّسل لأمتك «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ» إذ أنبتها نباتا حسنا وطهرتها واصطفيتها على نساء زمانها وهذا أول نعمة أنعمتها عليك إذ أخرجتك منها و «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» جبريل عليه السّلام حالة كونك «تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» وأنت طفل أنطقتك ببراءة أمك مما وصمها به قومك «وَكَهْلًا» تكلمهم أيضا بما أعطيتك من المعجزات وأنزلت عليك الآيات، وشرفتك بالرسالة لتدعو قومك حال بلوغك سن الكهولة إلى الإيمان بك من غير تفاوت في كلامك من حيث الفصاحة في هذين الوقتين، وهذا من جملة ما خصصتك به «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ» الإنجيل الذي أنزلته عليك بعد أن

علمتك الكتابة والقراءة تتلو عليهم، وقيل إنه علمه كتب الأولين النّازلة على الأنبياء قبله لأن فيها التوراة، مع أن التوراة ستأتي بعد، ولهذا فالأحسن الإيراد بالكتاب هنا الكتابة بالقلم «وَالْحِكْمَةَ» الفهم والاطلاع على أسرار العلوم والعالم والكلام الصّائب المحكم وحقائق الأشياء «وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» قراءة وتلقينا ولفظ الكتاب يطلق على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن فقط حقيقة، ومجازا على جميع الكتب والصّحف، ومن المعلوم أن ما قبل التوراة كلها صحف لا كتاب قبلها البتة، لهذا فإن تأويل الكتاب بكتابة القلم أولى «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ» خلقا تصوره بيدك «كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي» لك في ذلك وتعليمي إيّاك تقوية لدعوتك «فَتَنْفُخُ فِيها» في الصّورة التي صورتها من الطّين على هيئة الطّير ويجوز إعادة الضّمير إلى الطّير لأنها مؤنثة. قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) الآية 19 من آل عمران المارة تذكير الضّمير، وهناك يعود إلى الكاف من قوله لكم أو إلى الطّين والمراد الشيء المماثل لهيئة الطّير «فَتَكُونُ» تلك الصورة المنفوخ فيها «طَيْراً بِإِذْنِي» بأمري وكرره تأكيدا لكونه وقع وصار كما أراد بتوفيق الله تعالى وقدرته لا بتخليق عيسى ومعرفته، لأن المخلوق لا يخلق وأن التصوير بغير الرّوح لا يسمى خلقا «وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ» مطموس العينين ولادة، فكأن عليه السّلام تعلم ذلك بتعليم الله إياه وأمره أن يشق له موضع عينيه فتكون له عينان يبصر بهما كغيره من الحيوان بلا فرق «وَالْأَبْرَصَ» تبرأ أيضا بمجرد مسحك إياه «بِإِذْنِي» وأمري «وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى» من قبورهم أحياء، كما صح أنه عليه السّلام نادى ساما بن نوح عليه السّلام من قبره فقام، راجع الآية 50 من آل عمران المارة، مع أنه مرّ على وفاته آلاف السّنين وأحيا العازر، وابن العجوز، وبنت العشار، وغيرهم ممن مات حديثا ودفن، ولا فرق في ذلك، لأن الله تعالى يقول كان ذلك «بِإِذْنِي» وإذا كان بإذنه وأمره فيستوى عنده القديم والحديث، والبالي والباقي، فهو الفاعل الحقيقي لهذه الأشياء، وإنما أجراها على يد رسوله عيسى عليه السّلام معجزة له وعدها من جملة نعمه عليه في الدّنيا «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ» حين أرادوا

[سورة المائدة (5) : الآيات 111 إلى 120]

قتلك إذا دلهم عليك صاحبك المنافق وجاء بهم عليك ليقتلوك فمنعتهم أن يصلوا إليك ورفعتك إلى السّماء وألقيت شبهك على ذلك المنافق فقتلوه بذلك جزاء وفاقا لجرمه، هذا في الدّنيا وصلبوه إهانة له، وسيكون جزاؤه في الآخرة أشدّ وأفظع، ثم رفعتك إلى السّماء وأقمتك فيها لانتهاء مدتك الأولى في الأرض، راجع الآية 54 من سورة آل عمران المارة، وما كانت عداوة بني إسرائيل معك «إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ» العجيبة والآيات الباهرة الغريبة المثبتة لصدقك فكفروا بها حسدا وعدوانا وتمسكا بتقاليدهم لبقاء الرّياسة لهم «فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» بتلك الآيات «إِنْ هذا» الذي جئت به ليس بحقيقة وما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (110) وذلك أن الله تعالى طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم فلم يميزوا بين الحقيقة والخيال عنادا وعتوا، تنبه هذه الآية تدل على قبح من يقول بإلهية عيسى، لأنه من جملة عباد الله، وأن ما فعله من المعجزات كان بفعل الله وإقداره عليها، وتدل على أنه كان عبد الله ورسولا له، ليس إله، ولا ابنا للإله، وأن أمه كسائر النساء، وإنما اختصها بما يكرمها ويفضلها على غيرها. وتشير إلى أن ما نسب إلى عيسى جرم عظيم لا يوازيه جرم من كذّب الرّسل فقط، لأن تكذيبهم طعن فيهم، وهذا طعن في الله تعالى لو صمه باتخاذ الولد والزوجة والشّريك تبرأ عن ذلك وتنزه. واذكر لقومك يا حبيبي قصة أخرى مما يتعلق بعيسى أيضا وهي «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ» أصحاب عيسى فالهمتهم وقذفت في قلوبهم «أَنْ آمِنُوا بِي» أنا الله ربكم ومالك أمركم «وَبِرَسُولِي» عيسى كما آمن الّذين من قبلكم بأنبيائي «قالُوا آمَنَّا» استجابة لما ألقيته في روعهم، ثم قالوا معلنين تمكين إيمانهم يا ربنا «وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» (111) لك منقادون إلى عظمتك والحواري الصّفي والخاصّة والوزير والأمين والخليفة، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب النّبي صلّى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال صلّى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير بن العوام رضي الله عنه أي صفيه وخاصته، وقد أخبر صلّى الله عليه وسلم بأنه يقتل، فقال بشر قاتل الزبير بالنار، وقتل رضي الله عنه في حادثة الجمل قبل البصرة ودفن هناك، وقبره يزار بالتعظيم والإجلال حتى الآن، وقد

تشرفت بزيارته رضي الله عنه، وسميت البلدة التي دفن بها باسمه، وهذا أيضا من معجزات سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب الذي أطلعه الله عليه. واذكر لقومك يا سيد الرّسل «إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ» خوانا عليه طعام إذ لا يسمى الخوان مائدة إلّا وعليه الطّعام، وإلّا فهو خوان أو سفرة أو طبق أو طاولة «قالَ» عيسى عليه السّلام «اتَّقُوا اللَّهَ» يا قوم في سؤالكم هذا، لأنه اقتراح على الله، وقد علمتم ما فعل الله بالمقترحين عليه، لأن طلبكم هذا بعد ظهور المعجزات المذكورة، وبعد وجودي أنا من غير أب، وهو أكبر معجزة عبارة عن تعنّت يستوجب غضب الرّب عليكم، فانتهوا عن هذا يا أصحابي وتدبروا العاقبة وخذوا عبرة من الّذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات كيف فعل الله بهم، فأعرضوا عن هذا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (112) بالله وإياكم أن تركنوا إليه، واعلموا أنكم إذا أصررتم على هذا تكونون ممن يشك بقدرة الله القادر على إجابة طلبكم. وإنما خوفهم وحذرهم لأن هذا لم يسأله أحد من الأمم قبلهم، وانه مما تخشى عاقبته، لأن قوم صالح اقترحوا على نبيهم شيئا لم يقترحه أحد قبلهم، فكانت عاقبتهم الدمار، قال بعض المفسرين إن طلبهم هذا جاء على حد قوله تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السّلام (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية 263 من البقرة المارة، لأنهم كانوا عارفين بالله مقرين بكمال قدرته على أنه لا مانع من إجراء الآية على ظاهرها كما يؤيده قوله تعالى «قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» حيث لحقنا الجوع والحال ليس بهم من جوع ولكن يريدون معرفة حق اليقين بعد أن علموا من نبيهم علم اليقين، ومما يدل على عدم وجود الجوع أمرهم بالصيام كما سيأتي «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا» بقدرة الله فنزداد يقينا «وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا» عيانا ومشاهدة كما علمناه غيبا واستدلالا «وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ» (113) لمن وراءنا من بني إسرائيل ولله بكمال القدرة ولك بالقرب من ربك أكثر ممن تقدمك من الرّسل ولأنفسنا بالتصديق البالغ، فلما رأى إصرارهم وإجماع كلمتهم على ذلك أمرهم عليه السّلام بصيام ثلاثين يوما وقال لهم إذا أفطرتم بعدها فلا تسألوا الله شيئا إلّا أعطاكم إياه، ففعلوا.

مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه:

مطلب في نزول المائدة وما قاله عيسى عليه السّلام لطالبيها وما أجاب به ربه عند سؤاله عما عزى إليه قومه: وعند ذلك «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً» نتخذه من عوائد برك وإحسانك وجودك وكرمك خاصّا «لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» ممن يأتي بعدنا عاما «وَآيَةً مِنْكَ» لنا دالة على كمال عظمتك وبالغ قدرتك وتصديقا لنبيك «وَارْزُقْنا» هذه المائدة وألهمنا الشكر عليها «وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (114) لأنك ترزق بغير حساب وتعطي بغير مسألة، فاستجاب الله تعالى له حالا بدلالة عدم وجود العطف على دعائه، بما يدل على عدم التراخي، إذ «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» قالوا نزلت يوم الأحد، واتخذه النّصارى عيدا بدل السّبت من ذلك اليوم «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ» إنزال هذه المائدة ومشاهدتها والأكل منها «مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» (115) قبلكم ولا بعدكم لأنه آية حسيّة ملموسة لا يمكن أن يقال إنها سحر أو غيره، ولأنها وقعت عن اقتراح، وقد جرت عادة الله بتعذيب المقترحين إذا لم يؤمنوا تعذيب استئصال، قالوا فجحدها جماعة من بني إسرائيل وكفروا بها فمسخوا خنازير، خزيا لهم وهوانا، وهو عذابهم الدّنيوي والعذاب الأخروي مخبوء لهم، وهو أشد وأفظع خزيا ومهانة، فكانت وبالا على المنكرين، وفاز من صدق بصحبة نبيه، ونجا مما حل بهم. ولا وجه لقول من قال إن المائدة لم تنزل، لأن الله تعالى قال (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي إن أردتم لأن قول الله هذا من قبيل الوعد وهو لا يخلف الميعاد، والذي ينكر هذه ينكر نتق الجبل على بني إسرائيل أيضا، لأنه كان معلقا على قبولهم الأخذ بالتوراة أخرج الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال صلّى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السّماء خبزا ولحما، وأمروا ألّا يخونوا ولا يدخروا، ولقد خانوا وادخروا ورفعوا للغد، فمسخوا قردة وخنازير. وقال عبد الله بن عمر: إن أشد النّاس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون أي لقوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الآية 140 من النّساء المارة، وقوله في آل فرعون

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية 47 من سورة المؤمن ج 2، ولقوله في أصحاب المائدة (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الآية المارة، قال ابن عباس نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فلما رأوها لا تشبه موائدهم قال شمعون أكبر الحواريين أمن طعام الدّنيا يا روح الله؟ قال لا من طعام الدّنيا ولا من الجنّة، ولكنه شيء اخترعه الله لكم، فكارا مما سألتم واشكروا الله يزدكم، قالوا كن أول من يأكل، قال إنما يأكلها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا إليها أهل الفاقة والمرض، فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وهي بحالها ثم طارت وهم ينظرون إليها حتى توارت صعودا، قال الكلبي ومقاتل أنزل الله سمكة وخمسة أرغف فأكلوا منها ما شاء الله، فلما نشروا الخبر ضحك من لم يشهدها وقالوا سحركم، فمن أراد الله به خيرا ثبّته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا، قالوا وليس فيهم صبي ولا امرأة، وبعد ثلاثة أيّام هلكوا، وكذلك كلّ ممسوخ، قالوا والسّبب في تسميتهم حواريين إنهم كانوا قصارين أي صباغين، وان مريم عليها السّلام كانت وضعت عيسى عند رئيسهم ليتعلم منه، وكان عرض له سفر فقال يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الصّنعة وهذه ثياب قد علمت عليها بخيط من جنس الذي تصبغ به، وهذه أواني الصّبغ ودتان مختلفة بحسبها فأريد أن تصبغ كلا منها في دنه بمقتضى اللّون المطلوب، وان تفرغ منها قبل قدومي، وتركه وذهب، فقام عيسى فطبخ دنا واحدا بلون واحد ووضع الثياب كلها فيه، وقال كوني بأمر الله على ما أريد منك من الألوان مثل ما قال المعلم فقدم معلمه وقال له ماذا عملت بالثياب؟ قال فرغت منها وهي هذه كلها في جب واحد، قال أفسدتها وسببت لي خصومة أهلها، قال عيسى لا، ثم أخرجها فإذا هي كما أراد: الأصفر أصفر، والأحمر أحمر، والأخضر أخضر، والأسود أسود، فتعجب المعلم من ذلك وعلم أن هذا من الله، فآمن به هو وأصحابه وأظهروا معجزته للناس. وقيل سموا حواريين لصفاء قلوبهم. واذكر يا محمد لقومك أيضا «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي

وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فبادره عيسى بكلمة التبري «قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ» قولا «ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أن أقوله وكيف يكون ذلك مني وأنا عبد محتاج لا أستحق العبودية، ولا حاجة لتقديم المعذرة في مثل هذا اليوم العظيم، لأن المقام مقام تواضع وخشوع إلى جلالك وإني «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ» كما قيل عني «فَقَدْ عَلِمْتَهُ» يا رب وهذا جواب على غاية من الأدب ونهاية من الاحترام وبعيد في المسكنة، إذ فوض الأمر المسئول عنه إلى ربه لعلمه أنه عالم به في الأزل وعالم بما قاله وعمله منذ خلقه إلى يوم سؤاله فما بعد ذلك، ولهذا قال «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» لأنك تعلم حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، وهذا من الفصاحة بمكان لأنه وقع على طريقة المشاكلة والمطابقة، ثم أكد قوله هذا بقوله «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (116) مما كان وسيكون من مبدأ الكون إلى نهايته وما بعد ذلك إلى الآخرة وما يكون فيها. وبعد أن مهّد جوابه هذا إلى ربه واستأنس من جبروته بما وفق إليه من الجواب قال يا رب وعزتك «ما قُلْتُ لَهُمْ» شيئا من نفسي «إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ» من الوحي الذي شرفتني به وهو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» لا تشركوا به غيره «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» مقيما أراقبهم على أعمالهم وأقوالهم وأنصحهم وأرشدهم لتوحيدك والإصلاح بين النّاس «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي» بانقضاء أجلي في الدّنيا أولا ورفعي إلى السماء إذ نجيتني من كيد اليهود «كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» من بعدي كما كنت رقيبا علي وعليهم وعلى الخلق أجمع من قبل «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (117) في الدّنيا والآخرة لا يغيب عنك عمل عامل من خلقك ولا شيء من أمرهم الآن وفيما مضى ويأتي، ثم لما أطلعه على ما وقع منهم من المخالفات لتعاليمه أحجم عن الدّفاع عنهم وقال متضرعا يا رب قد وقع منهم ذلك وأنت أولى بهم من «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ» على ما صدر منهم وهم مستحقون العذاب «فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وقد جحدوا آياتك وكذبوا رسلك وافتروا عليك وعلي وأنت الحكم المقسط بمن يكفر بعد ظهور دلائل الإيمان له ووجود الحجة عليه بعد ظهور

المحجة، وهم الآن معترفون بما وقع منهم إذ لا يقدرون على دفع ما تنزله فيهم من العذاب ولا رفع ما وجب عليهم من العقاب كما كانوا عاجزين قبل بل هم الآن أعجز «وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ» كفرهم وتطاولهم وبهتهم ومخالفتهم فبفضل جودك ولطف رحمتك وعطفك على عبادك، وأنت الذي لا تسأل عما تفعل ولك تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وما هذا عليك بعزيز «فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ» الذي لا عزيز غيرك الغالب الذي لا يفلت أحد مما تريده به «الْحَكِيمُ» (118) بأفعاله بعباده. واعلم أن هذا القول من الله تعالى إلى عيسى يوم القيامة بدليل قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية الآنفة وبدليل سياق الآية نفسها لأنها بلفظ الاستفهام الإنكاري تقريعا لمن ادعى ذلك في عيسى وألصق به ما هو براء منه وتوبيخا لهم على رءوس الأشهاد، ووجه السّؤال تثبيت الحجة على قومه وتكذيبا لادعائهم بإلهيته وإن من قال بإلهيته قال بإلهية أمه على سبيل التبعية لأنها ولدته وقال بأن الله ثالث ثلاثة أيضا، ولا يقال بعدم لياقة طلب المغفرة من عيسى عليه السّلام لقوم كافرين، لأن قوله ذلك ليس على طريق المغفرة ولو كان لقال (إنك أنت الغفور الرّحيم) لأن هاتين الصّفتين لائقتان بهما ولكنه قال ذلك على طريق تسليم الأمر لله وتفويضه لمراده، ولهذا قال (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إذ يجوز في الحكمة عدم تعذيب الكافر، ومما يرد قول القائل إن هذا السّؤال وقع من عيسى عليه السّلام عند رفعه إلى السّماء قوله تعالى «قالَ اللَّهُ هذا» اليوم الذي وقع فيه هذا القول، لأن الإشارة تكون لأقرب مذكور، ولم يأت ذكر لرفعه هنا البتة، فمن جوّز إعادة الضّمير إليه أي أعاد اسم الإشارة إلى يوم الرّفع نصب كلمة «يَوْمُ» وأراد أن هذا القول من الله إلى عيسى يوم رفعه وليس بشيء لمنافاته السّياق والسّباق ولإجماع القرّاء على رفع كلمة يوم، أي يوم القيامة يوم سؤال الخلق عما كان منهم، بدليل قوله جل قوله «يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» الواقع منهم في الدّنيا فإنه ينفعهم في هذا اليوم يوم الآخرة إذ لا يكون النّفع الحقيقي إلّا فيه، لأنه هو يوم الجزاء. أما احتجاج القائل بأن هذا كان عند الرّفع مستدلا بقوله تعالى «إِذْ» بصدر الآية لأنها للماضي ولم يعلم أنها تأتي بمعنى (إذا) فتكون للمستقبل،

قال تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) الآية 51 من سورة سبأ في ج 2، وهذا الفزع الذي لا فوت منه إنما يقع يوم القيامة، قال الرّاجز: ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنّات عدن في السّموات العلى أي إذا جزى، ولا يكون هذا الجزاء إلّا يوم القيامة، ومما يرد هذا القول ويؤيد ما مشينا عليه قوله تعالى «لَهُمْ» أي الصّادقين في ذلك اليوم «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ولا يكون هذا الخلود في تلك الجنّات إلّا في الآخرة «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» أي أهل الجنّات بطاعتهم له في الدّنيا «وَرَضُوا عَنْهُ» بما من عليهم وأعطاهم من عظيم ثواب وجزيل كرامة في الآخرة «ذلِكَ» الأجر الجزيل والخير الكثير هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (119) الذي ما فوقه فوز ونجاح كبير ما فوقه نجاح «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ» من مخلوقات يتصرف فيهم كيف يشاء ويريد كما يتصرف فيهما مثل ما يريد ويختار، وهو المستحق للعبادة وحده، وأن عيسى وأمه ومن في الأرض والسّموات وما بينهما جميعا عبيد خاضعون لعظمته، منقادون لقهره، «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (120) لأن جميع المكونات النّامية والجامدة تحت قدرته، وله أن يدخل من يشاء في رحمته ويوصل من يشاء إلى ملكوته، ويقطع من يشاء عن ملكه. ويمنع من يشاء من عطفه، وأن عيسى وغيره من جملة عباده الداخلين تحت قدرته إذ لا شيء في الكون علويه وسفليه إلّا وهو في قبضته سبحانه هو الواحد القهار، قال قتادة، متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السّلام لأنه يقوم فيقول ما قصّ الله عنه في هذه الآيات فكان صادقا في الدّنيا والآخرة فينفعه الله بصدقه، وأما المتكلم الآخر فهو إبليس عليه اللّعنة فإنه يقوم فيقول ما ذكر الله عنه في الآية 33 من سورة إبراهيم عليه السّلام المارة في ج 2 التي أولها (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إلخ فقد صدق عدو الله بما قال، ولكن لم ينفعه صدقه. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النّبي صلّى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم عليه السّلام ما ذكر الله عنه في قوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» الآية 36 من سورته في

تفسير سورة التوبة - براءة عدد 27 - 113 و 8

ج 2 وقول عيسى عليه السّلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) إلخ الآيتين المارتين أعلاه، وقال اللهم أمّتي أمّتي، وبكى، فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد (وربك أعلم) فسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره صلّى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فيهم. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية إن تعذبهم فإنهم عبادك) إلخ، أخرجه النّسائي أي أنه عليه السّلام قام يصلي اللّيل كله يقرأ في صلاته هذه الآية وما ذاك إلّا لشدة حرصه على نجاة أمته صلّى الله عليه وسلم الّذين سيباهي بهم الأمم يوم القيامة، والذي تحمل مشاقا عظيمة في سبيل هدايتهم لسلوك الحق الذي يوصلهم إلى رحمته ورضاه، ولهذا فإنه حينما أرسل له الملك (على أثر ما عملوا به عند ذهابه لثقيف كما ذكره قبل) واستأذنه بأن يطيق عليهم الأخشبين قال لا يا رب بل اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وإني لأرجو أن تخرج من أصلابهم من يتولى بيتك. وكان ذلك والحمد لله بتوفيقه جل توفيقه. هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين. تفسير سورة التوبة- براءة عدد 27- 113 و 8 نزلت بالمدينة بعد المائدة، وهي مئة وتسع وعشرون آية، وأربعة آلاف وأربعمائة وثمانية وثمانون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي، وتسمى سورة براءة، ولم تبدأ بالبسملة، ولم تكتب بأولها خلافا لسور القرآن العظيم كلها، لأن حضرة الرّسول لم يأمر كتبة الوحي بذلك، ولم يؤمر بكتابتها حين أنزلت عليه من ربه عز وجل بواسطة الأمين جبريل عليه السّلام، وهو لا يأمر كتبة الوحي إلّا بكتابة ما أنزل عليه، فلا ينطق عن هوى، ولا يأمر إلّا بما يأمره به ربه، ولا يفعل إلّا ما يريده منه. هذا، وما قيل إنها لم تبدأ بالبسملة لأنها سورة عذاب وقد أنزلت بالسيف وإنذار الناس بقطع المعاهدات، والبسملة تدل على الرّحمة لأنها شعار لها وهي أمان من

العذاب والقتال وافتتاح لكل خير واسم الله تعالى يدل على السّلام وإنما جاءت ينبذ العهود المعقودة مع الكافرين وتهديدا لهم بالحرب والقتل، يرده أن البسملة كتبت أول المطففين والهمزة وقد بدأتا بالويل، وأين الويل من الرّحمة، وكتبت أول سورة المنافقين والكافرين وشتان بينهما وبين الرّحمة، لهذا فإن ما جرينا عليه من أنها أنزلت هكذا بلا بسملة، وأن حضرة الرّسول أفرها وأمر بإثباتها في الصحف على ما هي عند الله تعالى، وهذا هو الصّواب، لأن القراء والعلماء اتفقوا على جواز قراءة البسملة عند تلاوة (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) الآية 37 الآتية وأمثالها، وكان صلّى الله عليه وسلم يكتب للمحاربين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وإنّ ترك كتابتها هنا وإثباتها في سورة النّمل دليل على أنها آية مكررة في القرآن العظيم حيث أنزلت كتبت، وحيث لم تنزل لم تكتب، وهذا هو الصّحيح كما ذكرناه في المقدمة في بحث البسملة فراجعه. مطلب عدم صحة القول بانها والأنفال سورة واحدة لعدم الفصل بينهما بالبسملة وعدد غزوات الرّسول وما هي: وما قيل إن سورة التوبة وسورة الأنفال سورة واحدة ولذلك لم تكتب البسملة أولها اكتفاء بالبسملة أول الأنفال قيل لا يرتكز على نقل صحيح ولا دليل واضح، ولا يستند لقول ثابت يوثق به، لأنهما لو كانتا سورة واحدة لنزلتا دفعة واحدة معا ولأمر الرّسول بضمهما بعضهما بعض لأن مجرد وضعها تحت الأنفال لا يدل على أنها منها، لأن وضع السّور بمواضعها الموجودة الآن بالمصاحف بحسب ترتيب القرآن أمر توقيفي من قبل حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بإشارة من جبريل عليه السّلام على نسق ما هو مدون في اللّوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا فإن الحق أنهما سورتان منفردتان نزلت كلّ واحدة منهما على حدة، وبينهما سبع سنين، لأن الأنفال نزلت بعد البقرة عقب حادثة بدر، وهذه من آخر القرآن نزولا. هذا وإن كثيرا من المفسرين والقراء قالوا إن سورة الضّحى والانشراح سورة واحدة، والفيل وقريش واحدة، وقد وضع لكل منهما البسملة مع أن كلا منهما نزلت بعد الأخرى، ويوجد بينهما ارتباط في

[سورة التوبة (9) : الآيات 1 إلى 10]

المعنى أيضا، ووضعت البسملة لكل منهما، إذا فلا دليل لمن قال إنهما سورة واحدة إلا اشتباهه بالتوبة بحسب ترتيب القرآن تحت الأنفال وعدم وضع البسملة أولها، ولم يعلم أنها نزلت بلا بسملة، ولم يدر مدى المدة الكائنة بينهما بحسب النّزول، وغاب عنه أن لكل منهما اسم على حدة، فنلك الأنفال لا غير، وهذه لها عشرة أسماء: براءة لما فيها من التبري ونبذ العهود، والتوبة إذ تسبب فيها على المخلفين، والفاضحة لأنها فضحت أحوال المنافقين، والمقشقشة لأنها قشقشت النّفاق أي برأت منه، والمبعثرة لأنها تبعثر أي تبحث عن أحوال المنافقين، والكافرين، وسورة العذاب لما فيها من كثرة ذكره والمخزية لما جاء فيها من إخزاء المنافقين، والمدمّرة لما ذكر فيها من إهلاكهم، والمشرّدة لأنها شردت جموعهم وأتباعهم، والمثيرة لأنها أنارت أي أظهرت معاينهم وكشفت أسرارهم وهتكت أستارهم. هذا ويكره ابتداؤها بالبسملة لأنها نزلت بغيرها، ولأن حضرة الرّسول لم يبسمل عند قراءتها، ولم يثبت لها البسملة بالصحف ولم يأمر الكتبة بذلك، وقد خصت بعدمها من جميع سور القرآن، وما عموم إلّا وخصص، فهذه من المخصوصات بعدم البسملة، ولكن يسن للقارى أن يتعوذ أولها كسائر آيات القرآن لقوله تعالى: (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الآية 99 من سورة النّحل في ج 2. قال تعالى يا أيها النّاس هذه «بَراءَةٌ» قاطعة حاسمة «مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (1) وقد جاء الخطاب فيها بلفظ الجمع تعظيما لسيد المخاطبين وتفخيما لمقامه الكريم عند الله، وإذ كان الإنذار بإنهاء العهود الكائنة مع حضرة الرّسول والكافرين، ينذرهم بالغزو والإقسار على الإيمان، رأينا أن نذكر أولا غزوات حضرة الرّسول التي جاء ذكرها في القرآن العزيز ليطلع عليها القارئ ويعرف أسبابها وماهياتها ونتائجها، وهي اثنتا عشرة غزوة: الأولى غزوة بدر التي نوه الله بها في الآية 6 من الأنفال عند قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) إلخ، الثانية غزوة أحد الملمع إليها في الآية 140 من آل عمران عند قوله تعالى (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إلخ، الثالثة غزوة حمراء الأسد المشار إليها في الآية 173 من آل عمران أيضا عند قوله تعالى (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ)

الآية، الرابعة غزوة بدر الصّغرى المعزو إليها في الآية 174 عند قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآية من آل عمران أيضا، والخامسة غزوة بني النّضير المذكورة في الآية الثالثة من سورة الحشر المارة عند قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية السّادسة غزوة الأحزاب المسطورة في الآية 10 منها عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) فما بعدها من سورة الأحزاب المارة، السابعة غزوة بني قريظة المرموز إليها في الآية 27 من سورة الحشر أيضا عند قوله تعالى (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) الآية، الثامنة غزوة الحديبية المذكورة في الآية 11 من سورة الفتح عند قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) الآية، التاسعة غزوة خيبر المبينة في الآية 19 من سورة الفتح أيضا عند قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية، العاشرة غزوة فتح مكة المستفتح بها أول سورة الفتح أيضا وفي الآية 11 من سورة الحديد ما يتعلق بها عند قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) الآية، الحادية عشرة غزوة حنين الآتي ذكرها في الآية 27 من هذه السّورة عند قوله تعالى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) الآية، الثانية عشرة غزوة تبوك التي تبيّن في الآية 119 من هذه السّورة أيضا عند قوله تعالى (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآتية أيضا، وقد بينا هذه الغزوات وأسبابها وزمانها ومكانها وما حدث فيها في المواضع المذكورة فراجعها تقف على ما تريده، وقد وقعت بينها غزوات كثيرة لم يشر الله تعالى إليها في كتابه هذا فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع كتب السّير وأجمعها السّيرة الحلبية، وأجودها سيرة ابن هشام، يجد فيهما ما يخطر بباله، وقد بعث صلّى الله عليه وسلم سرايا جمة برياسة بعض أصحابه رضي الله عنهم، وكلها لصد العدوان وقمع التعدي ودفع الأعداء والعداء، وتأمين سير الدّعوة المحمدية وإعلاء كلمة الله تعالى وبسط دينه القويم في أرضه وقد جنح صلّى الله عليه وسلم إلى سلم من سالم ومعاهدة من طلب المعاهدة، وعدل عن القتال في مواضع كثيرة أملا بدخولهم في الإسلام طوعا وقد كان ذلك فآمن من كتب الله له الإيمان، حتى إذا لم يبق له طمع بايمان الآخرين إلا بالسيف وفاقا لمراد الله تعالى وطبقا لما هو مدون في أزله، وقد آذنه الله تعالى

بالقتال فاضطر لمقاتلتهم لقصد إصلاح المجتمع الإنساني وحفظا لكيانه من التفرق الذي نهى الله عنه، وليحملهم على كلمة الإسلام وتوحيد كلمتهم وعبادتهم لله تعالى ورفض الأوثان كافة، وقد كان صلّى الله عليه وسلم باذلا جهده مفرغا وسعه منذ بعثته إلى نزول هذه السورة في دعوتهم ونصحهم وإرشادهم إلى الدّين الحق وإخلاصهم فيه باللين والعطف مع تحمل الأذى والجفاء منهم ورميهم له بما لا يليق بجنابه وبالحضرة الإلهية ورغم ذلك كله وما قام به من الطّرق الأخرى الحكيمة وزيادة خفض الجانب لهم مع تعديهم عليه فعلا، فقد شرع المنافقون ينشرون الأراجيف بين النّاس ويثبطونهم عن ملازمة الرّسول ليقلوا من عزمهم ويثلوا جمعهم ويفرقوا كلمتهم وينقصوا حزمهم ويفلوا عزمهم ويمنعوهم من متابعة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وطلق المشركون ينقضون عهودهم مع رسول الله دون سبب وصاروا يناوءون حضرته لما رأوا أفعال المنافقين وصبره عليهم وردهم بالحسنى لما يسمعه منهم ويقابل جرأتهم بالرقة وأنفتهم باللطف وعنادهم بالمسايرة وعتوهم بالمداراة، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتحرك بحركة إلّا بأمر الله تعالى الذي يترقبه بفارغ الصّبر، ويريد أن يحين الأجل المقدر لأمره بقتالهم، ولكنه مفوض أمره وأمورهم إليه، وجعل علمه تعالى بحاله كافيا عن سؤاله أسوة بجده خليل الله إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وهو يعلم بتعليم الله إياه أن لا حركة ولا سكون إلا بتقديره وقضائه، ولكل أجل كتاب، ولما حان ذلك الوقت المرتقب وبرز من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة ومن القوة إلى الفعل أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم في هذه السّورة ينقض جميع العهود التي عقدها معهم لئلا ينسب إلى الغدر ونكث العهد وفك الميثاق على حين غفلة، ونفي اسم الإغرار والتغرير عنه وعن أصحابه، وقطع المعذرة في إيمان من يريد الإيمان أنذرهم إنذارا قاطعا لكل حجة إنذارا ما بعده إنذار وحجة ما بعدها حجة، ومن أنذر فقد أعذر. وقد أمهلهم الله تعالى مدة كافية ليختاروا الطّريق الذي يرضونه لأنفسهم لئلا يقولوا أعجلنا وضيق علينا الأجل، فقال جل قوله «فَسِيحُوا» أيها المشركون والمنافقون «فِي الْأَرْضِ» آمنين مطمئنين على أنفسكم وأموالكم وأعراضكم وبلادكم وذراريكم وإمائكم لا يعارضكم معارض ولا ينازعكم منازع مدة «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» لا مدة لكم بعدها وهي كافية لأن تتحروا وتتذاكروا وتتشاوروا وتلموا شعئكم وتجمعوا شملكم وتتعاهدوا وتتواثقوا

وتتعاقدوا بعضكم مع بعض وتعملوا كلّ ما تريدون من خير أو شر «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ» أيها الكافرون والمنافقون مهما كنتم ومهما التف إليكم ممن هو على شاكلتكم وما جمعتموه من عدة وعدد «غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ» ولا فائتين أمره، فهو غالب لكم وقاهركم لأنكم عاجزون أمام عظمته خائبين مخزيين مهما كنتم «وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» (2) أجمع ومن والاهم على كفرهم لا محالة، وناصر المؤمنين عليهم. وفي هذه الآية إشارة إلى دعوتهم للإسلام إذ أخبرهم بمصير الباقين على كفرهم ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أثر نزول هذه الآية العظيمة أعلن إلى جميع المعاهدين معه أن من كانت مدة عهده أقل من هذه المدة التي ضربها الله تعالى رفعه إليها، ومن كانت معاهدته أكثر حطه إليها، ومن كان عهده دون أجل أجله بها، وذكر لكل منهم انه بعد انقضاء هذا الأجل فكل من يبقى على كفره يكون محاربا لله ورسوله، وإنه يقتل حيث أدرك، ويؤسر ويسبى وتنهب أمواله وأملاكه ولا ينجيه من القتل إلّا ان يسلم ويتوب من كفره ونفاقه ويخلص إيمانه لله تعالى ويصدق رسوله عن يقين صادق طوعا ورضاء وهذه الآية العظيمة نزلت في غرة شوال السّنة التاسعة من الهجرة، والمراد بالبراءة هنا انقطاع العصمة تقول برئت من فلان إذا قطعت العصمة بينك وبينه ولم تبق بينكما علاقة ما، وتباعد أحدكما عن الآخر فلم تبق بينكما مناسبة ولا رابطة، وهي كناية عن الإنذار بالحرب ومن هنا أخذت الحكومات عادة قطع المناسبات بسحب السّفراء من الدّول المخالفة لها عند إرادة حربها قبل أن يبادروها بالحرب ثم يتقدموا لها بالإنذار. وقيل ان الخطاب لحضرة الرّسول وأصحابه الكرام لأنه هو الذي عاقد المشركين، وأصحابه عالمون راضون بما عاهدهم به موافقون عليه والرّاضي بالشيء الموافق عليه كفاعله قال تعالى «وَأَذانٌ» إعلام وبلاغ وإخطار وإنذار «مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ» عامة وقع من الله تعالى وأنزله على رسوله ليذيعه عليهم «يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» يوم عرفة التاسع من ذي الحجة السّنة التاسعة من الهجرة ليطلع عليها العام والخاص وليذيعه كلّ من يسمعه على بلاده وغيرهم، ولا أعظم من هذا الجمع المجمّع من أنحاء البلاد والقرى والأمصار فلا يبقى أحد إلّا وبلغه هذا الإنذار الخطير وسمي

مطلب إنذار الله إلى الناس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:

يوم عرفة هذا بيوم الحج الأكبر لأنه معظم الحج، ولأنه صادف يوم جمعة ووقع فيه هذا الإخطار العظيم، ولأن العرب كانوا يسمون العمرة حجا أصغر، وحاء عن علي كرم الله وجهه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال له ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا خل عن دابتي وكان يوم عرفة يوم الجمعة وعن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقف يوم النّحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر. فكان يوم عرفة يوم الجمعة الذي أنزلت فيه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية 4 من المائدة المارة ومن ذلك اليوم قد تعورف على أنه إذا صادف يوم عرفة يوم الجمعة يكون الحج حجا أكبر، أي أكبر أجرا من غيره لتوالي الخطب فيه، ولفضل يوم الجمعة على سائر الأيام، وهو عيد المسلمين، وحج الفقراء والمساكين. مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار: ثم بيّن تعالى هذا الأذان بقوله جل قوله «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» برىء منهم أيضا- على أن رسوله مرفوع- وقرأه بعضهم منصوبا عطفا على لفظة الجلالة، أي أن الله برىء وأن رسوله بريء منهم. ولا تجوز قراءة الجر على زعم الجر بالتوهم أو بالمجاورة أو بالتبعية، ويكفر مستحلها لما فيها من الكفر بنسبة البراءة من الله تعالى لحضرة رسوله وحبيبه وصفيه ومختاره من خلقه. حكي أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال إن كان الله بريئا من رسوله فانا منه بريء فلبّبه الرّجل إلى عمر، أي مسكه من لبته، وأخذة، وحكى قراءته إلى عمر، فزجره ونهاه عن أن يعود إليها، وأمر بتعليم العربية. وقال آخرون إن سبب الأمر بتعليم العربية قصة أبي الأسود الدّؤلي مع ابنته التي حكاها إلى سيدنا علي كرم الله وجهه، وانه هو الذي أمر بتعليم العربية، والكل وارد وجائز، قال تعالى «فَإِنْ تُبْتُمْ» أيها الكفار والمنافقون بعد هذا الإنذار فآمنتم وأخلصتم «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» في الدّنيا حيث تأمنون على أنفسكم وأموالكم وأهليكم ودياركم وما ملكت أيمانكم، وفي الآخرة تأمنون من عذاب الله وتنالوا جنته «وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» وأعرضتم عن التوبة المدعوين إليها وبقيتم على ما أنتم عليه «فَاعْلَمُوا

أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ» ولا خالصين من عذابه ولا سابقين عقابه إذ لا مهرب منه إلّا إليه، ولا تكرار هنا لأن الأولى جاءت في معرض التهديد لمدة نقض العهد، وهذه في معرض الوعيد لمن لم يتب وأصر على عناده. ثم خاطب رسوله بما فيه تقريعهم فقال عز قوله «وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (3) لا تطيقه قواهم ولا نجاة لهم منه، وهذه الآية جاءت على طريق التهكم، لأن البشارة عادة تكون في النّعم لا في النّقم على حد قولهم انهم قوم تحيتهم الضّرب وإكرامهم الشّتم. وقوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية: 5 من سورة الدّخان ج 2 تهكما به وتقريعا. واعلم أن ابتداء هذا الأجل الذي أشرنا إليه آنفا على القول الصحيح وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، لأن يوم التبليغ لا يحسب لأن يوم النّزول الذي هو غرة شوال وانتهاؤها اليوم العاشر من ربيع الآخر السّنة العاشرة من الهجرة، لأن العبرة بتاريخ التبليغ بالنسبة للمبلغين، وكان المبلغ لهذا سيدنا علي كرم الله وجهه، وذلك أن عادة العرب المطرّدة بينهم أن لا يبرم العهد ولا ينقضه إلا المعاهد نفسه أو واحد من أهل بيته، ولما كان حضرة الرّسول لم يحج في السّنة التاسعة وقد أمّر على الحج سيدنا أبا بكر رضي الله عنه وقد أمر الله رسوله بإبلاغ ما جاء في أول هذه السّورة للناس، ولم يمكن إجراء هذا التبليغ من قبل الصّديق أمير الحج للسبب المذكور، أرسل ابن عمه عليا كرم الله وجهه ليتلو أوائل هذه السورة على النّاس نيابة عنه في الموقف، ليطلع عليه كلّ النّاس، والشّاهد يعلم الغائب روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان أبا بكر بعثه في الحجة التي أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط ليؤذنوا في النّاس يوم النّحر أن لا يحج بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! وفي رواية ثم أردفه النّبي صلّى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! ولا يفهم من هذا الحديث عزل أبي بكر عن الإمارة بل دوامها بدليل إرساله أبا هريرة يؤذن في النّاس في رهط معه، وما كان إرسال علي كرم الله وجهه من قبل حضرة الرّسول بعد إلّا بسبب ما تقدم لأن العهد لا يقرّره إلّا سيد القبيلة ولا

ينقضه إلّا هو ولا ينوب عنه في التبليغ به إلّا رجل منه فلو أن أبا بكر مبلغ ما يتعلق بنقض العهود من هذه السّورة لأنكره النّاس ولن يعبئوا به لأنهم يقولون هذا مخالف لما نعهده ونعرفه فلا نعتبره، لأنهم كانوا ينقيدون بعوائدهم كقانون لا يخرمونها أبدا، ومما يؤيد دوام إمارة أبي بكر صلاة سيدنا علي خلفه في الموسم، فلو أنه جاء بدلا منه لصلى هو بالناس، لذلك فإن كلّ ما جاء في قضية عزل أبي بكر عن إمارة الحج لا صحة له البتة، إذ لا دليل على إبقاء إمارته أقوى من الصلاة، واعلم انه لا تكرار في الأذانين، لأن الأوّل يفيد براءة الله ورسوله من عهود المشركين وهو إعلان بثبوت البراءة أي قول الله تعالى (بَراءَةٌ) إلخ هو الأذان الأوّل. والأذان الثاني وهو قوله تعالى (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ) يفيد الإخبار بوجوب الإعلام في براءة الله ورسوله منهم، ولذلك علقه بالناس أي إذا أعرضوا وأصروا على ما هم عليه فإنه لا يتولاهم ولا ينصرهم بل يهلكهم ويخذلهم والتكرار لا يسمى تكرارا إلّا إذا كان الثاني عين الأوّل باللفظ والمعنى والمغزى، فإذا كان كلّ يرمي لشيء آخر لا يسمى تكرارا قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» هذا استثناء من المدة المضروبة يعني أن الله تعالى يبرأ من عهود المشركين كلها بعد تلك المدة إلّا من عاهدهم الرّسول وهم بنو حمزة، حي من كنانة «ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً» من شروط العهد الذي عاهدتموهم عليه «وَلَمْ يُظاهِرُوا» يعاونوا ويمالئوا «عَلَيْكُمْ أَحَداً» من أعدائكم فهؤلاء إذا وفوالكم بالشروط فضموا إليها هذان الشّرطان «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» التي ضربتموها لهم ولا تجروهم مجرى الكافرين والمنافقين الّذين نكثوا عهودهم وأخلوا شروطها إذ لا يقاس الموفي بالغادر ولا يعامل معاملته، واتّقوا الله في ذلك «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (4) مخالفته الموفين بعهودهم المحافظين على أقوالهم، وإنما خصّ الله تعالى هذه الطّائفة ليعلّم النّاس ويحذرهم من أن يسووا بين النّاقض عهده النّاكث به والقائم به المحافظ عليه، وما عام إلّا وخصص: قال تعالى: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» الأربعة المضروبة في هذه المدة، وسماها حرما وليس كلها حرم لحرمة نقض العهد فيها ولأنها صارت محرمة بتخصيصها لانتهاء عهود المعاهدين حتى صار النّاس يعدون

أيامها عدا لما يترتب على انقضائها من أمور عظيمة، ومن قال أنها الأشهر الحرم الأربعة المعهودة المعلومة فلا دليل يؤيد قوله، إلا إذا أراد أن أولها عشرون من ذي الحجة والمحرم كله من الأشهر الحرم وآخرها هو ربيع الأوّل وعشر من ربيع الثاني أدخلها معها فسمّاها كلها حرما تسامحا لأن صفر والرّبيعين ليسوا من الحرم، أما إذا أراد بها غرة شوال الذي كان بها نزول الآية فقد أخطأ أيضا ولم يصب الهدف إذ ليس شوال من الأشهر الحرم، ورجب لم يدخل فيها إذ لا عبرة لتاريخ النّزول، لأن النّاس لا يعلمون به، وإنما العبرة لتاريخ التبليغ، بدليل قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي بعد الإنذار الكائن في التاسع من ذي الحجة، تأمل. «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل والحرم قاتلوا أولم يقاتلوا لأنهم أنذروا وأمهلوا لكي يؤمنوا ولمّا لم يفعلوا فلم تبق لهم حرمة «وَخُذُوهُمْ» أسرى واسلبوا أموالهم «وَاحْصُرُوهُمْ» في قراهم وديارهم وضيقوا عليهم في ملاجئهم وامنعوهم من الفرار من مكة حتى يؤمنوا أو يهلكوا «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» ممر يمرون به أو مجاز يجتازونه أو محل يختفون فيه أو مغارات يختبئون بها أو سريا ينفذون منه لمحل يقبهم أو غيره، فضيقوا عليهم الطّرق كافة حتى يؤخذوا من كلّ جهة فيضطروا إلى الإيمان قسرا «فَإِنْ تابُوا» من شركهم وآمنوا إيمانا صحيحا «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» اتركوهم لأنهم صاروا مثلكم لا فضل لكم عليهم إلّا بقدم الإسلام وزيادة التقوى «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» كثير المغفرة لما سبق منهم بعد أن تابوا وأنابوا «رَحِيمٌ» (5) بعباده لا تضيق رحمته التي وسعت كلّ شيء عمن التجأ إلى بابه ورجع إليه من خلقه بل يقبل توبتهم ويرفع القتل والسّبي عنهم ما لم يكونوا في حالة يأس من الحياة. قال تعالى «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ» استأمنك يا سيد الرّسل ودخل في جوارك وأمانك بعد انسلاخ المدة المذكورة أو في أثنائها «فَأَجِرْهُ» آمنه على نفسه وماله وأهله ولا تقتله «حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» ويعرف ما له من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن بقي على كفره، فإن آمن بعد ذلك فقد نجا، وإلّا فلا سبيل لك عليه حالة كونه في جوارك وما دام في

أمانك «ثُمَّ» بعد أن تيأس من إيمانه لا تقتله أيضا بل «أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» دار قومه التي يأمن فيها بأن توصله إليها بأمانتك وتحت خفارتك كما أتاك آمنا لئلا تنسب إلى الغدر أو التغرير أو غيره لأنه بعد أن أصر على كفره فإن تركته وشأنه يخشى عليه من أن يفتك به قبل وصوله أهله من قبل أصحابك بحجة انه كافر لا أمان له فتخفر ذمتك واعلم ان قبول المستأمن وإبلاغه إلى المحل الذي جاء منه أو الذي يأمن فيه على نفسه وماله وأهله واجب على المستأمن والمجير وكلّ من يعقل ويعلم واجبات نفسه وغيره ويحفظ سمعته وسيرته «ذلِكَ» الأمر بأمن المستأمنين على كفرهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» ما يراد منهم في الآخرة ولا ما يكلفونه في الدّنيا فهم محتاجون إلى الإرشاد، فإذا نصحوا وتبينت لهم معالم الدّين ولم يقبلوا فتكون عليهم الحجة، ومن أنذر فقد اعذر وهذه الآية عامة محكمة واجب العمل بها إلى يوم القيامة. قال تعالى على سبيل التعجب «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ» وهم غير مؤمنين بها أي لا يكون لهؤلاء عهد عندهما البتة لأنهم ينقضون عهودهم وينكثون مواثيقهم ويخلفون وعودهم ويغدرون من استأمنهم، وهكذا شأن كلّ من لا يؤمن باليوم الآخر، لأن من يؤمن به يخاف الحساب والعقاب فيفي بوعده وعهده. ثم استثنى جل جلاله من ذلك طائفة خاصة بينها بقوله عز قوله «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ولم ينكثوا كبني حمزة فهؤلاء تربصوا بهم لانقضاء عهدهم واتركوهم الآن «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ» على العهد ووفوا لكم بشروطه «فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» على الوفاء وإياكم أن تنكثوا بهم وبكل معاهد لأن المحافظة على المواثيق من سمات المؤمنين وواجباتهم، واتقوا الله في عهودكم كلها واحذروه من أن تنقضوا شيئا منها «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» (7) نقض العهود وخلف الوعود والموفين بها والعهد هو العقد الموثق باليمين، والبراءة خاصة بالمعاهدين، والأذان المذكور بالآيتين لفظه عام فيهم وفي غيرهم قال تعالى: «كَيْفَ» يكون للمشركين عهد وهم إن يظفروا بكم «وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» بعد توكيد الأيمان «لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا» حلفا وقرابة «وَلا ذِمَّةً» عهدا وميثاقا «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ» بكثرة ما يحلفون لكم وما يعطونكم

[سورة التوبة (9) : الآيات 11 إلى 20]

من عهد ووعد وميثاق «وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ» عن الوفاء بشيء من ذلك «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» (8) خارجون عن الطّاعة لا مروءة تمنعهم عن الكذب ولا شمائل تردعهم عن النّكث ولا شهامة تردهم عن الغدر، وهكذا شأن الكافرين إذ لا يتقيدون بشيء من ذلك لعدم خوف العاقبة من الله وعدم الحياء من النّاس، ولم يقل تعالى قوله كلهم فاسقون لأن منهم من يوفي بعهده ووعده ويؤمن من غدره «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» من متاع الدّنيا الفاني وأعرضوا عن ثواب الله الباقي «فَصَدُّوا» أنفسهم وغيرهم «عَنْ سَبِيلِهِ» المستقيم وطريقه القويم وشريعته العادلة «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (9) من أنواع الكفر وفنون صرف النّاس عن الإيمان، وكيف لا تقاتلون هؤلاء وهم أبدا «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً» ولا تكرار هنا أيضا، لأن الأولى مقيدة بقوله فيكم بما يفيد الخصوص، وهذه عامة مطلقة في كلّ مؤمن قدروا عليه فإنهم يقتلونه ويسلبونه ويستحلون ماله ودمه، إذ لا دين يزجرهم عن ذلك، فإذا ظفرتم بهم فلا تبقوا عليهم، كما إنهم إذا ظفروا بكم لم يبقوا عليكم، ولا تظنوا أن هذا اعتداء منكم عليهم، لأنكم أنذرتموهم ونصحتموهم وصبرتم عليهم حينما كانوا يؤذونكم ولم يرتدعوا ولم يرأفوا بكم «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (10) عليكم الّذين بدؤوكم بنقض العهود ومع هذا «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ» اقبلوهم لأنهم صاروا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فأنتم وإياهم بالحقوق سواء، لأنهم صاروا إخوانكم «فِي الدِّينِ» الجامع بينكم، ولا تكرار في هذه الآية أيضا لأن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل وشبهه فكان جوابها أمرا وهو «فَخَلُّوا» وهذه الآية سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء فكان جوابها حكما وهو «فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» لتساويهم في أحكامه وهذه أجلب لقلوبهم من تلك للفرق الظّاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدّينية لهم، وفيها دلالة على تحريم دماء أهل القبلة «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالات على أحكامنا في خلقنا ونبيّنها بيانا كافيا ونوضحها توضيحا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (11) معانيها ويفقهون مداركها. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال لما توفي النّبي صلّى الله عليه وسلم واستخلف أبا بكر رضي الله عنه

وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر حينما رآه مصرا على قتال مانعي الزكاة كيف نقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قال لا إله إلّا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلّا بحقه وحسابه على الله عز وجل؟ فقال أبو بكر والله لأقاتلنّ من فرق بين الصّلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها- وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها فقال عمر فو الله ما هو إلّا أني رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، أي ان أبا بكر أخذ في هذه المقارنة بين الصّلاة والزكاة، فإن من جحد الصّلاة فقد حل قتله، وكذلك من يجحد الزكاة وهو اجتهاد صائب ورأي ثاقب في فطنة حادة وفقه منه وذكاء وفراسة. واعلم أن المراد بالعقال زكاة عام من الإبل والغنم لا عقال البعير الذي يربط به يده كما يقوله البعض، لأن مثل أبي بكر لا يقاتل النّاس على مثله، أما العناق فهو الأنثى من أولاد المعز، ولهذا ترقى رضي الله عنه بكلامه من القليل الذي هو سخلة إلى الكثير الذي هو زكاة سنة، وتطلق العناق أيضا على زكاة عامين وهو أولى بالمعنى هنا والله أعلم. قال تعالى «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ» على ألّا يقاتلوكم ولا يعينوا عليكم أحد «وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ» فعابوه وثلبوه وقدحوا به «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» رؤساءهم وشيوخهم «إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ» ولا عهد ولا ذمة ولا وفاء «لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» (12) عن النّكث في العهود والطّعن فيكم، وإذا لم تبادروهم بالقتال تقل هيبتكم في قلوبهم بل ابدأوهم به لتزداد هيبتكم في قلوبهم، وهذا الأمر فيهم وفي أتباعهم، لأن الأتباع تبع للقادة، وإن قتال رؤسائهم قتال لهم كافة طبعا، وإنما خص الأئمة لأنهم هم الّذين عقدوا عليهم العقود، وهم الّذين نكثوها، وأتباعهم تبع لهم في ذلك، أي قاتلوهم جميعا، قال تعالى منبها المؤمنين «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ» في المعاهدات «وَهَمُّوا» قبلا «بِإِخْراجِ الرَّسُولِ» من بلده مكة حين أجمع رؤساؤهم على قتله كما تقدم في الآية 40 من سورة العنكبوت في ج 2 بيان عملهم هذا فراجعها، «وَهُمْ

بَدَؤُكُمْ» بالقتال «أَوَّلَ مَرَّةٍ» حينما كنتم في مكة وأخرجوكم منها صاغرين حتى هاجرتم إلى الحبشة والمدينة ولم يمكنوكم من دخول مكة يوم الحديبية وقالوا يوم بدر لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه وقاتلوا حلفاءكم من بني خزاعة «أَتَخْشَوْنَهُمْ» الآن أيها المؤمنون وتنسون مساويهم القديمة معكم بعد أن منّ الله عليكم بما منّ من الفتوحات والقوة والكثرة في المال والرّجال وتتأخرون عن قتالهم، ولا يكون منكم هذا أبدا، وهذا التنبيه المصدر في هذه الآية ينمّ بالتوبيخ والتقريع على من يتمنع عن قتالهم ويحث على الانتقام منهم بعد أن أجاز الله ذلك لهم «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» في مخالفة أمره في ترك قتالهم، كلا لا تخشوهم أبدا واخشوا الله الذي سينصركم عليهم. ولا يرد على هذا قوله تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية 23 من سورة الأنفال المارة، لأن المراد فيه عذاب الاستئصال وهو يشمل المذنب وغيره والمخالف والموافق، أما عذاب القتل المقصود في هذه الآية فإنه لا يتعدى إلى غير المذنب المخالف، بل هو مقصور عليها فاعلموا ذلك «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (13) به إيمانا كاملا ثم حثهم على القتال فقال «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ» لتشفّوا منهم «وَيُخْزِهِمْ» بالأسر والسّبي «وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» بالقتل والجلاء «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» (14) من داء الأذى الكامن في صدورهم مما كانوا ينالونه منهم قبلا، وهذه الآية عامة في جميع الكفار، ونزولها في خزاعة التي تعدت عليها قبيلة بني بكر وأعانتها قريش عليها خلافا لعهد الحديبية المار ذكره في الآية 11 من سورة الممتحنة المارة لا يخصصها فيهم ولا يمنع إطلاقها وشمولها لغيرهم، لأن في قتل هؤلاء الكفرة أخذا لثأرهم وظفرا للمؤمنين عامة وسببا لقوة اليقين وثبات العزيمة «وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» الوجد الذي كان فيها عليهم بما يحل فيها من الفرح العظيم والسّرور الجسيم بانجاز وعد الله تعالى لهم بالنصر والفوز «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» منهم يقوى إيمانه إذا تاب وأناب. وبعد نزول هذه الآية أسلم ناس كثيرون منهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بمن سيقت له العناية بالهداية «حَكِيمٌ» (15) بما يفعل بعباده وما يأمرهم به وينهاهم عنه. قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا»

وتهملوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا به؟ وهذا استفهام معترض في وسط الكلام وفيه معنى التوبيخ على وجود الحسبان من بعضهم؟ والخطاب المؤمنين، وما قيل للمنافقين فليس بشيء، ودخول أم في هذا الاستفهام للفرق بين الاستفهام المبتدأ به وبين الاستفهام المعترض «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» أي يظهر صدقه وعزيمته في الجهاد ويميزه عمن لم يجاهد حقيقة فيعلن كذبهم للملأ ودعواهم الفارغة فيفضحهم على رؤوس الأشهاد، وإلّا فهو عالم بهم من قبل وبما يكون منهم كما هو عالم بما كان «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً» أي بطانة من المشركين، فيفشوا أسرارهم إليهم، ولم يتخذوا خيانة للمسلمين بموالاة غيرهم فيكون وجودهم خديعة لهم، وكلّ شيء أدخلته فيما ليس منه فهو وليجة والرّجل في غير قومه وليجة راجع الآية 51 المارة في سورة النساء فيما يتعلق في هذا المعنى، ولم تكرر هذه الكلمة في غير هذه السّورة، ومن معاني لما التوقع فتدل على أن ذلك قد وقع من بعضهم، لذلك نبههم الله إلى اجتنابه «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (16) من موالاة الكفار واتخاذ بطانة منهم وإخلاص المخلصين لله ولرسوله الّذين لم يوالوا غيره ولم يتخذوا سواه. قال تعالى «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» التي خصها لتوحيده والقيام بشعائره «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» أي لا يصح ولا يكون لهم ذلك ولا يستقيم فعله منهم ولا يمكنهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة بيوت الله تعالى مع الكفر به في حالة من الأحوال أبدا «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها بالدنيا من جميع وجوه البر والخير لأنها لم تكن خالصة لوجهه بل لمجرد السّمعة والرّياء، وما كان خالصا منها فقد كوفئوا به في الدّنيا بما منّ الله عليهم من صحة ومال وولد وجاه وغيرها، وحرموا ثوابها في الآخرة، ولهذا قال تعالى «وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» (17) لا يتحولون عنها أبدا ومن كان هذا شأنهم، وهذه عاقبتهم لا يكونون أهلا لعمارة مساجد الله المخصصة لعبادته وحده «إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» في أمر دينه

[سورة التوبة (9) : الآيات 21 إلى 30]

ودنياه نابذا كلّ ما سواه وراء ظهره لا يقدم على ما نهاه عنه ويحذره كلّ الحذر «فَعَسى أُولئِكَ» العامرون المساجد المؤمنون بالله ورسوله «أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» (18) لعمارتها لها غيرهم. قال تعالى مبعدا لظنهم على طريق الاستفهام الإنكارى «أَجَعَلْتُمْ» ايها النّاس «سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بالفضل والثواب وحسن العاقبة سوآء كلا «لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ» في ذلك البتة، لأن هؤلاء يثابون على أعمالهم بإيمانهم، وأولئك محبطة أعمالهم ممحوق ثوابها بكفرهم وظلمهم «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (19) أنفسهم وغيرهم باختيارهم الضّلال على الهدى. قال تعالى «الَّذِينَ» مرفوع بالابتداء «آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» إيمانا خالصا وخبر المبتد المعطوف عليه ما بعده هو «أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ» من الّذين قاموا بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام «وَأُولئِكَ» المؤمنون المهاجرون المجاهدون «هُمُ الْفائِزُونَ» (20) عند الله يوم القيامة بالجنة وعند النّاس بالدنيا بالحمد والثناء والذكر الحسن، وهؤلاء هم الّذين «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» (21) لا ينقطع أبدا عنهم حالة كونهم «خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (22) لا أعظم منه ولا يحيط به عقل البشر يمنحه الله من يشاء من عباده، لأن الإيمان بالله لا يوازيه عمل وكلّ عمل بلا إيمان لا قيمة له عند الله. مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها: وسبب نزول هذه الآيات على ما قاله العلماء أن العباس افتخر بالسقاية، وافتخر شيبة بالعمارة، وعلي كرم الله وجهه بالإيمان والإسلام والجهاد، فنزلت هذه الآيات. روى مسلم عن النّعمان بن بشير قال كنت عند منبر النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النّبي وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فأستفتيه عما اختلفتم فيه، فأنزل

الله هذه الآيات. وقد سبق أن ذكرنا غير مرة جواز تعدد أسباب النّزول، أما ما قيل بأن العباس حين أسرّ قال لعلي حين وبخه على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا؟ فقال علي وهل لكم محاسن وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر والضّلال؟ قال نعم، قال ما هو؟ قال نعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك الأسير، فنزلت هذه الآيات فيها، فهو قول بعيد عن الصّحة، لأن هذه السّورة لم تنزل إذ ذاك، وقضيه العباس هذه في حادثة بدر وبينهم سنون، ولم يستثن شيئا منها. أما ما قاله ابن الجوزي بأن الآيتين الأخيرتين منهما وهما (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ... ) نزلتا بمكة فلم يوافقه على هذا إلّا ابن الغرس من جميع العلماء، ويرد قولهما ما قاله في المستدرك عن أبي بن كعب، وما جاء في تفسير أبي الشّيخ عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت منها أي سورة التوبة هذه، وأنت خبير بأن ابن الجوزي كان ديدنه نقل الأقوال الضّعيفة والمختلف فيها، وكان يعاكس رأي من تقدمه غالبا: وهذا الذي سبب له الشّهرة بين النّاس (على حدّ خالف تعرف) وقد اقتفى أثره من يحب الشّهرة من العلماء ويدعي التبحر بالعلم وصاروا ينقلون عنه وعن ابن تيمية الأقوال المخالفة لإجماع الأمة بذلك القصد، وأمثال هؤلاء يجب مقتهم لأن وجودهم مفسدة للدين، حتى انهم شأنوا سمعة ابن الجوزي وابن تيمية بحيث من لم يعرف مقامهما بظن أن كلّ أقوالهما مخالفة للاجماع، وليس الأمر كذلك. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء إلى السّقاية فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله بشراب من عندها، فقال اسقني (أي مما عندك من الشّراب) فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال اسقني (لا بأس من وضع الأيدي بالشراب) فشرب منه، ثم اتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا (يعني عاتقه) . وروي مسلم عن أبي بكر ابن عبد الله المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاني أعرابي فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللّبن وأنتم تسقون النّبيذ أمن حاجة بكم

أم من بخل، فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، إنما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، فقال أحسنتم إذا عملتم كذا، فاصنعوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما أمر الله المؤمنين بالتبرّي من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فنقطع أرحامنا ونضيّع أموالنا ونخرّب دورنا فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ» لأموركم وتجعلونهم بطانة لمهماتكم ومكتما لأسراركم «إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ» فإنهم لا يؤتمنون على شيء من ذلك أبدا «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا النهي «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (23) أنفسهم بمخالفتهم أمر الله والمقام مع أعدائه وموالاتهم دونه، فيا محمد «قُلْ» لهؤلاء الميالين إلى الكفرة «إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها» بسبب مباعدتكم عن أقربائكم وتعلقاتكم من الكفار «وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها» بينهم للتقرب منهم «أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ» وترون أن رعاية هذه المصالح الفانية أولى من طاعة الله ورسوله والمجاهدة في سبيله المؤدية إلى الدّار الباقية والجنات العالية «فَتَرَبَّصُوا» انتظروا وهي كلمة تهديد ووعيد لمن يؤثر بحقه أولئك أو شيء منهم على محبة الله ورسوله فليرقب مغبة ذلك وخاصة عافيته «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» القاضي باستئصالكم لخروجكم عن طاعته «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (24) الخارجين عن طاعته وهذا تهديد بالغ ما فوقه تهديد، لأن الله تعالى قال (أحب) والحب لا يكون إلّا عن زيادة شوق في الشّيء، ولهذا جعل عقابهم شديدا. قال يحيى ابن معاذ لأبي يزيد البسطامي هل سكرت مما شربت من حبه؟ فأجابه بقوله: شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفسد الشّراب ولا رويت هذا أبو يزيد وانظر لقول ابن الفارض: شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

مطلب في الرخص والعزائم وواقعة حنين

ولكل وجهه، الحكم الشّرعي، إذا تعارض ما هو من مصالح الدّين مع ما هو من مصالح الدّنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدّين في مثل هذه الأشياء المذكورة في الآية المارة. مطلب في الرّخص والعزائم وواقعة حنين وان الرّخص الواردة في اختيار بعض الأمور كالنطق بكلمة الكفر عند الإكراه وشراب الخمر مخافة القتل وغير ذلك من الرّخص التي نقلت دعائمها عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا تنافيها هذه الآية، لأن ما جاء فيها انما نؤاخذ به إذا كان عن حب واختيار لا عن بغض وإكراه، وإنما قلنا دعائم الرّخص أي أساساتها وقوائمها عن ابن عباس لأنه كان رضي الله عنه يتوسع في الأمور اجتهادا منه ويفتي بها كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتشدد فيها، ولهذا صار من قبيل ضرب المثل (رخص ابن عباس) (وعزائم ابن عمر) راجع تاريخ القضاء في الإسلام للمعري تجد ما يتعلق بهذا وهو أوسع من رسالة القضاء في الإسلام للكنوي، والآية 24 من سورة النّساء المارة تقف على ما قيل في ابن عباس من أجل توسعه في الرّخص، ثم شرع جل شرعه يعدد نعمه على المؤمنين بقصد لقاء النّفرة للمشركين، وبيان ان معونتهم لهم لا قيمة لها، وانهم إذا اتكلوا على الله يغنهم عنهم، فقال جل قوله «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ» ومحلات متعددة، فقد جاء في الصحيحين في حديث زيد بن أرقم أن مجموع غزواته صلّى الله عليه وسلم تسع وعشرون قاتل في ثمان منها، وسراياه ما بين الإحدى والخمسين إلى الاحدى والسّتين، وان ما ذكرناه في أوائل السّورة عبارة عما ذكر منها في القرآن العظيم فقط «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» واد بين الطّائف ومكة معروف «إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ» فاستغنيتم بها وطشتم كأنكم تغلبون بسبب الكثرة «فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً» بل خذلتم وأظهرنا لكم انكم لا تغلبون إلّا باعتمادكم على الله لا على عدد أو عدد «وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ» فرأيتموها لم تسعكم مع ما هي عليه من السّعة العظيمة حتى انكم لم تجدوا موضعا تقرون إليه بحيث صرتم ترونهم ملأوا السّهل والجبل لما ألقى في قلوبكم من الرّعب منهم، «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ»

عنهم منهزمين منهم «ثُمَّ» بعد ما عرفتم أن النّصر لا يكون إلّا من عند الله وباعتماد عليه وصدق التوكل وكمال الثقة به تعالى، ووقر هذا في قلوبكم إذ «أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» طمأنينته بإزالة الخوف من أفئدتكم وتقليل الأعداء بأعينكم وتكثيركم بأعينهم، وقد عمم هذه السّكينة المتضمنة ما ذكر «عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» الكائنين معه في هذه الحادثة «وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» من ملائكته الكرام وقد جمعهم مع أنهم نورانيون ليكثر بهم سوادكم في أعين أعدائكم وخلق فيهم قدرة النّظر إليهم دونكم لإلقاء الرّعب في قلوبهم، ولولا ذلك لما رأوهم لأن أبصارهم لا طاقة لها على رؤيتهم ولو بصورة البشر، وإنما حجبكم عن رؤيتهم وحال دون نظركم إليهم مع قدرته على ذلك كما فعل بأعدائكم لئلا تتكلوا عليهم وليكون اتكالكم على الله وحده «وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بأيديكم قتلا وأسرا وسبيا «وَذلِكَ» العذاب المبرح هو «جَزاءُ الْكافِرِينَ» في الدّنيا ولعذاب الآخرة المخبوء لهم أشد وأعظم «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ» ممن يؤمن منهم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» للتائبين ما سلف منهم «رَحِيمٌ» بعباده يقبل توبتهم رؤوف بأوليائه ينصرهم بعد الانهزام، وقد عد الله تعالى عليهم الانهزام ذنبا كما أن الاعتماد على النّفس ذنب آخر يجب التوبة عنه، وخلاصة هذه القصة هو ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة في شهر رمضان السّنة الثامنة من الهجرة كما قد أوضحناه أول سورة الفتح المارة، خرج بعد ايام إلى حنين لقتال هوازن وثقيف وكانوا أربعة آلاف، وكان على هوازن مالك بن عوف النّقري، وعلى ثقيف كنانه بن عبديا ليل، في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار ولفيف من الطلقاء فلما التقى الجمعان قال سلمة بن سلامة بن رقيش الأنصاري لن نغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلامه لأنه يعلم ان الكثرة بغير معرفة الله تعالى لا نجدي نفعا، ولهذا الكلام وكلهم الله إلى كثرتهم لأنه تعالى لم يرض قوله ولأن أحدا من القوم لم يرد عليه قوله، اعتبروا كلهم راضين بمقالته، ولذلك استاء حضرة الرّسول لما بلغته مقالته تلك وسكوت القوم عليه، فوكلهم الله لأنفسهم فخذلوا كما سيأتي تفصيله بعد وما قيل إن القائل لهذه الكلمة هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم زور، وبهت وافتراء

وعدوان ، وحاشاه فى ذلك، لأنه متوكل على ربه في جميع أحواله وأقواله، عالم بأن الكثرة لا تغني من الله شيئا، متيقن أن النّصر والمعونة من الله وحده لا بكثرة ولا بقلة، وكذلك أخطأ من ألصق هذه التهمة بأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه إذ يبعد صدورها من مثله ولا يتصور وقوعها منه وهو على ما عرف عليه من اليقين الكامل والتوكل الخالص، ويكفي هذا القول وهو أن ما قاله ابن الجوزي المار ذكره آنفا، وهو إن صح عنه في بعض مخالفاته التي نقلها عنه أتباعه ممن لا يوثق بكلامهم، روى البخاري ومسلم عن أبي إسحق قال جاء رجل إلى البراء فقال أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال أشهد على نبي الله ما ولى، ولكن انطلق أخفّاء من النّاس حسرا (أي ليس عليهم سلاح، ويقال عزلا فيمن لا سلاح لهم، وحسرا لمن كان لديهم بعض السّلاح ولا دروع لهم، والأخفّاء (الموسوعون الّذين ليس لهم ما يعوقهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث رئيس الطّلقاء يقود بغلة، فنزل ودعا بما دعا موسى عليه السّلام يوم انفلاق البحر، وهو اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلّا بك. واستقر وهو يقول: أن النّبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك، زاد أبو خيثمة ثم صفهم. وروى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال ابن عباس وأنا آخذ بلجام بغلته أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السّمرة، فقال عباس وكان رجلا صيّتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السّمرة، أي الشّجرة وإذا كانت هي المراد فتكون والله أعلم هي

الشجرة التي بايعه الأصحاب تحتها يوم الحديبية، وفي رواية قال يا أصحاب سورة البقرة هذا رسول الله، فتراجع القوم، قال فو الله لكان عطفهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا لبيك لبيك، قال فاقتتلوا والكفار وكانت الدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار، قال ثم قصرت الدّعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال صلّى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس أي اشتد الحرب وهذه كلمة لم تسمع قبل نهي من مقتضياته وإنشائه صلّى الله عليه وسلم، والوطيس التنور، قال ثم أخذ صلّى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب الكعبة أو ورب محمد، قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال فو الله ما هو إلّا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا لا يقطع شيئا وأمرهم مدبرا. وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنينا، قال فلما غشوا رسول الله نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملاعينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله بذلك، وقسم رسول الله غنائمهم بين المسلمين. وروي أن رجلا من المشركين قال لما التقينا وأصحاب محمد لم يقضوا لنا حلبة شاة، فسقناهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء أي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا شاهت الوجوه فانهزمنا، وهؤلاء الجنود الّذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية وقد سبق أن ذكرنا أن الملائكة لم تحارب مع رسول الله إلّا يوم بدر، وفي غيره تكون مددا لتكثير سواد المسلمين وهو الصّحيح كما أشرنا إليه في الآية 12 من سورة الأنفال المارة، وقول هذا المشرك يؤيد عدم قتالهم، إذ اقتصر فيه على القول الذي سمعه منهم، فلو كان هناك قتال لذكره في هذه الرّواية، لأنه يقول راويها تلقانا رجال يقولون كذا وكذا، ولم يقل حاربونا أو رمونا أو غير ذلك. وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله يعطي رجالا من قريش المئات

من الإبل، فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا، وإن سيوفنا لتقطر من دمائهم. قال أنس فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله فقال حديث بلغني عنكم، فقال له فقهاء الأنصار أما ذو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال صلّى الله عليه وسلم إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن تذهب النّاس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فو الله ما تنقلون به خير مما ينقلون به، قالوا بلى يا رسول الله قد رضينا، قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة (حالة غير مرضية تتأثرون فيها بحيث يؤثّر وغرها في قلوبكم، وتطلق هذه الكلمة على المكرمة المتوارثة وليست مرادا هنا) شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض، قالوا سنصبر. ورويا عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في النّاس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذا لم يصبهم ما أصاب النّاس، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله آمنّ، قال فما منعكم ألا تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا، قالوا الله ورسوله أمّن. قال لو شئتم لنلتم جئتنا كذا وكذا (أي وحيدا فآريناك ونصرناك وقمنا بمؤنة أصحابك وساويناهم بأنفسنا وقسمنا عليهم أموالنا وأزواجنا، ولكنهم من أدبهم مع حضرة الرسول لا يقولون ذلك ولا يتصورون أن يجابهوا حضرة الرّسول به) ترضون أن تذهب النّاس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رجالكم، لولا الهجرة لكنت امرأة من الأنصار، ولو سلك الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار والنّاس دثار (الشعار اللّباس الذي يلي شعر الجسد، والدّثار ما يلبس فوقه) يريد أنهم الأصل وغيرهم الفرع. هذا وقد ذكر البغوي أن الزهري قال بلغني أن شيبة بن عثمان قال استدبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين أريد قتله بطلحة بن عثمان وابنه عثمان حيث قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسوله على

ما في نفسي فالتفت صلّى الله عليه وسلم إليّ وضربني في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه فإذا هو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله، قد أطلعك الله على ما في نفسي، وأسلم وحسن إسلامه. وروى مسلم عن رافع بن خديج قال أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن قصي والأقرع بن حابس كلّ إنسان مئة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك ، فقال عباس: أتجعل نهبن ونهب البعيد ... بين عيينة والأقرع فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع قال فأتم له رسول الله مئة. وروى البخاري عن المسور بن مروان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله إن معي من ترون، وأحبّ الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطّائفتين، إما المال وإما السّبي، وقد كنت استأنيت بكم، وفي رواية كان صلّى الله عليه وسلم انتظرهم بضعة عشرة ليلة حين قتل من الطّائف، فلما تبين لهم أنه غير رادّ عليهم إلّا إحدى الطّائفتين، قالوا إذا نختار سبينا، فقام صلّى الله عليه وسلم في النّاس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، فقال النّاس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله، فقال لهم في ذلك إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع النّاس ليكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. فهذا الذي بلغنا من سيرة هوازن قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» التاسع من الهجرة الذي نزلت فيه هذه السّورة وحج فيه أبو بكر بالناس نائبا عن رسول الله ولم يحج به رسول الله لئلا يرى مشركا أو عريا بالطواف بالبيت قبل الإنذار الذي قدمه إليهم مع ابن عمه علي كرم الله وجهه الذي هو بالنسبة له بمنزلة هرون من

موسى، كما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم والمراد هنا أنهم نجسوا العقيدة لا أنهم أنفسهم نجسة كما ذهب إليه بعض الإمامية راجع الآية (5) من سورة المائدة المارة «وَإِنْ خِفْتُمْ» أيها المؤمنون إن انقطاع المشركين عن الحضور إلى البيت الحرام بسبب لكم «عَيْلَةً» فقرا وفاقة بانقطاع تجارتهم والبيع والشّراء معهم «فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» بأن يكثر لكم الدّرّ والنّبات، ويزيد في تجارة المسلمين ويكثر وفودهم على البيت بما يكفيكم عنهم «إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ» كثير الألطاف على عباده «عَلِيمٌ» بما ينشأ عن مجيئهم وعدمه وما يصلح به شأنكم من غيرهم «حَكِيمٌ» (28) بتحقيق آمالكم وكفايتكم من طرق لم تكن ببالكم، وانّما شرط المشيئة على نفسه الكريمة جلت وعظمت تعليما لعباده ليكونوا دائمي التضرع والابتهال إليه في طلب الخير ودفع الشّر، ويقطعوا آمالهم من الخلق ويخلصوا التوكل عليه والإنابة في كلّ أمورهم. الحكم الشّرعي: لا يجوز لكافر أن يدخل حرم مكة المشرفة ذميا كان أو مستأمنا، ويجب على الإمام إذا أتاه رسول كافر من دار الكفر أن يخرج هو إليه لا أن يدخله الحرم، ولهذا فإن جميع سفراء الدّول قد خصص لإقامتهم محلات في جدة خلافا للدول الأخرى فإنهم يسكنون في العاصمة نفسها، وبما أن عاصمة الحجاز مكة المكرمة وقد حرمها الله على الكفرة جعلت إقامتهم في جدة أما بقية الأراضي الحجازية مما بين اليمامة ونجد واليمن والمدينة المنورة وما بين جبلي طي وطريق العراق فيجوز لهم دخولها بالإذن على أن لا يقيموا بها أكثر من ثلاثة أيّام. ويدخل الحرم في المسجد الحرام لأن دخولهم فيه قريب من نفس المسجد، يؤيد هذا قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» وهو إنما أسري به من بيت أم هانيء، وهو من الحرم فأطلق عليه لفظ المسجد لأن مكة حكمه، وأما بقية البلاد الإسلامية السّائرة فللكافر الإقامة فيها بعهد وأمان وزمة ولا يدخلون المساجد إلّا بإذن من أمير مسلم، روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنّصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلّا مسلما. زاد في رواية لغير مسلم، وأوصى فقال: أخرجوا من المشركين من جزيرة العرب قال تعالى «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي، ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:

بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ» مواتية غير ممتنعة وقوة وقهر وغلب، يقال لكل من أعطى شيئا كرها عن غير طيب نفس أعطى عن يد «وَهُمْ صاغِرُونَ» (29) أذلاء مهانون. الحكم الشّرعي: تؤخذ الجزية من أهل الكتاب عامة ومن مشركي العجم، أما العرب المشركون فالإيمان أو السّيف، إذ لا تقبل منهم الجزية إذا أرادوا البقاء على كفرهم، وتؤخذ من المجوس، أخرج مالك عن جعد بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال عبد الرّحمن ابن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب. مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي، ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها: ومن قال إنها لا تؤخذ من أهل الكتاب العرب فقوله رد عليه. وبما رواه أنس أن النّبي صلّى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر رومة، فأخذه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية، أخرجه أبو داود، وهو رجل من العرب من غسان وأقل الجزية من كلّ حالم أي محتلم عاقل دينار في كلّ سنة أخرجه أبو داود. وعن معاذ بن جبل عن رسول الله لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ حالم دينارا أو عدله من المعاقربة (ثياب تكون في اليمن) وأكثرها على الغني أربعة دنانير وعلى المتوسط اثنان، والفقير واحد فقط، وأخرج مالك في الموطأ عن أسلم أن عمر ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك شرط عليهم أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيّام لمن يؤمهم أو يمرّ بهم في غزوة أو تجارة أو زيارة أو غيرها، راجع الآية 69 من سورة الحج المارة والآية 64 من سورة المائدة أيضا. وليس القصد من أخذ الجزية إقرارهم على دينهم بل حقن دمائهم وإمانة لهم لعلهم يرغبون في الحريّه الكاملة فيؤمنون، وعليه فيجب على المسلمين كافة أن يعاملوهم معاملة حسنة ويحفظوا مالهم وعرضهم وذراريهم وخدمهم وأن يروهم كلّ ما يأمر به الإسلام من محاسن الأخلاق وعلو الآداب واللّين والعطف

والرّقة أملا بدخولهم في الإسلام عن رغبة وشوق واختيار لا عن كراهية وبغض واضطرار، لأنهم أهل كتاب فلربما يعيدون نظرهم إلى كتبهم فيفكرون فيها ويدققون ما ترمي إليه من صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصحة دينه الذي تشير إليه كتبهم، وإنما أمهلوا فلم يقاتلهم الرّسول ولم يأمر بقتالهم وقد قبل منهم الجزية لهذه الغاية وحرمة لآبائهم الّذين انقرضوا على شريعة التوراة والإنجيل الصّحيحين، لذلك علينا معشر المؤمنين أن نقوم بواجبهم ونخترم حقوقهم ونريهم مكارم الأخلاق ومحاسن هذا الدين الحنيف ونعاملهم كمعاملة بعضنا لبعض بل أحسن، وقد أمرنا الله بالآداب وحسن الخلق الذي مدح رسوله عليه في كتابه ليركن إليه النّاس عن طيب نفس وليتعشّق النّاس دينه الحق وقوله الصّدق الذي أمر الله النّاس باتباعه وأمر الأنبياء وأتباعهم باتباعه، ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعدم قتالهم إذا أرادوا الجزية وتركهم لعلهم يتذكرون في هذا. ولما أمر الله تعالى بقتال طوائف من اليهود والنّصارى الموصوفين بالآية المتقدمة ليؤمنوا أو بضرب عليهم الجزية ذكر وجه كفرهم بقوله عز قوله «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» وحاشا الله أن يكون له ولد، وإنما قالوا ما قالوه افتراء من تلقاء أنفسهم كما قالت طائفة من العرب بهتا الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فكل من له لبّ سليم أو عقل كامل لا يقول هذا سواء أكان من النّصارى أو اليهود أو غيرهم، وإنما تقول الجهلة الّذين لا فطنة لهم بسبب ما أتاهم الله من المعجزات التي لا يتصور صدورها من البشر، ولم يعلموا أن الله يظهر على يد من يشاء من عباده الخوارق، أما ما جاء في الإنجيل بلفظ الأب فلا يراد منه معنى الأبوة التي مصدرها التوالد، بل المراد منه المربّي، فهو جل جلاله بهذا المعنى أب للخلق كافة، قال الفيلسوف الشّهير (رينان) إن عيسى عليه السّلام عند ما قال أبي عن الله لم يرد أن الله أبوه حقا، وإنما عنى بذلك أنه كالأب في الحنان والعطف. بل هو أشد حنانا وعطفا على خلقه من آبائهم. فانظر أيها المدرك قول هذا، واعلم أن القائلين بأن عيسى ابن الله من أهل الكتاب وأراد النّبوة نفسها بمعنى الوالد فهو في عداد المشركين، إذ لا فرق بين من يعبد الوثن الجامد وبين من

يعبد الإنسان أو الملك أو الكوكب، راجع تفسير الآية (259) من البقرة والآية (5) من آل عمران المارتين تقف على سبب اتخاذ عزير وعيسى ابنين لله، تعالى عن ذلك، وقد جاء في رواية عطية الصّوفي عن ابن عباس أنه قال إنما قالت اليهود ذلك لأن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم فأضاعوها وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة، فقال عزير عليه السّلام قد ردّ الله إلي التوراة فعلمهم إياها، فلما نزل إليهم التابوت عرضوا ما تعلموه من عزير عليها، فوجدوه موافقا لما في التابوت حرفيّا، فقالوا ما أوتي هذا إلّا لكونه ابنا لله، وقد أماته الله مئة عام ثم أحياه، راجع الآية المذكورة في البقرة، وأما النّصارى فبقوا بعد رفع عيسى إحدى وثمانين سنة يصلون ويصومون، فاختلفوا مع اليهود وقتل برلص اليهودي من النّصارى ما قتل، وقال اليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفره والنّار مصيرنا فعرقب فرسه وندم وتنصر وقال: قد نوديت إلى الله قبل توبتي، فأحبه النّصارى، وعمد إلى أحدهم المسمى نسطورا فعلمه أن عيسى ومريم والإله ثلاثة، وعلم منهم رجلا اسمه يعقوب بأن عيسى ليس بإنسان بل هو ابن الله، وعلم آخر اسمه ملكان بأن عيسى هو الله، وكان تعلم الإنجيل وجمع الثلاثة المذكورين، وقال لهم إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني وأني سأذبح نفسي تقربا إليه، واذهبوا أنتم فادعوا النّاس إلى ما علمتكم، وذبح نفسه فذهب لثلاثة المذكورون إلى بيت المقدس وإلى الرّوم وكلّ منهم دعا النّاس إلى ما أمر به وتعلم من بولص المذكور لعنه الله كيف اختلق هذه الفرية من نفسه وضحى بنفسه للتمسك به وإكفار النّاس، وهو أول من يدخل في قوله تعالى ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون الآية (25) من سورة النّحل في ج 3 وراجع الآيات 19، 75، 76 من سورة المائدة المارة، قال تعالى «ذلِكَ» القول الذي ابتدعوه واختلفوه «قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ» غير مستند إلى نقل ولا منتم إلى علم مجرد عن الحقيقة افتروه على الله «يُضاهِؤُنَ» بتقولهم هذا ويشابهون به «قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» بأن يوافقوا ما قالوه من أن الملائكة بنات الله قال تعالى في حق

[سورة التوبة (9) : الآيات 31 إلى 40]

هؤلاء العرب (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الآية 57 من سورة النحل في ج 2 «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» جميعا «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (30) يصرفون الحق إلى الباطل والصّدق إلى الكذب وفي هذه الجملة معنى التعجب وهو راجع إلى الخلق لأن الخالق لا يتعجب من شيء. واعلم أن ما ذاع على ألسنة النّاس في قولهم أي شيء خلقه الله وتعجب منه ويريدون الإبل في قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) الآية 18 من سورة الغاشية ج 2 فهو من هذا القبيل لا كما يزعم العوام تأمل. واعلم أن هؤلاء اليهود والنّصارى «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنهم أطاعوهم في معصيته واتبعوهم فيما يحللون ويحرمون حسب شهواتهم وأهوائهم فكأنهم عبدوهم «وَ» أن النّصارى اتخذوا «الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» إلها لاعتقادهم البنوة فيه والحلول في ذات الله كما اتخذت اليهود عزيرا ابنا لله «وَما أُمِرُوا» من قبل أنبيائهم ولا في كتبهم المنزلة عليهم من الله «إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً» وهو الإله العظيم الذي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (31) به من خلقه وإنهم بدّلوا وغيروا أحكام الله المنزلة إليهم على لسان رسلهم اتباعا لقادتهم ورؤسائهم قال عبد الله بن المبارك: وهل بدّل الدّين إلّا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها ولولا هؤلاء الكذابون المشغوفون يحب الرّياسة لما وقع شيء من ذلك ولكن إرادة الله قضت به أولا فلا يقع شيء في كونه إلّا بإرادته فآمن من آمن بحسن يقينه وكفر من كفر بسوء حاله طبق ما هو مقدر في علمه «يُرِيدُونَ» هؤلاء بعملهم هذا «أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ» دينه المنير المؤيد بالبراهين الواضحة والحجج الدّامغة والدلائل السّاطعة التي هي في شدة بيانها وكمال ظهورها كالنور «بِأَفْواهِهِمْ» بمجرد أقوالهم الكاذبة الصّادرة عن غير رويّة وتفكر ونظر «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (3) ذلك الإتمام فإنه سيتمه رغم أنوفهم وهذا وعد قد أنجزه الله لرسوله حال حياته وقد أظهر دينه وأعلاه على سائر الأديان وهو حتى الآن قامع رؤوس الكافرين والمبتدعين بحقه وصدقه ولا يزال إن شاء الله كذلك حتى يرث الأرض ومن عليها قال صلّى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من

أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة قال تعالى «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى» أي القرآن الهادي للناس أجمع لو اتبعوا أحكامه وأوامر المنزل عليه وعملوا فيهما «وَدِينِ الْحَقِّ» الإسلام الذي لا أحق منه قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية 85 من آل عمران المارة: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (33) وسيتم هذا عند نزول سيدنا عيسى عليه السّلام، إذ لا يبقى دين في زمنه غير دين الإسلام، ولا يبقى على وجه الأرض إلّا مسلم وكافر، ثم ينهار الإسلام أولا بأول حتى لا يبقى من يقول الله، فتقوم السّاعة على شرار الخلق وكلهم إذ ذاك أشرار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويهلك في زمنه الملل كلها إلّا الإسلام. يدل على هذا قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) الآية 158 من سورة النّساء المارة، ونظير هاتين الآيتين الآيتان 9 و 10 من سورة الصّف المارة، وقد عدّد الله تعالى في هذه الآيات مثالب بني إسرائيل، وسبق أن بينا قسما منها في الآيات من 40 إلى 60 من سورة البقرة في معرض تعداد النّعم عليهم، وكذلك في الآيات ص 62 إلى 123 ومن 130 إلى 147 من البقرة أيضا وآيات أخر منها ومن غيرها، مما يدل على أنهم لم يقابلوا نعم الله التي أسبغها عليهم بالشكر بل بالإنكار والجحود، وأوامره بالعناد والكفر، حتى توصلوا إلى قتل أنبيائهم قاتلهم الله وأخزاهم في الدّنيا والآخرة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم وغيرهم لقاء ما يأخذونه منهم من حطام الدّنيا، مع أن الواجب عليهم ألّا يفعلوا شيئا من ذلك، لأن الأحبار بمثابة العلماء العاملين، والرّهبان بمثابة المشايخ الصّوفية الكاملين المتقيدين بحدود الله، وكلمة كثير تفيد أن القليل منهم لا يفعل ذلك بل يجمع لنفسه وغيره منه ويتقيد بأوامره ونواهيه «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (34) يوم القيمة «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» ويقال لهم حين يفعل بهم ذلك «هذا» جزاء وعقاب وعذاب «ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» من الذهب والفضة التي لم تؤدوا حق الله منها «فَذُوقُوا» وبال تضييعكم حق الله وعدم إعطائه لفقرائه جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (35) في دنياكم، وفي هذا معنى الذم لمالهم ذلك لأنهم لم ينتفعوا به. والكنز يطلق على الجمع وغيره، راجع الآية 267 من سورة البقرة الدّالة على فرضية الزكاة، وهذه الآية عامة في كلّ من ذلك شأنه، لأنها نزلت في مانعي الزكاة، وإن ورودها بسياق ذم أهل الكتاب الّذين يأخذون أموال النّاس بالباطل لا يخصصها فيهم، روى مسلم عن زيد بن وهب قال مررت بالربذة فإذا بأبي ذر، فقلت ما أنزلك بهذا المنزل؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب، فقلت نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم إلى المدينة، فقدمتها، فكثر علي النّاس حتى كأنهم لم يروني من قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال إن شئت تنحيت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت، يريد رضي الله عنه إفهامهم بأن عثمان رضي الله عنه نفاه إلى ذلك المكان وأن طاعته واجبة عليه. ومعنى الكنز ما روي عن ابن عمر قال أعرابي أخبرني عن قول الله تعالى عز وجل (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ إلخ) قال ابن عمر من كنزها فلم يؤدّ زكاتها ويل له، وهذا كان قبل أن تنزل آية الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طهرا للأموال أخرجه البخاري. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال سمعت عبد الله بن عمر قال كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا. وهذا هو الحكم الشّرعي في ذلك، وإن مانع الزكاة يدخل في هذا الوعيد.

مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السنين، وعدد أيامها:

مطلب في ذم مانعي الزكاة وعقابهم، ومعنى الكنز، وسبب نفي أبي ذر، والأشهر الحرم، واختلاف السّنين، وعدد أيامها: أخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلّا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيمة يبطح لها بقاع قرقر (المستوي من الأرض الواسعة الملساء) أوفر مما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا فتطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما الى الجنّة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله والبقر والغنم؟ قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء (ملتوية القرنين) ولا حلجاء (لا قرون لها) ولا عضباء (مكسورة القرنين) تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مرّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقدارة خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله شجاع أقرع (حيّة مسنّة) له زبيبتان (شعرتان) في شدقيه يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (العظمان النّاتئان من لحييه) يعني شدقيه، ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا قوله تعالى (ولا تحسبن الّذين يبخلون) الآية 180 من آل عمران المارة. وفي موطأ مالك من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه يقول له أنا كنزك. وروى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال انتهيت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال

هم الأكثرون أموالا إلّا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت أولاها حتى يقضى بين النّاس. ورويا عن الأحنف بن قيس قال قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليه فقال بشّر الكافرين برحف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل قال فرفع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا، قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلّا كرهوا ما قلت لهم، فقال إن هؤلاء لا يعقلون شيئا، قلت من هذا قالوا أبو ذر، قال فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول من قبل؟ فقال ما قلت إلا شيئا سمعته من رسول الله نبيهم صلّى الله عليه وسلم. والرّضف هو الحجارة المحماة، والغض بالضم والفتح غرضوف الكتف، والغرضوف كلّ عظم رخص يؤكل كمارن الأنف ورؤوس الأضلاع ورهابة الصّدور وداخل قوف الأذن ونغض الكتف (والقوف هو أعلى الأذن أو مستدار سمعها) وجاء في حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له ألا أخبرك بخير ما يكنز المرأة الصّالحة التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته. أخرجه أبو داود. وجاء عن ثوبان أن بعض الأصحاب سأل حضرة الرّسول عن خير المال قال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه- أخرجه الترمذي- قال تعالى «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ» قدرها على ما هي عليه الآن «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» فجعلها لكل سنة وأيّام السّنة ثلاثمائة وخمسون يوما وربع يوم تقريبا بحسب الهلال، فتنقص السّنة الهلالية عن الشّمسية عشرة أيّام وثلث اليوم تقريبا، ويسبب هذا النّقص تدور السنة الهلالية، فيقع الحج والصّوم تارة في الصّيف، وطورا في الخريف، ومرة في الشّتاء، وأخرى في الرّبيع بحيث يدوران في كلّ يوم من أيّام السّنة ويعودان

للمركز الذي كانا فيه في كلّ ثلاث وثلاثين سنة وثلث السّنة مرة، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 16 من سورة الحجر في ج 2 والآية 13 من الإسراء في ج 1 بصورة مفصلة فراجعها «مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» واحد فرد وهو رجب وثلاثة مرة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهي محترمة في الجاهلية والإسلام زادها الله حرمة وتعظيما وجعل الحسنات فيها مضاعفة وكذلك السّيئات لما فيها من انتهاك حرمتها، راجع الآية الخامسة المارة، من حرمتها أنه إذا وجد الرّجل قاتل ابنه أو سالب أو هانك عرضه لا يتعرض له، ولهذا فإن الّذين بينهم شىء من ذلك لا ينقطعون عن مكة فيها فيجلبون لهم الطّعام والألبسة ويبيعونهم إياها، لأن أهالي مكة دائما محتاجون للقوت واللّباس من أهل البلاد الآخرين، ولعل هذا أحد أسباب التحريم رحمة بأهالي مكة لئلا ينقطع عنهم الجلب ولو من أعدائهم «ذلِكَ» جعل الشّهور اثني عشر أحدا للسنّة وتخصيص أربعة منها بالحرمة «هو الدِّينُ الْقَيِّمُ» الذي سنة الله لعباده وأراد بقاءه ودوامه على مر السّنين بلا تغيير ولا تبديل ولا تحويل، وان تعظيم الحرم فيها من مقتضيات الدّين الذي تعبدنا الله به. الحكم الشّرعي: وجوب التقيد بمراسم الحج والصّوم والأخذ بهذا الحساب من أجلها واتخاذ الأعياد التي سنت فيها وإجراء المعاملات على حسبها لما فيها من قوام الأمر بين الله والنّاس، وان التغيير والتبديل والتحويل يسبب الظّلم للنفس وللغير، ومن المهلكات في الدّنيا والآخرة، ولهذا قال الله تعالى «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» أيها النّاس فتقدموا بعض الأشهر على بعض أو تضعوا شهرا مكان الآخر كما فعله من قبلكم حال جاهليتهم «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» فتعاونوا وتناصروا على قتلهم ولا تفرقوا وتخاذلوا فتفشلوا وتجبنوا، بل كونوا يدا واحدة على قلب واحد متكاتفين متعاونين على قتال أعدائكم، فإذا كنتم كذلك فإن الله تعالى يبشركم بالفوز ويضمن لكم النّصر والظّفر إذا اتقيتموه بقوله عز قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (36) مناهية المتبعين أوامره ومن يكن الله معه ينصره ويخذل عدوه في الأشهر الحرم وغيرها، لأن الكفرة إذا قاتلوا المؤمنين فيها جاز لهم قتالهم فيها كما هي الحال في الحرم

أيضا، راجع الآيتين 191، 217 من سورة البقرة المارة. قال تعالى «إِنَّمَا النَّسِيءُ» التأخير من شهر محرم إلى غير محرم الذي كان يفعله الجاهلية «زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» لا يجوز لأحد أن يفعله أبدا، إذ لا مبرر له، وأما ما كان من زعم الجاهلية وفعلهم التأخير فإنه كان حال كفرهم وتجردهم من الدّين وعدم معرفتهم الحلال من الحرام، فكان عملهم يزيد في كفرهم وقد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم اختلاقا، وذلك أنهم كانوا إذا حاربوا واستداموا في الحرب حتى جاءهم شهر حرام ولم ينتهوا من حربهم بعد يحلونه ويحاربون فيه ويحرمون شهرا بدله تبعا لهواهم، ولذلك ذم الله صنيعهم هذا وجعله من الإضلال بعد الضّلال، فقال عز قوله «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» من قبل كبارهم فيحملون على ذلك بعضهم فيوافقوهم على ضلالهم، وكان عليهم إذا حل الشّهر الحرام أن يتركوا الحرب ويتعاهدوا أمورهم ويتفاوضوا بينهم ويتداولوا بما يفضي الى الصّلح حقنا للدماء، لأن الله تعالى لم يحرم القتال في هذه الأشهر عبثا ولا لعبا، وإنما لغايات سامية تكون في منفعة النّاس، وقد نشأ هذا الضّلال لأنهم «يُحِلُّونَهُ» أي ذلك الشّهر الحرام «عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً» آخر إذا لم يصادف حربا، ثم يبدلون الأشهر ويحورونها «لِيُواطِؤُا» يوافقوا ويماثلوا «عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» من إبقائها على حالها أربعة بمواقعها «فَيُحِلُّوا» بفعلهم هذا «ما حَرَّمَ اللَّهُ» من الأشهر ويحرموا بدلها مما أحله الله بحسب ما تسول لهم أنفسهم، وهؤلاء قوم «زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ» فظنوها حسنة وهي في غاية من القبح ونهاية من الخبث وزيادة في الكفر «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (37) الى الصّواب بل يضلهم ويعميهم عنه لركونهم للاعوجاج وميلهم له اختيارا ورضى به ورغبة فيه عن طيب نفس، ونائب فاعل زين هو الشّيطان الذي يلقي في قلوبهم النّجسة أمثال هذه المخالفات فيعملونها. واعلم أنه لا يجوز إنقاص أشهر السّنة عن هذا العدد، ولا إنقاص الأشهر الحرم منها أو تبديلها لورود النّص القاطع فيه، لأن نقصها وزيادتها مخالف لأمر الله تعالى، أما ما تعمله اليهود من نقص عدد أشهر بعض السّنين وزيادتها في بعضها فهو من جملة مخالفاتهم لأوامر أنبيائهم وكتابهم وتحريفهم ما جاء عن الله تعالى

مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:

فيكفيهم ما ذمهم الله به في القرآن العظيم في آيات عديدة وليس بعد ذم الله ذم، فمن تسول له نفسه الاقتداء بفعلهم هذا فليشاركهم بغضب الله عليهم في الدّنيا وعذابهم في الآخرة وبهما كفاية له ولأمثاله. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السّموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان. أي حافظوا عليها ولا تبدلوا أو تؤخروا أو تحوروا فتخالفوا أمر الله فتسترجبوا غضبه. واعلم أن أول من سنّ التأخير في الأشهر الحرم نعيم بن ثعلبة وتبعه فيه قومه ومنهم جنادة بن عوف الذي أدرك رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، وآخر ملوكهم القلمس وهو الذي أخر المحرم عن وقته من أجل السّبب المتقدم ذكره وفيه يقول الكميت: ونحن النّاسئون على معدّ ... شهور حلّ نجعلها حراما وهذا من باب الافتخار الجاهلي لأنهم كانوا لا يبالون بأن يفتخروا بالقتل والسّبي والتحريم والتحليل، كما يفتخرون بالكرم والشّجاعة والفصاحة، لأنهم لا يتقيدون بدين يمنعهم عن ذلك، ولا عادة يذمون بها، لذلك فإن افتخارهم بما هو مباح كافتخارهم بما هو محرم على حد سواء، وكلّ منهما عندهم مما يفتخر به. مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها: قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ» تباطئتم عن تلبية الأمر حالا ولم تسرعوا للاجابة وملتم الى الإخلاد «إِلَى الْأَرْضِ» والمكث فيها وكراهية الذهاب للجهاد في سبيل الله «أَرَضِيتُمْ» أيها المؤمنون الأعزاء الكرام «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» الدنيئة واغتررتم بزخارفها المموّهة الفانية وآثرتموها «مِنَ الْآخِرَةِ» الباقية ذات النّعيم الدّائم، فتبّا وخسرا لمن آثر ما يفنى على ما يبقى، وآثر القعود على الجهاد «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي» جنب الحياة «الْآخِرَةِ» مستمرة الرّاحة عظيمة الاستراحة «إِلَّا قَلِيلٌ» (38) جدا، أخرج مسلم عن المسور قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم

والله ما الدّنيا من الآخرة إلّا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم يرجع. أي لا يرجع بشيء أصلا. وهذه الآية تشير الى وجوب الجهاد في كل وقت وحال لأنها تنصّ على أن التشاغل عنه منكر، ولذلك عابهم الله عليه. ثم ذكر ما يترتب على عدم إجابتهم والمسارعة للجهاد فقال «إِلَّا» إن لم «تَنْفِرُوا» الى ما استنصركم إليه رسولكم وتخرجوا حالا إلى جهاد عدوكم الذي يوجهكم اليه وتتقاعسوا عن تلبية أمره لقتال أعداء الله أعدائكم الحريصين على استئصالكم «يُعَذِّبْكُمْ» ربكم الذي أمر نبيكم بذلك إرادة عزكم وإكرامكم «عَذاباً أَلِيماً» في الدّنيا بالذل والهوان والخزي والعار، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وإحراقكم بنار الجحيم، ويوشك أن يدمركم حال مخالفته «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يلبون دعوته ويسرعون لما أمرهم به دون توان رهبة من الله ورسوله ورغبة في إعلاء كلمته وإهلاك أعدائه وانتشار دعوته وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين. ونظير هذه الآية في المعنى الآية الأخيرة من سورة محمد عليه الصلاة والسّلام والآية الثالثة من سورة الجمعة المارتين «وَلا تَضُرُّوهُ» أيها المخالفون أمره «شَيْئاً» أبدا بعدم تلبيتكم أمره كما أنه لا يضرّه شيء إذا أبادكم وأتى بغيركم بل يعود الضّرر كله عليكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (39) لا يعجزه شيء لأن إهلاككم وإحداث قوم غيركم يكون بكلمة كن ليس إلا. ثم أكد تعالى استغناء رسوله عنهم إذا شاء بقوله «إِلَّا تَنْصُرُوهُ» حين يستنصركم لما به صلاحكم ونجاحكم «فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» من قبل وأغناه عنكم في حادثة بدر والأحزاب وغيرهما، وهو قادر الآن أيضا على نصره «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» حين عزموا على قتله أو إخراجه من مكة أو حبسه فأذن الله له بالخروج من بينهم وأعمى أبصار أعدائه عن أن يروه حين خروجه وهم على بابه بانتصاره مصلتين سيوفهم لقتله حين خروجه، وحتى عليهم التراب ولم يروه وأعمى الّذين لحقوه من أن يدركوه وأعجزهم من أن يمسكوه حينما كان «ثانِيَ اثْنَيْنِ» هو وصاحبه أبو بكر فقط لا ثالث لهما إلّا الله، وقد حفظه ورعاه «إِذْ هُما فِي الْغارِ» الواقع في الجبل الكائن عن يمين مكة على مسيرة ثلاث فراسخ وكان

يسمع قوله «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ» أبي بكر رضي الله عنه الذي من أنكر صحبته فقد كفر لجحده ما نص الله عليه في كتابه. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على روسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وقد بقينا فيه ثلاثا بحمى الله فقط وخفارة ملائكة الكرام. ولما ضاق ذرع أبي بكر أنزل الله على رسوله قوله جل قوله يا محمد قل لصاحبك «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ومن كان الله معه لا يخاف ولا يحزن ولا ينبغي له أن يضيق صدره مما يقدره عليه «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» أمنه وطمأنينته «عَلَيْهِ» وعلى صاحبه «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» وهم الملائكة الّذين تولوا حفظهما وصرفوا وجوه الكفار عنهما في الغار، فلم يروهما مع وقوفهم عليهما، لما رأوا من أعشاش الحمام ونسج العنكبوت وكأنها قديمة مما أيقنهم أنه لم يكن في الغار أحد، ولم يدخل إليه من عهد قديم، وكذلك كلأه ورفيقه حينما خرجا من الغار وأعمى المشركين عنهم وفعل ما فعل بسراقة كما بيناه في قصة الهجرة المندرجة آخر الجزء الثاني، فراجعها، وقد أيده بهذه الجنود أيضا في حوادث بدر والأحزاب وحنين وأحد بعد الهزيمة «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» لأنها مدعاة الى الكفر به «وَكَلِمَةُ اللَّهِ» بالرفع والواو فيها للحال وقرأ بعضهم كلمة بالنصب عطفا على كلمة الأولى وليست بشيء، وقراءة الرّفع أولى وأبلغ لأن كلمة الله عالية ولا تزال عالية سامية، وهي نداء للاسلام ودعاء للإيمان ولذلك فإنها «هِيَ الْعُلْيا» في الماضي والحال والاستقبال إلى الأبد إن شاء الله «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب قوي على أعلائها ودوامها ورفعة شأنها وشأن الإسلام على غيرهم «حَكِيمٌ» (40) بإعلاء كلمته وإعظامها وإذلال كلمة الكفر وإدنائها، فيعلي الإيمان وأهله بعزته، ويهين الكفر وملته بعظمته، قال الزهري: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغار أرسل الله زوجا من الحمام فباضتا في أسفل النّقب ونسجت العنكبوت بيتا. وقال صلّى الله عليه وسلم اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطّلب يضربون يمينا وشمالا

[سورة التوبة (9) : الآيات 41 إلى 50]

حوالي الغار ويقولون لو دخلاه لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت، وأنشد أبو بكر رضي الله عنه: قال النّبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدف في ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد تكفل لي منه بإظهار وإنما كيد من نخشى بوادره ... كيد الشّياطين قد كادت لكفار والله مهلكهم طرا بما صنعوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النّار وهذا البحث قد مر في الآيتين 31 و 36 من الأنفال، وفي الآية 40 من سورة العنكبوت ج 2 فراجعها. قال الأبوصيري: ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم إلخ الأبيات من البردة. وقال في الهمزية: أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء إلخ الأبيات، وقيل في هاتين القصيدتين ما مدح خير البرية بأحسن من البردة والهمزية، وهو كذلك، لأنهما جامعتان مانعتان، وكلّ المداح عيال على صاحبهما رحمهم الله. قال تعالى «انْفِرُوا خِفافاً» نشطين سراعا حال النّداء بلا توان «وَثِقالًا» متروين بكمال الاستعداد ركبانا ومشاة شبانا وشيوخا، فقراء وأغنياء، عزلا ومسلحين، عزبانا ومتأهلين، مشاغيل وبطّالا، فيدخل في كلمتي خفافا وثقالا كل من لم يستثنه الله الآتي ذكرهم في الآيتين 93 و 94 من هذه السّورة، والمنقطعين إلى طلب العلم المشار إليهم في الآية 123 الآتية، وكذلك الّذين هم في ثغور المسلمين، والّذين على ذراريهم وأموالهم وادارتهم. ولا نسخ في هذه الآية لأن عمومها مقيد بالمستثنى منها كالآية 18 من سورة الفتح المارة، والقاعدة أن العام يحمل على الخاص، والمطلق على المقيد دائما، ولهذا فإن هذه الآية محكمة «وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ» وهذا الأمر للوجوب بهما أو بأحدهما، فمن لم يقدر عليهما معا لأجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإعزاز لأمته أن يجاهد فيهما «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فليكن بأحدهما «ذلِكُمْ» الجهاد بالمال والنّفس «خَيْرٌ لَكُمْ» مع القدرة عليهما عند الله في الآخرة وعند النّاس في الدّنيا،

لما يترتب عليه من المصالح، لأن التخلف عنه والقعود مذمّة لكم عندهما، فضلا عن أنه يغضب رسول الله وأصحابه والمسلمين أجمع «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (41) ما ترمي إليه هذه الدّعوة من النتائج الحسنة والخيرات الكثيرة والمبرات النّافعة، ومذمّة ما ينشأ عن التخلف من العاقبة السّيئة والمضرات العامة والذل والهوان نزلت هذه الآيات في غزوة تبوك، وذلك أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن فتح مكة وغزا هوازن وحنين وأوطاس وحاصر ثقيفا بالطائف وفتحها وأتى الجعرانة احرم بالعمرة، ثم رجع إلى المدينة أمر بغزو الرّوم، وكان ذلك في شدة الحر وزمن عسرة وقلة وحاجة، وكانت عادته صلّى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورىّ بغيرها إلا في غزوة تبوك، فإنه جلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا لعدوهم أهبة كاملة بكل ما يستطيعون من العدة والذهاب لاستقبالهم سفرا بعيدا ومفاوز وعدوا كبيرا كثيرا ذا عدد وعدد، وكان ذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، وهؤلاء الرّوم هم بنو الأصفر، وإنما سمّوا روما لأن العيص بن إسحق تزوج بنت إسماعيل عليه السلام فولدت له ولدا به صفرة فنسبوا إليه وسمي روما، وتسمى هذه الغزوة غزوة العسرة، لأنها كانت في سنة مجدبة، وسببها أنه قد بلغ حضرة الرّسول تجمع الرّوم في تبوك لغزو المسلمين، فجمع جموعه وقد أتى له عثمان رضي الله عنه بعشرة آلاف دينار، فجعل يقلبها بيده ويقول ما على عثمان ما فعل بعد اليوم، ثم أعان عثمان حضرة الرّسول أيضا بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا، وجاءه أبو بكر رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، وعبد الرّحمن بن عوف بمئتي أوقية، والعباس وطلحة بمال كثير، وعاصم بن عدي بتسعين وسقا من تمر، والنّساء بكل ما قدرن عليه من حليهنّ، وبعد أن جهز جيشه المبارك بما قدر عليه سار على بركة الله بثلاثين ألفا، وقد رأوا في غزوتهم هذه شدة وضنكا، حتى إنهم لينحرون الإبل بغية الشّرب من كروشها مما وقر فيها من الماء، وقد استخلف على المدينة محمد بن سلمة، وخلف عليا على أهله، فقال له أتخلّفني على الصّبيان والنّساء؟ فقال له ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.

مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصدقات وسبب وجوبها وتحريم السؤال:

مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال: وللعلم بما في هذه الغزوة من بعد الشّقة وكونها زمن الحر والجدب وعسرة النّاس وضيقهم، ولعلمهم أن عدوهم فيها عدو قوي، كان من المسلمين من تثاقل منها وأحب التخلف عنها، أنزل الله تعالى في عتاب المخلفين وتوبيخهم على ما وقر في قلوبهم، فقال عز قوله «لَوْ كانَ» ما استنفرتم إليه «عَرَضاً» مغنما «قَرِيباً» محله سهلا تناوله «وَسَفَراً قاصِداً» وسطا لا مشقة فيه «لَاتَّبَعُوكَ» يا حبيبي طمعا في المنافع الدّنيوية دون تروّ أو تردد ولعاتبوك على عدم استصحابهم معك، كما مرّ في الآية 15 من سورة الفتح المارة «وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ» في هذه الغزوة واستطالوا مسافتها وطريقها الشّاق، وتخوفوا من الحر وقلة الزاد والماء، لذلك لم يلبوا دعوتك ولم يرغبوا بها فتخلف من تخلف منهم، وصاروا ينتحلون الأعذار لتغض عنهم وتأذن لهم بالتخلف «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ» لك هؤلاء المتخلفون المنافقون بأعذار كاذبة، بينها الله بقوله عز قوله «لَوِ اسْتَطَعْنا» الخروج معك يا رسول الله إلى تبوك «لَخَرَجْنا مَعَكُمْ» ولم يعلم هؤلاء أنهم بهذه الأيمان الواهية والأعذار المنتحلة «يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ» لأنهم يقترفون جرما علاوة على جرمهم بالتخلف، لأن الله تعالى يعلم أنهم مستطيعون على الخروج وأن ما يختلفونه من الأعذار لا صحة لها، ولم يمنعهم مانع إلّا بعد محل هذه الغزوة وتوقع مشاقها «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (42) في حلفهم وعذرهم، لأن هذا مدون أيضا في اللّوح قبل أن يبدوه لك يا سيد الرّسل، وقد أظهره الله الآن لكم ليفتضحوا وليعلموا أن الله تعالى بالمرصاد لهم ولغيرهم، لا يعزب عن علمه شيء وأنه يخبر رسوله ليطلع أصحابه عليه. واعلم أن حضرة الرّسول قبل نزول هذه الآية كان أذن لهم بالتخلف بناء على ما تقدموا به إليه من الأعذار الموثقة بالأيمان، ولهذا فإنه تعالى عاتبه على ذلك بألطف وأرق أنواع العتاب، إذ صدره بقوله عز قوله «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ» وزادك تبصرا في هؤلاء المنافقين الّذين يبطنون غير ما يظهرون «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» بالتخلف يا سيد الرّسل حتى يحتجوا به فهلا استأنيت وترويت بإذنهم «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» باعتذارهم فتأذن

لهم «وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» (43) منهم فلم تأذن لهم، هذا، وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يفعل شيئا طيلة حياته بغير إذن من ربه عز وجل إلّا في هذه الحادثة وواقعة أسرى بدر التي مر ذكرها في الآية 68 من سورة الأنفال، وعفوه عن المتخلفين الآتي ذكرهم في الآية 117 الآتية، وقد عاتبه الله تعالى عليهما وعن هذه أيضا هنا، وعن العفو في الآيات 67 فما بعدها من سورة الأنفال المارة. ولا دلالة في هاتين الحادثتين على صدور الذنب منه صلّى الله عليه وسلم كما زعم بعضهم، بل هو عمل غايته أنه خلاف الأولى إذ لم يتقدم له من ربه نهي بعد أخذ الفداء والعفو عن الأسرى، كما لم يتقدم له نهي عن إعطاء الإذن بالتخالف لهؤلاء حتى يعدّ ذنبا يكون فيه مخالفا لربه، وحاشاه، وحتى أن أهل العلم لم يعدوه معاتبا عليه لما جاء في هذه الآية من تصديرها بكلمة عفا الله عنك، وقد أخطأ من أول عفا هنا بمعنى غفر، إذ عدّ ما صدر منه خطأ وحاشا ساحة الرّسول من الخطأ فيما ينهاه عنه ربه، بل معنى عفا على ظاهرها، وهي على حدّ قوله صلّى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرّقيق، ومن قال إن العفو لا يكون إلّا عن ذنب لم يعرف كلام العرب، إذ لو كان هناك ذنب لذكر العفو بعده، لأن ذكر الذنب بعد العفو لا يليق، وقد يأتي العفو بمعنى الزيادة، راجع الآية 271 من البقرة المارة، لأن قوله عفا الله عنك يدل على المبالغة في التعظيم والتوقير ولا يدل على سابقة ذنب، فهو كما تقول لمن توقره عفا الله عنك ما عملت في أمري، رضي الله عنك بماذا تجاربني عافاك الله، أما تنظر إلي زادك الله خيرا، أما تعطني غفر الله لك، أما تدعو لي، وما أشبه ذلك من كلّ ما يستفتح به الكلام، كأصلحك الله، وأعزك، وأدام بقاءك، وأطال عمرك، قال علي ابن الجهم حينما خاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة ... تعود بعفوك إن أبعدا ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشيدا هدى أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الرّدى وأمثال هذا كثير. قال تعالى «لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الْآخِرِ» إيمانا خالصا معتذرين من «أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» لأنهم يتقون سوء العاقبة «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (44) أمثالهم الّذين يخافون غضب الله ورسوله وتنقيد المؤمنين «إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ» ليتخلف عن الجهاد معك ويقعد مع النّساء والمرضى «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» إيمانا حقيقيا «وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ» فشكوا في دينهم ونصرة نبيهم من قبل الله «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» (45) يتحيرون لأن إيمانهم صوري يظهرونه لكم خشية الوقوع بهم قتلا وأسرا ويبطنون الكفر، فهم أسوا حالا من الكفار «وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ» معكم الى الغزو عن صدق «لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً» تهيأوا له وهيأوا أدوات السّفر وآلات الجهاد مبدئيا «وَلكِنْ» لم يريدوه ولهذا «كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ» معكم لكراهتهم الخروج «فَثَبَّطَهُمْ» وقفهم وأخرهم عنه لزهدهم في ثوابه وكسلهم عنه لضعف رغبتهم فرغب الله عنهم ومنعهم عنه لا لقصدهم ذلك، بل لما كان في علمه من وقوع المفسدة منهم في الغزو وإيقاع الرّعب في قلوب غيرهم لما هم عليه من الجبن «وَقِيلَ» لهم من قبل الرّسول حينما طلبوا التخلف عنه «اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ» (46) النساء والصّبيان والمعذورين وإنما أمرهم بالقعود على سبيل الغضب عليهم، إذ ليس لهم طلب التخلف والإعراض عن الغزو ساعة الحاجة، إلا أنه وافق ما في علم الله، لأن عدم خروجهم أحسن لقوله تعالى «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» اضطرابا يؤثر في عقولكم بتهويلهم الى النّاس مشقة السّفر وقوة العدو وجدب الزمن وحاجة المسلمين الى عدد أكثر وعدد أقوى تضاهي ما عند الرّوم، فضلا عن قلة الزاد والرّاحلة للنقل والحمل وإظهار التضجر لعدم كفايتها بما يسبب للبعض الجبن والخوف، والتكلم بطرق الفساد والإفساد بما يؤدي الى الغلب والفشل، والمستثنى منه غير مذكور، وعليه فيكون الاستثناء متصلا من الشّيء المتصور، والخبال بعضه الذي يصدق على الشر والمكر والبغي والغدر، أي ما زادوكم شيئا إلّا خبالا بإيقاع الفتنة بينكم وبث النّميمة الموجبة لها، ولهذا فإن القول بكون الاستثناء منقطعا ضعيف، إذ يشترط فيه أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وعليه يجب أن يكون

المعنى ما زادوكم خيرا إلّا خبالا، تدبر «وَلَأَوْضَعُوا» أوقعوا «خِلالَكُمْ» بينكم الأحاديث الكاذبة لإفساد ذات بينكم «يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ» بإيقاع الخلاف بينكم وتحريض بعضكم على بعض ويكرهوكم لهذه الغزوة، إذ يقول بعضهم لبعض لا طاقة لكم بالروم، فإنهم سيظهرون عليكم إذا غزوتموهم «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» أي منكم عيون وجواسيس لهم يوصلون أخباركم إليهم، لأنهم ميالون لطاعتهم وقبول شبهاتهم وتصديق تسويلاتهم لقلة يقينهم وضعف دينهم، أو أنهم يتلقون أقوالهم بالقبول، لأنهم مغفّلون بلّه لا يميزون بين العدو والصّديق، فيظلمون أنفسهم وغيرهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (47) الّذين يفعلون ذلك ويخدعون غيرهم فيجازيهم على إغرارهم وإفسادهم في الدّنيا والآخرة، وهؤلاء وأمثالهم قبل هذه الغزوة «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ» بأصحابك يا سيد الرّسل وأرادوا صدهم عن دينك وردهم الى الكفر وتخذيل النّاس عنك وعن أصحابك «مِنْ قَبْلُ» طلبهم التخلف عنك الآن، وانتحالهم الأعذار الكاذبة كما فعل عبد الله بن سلول يوم أحد، إذ انخذل هو وأصحابه عنك، ورجعوا من الطّريق بقصد تخذيل أصحابك وإرادتهم الفتك بك ليلة العقبة حينما أرادوا أن يلقوا الحجر عليك ليقتلوك وغير ذلك مما ألمعنا إليه في الآية 67 من سورة المائدة المارة «وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ» ظهر البطن بقصد إبطال حقك الذي جئتهم به وأجالوا آراءهم فيها، ودبروا الحيل، وصوّروا المكايد، لتشتيت أمرك وإقصاء النّاس عنك، وأداموا على أفعالهم القبيحة معك، ولم ينفكوا عنها «حَتَّى جاءَ الْحَقُّ» بنصرك عليهم وظفرك بهم، فأبطل الله مكايدهم ومحق تدبيرهم، فاضمحلّ أمرهم «وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ» بتأييدك «وَهُمْ كارِهُونَ» (48) له رغم أنوفهم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي» بالتخلف عن هذه الغزوة «وَلا تَفْتِنِّي» فتوقعني بالإثم إن تخلفت دون إذنك، فأفتتن، وذلك لما تجهز صلّى الله عليه وسلم الى هذه الغزوة، قال للجد بن قيس المنافق يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ فقال لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، فأخشى إذا رأيت بناتهم أن لا أصبر عنهن فائذن لي بالقعود ولا تفتني بهن، وأعينك بمالي، فأعرض عنه صلّى الله عليه وسلم، وقال

[سورة التوبة (9) : الآيات 51 إلى 60]

أذنت، فأنزل الله تعالى «أَلا» إن المستأذنين لهذه الحجة الواهية «فِي الْفِتْنَةِ» العظيمة المحققة وهي مخالفتك يا محمد والتخلف عنك «سَقَطُوا» وقعوا فيها لعدم تلبية أمرك فيما لا يظنون ولا يتصورون من مهاوي الكفر «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (49) أمثال هؤلاء يوم القيامة يوم يظهر لهم ما كانوا يبطنون ويحيق بهم جزاؤه، ثم طفق يعدد بعض مساوئ المنافقين عدا ما بينه في الآية 9 فما بعدها المارات وغير ما بينه عن مثالبهم في الآية السّادسة فما بعدها من سورة البقرة المارة وفي غيرها، بما فضحهم الله وأظهر دخائلهم، وزاد فضحهم في هذه السّورة، إذ بين فيها أجل مثالبهم، فقال جل قوله «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ» نصرتك وظفرتك بعدوك واغتنامك منه «وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ» من خذلان وانكسار وهزيمة «يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا» الذي توسمنا به وهو اختيارنا القعود «مِنْ قَبْلُ» أن نصاب بما أصيبوا لو خرجنا معهم لهذه الغزوة «وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» (50) بذلك فيا أكمل الرّسل «قُلْ» لهؤلاء المنافقين الّذين راق لهم التخلف عنك «لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا» من خير أو غيره سواء قعدنا أو خرجنا، فلا مانع لقضاء ربنا ولا راد لقدره «هُوَ مَوْلانا» حافظنا وناصرنا ومتولي أمورنا أحسن من أنفسنا، وهو أولى بها منا وإليه وكلنا أمرنا «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (51) في أمورهم كلها لا على غيره لما في التوكل على غيره من الخببة والهلاك «قُلْ» يا أيها المنافقون «هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» النصر والغنيمة أو الشّهادة والمغفرة، فلا تنتظروا أن يصيبنا غيرهما، روي عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: تكفل الله أو تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلّا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أني أدخله الجنّة أو أرجعه الى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، أخرجاه في الصّحيحين «وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ» إحدى السّوأتين «أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ» فيهلككم ويكفينا مؤنة قتالكم «أَوْ بِأَيْدِينا» فيسلطنا عليكم ونظفر بكم فنقتلكم ونفعل ما يريده الله بكم «فَتَرَبَّصُوا» بنا إحدى تلك الحسنيين

«إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» (52) بكم إحدى تلك السّوأتين، فابقوا على غيظكم إن الله ناصرنا عليكم «قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً» من تلقاء أنفسكم مختارين «أَوْ كَرْهاً» رغم أنوفكم بإلزام الله تعالى إياكم الإنفاق مقسورين، وهذا ردّ على المنافق جد بن قيس المار ذكره «لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ» لكونه ليس عن طيب قلب ولم يرد به وجه الله. وتعم هذه الآية كلّ من لم يطلب وجه الله بصدقته ولم تكن عن طيب نفس. ثم بين الله تعالى سبب عدم قبول نفقتهم بقوله عز قوله «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ» ولا تزالون الى نزول هذه الآية «قَوْماً فاسِقِينَ» (53) خارجين عن الطّاعة، والخارج عن طاعة الله لا يقبل منه صرفا ولا عدلا، قالوا وبأثناء الطّريق ضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال بعض المنافقين يزعم أنه نبي ولا يدري أين ناقته، فأطلع الله نبيه على قوله فقال عليه الصّلاة والسّلام اني والله لا أعلم الغيب ولا أعلم الا ما علمني ربي، وقد دلني عليها وهي الآن في الوادي في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فذهبوا فوجدوها كما ذكر صلّى الله عليه وسلم، وأتوا بها وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلم كغيرها لأنها في الاطلاع على الغيب والإخبار به، قال تعالى «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ» لجحودهم طاعتهما فكان جحودهما لذلك كفرا، والكفر مانع من قبول الصّدقات، لأنها لا تكون خالصة لله تعالى لأن الصّدقة من نوع العبادة، ولا تقبل العبادة إلّا إذا كانت خالصة لله، راجع الآية الأخيرة من سورة الكهف ج 2. وهؤلاء المنافقون لا يخلصون صدقاتهم لله «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» لأنهم لا يرجون ثوابها ولا يخافون عقاب الله على تركها «وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ» (54) لأنهم يعتقدون الصدقة غرامة ومنعها مغنما، ولذلك ذمهم الله تعالى بقوله عز قوله «فَلا تُعْجِبْكَ» يا حبيبي «أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ» التي استدرجناهم بها ليبطروا فإنها من متاع الدّنيا الفاني، وما كان كذلك فلا يستحق ان يتعجب منه، وما أعطاهم الله تعالى إياه لتكون نعمة يستقيدون ثوابها، بل نقمة «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» لما فيها من المشاق في تحصيلها وحفظها والغم بما يقع

عليها من المصائب والهمّ بمعيشتها وجمعها وعدم الثواب بما يقع عليها من المحن لصاحبها، لأنه لا يعتقد بوجود الآخرة ولا أنه مخلوق لها، بخلاف المؤمن فإنه يعتقد ذلك، فيثاب على ما يصيبه فيها، وأولئك يحرمون منها «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ» متحسرين على ما فاتهم منها وما خلفوه فيها، وما جمعوه لها بكدّ يمينهم وعرق جبينهم وتركوه لغيرهم ولم يتمتعوا به فماتوا «وَهُمْ كافِرُونَ» (55) بالله والكافر لا ينتفع بما يورثه ولا بما يوصي به، لأن عاقبته النّار، فلهذا تكون نعمهم في الدّنيا نقما عليهم في الآخرة، ومن مثالبهم وكذبهم طفقوا يتقولون على أثر مصاب أهل الكتاب والكافرين مما أوقع فيهم المسلمون «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ» وانهم آمنوا بربكم وكتابكم ورسولكم أيها المؤمنون يضرهم شركم ويسرهم خيركم «وَما هُمْ» في الحقيقة «مِنْكُمْ» وأن حلفهم كذب ولا زالوا كما كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان صورة تقية ليغرّوكم، فلا تقبلوا منهم ولا تصدقوهم في شيء من ذلك، وإن حلفوا «وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» (56) يخافون منكم أن تطلعوا على نفاقهم، فتفعلوا بهم فعلكم بالكفرة أو بأهل الكتاب، ولهذا يبادرونكم بالإيمان ويحلفون على ذلك لتصدقوهم كي يأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم. ثم بين تعالى بيانه ما يحوك في صدورهم بقوله «لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً» يلجأون إليه «أَوْ مَغاراتٍ» يختفون بها عنكم «أَوْ مُدَّخَلًا» نفقا وسربا في الأرض يندسون فيه، أو شيئا آخر يتحصنون به منكم أو يتغيبون عن وجوهكم «لَوَلَّوْا إِلَيْهِ» سراعا وتحرزوا به وتركوكم «وَهُمْ يَجْمَحُونَ» (57) يقفزون هربا للتخلص من رؤيتكم لا يردهم شيء كالفرس الجموح العزوم لشدة بغضهم إيّاكم، ولكنهم لم يجدوا شيئا من ذلك، فاضطروا الى البقاء معكم، وشرعوا يختلفون الطّرق التي تقنعكم بأنهم صاروا مثلكم في الإيمان، ويؤكدوه لكم ذلك بما يرضيكم من صنوف التملق والتودد لكم بأيمانهم الكاذبة وتقاتهم تقية لكم ومنكم، وفي الحقيقة هم أشد النّاس كراهة لكم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ» يا حبيبي «فِي الصَّدَقاتِ» يعيبك ويطغى عليك في قسمتها وإعطائها أناسا دون أناس، ويسخرون فيما بينهم عليك في ذلك كأنك لم تعدل بها ولم تعطها لمستحقيها، ولكنهم «فَإِنْ أُعْطُوا

مِنْها رَضُوا» وسكتوا، فلم يحمدون، ولم يذكروك بسوء «وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» (58) فيتفوهون عليك لما لا يرضي بقصد تنفير النّاس عنك. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئا، أتاه ذو الخويصرة (حرخوص بن زهير التميمي) فقال يا رسول الله اعدل، فقال صلّى الله عليه وسلم ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟ وفي رواية قد خبت وخسرت إن لم أعدل، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه ائذن لي لأضرب عنقه، فقال صلّى الله عليه وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم. وقيل إن القائل أبو الجواض المنافق أو رجل من البادية. وقيل إن المنافقين قالوا ما يعط محمد الصّدقة إلّا من يحب. والكل جائز، لأنهم أهل لأن يصدر منهم كلّ سوء، ولأن تعدد أسباب النّزول جائز أيضا، راجع الآية 8 من سورة المنافقين المارة تجد ما يتعلق بهذا ومروءة سيدنا عمر وانتدابه كلّ ما فيه ذبّ عن حضرة الرّسول ودفع عن كرامته ورفع لما يسوءه، فأنزل الله هذه «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا» أي هؤلاء العيّابون المنتقدون المنافقون «ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» من هذه الصّدقات ولم يعترضوا على حضرة الرّسول «وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ» هو كافينا «سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ما يسد حاجتنا «وَرَسُولُهُ» يتفضل علينا بما يراه من هذه الصّدقات، وإنه لا يعطي إلّا بحق ولا يمنع إلا بحق، وقالوا «إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ 59» بأن يوسع علينا ويغنينا عن الصّدقة وغيرها، بأن يفتح لنا طريقا آخر يكفينا به عنها لكان خيرا لهم من اعتراضهم هذا وقولهم رجما بالغيب في حق الرّسول الذي لا يفعل إلّا حقا، ولا يقول إلا حقا، وان أقواله وأفعاله عن حكمة يعلمها، إذ يتلقاها عن ربه عز وجل وهم عنها غافلون لكان أجمل لهم وأحسن، ألا فليتق الله الّذين يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يعلمون، فإن الاعتراض على رسول الله اعتراض على الله، والاعتراض على الله كفر، لأنه لا يسأل عما يفعل. ثم بين جل بيانه أصحاب الاستحقاق في الصّدقات:

مطلب في الأصناف الثمانية ومن يجوز إعطاؤه من الزكاة ومن لا يحوز وبعض مثالب المنافقين أيضا:

مطلب في الأصناف الثمانية ومن يجوز إعطاؤه من الزكاة ومن لا يحوز وبعض مثالب المنافقين أيضا: قال جل قوله «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» السعاة الّذين يفوض الإمام إليهم قبضها من الواجبة عليهم «وَفِي الرِّقابِ» العبيد المكاتبين إعانة لهم على دفع ما عليهم لأسيادهم ليتخلصوا من الرّق «وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» الحديثي عهد بالإسلام بقصد ترغيبهم فيه، فإنهم يعطون من هذه الصّدقة ليزداد نشاطهم للتمسك بأصول الإسلام، فيأتلفون عليه «وَالْغارِمِينَ» الّذين استغرقتهم الدّيون لأنفسهم لغير معصية، أو أنهم استدانوا للمعروف كمنع فتنة بين المسلمين، أو الموجود قتيل بينهم لم يعرف قالته، فاستدانوا لأداء ديته، وإن كانوا أغنياء، فإنهم يعطون من الصّدقة، لأنهم استدانوا ذلك وأعطوه من أنفسهم لإصلاح ذات البين ورفع الشّقاق بين المسلمين. روي عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصّدقة لغني إلّا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لرجل أسير إعانة، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق عليه فأهدى المسكين للغني- أخرجه أبو داود مرسلا لأن عطاء هذا لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلم، ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلم بمعناه «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ» الغزاة «وَابْنِ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله وماله وإن كان غنيا في بلده، لأنه لا يطوله ولا يعرف من يقرضه في المحل الذي انقطع فيه، فهؤلاء الأصناف الثمانية يعطون من صدقة الفرض الواجبة على الأغنياء كما يعطون من غيرها أيضا «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» لهم على حسب الترتيب الوارد في هذه الآية، لأن الفقير أحوج من المسكين، لأنه من لا مال له ولا كسب، والمسكين من لا يكفيه كسبه، راجع الآية 81 من سورة الكهف في ج 2. وقال صلّى الله عليه وسلم، اللهم إني أعوذ بك من الفقر. وقال: أحيني مسكينا واحشرني مع المساكين. وهو أحوج من المؤلفة قلوبهم، وهكذا إذا اجتمعوا يقدم الأحوج في الإعطاء. واعلم أن الحصر في هذه الآية المصدرة بأداة الحصر يفيد عدم جواز دفع الصّدقة الواجبة لغيرهم، وهو كذلك كما سيأتي بعد «وَاللَّهُ

عَلِيمٌ» بمصالح عباده وحاجتهم «حَكِيمٌ» (60) في تخصيص الصّدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية. أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث المدائني قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال أعطني من الصّدقة، فقال له صلّى الله عليه وسلم إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصّدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية اجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك. الحكم الشّرعي في إيجاب الله الزكاة على عباده امتحانهم فيما آتاهم وتكليفهم ما يشقّ عليهم فعله، ليختبر الطّائع المعطي من العاصي المانع، ويظهره للناس فيعلمهم بمن له شفقة على عباده من غيره، لأن المال ماله والأغنياء وكلاؤه عليه وخزانه له، والفقراء عياله، ولأن كثرة المال تقسي القلب وتغرقه في حب الدّنيا، فأراد الله تعالى بالتصدق منه تقليل ذلك الحب لئلا تنهمك نفسه في شهوات الدّنيا ولذاتها فيهلك، ولأن المال من أول أسباب البعد عن الله تعالى، والتصدق به من أول أسباب التقرب إليه. ولا يقال هنا أن الدّين يسر ولا حرج فيه ولا يكلف الله نفسا الا وسعها الى غير ذلك من التمسك بحجج الجشعين بالمال المتكالبين عليه، لأن الله لم يكلف رب المال التصدق بكل ما عنده أو بنصفه أو عشرة حتى يكون مدار للاحتجاج، وانما كلفه بشيء يسير منه لا عسر في أدائه عليه ولا كلفة، وهو في نطاق الوسع، لأن الخارج عن الوسع هو ما لا قدرة للمرء على القيام به. ولو علم المتصدق ماله عند الله من الأجر وكانت نفسه طاهرة لأحب التصدق بما يفضل عن حاجته فضلا عن إعطائه ما فرضه الله عليه وهو ربع العشر، تطييبا لقلوب الفقراء المتعلقة قلوبهم بما في أيدي الأغنياء لينالوا نصيبهم من الانتفاع به، فيحصل على دعواتهم الخيرية، ورب دعوة صادفت وقت اجابة فينال عند الله ما هو خير من الدّنيا وما فيها. أخرج النّسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا تحلّ الصّدقة لغني ولا لذي مرّة (سوي قوي) . وأخرجا عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات، فسألاه منها فرفع فينا نظره وخفضه فرآنا جلدين، فقال ان شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. أي لا يحل لكما أخذ شيء

من الصّدقة لأنكما قادران على الكسب والقادر كالغني، والغني لا يجوز له أخذ الصدقة، كما لا يجوز إعطاؤها له. هذا وإن حد الغنى المانع من السّؤال وقبول الصدقة هو ما روي عن ابن مسعود أنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سأل النّاس وله ما يغنيه جاء يوم القيمة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب أخرجه أبو داود والترمذي والنّسائي- وهذا لا يجوز له الأخذ من الزكاة إذا كان مالكا هذا القدر، ولا يجوز للمتصدق أن يتصدق على واحد بأكثر من خمسين درهما فضة أو قيمتها من الذهب من الزكاة، لأنه يصير الفقير المتصدّق عليه بذلك غنيا ولا يجوز للمتصدق أن يعطيه إذا كان عالما بحاله، كما لا يجوز له الأخذ، وان جباة المال العاملين على جمع الصّدقات يعطون منها بقدر أجر مثلهم أغنياء كانوا أو فقراء، لأن ما يأخذون بمقابل جمعهم الصّدقة كسائر العمال الّذين يتقاضون راتبا لقاء أعمالهم التي تعهد إليهم. ولما كان الهاشمي والمطلبي لا يجوز لهم أخذ الصّدقة فلا يجوز أن يكونوا عمالا عليها لأن أجرهم يكون منها، فإذا أعطوا منها لا تجزىء كما لو أعطيت للغني، ويجب إعادتها لأن إقدامهم على حرمة أخذها لا يسقط وجوبها عن المعطين العالمين. أما الجاهلون حال المتصدق عليهم فلا إعادة عليهم وسقط عنهم الوجوب، لأنهم أعطوها لهم بظنهم فقراء غير هاشميين ولا مطلبيين. قال صلّى الله عليه وسلم إنا وبنو عبد المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام. وتحرم الصدقة على مواليهم أيضا، أخرج الترمذي والنّسائي عن أبي رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني مخزوم على الصّدقة، فأراد أبو رافع أن يتبعه، فقال صلّى الله عليه وسلم لا تحل لنا الصّدقة وإن مولى القوم منهم. وكان صلّى الله عليه وسلم يعطي أشراف العرب يتألفهم الإسلام لضعف عقيدتهم لتقوى رغبتهم فيه وتكون نيتهم جازمة بفعل أركان الدين. وكان يقربهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم، وذلك من خمس الخمس، كما أعطى أبا سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والعباس بن مرداس كما ذكرناه في قصة حنين عند تفسير الآية 27 المارة، فراجعها. وكان صلّى الله عليه وسلم يدفع منه إلى المسلمين الّذين هم في موضع لا تبلغه جيوش الإسلام إلّا بكلفة كبيرة ومؤنة

[سورة التوبة (9) : الآيات 61 إلى 70]

كثيرة، والمسلمون الّذين هم بإزائهم لا يجاهدونهم لضعف حالهم أو عقيدتهم. كما أعطى أبو بكر رضي الله عنه عدي بن حاتم ثلاثين بعيرا، وكذلك كان يعطي مؤلفة الكفار الّذين يرجى إسلامهم أو يخاف شرهم، فقد أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام ليستميلهم ويقوى نيتهم فيه، وكيفية إعطاء الصّدقة أن تعطى الأصناف الأربعة الأوّل إليهم بأيديهم بدليل لام الملكية، والصّنف الخامس يعطى نصيبهم منها إلى أسيادهم لتخليص رقابهم ولا يمكنون منها ليتصرفوا فيها. وكذلك الصّنف السّادس وهم الغارمون بنوعيهم فانه يعطى نصيبهم لدائنيهم لتخليص ذمتهم من الدّين، ولا يمكنون من التصرف به أيضا، والصّنف السّابع يعطى من الصّدقة بقدر ما يوصله إلى مسكنه أو غرضه، والصّنف الثامن يعطون ما يكفيهم من الصّدقة للنفقة والكسوة والسّلاح والمحمولة وإن كانوا أغنياء، لما تقدم في حديث عطاء بن يسار المار ذكره آنفا. ويجوز صرف نصيب. الصنف السّابع البر لعموم اللّفظ كتكفين وتجهيز ودفن الموتى الفقراء، وبناء الجسور والحصون والمساجد والمكاتب التي يدرس فيها القرآن العظيم والفقه والحديث وما يتفرع عنها، ودور المرضى والمجانين لقلة وجودها في هذا الزمن، ولا سيما ما يأوي اليه الفقراء والمنقطعون في البوادي، وطريق الحج وغيره، وعلى المتصدق أن يختار في صدقته الأصلح ولا سيما طلبة العلم لقلة الرّغبة فيه، وبهذا الزمن للترغيب في طلبه والسّفر إلى من يأخذوا عنه إذا لم يوجد في بلده من يعلمه. وهم قليل ولا سيما في هذه الأيام، وقد سهل السّفر إذ تقاربت البلدان بسبب السّيارات والطّيارات وتعبيد الطّرقات إلى أي بلدة شاء. ويطلب من المتصدّق أن يتحرى موضع الحاجة في صدقته، ويقدم الأولى فالأولى، ولا يعطيها فروعه وأصوله وزوجاته وكلّ من تلزمه نفقته، والأولى أن يصرفها لفقراء بلدته ومن فيها من الأصناف، ويجوز أن ينقلها لمحل آخر يقصد دفعها للأحوج والأصلح والقريب الفقير، قال صلّى الله عليه وسلم اختاروا لنفقاتكم كما تختارون لنطفكم، ويرجح الفقراء من أقاربه على غيرهم، لأن الصّدقة عليهم صدقة وصلة. هذا وإن فضل الصّدقة قد بيناه في الآية 291 فما بعدها من سورة البقرة فراجعها تقف على جميع أصنافها وثوابها. قال تعالى

«وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ» محمدا صلّى الله عليه وسلم «وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ» سماع قوى جارحة السّمع كثيرة، ويعبر علماء البيان عن مثل هذا بإطلاق الجزء على الكل مبالغة، أي كأنه كله سمع لشدة سماعه، وقوة حاسته، وعليه قوله: إذا ما بدت ليلى فكلي أعين ... وإن هي ناجتني فكلي مسامع كما يطلق الكل على الجزء في مثل قوله تعالى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) الآية 16 من البقرة أي رؤوسها، ويريد المنافقون في هذه الكلمة أنه صلّى الله عليه وسلم يصدق كل ما يسمعه ويقبله دون تحقيق عن صحته، وهذا هو معنى الأذن عندهم، فانهم يطلقون هذه الجارحة على من شأنه سماع الكلام وقبوله على علاته باعتبار أن جملته أذن سامعة ويقصدون بذلك الطّعن به صلّى الله عليه وسلم، أي أنه ليس بعيد غور في الأمور، بل هو سريع الاغترار بكل ما يسمع دون تروّ ونظر، قاتلهم الله وأخزاهم، فإنهم أخذوا شيئا من عادات اليهود بمثل هذا راجع الآية 105 من سورة البقرة المارة، مع أنهم واليهود سواء، بل هم شر من اليهود) يعلمون علم اليقين أنه صلّى الله عليه وسلم أكمل البشر في حركاته وسكناته ومبرأ من كلّ عيب ومنزّه من كلّ طعن، ولكنهم لا يريدون أن يعترفوا بذلك حسدا وعنادا، وقد أنزل الله هذه الآية في جماعة من المنافقين كانوا يجلسون بعضهم إلى بعض ويقولون ما لا ينبغي بحق الرّسول، كاليهود في هذه العادة، فقال أحدهم نبتل بن الحارث نخاف أن يبلعه قولنا، وكان ينمّ حديث الرّسول إليهم وكان مشوّه الخلقة أزنم ثائر الشّعر أحمر العينين أسفع الخدين، وقد قال فيه صلّى الله عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى الشّيطان فلينظر إليه، فقال له الجلاس بن سويد إذا بلغه قولنا ننكره ونحلف له فيصدقنا لأنه أذن. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الفجرة هب أني أذن كما تقولون، ولكن «أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» أسمع ما هو صالح لكم لا ما هو شرّ وفساد، والمعنى أنكم كما تقولون، ولكنه نعم الأذن، لأنه مسمع خير لا على الوجه الذي تذمّونه به، لأنه يقبل منكم ما تقولون وتعتذرون به، مع علمه أنه خلاف الواقع لكرم أخلاقه وعلو آدابه، فإنه يتغافل عما لا يليق ولا يريد أن يكذبكم وقرىء (أذن وخير) بالتنوين وبلا تنوين أذن، وجرّ خير بالإضافة كقولك رجل صدق،

وشاهد عدل، فإنه يجوز فيهما الحالان. ثم ذكر بعض أوصاف حضرة الرّسول الذي يريدون مس كرامته مسهم الله بناره، فقال «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» ويوقن بوعده ويوفي بعهده ويصدق بوحدانيته «وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» بصدقهم ويخشى ظنه بهم ويريد لهم الخير، وقد جاءت التعدية أولا بالباء لأن الإيمان بالله نقيض الكفر فلا يتعدى إلّا بالباء، وثانيا باللام لأنه عبارة في تصديق المؤمنين، فلا يتعدى إلا باللام، تأمل. واعلم أن القرآن هو مصدر العربية ومن بحره أخذ علماؤها قواعدها ووضعوا أصولها، وإياك أن تتصور العكس فيعكس عليك. قال تعالى أنؤمن لك الآية 112 وقال آمنتم له الآية 47 من سورة الشّعراء ج 1، وقال (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) الآية 17 من سورة يوسف في ج 2 بما يدل على ذلك وغيرها في القرآن كثير «وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» إيمانا كاملا لا نفاقا، وسمي رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمة لأنه يحمل أحكام النّاس على الظّاهر، ولا ينقب عن بواطن أحوالهم، ولا يهتك أسرارهم. قال تعالى «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ» من المنافقين وغيرهم بالقول أو الفعل أو الإشارة أو اللّمز «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 61» في الآخرة عدا خزي الدّنيا ومن مثالبهم ما قاله تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ» «لِيُرْضُوكُمْ» بظواهرهم «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» (62) حقا والحال أن الله ورسوله أولى بأن يرضوهما حقيقة لا تصنعا ورياء، وذلك أن المنافقين اجتمعوا في دار أحدهم وصاروا يتداولون في حق الرّسول، فقال وريقة بن ثابت إن كان ما يقوله محمد حقا فهو شر من الحمير، فقال عامر بن قيس من غلمان الأنصار إن ما يقوله محمد حق وأنت شر من الحمير، فحقروه، فجاء فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فاستدعاهم فسألهم، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب، وحلف عامر أنه صادق وأنهم كذبة، وقال اللهم صدق الصّادق وكذب الكاذب، فنزلت هذه الآية. قال تعالى «أَلَمْ يَعْلَمُوا» هؤلاء المنافقون الجلاس وأضرابه «أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بمخالفة أمرهما أو بمجانبتهما أو بمعاداتهما أو يعاون أعداءهما على ذلك «فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ» استمراره في النّار ودوامه في العذاب «الْخِزْيُ الْعَظِيمُ» (63) في الآخرة

مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم

والفضيحة التي ما بعدها فضيحة، والعار الذي ما وراءه عار. واعلم أن لفظ ألم تعلم وألم يعلم وما تصرف منهما خطاب لمن علم شيئا أو نسيه أو أنكره كما ذكره العلماء البيانيّون أي أنسيتم أو أنكرتم ذلك. قال تعالى «يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ» من النّفاق وما تحركه أنفسهم به في الاستخفاف بحضرة الرّسول «قُلِ» يا سيد الرّسل «اسْتَهْزِؤُا» واسخروا ما شئتم بحق حضرة الرّسول «إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ» (64) ومظهره للناس ليفضحكم به ويظهر لهم كذبكم وحلفكم الخاطئ. واعلم أنما خاطبهم الله بهذا على لسان رسوله، لأن ما وقع منهم مجرد استهزاء وسخرية، ولهذا ختم الله هذه الآية بما يدل على التهديد العظيم والوعيد الوخيم الدّالين على التعذيب البالغ. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» عما يقولونه فيك فيما بينهم «لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» الخوض الدّخول في المائع كالماء والطّين، ثم استعمل لكل دخول فيه تلويث مادة أو معنى ولم يكفهم الخوض الذي قد يؤتى لغير ظاهره حتى وضحوا المراد منه باللعب، فيا سيد الرّسل «قُلْ» لهؤلاء الجاحدين بما لا يليق «أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» (65) استفهام إنكاري لما لا ينبغي ذكره، وذلك أن حضرة الرّسول حين كان في غزوته المذكورة آنفا قال رهط من المنافقين أيرجو هذا الرّجل أن يفتح له قصور الشّام وحصونها هيهات هيهات، فأطلعه الله تعالى عليه، فقال احبسوا على هذا الرّكب فأتوا بهم، فقال إنكم قلتم كذا وكذا، ولما لم يروا بدا من الاعتراف إذ أخبرهم حضرة الرّسول بلفظ ما قالوا بعد أن قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، أي نتحدث في الرّكب ونلهو فيما بيننا، وقال المنافق وديعة بن ثابت أخو أمية ابن زيد لعوف بن مالك ما لقى أمنا أر عينا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللّقاء. مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم وروى ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللّقاء. قاتله الله يريد حضرة

الرسول وأصحابه المؤمنين، فذهب عوف ليخبر حضرة الرّسول بقولهما، فوجد القرآن قد سبقه، ونزلت هذه الآيات. قال عوف فتعلق المنافق بعقب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه من القوم حيث صاروا يرجمونه لقبح ما سمعوا منه وهو يقول يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب. وقال ابن كيسان. كمن رجال منافقون في العقبة عند رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السّلام بمكانهم وما أضمروه له فقال لحذيفة اذهب إلى هؤلاء واضرب وجوه رواحلهم، ففعل حتى نحاهم عن الطّريق وقال هلا عرفتهم قال لا يا رسول الله فقال صلّى الله عليه وسلم انهم فلان وفلان حتى عدهم اثني عشر رجلا، فقال حذيفة هلا بعثت من يقتلهم يا رسول الله فقال صلّى الله عليه وسلم أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل بقتلهم بل يكفيناهم الله، فلما أتى بهم طفقوا يعتذرون. قال تعالى قل يا سيد الرسل لهم «لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ» بأفعالكم هذه واستهزائكم وأقوالكم القبيحة هذه، وطعنكم لحضرة الرّسول وأصحابه المؤمنين المبرأين عما وصمتموهم به، المنزهين عما ألصقتموه بساحتهم الطّاهرة، مما أوجب كفركم «بَعْدَ إِيمانِكُمْ» الذي كنتم تحتجون به ظاهرا وقد ظهر أمركم للخاص والعام فلا محل لقبول أعذاركم الواهية حيث أكذبها الله، ولما رأوا أنه قد سقط في أيديهم وعلموا أنه قد فضح أمرهم شرعوا يطلبون العفو عما سلف منهم، فقال تعالى «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ» تابت عما بدر منها وأقلعت عن نفاقها وأحسنت إيمانها «نُعَذِّبْ طائِفَةً» أصرت على ذلك فلم تتب ولم تقلع عما هي عليه «بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» (66) بإقامتهم على النّفاق ومباشرتهم له. واعلم أن لفظ الطّائفة عند العرب كلفظ النّاس يطلق على الواحد والجماعة، راجع الآية 174 من آل عمران المارة، قال محمد ابن اسحق إن الذي عفا عنه اسمه مخاشن بن حمير الأشجعي لأنه تاب فرر نزول هذه الآية، وقال اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها تقشعر منها الجلود وتجبّ منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأجيب يوم اليمامة ولم يعرف مصرعه واسمه عبد الرّحمن، أي سمي بذلك، رحمه الملك الدّيان. قال تعالى «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ» قيل كان الرّجال المنافقون

ثلاثمائة والنّساء المنافقات مئة وسبعين، وكلهم تشابهت قلوبهم بالنفاق والبعد عن الإيمان كأنهم نفس واحدة، كما يشير إلى قوله تعالى «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ» بعضهم وأنفسهم «بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ» أنفسهم وبعضهم «عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ» عن الإنفاق في سبيل الله وعلى الفقراء وعلى أقاربهم أيضا بخلا بما أعطاهم الله، فكأنهم «نَسُوا اللَّهَ» الذي من عليهم حال الضّيق فلم يذكروه عند الرّخاء «فَنَسِيَهُمْ» من رحمته عند الشّدة، لأنهم لما تركوا أمر الله تعالى جاؤوا بمنزلة النّاسين له، لأن مطلق النّسيان لا يعد عيبا، إذ لا يخلو منه أحد، فجازاهم الله تعالى بأن صيّرهم بمنزلة الشّيء المتروك، فحرمهم من ثوابه وهذا هو نص النّسيان بالنسبة لله تعالى. أما معناه الذي هو عليه بالنسبة فمحال بحقه تعالى القائل «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (67) الخارجون عن طاعة الله ورسوله «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ» في الإيلام والانتقام، ولهم زيادة على هذا أنه تعالى غضب عليهم «وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» (68) لا يحول عنهم ولا يتحولون عنه، فهو ملازمهم أبدا. واعلم أن فعل وعد إذا أريد به الشّر كما هنا كان مصدره وعيدا، وإذا صرف إلى الخير يكون مصدره وعدا، واستعماله غالبا يكون في الخير، وأوعد في الشّر، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب، والالتفات من أنواع البديع المستحسنة، وقد اقتبسه علماء هذا الفن من كلام الله ورسوله وسموه بهذه الاسم، كما سموا علم المعاني وغيره من العلوم التي أحدثت تسميتها بعد عهد الرّسول، لأنها لم تكن معروفة ولا مبدية. فقال فعلتم أيها المنافقون أفعالا قبيحة كثيره «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أي الكفار إذ كانوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويبخلون بمالهم عن طرق الخير مثل فعلكم هذا وأنهم «كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ» حظوظهم وأنصبائهم من الدّنيا وشهوتها، وآثروها على الآخرة ورضوا بها، ولم ينظروا إلى العاقبة. وسمي النّصيب خلاقا لأنه مما يخلقه الله للانسان ويقدره له مثل القسم «فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ» أيها المنافقون الفجرة والكافرون

الفسقة «كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ» في الباطل والكذب على الله ورسوله وعلى النّاس أجمع «كَالَّذِي خاضُوا» من الاستهزاء والسّخرية بهم وبأتباعهم وتعديتم عليهم بأنواع المنكرات، والذي هنا واقع صفة لموصوف محذوف مصدر دل عليه الفعل المذكور قبله، أي كالخوض الذي خاضوه «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم من أولئك الفجار «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (69) في الدّارين. واعلم أن تأويل لفظ الذي على ما مشينا عليه أحسن وأولى من قول من قال بإسقاط الذي أي أصله الّذين، وعليه فيكون المعنى وخضتم كالّذين خاضوا، لأن التشبيه هنا للخوض لا للحائض، تدبر. وأليق وأرضى من قول من قدر لفظ فوج أي كالفوج الذي خاضوا، إذ لا ذكر له تأمل. واعلم أن ما وقع في هذه الآية من تكرار بعض الألفاظ قد وقع تأكيدا للقول وتبكيتا بالمخاطبين به، وتقبيحا لأعمالهم وأعمال من شبهوا بهم، وتقريعا بأفعالهما. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لتتبعنّ سنن الّذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم. قلنا يا رسول الله اليهود والنّصارى؟ قال فمن دونهم. أي الكفار والمجوس كما مر في الخبر آنفا أو ممن غيرهم، ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة تفننا في القول ليعلم عباده ذلك فقال جل شأنه «أَلَمْ يَأْتِهِمْ» أي هؤلاء المنافقين «نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم الماضية «قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ» قوم هود «وَثَمُودَ» قوم صالح «وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ» قوم شعيب «وَالْمُؤْتَفِكاتِ» قوم لوط عليهم السّلام حين «أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» وكذبوا بها فأهلكناهم بالغرق والرّيح العقيم والرّجفة والصّيحة والبعوضة والظّلمة والقلب والرّحم، وإنما خص الله تعالى هذه الأقوام دون غيرهم الكثيرين لأن آثارهم باقية في بلادهم الشّام والعراق واليمن، ولأنهم يمرون عليها ذهابا وإيابا عند أسفارهم للميرة والتجارة وغيرها، ويعرفون أخبارهم المتناقلة عن أسلافهم، وكيفية إيقاع العذاب بهم واستئصالهم من وجه الأرض على حين غفلة وبسرعة لم يقدروها. قال تعالى «وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ» بما أوقعه فيهم من العقوبات

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 إلى 80]

القاسية «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (70) فاستحقوها جزاء وفاقا، فاحذروا أيها السّامعون أن يصيبكم ما أصابهم إن فعلتم فعلهم أو أصررتم عليه، ولم تتوبوا في زمن تقبل فيه التوبة، راجع الآيتين 27 و 28 من سورة النّساء المارة قال تعالى بمقابل الآية السّالفة «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» والفرق بين هذه الجملة والجملة المصدرة به الآية السّالفة هو أن اتفاق المؤمنين كان على تقوى من الله ورضوان بتوفيق الله وهدايته، لا بمقتضى هوى النفس والطّبيعة الخبيثة كالمنافقين والكافرين المشار إليهم فيها، الّذين كانت موافقتهم بعضهم لبعض بتقليد رؤسائهم، فلهذا قال بحقهم بعضهم من بعض، وبحق المؤمنين أولياء بعض «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فيما بينهم أنفسهم وبين غيرهم راجع الآية 113 الآتية «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم «سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (71) في تدبير أمور عباده، لا بشوب تدبيره نقص ولا خلل، ومن عزته أنه لا يمتنع عليه من أراده، فلا يغالب ولا يتابل «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» وهذه بمقابل الآية السّابقة عد (67) «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» زيادة على مساكنهم في جناتهم، لأن عدن دار الأصفياء عند الله تعالى، وهؤلاء بلا تشبيه كالمترفين من أهل الدّنيا عندهم تصور في بلادهم وقصور في مصايفهم. واعلم أن مرجع العطف في هذه الآية إلى تعدد الوعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع، أو إلى تغاير وصفه، أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها، فتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، وصفه بأنه محفوف بطيب عار عن شوائب الكسورات التي لا تخلو عنها أماكن الدّنيا، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين لا يقربهم فيها فناء ولا تغير، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو الزيادة الأخرى المبينة بقوله عند قوله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» من ذلك كله ومن كلّ شيء، لأنه غاية المقصود ونهاية المطلوب «ذلِكَ» العطاء الجزيل والعطف الجليل «هُوَ

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (72) في الآخرة لا فوز أعظم منه، والخير الكثير الذي لا أفضل منه. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنّة يا أهل الجنّة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم، فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول ألا (أداة لاستفتاح الكلام وتختص بالمستقبل وتكون للطلب بلين ورفق وضدها هلا الكائنة للعنف والشّدّة وتدخل على الماضي والمستقبل) أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدا. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ» وشدّد بالجهاد والإرهاب «عَلَيْهِمْ» في الدّنيا أنت وأصحابك بمعونتنا ونصرنا «وَمَأْواهُمْ» عندنا في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (73) هي لأهلها قال ابن مسعود دلّت هذه الآية والدّلائل السّمعية على أن جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بالحجة، والآية عامة لم يذكر فيها كيفية الجهاد، فلا بد من دليل واضح يقيدها بما قاله ابن مسعود ويصرفها عن ظاهرها، وإلّا فلا دليل فيها يخصصها بما قاله، وإنما عدل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتل بقية المنافقين لا لأنه علم من هذه الآية أن جهادهم بالحجة، بل لأن من تكلم بالكفر سرا وجحده علنا وقال إني مسلم يحكم بإسلامه في الظّاهر شرعا، والله يتولى السّرائر، وإلّا لفسد الكون، قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) الآية (93) من سورة النّساء المارة، وقال صلّى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد أشققت قلبه؟ راجع تفسيرها، ولولا هذه الآية والحديث لفتك بكثير من المسلمين بحجة أنهم كافرون باطنا، أو أنهم أسلموا ليخلصوا أنفسهم من القتل، ويأبى شرع الله ذلك، ولقائل أن يقول إن من المنافقين ممن علم الله ورسوله بأنهم يموتون على نفاقهم كعبد الله بن سلول وثعلبة الآتي ذكرهما، فلماذا لم يقتلهم رسول الله؟ فالجواب عن هذا أنه لا يقتلهم حرمة للشرع المعمول بظاهره لآخر الزمان ولئلا يتذرع بعض الولاة أو غيرهم بذلك فيقتل من يشاء ويترك من يشاء بتلك الحجة، ولقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه دفعا لما يترتب على ذلك من المفاسد، ومن هذا الباب

مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصحبة وفقدها.

قوله صلّى الله عليه وسلم صلّوا خلف كلّ بر وفاجر، وجاهدوا مع كلّ بر وفاجر. الحديث، لقطع باب الفتنة حيث يتطرق النّاس إلى الطّعن بكل من يكرهون، وانظر لقوله تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ» . مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصّحبة وفقدها. قال ابن عباس كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين الشّيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال تشتمني أنت وأصحابك، فأنكر، قال فأحضر أصحابك، فانطلق فأتى بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، فتجاوز عنهم، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم، وقد أعلمه الله بهم وبما قالوه «وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» لأنهم أرادوا اغتيال حضرة الرّسول وهم المار ذكرهم في الآية 65، وإنما جاء ذكرهم هنا لأنه تعالى عدد في هذه السّورة أحوال المنافقين المتنوعة في الأقوال والأفعال وقصّها على رسوله وأصحابه على ملأ النّاس ففضحهم فضاحة كبرى لدى الخاص والعام، حتى بلغ أخبارهم وفضائحهم أهل البوادي والقرى، فلم تبق لهم قيمة ولا عبرة عند أحد «وَما نَقَمُوا» هؤلاء الاثنا عشر رجلا الّذين كمنوا له على الطّريق ليغتالوه والّذين أنكروا عليه أعماله الطيبة التي لا يعرفون مغزاها، وأفعاله الكريمة التي يجهلون مرماها، وعابوا عليه شمائله الشّريفة حسدا ونجاسة «إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» فجعلوا موضع شكرها كفرا وجحودا، وعملوا بضد ما هو واجب عليهم، لأنهم كانوا قبل مقدم الرّسول صلّى الله عليه وسلم المدينة في ضنك عيش وعداوة شديدة فيما بينهم وذل كبير بين مجاوريهم، فوسع الله عليهم ببركة رسوله وألف بينهم، وأظفرهم بأعدائهم، وجعل لهم عزة ومكانة بين النّاس وعلى معنى الآية قول الشّاعر: ما نقم النّاس من أمية إلّا ... أنهم يحلمون إن غضبوا

وقول الآخر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب «فَإِنْ يَتُوبُوا» هؤلاء المنافقون، توبة نصوحا عما سلف منهم ولا يعودوا إليها، ويرجعون إلى الإيمان الخالص بالله وتصديق رسوله «يَكُ خَيْراً لَهُمْ» في الدّنيا والآخرة «وَإِنْ يَتَوَلَّوْا» عن التوبة ويعرضوا عن الله ورسوله ويصروا على كفرهم ونفاقهم، فلا يرجعون إلى الله، فإنه «يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا» بالذل والهوان والقتل والسّبي والأسر والجلاء «وَالْآخِرَةِ» بالعذاب الشديد الدّائم «وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» شرقها ولا غربها «مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» (74) يحميهم وينصرهم ويحفظهم من ذلك ولا من يمنعهم من إيقاع أحد العذابين بهم، بل لا بد من وقوعها بهم وأن في الأرض للجنس، فتشمل الدّنيا كلها وأرض الآخرة أيضا. ولما نزلت هذه الآية جاء الجلاس بن سويد وقال يا رسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة وأنا أستغفر الله، وإن عامرا قد صدق بما قال على ما صدر مني وهو قوله في الآية 92 المارة، فقبل توبته وحسن حاله. وهذا من كرم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم ومن شأنه الكرام الّذين تأسوا به، أدام الله الكرام. الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس، وأين هم الآن، يا حسرتاه! ولما شاب رأس الدّهر حزنا ... لما قاساه من فقد الكرام أقام يميط عنه الشّيب غيظا ... وينثر ما أماط على الأنام ولكن النّاس يا أسفاه كزمانهم. قال المعري: ألا إن أخلاق الفتى كزمانه ... فمنهن بيض في العيون وسود فلا تحسدن يوما على فضل نعمة ... فحسبك عارا أن يقال حسود وقول الآخر: مضى زمن وكان النّاس فيه ... كراما لا يخالطهم خسيس فقد دفع الكرام إلى زمان ... أخسّ رجالهم فيهم رئيس تعطلت المكارم يا خليلي ... فصار النّاس ليس لهم نفوس فقد مات الكرام ولم يبق إلّا تغني النّاس بمكارمهم، ولم تبق خلة صادقة، ولا

مواساة بين الأحبة وقد استغنى كلّ بنفسه، فلا يسأل جار عن جاره، ولا صديق عن صديقه، ويتبجح كلّ بنفسه، وأين النّاس من قول الإمام الشّافعي رحمه الله: وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... حوته يدي ظلم لهم وعقوق وإني لأستحي من الله أن أرى ... بحالي اتساعا والصّديق مضيق وقد صار الأصدقاء كما وصفهم القائل: كم من صديق مظهر نصحه ... وفكره وقف على عثرتك إياك أن تقربه أنه ... عون مع الدّهر على كربتك ولهذا قال علي كرم الله وجهه لابنه الحسن إياك ومصاحبة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب، وهؤلاء إخوان هذا الزّمن، فلا حول ولا قوة إلّا بالله القائل «وَمِنْهُمْ» الّذين يظهرون خلاف ما يبطنون «مَنْ عاهَدَ اللَّهَ» أمام رسوله وأكد ميثاقه بالقسم فقال «لَئِنْ آتانا» الله تعالى شيئا «مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ» منه بما فضل عن حاجتنا في طرق الخير والبر «وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ» (75) فيه بأن نخرج صدقة كاملة عن طيب نفس ولا نبخل بما يمن به علينا «فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ» كلّه فلم يعطوا منه شيئا حتى الزكاة المعروفة، ونقضوا عهدهم الموثق بالأيمان ونكثوه ولم يوفوا بشيء منه «وَتَوَلَّوْا» عن طاعة الله ورسوله «وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (76) عنهما ولم يلتفتوا إلى تعاليمهما ولهذا «فَأَعْقَبَهُمْ» الله «نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ» بأن ورثهم البخل ومكنّه فيهم وجعله مستمرا ثابتا فيها «إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ» في الآخرة وحرمهم من التوبة «بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ» من التصدق إذا أغناهم وقد وفى الله تعالى وهم نكثوا به «وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» (77) في قولهم لحضرة الرّسول ووعدهم له بالتصدق والصّلاح قال تعالى «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ» مع بعضهم من الطّعن بحضرة الرّسول وقولهم فيما بينهم سرا ما الصّدقة إلّا أخت الجزية أو هي غرامة وضعها علينا «وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (78) لا يخفى عليه شيء مما أسروه وأعلنوه، ومن هؤلاء المنافقين ضرب آخروهم «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ»

مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطمع والجبن وغيرها:

يعيبون ويطعنون «الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ» المتبرعين بها غير المفروضة عليهم، يريدون عبد الرّحمن بن عوف وعاصم بن عدي من الأغنياء إذ تصدق الأوّل بأربعة آلاف درهم في يوم واحد، والآخر بمائة وسق من تمر فبارك الله لهما، حتى أن بلغت تركة عبد الرّحمن لزوجاته من النّقد فقط مئة وستين ألف درهم «وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ» أي الفقراء الّذين يتصدقون بالقليل ويعنون بهم أبا عقل الأنصاري وأمثاله، إذ تصدق بصاع من تمر، ومنهم من تصدق بدرهم، فقالوا تصدق الأولان رياء وسمعة وعابوا الآخرين على قلة صدقتهما، وهم لا يتصدقون بقليل ولا كثير، قاتلهم الله ما ألعنهم وأخسّهم. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود البدوي قال: لما نزلت آية الصّدقة كما نحمل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا هذا مرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع، فنزلت هذه الآية «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» فيقولون هؤلاء الأغنياء لا عقول لهم، إذ يبذرون أموالهم، وهؤلاء الفقراء لا عقول لهم إذ يتصدقون وهم محتاجون، وصاروا يهزأون بالفريقين، فوبخهم الله بقوله «سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» وأهانهم وأذلهم وجازاهم على فعلهم هذا الذم والهوان في الدّنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ أَلِيمٌ» (79) ، وللمتصدقين ثواب عظيم، لأنهم لم يتصدقوا إلّا لمرضاة الله طلبا لثوابه، وكلّ متصدق يتصدق على قدر طاقته قال صلّى الله عليه وسلم تصدقوا ولو بشق تمرة. وجاء في حديث آخر فضل درهم ألف درهم، في تصدق فقير بدرهم وغني بألف، لأن الغني يتصدق عن سعة، والفقير عن حاجة. وقال تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الآية 9 من سورة الحشر المارة. وقال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) الآية 9 من سورة الدّهر المارة أيضا. مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطّمع والجبن وغيرها: وخلاصة القصة هو أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء ذات يوم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال صلّى الله عليه وسلم ويحك يا ثعلبة،

قليل يؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم أتاه بعد ذلك فكرر مقالته، وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه، فقال له أما لك أسوة في رسول الله، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت. ثم أتاه الثالثة فكرر مقالته، فقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كلّ ذي حق حقه، فقال صلّى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت حتى ضاقت بها المدينة، فتركها ونزل واديا منها، وصار يصلي الظهر والعصر مع الرّسول، وبقية الأوقات في محل غنمه، ثم تباعد بها عن المدينة فصار لا يشهد إلّا الجمعة مع حضرة الرّسول بالمدينة، ثم تباعد بها حتى صار لا يشهد جماعة ولا جمعة، فذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن غنمه نمت حتى صارت لا يسعها واد، فتباعد بها عن المدينة، فقال يا ويح ثعلبة، حيث ألهته غنمه عن حضور الصلوات مع حضرة الرّسول، فحرم من مشاهدته ومن ثواب الجمعة والجماعة وفضيلة المسجد بسبب ما طلبه، وهذا ما كان يتوخاه حضرة الرّسول فيه، فسوّفه مرارا ليعدل عن طلبه ولم ينجح به، فدعا له فكان من أمره ما كان، ولما حان جمع الصّدقات بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يأخذ الصّدقة وكتب لهما ما يجب أخذه، وقال لهما مرّا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما، فجاءا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله، فقال ما هذه إلّا جزية، عودا علي إذا فرغتما، فجاءا السلمي وقد سمع ما قاله ثعلبة، فقام وأعطاهما خيار ماله، وقال لهما إن نفسي طيبة بذلك، وبعد أن جمعا صدقات النّاس وعادا بها مرا عل ثعلبة، واستقرأهما كتاب رسول الله ثانيا وقال ما هذه إلّا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي، فلما أقبلا على رسول الله، قال لهما قبل أن يتكلّما يا ويح ثعلبة، وهذه معجزة منه صلّى الله عليه وسلم، إذ أخبره الله بما وقع منه، وقاله لعمال الصّدقة ثم أخبراه بما فعل، فأنزل الله هذه الآيات، فذهب رجل من أقاربه فأخبره بما نزل فيه، فأتى رسول الله وكلفه أن يقبل صدقة، فقال قد منعني ربي من قبولها، فطفق يحثو التراب على رأسه، فقال صلّى الله عليه وسلم قد أمرتك فلم تطعني. فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى بصدقته إلى أبي بكر فلم يقبلها، فلما ولي عمر أتاه بها فلم يقبلها أيضا وكذلك

[سورة التوبة (9) : الآيات 81 إلى 90]

عثمان رضي الله عنهم، لأن حضرة الرّسول لم يقبلها، وهلك في خلافة عثمان، والحديث في هذه القضية رواه البغوي بسند الثعلبي عن أبي أمامة الباهلي، وأخرجه الطبري بسنده أيضا، وإنما لم يقبلها رسول الله جزاء لمخالفة عهد الله وإهانة له لقوله إنها أخت الجزية ليعتبر غيره، وما قيل إن هذه الآية نزلت في حاطب بن بلتعة أو متعب بن قشير فقيل ضعيف، وهي عامة في كلّ من هذا شأنه، ونزولها في ثعلبة لا يقيدها أو يخصصها فيه، لأن العبرة دائما لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب، ولما أبان للمنافقين نفاقهم، وشاع بين النّاس ما أظهره الله تعالى مما تكنه بواطنهم الخبيثة، ولم يروا بدا من الاستتار جاءوا إلى رسول الله يطلبون منه الاستغفار، فأنزل الله تعالى خطابا لسيد المخاطبين قوله جل وعلا «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» حيث قضي الأمر في شأنهم فاستغفارك لهم وعدمه سواء منهما أكثرت منه «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ» أي عدم المغفرة لهم «بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وأصروا على كفرهم، وكمن ذلك في قلوبهم، وخرجوا عن الطّاعة «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (80) الخارجين عن طاعته، ومن شفقة رسوله صلّى الله عليه وسلم ورأفته بهم لو يعلم أنه إذا استغفر لهم أكثر من سبعين مرة، وأنه تعالى يغفر لهم لفعل، ولكن سبق السّيف العذل ورفعت الأقلام وجنت الصّحف بما هو كائن، ثم ذكر نوعا آخر من مثالبهم، فقال جل قوله «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» ولم يذهبوا معه إلى غزوة تبوك التي هي آخر غزواته صلّى الله عليه وسلم، وكان عليهم أن يأسفوا ويحزنوا لما فاتهم من صحبته في هذه السّفرة الطّويلة ويتأثروا على مخالفة أمره وهم بالعكس راق لهم البقاء في المدينة «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مع رسوله وأصحابه لإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعدائه ونصرة أوليائه واختاروا الرّاحة والقعود مع أهليهم وأولادهم وأموالهم على مرافقة الرّسول وتكثير سواده، «وَقالُوا» لبعضهم يقصد تثبيطهم وتنفيرهم «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» فتهلكوا «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل إن كان حرّ الدنيا يمنعكم عن الجهاد في سبيل الله، فتربصوا فإن مأواكم في الآخرة «نارُ جَهَنَّمَ»

فهي «أَشَدُّ حَرًّا» من حر الدّنيا قد أعدها الله للمتخلفين عن طاعته وطاعة رسوله، فالأجدر بهم أن يعملوا خيرا للخلاص من عذابها «لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» (81) عاقبة أمر تخلفهم عن غزوة رسول الله ما تخلفوا، ولكنهم قوم فقدوا عقولهم فاتركهم «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا» في هذه الدّنيا الفانية على راحتهم فيها وتخلفهم عن الجهاد معك «وَلْيَبْكُوا كَثِيراً» في الدّار الآخرة الباقية على ما فرط منهم وفرحوا به «جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (82) من الأعمال القبيحة والأفعال الخبيثة. قال علي كرم الله وجهه لابنه الحسن: إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق. وإذا كانوا حمقا ولا عقول لهم فلا يرجى منهم خير ولا عود إلى الخير. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يا أيها النّاس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النّار يبكون في النّار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تقطع الدّموع، فتسيل الدّماء، فتفرغ العيون فلو أن سقنا أجريت فيها لجرت. فتأمّلوا رحمكم الله في هذا واعقلوا ما يراد منكم، فالعقل هو الإمام الحق والصّاحب الوفي والنّور المضيء، والشّاهد الذكي المميز الحق من الباطل، والخير من الشّر، والصّدق من الكذب، المشوّق الى العلم والحكمة، والآلف من الدّناءة والخسة، وبه توجد السّعادة العظمى والسّلامة في الآخرة والأولى، فالسعيد من جعل همه في معاده ولم يخض بما لا يعنيه، ولا يترك الخوف في أمنه ولا بيأس من الأمن في خوفه، وتدبر الأمور في علانيته وسرّه، ولم بذر الإحسان في قدرته، وحادث النّاس فيما يجهل، فإن في المحادثة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب. وعليه فليأخذ ما استطاع من كلامه ففيه المزالق، وقيل فيه: إذا فكّر الإنسان ألفى لسانه ... عدوا له يجني عليه بما يجني فإن هو لم يطلقه الفاء مطلقا ... وإن هو لم يسجنه ألقاه في السّجن

وقال الآخر: احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنّك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشّجعان وخفف ما استطعت من الدّنيا، فإنه لا يجتمع حب الدّنيا والآخرة بقلب واحد. واحذرها فإنها تقمصت بجلد الشّاة على قلب الذئب، قال أبو نواس: ألا كلّ شيء هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشف ... له عن عدو في ثياب صديق فالدنيا هي الدّاء الدّفين ودواؤه تركها وترك أهلها لأنهم داء لا دواء لهم، قال الحيص بيص: يا طالب الطّب من داء أصيب به ... إن الطّبيب الذي أبلاك بالداء هو الطّبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق في الماء فهذا ثعلبة كيف غرّته الدّنيا فخسرها مع الآخرة بسبب الطّمع: يا ويح من جعل المطامع قائدا ... يقتاده نحو الرّدى بزمام من كان قائده المطامع لم يفر ... يوما بعيش مسرة وسلام فنتيجة الطّمع الهلاك، فلا ثرجو خيرا من طمع: وراعي الشّاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرّعاة لها ذئاب قال تعالى «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ» يا حبيبي من غزوتك هذه «إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ» أي المتخلفين بلا عذر ثم جاءوك «فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ» إلى غزوة أخرى «فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» بسبب «إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» (83) العاجزين والصّبيان والنّساء وأرباب العاهات، فتبا لكم على اختياركم القعود معهم، أما أنا فقد أغناني الله عنكم وأرجعني وأصحابي بخير، لأن الله وعدني بذلك، ووعده حق، وقد حل بكم النّدم على اختياركم القعود وما فعلتم ولات حين مندم، وقد فاز من فاز بمرافقتي وخسر وخاب من تقاعس، وقد جف القلم بما هو كائن للفريقين. قال تعالى «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ

مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:

عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» (84) خارجون عن طاعتهما، وهذه الآية تشير إلى إهانتهم بعد الموت كما كانوا قبله، وقد وصفهم الله بالفسق بعد الكفر، مع أنه داخل فيه، لأن الكافر قد يكون عدلا يؤدي الأمانة ولا يسيء إلى أحد، وقد يكون مع كفره على ضد ذلك خبيث النّفس ماكرا مخلدعا غشاشا. ولما كان المنافقون جامعين لهذه الصّفات القبيحة المخزية، نعتهم الله تعالى بالفسق بعد الكفر، وكلاهما خيثان. مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن: روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، قال لما مات عبد الله بن أبي سلول دعى له رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام صلّى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا: كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال إني خيّرت فاخترت. أي خيرت في آية الاستغفار عدد 80 المارة لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت، وهذا من كرم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم وعظيم عفوه وكثير صفحه عمن أساء له، وشدة حرصه على من ينيب اليه، لأن هذا من أشد النّاس عداوة له صلّى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي ما أحلمك يا رسول الله. واعلم أيها القارئ أن هذا لا يعارض قوله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) الآية 8 من سورة المنافقين المارة، لأن هذا الاستغفار مخير فيه لا منهي عنه، والفرق بينهما واضح، تأمل. وقد علم صلّى الله عليه وسلم بطريق الوحي أنه لا يغفر له، قال فصلى عليه ثم انصرف فلم يمكث إلّا يسيرا حتى نزلت الآية، قال فعجبت من جرأتي على رسول الله يومئذ، وهذا الحديث مقيد بحديث سأزيد على السّبعين الذي يفيد الوعد المطلق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، وتقيد وتخصص أيضا، كالآيات القرآنية، والله ورسوله أعلم. وقد أخرج هذا الحديث الترمذي وزاد فيه، فما صلّى صلّى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله، وفي رواية جابر للبخاري ومسلم أنه ألبسه قميصه ونفث عليه،

وإنما فعل هذا حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم مع هذا وهو راس المنافقين، مع علمه أنه مات على نفاقه تطييبا لخاطر ابنه عبد الله لشدة إخلاصه وصلاحه وصدقه ومحبته لحضرة الرّسول ينبيك عن هذا ما نوهنا به في الآية 8 من سورة المنافقين المارة مما قاله لابنه وما ذكره بحضرة الرّسول، ولذلك قال حضرة الرّسول على قبره وصلّى عليه قبل النّهي، وهذا من بعض محاسن أخلاقه صلّى الله عليه وسلم، ولما رأى المنافقون وقوم عبد الله بن سلول ما قام به صلّى الله عليه وسلم من مقابلة إساءة عبد الله لحضرته بالإحسان حال حياته، وبالإحسان بعد وفاته أسلم كثير منهم، وإنما كساه ثوبه بعد موته لأنه كان حينما جيء بالعباس أسيرا يوم بدر كساه عبد الله ثوبه، وقد حفظ له معروفه ذلك وهو أهل المعروف وأولى ممن يقابل السّيئة بالحسنة. هذا وان رسول الله صلّى الله عليه وسلم زار قبر أمه عام الحديبية قبل النّهي لما لها من حق الأمومة، وذلك قبل نزول هذه الآية، لأنها نزلت بعد غزوة تبوك، فلا يرد عليه مقال، ومن قال أن زيارته لها بعد النّهي أي بعد نزول هذه الآية فقد أخطأ، لأن التاريخ يكذبه، على أنها رحمها الله من أهل الفترة، وأباه كذلك، والقول الصّحيح أن أهل الفترة غير مؤاخذين، راجع الآية 15 من سورة الإسراء في ج 1. ولا مانع يمنع من زيارة قبور الكفار، لأن القصد من الزيارة التذكر بالآخرة، قال صلّى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة. ومن جعل العلّة في الزيارة الدّعاء لهم لا مستند له، لأن الدّعاء يكون في كلّ مكان على أنه لو فرض صحة ذلك فإن العلة لا تدور مع المعلول، لأن الخمر حرمت لعلة الإسكار، فهل يقال بإباحتها لمن لم يسكر بسبب إدمانه عليها أو لأمر آخر، وقد حرم الزنى لعلة اختلاط الأنساب فهل يباح لعقيم أو عجوز لا يتصور منهما ذلك، وحرم القمار لعلة أخذ أموال النّاس بغير حق، فهل يباح اللّعب به إذا لم يتحقق أخذ المال بغير حق، لأن المقامر قد يربح وقد يخسر، وقد لا يربح ولا يخسر، وهكذا في سائر المحرمات، فانه لا يجوز قربها ولو لم تحقق العلة، ولهذا فإن عدم الدّعاء للأمرات لا يمنع من زيارة قبورهم تأمل قوله صلّى الله عليه وسلم تذكركم الآخرة لأن فيها عبرة وعظة حصل الدّعاء أم لم يحصل. قال تعالى «وَلا تُعْجِبْكَ

أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (85) وهذه نظير الآية 55 المارة وتفسيرها تفسيرها، وقد يكرر الله بعض الآيات في سورة واحدة لحكمة يعلمها، لأن تجدد النّزول له شأن في تقرير ما أنزل وتأكيد له ولئلا يغفل المخاطب عنه وليعتقد أهميّته وخاصة فيما يتعلق بالأموال والأولاد، الآتي ذكرهما في أكثر السّور، لأنهما أشد جذبا للقلب من غيرهما، ولهذا حذر الله تعالى من الانهماك بهما المرّة بعد الأخرى مبالغة في التحذير من الانشغال بهما عن أمور الآخرة. واعلم أنه قد يوجد تقارب بين الآيات الكريمة، قد لا يحس بها، فهذه الآية صدّرت بالواو الاستئنافية إذ لا علاقة لها بما قبلها، ولم تزد فيها (لا) بعطف الأولاد، دلالة على عدم التفاوت بينهم وبين المال في المحبة عندهم، وصدرت الأولى بالفاء المفيدة للعطف على ما قبلها وهي لا ينفقون إلّا وهم كارهون الآية 54 المارة لشدة محبتهم بالمال وزيد فيها (لا) لزيادة التأكيد الدّال على أنهم معجبون بها وإعجابهم بأولادهم أكثر وجاء فعل يعذبهم مقرونا باللام مع العلم بأن التعليل في أحكام الله محال وفي هذه بلفظ ان دون اللام وان حرف التعليل فيها بمثابة ان قال تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ) الآية (6) من سورة البينة المارة أي ما أمروا إلّا أن يعبدوا الله، وجاء في الأولى في الحياة الدّنيا تبينها على أن حياتهم كلا حياة وهنا في الدّنيا فقط إشارة إلى أن حياتهم بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق الذكر ولا تسمى حياة لذلك انتصر في ذكرها وقدم الأموال على الأولاد فيها لشدة الحاجة إليها مع أن الأولاد أعز منها لأنها تصرف في سبيلهم كما أنهم يفارقون أنفسهم بطلبها ومهما كان في الولد عز فالفقر أذل في عزة الأولاد لهذا فإن من لم يتفكر في الآيات يظنّ أنها مكررة حرفيا مع أنها قد لا توجد الآية كلها مكررة بعينها أما الجمل في الآيات والكلمات فيها فهو كثير ولكن كلّ لمناسبة أخرى وقد بيّنا بعض أسباب التكرار في الآية الأخيرة من سورة الكافرين في ج 1 ولا يخفى أيضا أن التكرار واقع في بيان التوحيد وأحوال القيامة وقصص الأنبياء، وذلك أن العرب كانوا وثنيين ينكرون هذه الأشياء ومثلهم أهل الهند والصّين والمجوس

فلأجل التقرير والتأكيد اقتضت حكمة الله بالتكرار في الجمل والكلمات ومعنى الآيات لا الآيات نفسها وهو من إعجاز القرآن وبلاغته فكان التحدي فيه بالبلاغة والفصاحة في الجمل والكلمات والآيات إيجازا وإطنابا مع مراعاة الدّلالة على المعنى في كلّ وحفظ أعلى مرتبة البلاغة في كلّ من الموجز والمطنب ليعلم أن القرآن ليس من كلام البشر لأن هذا الأمر عند البلغاء يعدونه خارجا عن طوق البشر ومن أراد أن يطلع على تفاصيل أسباب التكرار فليراجع ص 31 وما بعدها من كتاب إظهار الحق ج 2 في الباب الخامس لصاحبه المغفور له رحمة الله الهندي. قال تعالى «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» من القرآن آمرة «أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» قدم الإيمان لأن الجهاد بدونه لا يفيد «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ» الأغنياء القادرون على الجهاد مالا وبدنا الواجب عليهم فيها «وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» (86) المعذورين عن الجهاد. قال تعالى موبخا لهم على قولهم هذا «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ» لضعف إيمانهم وقلة يقينهم وزيادة جبنهم وكثرة خوفهم وكان عليهم لو كان عندهم مروءة أن لا يرضوا لأنفسهم ذلك الخزي والهوان ويعدون أنفسهم من قسم النّساء والصّبيان ومن هو في حكمهما من المرضى والعاجزين بل عليهم أن يسارعوا إلى ما فيه عزهم وفخارهم ويلبّوا أمر رسولهم طاعة لربهم ولكنهم عدلوا عن ذلك كله «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (87) مراد الله في الجهاد ولا يعلمون أنه لمصالحهم واعلم أنه لم تدخل ما بعد إذا هنا لاحتمال تطرق النّفي فيما بعدها ومثلها في الآية (30) من سورة محمد عليه السّلام المارة لأن ما لا تدخل بعد إذا مطلقا كما يفعله بعض من لم ينظر إلى ما بعدها حتى أن كتبة هذا الزمن تجدهم يدخلونها بصورة مستمرة غير ناظرين إلى المعنى الذي يتخيل منها لقلة معرفتهم بالعربية واغترارهم بالقاعدة (إن ما بعد ذا زائدة) ولا يعرفون أن الزائد لا يكون في كتاب الله كما لا يوجد النّاقص فيه وسنبين لك هذا البحث مستوفيا في الآية 123 الآتية بعد وقد بينا بعضه في الآية 93 من سورة المائدة المارة فراجعها قال تعالى «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» لا يستأذنون ولا يرضون لأنفسهم

مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:

الذلة والمهانة بالتخلف بل رغبوا بما عند الله تعالى من الأجر والثواب ولذلك «جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» لإعلاء كلمة الله وعزة المؤمنين فرخصوا أنفسهم فباعوها في سبيل الله ولم يحسبوا للموت حسابا، وكان قائلهم يقول: أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويلك لم تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاع فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع فهؤلاء الرّجال الّذين يحبون الموت لتوهب لهم الحياة الطّيبة في الدّنيا والآخرة لا أولئك «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ» في الدّنيا من الغنائم والتفوق على غيرهم من الإقدام والتفادي «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (88) الفائزون في الآخرة إذ «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» جزاء طاعتهم لله ورسوله «ذلِكَ» الجزاء الحسن هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (89) الذي لا يوازيه فوز، وفخر عظيم لا يعادله فخر، وأجر كبير لا يقابله أجر. مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر: قال تعالى «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ» بتشديد الذال ومن شدد العين معها فقد أخطأ، لأن الذال تدغم مع العين للتضاد، ولم يقل أحد بتنزيل التضادّ منزلة التناسب، وقرىء المعتذرون أي طالبي العذر، لأن التاء للطلب على أن الأصل المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، وذلك لما رأوا أن سقط في أيديهم، ولم يروا أن الأرض تسعهم مما لحقهم من الخجل ممن كان من أصحابهم مع حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وهم «مِنَ الْأَعْرابِ» الّذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بعد أن عاد منها حضرة الرّسول وصاروا يعتذرون إليه بأن عدم خروجهم معه كان خوفا من أن بغير أعداؤهم على أموالهم وذراريهم حالة غيابهم وطلبوا منه «لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» بقبول عذرهم والمعذر من يرى أن له عذرا ولا عذر له، وهؤلاء الّذين تخلفوا كسلا، وأما المتخلفون نفاقا فهم المذكورون

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 إلى 100]

في قوله تعالى «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فلم يأتوا ولم يعتذروا إذ عرفوا أنهم سقط في أيديهم «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» أعنف العنف «عَذابٌ أَلِيمٌ» (90) لأن تخلفهم كان مخالفة لأمر الرّسول وجرأة على الله، أما الّذين لم يكن تخلفهم لهذا فمفوضون لأمر الله، ثم بين تعالى المعذورين الغير مكلفين بالجهاد فقال «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ» المسنين الهرمين ومن دون البلوغ من الصّبيان والنّساء لعدم تكليفهم ولضعفهم ورقة قلوبهم «وَلا عَلَى الْمَرْضى» وذوي العاهات والزمنى «وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ» بالغزو من السّلاح والزاد والرّاحلة «حَرَجٌ» إثم إذا تخلفوا عن الجهاد، أما إذا خرجوا طوع أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وحفظ متاعهم وتهيئه ما يتمكنون عليه من الخبز والتضميد والتنظيف ومداواة الجرحى، فلهم الثواب العظيم، لأن الله تعالى أسقط عنهم الوجوب ولم يحرم عليهم الخروج، فإذا أقاموا في البلد لا إثم عليهم، بل يؤجرون إذا نظروا إلى أولاد وأموال المجاهدين ورعايتها وحفظها، وهذا مغزى قوله جل قوله «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» بأن حافظوا على ما ذكر وقاموا بحوائج ذراري وأهالي المجاهدين ما استطاعوا عليه بصدق وأمانة وإخلاص، ولا سيما إذا أوصلوا الأخبار السّارة إلى أهالي المجاهدين وردوا أراجيف المرجفين وكتموا أسرارهم ولم يفشوها لأحد، فهذا كله من الإحسان للمجاهدين وأهليهم وداخل في معنى النّصح الذي ذكره الله، لذلك قال «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» يلامون عليه أو يعاتبون فيه وقد سماهم الله محسنين فيكفيهم فضلا على غيرهم وأجرا على ما وصفهم الله به وتقديرا عند رسوله «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تخلف منهم «رَحِيمٌ 91» بهم يثيبهم بحسب نيتهم «وَلا» حرج ايضا «عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ» فبلغوا معك تبوك لقتال عدوك «قُلْتَ» لهم «لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» وكانت الشّقة بعيدة في هذه الغزوة لا يمكن المشي فيها على الأقدام بصورة مستمرة «تَوَلَّوْا» أعرضوا بظهورهم عنك وهو جواب إذا «وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ» ، واعلم أن هذا التعبير يقع في علم البلاغة بمكان عظيم، لأن العين جعلت هنا كلها دمعا ويعبر عن مثل هذا في البلاغة

بفيض دمعها «حَزَناً» على عدم خروجهم معك بسبب «أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» (92) للتأهب معك والواو هنا للحال أي تولوا والحال أن أعينهم إلخ. ثم ان العباس وعثمان ويامين بن عمرو لما رأوا تأثرهم تمكنوا من تجهيز جملة منهم وذهبوا مع حضرة الرّسول. أخرج ابن أبي حاتم والدّارقطني في الأفراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت براءة، واني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى. فقال كيف يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى) الآية. ونقل الطّبراني عن محمد بن كعب وغيره، قالوا جاء أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستحملونه فقال ما قصه الله في الآية. وهذا شامل لقول من قال إنها نزلت في البكائين السبعة: سالم بن عمير وهو من بني عمير وعبد الرّحمن بن كعب أبي يعلى وسلمان ابن صخر وعبد الرّحمن بن زيد الذي تصدق بعرضة- بفتح العين والضّاد- وعمرو ابن خيثمة وعبد الله بن عمرو وغيرهم الّذين ذكرهم البغوي، والثلاثة الّذين ذكرهم مجاهد، أو العرياض بن سارية. قال تعالى «إِنَّمَا السَّبِيلُ» طريق اللّوم والعقوبة والمؤاخذة «عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ» أقوياء قادرين الّذين «رَضُوا» رغبة منهم «بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (93) حقيقة ما أعده الله للمجاهدين في الدّنيا والآخرة، وقبح ما اختاروه، ووخامة عاقبته في الدّارين. قالوا ولما وصل صلّى الله عليه وسلم تبوكا لم يرقها أحد من الرّوم، فاستنار أصحابه بمجاوزة تبوك، فقال عمر إن كنت أمرت فسر، فقال لو أمرت لم أستشر. وهناك جاءه يوحنا صاحب إيلياء ومعه أهل جرباء واذرح ومتينياء من بلاد الشّام، فصالحوه على الجزية، وكتب لهم كتاب أمان لهم ولأموالهم ما داموا على العهد. وبعد مضي عشرين يوما أقاموها بتبوك للراحة من وعثاء السفر رجعوا إلى المدينة. وان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنى مساجد في طريقه من تبوك إلى المدينة ووصلوا إليها سالمين، وامتدحه العباس رضي الله عنه بقصيدة مشهورة مطلعها: وأنت لما ولدت أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذاك الضّياء وفي ... النور وسبل الرّشاد نخترق قال تعالى وأولئك المتخلفون سيأنونكم «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ» من سفركم «إِلَيْهِمْ» بالمعاذير الباطلة الواهية لتقبلوا منهم وتصفحوا عنهم، «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ» ولا نصدق عذركم «قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ» الكاذبة قبل إبدائها، وصار لنا علم حقيقي بها، فلا مجال لتصديقها البتة «وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» ويريه للنّاس من كلّ ما تقولون وتوعدون به من النّصر والمعونة في المستقبل، ويظهر صدقه وكذبه في الدّنيا، وهل تتوبون مما أنتم عليه أو تموتون مصرّين على نفاقكم «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» في الدّار الآخرة وإذ ذاك «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (94) ويجازيكم بحسبه قال تعالى «سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ» يا سيد الرّسل هؤلاء المنافقون بأنهم «إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ» من غزوتكم هذه «لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ» ولا تؤنّبوهم «فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ» واتركوهم وشأنهم، وقد طلبوا اعراض الصّفح، فأعطوا اعراض المقت، وذلك «لأنّهم رجس» ، لا تطهرهم المعاتبة ولا يصلحهم التوبيخ في الدّنيا «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» في الآخرة «جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (95) من قبائحهم وخبثهم «يَحْلِفُونَ» هؤلاء المنافقون وعددهم بضعة وثمانون رجلا، وهم الّذين نزلت فيهم هذه الآيات «لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ» مع أنهم خارجون عن طاعتكم كلا لا تفعلوا «فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» (96) الخارجين عن طاعته المناوئين لرسوله وللمؤمنين، وإنما وصفهم الله بما ذكر ليعلم رسوله بما في قلوبهم، فلا يقبل عذرهم، ولا يصدق إيمانهم، أما المعذورون حقيقة، فقد قال صلّى الله عليه وسلم عند دنوه من المدينة مخاطبا أصحابه الّذين معه إن في المدينة قوما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم، حبسهم العذر هذا، ولما انتهى صلّى الله عليه وسلم من غزوته هذه، وعاد إلى المدينة طفق يشير بما عليه أعرابها، فقال ما أنزله الله عليه «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً» من الحضر «وَأَجْدَرُ» بذلك وأحرى وأولى أن يكون كفرهم ونفاقهم أشد من أهل القرى والمدن

بسيب بعدهم عن سماع القرآن وأحاديث الرّسول ومواعظ العلماء، لذلك قال تعالى وأخلق «أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» من الأحكام والأخلاق والآداب والأمثال والقصص الموجبة للاتعاظ والاعتبار «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بأحوال عباده كلهم «حَكِيمٌ» (97) بهم ميسر كلا لما خلق له ومعط كلا ما يستحقه. واعلم أن الأعراب هم الّذين يتبعون في البوادي مساقط الغيث ومنابت الكلأ، يخيّمون هنا يوما، وهنا أياما بحسب وجود الماء والمرعى، ويقال للواحد منهم أعرابي مفرد أعراب ومن استوطن القرى والمدن يقال له عربي مفرد عرب، وعليه فإن المهاجرين والأنصار من العرب لا من الأعراب، وإنما وصفهم الله بالكفر والنّفاق لكثرة تصلّبهم بهما وبعدهم عن معرفة حقيقة الإسلام مع ما هم عليه من كرم وشجاعة، وإقراء الضّيف وإغاثة الملهوف ومعونة ذي الحاجة والمروءة والغيرة، وأوصاف أخر قد لا يتحلى بها كثير من النّاس لا كما يقوله البعض بأنهم أجلاف كلا بل أشراف، ولكن مع الأسف لا حظ لهم في الآخرة إذا لم يؤمنوا. قال تعالى «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات الواجبة عليه بمقتضى الدّين الحق «مَغْرَماً» يعدها كغرامة وهي التزام ما لم يلزم، فلا يعتقد وجوبها وهي أحد أركان الإسلام، ولا ثوابها ولا يعطبها إلّا خوفا أو رياء «وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ» أيها المؤمنون «الدَّوائِرَ» تقاليب الزمن بما يحوك في صدورهم من الحقد عليكم بسبب أخذ الصّدقة منهم، وينقلبوا عليكم فينتقموا منكم عند أول سانحة، ولذلك فإنهم يتحينون الفرص السّيئة لينقضوا عليكم ولكن «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» تدور وينقلب الزمن بسوء عليهم لا عليكم، فلا يرون فيكم إلّا ما يسوءهم، ولا ترون فيهم إلّا ما يسركم «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يقولونه فيكم أسرّوا فيه أم جهروا «عَلِيمٌ» (98) بما ينوون من السّوء عليكم ويتمنون وقوعه فيكم، نزلت هذه الآيات في أعراب أسد وغطفان وتميم، ثم استثنى منهم جماعة بقوله جل قوله «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» لأنهم يعطونها عن طيب نفس «وَصَلَواتِ الرَّسُولِ» أدعيته صلّى الله عليه وسلم لهم يتخذونها أيضا

ويرغبون بها، لأن حضرة الرّسول كان يدعو للمتصدقين بالبركة والخير. ثم ينبّه على ما يتعظ له هؤلاء الأبرار فقال «أَلا إِنَّها» صلوات الرّسول في الحقيقة «قُرْبَةٌ» عظيمة ومنفعة جزيلة وبرّ شامل «لَهُمْ» للمتصدقين ولهم في الصّدقات وصلوات الرّسول قربة عند الله وأجر عظيم وثواب كبير وخير جزيل «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ» الواسعة على نيتهم هذه وعقيدتهم الحسنة «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما يقع من الخلل في صدقاتهم وما سبق من أعمالهم «رَحِيمٌ» (99) بهم وبأمثالهم المؤمنين المتصدقين لأجله، الطالبين دعاء الرّسول، وهذه شهادة من الله تعالى للمتصدقين المتيقنين أجر صدقاتهم مؤكدة بحرفي التنبيه والتأكيد وناهيك بها شهادة، فعلى المتمولين أن يسارعوا في صدقات أموالهم عن رغبة ويكثروا منها ما استطاعوا طلبا لهذا الثواب المشهود به من الله. وتفيد هذه الآية أن من لم يؤد صدقته بهذه النّية ويطلب فيها مرضاة الله فإنهم يعرضون أنفسهم لسخط الله ويعدّون من الكانزين المشار إليهم في الآية 35 المارة، لأن الذي يعطيها خوفا أو رياء لا يعد مؤديها كما أراد الله، اللهم وفق عبادك إلى السّخاء بما مننت به عليهم من فضلك، واجعله لخيرهم وقهم من البخل والشّح المؤدي لهلاكهم، وامح شقاءهم، واثبت لهم السّعادة إنك على كلّ شيء قدير. قال قسّ بن ساعدة: أفضل المال ما قضى به الحقوق، وأفضل العلم وقوف المرء عند علمه، وأفض العقل معرفة المرء بنفسه، وأفضل المروءة استبقاء ماء الوجه، ولهذا حث الشّارع على السّعي كما جاء به الكتاب، وحبذه كلّ ذي رأي وعقل، وفيه قيل: فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا وما بلغ الحاجات في كلّ وجهة ... من النّاس إلّا من أجدّ وشمرا فلا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام اللّيل من كان معسرا وقال أبو بطال: جمعت مالا ففكر هل جمعت له ... يا جامع المال أبوابا تفرقه المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلّا يوم تنفقه إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يلق في ظلها عمّا يؤرقّه

فالمال الذي يوفق صاحبه لهلكته بالخير لا أحسن منه إلّا الدّين الصّحيح، وقيل فيه: ولم أر بعد الدّين خيرا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر وما الفرق بين حلال المال وحرامه إلّا أن الأوّل يدل على الجد والعمل والثاني يدل على الغش والكذب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرأيتم ان كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيرا من تميم وبنى أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة؟ فقال رجل: خابوا وخسروا، قال نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر ابن صعصعة. ورويا عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها. ورويا عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار مواليّ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله. وإنما مدح هؤلاء حضرة الرّسول لكمال يقينهم وحسن نيتهم وصدق عقيدتهم وأدائهم زكاة أموالهم طيبة بها أنفسهم. قال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فسلكوا سبيلهم بالإيمان واقتفوا آثارهم بالأعمال الصّالحة إلى يوم قيامتهم على هذا الشّرط الذي شرطه الله عليهم، فهؤلاء «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» بحسن نيّاتهم وبما أنعم الله عليهم من خيره الفيّاض «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ» الفضل الذي منحهم الله إياه هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (100) من الرّب العظيم والفلاح الجسيم والنّجاح الذي ما بعده نجاح، وهؤلاء هم الّذين صلّوا إلى القبلتين وأهل بدر وأهل بيعة الرّضوان، ويدخل في عموم الآية جميع الأصحاب نسبيّا، وتشمل من حذا حذوهم أيضا، أما من لم يتبعهم بإحسان ولم يقتف آثارهم فليس منهم، ولا ينال ما نالوه، ولا يدخل في عدادهم، والنّاس بعدهم مراتب. واعلم أن أول من آمن به صلّى الله عليه وسلم من النّساء خديجة الكبرى رضي الله عنها، ومن الصّبيان علي كرم الله وجهه ورضي عنه، ومن الرّجال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ومن الأرقاء بلال وزيد بن حارثة رضي الله

عنهما، والّذين أسلموا بواسطة أبي بكر أولهم عثمان بن عفان فالزبير بن العوام فعبد الرّحمن بن عوف فسعد بن أبي وقاص فطلحة بن عبد الله، فهؤلاء العشرة هم أسبق النّاس إيمانا من المهاجرين، والسابقون من الأنصار سعد بن زرارة وعوف ابن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وقطينة بن عامر وجابر بن عبد الله بن ذياب، وهؤلاء الّذين بايعوا حضرة الرّسول ليلة العقبة الأولى، والبراء بن معرور، وعبد الله ابن عمرو بن حزام أبي جابر، وسعد بن عبادة، وسعد بن الرّبيع، وعبد الله ابن رواحة، ورفقاءهم، وهم سبعون رجلا الّذين بايعوا حضرة الرّسول عند العقبة الثانية، راجع الآية 103 من سورة آل عمران تجد هذا هناك، وسبب اتصال الأنصار بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم أيضا. وأول من آمن على يد مصعب بن عمير من أهل المدينة قبل الهجرة قد ذكرناهم هناك أيضا. وإنما خص الله السّابقين الأولين في هذه الآية بهذه المزية العظيمة لأن الهجرة أمر شاق على النّفس لما فيها من مفارقة الوطن والأهل، والنّصرة منقبة شريفة ورتبة عالية، وقد امتاز الأنصار المذكورون على غيرهم بإبواء حضرة الرّسول وأصحابه ومواساتهم لهم بالمال والسّكن، حتى ان بعضهم ترك بعض زوجاته لبعضهم، وهؤلاء الأكارم حازوا خير الدّنيا والآخرة. ويعلم من تقديم المهاجرين في كلام الله أنهم أفضل من الأنصار، لأن الهجرة أشق على النّفس من أشياء كثيرة، والأنصار هم أهل المدينة، ولقبوا بهذه الصّفة قبل غيرهم، وصار علم شرف لهم لنصرتهم حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: خير النّاس قرني ثم يلونهم، ثم الّذين يلونهم. قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. والأخيريّة النّسبية موجودة حتى الآن وما بعدئذ بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلم لا يأتي يوم إلا والذي بعده شرّ منه، وما يقع من الأخيريّة فهو من تنفسات الزمان. ورويا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. والقرن من مئة إلى مئة وعشرين سنة، وهو مستوى عمر الإنسان لو عاش سالما من تخم الأكل المهلكة وتحفظ من الحر والقر المدمّرين للانسان، ومن الجوع المفرط وما يعتريه بسبب

[سورة التوبة (9) : الآيات 101 إلى 110]

هذه الأشياء من الأمراض، وما يفضي إليه من ترد وهدم وغرق وحرق وقتل وشبهها، وقد قدر الله تعالى هذا لعمر الإنسان، لأن الحيوان بعيش في الغالب سبعة أمثال مدة بلوغه، وأكثر، وأقل، بحسب ما هو مقدر عند الله من الأجل المبرم والمعلق، وزمن بلوغ الإنسان على القول الوسط خمس عشرة سنة، فتكون مع سبعة أمثالها مئة وعشرين، وهو معنى القرن، وكثيرا ما يقضون قبل ذلك بما يقدره الله عليهم من تلك العوارض، وكثيرا ما يعيشون أكثر، وقد عاش شيخنا الشّيخ حسين الأزهري مفتي الفرات سابفا مئة وسبعا وعشرين سنة مستجمعا كمال حواسه العشرة، ولم يعتره شيء من أمارات الهرم، رحمه الله، وبلّغنا ما بلغه، وجعل لنا لسان صدق مثله. ثم قسم الله المنافقين ثلاثة أقسام ذكر الأوّل بقوله عز قوله «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ» المحيطين بالمدينة «مُنافِقُونَ» يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر وهم من مزينة وجهينة وأسجع وغفار وأسلم أي القليل منهم، بدليل لفظ من التبعيضية، والكثير منهم ممدوحون كما مر في الحديث السّابق عقب الآية (99) المارة الدّالة على مدحهم، وفي هذا القسم المذموم الممقوت المذكورون في قوله تعالى «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» منافقون «مَرَدُوا» تمرنوا واعتادوا «عَلَى النِّفاقِ» وهم من الأوس والخزرج، وأنت يا سيد المرسلين «لا تَعْلَمُهُمْ» لأنهم يظهرون لك الإيمان والإخلاص والصّدق والطّاعة والحمية ولكن «نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» لأنا مطلعين على ما تكنّه صدورهم من الكفر والغش والبغض والكذب والعصيان ولهذا فإنا «سَنُعَذِّبُهُمْ» على تزويرهم هذا، وخداعهم لك «مَرَّتَيْنِ» الفضيحة والخزي والهوان والعار والشّتار في الدّنيا، والعذاب الدّائم المقيم مدة البرزخ في القبر وكلا هذين العذابين في الدّنيا، لأن مدة البرزخ من أيامها، وعلى هذا عامة المفسرين يؤيده قوله تعالى، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» (101) في الآخرة لأنها محل ردّ كل الخلق فإنه مكان مكافآتهم ومجازاتهم، وهذه الآية من الآيات الصّريحة الدّالة على عذاب القبر، راجع الآية 46 من سورة المؤمن المارة في ج 2. واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأن كلّ ما يخبر به هو

من تعليم الله إياه وإخباره له بواسطة أمينه جبريل عليه السّلام. قال الكلبي قام النبي صلّى الله عليه وسلم خطيبا يوم جمعة فقال: أخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج أناسا من المسجد وفضحهم ولم يك عمر شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء، لأنه لم يشهد الجمعة، وظن أن النّاس قد انصرفوا واختبأوا هم منه أيضا، إذ ظنوا أنه قد علم بأمرهم خجلا من أن يراهم، فدخل المسجد فإذا بالناس لم ينصرفوا، فقال له رجل أبشر يا عمر فإن الله قد فضح المنافقين اليوم- أخرجه ابن أبي هاشم والطّبراني في الأوسط عن ابن عباس- وفي رواية ابن مردوية عن أبي مسعود الأنصاري أنه صلّى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا، ثم بين القسم الثاني بقوله «وَآخَرُونَ» من مسلمي المدينة الّذين تخلفوا عن الرّسول بشائبة النفاق، فلم يخرجوا معه إلى تبوك «اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» أمام حضرة الرّسول عند رجوعه وأظهروا له النّدم والأسف على ما وقع منهم، ولم يتقدموا بمعاذير واهية مختلفة كالأولين، فهؤلاء بفعلهم هذا وبيانهم الواقع طوعا منهم يعدّون قد «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً» وهو خروجهم مع حضرة الرّسول في الغزوات السّابقة وصدقهم فيها وندمهم على عدم ذهابهم مع الرّسول في هذه الغزوة ندامة حقيقة «وَآخَرَ سَيِّئاً» وهو تخلفهم عنه في هذه الغزوة وموافقتهم المنافقين على عدم الخروج معه قبلا، وهؤلاء لم يكن الله ليضيع أعمالهم السّابقة الصّادقة، ولذلك قال جل قوله «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» لسابق فعلهم الحسن وتحسين نيتهم والتمني من الله تعالى للتحقيق، لأن اعترافهم برضاهم دليل على صدق نيتهم. وتشير هذه الآية على قبولهم، ولذلك لم يذكر الله ما يدل على عقابهم. روى الطبري عن ابن عثمان قال: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية، وذلك لأن ظاهرها يفيد أن مجرد عمل صالح وجد من الإنسان مع أعمال سيئة يرجى له الخير، وقد لا يخلو مسلم من عمل خير مهما كان شريرا والحمد لله، راجع الآية 6 من سورة الرّعد المارة وما ترشدك إليه من المواضع ترشد لما تريد، واعلم أن الخلط هنا عبارة عن الجمع المطلق كاختلاط النّاس والأواني وغيرها بعضها ببعض،

والواو هنا نائبة عن مع، إذ بقي كلّ عمل صالح على حاله، فالطاعة تبقى على حالها موجبة للثواب، والمعصية تبقى على حالهما مفضية للعقاب، والقول بالإحباط باطل، وهذا على خلاف قولك خلطت الماء بالعسل لا متزاجهما واندماج كلّ منهما بالآخر، فلم يبق العسل عسلا ولا الماء ماء، ومن قال بالإحباط أراد هذا المعنى الأخير تأمل. ومما يدل على قبول التوبة وعدم الإحباط ختم الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (102) لأن تصديرها بحرف التأكيد دليل على انه ينجز الوعد لهم يسائق مغفرته ورحمته، ومن دلائل قبول التوبة أيضا قوله تعالى خطابا لسيد المخاطبين «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ» أي المعترفين المذكورين «صَدَقَةً» تكون كفارة لما صدر منهم «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» من أدران خطاياهم «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ» ادع بالتجاوز عما اقترفوه وإزالة الصّدأ من قلوبهم بالكلية «إِنَّ صَلاتَكَ» يا حبيبي لو يعلمون «سَكَنٌ لَهُمْ» وأمن وطمأنينة لأفئدتهم بقبول توبتهم «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (103) بنيتهم وإخلاصهم في قولهم وفعلهم ونزلت هذه الآية بعد قبول توبتهم وبعد أن تصدقوا بمالهم فرحا بقبول توبتهم وهي عند الله كذلك قبل ذلك فلا يخطر ببالك غيره ولا يتصوره إلّا زنديق أو منافق، لأن الله ورسوله غنيّان عن أموال النّاس لا سيما أن الصّدقة لا تحل لحضرة الرّسول، وإنما يأخذها ليعطيها مستحقيها، وإنما حمى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم من أخذ الصّدقة لنفسه وحرمها على أقاربه أيضا وإن كانوا فقراء، لئلا يظن به أحد في أخذها ظنا يسيء السّمعة، لا سيما أن النّفس سريعة الظّن بالسوء بطيئة بالحسن، روي عن عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشّجرة قال كان النّبى صلّى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال اللهم صلّ عليهم «فأتاه أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى- أخرجاه في الصّحيحين- والدّليل الثالث على قبول توبتهم قوله جل قوله «أَلَمْ يَعْلَمُوا» هؤلاء النّادمون المعترفون بخطائهم «أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» المعطاة كفارة للذنوب التي تيب عليها وغيرها الصّادرة عن طيب نفس والأخذ منه تعالى يكون بواسطة رسوله دليل القبول «أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (104) نزلت هاتان الآيتان في جماعة

من المسلمين الّذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو أوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام وأبو لبابة بن عبد النّور وغيرهم، وهم دون العشرة وأكثر من الخمسة، وقد قال بعضهم لبعض أنكون من الضّلال ومع النّساء ورسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللّأواء (أي الشّدة) ، فلما قرب مجيء الرّسول إلى المدينة أرثفوا أنفسهم في سواري المسجد وقالوا والله لبقين حتى يطلقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما مر بهم قال من هؤلاء؟ قالوا الّذين تخلفوا عنك عاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى ترضى عنهم، قال وأنا أقسم أن لا أطلقهم حتى أومر، فأنزل الله الآية الأولى فأطلقهم، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك وتصرف بها واستغفر لنا، قال ما أمرت أن آخذ منها شيئا، فأنزل الله الآية الثانية، فأخذ ثلثها وتصدق به كفارة لذنوبهم. وهذا مما يؤيد أن المراد في هذه الآية غير الزكاة الواجبة التي قال بها بعض المفسرين لأن تلك لها قدر معلوم، ولأن الزكاة فرضت في السّنة الثانية من الهجرة في شوال أو شعبان على اختلاف في الرّواية، وهذه الآية نزلت مع سورتها في السّنة التاسعة من الهجرة، أي بعد فرض الزكاة بسبع سنين، ولم يقل أحد بتقديم نزول هذه الآية على سورتها لأن نزولها دفعة واحدة مجمع عليه كما أشرنا إليه آنفا، وما قاله بعض الفقهاء، الأصل فيها أي الزكاة قبل الإجماع قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) الآية، وقوله تعالى (وَآتَوُا الزَّكاةَ) وهذه الجملة مكررة كثيرا في القرآن المكي والمدني، وقوله صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس. فيه تسامح بذكر هذه الآية فقط، لأن السّياق والسّياق ينافيه، ويأباه تخالف انتظام الآيات وتناسبها وأسباب نزولها، والحق الاقتصار على الآية الثانية والحديث لاحتمال وقوعها في السّنة الثانية، وقد ذكرنا في الآية 261 و 265 من سورة البقرة المارة الدّالة على فرض الزكاة بعموم أنواعها صراحة فراجعها، وراجع الآيتين 97 و 98 قبلها أيضا ليطمئن قلبك ويتبقن صحة ما ذكرناه لك، والله أعلم. قال تعالى «وَقُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء التائبين وغيرهم، لأن اللفظ عام، وقد ذكرنا أن العام لا يتقيد بخصوص السّبب «اعْمَلُوا» عملا صالحا تأييدا لتوبتكم هذه «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ» عيانا فيرحمكم ويجازيكم عليه جزاء

مطلب سبب اتخاذ مسجد الضرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:

خيرا كثيرا «وَرَسُولُهُ» يراه باطلاع الله إياه عليه ويستغفر لكم وهو مجاب الدعوة عند ربه «وَالْمُؤْمِنُونَ» يرونه أيضا لما يقذفه الله في قلوبهم من محبة الصالحين فكأنهم يرون أعمالهم الحسنة إذ يتمثل الحسن فيهم ويدعون لكم «وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» فيها على السّواء عنده لا فرق بين السر والجهر «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (105) في الدّنيا على اختلاف أنواعه وأصنافه ويجازيكم على الخير بأحسن منه وعلى الشّر مثله. ثم أشار إلى القسم الثالث فقال عزّ قوله «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» وجماعة من المسلمين المتخلفين الّذين وسموا بالنفاق بسبب تخلفهم مؤخر أمرهم في القبول وعدمه لحكم الله فيهم بعد وهؤلاء «إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ» بعدله وقضائه «وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» بفضله ورضائه «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما وقع منهم عالم بأسباب تخلفهم ونيتهم فيه «حَكِيمٌ» (106) فيما يقضه عليهم وهم الثلاثة الآتي ذكرهم بعد. مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين: قال تعالى حكاية عن بعض أعمال المنافقين السّابقة فاضحا سرائرهم في أفعالهم كما فضحها بأقوالهم ونياتهم، فقال «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً» بأصحاب رسول الله أهل مسجد قباء «وَكُفْراً» بالله ورسوله «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ» الّذين يصلون فيه بأمر من حضرة الرّسول «وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ» اتخاذهم ذلك المسجد والمراد بهذا هو أبو عامر الرّاهب وقد أعده له، هؤلاء المنافقون مناوأة للمسلمين الّذين أعدوا مسجدهم لهم ولرسولهم «وَلَيَحْلِفُنَّ» لك يا سيد الرّسل الّذين بنوه وهم وديعة بن ثابت وخزام بن خالد الذي أخرج المسجد المذكور من داره، وثعلبة بن حاطب المار ذكره، وحارثة بن عمر وولداه مجمع وزيد، وشعيب بن قشير، وعبادة بن حنين، وأبو حنيفة بن الأذعر، ونفيل بن الحارث، ونجاد بن عثمان ومخرح القائلين بحلفهم لك لتصدقهم ما «إِنْ أَرَدْنَ» ببنائه «إِلَّا الْحُسْنى» أي إلّا الإرادة الحسنة

والفعلة الطّيبة والخصلة المرضية، كذكر الله والصّلاة فيه عند ضيق الوقت غير الممكن فيه الوصول إلى مسجد رسول الله رفقا بالعجزة وذوي العاهة وتوسعة عليهم لقربه من بيوتهم، وخاصة للصلاة فيه ليالي الشّتاء وحالة المطر، وكانوا بعد أن أكملوه كلفوا حضرة الرّسول أن يصلي به ويدعو لهم بالبركة، فقال لهم صلّى الله عليه وسلم أنا على جناح سفر، وإن قدمنا من تبوك أتيناكم فصلينا به إن شاء الله. فأعلم الله تعالى رسوله بالقصد من بقائه وقصه عليه في هذه الآية، وختمها بالشهادة على كذبهم، فقال جل قوله «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (107) فيما ذكروه لك وحانثون في حلفهم، وإن القصد من بنانه إضرار المؤمنين وتفريق كلمتهم وكفر بالله ورسوله وانتظار حضور الرّاهب المذكور الذي حينما قدم على المدينة، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم ما هذا الدّين الذي جئت به؟ فقال صلّى الله عليه وسلم جئت بالحنيفية السّمحة دين ابراهيم عليه السّلام، فقال الرّاهب أبو عامر أنا عليها، فقال له صلّى الله عليه وسلم لست عليها، قال أبو عامر بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال صلّى الله عليه وسلم ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال صلّى الله عليه وسلم آمين، فسماه النّاس أبا عامر الفاسق، لخروجه على حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم ومقابلته له بكلام خارج عن نطاق الأدب والأخلاق وعار عن الصّحة. هذا ولما كان يوم أحد قال أبو عامر الفاسق للنبي صلّى الله عليه وسلم لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلنك معهم، فلم يزل كذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس أبو عامر الفاسق وهرب إلى الشّام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الرّوم فآتي بجد، فأخرج محمدا وأصحابه، فصدقوا كلامه لخبث نيتهم وقح طريتهم وهم الاثنا عشر رجلا المار ذكرهم في الآية 65، فبنوه لذلك القصد وتلك الغاية، ففضحهم الله تعالى وقال صلّى الله عليه وسلم إلى مالك بن الدّغشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي: اهدموا هذا المسجد الظّالم أهله، فهدموه عليهم وأحرقوه واتخذ لرمي القاذورات والكناسة، ومات الخبيث بالشام طريدا وحيدا غريبا. وروي أن بني عمرو بن عوف الّذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته،

فسألوه أن يأذن لمجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجدهم، فقال لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضّرار، قال مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فو الله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما ائتمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرأون، ولذلك صليت بهم ولا أحسب أنهم على سوء نية، ولا أحسب إلّا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء الآتي ذكره. قال تعالى «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً» لأنه لم يؤسس على تقوى من الله «لَمَسْجِدٌ» عظيم عند الله جليل عند رسوله، واللام فيه للابتداء، وفيه معنى القسم، والمراد به مسجد قباء لأنه «أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ» بني، واعلم أن لفظ من عام في الزمان والمكان، فلا محل للقول الذي نقله النّسفي رحمه الله بأن القياس أن يقال منذ لأنه لابتداء الغاية في الزمان ومن لابتداء الغاية في المكان، لأن الله أعلم بما ينزل من الألفاظ الموافقة للمعاني المقصودة، وإني لأعجب كلّ العجب من جرأة بعض المفسرين على مثل أقوال هكذا، مع علمهم بأن مصدر العلوم العربية التي يتبححون بها ويدعون معرفتها كلها مستقاة من القرآن العظيم، وإن ما كان منها مخالفا له لا قيمة لها ولا عبرة، فالذي جعل من بمعنى ما وما بمعنى من ألا يجعل منذ بمعنى غاية المكان، ألا يجعل من لابتداء الغاية في الزمان كيف يقال هذا من هذا الرّجل وهي قد أنزلت على منبع الفصاحة ومصدر البلاغة، ومع هذا يتطاولون ويقولون القياس كذا وكذا، أيعترضون على الله الذي هو أعلم بما ينزل، فلا حول ولا قوة إلّا بالله، راجع الآية 67 من سورة يونس ج 2، والآية 5 من سورة الحج المارة وابتهر بجرأة المفسرين لهما واستغفر الله والزم الأدب، فهو «أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» مصليا من مسجد الضّرار الذي أسس على الكفر استعدادا لحضور ذلك الرّاهب الكافر، لأن هذا المسجد المبارك «فِيهِ رِجالٌ» كرام على ربهم «يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» طهارة كاملة من النجاسة الحسية والمعنويّة، والكلية الظّاهرة والباطنة، ويأخذون فيها بالعزيمة دون الرخصة «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» (108) لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله

صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وقف على باب مسجد قباء، فقال يا معشر الأنصار إن الله عزّ وجل أثنى عليكم فما الذي تصنعون؟ فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار ثم نتبعها بالماء فتلا عليهم الآية وهي عامة في الطّهارة ولا يفهم من هذا نزول الآية منفردة عن سورتها كغيرها من الآيات التي ذكرنا أسباب نزولها، بل نزلت هذه وغيرها مع سورتها دفعة واحدة كما ذكرنا، وتلاوة هذه الآيات وغيرها بمفردها لا يعني نزولها وحدها تأمل. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يزور قباء راكبا وماشيا يصلى فيه ركعتين. وأخرج البخاري عن سهل ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كلّ سبت راكبا وماشيا، وكان ابن عمر يفعله. وأخرج النّسائي عن سهل بن حنيفة قال: قال صلّى الله عليه وسلم من خرج حتي يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة. وأخرج الترمذي عن أسد بن ظهير أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: الصلاة في مسجد قباء كعمرة. وما قيل أن المراد في المسجد المذكور في هذه الآية مسجد الرّسول ينافيه سياق الآية ومغزى الحادثة والتاريخ أن مسجد الرّسول أفضل المساجد كلها بعد المسجد الحرام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة. ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة ومنبري على حوض. وأخرج النّسائي عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة (أي ثوابت) . وجاء في الحديث الصّحيح أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره. ثم ضرب الله مثلا لهذين المسجدين مسجد الضرار ومسجد قباء المسمى مسجد القرى بقوله جل قوله «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ» منه تعالى «خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ» متداع للسقوط كما سيأتي بيانه بعد «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» سقط مع بنائه فيها لأنه ظلم نفسه بذلك «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (109) أنفسهم المسوين بين مسجد التّقوى ومسجد الضّرار، أي من أسس بنيانه على شفير واد أكل الماء ما تحته فصار هائرا أو واهيا متداعيا للسقوط مثله كالرمل الذي ينهار لرخاوته وعدم تماسكه. وهذا الاستفهام المصدر فيه جاء

[سورة التوبة (9) : الآيات 111 إلى 120]

على سبيل سؤال التقرير، وجعل جوابه مسكوتا عنه لوضوحه، أي ليس هذا كمن أسس بنيانه على قواعد محكمة وقصد به تقوى الله ورضوانه، فلا شك أنه خير وأحكم ممن يؤسس بنيانه على ما ذكر، ولم يقصد به إلّا مناوأة الله ورسوله والمؤمنين طلبا لمرضاة الفاسق المذكور، ومن كان هذا شأنه فإن عاقبته النار لا محالة، وعاقبة الآخر محبة الله ورسوله، والحصول على رضوانهما ودخول الجنّة. قال تعالى مشددا في حزنهم وكآيتهم على ما فعلوا وقعدوا «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ» كالحزازة تحوك في صدورهم لعظم جرمهم. والإثم حزاز القلوب لكثرة تردده فيها وسيبقي كذلك، «إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ» كمدا فيموتوا على غيظهم وغدرهم وحدهم وحسرتهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بنيتهم في بنائه، ولذلك فضحهم على لسان رسوله وأصحابه بسبب بغضهم لهم «حَكِيمٌ» (110) بحكمه عليهم فيما ذكر جزاء جرأتهم على الله ورسوله. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» في هذه الدّنيا «أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة بدلا منها، ثم بين هذه المبايعة بقوله «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بأموالهم وأنفسهم «فَيَقْتُلُونَ» أعداءه وأعداءهم «وَيُقْتَلُونَ» في طاعته وطاعة رسوله ابتغاء مرضاته. قال كعب بن زهير: لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيع إذا نيلوا لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم ... وما لهم من حياض الموت تهليل وكان قائلهم يقول ما قاله الشّريف الرّضي: ونحن النّازلون بكل ثغر ... نريق على جوانبه الدّماء ونحن اللابسون لكل مجد ... إذا شئنا ادّراءا وارتداء ولو كان العداء يسوغ منا ... لسنا النّاس كلهم العداء وقال حافظ ابراهيم المصري في هذا المعنى: شمّر وكافح في الحياة فهذه ... دنياك دار تناحر وكفاح وانهل مع النّهال من عذب الحيا ... فإذا رقا فامتح مسح المتّاح

وإذا ألحّ عليك خطب لا تهن ... واضرب على الإلحاح بالإلحاح وخض الحياة وإن تلاطم موجها ... خوض البحار رياضة السّبّاح هكذا كانوا، وخلف من بعدهم خلف يريدون الأمور بالتمنّي، وقد ردّ عليهم أمير الشّعراء أحمد شوقي المصري بقوله: وما نيل المطالب بالتمنّي ... ولكن تؤخذ الدّنيا غلابا وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا فيا رب وفق أمتك للحزم واجمع كلمتهم على العزم لاسترداد عزتهم ويا رسول الله إنا نتوسل بك إلى ربك أن يتبعوا طريقك ويلازموا خطتك وأنت المجاب الدّعوة الذي كلّمت أقلام البلغاء ونطق الفصحاء بمدحك ومنهم شوقي القائل في قصيدته النبوية التي عارض فيها الهمزية: فرسمت بعدك للعباد حكومة ... لا سوقة فيها ولا أمراء الله فوق الخلق فيها وحده ... والنّاس تحت لوائها أكفاء والدّين يسر والخلافة بيعة ... والأمر شورى والحقوق قضاء وأمثال هؤلاء قد وعدهم الله الجنّة «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجرا نافذا مثبتا في في اللّوح المحفوظ بعلم الله الأولي ليس محسنا، ولهذا فإنا أثبتناه «فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ» وهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الجهاد مأمور به في جميع الشّرائع، وأن الله تعالى قد عاهد المجاهدين على ما ذكره فيها كما عاهد المؤمنين في هذا القرآن عليه «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» أخبروني أيها الناس والجواب عن هذا الاستفهام (لا أحدا البتة) فإذا عرفتم هذا العهد الموثوق أيها المجاهدون الصّادقون «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ» ربكم الذي أعطاكم هذا الوعد وهو لا يخلف الميعاد، وتكفل لكم بهذا القول، ومن أصدق من الله قيلا، وحدث به رسولكم عنه ومن أصدق من الله حديثا. «وَذلِكَ» الحصول على ما وعد الله به المجاهدين «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (111) وهذا جاء مجرى التلطف من الله في الدّعاء إلى طاعته والترغيب إلى جهاد عدوه، لأنا مملوكون لله تعالى، والمشتري لا يشتري ما يملك، ولم يقل جل قوله إن الله

اشترى من المؤمنين قلوبهم مع أنها الأصل ومحل الإيمان، لأنها ليست بأيدي عباده، فالقلب بيت الرّحمن وهو بين إصبعيه يقلبه كيف يشاء، ولأن الإنسان لا يصحّ له أن يبيع ما لا يملك كما لا يصحّ له أن يبيع طيرا بالهواء أو حوتا في الماء، قال تعالى «التَّائِبُونَ» من الكفر والنّفاق والبغي والعصيان «الْعابِدُونَ» الله تعالى بإخلاص جهد المستطاع بالسر والإعلان «الْحامِدُونَ» ربهم على السّرّاء والضّراء الرّاضون بما أنعم عليهم المنان «السَّائِحُونَ» في الأرض المتفكرون بما أبدعه الله من الخلق وإلى طلب العلم والتهذيب النّفسي وإلى الجهاد في في سبيل الملك الحنان «الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ» في إقامة الصّلوات في أوقاتها المحافظون على أركانها المراعون شروطها، وعبر بالركوع والسّجود عن الصّلاة لأنهما معظمها واختصاصهما بها لله تعالى بخلاف القيام والقعود والقراءة «الْآمِرُونَ» أنفسهم وغيرهم «بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» راجع بيانها في الآية (111) من سورة البقرة المارة، وأدخلت الواو هنا لأن العرب تعتبر السّبعة عددا تاما فنعطف عليه ما بعده، راجع الآية 43 من سورة الكهف في ج 2 فيما يتعلق بهذا والقرآن نزل بلغتهم «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» فلم يتجاوزوا شيئا منها ولم يتعدوا ما حده لهم، فهؤلاء المتصفون في هذه الصّفات العالية هم المؤمنون «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (112) أمثال هؤلاء بأن لهم الجنّة عند ربهم كالغزاة المار ذكرهم إذا لم يقصدوا بتركهم الغزو مطلق الرّاحة أو كلا عنه أو مخالفة لآمرهم أو رغبة عنه. قال تعالى «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» الّذين ماتوا على شركهم، أما الأحياء من الكفرة فيصح الدّعاء لهم بالهداية، ويجب إرشادهم للايمان «وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى» لهم فلا يجوز الاستغفار لهم، ولا ينبغي فعله «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (113) بتحقق موتهم على الكفر بحسب الظّاهر، وعليه فلا يصح ولا يستقيم الدّعاء لهم شرعا، اما قبله فلا بأس بل هو مطلوب لقوله صلّى الله عليه وسلم لأن يهد الله بك رجلا خير لك من حمر النّعم وجعل بعض المفسرين نزول هذه الآية في أبي طالب حين قال له صلّى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك،

مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:

مع أن أبا طالب رحمه الله توفي في مكة السّنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين كما أشرنا في الآية 26 من الأنعام في ج 2، وهذه السّورة من آخر القرآن نزولا فلا يستقيم نزولها فيه، على أنه لا يستبعد أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يزال يستغفر له من وفاته إلى نزول هذه الآية كلما جاء ذكره أو تذكر موافقه وشدة حرصه عليه وزيادة محبته له وتوسمه الخير فيه حال حياته لعظيم حقه عليه ولا يراد أنها عقب قوله لاستغفرت لك إلخ، بل المراد أن هذا هو سبب النّزول فلذلك لا يصح. وما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب صار يبكي عليه ولم يخرج من بيته حتى نزلت هذه الآية، فهو قول وامر لا يعتد به ولا يلتفت إليه، لأن بين وفاته ونزول هذه الآية ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، ويبعد عليه صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك، وحاشاه، ولذلك فإن غالب ما ينقله بعض النّاس عن أهل البيت في هذا الصدد لا صحة له أيضا، لأنهم يعلمون أنه مات مؤمنا وينقلون في أخيه العباس أنه سمعه نطق بالشهادتين في آخر رمق من حياته علنا. مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم: ومما يدل على إيمانه سر الأبيات التي نقلها عنه أهل بيته وغيرهم في مدح ما علمه حضرة الرّسول وهي: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البريّة دينا الأبيات المارة في الآية 57 من سورة القصص ج 1 لأن قوله فيها: لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك قمينا أي مجاهرا به على رؤس الأشهاد وما أخفيته، مما يدل على أنه مؤمن فيما بينه وبين ربه، لا أنه سرّ أخاه العباس بالإيمان خفية عن قومه، بل اعترف له بالإيمان قبل وفاته وأن الذي نزل في أبي طالب هو قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية المذكورة في سورة القصص. والصّحيح في هذا أن المسلمين لما رأوا رسول الله يستغفر لوالديه وجده عبد المطلب صاروا يستغفرون لموتاهم

المحقق موتهم على الكفر، فأنزل الله هذه الآية ينهاهم بها عن الاستغفار لهم. ثم أنه تعالى أجاب عما وقع في قلوبهم من استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه وقالوا إذا كان إبراهيم يستغفر فلماذا لا نستغفر لموتانا، لأنهم ووالد ابراهيم في الكفر سواء بقوله عز قوله «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ» بأن يؤمن به لا عبثا ولا قصدا مع العلم ببقائه على كفره ولا عن شيء آخر. وقرأ بعضهم أباه بالباء الموحدة ومنهم الحسن، ولكن لا عبرة بها لأن كلّ ما هو مخالف لما في الصّحف لا يلتفت إليه، لأنه على هذه القراءة يكون إبراهيم الذي وعد بالاستغفار، والحال أن أباه هو الذي وعده بالإيمان، ولذلك صار يستغفر له على أمل إيمانه دون وعد منه بل لحق الأبرة. وما قيل إن ابن المقفع صحف ثلاثة أحرف بالقرآن العظيم هذه الياء بالباء، وعين عزّة وشقاق الآية الثانية في سورة ص ج 1 بالغين المعجمة والرّاء بدل الزاي، فتصير (غرّة) وغين (يغنيه) من قوله تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية 38 من سورة عبس في ج 2 بالعين المهملة، فيصير (يعنيه، فقيل كذب، ونقل زور، وكلام بهت لا يلتفت إليه إلّا ضعيف اليقين قليل العقيدة بالله تعالى الذي تعهد بحفظ كلامه من التبديل والتغيير، راجع الآية 10 من سورة الحجر المارة في ج 2 وما ترشدك إليه في المواضع. ومن هذا ابن المقفع حتى يجرؤ على ذلك وهو في أهل زمن لا يجرؤ أن ينبس بنبت شفة على كتاب الله تجاه أهله الذي أجمعت عليه الأصحاب بعد رسول الله، والتابعين من بعدهم، واقتفى أثرهم اجماع علماء الأرض، فلو حدثته نفسه بذلك هل يقرونه عليه؟ كلا، بل لقطع منه الحلقوم، وهذا القرآن كما بيناه في الآية المذكورة من الحجر وفي مواضع أخرى مبينة فيها أن جميع ما بين الدّفتين الموجود الآن هو كلام الله تعالى بتمامه وحروفه كما أنزله لم ينقص منه حرف، ولم يزد فيه حرف، ولم يبدل منه حرف واحد أبدا، راجع تفسير آخر سورة الأحزاب المارة وما ترشدك إليه، وفي المقدمة في بحث نزول القرآن تجد ما تكتفي به. وهذا الاستثناء في الآية هذه مفرّغ من أعم العلل أي ما كان استغفار ابراهيم عبثا ولا لعبا ولكن عن موعدة من أبيه

له بالإيمان به وبربه ولذلك استغفر له عما سلف منه إذا هو آمن «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ» مصر على كفره به. وهذا العلم جاء لابراهيم بطريق الوحي من ربه عز وجل أو الإلهام أو بواسطة الملك «تَبَرَّأَ مِنْهُ» وهذا يدل دلالة صريحة على صدور الوعد من آزر لابنه ابراهيم بالإيمان بالله وحده كما يفهم من نسق الآية وسياقها لا من ابراهيم له بالاستغفار، لأن وعد ابراهيم له كان بعد ذلك ولهذا علّفه على إيمانه، قال تعالى حكاية عن خليله ابراهيم عليه السلام (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) الآية 46 من سورة مريم في ج 1 كما أيده الله تعالى في هذه الآية المفسرة ثم أكد ما كان عليه عليه الصّلاة والسّلام من الخلق الكريم بقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) كثير التأوه فرقا من ربه جليل الخوف خشية منه رقيق القلب خاشع خاضع متضرع «حَلِيمٌ» (114) صفوح عن الأذى صبور على البلاء لا يقابل أحدا بما يكره، ولا السّيئة بالسيئة، بل يعفو ويكظم يقول له أبوه لأرجمنك ويقول له السّلام عليك الآية 48 من مريم في ج 1 وقد تأسى نبينا صلّى الله عليه وسلم بكل أخلاق الأنبياء قبله كما أعطي معجزاتهم كافة، وكان من كرم خلقه العفو والسّفح، ولذلك جاء الإسلام وسطا في الأخلاق بين الأفراط والتفريط، والتقريب بين المثل الأعلى والواقع، وانسجام بين العقل والغريزة التي هي قوة مع رحمة، وحكم مع عدل، وتواضع مع عزّة، ومساواة مع تسامح، وتشاور مع عزم، ولين مع حزم، راجع الآية 161 من آل عمران تجد ما يتعلق بهذا، قال تعالى «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً» بسبب استغفارهم لمشركين «بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ» للايمان، وسبب نزول هذه الآية هو أن الله تعالى لما نهى المؤمنين عن الاستغفار لآبائهم المشركين خافوا عاقبة ما صدر منهم وصاروا يضربون أخماسا بأسداس على ما فرط منهم، فأنزل الله هذه الآية تطمينا لهم بعدم المؤاخذة وتطبيبا لخواطرهم، وإعلاما بأن ما وقع منهم لا يضرّهم ولا يعاقبهم الله عليه، لصدوره قبل النّهي بتأويل منهم، وحاشا رحمة الله أن يعذب قبل أن ينهى أو يريد قبل أن يأمر بالنسبة للظاهرة، ولهذا ختم هذه الآية بقوله «حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115) الخوض فيه وما يستحبونه

فكل ما وقع منهم قبل البيان لا يؤاخذون عليه، أما بعده فمفوض لمشيئة الله تعالى ولهذا يتقدم لهم بالإنذار والإعلام حتى لا تبقى لهم معذرة إذا اقترفوا شيئا مما نهوا عنه بعد البيان فيؤاخذوا عليه ويعاقبوا، وحاشا أصحاب رسول الله من الاقدام على شيء نهاهم الله عنه أو كرهه لهم «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (116) قبل ظهوره لخلقه علما حقيقيا لا كعلم السّحرة والكهنة الصّورى والمموّه الكاذب فإنه لا يلتفت إليه، قال: دع المنجم يكبو في ضلالته ... إن ادعى علم ما يجدي من الفلك تفرد الله بالعلم القديم فلا ... إنسان يشركه فيه ولا الملك أعد للرزق من أشراكه شركا ... وبئست العدتان الشّرك والشّرك فالعلم الذي هو العلم لا ينسب إلّا إلى الله العالم بكل شيء، ومن علمه هذا ما خالطته نفوس أصحاب رسول الله من الخوف عما صدر منهم ما ثلج صدورهم بما أنزله في هذه الآية وأزال ما كان يتردد فيها. هذا وإن ما قاله الكلبي ومقاتل بأن قوله تعالى (حَتَّى يُبَيِّنَ) إلخ نزلت في أمر النّاسخ أي حتى يتبين لهم المنسوخ بالناسخ وذلك أن هناك أشياء كثيرة كانت عندهم قبل الإسلام يعدونها حلالا ولا بأس بها، منها ما ابتكروها ابتكارا من عند أنفسهم، ومنها ما تلقوها عن أسلافهم فقلدوهم فيها ومنها ما اقتفوا بها آثار أهل الكتابين كوأد البنات، وقتل غير القاتل وشرب الخمر، ومنع النّساء من الإرث، وكذلك الأولاد والصّغار، وتحريم السوائب، والوصائل وتحليل أكل بعض الحيوان للرجال دون النّساء، وغيرها ما ذكر الله في سورة الأنعام والمائدة والبقرة وغيرها، ومن هذا القبيل توجه الإسلام في الصّلاة إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس، أي ما كان الله ليبطل أعمالكم بالنسوخ حتى تبين لكم نزول النّاسخ فتعملوا به، وهذا لعمري بعيد عن الصّحة، لأن هذه الآية عامة وكثير مما نهوا عنه لم ينزل فيه ناسخ، ولم يكن النّاسخ إلا عن شيء نزل قيل بكتاب سماوي فلا يشترط له النّاسخ، لأن النّسخ معناه نسخ نص سابق بنص لا حق ولا يوجد فيما اعتادوه قبل الإسلام نص سماوي، لذلك لا يلتفت لهذا القول، ولا يعقل قول المؤمى إليها به. وعلى كلّ فلا قيمة له ولا

عبرة به، تأمل، وراجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة تقف على ذلك. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يأمر من فيهما بما يشاء وينهى عما يشاء لا يقيد شيء دون آخر في كلّ ما فيهما وما بينهما وما فوقهما وتحتهما «يُحْيِي وَيُمِيتُ» من فيهما ويغني ويفقر ويعظم ويحقر، لا راد لما يريد، ولا معطى لما منع «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أيها النّاس قويكم وضعيفكم «مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم غيره «وَلا نَصِيرٍ» (116) يمنعكم منه أو يحول دون إرادة ما قدر إيقاعه فيكم لأن مقدراته نافذة عليكم بآجالها لا تقدم ولا تؤخر ثم أنزل جل إنزاله ما يتعلق بالمتخلفين الصّادقين والثلاثة الآتي ذكرهم، فقال جل قوله «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» وقت غزوة تبوك المار ذكرها لما فيها من بعد الشّقة وقلة السّلاح والرّكوبة فضلا عن أنها كانت زمن الحرّ والجدب «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» على الثبات مع حضرة الرّسول لتلك الأسباب واشتداد الضنك حتى كان العشرة منهم يتعاقبون على الرّاحلة الواحدة في الرّكب وفي الزاد حتى كان الرّجلان يقتسمان التمرة وفي الماء حتى شربوا عصير كروش الإبل وفي الزمن حتى كان الجماعة يظللون أنفسهم بعباءة واحدة من هجير الشّمس، وفي المكان من البعد حتي شارف بعضهم على الهلاك من التعب قيل الوصول المرحلة وفي كلّ شيء في هذه الغزوة عسر ومشقة وقلة لم يلاقوها في جميع غزواتهم، ولهذا سميت غزوة العسرة وامتحن فيها من امتحن فنجى من نجى بحسن نيته وهلك من هلك بسوئها «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» وتجاوز عن زلتهم وخطئهم، وعفا عمّا همّ به بعضهم من ترك الرّسول والتخلي عنه وما اعتراهم من الضّجر، وإنما كرر فعل التوبة لزيادة التأكيد والتطمين لهم بالصفح عما وقع منهم كله من قول وفعل ونية وهم وعزم «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (117) لأنهم من خلص عباده فرأف بهم ورحمهم ودفع عنهم ما لا يطيقون بكرمه وحنانه، ودفع عنهم ما عجزوا عنه بمنه ولطفه وتاب عليهم برده وعطفه. والفرق بين الرّأفة والرّحمة أن الرّجل قد يرحم من يكرهه ولا يرأف به، فالرحمة عامة، والرّأفة خاصة بمن يحب.

والمراد من توبته على حضرة الرّسول لاقدامه على أمرين في هذه الغزوة لم يتلق فيها شيء من ربه، الأوّل أذنه المنافقين بالتخلف الذي عاتبه عليه في الآية 23 المارة بقوله (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) الآية، الثاني توبته على المهاجرين والأنصار بما وقع في قلوبهم من الميل إلى التخلف في هذه الغزوة ولما وقع في قلوب بعضهم بأنهم عاجزون عن قتال الرّوم، مع أنهم كانوا سبعين ألفا ذهب منهم مع حضرة الرّسول ثلاثون ألفا فقط كما تقدم في القصة عند تفسير الآية 46 المارة وقد ورد أن الجيش إذا بلغ اثني عشر ألفا لا يغلب عن قلة، وكلاهما من باب ترك الأفضل، فلا يعد ذنبا كما بيناه في الآية 67 المارة في سورة الأنفال، فتكون الأمور التي فعلها حضرة الرّسول طيلة حياته دون وحي ربه هي ثلاثة فقط (هاتان وقبول الفداء) في أسرى بدر المار ذكرها في الآية 67 المارة آنفا من الأنفال. هذا وقد أظهر الله على يد رسوله في هذه الغزوة معجزات كثيرة، منها ما ذكر في القصة المارة في الآية 46 ومنها فيما بعدها في هذه السّورة، ومنها ما أسنده الطّبري عن عمر رضي الله عنه قال إن أبا بكر قال يا رسول الله إن الله عوّدك في الدّعاء خيرا فادع الله أن يعطينا ماء، وذلك لشدة ما لحقهم من الظّمأ، قال أتحب ذلك؟ قال نعم، فرفع يديه صلّى الله عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل الله سبحانه وتعالى سبحانه فمطرت فملأوا ما معهم من الأدلية، ثم ذهبنا ننتظر فلم نجدها جاوزت المعسكر. قال تعالى «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» تاب الله عليهم أيضا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الرّبيع الأنصاريّون، وهم المعنيون بقوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) الآية 116 المارة، وهذه الآية معطوفة على الآية الأولى، أي لقد تاب الله على النّبي إلخ وعلى الثلاثة إلخ وفائدة هذا العطف هو أن ما ذكر من ضم توبته إلى توبة الرّسول كان دليلا على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النّبي صلّى الله عليه وسلم وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» من شدّة الحزن والهم والغم والجفوة «وَظَنُّوا» تيقنوا وتحنقوا مما رأوا من عدم الالتفات إليهم «أَنْ

لا مَلْجَأَ» لهم يلجأون إليه «مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» وحده لا أحد ينجيهم مما هم فيه إلّا هو تعالى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» ورحمهم لعلمه بصدق نيتهم فيما سبق في علمه الأزلي وعطف عليهم بقبول التوبة «لِيَتُوبُوا» في المستقبل عما يصدر عنهم كما يتوبوا عما صدر منهم قبلا فيكونون في كلّ أحوالهم تائبين وينيبون لجلال ربهم عن صدق واخلاص ونصح وحسن نية ويرجعوا إلى ربهم وطاعة رسولهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ» على عباده الرّاجعين إليه المنان عليهم من فضله «الرَّحِيمُ» (118) بهم وإن ذكر صفة الرّحيمية بعد صفة التوابية يشير إلى أن قبول التوبة لأجل محض الرّحمة والكرم والفضل لأجل الوجوب عليه إذ لا واجب على الله لعبيده سواء في توبتهم أو في أعمالهم وأقوالهم. وفي هذا يعلم عدم وجوب قبول التوبة على الله. والتضعيف في الثواب يدل على المبالغة أي أنه تعالى إذا شاء قبول توبة العبد عفا عن ذنوبه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر، كما ورد بذلك الخبر إذ له أن يتجاوز عنها ولو كانت من أنواع الجنايات وأعظمها، فهو الجواد على عباده بفنون الآلاء مع استحقاقهم أفانين العذاب. وخلاصة القصة هو ما جاء في الحديث المروي عن ابن شهاب الزّهري عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب قال سمعت كعبا يقول إني لم أتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا في غزوة تبوك، وقد طفقت أتجهز ولم أزل أتمارى حتى غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون، ويحزنني أن أرى لي أسوة (أي من المتخلفين) عن حضرة الرّسول إلا رجلا مغموصا بالنفاق أو ممن غدر الله، ولم يذكرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برؤه والنّظر في عطفه، قال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا، قال كعب فلما بلغني قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم طفقت أقول بم أخرج من سخطه وقد استعنت بكل ذي رأي من أهلي حتى عرفت إني لم أنج بشيء أجمعت صدقه فجاء المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئت، وجلست بين يديه فقال ما خلفك قلت يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك لرأيت إني سأخرج من سخط بعذر لند أعطيت جدلا (قوة) في الحجة وشدة في البرهان وبراعة في الدّليل

بحيث لا أغلب في المناظرة) ولكن علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به مني ليوشكن أن يسخطك علي ولئنّ حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه اني لأرجو فيه عفو الله والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلّى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ثم قلت هل لقي هذا أحد معي قالوا رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك مرارة بن الرّبيع العامري وهلال بن أمية الوافقي صالحان شهدا بدرا ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة فتغيروا علينا حتى تنكرت لنا الأرض فلبثنا على ذلك خمسين يوما وليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا يبكيان وأما أنا فأشهد الصّلاة وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسلم عليه في مجلسه فأقول في نفسي هل حرّك شفنيه برد السّلام اللهم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النّظر أي أطلب غفلة منه لأنظر إليه وأرى هل ينظر إلي أم لا، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا ألتفت نحوه أعرض عني حتى طالت على جفوة المسلمين فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادة فسلمت عليه فو الله ماره علي السلام فقلت أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله وكررت عليه مرارا فقال الله ورسوله أعلم فقاضت عيناي وتوليت فبينا أنا في سوق المدينة إذ بنبطي من أهل الشّام دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه [أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله يدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك] قال فقلت وهذه أيضا من البلاء فتيممت به التنور فسجرته به (وهذا من كمال إيمانه رضي الله وإلّا لكان هذا الكتاب مما يهون عليه مصابه وبالخاصة أنه من ملك غسان لو أبقاه تلاه كلما ضاق ذرعه ولتبجح به بين النّاس) قال رضي الله عنه حتى إذا مضت أربعون يوما من الخمسين واستلبث الوحي أرسل رسول الله يأمرنا أن نعتزل نساءنا فقلت لامرأتي الحقي بأهلك حتى يقضي الله قال ثم صليت صبح الخمسين ليلة فبينا أنا جالس على الحال التي ذكرها الله سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا لله تعالى وعرفت أن قد جاء الفرج وأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا فذهب النّاس يبشرونني ورفيقاي فكسوت البشير

مطلب في مدح الصدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرابطة عند السادة الصوفية:

ثوبي ثم انطلقت إلى رسول الله والنّاس يتلقونني فوجا فوجا يهئنؤنني فلما وصلت سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصليت أمامه فقال أبشر بخير يوم مر عليك قد قبل الله توبتك وتوبة رفيقيك فقلت يا رسول الله إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة الله ورسوله فقال أمسك عليك بعض مالك فقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق وأن من توبتي أن لا أحدث إلّا صدقا ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيات النازلة فينا لقد تاب الله إلى الرّحيم وهذه هي التوبة الصّحيحة. مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية: فقد سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النّصوح فقال هي أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه وهذه نتيجة الصّدق الذي هو قوام أمر الخلق، لأن الكذب لا ينجي، وهو داء عضال لا ينجو من نزل به، ومن صنف الكذبة الحمقى، فإن الأحمق ضال مضل إن أونس تكبّر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلّف. مجالسته مهينة، ومعاتبة محنة، ومجاورته تعرّ، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شتاء. هذا ومن المتخلفين من ندم فلحق به صلّى الله عليه وسلم، ومنهم من بقي وساوره النّدم، قال الحسن رضي الله عنه: بلغني أنه كان لأحدهم حائط خير من مائة ألف درهم، فقال: يا حائطاه ما خلفني إلّا ظلك، وانتظار ثمارك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلّا أهله، فقال: يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلّا التفتن بك، فلا جرم والله لأكابدن الشّدائد حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم: فتأبط زاده ولحق به عليه الصّلاة والسّلام ورضي عنهما، وعن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماشيا، فقال عليه الصّلاة والسّلام لما رأى سواده كن أبا ذر، فقال النّاس هو ذاك يا رسول الله، فقال رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده. وكانت الأوليان وستكون الثالثة يوم البعث إن شاء الله تصديقا لحضرة الرّسول الصّادق صلّى الله عليه وسلم راجع الآية (35) المارة

تجد ذكره، وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظّل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرّطب والماء البارد، فنظر فقال ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضّح والرّيح؟ ما هذا بخير فقام ورحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفه إلى الطّريق، فإذا براكب يزهاه السّراب، فقال كن أبا خيثمة فكان، ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستغفر له. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» لا تخالفوه أبدا واعملوا بأوامره ما استطعتم، واجتنبوا نواهيه كلها «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (119) المخلصين له المتوكلين عليه صادقين في إيمانكم وعهودكم ووعودكم، صادقين في دين الله في أمركم ونهيكم فعلا وقولا ونية، صادقين في كلّ شؤونكم، قائمين بالحق حتى يكون عقدة راسخة في قلوبكم مستقرة في أعماق نفوسكم تحبون لإخوانكم ما تحبون لأنفسكم، فتكونوا صفا واحدا جنبا إلى جنب فتنجحوا في كلّ أموركم كما نجح من قبلكم بتوغلهم في معاني كتاب الله، فصاروا أمة متفقة، وكان كلّ منهم بمثابة أمة، كما قال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) قلده السّلف الصّالح منكم فكانوا مثلهم، فإذا أردتم الفوز في الدّنيا والآخرة كونوا مثلهم لإعلاء كلمة الله تنجحوا في الدّارين. قال ابن عباس: الخطاب في هذه الآية لمن آمن من أهل الكتاب، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار وانضموا في سلكهم في الصّدق وبقية المحاسن كلها. على ان الآية عامة فيهم وفي غيرهم، والمراد بالصادقين عند نزول هذه الآية حضرة الرّسول وأصحابه، لأنه تعالى لما حكم بقبول توبة الثلاثة المذكورين أعقبها بما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى من المتخلفين عن رسول الله، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) في مخالفة أمر رسولكم لا تعيدوها أبدا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) هو وأصحابه وساووهم، لا تفضلوا أنفسكم عليهم فتتخلفوا عن الجهاد معه، وتكونوا مع المنافقين، واحذروا مرافقة الكذبة فإن الكذب من أسوأ الرّذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة، وقد جاء في الخبر لا مروءة لكذوب. وقال تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) الآية 106 من سورة النّحل

المارة في ج 2، لأن المراد بالكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوانات إخبار الغير عمّا لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق لم تحصل فائدة النّطق، وقد حصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشّيطان، فالكاذب إذا شيطان، وكما أن الكذب من أقبح الرّذائل فالصدق من أحسن الفضائل وأحلى كلّ حسنة، ومادة كلّ خصلة محمودة، وملاك كلّ خير وسعادة، وعنصر الرّضاء، وبه يحصل كل كمال وأصل الصّدق الصّدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق العظمة. قال تعالى (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية 24 من سورة الأحزاب المارة، أي في عقد العزيمة ووعد الخليفة. قال تعالى (إِنَّهُ) أي إسماعيل عليه السلام (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) الآية 55 من سورة مريم المارة في ج 1، فإذا روعي الصّدق في المواطن كلها حتى الخاطر والفكر والنيّة والقول والعمل أدّى ذلك إلى اتصافه بالصدق الخالص، حتى ان مناماته. ووارداته على قلبه تصدق بإذن الله تعالى. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنّة، وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النّار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا. وانظر ما قال تعالى حكاية عن إبليس (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية 84 من سورة ص في ج 1 فإنه إنما ذكر الاستثناء لئلا يكذب، لأنه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادّعاء إغواء الكل، فكأنه استنكف عن الكذب ليكون صادقا في حلفه. فإذا كان إبليس يستنكف عن الكذب، فالمسلم من باب أولى أن يستنكف عنه. وتدل هذه الآية الجليلة عل أن إجماع المسلمين يجب الخضوع له، لأن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بالكون معهم، لأن ملازمة الصّادقين تؤثر في من يلازمهم فيكتسب منهم الصّدق وما يتشعب منه كالنصح والإخلاص والأمانة والأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة، لأن المجالسة تفيد اكتساب ما هو الأحسن عند المجالس، ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم مجالسة العلماء، والقصد من الرّابطة عند السّادة الصّوفية هي تعلق الرّابط بأحوال وصفات المرابط والمحبة له والكون معه، لأن الكون مع الصّادق له تأثير

عظيم، وقد أمرنا بالمحبّة، قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الآية 31 من آل عمران المارة. إذا فالاتباع له تأثير عظيم أيضا في المتبوع راجع الآية 34 من سورة المائدة المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث فيلزم من هذا وجوب اتباع أمر الرّسول وقبوله والأخذ بما تجمع عليه أمته، لأن المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، راجع الآية 115 من سورة النّساء المارة، ولهذا جعل السادة الصّوفية الرّابطة شرطا من شروطهم ويلقنونها للمريد كما يلقنونه الذكر المتعارف عندهم بعدده وأوقاته وكيفياته. قال تعالى «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ» بأن يختاروا لها الخفض في العيش والدّعة والرّاحة «عَنْ نَفْسِهِ» الطاهرة، فليس لهم أن يضنوا بأنفسهم ويكرهوا لها ما يصيب نفس الرّسول صلّى الله عليه وسلم من التعب والنّصب، ويختاروا لها ما لا يختارونه لنفس الرّسول، أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يليق بهم تفضيل أنفسهم على نفس رسولهم، بل يجب عليهم أن يفضلوا نفس الرّسول على أنفسهم ويؤثروها في كلّ حال ويحرصوا على مصاحبته في الشّدة والرّخاء، وعليهم أن يلقوا أنفسهم بين يديه ويفدوا أنفسهم أمامه «ذلِكَ» وجوب متابعة حضرة الرّسول وعدم التخلف عنه وتفضيل نفسه على أنفسهم والخروج معه مطلوب منهم ليعلموا «بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ» في غزوهم معه «ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ» قوية مهلكة «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» لإعلاء كلمته ونصرة رسوله «وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ» ويضيق صدورهم ويكدّر خواطرهم «وَلا يَنالُونَ» يأخذون ويصيبون «مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا» قليلا كان أو كثيرا من قتل وأسر ونهب وجلاء ولو بتكثير سواد المسلمين بالكون معهم أو غلبة مجردة أو الغارة عليهم بما يلقي الرّعب في قلوبهم «إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ» ينتفعون بثوابه حيث يقبله الله منهم بسبب إحسانهم هذا «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (120) من عباده، وإذا كان كذلك، فيلزمهم متابعة رسولهم في كلّ حال لينالوا هذا الثواب العظيم من الرّب العظيم الذي سماهم محسنين بسبب ذلك. الحكم الشّرعي المشيرة إليه هذه الآية هو وجوب

[سورة التوبة (9) : الآيات 121 إلى 129]

متابعة حضرة الرّسول في الغزو وعدم التخلف عنه، وهذه الآية محكمة عامة جار حكمها في زمن الرّسول ومن بعده من الخلفاء والأئمة والسّلاطين والأمراء والحكام إذا دعوا النّاس للجهاد لإعلاء كلمة الله ودفع الظّلامة عن المسلمين وصونهم من التعدي عليهم أو على ثغورهم وجبت متابعتهم وإجابة دعوتهم والجهاد معهم بالمال والنّفس معا عند القدرة أو بأحدهما حتما بلا خلاف على القادر. أما ما قاله قتادة من أن حكمها خاص برسول الله صلّى الله عليه وسلم فقول لا مبرر له، لأن الغزو ليس من خصوصيات حضرة الرّسول نفسه ليختص الحكم فيه بل هو من جملة مصالح المسلمين، وما كان من مصالح المسلمين كان عاما، وإلّا لما قام به الخلفاء الرّاشدون من بعده صلّى الله عليه وسلم. قال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيدا يقولون إنها لأول هذه الأمة وآخرها، ونقل الواحدي عن ابن عطية أن هذا إذا أمرهم ودعاهم، وقال هذا هو الصّحيح. وما قاله ابن زيد من أن هذه الآية منسوخة في قوله تعالى (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية الآتية بعد هذه، وانها كانت حين كان الإسلام قليلا، قول غير سديد، لأن هذه الآية خاصة بمن كان يأتي من الأحياء ليسأل حضرة الرّسول عن أمر الدّين كما سنبينه في تفسيرها إن شاء الله. أما القول بقلة الإسلام وضعفه عند نزول هذه الآية فغير صحيح، لأنه كان كثيرا وقويا بالنسبة لأعدائه إذ ذاك، والقوة تعتبر في كل زمان بما يناسبه، حتى إن أعداء الإسلام في هذا الزمن أكثر وأكثر بالنسبة لزمن نزول هذه الآية، إذا لا حجة بالقلة والكثرة، تدبر. قال تعالى «وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً» في سبيل الله «صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من شق التمرة فما فوقها «وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً» في ذهابهم وإيابهم «إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ» به عمل صالح مقبول عند الله يثابون عليه «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (121) في الدّنيا من الجهاد وغيره وإنهم يؤجرون على كلّ شيء بأحسنه وأكثر ثوابا. تدل هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كانت جميع حركاته وسكناته حسنات مثاب عليها عند ربه. ومن قصد معصيته كانت عليه سيئات معاقب عليها إلّا أن يتغمده الله برحمته.

مطلب في فضل الجهاد والنفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد، والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:

مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد، والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما: روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد السّاعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدّنيا وما عليها، والرّوحة يروحها الرّجل في سبيل الله أو الغدوة خير من الدّنيا وما عليها، وفي رواية وما فيها. ورويا عن أبي سعيد الخدري قال: إن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال أي النّاس أفضل؟ قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. قال ثم من؟ قال ثم رجل في شعب من الشّعاب يعبد الله وفي رواية يتقي الله ويدع النّاس من شره. وروى البخاري عن ابن عباس قال ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النّار. وقال ثابت بن سعيد ثلاث أعين لا تمسها النّار: عين حرست في سبيل الله، وعين سهرت في كتاب الله، وعين بكت في سواد اللّيل من خشية الله. وروى مسلم عن ابن مسعود الأنصاري البدري قال: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال هذه في سبيل الله، فقال صلّى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة. وأخرج الترمذي والنّسائي عن جريم بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم من أنفق نفقة في سبيل الله له سبعمائة ضعف. وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا في الآيتين 174 و 176 من سورة البقرة فراجعها. واعلم أن مناسبة هاتين الآيتين بما قبلها هو أنه لما أمر الله عباده بالكون مع الصّادقين ومتابعة الرّسول في غزواته ومشاهده كلها أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه، فقال (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ) إلخ الآية أي ما صح وما استقام لهم فعل ذلك. والأعراب الّذين كانوا حول المدينة المرادون في هذه الآية هم مزينة وجهينة والنّجع وأسلم وغفار، ولكن يستفاد من مغزى هذه الآية تناول جميع الأعراب الّذين كانوا حول المدينة خلافا لما قاله ابن عباس بتخصيص الفرق الخمس المذكورين، لأن اللّفظ عام والتخصيص دون نصّ تحاكم.

وعلى كلا القولين فليس لأهل المدينة ولا من حولها من الأعراب كافة أن يتخلفوا عن حضرة الرّسول إلّا المرضى والضّعفاء والعاجزون، فلهم التخلف بنص الآية 92 المارة، وبقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الآية الأخيرة من البقرة المارة، لأنهم غير مكلفين بالجهاد. أما إذا خرجوا من تلقاء أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وخدمتهم حسب المستطاع فلا بأس وهم مثابون كما أشرنا في الآية 92 المذكورة. وليعلم العاقل أن الذهاب للجهاد لا يعد سببا للموت إذا كان في الأجل فسحة، وإذا حل مات على فراشه وهو في مأمن منه حسب ظنه قال: وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بحول الله من حيث يحذر يرى الشّيء مما يتقي فيخافه ... وما لا يرى مما يقي الله أكثر كما أن المرض قد لا يكون منضيا للموت، وقد يحدث صحيحا على حين غفلة. روى أن الخليفة المقتفي مرض مرضا شديدا فنوى إن هو برىء أن يفعل خيرا، فلما برىء شغل عما كان نواه، ثم مرض مرضه الذي مات فيه فتذكر ما نذره في مرضه الأوّل وما فرط منه في ذلك بكى وأنشد: إذا مرضنا توبنا كلّ صالحة ... وإن شفينا فمنا الزيغ والزلل نرضي الإله إذا خفنا ونسخطه ... إذا أمّنا فما يزكو لنا عمل قال تعالى «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» إلى طلب العلم والجهاد «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ» راجع الآية 66 المارة في معنى الطّائفة من حيث إطلاقها على الواحد والجماعة والعشرة «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» ولا يخرجون جميعهم فيتركون بلادهم وذراريهم وأموالهم ونساءهم تحت الخطر، فلا يصح لهم ذلك ولا يستقيم، ولا ينبغي فعله، بل يخرج أناس للجهاد وطلب العلم ويبقى الآخرون للعمل والحراسة «وَلِيُنْذِرُوا» هؤلاء الخارجون لطلب العلم وتعلم أمر الدّين «قَوْمَهُمْ» وتعلقاتهم وغيرهم الّذين بقوا للعمل والحراسة ويرشدوهم لما تعلموه «إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» بعد إكمال تحصيلهم، وليكن قصدهم هذا لا الترؤس عليهم، ولا أخذ أموالهم أجرا عما يعلمونهم، ولا التباهي والتفاخر عليهم بما تعلّموه «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (122) مناهي الله فلا

يقربونها، ويعرفون أوامره فيفعلونها، وكلمة لولا تفيد الحث على ذلك بشدة لما فيها من معنى الأمر. واعلم أن صدر هذه الآية له وجهان الأوّل ما ذكرناه في تفسيرها باختصاصها في طلب العلم فتفيد الوجوب على كلّ مستعد له من جماعة سلوك العلم لا على الجمع، لأن العلم باعتباره علما يشمل الأصول والفروع، يكون طلبه على طريق الكفاية. أما علم الحال المتلبس به الشّخص فعلى طريق العين، فمن أراد النّفقه في الدّين فلينفر في سبيله ويسلك طريق التزكية والتصفية حتى يظهر العلم على لسانه متفجرا من قلبه، فالعلم يكون بالتعلم فلا ينزل على الشّخص من السماء إلّا على خرق العادة، وكذلك لا يخرج من تخوم الأرض. والمراد من النفقة رسوخ العلم في القلب ليتغلغل في عروق النّفس فيظهر أثره على الجوارح فيمنع صاحبه ارتكاب ما حرّم الله بكليته، وإلّا فإذا بقيت جوارحه تخالف ما علمه لا يكون عالما، ألم تر كيف سلب الله العلم من الرّاهب الذي أشار الله إليه في الآية (175) من الأعراف في ج 1 حتى سماء الله غاويا. قال تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» الآية 28 من سورة فاطر في ج 1، لأن رهبة الله التي تحصل للعالم تمنعه من مخالفته سرا وجهرا، فإذا تفقه العالم وظهر علمه على جوارحه أثر في غيره فيسمع قوله، ويؤتمر بأمره، وينتهى بنهيه، لأن النّاس يرتدون بما يترشح عليهم منه كما كان حال حضرة الرّسول مع الأصحاب، إذ صاروا بعد الجهل المركب علماء كاملين عارفين، وقد أنزل الله تعالى على بني إسرائيل: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السّماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي الله بآداب الرّوحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصّديقين، أظهروا العلم في قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم، وهذا على القول بأن الطّائفة المتأخرة هي المراد بما تعلم العلم، فيكون المراد منها أنه يجب على كلّ فرقة من فرق البلاد أن يشدّوا الرحال في زمن الرّسول إليه لطلب العلم، والآخرون لجهاد العدو، وبعد زمن الرسول إلى المحل الذي فيه العلماء، فيتعلمون منهم أصول الدّين ويعودون فيعلمون قومهم، لأن هذه الآية تحتوي على أمرين: الأمر بالهجرة، والأمر بالجهاد. وأمر

الجهاد ينقسم إلى قسمين: قسم لقتال العدو، وقسم لتعلم العلم، لأنه من الجهاد أيضا. واعلم أن وجوب السّفر لطلب العلم يتعين إذا لم يكن في البلد عالم يمكنه التعلم منه، وإلّا فلا يكون واجبا بل مباحا، وإنما كان واجبا زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلم لأن الشّريعة لم تستقر بعد لنزولها تدريجا، أما الآن وقد استقرت الشّريعة وكان يوجد في بلده من يكفي لتلقين العلم فلا وجوب بالسفر لمكان آخر، هذا على صرف الآية في سبيل العلم، والثاني يكون في سبيل صرفها للجهاد فقط، وذلك إذا أمر الرّسول به وأرسل السّرايا مع من يؤمره عليها فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوا رسول الله وحده، بل تذهب طائفة منهم التي يأمر بها حضرة الرّسول إلى الجهاد، وتبقى طائفة للحراسة، وحفظ ما ينزل على حضرة الرسول من القرآن وما يأمر به من الأحكام والآداب الكائنة بغياب الطّائفة الغازية لتعلمه لها عند إيابها. وإنما صح تأويل هذه الآية على الوجهين المذكورين لإمكان جعل صدر هذه الآية من بقية أحكام الجهاد وارتباطها بما قبلها، وإمكان جعلها مبتدأة وتخصيصها بطلب العلم وهو الأوجة الذي جرينا عليه، والقولان لابن عباس رضي الله عنهما، ولهذا اختلف في سبب نزولها، فقال عكرمة لما أنزل الله تعالى بالمتخلفين ما أنزل، قال المنافقون هلك المتخلفون أجمع فنزلت هذه الآية تطمينا لهم. وقال مجاهد غيره، والأنسب ما روي عن ابن عباس من أن الله تعالى لما بالغ في فضح عيوب المنافقين قال المؤمنون والله لا نتخلف في غزوة ولا سرية، وتهبأوا كلهم للنفور، وتركوا الرّسول وحده، فنزلت ويكون المعنى عدم جواز نفور المؤمنين كلهم للجهاد، بل تبقى طائفة لخدمة الرّسول وحفظ الوحي والأحكام والآداب التي يأمر بها لنعلمها للغازين عند حضورهم، لأن القصد من النّفقة دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدّين القويم والصّراط المستقيم وإنقاذهم من هوة الجهل والضّلال، فمن تفقه لهذا الغرض كان ناجيا عند الله سائرا على المنهج النّبوي، ومن عدل عنه فطلب به الدّنيا كان داخلا في قوله تعالى (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الآية 106 من سورة الكهف ج 2. روى البخاري ومسلم عن معاوية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول

من يرد الله به خيرا يفقهه في الدّين وإنما أنا قاسم والله معطي، ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم السّاعة وحتى يأتي أمر الله. ورويا عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم: تجدون النّاس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فقيه واحد أشد على الشّيطان من ألف عابد. راجع الآية 11 المارة من سورة المجادلة تجد ما يتعلق بفضل العلم والعلماء، وكذلك في الآية المارة آنفا من سورة فاطر «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) إلخ. والفقه في اللّغة الفهم، وهو الأصل بعلم شاهد إلى علم غائب فهو أخص من العلم. واصطلاحا العلم بالأحكام الشّرعية ومتعلقات الدّين التي لا بد له منها في معرفة الله تعالى وما يجب في حقه، وما يستحيل، وما يجوز، وما يجب في حق الأنبياء، وما يستحيل، وما يجوز، ومن العبادات والمعاملات بقدر الكفاية من علم الحال. والطّائفة ما فوق الثلاثة غالبا فإذا خرج واحد منها لهذه الغاية سقط الإثم عن الآخرين. والحكم الشّرعي هو طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة وهو قسمان فرض عين وهو ما تقدم من معرفة علم الحال كالصوم والصّلاة والحج والزكاة للمتولين. ومعنى كلمة الشّهادة للكل، وفرض كفاية كتعلم ما به يبلغ درجة العلماء ورتبة الاجتهاد وفإذا وجد في البلد واحد من هذا القبيل قادر على الفتيا والتعليم كفى وسقط الإثم عن الباقين، وإلّا فكلهم آثمون. ومثل هذا يصدق عليه الحديث المار ذكره في قوله صلّى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. وقدمنا ما يتعلق في فضل العلم في الآيتين المذكورتين آنفا في سورة المجادلة وفاطر فراجعهما، ومنها ما جاء في فضل تعلمه ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنّة. وما أخرجه عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع، وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلّى الله عليه وسلم قال العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل (آية محكمة) أي لا اشتباه فيها من تأويل أو تفسير أو اختلاف في حكمها (أو سنة قائمة) أي مستمرة دائمة متّصل العمل بها (أو فريضة عادلة) أي لا جور فيها

ولا حيف. وقد ذكرنا أن علم الحال واجب على كلّ فرد من أفراد الأمة. ومنه معرفة العقود وما يفسدها أو يبطلها إذا كان يتعاطى البيع والشّراء وغيرهما. وبصيرة عامة كلّ ما هو لازم له من العبارة والمقالة. وهناك أحاديث تتعلق في هذا البحث كثيرة لا يسعها هذا السّفر فنسأل الله أن يجعلنا من العالمين العاملين به، النافعين لعباد الله، الخالين من شوائب السّمعة والرّياء وحب الجاه ونشر الصّيت ورفع القدر، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» لما كان القتال واجبا على المسلمين لجميع الكفرة أمر الله تعالى بأن نقاتل أولا الأقرب منهم فالأقرب لدار الإسلام، إذ ليس من العدل أن يقاتل البعيد ويترك القريب إذ لا يؤمن منه أن ينتهز فرصة غياب القوة الحامية للبلاد الاسلامية وقراها فيهجم على بلادهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم فيستولي عليها ويتحصّن بها، فيقتل ويسلب كيف شاء ويعود أو يبقى بها، وهذا من قبيل التعليم والإرشاد من الله تعالى إلى عباده فيما هو من صالحهم، وباب عظيم من أبواب الحرب يعلمه الله تعالى لعباده ليقوا أنفسهم من عدوهم إذا غفلوا عن الأخذ به. هذا ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية القتال المارة، لأنها نزلت بعد الأمر بقتال المشركين كافة، والآيات قبلها والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وهي آخر آية نزلت في القتال، لأن الله تعالى لما أمرهم بقتال جميع المشركين الواردة في الآية 28 المارة أرشدهم إلى الطّريق الأصوب بذلك بأن يبدأوا أولا بقتال الأقرب في ديارهم، فمن يليهم في البعدية تدريجا ليأمنوا على من وراءهم، لأن قتال الأبعد والأقرب دفعة واحدة فيه خطر الالتفاف والتطويق. وفي قتال الأبعد قبل الأقرب أشد خطرا في التطويق والالتفاف ومظنة قطع المواصلات والتحاق الأطراف بهم، مما يزيد في شكيتهم ويكثر سوادهم ويزيد الخطر على المؤمنين، ولهذا أول ما بدأ صلّى الله عليه وسلم بقتال قومه المختلطين مع أصحابه المتداخلين معهم ليأمن غائلتهم، ثم انتقل إلى العرب الآخرين القاطنين في الأطراف، ثم إلى أهل الكتاب المحيطين في المدينة، ثم إلى الرّوم العيدين عنه، وهكذا أصحابه ومن بعده رضوان الله عليهم أجمعين، إذ بدأوا بقتال أعدائهم

الأقرب فالأقرب في بلاد المسلمين حتى استولوا على غالب الأمصار بصورة تدريجية بتوفيق الله تعالى. ويدل قوله تعالى «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» شدة وعنفا في القول والمشي قبل القتال ليستدلوا على قوتكم وشجاعتكم ومناعتكم ويحظر على المؤمنين أن يلينوا جانبهم لأعدائهم، بل يظهروا لهم الجلد وكلّ خشونة وعنفوان، وأنهم يتفقؤون عظامهم لما في هذا من إيقاع الرّعب في قلوبهم وإذلالهم، وعليهم أن لا يتقوهم بشيء ويتقوا الله في جميع أحوالهم «أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (123) بالمعونة والنّصر والغلبة وقهر الأعداء. واعلم أن الغلظة تقرأ بفتح الغين وكسرها وضمها وخير الأمور أوساطها، ومعناها النّهاية في الشّدة قال تعالى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) الآية (75) المارة (ومنهم من أول الغلظة بالشجاعة والغيظ هي ضد الرّقّة) وأقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح. واعلم أن الأمر قد لا يكون مطردا في هذا الباب بل قد يحتاج تارة إلى الرّفق واللّطف، وأخرى إلى الضّيق والعنف، وهذا هو معنى (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي أنه لا يجوز الاقتصار على اللّين ولا على الغلظة، لأن اللّين يطمع العدو، والغلظة تنفره، وهذا في كلّ دعوة تتصل بالدين فتكون أولا بإقامة الحجة مع اللّين والرّأفة، وعند الإياس بالقتال والشّدة، ويشير قوله تعالى (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إلى أن الإيمان والقتال على الوجه المار ذكره من باب التقوى، والمراد بالمعيّة الولاية الدّائمة راجع قوله تعالى (اللَّهَ مَعَنا) في الآية (41) من هذه السّورة، وقوله تعالى (وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) في الآية 13 من سورة المائدة وقوله تعالى (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) في الآية 45 من سورة محمد المارات وما ضاهاها. قال تعالى «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» من القرآن العظيم وهذه عطف على قوله تعالى «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» في الآية 85 المارة إلّا أن هذه وصلت بها ما للتأكيد والتحسين. مطلب في ما بعد إذا ومثالب المنافقين ومنة الله على عباده بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلم: واعلم أن ما توصل بإذا في كلّ ما لا يتطرقه النّفي في الكلام بعدها، أما فيما يتطرقه النّفي كالآية المعطوفة هذه عليها فلا تتصل بها ما، ومثل (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ

وَالْفَتْحُ) و (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (انْفَطَرَتْ) وشبهها، لأنك إذا زدت ما في هذه الجمل وأمثالها تطرقها النّفي وهي لا تحتمله فيختل معناها فلا يمكنك أن تقول مثلا إذا ما السّماء انفطرت إلخ إذ يكون على تقدير ما بعد إذا لم تعلم نفس ما قدمت وأخرت، لأن علم ذلك عند وجود هذه الحوادث، وهذا قال تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وكذلك في بقية الجمل المذكورة، فإن وجود ما بعد إذا فيها تقييد المعنى بتطرق النّفي، أما إذا أمن تطرق لنفي كالآية المفسرة هذه فلا بأس بوجود ما فيها، ويصح تغير القرآن حذفها، مثل قولك إذا قدم الطّعام أكلنا، فإذا زدت ما فقلت إذا ما قدم الطعام أكلنا بقي المعنى على حاله، ومن هنا تعلم غلط بعض الكتّاب الّذين يصلون ما بإذا مطلقا دون أن ينظروا إلى المعنى بعدها، هل يتطرق النّفي أم لا؟ وهل يبقى المعنى على حاله أم لا؟ تدبر «فَمِنْهُمْ» المنافقون «مَنْ يَقُولُ» لصاحيه على طريق الاستهزاء والسّخرية «أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ» السورة المنزلة على محمد «إِيماناً» كما يقوله المؤمنون من أصحابه، فيا سيد الرّسل قل هؤلاء الفاجرين «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر إيمانا خالصا حقيقيا «فَزادَتْهُمْ إِيماناً» على إيمانهم لأنهم بعد أن تأمّلوا معناها وتدبّروا مرماها وتعقلوا مغزاها زادت معرفتهم بالله وما يتحتم عن الإيمان به وبرسوله، وكفى بعوام النّاس اعترافهم بها أنها من عند الله بيقين جازم وإقرارهم بها عن ثفة وتصديق، فكل هذا مما يزيد في قوة الإيمان فمثل زيادة الإيمان القوة تكون في الرّجل، ومثل نقصه الضّعف فيه مع تساويهما في الإنسانية، فلا يقال حينئذ كيف يزيد وكيف ينقص راجع الآية (5) من سورة البقرة والآية الثانية من سورة الأنفال المارتين تجد ما يتعلق في هذا البحث وفيما ترشدك إليه من المواضع «وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (124) بنزولها لما يرون من انشراح صدورهم لها ورغبتهم في سماعها وتشوقهم لحفظها والعمل بها طلبا للثواب في الآخرة عند منزلها «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة وشبهة في صحتها كالمنافقين والكافرين «فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» الغاش الغامر على قلوبهم المتغلغل فيها بسبب انغراز الكفر

فيها الذي أحدث الصّدأ بها علاوة على رجسها المتخزن بدخائل طباتها فصيّرها لا تعي الحق ولا تميزه على الباطل، لأنهم كلما أحدثوا سخرية بآيات الله أحدث الله زيغا في قلوبهم فيتكاثف عليها فتعمى، ولهذا كان هذا السّؤال من بعضهم. وقد سمى الكفر رجسا لأنه أقبح الأشياء وهو كلّ شيء مستقذر «وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» (125) بآيات الله بسبب إصرارهم على الاستهزاء بها. واعلم أنه كما أن الإيمان يزيد وينقص، فكذلك الكفر، لأن من كفر بموسى ثم كفر بعيسى يكون أشد كفرا من كفر بموسى ومات على كفره، وكذلك من كفر بعيسى وكفر بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم وعلى إخوانهم الأنبياء أجمعين، وهكذا كلما جحد الإنسان شيئا من شرائع الدين وأنكر ما جاءت به الرّسل عن الله وارتكب جرما حرمه الله عليه ازدادت جرائمه وقبائحه واستخفافه بآيات الله فيزداد الكافر كفرا والفاجر فجورا. وان التمادي في التعنّت والبغي والطّغيان يسبب تكاثف الصّدإ على القلب، وكذلك عدم المبالاة بالله ورسله وكتبه تزيد رين القلب فيصير مطبوعا عليه والعياذ بالله، فيستوي عنده الخير والشّر، ويميل طبعه الخبيث إلى السّخرية والاستهزاء، قال عليه الصّلاة والسّلام إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب وكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وأول النّفاق يبدو لمعة سوداء في القلب وكلما ازداد النّفاق ازداد ذلك السّواد حتى يسود القلب كله، وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. فتفيد هذه الآية والحديث على أن الرّوح لها مرض وهو الكفر والنفاق والأخلاق المذمومة والآداب السّافلة، ولها صحة وصحتها الإيمان والإخلاص فيه والأخلاق الممدوحة والآداب الفاضلة، وإن زيادة الإيمان بزيادة هذه الأعمال الكريمة ونقصه بنقصها، وزيادة الكفر بزيادة تلك الأفعال الذميمة ونقصه بنقصها. قال تعالى «أَوَلا يَرَوْنَ» هؤلاء المنافقون «أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ» بأنواع البلاء، ويختبرون بأصناف الشّقاء ويمتحنون بأضراب الشّدة والرّخاء «فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ» هذا لمجرد التكثير لا لبيان العدد، أي أنهم يبتلون ببلاء كثير مما يذكرهم عاقبة عتوّهم ومغبة طغيانهم عند وقوفهم بين يدي رب العزّة والعظمة،

فلو علموا هذا يقينا لأدى إلى لزوم رجوعهم إليه وتوبتهم مما هم عليه، إلا أنهم يعلمون بسبب الغشاوة الغاشية قلوبهم المانعة من تأثرها بالآيات «ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ» (126) ليتعظوا بها أو يتأثروا منها، لأنها كما أخبر الله لا تؤثر فيهم فيزداد بغيهم واشتهارهم فيها فيزدادون مقتا عند الله، راجع الآية (44) من سورة فصلت في ج 2. قال تعالى «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» ببيان عيوبهم وما يتناجون به في شأن حضرة الرّسول وأصحابه ويلصقون بهم من المثالب وما يضمرونه لهم من السّوء «نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» يتغامزون بعيونهم وحواجبهم تعجبا وسخرية بما ينزل ويشير بعضهم إلى بعضهم بالهرب عن أعين النّاس خوف التصريح بالفضيحة، قائلين لبعضهم «هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ» من المؤمنين إذا انصرفتم هلم انصرفوا قبل أن يطلعوا عليكم فينهوكم ويقرّعوكم ويوبخوكم «ثُمَّ» أي بعد أن تواطلوا على الهزيمة «انْصَرَفُوا» من المجلس الذي أنزل فيه القرآن خشية أن يصارحوهم بما وقع منهم «صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» عن الإيمان بها وأهمها وأعمها عن التعقّل فيها مجاراة لتهاونهم فيها وجهلهم بعاقبة أمرهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (127) معنى الآيات ولا يفهمون مغزاها، ولا يتفكرون فيما ترمي إليه، ولا يعقلون معناها، لأنهم حرموا لذة الإيمان بها لعدم تخلّقهم على فطرة التوحيد والعرفان وعدم اتعاظهم بما انطوت عليه آيات هذا القرآن، وصرفوا أوقاتهم في اللّغو وهفوات اللّسان وكلّ ما لا خير فيه من الكلام، وليس في قرنائهم من يرشدهم لأنهم مثلهم، قال الإمام الشّافعي رحمه الله: لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه والصّمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه وعلى الفنى بطباعه ... سمة تلوح على جبينه من ذا الذي يخفى عليك إذا نظرت إلى [قرينه] قال محمد بن إسحاق لإخوانه إذا قضيتم الصّلاة فلا تقولوا انصرفنا من الصّلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قد قضينا الصّلاة. والقصد من قوله هذا رحمه الله التفاؤل بترك هذه اللّفظة الواردة فيما لا ينبغي. والترغيب في تلك

اللفظة الواردة في الخير فإنه تعالى قال (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الآية في آخر سورة الجمعة المارة. قال تعالى مخاطبا مؤمني العرب ضاربا الصّفح عن المنافقين والكافرين، إذ ختم ما أنزل بحقهم كما هو في علمه «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ» من قبل الله تعالى وقد جعله «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» ومن جنسكم تعرفون نسبه وحسبه ومكانته في قومه ليكون بينكم وبينه جنسية نفسانية بها تقع الألفة بينكم وبينه، فتخالطونه وتختلطون معه بتلك الأسباب فتتأثر من نورانيتها المستفادة من نور قلبه أنفسكم فتتنور بها وتنسلخ عنها ظلمة الجبلة والعادة التي كنتم عليها قبل إسلامكم، وإذا كان كذلك فأنتم أولى بنصرته وموالاته من غيركم، لأنه أكمل شرفكم ورفع شأنكم وأعلى فخركم، فأبدل ذلكم عزّا، وانحطاطكم رفعة، وفقركم غنى، وقرأ ابن عباس بفتح السّين أي من أنفسكم وأفضلكم وأحسنكم، وهذه القراءة جائزة إذ لا تبديل فيها ولا زيادة ولا نقص. راجع الآية 11 من سورة الحج المارة. أخرج الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا يتذاكرون حسبهم بينهم، فقالوا مثلك كمثل نخلة في كدّية (بضم الكاف وتخفيف الدّال الأرض الغليظة والصّفات الشّديدة العظيمة والشّيء الصّلب بين الحجارة والطّين) من الأرض، فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم، وخير الفريقين، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. وروى مسلم عن وائلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا. حتى كنت من القرن الذي كنت فيه. وهذا الرّسول أيها المؤمنون «عَزِيزٌ» شاق صعب عظيم شديد «عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» أي ما تعملونه من المكروه والإثم لزيادة رأفته بكم، وكثرة غيرته عليكم لأنه يراكم بمثابه أعضائه وجوارحه، فكما يشق عليكم تألم شيء منها يشق عليه ما يصيبكم من كلّ سوء،

فيخاف عليكم كخيفته على نفسه حقا ولذلك فإنه «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» من أن ينالكم مكروه لشدة اهتمامه بكم كما يهمه جسده، فلا يرضى بنقص أقل جزء منه ولا بشقائه فكذلك أنتم عنده، ولذلك لا يريد لكم إلّا الخير، وهو يبذل غاية جهده وقصارى وسعه ونهاية قدرته لهدايتكم لأنه «بِالْمُؤْمِنِينَ» المخلصين لله الطائعين أوامره «رَؤُفٌ» وبالمذنبين والعاصين والغافلين «رَحِيمٌ» (128) بهم يريد أن يعفو الله عنهم ويرجو منه أن يشفّعه بهم، ولهذا فإنه ليفيض عليهم العلوم والمعارف والكمالات، ويجب أن يتصفوا بها كلها لينجيهم ربهم من عذاب الآخرة ويغفر لهم ما وقع منهم في الدّنيا، ولذلك يسعى لإرشادهم ويطلب من ربه قبولهم وتوفيقهم للخير والذكر الحسن في الدّنيا لينالوا ثوابه في الأخرى. اعلم أن الله تعالى لما أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يبلغ ما جاء في هذه السّورة من التكاليف عباده، وكانت شاقة يعسر تحملها إلّا لمن خصه الله تعالى بالتوفيق والكرامة، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل هذه التكاليف، وهو أنه قد جعل هذا الرّسول الذي بلغهم منهم فكل ما يحصل من العز والشّرف في الدّنيا فهو عائد إليكم، وفضلا عن هذا فإنه عليه الصّلاة والسّلام بحال يشقّ عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدّنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب الشّفيق ولأب الرّحيم في حقكم، والطّبيب الشّفيق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها، والأب الرّحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة، إلا أنه لما عرف أن الطّبيب حاذق والأب رؤوف صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة، وتلك التأديبات الشّاقة جارية مجرى الإحسان، فكذا هنا، لما عرفتم أنه رسول الله حقا فاقبلوا منه هذه التكاليف مهما كانت لتفوزوا بخير الدّارين. قال تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرّسل بعد ما أسديت لهم هذا النّصح وأعرضوا عن قبول إرشادك، ومالوا عن موالاتك وعدلوا عن مجالستك، فاتركهم ولا تلتفت إليهم، لأنك لست عليهم بجبار ولا مسطير، لأنهم يظهرون ذلك الإيمان، فلو كانوا يجاهرون بالكفر لكان لك أن تقاتلهم حتى يعطوا الجزية، فلم يبق إلّا طريق النّصح، فإذا رأيتهم تولوا عنك ولم يجنحوا لإرشادك «فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ» وحده هو كافيني عن جميع خلقه لا حاجة لي

بكم ولا باستعانتكم، كما لا حاجة للانسان إلى العضو المتعفن الفاسد، بل يجب قطعه لئلا يسري لغيره «لا إِلهَ» في الوجود ولا مؤثر في الكون ولا هادي للمضل «إِلَّا هُوَ» وحده ناصرك ومعينك وكافيك عن كلّ خلقه وهو المعول عليه بالاستقلال والإحاطة والاستيلاء التام «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» لا على غيره، إذ لا رب سواه فهو الباقي وما سواه هالك فلا حول ولا قوة إلّا بالله الذي من يتوكل عليه يكفيه، ومن يرجع إليه يغنيه عن كلّ أحد، إذ لا فعل ولا منع ولا عطاء إلّا منه، إليه أنبت وأسلمت وآمنت «وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (129) تقرأ على الكسر على انه صفة العرش، لأنه أعظم مخلوقاته، لما ورد أن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرّحمن كحلقة ملقاة في فلاة، وبالرفع على أنه صفة لله تعالى والله سبحانه هو الكبير العظيم بأسمائه وصفاته وأفعاله، المستحق للتعظيم بأفضاله وآلائه. والمراد من عظم العرش كبر جرمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار، ومنها ما ذكر آنفا، والمراد من وصف الإله بالعظم وجوب الوجود والتقديس والتنزيه عن الجسمية والأجزاء والأبعاض ووصفه بكمال القدرة وكونه مبرأ من أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام. قال أبو بكر وهذه القراءة (أي قراءة العظيم بالرفع) أعجب لأن جعل العظيم صفة للرب العظيم أولى من جعله صفة العرش (أي وإن خصّصها الغير) ويوجد في القرآن أربع سور مختومة بلفظ العظيم: هذه والحديد والواقعة والحاقة. هذا وقد ذكرنا أوّل هذه السّورة أنها نزلت كلها جملة واحدة، كما أشرنا إليه في الآية (27) المارة، وقال الحسن إن هاتين الآيتين الأخيرتين من آخر ما نزل من القرآن وما نزل بعدها قرآن. والمراد بقوله هذا أنهما نزلتا بآخر هذه السّورة لا وحدهما أما قوله ما نزل بعدهما قرآن، فلا يتجه إذ نزل بعدهما من السّور سورة النّصر، ومن الآيات آية المائدة الخامسة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وآية البقرة 282 وهي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) على أصح الأقوال، ومن قال ان الآيتين الأخيرتين من هذه السّورة نزلتا بمكة قيل لا مبرر له ولا عبرة به ولا قيمة له، وكان هذا القائل نظر لما فيهما من التفريض فقال ما قال، لأن هذه السّورة جاءت بالجزم والعزم ومقام

الشدة والغلظة فلا يناسبها ختمها بما يدل على التفريض على أن هذا لا يكون مدارا لإثبات قوله بأنهما مكيتان، لأن الأجدر هنا أن يكون المقام مقام تفويض تحدثا بما أكرم الله به نبيه فيهما من النّصر والعلبة وفضيحة أعدائه والتوبة على أوليائه. ومما يدل على كونهما مدنيتين وختم هذه السّورة بهما ما ورد عن أبي بن كعب أنه قال هاتان الآيتان (لَقَدْ جاءَكُمْ) إلخ آخر القرآن نزولا. وفي رواية أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان أي من حيث لم ينزل بعدهما إلّا ما ذكرناه آنفا، ومن علم أن كلام الله لا يشبه كلام خلقه علم أن كلامه لا يتقيد بمناسبة. راجع الآية (82) من سورة النّساء المارة. واعلم أن ما نقل عن حذيفة من قوله أنتم تسمون هذه السّورة بالتوبة وهي سورة العذاب ما تركت أحدا إلّا قالت منه (والله ما تقرءون ربعها) فهو نقل كاذب ورواية مفتراة وخبر بهت وقول زور، لأن تصديق الجملة الأخيرة من هذه الرّواية الواهية عبارة عن وجود النّقص في القرآن العظيم الذي لا يحتمل النّقص ولا الزيادة ولا يتطرقان إليه البتة. كيف وقد حفظه الله من كلّ باطل وتعهد بحفظه كما أشار إلى ذلك في الآية (30) سورة الحجر والآية 92 من سورة فصلت المارتين في ج 2، وهذا القول المختلق يخرج القرآن العظيم عن كونه حجة ولا خفاء، فإن القول بوجود نقص في القرآن باطل لا يقوله إلّا مبتدع زنديق فاسق فاجر، وهو كالقول بأن سورة الأحزاب كانت أكثر مما هي عليه الآن إذ أكلتها الأرضة وهي في بيت عائشة، فإذا أكلتها من بيت عائشة فهل أكلتها من النّسخ التي عند كتبة الوحي، وهل أكلتها من صدور الحافظين الأمينين. ولما نسخ أبو بكر القرآن من اللّخاف وغيرها هلا اطلع على هذا النّقص وهو خليفة رسول الله الأوّل، وهلا سأل من هذا عمر حين ولي الخلافة ونقل الصّحف إلى بيت حفصة، ولما نقل المصاحف زمن عثمان من قبل كتبة الوحي، هلّا اطلعوا على هذا النّقص الواقع في الأحزاب والتوبة، وهم أعلم النّاس بالقرآن بعد المنزل عليه، قاتل الله المفسدين، قاتل الله المرجفين، قاتل الله الزائفين، ألا يعلمون أن القول بهذا كفر صريح لإنكارء ما تعهد الله بحفظه وحمايته، ومن أوفى بعهده من الله، هذا، وقد أسهبنا بالبحث في هذا في المقدمة في بحث النّزول

(تفسير سورة النصر عدد 28 - 114 و 110)

وآخر سورة الأحزاب المارة فراجعها تعلم، وأنت عالم، بأن ما بين الدّفتين من القرآن العظيم هو تمام كلام الله الذي أنزله على حضرة رسوله بواسطة الأمين جبريل لم ينقص منه حرف واحد ولم يزد عليه حرف، وإن ما نقل عن بعض الكذبة مدسوس عليهم ممن هو أكذب منهم. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أجمعين. (تفسير سورة النّصر عدد 28- 114 و 110) نزلت بالمدينة بعد التوبة في منى في حجة الوداع السّنة العاشرة من الهجرة. وتعد مدنية للسبب المتقدم في مثلها. وهي آخر سورة نزلت من القرآن على أصح الأقوال وأشهر الرّوايات. وآخر آية نزلت منه آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) كما أشرنا بذلك في المقدمة، وفي الآية الرّابعة من المائدة والآية 182 من البقرة وألمعنا إليه آنفا وذكرنا أيضا أن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا ولا يخر؟؟؟ كونه مدنيا نزوله في غير المدينة، كما أن كلّ ما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا؟؟؟ عن كونه مكيا نزوله بغيرها، والعبرة بالهجرة لا بمواقع النزول. وهي؟؟؟ وسبع عشرة كلمة وسبعون حرفا. لا ناسخ ولا منسوخ فيها. وتسمى سورة الفتح أيضا وبيّنا السّور المبدوءة بما بدئت به في سورة الانفطار ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، وبيّنا السّور الموافقة لها في عدد الآي في سورة الكوثر. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» (1) أي إذا جاء المدد الكوفي والتأييد القدسي بالنصر العام والفتح الشّامل المطلق بعد فتح مكة وما وراءها من البلدان والقرى والمدن لا تقييد أو تخصيص بمكان دون مكان ولا بشيء دون شيء وهو فتح عام مادة ومعنى «وَرَأَيْتَ» يا أكمل الرّسل «النَّاسَ» على خلاف ألوانهم وأجناسهم ومللهم ونحلهم «يَدْخُلُونَ» طوعا ورضاءا واختيارا دون تكليف ولا إكراه «فِي دِينِ اللَّهِ» لسلوك طريقه المستقيم وتوحيد حضرته المقدسة وتصديق رسوله

وكتابه اللّذين جعلهما خاتمة لرسله وكتبه ويقبلون على الاعتراف بذلك كله «أَفْواجاً» (1) جماعات كثيرة وزمرا وإرسال القبيلة بأسرها والقوم بأجمعهم بحيث صاروا يتهافتون عن طيب نفس ورضاء خاطر ورغبة بهذا الدّين الحنيف رغبة نفس واحدة وصار استعدادهم المتشوق بتعاليم الإسلام ودعائم الإيمان اختياريا وصار بينك وبينهم روابط قوية مستمدة من تقوية المناسبات الودية الخالصة بعد أن كانوا على خلاف ذلك من التردد بقبول الإيمان والكراهية لاتباعك والنّقمة من تعاليمك وكان يؤمن بك الواحد والاثنين بادىء الرّأي غير متمكن الإيمان بداهة قبل أن يعرفوا ماهيته وما يؤول الأمر فيه إليه وما هي عاقبته كالقادم على ما لا يعرفه فإنه يقدم رجلا ويوخر أخرى، إذ كانوا مستضعفين لا يقدرون أن يجاهروا بإقامة الدّين. أما الآن فقد ظهر نوره في الآفاق وعرفت نتائجه الرّائعة لدى الخاص والعام وغرزت محبته بالقلوب السّليمة وإذ تم لك يا سيد الأحرار والعبيد هذا الأمر على ما تريد وفق إرادة ربك الأزلية «فَسَبِّحْ» يا حبيبي «بِحَمْدِ رَبِّكَ» الذي رباك وأعلى كلمتك وبلغك مناك شكرا على هذا العطاء الجزيل من فيضه الهطال وحمدا على إفضاله الجليل بإظهار كمالاته من حتى اليقين إلى عين اليقين «وَاسْتَغْفِرُوهُ» تواضعا وهضما للنفس وشرا لما كان هو خلاف الأولى «إِنَّهُ» جل جلاله وعز نواله «كانَ» من الأزل ولم يزل في الحال والمستقبل «تَوَّاباً» (3) على عباده الّذين هم في حيز قبوله منذ قالوا بلى كثير الغفران لهم، جليل المنّ عليهم، عظيم القبول، يشملهم بعفوه، ويغمرهم بعطفه، وينشر عليهم رحمته، ويكثر عليهم كرمه، وبلطف بهم في كلّ أمورهم المادية والمعنوية، لأن من عادته قبول من يرجع إليه بعد أن زاغ منهج صوابه، والعفو عنه وإدخاله في جملة أحبابه. هذا ولما كانت هذه السّورة الكريمة مشيرة إلى كمال الأمر لحضرة الرّسول وتمام الدّعوة التي خلق لأجلها قرأها على الأصحاب فاستبشر البعض منهم بما فيها من السّرور الذي ما بعده سرور، وبكى ابن عباس رضي الله عنه فقال له صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك (وهو قد عرف المرمى من بكائه) قال نعيت إليك نفسك، فقال عليه السّلام لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا، أي لما ألقي في روعه من مغزى هذه السّورة، وعرفه حق معرفته.

وروي أنها لما نزلت خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله، فعلم أبوبكر رضي الله عنه فقال فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. وعنه عليه السّلام أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال يا بنتاه نعيت إليّ نفسي، فبكت فقال لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا بي فضحكت. وتسمى هذه السّورة سورة التوديع لأنها نزلت في حجة الوداع وآذنت بوداع المنزل عليه ووداع الوحي المقدس إذ لم ينزل بعدها سوى الآيتين المذكورتين آنفا. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت ما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت إذا جاء إلخ إلّا ويقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. وقال ابن عباس لما نزلت هذه السّورة علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه، أي قبل أن يبكي ويقول ما قال، ولهذا سأله عن سبب بكائه عند ما تلاها صلّى الله عليه وسلم. وقال الحسن علم أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح والقربة ليختم بالزيادة من العمل الصّالح أجله، وإنما أمر بالتسبيح ليشتغل في أمور الآخرة ويصرف نفسه إليها، لأن الله تعالى كفاه مؤنة الدّنيا والحرب والقتال، لأن النّاس انهالوا على الإسلام فدخلوا فيه زرافات ووحدانا متسابقين عليه بدعوة عامة من الله تعالى لا تحتاج لترغيب ولا ترهيب وقد تعبده ربه بالاستغفار ليقتدي به النّاس وليعلموا أن حضرة الرّسول مع عصمته وشدة اجتهاده على عبادة ربه وإخباره بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أول سورة الفتح المارة ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف بمن هو دونه. واعلم أنه عليه الصّلاة والسّلام إنما كان يستغفر ربه عن ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى لا لذنب صدر منه يشابه ذنوبنا حاشاء من ذلك وقد بينا ما يتعلق بهذا أول سورة الفتح المارة فراجعها هذا وما ذكره بعض المفسرين بأن المراد بهذا الفتح بهذه السّورة فتح مكة قد فنّدناه هناك أيضا وإنما هو الفتح العام لحضرة الرّسول ومن بعده من أصحابه وأتباعه كما أشرنا إليه أيضا في سورة الفتح، وهذه السّورة سورة النّصر إنما تشير لهذا ولإتمام مهمّة الرسول من البعثة التي شرّفه الله بها وإلى دعوته لحظيرة القدس لتتغذّى روحه الطاهرة في جنّات خصصت لها وإلى انتهاء مدة مكثه في الأرض قال: إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم

وذلك أنه بفقد حضرة الرّسول ينقطع الوحي فيجعل نقصان في الأرض حال ضمه فيها. هذا وبعد نزول هذه السّورة والآيتين المذكورتين من المائدة والبقرة ختم الوحي المقدس ولم يعش حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بعدها سوى واحد وعشرين يوما، وقيل أحد عشر يوما، وقيل سبعة أيّام، وعلى الأوّل المعول لترادف الأقوال فيه، وبعد أن أدّى رسالة ربه كما أراده منه ختم أجله المقدر له، ثم لاقى وجه ربه عز وجل برحلته إلى حظيرة قدسه يوم الاثنين في 12 ربيع الأوّل سنة 64 من ولادته و 24 من البعثة والحادية عشرة من الهجرة ووقع ما وقع بعد وفاته، ثم اتفقت الأصحاب على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك، ومن أراد الوقوف على تفصيل ما وقع بعد وفاته عليه الصّلاة والسّلام فليراجع السّير ففيها كفاية، وقد رثاه بعض الأصحاب ببعض ما اختصه به من الصّفات الكريمة وما كان عليه من أخلاق عالية وأبدوا تأثرهم على فراقه مثبتة في السّير أيضا فمما قاله حسان رضي الله عنه وأرضاه: كنت السّواد لناظري ... فعمى عليك النّاظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر وقالت فاطمة رضي الله عنها حينما وقفت على قبره الشّريف: إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنا الوحي والكتب فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لما نعيت وحالت دونك الكتب وقالت أيضا: ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الدّهور غواليا صبت عليّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيّام صرن لياليا وقال علي رضي الله عنه بعد أن علم بوفاة فاطمة بعد أبيها: أرى علل الدّنيا عليّ كثيرة ... وصاحبها حتى الممات عليل وإن افتقادي فاطما بعد أحمد ... دليل على ألا يدوم خليل هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه)

(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أحمدك يا ولي العطاء والإرشاد، وهادي الغواة، إلى سنن الرّشاد، يا بارى البرية، ومالك الرّقاب، يا من عليك التوكل، وإليك المرجع والمآب، يا مغيث كلّ حائر وملهوف، ومجير كلّ هائل مخوف، حمدا يوافي نعمك، ويكافي مزيدك، وأصلي وأسلم على النّور الموصوف بكل كمال، وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم المال. وبعد فأسألك يا إله كلّ موجود، ويا مغيث كل طائع، وعاص في الوجود، أن تأخذ بيدي لألوذ برحمتك وحرمك المأمون من غرائر وغوافل وبغتات ريب المنون، وألتجئ إلى عصمة حرزك الحصين، وآوي إلى ركنك المصون المتين، لتدرّ عليّ من خزائن برك وإحسانك، ومن مكامن خزائنك، وامتنانك، وتمن علي بخير ما جرى به القلم من خير الدّين والدّنيا ويوم تزل به القدم، وتعيذني من فتن العابثين وشر الأشرار، ومن غرور الغرور والاغترار، وتعصمني من الرّكون لزخارف الدّنيا وشهواتها، وتحمني يا رب من كبواتها، وتعينني بعنايتك، وترعني برعايتك، على كلّ ظالم ومن كلّ غاشم، وتفيض علي من أنوار ربوبيتك، وتغشني برحمتك ورأفتك، وتقيني من العوائق وتخلصني من العلائق، وتهذب نفسي من دنس الأوزار ورجس الأخلاق والآداب والأطوار، وتنوّر قلبي بما يمحوا ظلمة الذنوب ويطرد ما يحوك فيه من خواطر العيوب، وتلين قساوته، وتطهره من الرّين وتدفع عنه صدأ الميل إلى المين، وتثبتني على منهج الحق والهدى والرّشاد، وتسلك بي سبل البر والتقى والسّداد، وخصّ مرامي برضاك ولطفك، واجعل همتي وهواي فيما ينشر علي عفوك وعطفك لأستميح لقاءك يوم اتقائك، وأتشرف بنور قدسك وبهائك، وأحصر خواطري فيما فيه رضاك، وأجعل أشرف أيامي يوم لقاك مع الّذين أنعمت عليهم من الرّسل والأنبياء، والّذين أكرمتهم من الصّديقين والشّهداء، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير. وبعد تمّ بفضل الله ما أردت جمعه من هذا التفسير المبارك يوم الأربعاء في 1 رجب سنة 1358 الموافق ل 15 آب سنة 1939، وكان الفراغ منه بمثل اليوم

والشّهر الذي بدأته به وهو من الاتفاقات الغريبة، والشّكر لله أولا وآخرا. ربنا تقبل منا ما قدمناه من العمل، ولا تؤاخذنا على ما وقع منا من الزلل، واغفر لنا ما هفى به الرّأي أو زلّ به القلم وأخطأ به الفكر، وانفع عبادك به كما وفقتنا إليه، واجعله خالصا لوجهك الكريم، وبوّئنا بكرمك وجودك جنّات النعيم، واغفر لنا ولوالدينا وأحسن إليهما وإلينا، ومتعنا اللهم بالعافية في هذه الدّنيا ما أحييتنا، والعفو بالآخرة عما سلف منا، ووفقنا دائما لما تحبه وترضاه في القول والعمل والنّية، واحشرنا في زمرة سيدنا سيد البرية، سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله بكرة وعشية. ثم أقول تحدثا بنعمة الله لا فخرا ولا ضجرا يأني قد قاسيت في جمع هذا السّفر الكريم والكتاب الجليل العظيم أنعابا جمة ومشاق مهمة، ولكن بفضله ومنّه قد استعذبت كلّ مرارة وجدتها خلال تحريره، وكلّ شدة قاومتها إبان تسطيره، ويرحم الله ابن الفارض إذ يقول: وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى سهل لأني وايم الله كنت كثيرا ما أتوضا في الوقت الواحد خمس مرات لطرو الانطلاق، لأني آليت على نفسي أن لا أخط خطا منه إلّا على وضوء كامل، وبعد صلاة ركعتين على الأقل، وكثيرا ما كنت أنام والقلم بيدي، وكم مرّة تمت مهموما لعدم وقوفي على المعنى المراد من بعض الآيات والأحاديث، فأراه بفضل الله في منامي، وأفيق فرحا مسرورا بما منّ الله عليّ، فأقوم فأتوضا وأراجعه فأجده مسطورا في بعض التفاسير وشروح الأحاديث كما رأيته، فأثبته حالا بمحله، هذه حالتي في اللّيل، وأما في النّهار فكثيرا ما يؤتى لي صباحا بالشاي فأغفل عنه فيبدل لي المرة بعد الأخرى فأشربه باردا، وكذلك حالتي في الشّراب والطّعام، وذلك لأني أخاف الذهول عن بعض ما تصورته، أو نسيان ما تخيّلته من المعاني المتعلقة بتأويل بعض الألفاظ، أو غياب ما وقر في قلبي مما أريده من التفسير، أو ما أريد تحريره على آية مضى البحث فيها، أو مراجعة بعض الآيات التي مرّ تفسيرها لتعلقها في معنى البحث الذي أنا فيه، وإبقاء الملاحظة عليها فيما حضر من المعنى الذي يناسبها حتى لا أترك آية لها مساس بمثلها إلّا أشرت إليها وبيّنات عددها

ورمزت إلى لزوم مراجعتها، حتى لا أضطر إلى التكرار الذي تباعدت عنه جهد المستطاع خشية الإطالة، ولذلك أثبت عدد الآيات في تفسيري هذا حتى إذا ماروت بما يتعلق بآية أشرت إليها بعددها وسورتها والجزء التي هي فيه كي يسهل على القاري مراجعتها دون كلفة، وكذلك الآيات التي لها نظائر في القرآن أشرت إلى نظائرها على ذلك المنوال، وفي كلّ هذا أراني منشرح الصّدر، طيب النفس، شديد الرّغبة، لا تعتريني ملالة ولا ضجر ولا انقباض ولا انكماش، لأني كلما أتيت شيئا مهما كان تعبي فيه أعقبه سرور كثير، ورحم الله شيخنا الشيخ حسين الأزهري إذ كان يقول لنا أثناء الدّرس: إن طالب العلم إذا وقف على مسألة لم يفهمها قبل، يحصل له انبساط عظيم وفرح جزيل فيقول أين أبناء الملوك من هذه اللّذة، وحقيقة والله، وكم مرة قلتها وأنا منشرح الصّدر متسع الخاطر، ولهذه اللّذة تزاحم المؤمنون على تفسير كلام الله الذي لا يمل رائده ولا يأم حتى صارت التفاسير لا تكاد تحصر عدا، لأن من يمعن نظره وينعم ناظره لا يستطيع إهمال ما يظهر له من إضاءة قلبه، وقد دوّنوا فيه ما يدهش لب العاقل ويذهل عقل اللّبيب، ولكن النّفوس لم تشبع منه، كما أنها لا تمل من قراءة القرآن مهما كررته، ورحم الله الأبوصيري إذ يقول: فلا تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالأم ويعجبني ما قال العماد الكاتب ما ألف أحد كتابا إلّا قال في غده لو قدمت أو أخرت بما يدل على عجز عموم البشر والتفرد بالكمال لخالقهم. لهذا فإني أتخيل بعد طبع هذا السّفر البديع الصّنع الذي لم يطرقه قلبي طارق عكوف العلماء على ما جريت عليه وإظهار تفاسير جمة من نوعه إن شاء الله تكون أكثر نفعا من غيرها، إذ لا ترى سابقا إلّا وله لا حقا يهذّب ما صعب منه، وينتقد ما ملح فيه، فيعذب مرة، ويزيد كرة، ويثبت ما لم نقف عليه من تاريخ بعض السّور والآيات، وما لم نعثر عليه من الوقائع والحوادث والغايات وأسباب النّزول حتى يبلغ الدّرجة القصوى في هذا الفنّ إن شاء الله. وقد ألمعنا إلى بعض هذا وما يحتاجه القاري في خاتمة المطالب التي أثبتناها في الجزء الأوّل،

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وكان تسويده خلال ثلاث سنين اعتبارا من 1 رجب سنة 1359 الموافق 5 آب سنة 1940 وترتيبه قبل الشّروع فيه على الكيفية المبينة في المقدمة وتنظيم مدارجه والآيات المستثنيات من السّور على الوجه المذكور فيه، واختيار الكتاب التي صمت على الأخذ منها المبينة في المقدمة أيضا ومطالعة الأبحاث اللازمة لدرجها فيه سنة كاملة وقضيت ثلاث سنين في تبييضه وتدقيقه ومراجعة ما لا بد من مراجعته لتصليح مما زاغت به الأقلام، أو زلت به الأفهام، أو اشتبه به الفكر، أو نسيه القلب، وأخطأ به الرّأي، وتردد به الفؤاد، واعتمدت فيه على الله الجواد، مستمدا من روحانية سيد أنبيائه عليه الصّلاة والسّلام وأحاديثه الصّحيحة، ومراجعة العلماء الأعلام. وعلى هذه الصّورة تم بتوفاق الله وتيسيره وعونه، وفضله وتقديره، فبلغ ثلاثة أجزاء، الأوّل والثاني يشملان على ما نزل في مكة، والثالث على ما نزل في المدينة، وقد أثبت آخر الأولين عدد السّور المفسرة فيهما ومدة نزولها، والثالث هذا يحتوي على ثمان وعشرين سورة أولها البقرة وآخرها سورة النّصر، وقد استغرق نزولها تسع سنين وتسعة أشهر وتسعة أيّام. وبينا في المقدمة مدة نزوله كله، ومبدأ النزول وآخره، فراجعه في بحث نزول القرآن، وهذا ما قاله بفمه وكتبه بقلمه العبد الفقير إلى رحمة الرّاجي عفوه وستره ورضاه السّائل لخيره الطالب لبره الرّاغب في عطاه السّيد عبد القادر ابن السّيد محمد حويش، ابن السّيد محمود، ابن السّيد خضر، ابن السّيد حديد، ابن السّيد فهد، ابن السّيد جاسم، ابن السّيد محمد، ابن السّيد عبيد، ابن السّيد حسين، ابن السّيد جلال الدّين، ابن السّيد عيسى المغربي آل السّيد غازي، ابن السّيد يعقوب، ابن السّيد محمد، ابن السّيد حسين، ابن السّيد شيخي، ابن السّيد فضل الله، ابن السّيد حامد، ابن السّيد أبي بكر، ابن السّيد صالح، ابن السّيد رجب، ابن السّيد محمد، ابن السّيد المكي أحمد، ابن السّيد عبد الله، ابن السّيد حسني، ابن السّيد يوسف، ابن السّيد رجب، ابن السّيد شمس الدّين، ابن السّيد محمد، ابن السّيد أحمد الرفاعي، ابن السّيد علي المكي الكبير، ابن السّيد يحيى، ابن السّيد ثابت،

ابن السّيد حازم، ابن السّيد أحمد، ابن السّيد موسى الثاني، ابن السّيد ابراهيم المجيب المشهور المرتضى، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام زين العابدين، ابن الإمام أمير المؤمنين الذي امتحن بأنواع المحن والبلاء أبي عبد الله الحسين (الهندبادي) هكذا في الأصل، ابن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهو إمام الأولياء والصّالحين وقائد الأصفياء المخلصين المخصوص بقوله صلّى الله عليه وسلم أنا مدينة العلم وعلي بابها، رضي الله عنه وأرضاه آمين تم تبييضه في غرة رجب سنة 1361 الموافق للثالث والعشرين تموز سنة 1963 وتمت طباعته في ربيع الآخر سنة 1388 الموافق لتموز سنة 1968 والحمد لله رب العالمين

جمعتها كلما له فلفظنها ... دررا تلألأ في نحور غوان ولذاك قد لقبته ببيانها ... فبدا لنا مغزاه بالعنوان فأتى كما قد شئت أبدع ما رأى العلماء من شرح على القرآن لولا مقالة حاسد غالت قلت هو الطّريد فما له من ثاني قد فاق حسنا كلّ تفسير كما ... قد فاق صاحبه على الأقران سهل المنال يناله من لا يكا ... ديعي المقال بكثرة الإمعان إنتاج عانى بالفضائل والعلا ... أكرم بإنتاج الرّفيع العاني قاضي بحكم الشّرع يقضي لا الهوى ... يرضى بحسن قضائه الخصمان من لي بإيفاء الثناء وهل يفي ... أحد بمدح مفسر القرآن فالعجز أولى ما يكون بمدحه ... فاترك تبجّله مديح لسان وكلته للجمل التي شهدت له ... من صنعه بمهارة الإتقان صنع مجيد قد أتى تاريخه ... أنعم بتفسير المجيد وشأن 151 752 88 357 التوقيع: عبد الرّزاق رمضان الخالدي ملاحظة: مجموع أرقام الشّطر الأخير من البيت الأخير 1358

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي جعل كتابه هدّى للعالمين، ونورا للمسترشدين، والصّلاة والسّلام على الرّحمة المهداة للناس أجمعين سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، نحمده سبحانه وتعالى أن خص من شاء بما شاء من أسراره، ومنح أصفياءه قبسا من نوره، وإشعاعا من ضيائه، وفتح لهم أبواب المعرفة لفهم آياته، ليبينوا للناس ما نزل إليهم، بثاقب أفهامهم، ويوضحوا لهم ما استغلق عليهم بفصيح بيانهم، ويجلوا ما خفي على مداركهم بواسع اطلاعهم ودقيق إدراكهم. وبعد، فإن الله سبحانه قد وفقني إلى الاطلاع على التفسير القيم للقرآن العظيم المسمى (بيان المعاني) لمؤلفه العلامة الفاضل السّيد عبد القادر ملا حويش آل غازي، هذا التفسير الذي لم يسبقه إليه سابق إذ جمع فيه مؤلفه فأوعى، إذ ذكر أسباب النزول وقصص الأولين، واستخرج من الآيات ما فيها من الأحكام الشّرعية والعبر والمواعظ الإلهية، بأسلوب أدبي رائع لا يمل القارئ من مطالعته، ولا يسأم من قراءته، بل كلما تعمق في سبر غوره، ازداد تعلقا به واستمساكا بأهدابه، فهو السّهل الممتنع الذي كثرت فيه المواضيع العلمية، والمعاني البيانية، والأساليب الأدبية، والحكم والمواعظ الدّينية. وإن من يطالع فيه ليخيل إليه أنه في بستان صنعته يد القدرة على أبدع مثال، وأروع منوال، لما اشتمل عليه من شهي الثمار وبديع الأزهار، ومختلف الأوراد والأطيار، يحار فيه القارئ من أي ثمر يجني، أو من أي عبير يستنشق، أو إلى أي نغم يصغي، وبأي جمال يستمتع، وحقيق أن نقول فيه: إن الوصف ليعجز عن بيان حقيقته، وإن القلم ليعيا عن الإحاطة بأسراره وفوائده، فهو للعالم نور، وللأديب متعة، وللمسترشد هدّى وضياء. بيروت: 1 ذي القعدة سنة 1387 هـ الشّيخ محمد بن محمد هاشم الشّريف 30 كانون الثاني سنة 1968 م مستشار المحكمة الشّرعية السّنية العليا 4217

§1/1