بيان المحجة في الرد على اللجة (مطبوع ضمن الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الرابع، القسم الأول)

عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

بيان المحجة في الرد على اللجة

بيان المحجة في الرد على اللجة الفضل بحمد الله في القرن الثاني عشر، فقام الداعي بها يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الفرائض والعمل بالواجبات، والنهي عن مُوَاقَعَة المُحَرَّمَات. وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان، ولولا ذلك ما سَبَّ هؤلاء نجدا واليمامة بمسيلمة؛ إذا عرف ذلك، فليعلم أن مسيلمة وبني حنيفة إنما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلا أو عنادا، وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله به رسله من التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو والشرك، فَجَوَّزُوا أن يُدْعَى مع الله غيره؛ وقد نهى الله ورسوله عن ذلك في أكثر سور القرآن. وَجَوَّزُوا أن يُسْتَعَان بغير الله، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك وجوَّزُوا الالتجاء إلى الغائبين والأموات والرغبة إليهم، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك أشد النهي. وجعلوا لله شريكا في ملكه وربوبيته كما جعلوا له شريكا في إلهيته، وجعلوا له شريكا في إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها. وقد قال -تعالى- مبينا لما اختص به من شمول علمه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 1 إلى قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} 2 الآيات. فشو الشرك المخالف لفاتحة الكتاب وسورة الناس وهذه الأصول كلها في الفاتحة، يبين تعالى أنه هو المختص بذلك، دون كل من سواه: ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 اختصاص لله بالحمد لكماله في ربوبيته وإلهيته وملكه وشمول علمه وقدرته، وكماله في ذاته وصفاته. {رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4 هو ربهم وخالقهم ورازقهم ومليكهم، والمتصرف فيهم بحكمته ومشيئته ليس ذلك إلا له. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 5 فيه تفرده بالملك كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 6، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

_ 1 سورة الرعد آية:8، 9. 2 سورة الرعد آية: 14. 3 سورة الفاتحة آية: 2. 4 سورة الفاتحة آية: 2. 5 سورة الفاتحة آية: 4. 6 سورة الانفطار آية: 19.

وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1 فيه قَصْرُ العبادة عليه -تعالى- بجميع أفرادها، وكذلك الاستعانة. وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 أيضا توحيد الربوبية. وهذه الأصول أيضا في: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 3 فهو ربهم ورازقهم، والمتصرف فيهم، والمدبر لهم: {مَلِكِ النَّاسِ} 4 هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" 5. وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} 6 هو مَأْلُوهُهُمْ ومَعْبُودُهم، لا معبود لهم سواه، فأهل الإيمان خَصُّوهُ بالإلهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكا يَأْلَهُونَهُ بالعبادة كالدعاء والاستعانة والاستغاثة والالتجاء والرغبة والتعلق عليه، ونحو ذلك. وفي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 7 براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} 8 إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 9 فهذا هو التوحيد العملي، وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا، وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 10 توحيد العلم والعمل. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 11 يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نِدَّ، ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ في الإثبات إلا على الله -عز وجل-؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} 12 قال عكرمة عن ابن عباس: يعني الذي يَصْمُدُ الخلائقُ إليه في حوائجهم ومسائلهم. (قلت) : وفيه توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. وقال الأعمش عن شقيق أبي وائل: {الصَّمَدُ} السيد الذي قد انتهى سُؤْدُدُهُ، وقال الحسن أيضا: {الصَّمَدُ} الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له، وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: {الصَّمَدُ} المُصْمَتُ الذي لا جوف له، قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكُلُّ هذه صحيحةٌ، وهي صفات ربنا عز وجل.

_ 1 سورة الفاتحة آية: 5. 2 سورة الفاتحة آية: 5. 3 سورة الناس آية: 1. 4 سورة الناس آية: 2. 5 البخاري: الأذان (844) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (593) , والنسائي: السهو (1341 ,1342 ,1343) , وأبو داود: الصلاة (1505) , وأحمد (4/247 ,4/250 ,4/251) , والدارمي: الصلاة (1349) . 6 سورة الناس آية: 3. 7 سورة الكافرون آية: 1. 8 سورة الكافرون آية:1، 2. 9 سورة الكافرون آية: 6. 10 سورة الإخلاص آية: 1. 11 سورة الإخلاص آية: 1. 12 سورة الإخلاص آية: 2.

نفي ما في البردة من شرك نشأ عن جهل وفساد تصور

نفي ما في البردة من شرك نشأ عن جهل وفساد تصور بسم الله الرحمن الر حيم قال شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الأجر والثواب، وأدخلهم الجنة بغير حساب ولا عذاب: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 1. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي قال الله تعالى خطابا له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه، من أذهب الله عنهم الرجس، وطهَّرهم تطهيرا. أما بعد: فإني وقفت على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، وقد سئل عن أبيات من البردة، وما فيها من الغلو والشرك العظيم المضاهي لشرك النصارى ونحوهم ممن صرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله تعالى، كما هو صريح الأبيات المذكورة في البردة، لا يخفى على مَنْ عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وبيَّن أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وأن الجنة عليه حرام.

_ 1 سورة الفرقان آية:2، 3. 2 سورة الأحزاب آية:45، 46.

وذكر الشيخ -رحمه الله- في جوابه: أن الأبيات المذكورة تضمَّنت الشرك، وصرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله، فاعترض عليه جاهل ضالٌّ فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله: حماه الله من ذلك، ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله أول المنظومة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم البيت المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" 1. (الجواب) : أن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور، فلو عرف الناظم وهذا المعترض ومن سلك سبيلهما حق الله على عباده، وما اختصَّ به من ربوبيته وإلهيته، وعرفوا معنى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لَمَا قالوا ما قالوا هم وأمثالهم ممن جهل التوحيد، كما قال تعالى في حق من هذا وصفه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} 2. فالجهل بما بعث الله به رسله قد عمَّ كثيرا من هذه الأمة، وظهر فيها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " 3 ونحو هذا من الأحاديث. وقوله: ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله أول المنظومة: ..........البيت دع ما ادعته النصارى في نبيهم (الجواب) : أن هذا يزيده شناعة ومقتا؛ لأن هذا تناقض منه بيِّن، وبرهان على أنه لا يعلم ما يقول، فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو العظيم الذي نهى الله عنه ورسوله، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، أو فعل ما يوصل إليه بقوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا"4 وقال:

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) . 2 سورة الأنعام آية: 119. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 4 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) .

"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"1، وقوله لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده"2 وقال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل". فلقد حذر أمته صلى الله عليه وسلم وأنذرهم عن الشرك ووسائله، وما دقَّ منه وجلَّ، ودعا الناس إلى التوحيد ونهاهم عن الشرك، وجاهدهم على ذلك، حتى أزال الله به الشرك والأوثان من جميع الجزيرة وما حولها من نواحي الشام واليمن وغير ذلك. وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها، كما هو مذكور في كتب الحديث والتفسير والسير، كما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي في الصحيح، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته"3. وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم (مناة) وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم بيت العزى، وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل، وبعث المغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها، وأزال عن جزيرة العرب وما حولها جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله. والصحابة -رضي الله عنهم- تعاهدوا هذا الأمر واعتنو بإزالته أعظم الاعتناء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف، كما في حديث العرباض بن سارية قال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا" 4 الحديث، فوقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة كما هو معلوم عند العلماء، ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه لخرج بنا عن المقصود من الاختصار. هدم الإسلام للشرك ثم عودته إلى المسلمين وفشوه فيهم فانظر إلى ما وقع اليوم من البناء على القبور والمشاهد وعبادتها، فلقد عمَّت هذه البلية كثيرا من البلاد، ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) . 2 أحمد (1/214) . 3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145 ,1/150) . 4 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) .

ينسبون إلى العلم، قال سليمان التيمي: " لو أخذت بزلة كل عالم لاجتمع فيك الشرك كله". فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله المطابق لقول النبي: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" 1. (أقول) : لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد، لكنها في المنهي عنه لا في النهي، فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء طابقته الأبيات من قوله: سواك.......إلى آخرها يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به فقد تضمَّنت غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم، فإنه قصر خصائص الإلهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فصرفها لغير الله؛ فإن الدعاء مخ العبادة، واللياذ من أنواع العبادة. أبيات البردة فيها الاستعانة والاستغاثة بغير الله وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله، فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان. وهذه هي أنواع العبادة، ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وشكرها لمن قصرها على الله، ووعده على ذلك الإجابة والإثابة، كقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3 الآية، وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَدا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} 4 الآيات. فهذا هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 5، فقصر الدعاء على ربه الذي هو توحيد الإلهية، وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَدا} 6 إلى آخر الآيات، وهذا هو توحيد الربوبية، فوحَّد الله في إلهيته وربوبيته، وبيَّن للأمة ذلك كما أمر الله تعالى.

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) . 2 سورة غافر آية: 65. 3 سورة غافر آية: 60. 4 سورة الجن آية: 19. 5 سورة الجن آية: 20: 23. 6 سورة الجن آية: 21.

وقال تعالى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1 أمره بقصر الرغبة على ربه تعالى، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 2 ونهى عن الاستعاذة بغيره بقوله تعالى عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 3. واحتجَّ الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وغيره على القائلين بخلق القرآن بحديث خولة بنت حكيم مرفوعا: "من نزل مَنْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات"4 الحديث، على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقا لَمَا جاز أن يستعاذ بمخلوق؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير يظهر بالتدبر. عبادة النصارى وتأليههم للمسيح وأما قول المعترض: إن النصارى يقولون: إن المسيح ابن الله. نعم قاله طائفة منهم، وطائفة قالوا: هو الله، والطائفة الثالثة قالوا: هو ثالث ثلاثة، وبهذه الطرق الثلاث عبدوا المسيح -عليه السلام-، فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح، وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح والأحبار والرهبان: أما المسيح فعبادتهم له بالتألُّه وصرف خصائص الإلهية له من دون الله كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 6، فأخبر أن الإلهية وهي العبادة حق لله لا يشركه فيها أولو العزم ولا غيرهم، يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 7. اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا وأما عبادتهم للأحبار والرهبان فإنهم أطاعوهم في تحليل ما أحلوه لهم من الحرام، وتحريم ما حرموه من الحلال عليهم.

_ 1 سورة الشرح آية:7، 8. 2 سورة الأنبياء آية: 90. 3 سورة الجن آية: 6. 4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/377) , والدارمي: الاستئذان (2680) . 5 سورة التوبة آية: 31. 6 سورة المائدة آية: 116. 7 سورة المائدة آية: 117.

ولما قدم عدي بن حاتم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراره إلى الشام- وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانيا- فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، تلا عليه هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم". ففيه بيان أن من أشرك مع الله غيره في عبادته، أو أطاع غير الله في معصيته فقد اتخذه ربا ومعبودا، وهذا بيِّن بحمد الله. نبذ الشرك وعبادة الله وحده فلو تأمل هذا الجاهل قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} 2، لعلم أن الله قد أنكر على النصارى قولهم وفعلهم، وعلى كل من عبد مع الله غيره بأي نوع من أنواع العبادة، لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد، وألفوا الشرك وأحبوه وأحبوا أهله، فترامى بهم هذا الداء العضال إلى ما ترى من التخليط والضلال والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولا شفاء لهذا الداء العظيم إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية والإقبال على تدبر الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 3، ومثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4. أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب إلى أن يخلصوا العبادة لله وحده، ولا يشركوا فيها أحدا من خلقه، فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم كالمسيح ابن مريم ويعبدون أحبارهم ورهبانهم. وتأمَّل قوله: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 5، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 سورة المؤمنون آية: 91. 3 سورة يونس آية: 57. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة آل عمران آية: 64.

اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 1. وقوله: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} 2 يعم كل شرك دقَّ أو جلَّ، كثر أو قل. دعوة جميع الرسل إلى عبادة الله وحده قال العماد ابن كثير في تفسيره: "هذا الخطاب مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، وقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 3 أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} 4 لا وثنا ولا صنما ولا صليبا ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له". (قلت) : وهذا هو معنى لا إله إلا الله، ثم قال: "وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 5، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6 ". انتهى المقصود منه. وقال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 7 الآية. قال محمدبن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "قال أبو رافع القرظي-حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام-: أتريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس: أَوَذَاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل في ذلك {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 8 إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 9 قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 10 أي: ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس:

_ 1 سورة الرعد آية: 36. 2 سورة آل عمران آية: 64. 3 سورة آل عمران آية: 64. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة الأنبياء آية: 25. 6 سورة النحل آية: 36. 7 سورة آل عمران آية: 79. 8 سورة آل عمران آية: 79. 9 سورة آل عمران آية: 80. 10 سورة آل عمران آية: 79.

اعبدوني من دون الله، أي: مع الله، وإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل فَلأَنْ لا يصلح لأحد من الناس بطريق الأولى والأحرى. ولهذا قال الحسن البصري: "لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا"، يعني: أهل الكتاب، وقوله: {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} 1 أي: لا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 أي: لا يفعل ذلك؛ لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4. وقال في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 5 انتهى. وهو في غاية الوضوح. وبيان التوحيد، وخصائص الربوبية والإلهية، ونظائر هذه الآيات كثير في القرآن، وفي السنة من الأحاديث كذلك. إخلاص الدعاء لغير الله فإذا كان من المستحيل عقلا وشرعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجميع الأنبياء والمرسلين أن يأمروا أحدا بعبادتهم، فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة أن يقبلوا قول صاحب البردة: سواك عند حلول الحادث العمم يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة، واللياذ الذي هو من أنواع العبادة لغير الله، وتضمَّن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستغاثة والالتجاء إلى غير الله؟ وهذه هي معظم أنواع العبادة كما أشير إلى ذلك في قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 6 الآية. وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي

_ 1 سورة آل عمران آية: 80. 2 سورة آل عمران آية: 80. 3 سورة الأنبياء آية: 25. 4 سورة الزخرف آية: 45. 5 سورة الأنبياء آية: 29. 6 سورة الرعد آية: 14.

اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} 1 إلى قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 2. وعن أنس مرفوعا: "الدعاء مخ العبادة"3 رواه الترمذي. تفسير قوله " {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} " وقوله: فضلا وإلا فقل يا زلة القدم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 4. وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 5. وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} 6 الآية، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة وأحب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا"7. فتأمَّل ما بين هذا وبين قول الناظم من التضاد والتباين، ثم المصادمة منه لما ذكره الله –تعالى- وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} 8. وتأمل ما ذكره العلماء في سبب نزول هذه الآية، وأمثال هذه الآية كثير لم يُنْسَخ حكمها ولم يُغَيَّر، ومَنْ ادَّعى ذلك فقد افترى على الله كذبا، وأضل الناس بغير علم كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 9. وبهذا يعلم أن الناظم قد زلَّت قدمه، اللهم إلا أن يكون قد تاب قبل الوفاة، والله أعلم. لا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته وأما قوله: ........................... فإن من جودك الدنيا وضرتها فمن المعلوم أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه، فمقتضى ذلك: الدنيا والآخرة ليست لله بل لغيره، وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقهم وخلقها لهم، بل أدخلهموها غيره {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ

_ 1 سورة الأنعام آية: 71. 2 سورة الأنعام آية: 73: 75. 3 الترمذي: الدعوات (3371) . 4 سورة الانفطار آية: 17. 5 سورة الجن آية: 21. 6 سورة يونس آية: 49. 7 البخاري: الوصايا (2753) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646) , والدارمي: الرقاق (2732) . 8 سورة آل عمران آية: 128. 9 سورة هود آية: 123.

عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وفي الحديث الصحيح: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" 2. وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 3 وقوله -تبارك وتعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4، وقوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} 5، وقوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} 6. فلا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم .................. وهذا أيضا كالذي قبله، لا يجوز أن يقال إلا في حق الله تعالى الذي أحاط علمه بكل شيء كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 7. وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 8. وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 9. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 10. وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ} 11 والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوت الحصر. وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والإلهية التي بعث الله رسله، وأنزل كتبه لبيانها واختصاصها بالله -سبحانه وتعالى- دون كل من سواه، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 12، كقوله في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 13 الآية، فقد أطلع الله مَنْ شاء من أنبيائه ورسله على ما شاء من الغيب بوحيه إليهم. فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة، وما جرى عليهم كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 14، وكذلك

_ 1 سورة الصافات آية: 180. 2 البخاري: الرقاق (6467) . 3 سورة النساء آية: 134. 4 سورة الملك آية: 1. 5 سورة الأنعام آية: 12. 6 سورة الليل آية: 13. 7 سورة الأنعام آية: 73. 8 سورة يونس آية: 61. 9 سورة الأنعام آية: 50. 10 سورة الأنعام آية: 59. 11 سورة النمل آية: 65. 12 سورة الجن آية: 26. 13 سورة البقرة آية: 255. 14 سورة هود آية: 49.

ما تضمَّنه الكتاب والسنة من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك، أطلع الله عليه رسوله، والمؤمنون عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله، وآمنوا به. وأما إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وما كان منها وما لم يكن، فذاك إلى الله وحده لا يُضاف إلى غيره من خلقه، فمن ادَّعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فما أجرأ هذا القائل على الله في سلب حقه! وما أعداه لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين والموحدين! قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إنما تنقض عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام مَنْ لا يعرف الجاهلية"؛ وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقرَّه، ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُكَفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويُبَدَّعُ بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، والله المستعان". انتهى. الموافقة في الاسم لا تنفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة (قلت) : وقد رأينا ذلك –والله- عيانا من هؤلاء الجهلة الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة، أشربت قلوبهم الشرك والبدع، واستحسنوا ذلك، وأنكروا التوحيد والسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا. وأما قول الناظم: ...........البيت فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا فهذا من جهله، إذ من المعلوم عند كل من له أدنى مسكة من عقل أن الموافقة في الاسم لا تنفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة، فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه

على دينه، والعمل بسنته، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} 1 إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. موت أبي طالب على الشرك وتأمَّل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره، ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته من أعدائه، وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب، ومات على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه" 3 أنزل الله –سبحانه-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 4. لا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي – صلّى الله عليه وسلّم - إلا بالإيمان به وبما جاء به من توحيد الله فلا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالإيمان به، وبما جاء به من توحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ومحبته واتباعه وتعظيم أمره ونهيه، والدعوة إلى ما بعث به من دين الله، والنهي عما نهى عنه من الشرك بالله والبدع، وما لا فلا. فعكس الملحدون الأمر، وطلبوا الشفاعة التي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها وإنكارها، وقتال أهلها بالشرك، وإحلال دمائهم وأموالهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد، وعداوة من قام به، واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم في كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- من قوله: ويكفّر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد إلى آخر كلامه. وأما قول الناظم:

_ 1 سورة الأعراف آية: 156، 157. 2 سورة الأعراف آية: 157. 3 البخاري: الجنائز (1360) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) . 4 سورة التوبة آية: 113.

.............. البيت ولن يضيق رسول الله جاهك بي فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين، من اتخاذهم الشفعاء ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله زلفى، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1. فهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2. فتأمَّل كون الله تعالى كفَّرهم بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3 وقال في آخر هذه السورة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 4 الآية. (قلت) : وقد وقع من هؤلاء من اتخاذهم شفعاء بدعائهم، وطلبهم ورغبتهم، والالتجاء إليهم، وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون، ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه، وقد أخبر تعالى أن الشفاعة ملكه لا ينالها من أشرك به غيره، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 5 فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه، وسجَّل عليهم بالضلال، ولهذه الآية نظائر كثيرة كقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 6. فبيَّن أن دعوتهم غير الله شرك بالله، وأن المدعو من غيره لا يملك شيئا، وأنه

_ 1 سورة الزمر آية:2، 3. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الزمر آية: 3. 4 سورة الزمر آية: 43، 44. 5 سورة الأحقاف آية:5، 6. 6 سورة فاطر آية:13، 14.

لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرَّأ منه، ومن صاحبه يوم القيامة. فمن تأمَّل هذه الآيات، انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات، ومما يشبه هذه الآية -في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعا من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه، واعتماده في حصول الشفاعة عليه، كما قد تضمنه بيت الناظم- قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. الشفاعة الشركية والشفاعة الشرعية بقيديها فانظر كيف حرمهم الله الشفاعة لما طلبوها من غيره، وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم بطلبها في دار العمل من غيره، وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 2. وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3. فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها شرك، وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له، وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 4 الآية، إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 5، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 6، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 7، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 8 إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 9.

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة البقرة آية: 254. 3 سورة الأنعام آية: 51. 4 سورة الحج آية: 17. 5 سورة البقرة آية: 255. 6 سورة الأنبياء آية: 28. 7 سورة النجم آية: 26. 8 سورة الأعراف آية: 54. 9 سورة يونس آية: 3.

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة من شاء الله ممن مات لا يشرك بالله شيئا". وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 1. قال شيخ الإسلام في هذا الحديث: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله". وقد كشفنا -بحمد الله- بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافتراءه على الله ورسوله، فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وإن اتخاذ الشفعاء إنما هو بدعائهم، والالتجاء إليهم، وسؤالهم أن يشفعوا للداعي، وقد نهى الله عن ذلك، وبيَّن أن الشفاعة له، فإذا كانت له وحده فلا تُطْلَب إلا ممن هي ملكه، فيقول: اللهم شفِّع نبيك في؛ لأنه تعالى هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه، وهو الإخلاص كما تقدم بيانه. وأما قول المعترض: إن المعتزلة احتجُّوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين. فأقول: لا ريب أن قولهم هذا بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض، تقول: إن الشفاعة تثبت لمن طلبها وسألها من الشفيع، فجعلت طلبها منه موجبا لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة -بحمد الله-، والحق أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده، ورغب إليه فيها، وأخلص له العبادة بجميع أنواعها. وهذا هو الذي تقع له الشفاعة قبل دخول النار أو بعده إن دخلها بذنوبه، فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الإخلاص كما صرحت بذلك الأحاديث، والله أعلم. وقد قدمنا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا

_ 1 البخاري: العلم (99) والرقاق (6570) , وأحمد (2/373) .

وإثباتا فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق، فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعا يطلب الشفاعة منه؛ فيرغب إليه في حصولها، كما في البيت المتقدم، وهو كفر كما صرَّح به القرآن. حديث الشفاعة العظمى وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين، وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة، ودانوا به. والحديث الذي أشار إليه المعترض من قوله: "أنا لها، أنا لها" 1 لا ينافي ما تقرر، وذلك أن الناس في موقف القيامة إذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب، وكلٌّ ذكر عذره، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "فيأتوني فَأَخِرُّ بين يدي الله ساجدا -أو كما قال- فأحمده بمحامد يفتحها علي، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تُشَفَّع، قال: فَيُحَدُّ لي حدا، فأدخلهم الجنة". فتأمَّل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه، وقوله: "فيحد لي حدا" فيه بيان أن الله هو الذي يحد له. [سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه] وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر، والتوسل إلى الله بدعائه كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره. ولما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة، ففرَّق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، - وهم أعلم الأمة وأفضلها- بين حالتي الحياة والممات. وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وفي الصلاة والخطب وعند ذكره امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم" 2. التوسل بالنبي – صلّى الله عليه وسلّم - بعد وفاته لا يجوز ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يستسقي بالناس، أخرج معه العباس بن

_ 1 البخاري: التوحيد (7510) , ومسلم: الإيمان (193) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .

عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا؛ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، فيدعو. فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه العباس، فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعا منهم. لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-:" وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك، فقال أبو الحسن القدوري -في شرح كتاب الكرخي- قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم؛ لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه. وقال ابن بلدمي -في شرح المختار-: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب 1. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع لقضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له والطواف، وتقبيله

_ 1 لكن نقل الشافعي في "الأم" عن أبي يوسف: أن الحرام ما كان يطلق عند السلف إلا على ما كان بيِّنا في كتاب الله بلا تفسير، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن السلف ما كانوا يحرمون شيئا إلا بدليل قطعي". نقله عنه ابن مفلح في "الآداب الشرعية"، وذكر أن في مذهب أحمد روايتين في المسألة الثانية أن التحريم يثبت بالدليل الظني، أيضا. اهـ بالمعنى، ونحن نتبع السلف -رضي الله عنهم-.

واستلامه والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. مراتب البدع عند القبور قال شيخنا -قدَّس الله روحه-: "وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس". قال: "وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه، ويتمثَّل لهم الشيطان أحيانا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أن يسأل الله به". قال: وهو بدعة باتفاق المسلمين. (والثالثة) : أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من الناس يفعل ذلك. انتهى. ففرض على كل أحد أن يعلم ما أمر الله ورسوله به، من إخلاص العبادة لله وحده، فإنه الدين الذي بعثه الله به، وأن يترك ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك فما دونه كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 1 الآية، وأن لا يدين الله تعالى إلا بما دلَّ الدليل على أنه من دين الله، ولا يكون إمعة يطير مع كل ريح. فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها قد تنازعوا في ربهم وأسمائه وصفاته، وما يجب له على عباده، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. فيا سعادة من تجرَّد عن العصبية والهوى، والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة، فإن العلم معرفة الهدى بدليله، وما ليس كذلك فجهل وضلال. النبي ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو وأما قول المعترض: فانظر إلى (الشفاء) تجده حكى كفر مَنْ قال مثل هذه الكلمة

_ 1 سورة يونس آية: 106. 2 سورة النساء آية: 59.

أي: الكلمة التي ذكرها المجيب في معنى قوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 1 الآيات، ذكر عبارة النسفي في معناها، وهي قوله: "هو إظهار للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر" إلى آخر كلامه. إذ من عادة هذا المعترض الجاهل رد الحق والمكابرة في دفعه والغلو المتناهي، وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام أن المجيب إنما أتى في جوابه بتحقيق التوحيد، ونفي الشرك بالله، وذلك تعظيم لجانب الرسالة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو، ولما قيل له صلى الله عليه وسلم أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. قال: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله تعالى" 2. والنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الخلق بالتواضع لله وحده –سبحانه-، وفي الحديث: " فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلي ضيعة وعورة، وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك" 3 الحديث، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة يخبر بذلك عن نفسه، ويعترف بذلك لربه، وهو الصادق المصدوق. فإذا قال المسلم: مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر عنه بما أخبر به عن نفسه لم يكن منتقصا له، بل هذا من تصديقه والإيمان به. توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه قال شيخ الإسلام -رحمة الله تعالى-: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال: هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة، فإن المقام أجلُّ من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه، وإن كان نفسه المسلوب، كما في الصحيحين في حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء، وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قالت لها أمها: "قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمده ولا إياكما، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي" 4.

_ 1 سورة الجن آية: 21. 2 أحمد (3/249) . 3 أحمد (5/191) . 4 البخاري: الشهادات (2661) , ومسلم: التوبة (2770) , وأحمد (6/194) .

فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على هذا الكلام الذي نفت فيه أن يُحْمَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: "بحمد الله لا بحمدك"، ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه صلى الله عليه وسلم. وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم: سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول: قلت لعبد الله بن المبارك: قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: "بحمد الله لا بحمدك" إني لأستعظم هذا! فقال عبد الله:" ولت الحمد أهله". وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن الأسود بن سريع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بأسير فقال: اللهم أني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله" 1. الشرك بالله هضم للربوبية وتنقُّص للإلهية وهذا المعترض وأمثاله ادَّعوا تعظيم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه من الغلو والإطراء، وهضموا ربوبية الله، وتنقَّصوا إلهيته، وأتوا بزخارف شيطانية، وحاولوا أن يكون حق الله تعالى من العبادة التي خلق لها عباده نُهْبَى بين الأحياء والأموات: هذا يصرفه لنبي، وهذا لملك، وهذا لصالح، أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم أندادا لله، وعبدوا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله، فإن عبادتهم للملائكة والأنبياء والصالحين إنما تقع في الحقيقة على مَنْ زيَّنها لهم من الشياطين، وأمرهم بها كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. ونحو هذه الآية كثير في القرآن. ولما ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما وقع في زمانه من الشرك بالله قال: "وهذا هضم للربوبية، وتنقُّص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين، وذكر أنهم إنما ساووهم بالله في العبادة كما قال تعالى عنهم وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. الله يستدرج أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم وأما ما ذكره عن خالد الأزهري، فخالد وما خالد؟ أغرك منه كونه شرح

_ 1 أحمد (3/435) . 2 سورة سبأ آية: 40، 41. 3 سورة الشعراء آية:97، 98.

التوضيح والآجرومية في النحو؟! وهذا لا يمنع كونه جاهلا في التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كما جهله من هو أعلم منه، وأقدم منه ممن لهم تصانيف في المعقول كالفخر الرازي وأبي معشر البلخي ونحوهما ممن غلط في التوحيد. وقد كان خالد هذا يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره فما أنكر ذلك في شيء من كتبه، ولا نقل عنه أحد إنكاره، فلو صحَّ ما ذكره خالد من حال الناظم لم يكن جسرا تذاد عنه النصوص من الآيات المحكمات القواطع، والأحاديث الواضحات البينات كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1 وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 2، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو لله ندا، دخل النار" 3. وقد يستدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم، وكثير منها أحوال شيطانية أعانوا بها أولياءهم من الإنس كما قد يقع كثيرا لعباد الأصنام، وما أحسن ما قال بعضهم: تخالف الناس فيما قد رأوا ورووا ... وكلهم يدعون الفوز بالظفر فخذ بقول يكون النص ينصره ... إما عن الله أو عن سيد البشر وقد حاول هذا الجاهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها نص فيما دلَّت عليه من الشرك في الربوبية والإلهية ومشاركة الله في علمه وملكه، وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك والغلو، فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل، غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال والزور والمحال، ولو سكت لسلم من الانتصار لهذا الشرك العظيم الذي وقع فيه. حكمة الرب في خلق السماوات والأرض وأما قول المعترض: ورد في الحديث: "لولا حبيبي محمد ما خلقت سمائي ولا أرضي ولا جنتي ولا ناري" فهذا من الموضوعات لا أصل له، ومَنْ ادَّعى خلاف ذلك فليذكر من رواه من أهل الكتب المعتمدة في الحديث، وأنى له ذلك؟ بل هو

_ 1 سورة النساء آية: 36. 2 سورة المؤمنون آية: 117. 3 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464) .

من أكاذيب الغلاة الوضاعين، وقد بيَّن الله تعالى حكمته في خلق السماوات والأرض في كثير من سورة القرآن كما في الآية التي تأتي بعد، وهي قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 1، ولها نظائرها تبين حكمة الرب في خلق السماوات والأرض. وقوله: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله من الدنيا في حياته، أو في الآخرة بعد وفاته؟ التصرف في الكون لله وحده (أقول) : هذا كلام من اجترأ وافترى وأساء الأدب مع الله، وكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعرف حقيقة الشفاعة، ولا عرف تفرُّد الله بالملك يوم القيامة. وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو من بعدهم من أئمة الإسلام: إن أحدا يتصرَّف يوم القيامة مع الله في ملكه؟ ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادَّعاها كلٌّ لمعبوده من نبي أو ملك أو صالح أنه يشفع له إذا دعاه. {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} 2، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 3 الآية، وقال: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} 4. وهذا القول الذي قاله هذا الجاهل قد شافهنا به جاهل مثله بمصر، يقول: الذي يتصرف في الكون سبعة: البدوي والإمام الشافعي والشيخ الدسوقي، حتى أكمل السبعة من الأموات، هذا يقول: هذا وليُّ له شفاعة، وهذا صالح كذلك، وقد قال الله تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاق يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 5 إلى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 6. وأي ظلم أعظم من الشرك بالله، ودعوى الشريك له في الملك والتصرف؟ وهذا غاية الظلم. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في معنى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ

_ 1 سورة الطلاق آية: 12. 2 سورة الفرقان آية: 18. 3 سورة هود آية: 105. 4 سورة النبأ آية: 38. 5 سورة غافر آية: 15، 16. 6 سورة غافر آية: 18.

فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ} 1. نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب. فالشفاعة التي يظنها المشركون منتفية كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: "ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع" 2. وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 3، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضَّل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك؛ ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد. انتهى. نفي الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مدارج السالكين: "وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، فقال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ} 4. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده، فنفى –سبحانه- المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا

_ 1 سورة سبأ آية:22، 23. 2 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/144 ,3/244 ,3/247) , والدارمي: المقدمة (52) . 3 البخاري: العلم (99) والرقاق (6570) , وأحمد (2/373) . 4 سورة سبأ آية:22، 23.

وبرهانا وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك"، إلى أن قال:"ومن أنواعه –أي الشرك-: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن أن يملك لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد. فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنْزلة مَنْ استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى النقص بالأموات، وهم قد تنقَّصوا الخالق بالشرك به، وأولياءه الموحدين له بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقَّصوا مَنْ أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم يوالونهم عليه. وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرَّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرَّد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، وأخلص قصده لله متبعا لأمره متطلبا لمرضاته. إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله وبالله ومع الله". انتهى. فرحم الله هذا الإمام وشيخه فلقد بينا حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله.

وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 1 ولم يقل: فاسألني أو استعن بي. فقصر السؤال والاستعانة على الله الذي لا يستحقه سواه، كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2. فمن صرف ذلك لغير الله فقد عصى الله ورسوله، وأشرك بالله. وللمعترض كلام ركيك لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه، وإنما نتتبع من كلامه ما يحتاج إلى رده وإبطاله كجنس ما تقدم. طلب الشفاعة ممن لا يملكها كالأموات شرك بالله واعلم أنه قال- لما ذكر قول المجيب-: إنه لا يجتمع الإيمان بالآيات المحكمات، وتلك الأبيات لما بينهما من التنافي والتضاد. قال المعترض أقول: يجتمعان بأن يفرد الله بالعبادة، ولا يقدح فيه تشفُّعُه بأحبابه إليه، وكيف يحكم عليه بالضلال بمجرد طلبه الشفاعة ممن هو أهل لها كما في الحديث: "أنا لها، أنا لها" 3، ومعلوم أن الضلال ضد الحق؟ (فالجواب) : لا يخفى ما في كلامه من التخليط والتلبيس والعصبية المشوبة بالجهل المركب، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. وقد بينا فيها تقدم أن دعوة غير الله ضلال، وأن اتخاذ الشفعاء الذي أنكره الله تعالى إنما هو بدعائهم والالتجاء إليهم والرغبة إليهم فيما أراده الراغب منهم من الشفاعة التي لا يقدر عليها إلا الله، وذلك ينافي الإسلام والإيمان بلا ريب؛ فإن طلبها من الأموات والغائبين طلب لما لا يقدر عليه إلا الله، وهو خلاف لما أمر الله به تعالى، وارتكاب لما نهى عنه كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4 الآية، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 5 الآية، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 6. فطلب الشفاعة من النبي

_ 1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . 2 سورة الفاتحة آية: 5. 3 البخاري: التوحيد (7510) , ومسلم: الإيمان (193) . 4 سورة يونس آية: 18. 5 سورة الإسراء آية: 56. 6 سورة الزمر آية: 3.

صلى الله عليه وسلم أو غيره بعد وفاته وبعده عن الداعي، لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- وشيخه -رحمه الله تعالى- وصرَّحا بأنه شرك، وللعلامة من أبيات في المعنى، وهي قوله: والشرك فهو توسل مقصوده الز ... لفى من الرب العظيم الشان بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثان والناس في هذا ثلاث طوائف ... ما رابع أبدا بذي إمكان إحدى الطوائف مشرك بإلهه ... فإذا دعاه دعا إلها ثاني هذا وثاني هذه الأقسام ذ ... لك جاحد يدعو سوى الرحمان هو جاحد للرب يدعو غيره ... شركا وتعطيلا له قدمان هذا وثالث هذه الأقسام خير ... الخلق ذاك خلاصة الإنسان يدعو إله الحق لا يدعو ولا ... أحدا سواه قط في الأكوان يدعوه في الرغبات والرهبات وال ... حالات من سر ومن إعلان وقد أنكر الله ذلك الدعاء على من زعم في الرسل والملائكة ذلك كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وأمه وعزيرا والملائكة، فأنكر الله ذلك، وقال: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في إنكار دعوتهم هم من أوليائه وأحبائه، وقد تقدَّم أن الدعاء وجميع أنواع العبادة

_ 1 سورة الإسراء آية: 56.

وكيف يتصور أفراده بالعبادة وقد جعل له العبد ملاذا ومفزعا سواه؟ فإن هذا ينافي الإفراد، فأين ذهب عقل هذا وفهمه؟! ‍‍‍‍‍ قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". انتهى. وقد تبين أن الدعاء مخ العبادة، وهو مما يحبه ويأمر به عباده، وأن يخلصوه له، وقد تقدم من الآيات ما يدل على ضلال من فعل ذلك وكفره. وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض: أن الشفاعة المنفية إنما هي في حق الكفار. (فنقول) : فمن اتخذ معبودا سوى الله يرجوه أو يخافه فقد كفر، وتأمَّل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1 فبيَّن تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يُدْعَى من دون الله، وأن مَنْ دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الإلهية، والقرآن من أوله إلى آخره يدل على ذلك، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الملحدين محجوبون عن فهم القرآن، كما حُجِبُوا عن الإيمان بجهلهم وضلالهم وإعراضهم عما أنزل الله في كتابه من بيان دينه الذي رضيه لنفسه ورضيه لعباده. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-:" وحقيقة التوحيد أن يعبد الله وحده ولا يدعى إلا هو، ولا يخشى ولا يتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، وأن لا تتخذ الملائكة والنبيون أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ؟! ‍‍‍‍‍‍‍ فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع غيبته وموته، ويستغاث به، ويطلب منه الحوائج، كان مشبها بالله، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله". انتهى. تعليم النبي – صلّى الله عليه وسلّم - ابن عباس الدعاء وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس -رضي الله عنهما-: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" 2، فلو جاز أن يسأل صلى الله عليه وسلم، لما قصر سؤاله

_ 1 سورة النحل آية: 20: 22. 2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) .

واستعانته على الله وحده، وابن عباس من أحق الناس بأن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة، فلو جاز صرف ذلك لغير الله لقال: واسألني واستعن بي، بل أتى صلى الله عليه وسلم في مقام الإرشاد والإبلاغ والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال، والاستعانة على الله –تعالى-. فأين ذهبت عقول هؤلاء الضُّلال عن هذه النصوص؟ والله المستعان. وقال الشيخ –رحمه الله تعالى-: واعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكل عابد سائل، فكل سائل: عابد، وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه. وإذا جمع بينهما؛ فإنه يراد بالسائل الذي يطلب لجلب المنفعة ودفع المَضَرّة بِصِيَغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد: من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن هناك صيغة سؤال، ولا يتصور أن يخلو داعٍ لله؛ دعاء عبادة أو دعاء مسألة، مِنَ الرَّغَب والرَّهَبِ والخوف والطمع. انتهى. فتبين أن أبيات البُرْدَةِ التي قدمنا الكلام عليها: تنافي الحق وتناقضه. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ الفتنة بالعالم الفاجر والعابد الجاهل أضر من كل فتنة وقول المعترض: لا سيما، والناظم على جانب عظيم من الزهد والورع والصلاح؛ بل وله يد في العلوم، كما حكى ذلك مترجموه. وهذا صار كله هباء منثورا؛ حيث لم يرضوا عنه. (أقول) : هذه دعوى تحتمل الصدق والكذب. والظاهر أنه لا حقيقة لذلك فإنه لا يعرف إلا بهذه المنظومة فلو قدر أن لذلك أصلا فلا ينفعه ذلك مع تلك الأبيات، لأن الشرك يحبط الأعمال كما قال تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقد صار العمل مع الشرك هباء منثورا. قال سفيان بن عيينة: "احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون". فإن كان في الرجل عبادة فقد فتن بأبياته كثيرا من الجهال، وعبادته -إن كانت- لا تمنع كونه ضالا؛ كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة. قال سفيان ابن عيينة: "من فسد

_ 1 سورة الأنعام آية: 88.

من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى". فالواجب علينا أن نبين ما في كلامه مما يُسْخِطُ الله ورسوله من الشرك والغلو. وأما هذا الشخص وأمثاله ممن قد مات، فيسعنا السكوت عنه؛ لأنا لا ندري ما آل أمره إليه، وما مات عليه، وقد عرفت أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه. حجة الجاهلين منامات وحكايات مجهولة عن مجهول وأهل الغلو والشرك ليس عندهم إلا المنامات والأحوال الشيطانية التي يحكيها بعضهم عن بعض؛ كما قال لي بعض علماء مصر: إن شيخًا مشى بأصحابه على البحر وقال: لا تذكروا غيري، وفيهم رجل ذكر الله، فسقط في البحر، فأخذ بيده الشيخ فقال: ألم أقل لكم لا تذكروا غيري! فقلت: هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سَدَنة الأوثان. أو أنها حال شيطانية. وأسألك أيها الحاكي لذلك: أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله؟ فأقَرَّ، وقال: لا حجة فيها على ذلك. والمقصود أنه ليس عند الغلاة من الحجة إلا ما زَخْرَفُوهُ أو حَرَّفُوهُ أو كذبوه، وأما قال الله قال رسوله: فهذا –بحمد الله- كله عليهم لا لهم، وما حرفوه من ذلك: رُدَّ إلى صحيح معناه الذي دل عليه لفظه مطابقةً وتضمنًا والتزامًا، قال الله –تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1. وذكر المعترضُ حكايةً، يقول: عن غير واحد من العلماء العظام- أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تُنْشَد بين يديه- إلى قوله- لكن للخصم منع ذلك كله، بقوله: إنهم كفار. (فالجواب) أن يقال: ليس هذا وجه المنع، وإنما وجهه أنها حكاية عن مجهول، وهذا من جنس إسناد الأكاذيب؛ فلو قيل: من هؤلاء العظام؟ وما أسماؤهم؟ وما زمنهم؟ وما طبقتهم؟ لم يُدْرَ عنهم، وأخبار المجهولين: لا تُقْبَلُ، شهادةً ولا روايةً يقظةً، فكيف إذا كانت أحلامًا؟ والمعترض كثيرا ما يحكي عن هيان بن بيان.

_ 1 سورة الأنعام آية: 112.

ثم قال المعترض- على قول المجيب: وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنعٌ شرعًا وعقلا، قال المعترض- من أين هذا الامتناع؟ وما دليله من العقل والسمع؟ (فالجواب) أن يقال: معلوم أن دليله من الجهتين لا تعرفه أنت، ومن كان مثلك، وإنما معرفتك في اللجاج، الذي هو كالعجاج الذي يحوم في الفجاج، أما دليله من السمع: فقد تقدم في آيات الزُّمَر ويونس وغيرها، وقد بسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته؛ فليرجع إليه. وأما دليله من العقل: فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل: بأن النجاة والسعادة والفلاح، وأسباب ذلك كله لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله –تعالى- وحده، وإخلاص الدعاء والالتجاء له وإليه؛ لأن الخير كله بيديه، وهو القادر عليه. تسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء، كما قال تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1، فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2. فالذي له الخلق والأمر والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقيرٌ إليه لا يَستغني عنه طرفة عين، هو الذي يستحق أن يُدْعَى وَيُرْجَى ويُرْغَبُ إليه، وَيُرْهَبُ منه، ويُتَّخَذَ مَعَاذًا ومَلاذًا، ويُتَوَكَّلُ عليه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 3. التوكل على الله جماع الإيمان وقال المفسرون المحققون السلفيون المتَّبِعُون في قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4 أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه. ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب؛ ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان. ذكره العماد ابن كثير في تفسيره. ولْيُتَأَمَّل ما ذكره الله –تعالى- عن صاحب يس من قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ

_ 1 سورة فاطر آية: 13. 2 سورة النحل آية: 17. 3 سورة فاطر آية: 15. 4 سورة الأنفال آية: 2.

آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُون ِإِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1 فهذا دليل فطري عقلي سمعي. الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما ليس إلا لله –تعالى- وحده وأما قول المعترض: إن قول الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم: أن "من" بيانية. (فالجواب) : أنه ليس كما قال؛ بل هي تبعيضية، ثم لو كانت بيانية فما ينفعه، والمحذور بحاله، وهو أنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وقد صَرَّحَ المعترضُ بذلك فقال: ولا شك أنه أوتي علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون. (فالجواب) : هذه مُصادمة لما هو صريح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما ليس إلا لله –تعالى- وحده، كذلك علم الأولين والآخرين ليس إلا لله وحده، إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 2. فالرجل في عمًى عن قول الله –تعالى-: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 3. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4 وقد تقدم لهذه الآيات نظائر. اختص الله –تعالى- بعلم الغيب كله فإحاطة العلم بالموجودات والمعدومات التي وجدت أو ستوجد، لله وحده لم يجعل ذلك لأحد سواه، وقال –تعالى-: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} 5 فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} 6. وأمثال هذه الآيات مما يدل على أن الله –تعالى- اختص بعلم الغيب كله إلا ما استثناه بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 7 و"من" تبعيضية ههنا بلا نزاع. وقد قال الخضر لموسى -عليهما السلام -: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا

_ 1 سورة يس آية: 23. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة البقرة آية: 255. 4 سورة الطلاق آية: 12. 5 سورة الأعراف آية: 187. 6 سورة النازعات آية: 42. 7 سورة البقرة آية: 255.

كما نقص هذا العصفور من هذا البحر"، فتأمل هذا وتدبر! كذب المعترض على أهل العلم ما لم يقولوه في معنى مفاتيح الغيب وأما قول المعترض وتأويله لقول الله –تعالى-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} 1، فتأويلٌ فاسدٌ، ما قاله أحد غيره؛ ولا يقوله مسلم من أنه يعلم الغيب بتعليم الله له، والمنفي في الآية: أن يعلمه بنفسه بدون أن يُعْلِمَهُ الله ذلك، فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل، وما أجهله بالله وبكتابه! (فيقال في الجواب) : لا ينفعك هذا التأويل الفاسد؛ إذ لو كان يعلم أحد جميع الغيب بتعليم الله؛ لصدق عليه أن يقال: هذا يعلم الغيب كله الذي يعلمه الله، فما بقي على هذا -لقصر علم الغيب على الله- في هذه الآية معنى، وحصل الاشتراك، نعوذ بالله من الافتراء على الله، وعلى كتابه، وخرق ما لم ينْزل الله به سلطانا. وأما قوله في قول الناظم: إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي إن الأخذ باليد بالشفاعة. (فالجواب) : أن حقيقة هذا القول وصريحه: طلب ذلك من غير الله، فلو صح هذا الحمل فالمحذور بحاله، لما قد عرفتَ من أن الاستغاثة بالأموات والغائبين والاستشفاع بهم في أمر هو في يد الله ممتنعٌ حصوله لكونه تأليها وعبادة. وقد أبطله القرآن، فهذا المعترِض الجاهل يدور على منازعة الله في حقه وملكه وشمول علمه، والله يجزيه بعمله. وأما قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} 2 فقيل: المراد بها: الخمس المذكورة في سورة لقمان. وهذا قبل أن يُطْلِع الله نبيه عليها، وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله –تعالى- حتى علَّمه كل شيء حتى الخمس. (فالجواب) : انظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد، كيف اقتفى أثر صاحب الأبيات في جميع ما اختلقه وافتراه، وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم في قوله: ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله حتى علَّمه كل شيء حتى الخمس؟ فحاشا أهل

_ 1 سورة النمل آية: 65. 2 سورة الأنعام آية: 59.

العلم الذين يعرفون بأنهم أهل العلم من هذه المقالة، وعامة أهل العلم بل كلهم على خلاف ما ادعاه سلفًا وخلفًا. قول أهل العلم في معنى مفاتيح الغيب قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- في تفسيره الكبير الذي فاق على أكثر التفاسير: ابتدأ –تعالى- ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة فقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 1 التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} 2 من السماء لا يقدر على ذلك أحدٌ غيره {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} 3، أرحام الإناث {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} 4، يقول: وما تعلم نفس حي ماذا تعمل في غد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 5، يقول: وما تعلم نفس حي بأيِّ أرضٍ تكون ميتتها، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 6، يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كل أحد سواه، وذكر بسنده عن مجاهد: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 7. قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال امرأتي حبلى: فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينْزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فمتى أموت؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 8 إلى آخر السورة. قال: فكان مجاهد يقول: هن مفاتح الغيب التي قال الله –تعالى-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} 9. وأخرج بسنده عن قتادة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 10 الآية: خمس من الغيب استأثر الله بهن، فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا. وبسنده عن عائشة -رضي الله عنها- "من قال إن أحدا يعلم الغيب إلا الله فقد كذب" وأعظم الفِرْيَة على الله، قال الله -تعالى-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} 11. وبالسند عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله" 12 {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ

_ 1 سورة لقمان آية: 34. 2 سورة لقمان آية: 34. 3 سورة لقمان آية: 34. 4 سورة لقمان آية: 34. 5 سورة لقمان آية: 34. 6 سورة لقمان آية: 34. 7 سورة لقمان آية: 34. 8 سورة لقمان آية: 34. 9 سورة الأنعام آية: 59. 10 سورة لقمان آية: 34. 11 سورة النمل آية: 65. 12 البخاري: الجمعة (1039) , وأحمد (2/52) .

أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1. ثم قال: "لا يعلم أحد ما في غد إلا الله، ولا يعلم أحد متى ينْزل الغيث إلا الله، ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله، ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله" 2. وبسنده عن مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب" ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا يعلمهن إلا الله" 4 {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 5 انتهى ما ذكره ابن جرير -رحمه الله تعالى-. وذكر البغوي في تفسيره حديث ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهما- المتقدم ثم قال: وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب خزائن الأرض، وقال عطاء ما غاب عنكم من الثواب، وقيل: انقضاء الأجل، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل ما لم يكن بعدُ، أنه يكون أم لا يكون، وما لا يكون كيف يكون، وما لا يكون، إن لو كان كيف يكون انتهى. قول السلف في مفاتيح الغيب (قلت) : ولا يُعْرَفُ عن أحد من أهل العلم خلافُ ما دلت عليه هذه الآيات المُحْكَمَات، ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزله الله في كتابه، وما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء عليه، فإن الله استأثر بعلمه عن خلقه ووصف نفسه بأنه علام الغيوب، ونعوذ بالله من حال أهل الافتراء والتكذيب. لا أحد يكفر أحدا مات وظاهره الإسلام وأما قوله: ولو أن عبارات أهل العلم مثل البيضاوي وأبي السعود والقسطلاني وأمثالهم تُجْدِي لديكم شيئا لذكرناها، لكنها تُمْحَى بلفظة واحدة وهي: أنهم كلهم كفار. انظر كيف خرج به البغض والتعصب لمذهبه وهواه إلى البُهْت البحت؛ فلا يقبل منهم أحدا، ومَن هذا حاله، فلا حيلة به.

_ 1 سورة لقمان آية: 34. 2 البخاري: تفسير القرآن (4697) , وأحمد (2/24 ,2/52 ,2/58 ,2/85 ,2/122) . 3 سورة لقمان آية: 34. 4 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) والفتن (4044) , وأحمد (2/426) . 5 سورة لقمان آية: 34.

(فالجواب) : أنه ليس للبيضاوي، ومن ذكر، عبارةٌ تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات، ومعاذ الله أن يقول المجيب: إن هؤلاء كفار، ولا يوجد عن أحد من علماء المسلمين أنه كَفَّرَ أحدًا قد مات من هذه الأمة ممن ظاهره الإسلام، فلو وجد في كلامه زلة من شرك أو بدعة، فالواجب التنبيه على ذلك والسكوت عن الشخص؛ لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته. وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين فإنهم من المتأخرين الذين نشؤوا في اغتراب من الدين. عيوب الكشاف والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام المُخَالِفَة لما عليه السلف وأئمة الإسلام من: الإرجاء، ونفي حكمة الله، وتأويل صفات الله -تعالى- وسلب معانيها ما يقارب ما في كشاف الزمخشري والإرجاء والجبر يقابل ما فيه من نفي القدر، وكلاهما في طَرَفَيْ نَقِيضٍ، وكُلٌّ خَالَفَ ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك. ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدمُ من هؤلاء الثلاثة، وأرسخ قدما منهم في فنون من العلم، ومع هذا فقد قال شيخ الإسلام البلقيني: استخرجتُ ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش، وقال أبو حيان -وقد مدح الكشاف وما فيه من لطيف المعنى ثم- قال: ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا ... ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا وينسب إبداء المعاني لنفسه ... ليوهم أغمارا وإن كان سارقا ويُسهِبُ في المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا يُقَوِّلُ فيها اللهَ ما ليس قائلا ... وكان مُحِبا في المخاطب وامقا ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضايقا إلى أن قال-: لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يُرَى للكافرين مرافقا

فإذا كان هذا في تفسير مشهور، وصاحبه معروف بالذكاء والفهم، فمَن دونه من المتأخرين أولى بأن لا يُتَلَقَّى من كلامه بالقبول إلا ما وافق تفسير السلف، وقام عليه الدليل. أفضل كتب التفاسير وهذا المعترض من جهله يحسب أن كل بيضاء شحمة، يُعَظِّم المفضولَ من الأشخاص والتصانيف، ولا يعرف ما هو الأفضل. ولو كان له أدنى مِسْكَة من فهم، ومعرفة للعلماء ومصنفاتهم: لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثلاثة التي نقلنا منها: تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد إسماعيل بن كثير. فهذه أجلّ التفاسير، ومُصَنِّفُوهَا أئمةٌ مشهورون، أهل سنة ليسوا بجهمية، ولا معتزلة ولا قَدَرية ولا مجبرة، ولا مرجئة بحمد الله. وأكثر ما في هذه التفاسير: الأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة، وأقوال التابعين وأتباعهم، فلا يَرغب عنها إلا الجاهلون الناقصون المنقوصون، والله المستعان. والمصنِّفُون في التفسير وغيره- غير ما ذكر المعترض- كثيرون، وأحسن من البيضاوي وأبي السعود: البحر لأبي حيان؛ لأنه كثيرا ما ينقل في تفسيره عن السلف والأئمة، وكذلك تفسير الخازن. وبالجملة فمن كان من المصنفين أبعدُ عن تقليد المتكلمين وذِكْر عباراتهم؛ ويعتمد أقوال السلف، فهو الذي ينبغي النظر إليه والرغبة فيه. وعلى كل حال، فليس في تفسير البيضاوي وأبي السعود وشرح القسطلاني ومواهبه ما ينفع هذا الجاهل المفتري، وَكُلٌّ يُؤْخَذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدوث الشرك والبدع والفرقة في الأمة وقول المعترض على قول المجيب: علماؤهم شَرُّ مَنْ تحت أديم السماء، فيقال: قد ورد هذا الحديث في أهل العراق، فهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفار مجوس، أو فيما يأتي فهذه شَنَاعَةٌ على غالب علماء الأمة، ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وأمثالهم.

(فالجواب) : أن هذا كلام مَن لا يعقل ولا يفهم شيئا ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة وأهل البدعة والضلالة؛ ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "لا تقوم الساعة حتى يعبد فِئَامٌ من أمتي الأوثان، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" 1 رواه البرقاني في صحيحه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن أمته ستفترق كما افترقت اليهود والنصارى فاليهود افترقت على إحدى وسبعين، والنصارى على ثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة؛ وهي الجماعة" 2. وأول من فارق الجماعة في عهد الصحابة -رضي الله عنهم-: الخوارج قاتلهم علي رضي الله عنه بالنَّهْروان. والقدرية في أيام ابن عمر وابن عباس، وأكثر الصحابة موجودون، ومن دعاتهم معبد الجهني وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك. كذلك الغُلاة في عليٍّ الذين خدّ لهم علي الأخَادِيد وحَرَّقَهم بالنار، منهم المختار بن أبي عبيد الذي قتله مصعب بن الزبير، ادعى النبوة، وتبعه خلق كثير. ثم ظهرت فتنة الجهمية، وأول من أظهرها الجعد بن درهم قتله خالد بن عبد الله القسري، والصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون والأئمة متوافرون وقتَ ظهور مبادئ هذه البِدَع، لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شناعة ولا غضاضة؛ لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة، منكرون لما خالف الحق. لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه وصح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقَوْا ربكم" 3 سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. وظهرت بدعة جهم بن صفوان في زمن أبي حنيفة، وأنكرها وناظرهم. وانتشرت في زمان الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- والفقهاء وأهل الحديث. وامتُحِنَ الإمام أحمد فتمسك بالحق وصبر. وصَنَّفَ العلماء -رحمهم الله تعالى- المصنفات الكبار في

_ 1 مسلم: الإمارة (1920) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/278) . 2 ابن ماجه: الفتن (3993) , وأحمد (3/120 ,3/145) . 3 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/132 ,3/177 ,3/179) .

الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن، المعطلين لصفات الملك الديان، كالإمام أحمد في رده المعروف، وابنه عبد الله، وعبد العزيز الكناني في كتابه "الحيدة" وأبي بكر الأثرم والخَلال وعثمان بن سعيد الدارمي، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني، وقبلهم وبعدهم ممن لا يُحْصَى، وهذا كله إنما هو في القرون الثلاثة المفضلة. ثم بعدها ظهرت كل بدعة: بدعة الفلاسفة، وبدعة الرافضة، وبدعة المعتزلة، وبدعة المجبرة، وبدعة أهل الحلول، وبدعة أهل الاتحاد، وبدعة الباطنية الإسماعيلية، وبدعة النُّصَيْرِيَّة والقرامطة ونحوهم. رد أهل السنة للبدع وأشهر أئمتهم في ذلك وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله. فالأئمة متمسكون بالحق في كل زمان ومكان، والبلد الواحد من هذه الأمصار يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة، وهؤلاء يناظرون هؤلاء ويُنَاضِلُونَهُم بالحُجَج والبراهين، وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم إنها تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يَصْلُحُونَ إذا فسد الناس" 2، وفي رواية "يُصْلِحُونَ ما أفسد الناس" 3. وقد صنف العلماء -رحمهم الله تعالى- في بيان الثنتين والسبعين الفرقة عدة مصنفات، وبيَّنُوا ما انْتَحَلَتْهُ كل فرقة من بدعتها المخالفة لما عليه الفرقة الناجية، وليس على الفرقة الناجية شناعة ولا نقص في مخالفة هذه الفرق لها. وإنما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق، وصبرها على مخالفة هذه الفِرَق الكثيرة، والاحتجاج بالحق ونصرته. وما ظهر فضل الإمام أبي حنيفة، والإمام أحمد، ومن قبلهما من الأئمة

_ 1 مسلم: الإيمان (50) . 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 3 الترمذي: الإيمان (2630) .

ومن بعدهما إلا بتمسكهم بالحق ونُصْرته وردهم الباطل. وما ضر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- وأصحابه حين أجلب عليهم أهل البدع وآذوهم؛ بل أظهر الله بهم السنة، وجعل لهم لسان صدق في الأمة. وكذلك من قبلهم ومن بعدهم، كشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- لما دعا إلى التوحيد وبَيَّنَ أدلته، وَبَيَّنَ الشركَ وما يبطله. وفيه قال الإمام العلامة الأديب أبو بكر حسين بن غنام -رحمه الله تعالى-: وقد كان مسلوكا به الناسُ ترتع وعاد به نهج الغواية طامسا ... وحق لها بالألمعي تَرَفّع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وأنواره فيها تضيء وتسطع فآثاره فيها سوام سوافرفهذا المعترض لو تصور وعقل لتبينَ له أن ما احتج به ينقلب حجة عليه. ظهور الفتن والبدع في كل بلد لا يختص بها قطر وقول المعترض: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان، ولو قيل: إن هذا الحديث وأمثاله ورد في ذم نجد وأهلها، فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذابهم إلى يوم القيامة". (فالجواب) أن نقول: الأحاديث التي وردت في غربة الدين وحدوث البدع وظهورها؛ لا تختص بمكة والمدينة، ولا غيرهما من البلاد، والغالب أن كل بلد لا يخلو من بقايا متمسكين بالسنة، فلا معنى لقوله: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، والواقع يشهد لما قلنا. وقد حدث في الحرمين في أواخر عهد الصحابة -رضي الله عنهم- بل وفي وقت الخلفاء الراشدين ما هو معروف عند أهل العلم مشهور في السير والتاريخ: وأول ذلك مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وقعة الحرة

المشهورة، ومقتل ابن الزبير في مكة، وما جرى في خلال ذلك من الفتن، وصارت الغلبة في الحرمين وغيرها لأهل الأهواء. فإذا كان هذا وقع في خير القرون، فما ظنك فيما بعدُ، حين اشتدت غربةُ الإسلام، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟ نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يُقَدِّسُ المرءَ عملُهُ وأما قوله: إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان. (فالجواب) : أن نقول: مهبط الوحي في الحقيقة: قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 1. وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} 2، فهذا محل الوحي ومستقره. وقوله: "ومنبع الإيمان". الإيمان ينْزل به الوحي من السماء لا ينبع من الأرض، ومحله قلوب المؤمنين، وهذه السور المكية في القرآن معلومةٌ -التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر من في مكة المشركون- وفيها ذمهم والردُّ عليهم؛ كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} 3، وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} 4، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 5، ونحو هذه الآيات، كما في فصلت والمدثر وغيرهما. ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وأهل الشرك لم يزالوا بها، ومنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخولها بالوحي، وقاتلوهم ببدر وأحد والخندق، وهم كانوا آخر العرب دخولا في الإسلام، حاشا مَنْ هاجر. وكل هذا بعد نزول الوحي. ونحن -بحمد الله- لا ننكر فضل الحرمين، بل ننكر على من أنكره، ولكن، نقول: الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يُقَدِّسُ المرءَ عملُهُ، فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر، وأهل الحق وأهل الباطل كما تقدم. فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في المحل الفاضل لكثرة ثوابه، وأهل الباطل لا يزيدهم ذلك إلا شرا، تعظم فيه

_ 1 سورة الشعراء آية: 193. 2 سورة العنكبوت آية: 49. 3 سورة الأنعام آية: 66. 4 سورة الأنعام آية: 26. 5 سورة الأنعام آية: 33.

سيئاتهم؛ كما قال –تعالى- في حرم مكة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1. فإذا كان هذا الوعيد في الإرادة، فعمل السوء أعظم، فالمعول عليه هو الإيمان والعمل الصالح، ومحله: قلب المؤمن، والناس مَجْزِيُونَ بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. الحديث في فتن نجد إنما يظهر في نجد المدينة وهو العراق وقوله: ولو قيل: إن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها إلى آخره. (فأقول) : الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد، كقوله صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في يَمَنِنَا، اللهم بارك لنا في شامنا" 2 قالوا: وفي نجدنا، قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" 3 قيل: إنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نَجْدَ الحجازِ، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث. فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن ما لم يَجْرِ في نجد الحجاز، يعرف ذلك مَنْ له اطلاع على السير والتاريخ، كخروج الخوارج بها، الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده. وعلى كل حالٍ، فالذمُّ يكون في حالٍ دون حالٍ، ووقتٍ دون وقتٍ بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل؛ وإن كانت الأماكن تتفاضل، وقد تقع المُدَاولة فيها؛ فإن الله يداول بين خلقه حتى في البقاع، فمحل معصية في زمن؛ قد يكون محل طاعة في زمن آخر وبالعكس. وأما قول المعترض: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذابهم". (فالجواب) : هذا من جملة كَذِبِهِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله بالعلم لا يميز

_ 1 سورة الحج آية: 25. 2 البخاري: الجمعة (1037) , والترمذي: المناقب (3953) , وأحمد (2/90 ,2/118 ,2/124 ,2/126) . 3 البخاري: الجمعة (1037) , والترمذي: المناقب (3953) , وأحمد (2/118) .

بين الحديث وغيره. وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها، وكانوا في مسجد من مساجدها، فسمع منهم كلمة تُشْعِر بتصديق مسيلمة، فأخذهم عبد الله بن مسعود، وقتل كبيرهم ابن النواحة، وقال في الباقين: "لا يزالون في بَلِيَّة من كذابهم"يعني: ذلك النفر، فلا تُذَمُّ نَجْدُ بنَفَرٍ أحدثوا حَدَثًا في العراق. وقد أفنى الله كل من حضر مسيلمة في القرن الأول؛ ولم يبق بنجد من يصدق مسيلمة الكذاب، بل من كان في أواخر عهد الصحابة –رضي الله عنهم- ومن بعدهم بنجد يكفرون مسيلمة ويكذبونه، فلم يبق بنجد من فتنة مسيلمة لا عين ولا أثر. فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه؛ لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة؛ وما ضر المدينةَ سُكْنَى اليهود فيها، وقد صارت مُهَاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وَمَعْقِل الإسلام، وما ذُمَّتْ مكةُ بتكذيب أهلها الرسولَ صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه. رؤيا النبي دار الهجرة وذهاب وهله أنها اليمامة فإذا كان الأمر كذلك فأرض اليمامة لم تَعْصِ الله، وإنما ضَرَّتِ المعصيةُ ساكنيها بتصديقهم كذابهم، وما طالت مدتهم على ذلك الكفر بحمد الله، فَطَهَّرَ الله تلك البلاد منهم، ومن سلم منهم من القتل دخل في الإسلام، فصارت بلادهم بلادَ إسلام، بُنِيَتْ فيها المساجد، وأقيمت فيها الشرائعُ، وعُبِدَ الله فيها في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- وبعدهم. ونَفَرَ كثير منهم مع خالد بن الوليد لقتال العجم، فقاتلوا مع المسلمين، فنال تلك البلاد من الفضل ما نال غيرَها من بلاد أهل الإسلام، على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو بمكة لأصحابه-: "أُرِيتُ دارَ هجرتكم، فوصفها، ثم قال: فذهب وَهَلِي إلى أنها اليمامة أو يثرب" 1. ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وَحْيٌ حَقٌّ، وكفى بهذا فضلا لليمامة وشرفا لها على غيرها، فإن ذهاب وَهَله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر، فظهر ذلك

_ 1 أحمد (6/198) .

وقال مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 1 يعني: لا صاحبة له، وهذا كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2 أي: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظيرٌ يساميه، أو قريبٌ يدانيه؟ تعالى وتقدَّس وتنَزه. (قلت) : فتدبر هذه السورة ما فيها من توحيد الإلهية والربوبية، وتنزيه الله عن الشريك والشبيه والنظير، وما فيها من مجامع صفات كماله ونعوت جلاله، ومَن له بعضُ تصورٍ يدرك هذا بتوفيق الله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. كلام ابن تيمية في شرك القبوريين وأما قول المعترض: على قول المجيب: ونوع الشرك جرى في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أقول: هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام، ولم ينقل عنه فيها كلمة واحدة. (فالجواب) : تقدُّم البردة على زمن شيخ الإسلام إن كان كذلك فماذا يُجْدِي عليه؟ وما الحجة منه على جواز الشرك؟ وأيضا فشهادته هذه على شيخ الإسلام غيرُ محصورة، فلا تُقْبل. وهو لم يطلع إلا على النّزر اليسير من كلام شيخ الإسلام، ولم يفهم معنى ما اطلع عليه، وهو في شِقٍّ، وشيخ الإسلام في شِقٍّ، وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض، لكنه يتعلق في باطله بمثل خيط العنكبوت، فإن كان يقنعه كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- المُؤَيَّد بالبرهان، فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي في تمييز الحق من الباطل. وكلامه -رحمه الله تعالى- في أكثر كتبه يُبَيِّنُ هذا الشركَ ويُنكره ويَرده، كما قد رد على البكري حين جَوَّزَ الاستغاثة بغير الله. ولا يشك مَن له أدنى مِسْكَة من عقلٍ وفهمٍ أن كلام صاحب البُرْدَة داخلٌ تحت كلام شيخ الإسلام في الرد عليه والإنكار

_ 1 سورة الإخلاص آية: 4. 2 سورة الأنعام آية: 101. 3 سورة النور آية: 40.

وأنا أُورِدُ هنا جوابًا لشيخ الإسلام عن سؤالِ مَن سأله عن نوع هذا الشرك وبعض أفراده، فأتى بجواب عام شامل، كافٍ وَافٍ. آيات القرآن في أن دعاء غير الله شرك قال السائل: ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور، ويطلب منهم إزالة الألم، ويقول: يا سيدي أنا في حسبك، وفيمن يستلم القبر، ويمرغ وجهه عليه، ويقول قضيت حاجتي ببركة الله، وبركة الشيخ، ونحو ذلك؟ (الجواب) : الحمد لله رب العالمين، الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو: عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1 الآيات. وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2، وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 4 الآيات. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة، فكيف بمن دونهم؟. قال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} 5 الآية. وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 6. فبيَّنَ سبحانه أن مَن دُعِيَ من دون الله من جميع المخلوقات: الملائكة، والبشر، وغيرهم، أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 7، وأنه ليس له عَوْنٌ، كما يكون للملك أعوان وظهراء، وأن الشفعاء لا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى، فنفى بذلك وجوه الشرك

_ 1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة الجن آية: 18. 3 سورة غافر آية: 65. 4 سورة الإسراء آية: 56. 5 سورة الكهف آية: 102. 6 سورة سبأ آية: 22. 7 سورة التغابن آية: 1.

وذلك أن مَن دُعِيَ من دونه، إما أن يكون مالكا، وإما أن لا يكون مالكا، وإذا لم يكن مالكا، فإما أن يكون شريكا، وإما أن لا يكون شريكا، وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاونًا، وإما أن يكون سائلا طالبا. نفي الشفاعة الشركية فأما الرابع: فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 1، وكما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2. وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُون َقُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وقال: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4 وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 5. وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 6 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 7. فبيَّنَ سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافرا، فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا؟ فلا يجوز أن يقول لملك ولا لنبي ولا لشيخ، سواء كان حيا أو ميتا: اغفر ذنبي، وانصرني على عدوي، أو اشْفِ مريضي، أو ما أشبه ذلك؛ ومن سأل ذلك مخلوقا كائنًا مَن كان، فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال الله –تعالى-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 8 الآية. وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة النجم آية: 26. 3 سورة الزمر آية: 43، 44. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة السجدة آية: 4. 6 سورة آل عمران آية: 79. 7 سورة آل عمران آية: 80. 8 سورة المائدة آية: 116، 117.

ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وإن قال: أنا أسأله؛ لأنه أقرب إلى الله مني؛ ليشفع لي؛ لأني أتوسل إلى الله به، كما يتوسل إلى السلطان بِخَوَاصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم؛ ولذلك أخبر الله عن المشركين، أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وقد قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} 3، إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} . وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 5. فبيَّن الفرق بينه وبين خلقه، فإن من عادات الناس أن يستشفعوا إلى الكبير بمن يَكْرُمُ عليه، فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته إما رغبة، وإما رهبة، وإما حياء، وإما غير ذلك، فالله –سبحانه- لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما يشاء، وشفاعة الشافع عن إذنه، والأمر كله له، فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6. والرهبة تكون منه، قال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 7. وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 8. وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا. وقول كثير من الضُّلال: هذا أقرب إلى الله مني، وأنا بعيد منه، لا يمكن أن ندعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك- هو من قول المشركين، فإن الله -تعالى- يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 9. وقد روي أن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنَزلت الآية. وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته، وأمر كُلا منهم أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 10. شبهة من يدعو غير الله ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوتَ هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الزمر آية: 43. 4 سورة السجدة آية: 4. 5 سورة البقرة آية: 255. 6 سورة الشرح آية:7، 8. 7 سورة النحل آية: 51. 8 سورة المائدة آية: 44. 9 سورة البقرة آية: 186. 10 سورة الفاتحة آية: 5.

أو يقدر على إجابة سؤالك، أو أرحم بك من ربك فهذا جهل وضلال وكفر. وإن كنت تعلم أن الله –تعالى- أعلم وأقدر وأرحم؛ فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك، وأعلى منْزلة عند الله منك فهذا حقٌّ أُرِيدَ به باطلٌ، فإنه إذاكان أقرب منك وأعلى درجة فإن معناه أن يثيبه ويعطيه؛ ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوته أنت، فإنك إن كنت مُسْتَحِقًّا للعقاب؛ ورد الدعاء، فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يُبَغِّضُك إليه، وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول منه. فإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب إذا دعوته أنا، فهذا هو القسم الثاني، وهو أن يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له، كما يقال للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي. وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ونحو ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد في ذلك حديث، بل الذي ثبت في الصحيح: أنهم لما أَجْدَبُوا زمن عمر استسقى بالعباس -رضي الله عنهما- فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا "فيسقون، فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله ادع الله، أو استسق لنا، ونحن نشكو إليك ما أصابنا ونحو هذا، ولم يقله أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر، بل ينحرفون فيستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له كما كانوا يدعونه في سائر البقاع. لعن متخذي القبور مساجد وفي الموطأ وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعْبَدُ؛

اشتد غضبُ الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1؛ وفي السنن أيضا أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" 2. وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 3 يحذر ما فعلوا. قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولولا ذلك؛ لأبرِزَ قبرُهُ، لكن خُشِيَ أن يتخذ مسجدا، وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج" 4. ولهذا قال العلماء: لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن يُنْذَر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئا، لا من دراهم ولا زيت، ولا شمع ولا حيوان، ولا غير ذلك كله نذر معصية، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عند القبور، وفي المشاهد مستحبةٌ، ولا أن الدعاء هناك أفضل، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد، وفي البيوت أفضل من الصلاة عند قبر، لا قبر نبي ولا صالح؛ سواء سُمِّيَتْ مشاهد أم لا. وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} 5، ولم يقل في المشاهد، وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 6، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 7 الآية. وذكر البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 8، قالوا: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما. فالعكوف على القبور، والتمسح بها، وتقبيلها، والدعاء عندها هو أصل الشرك، وعبادة الأوثان، ولهذا اتفق العلماء على أنَّ من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين؛ فإنه لا يَتَمَسَّح به ولا يقبِّله. وليس في الدين ما شُرِعَ تقبيلُهُ إلا الحجر الأسود

_ 1 مالك: النداء للصلاة (416) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 3 البخاري: المغازي (4441) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 4 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . 5 سورة البقرة آية: 114. 6 سورة الأعراف آية: 29. 7 سورة التوبة آية: 18.

وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ولهذا لا يُسَنُّ أن يقبل الرجل ويستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر، ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين. اهـ. كراهة السلف لتعظيم القبور والاستغاثة بالموتى وقال –رحمه الله تعالى- في الرد على البكري، بعد كلام له سبق-: لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر، نبيا كان أو غير نبي، كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين: (إحداهما) : أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. (والثانية) : أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه ... إلى أن قال: وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا وأن يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره، أو لم يكن عند قبره، بل نقول: سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غير نبي، من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به، ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين، فإن أحدا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة لميت-: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي

صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها، بل ولا أقسم بمخلوق على الله أصلا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا قبور غير الأنبياء، ولا الصلاة عندها. وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. ليس لسؤال الموتى تأثير في الإجابة وأما ما يُرْوَى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف: الترياقُ المُجَرَّب، وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره. وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة فاستغث بي، أو قال استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم؛ ولكن هذه الأمور كلها بدعٌ محدثةٌ في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة، وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثةٌ في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1 يحذر ما فعلوا- قالت عائشة –رضي الله عنها-: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وثبت في الصحيح عنه أنه قال -قبل أن يموت بخمس-: " إِنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك" 2. وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فَيُسْقَوْنَ. فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس وكان توسلهم به توسلا بدعائه، كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل -عن ميت من الأنبياء والصالحين-: اللهم أني أسألك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، فهذا لم يُنْقَل لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا التابعين؛ وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، فكيف يقول القائل للميت: أنا أستغيث بك وأستجير بك، وأنا في حسبك، أو سل لي الله، ونحو ذلك؟

_ 1 البخاري: المغازي (4441) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .

فتبيَّن أن هذا ليس من الأسباب المشروعة، لو قُدِّرَ أن له تأثيرا، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح؟ الأنبياء والصالحون لم يُعْبَدُوا إلا بعد موتهم وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت من تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضتْ له أحيانا بعضَ حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام، فإن أحدا من الأنبياء والصالحين لم يُعْبَد في حياته؛ إذ هو يَنْهَى عن ذلك. وأما بعد الموت فهو لا يقدر أن ينهى؛ فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا يُعْبَد. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا.. إلخ" 1 وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعْبَد" 2. وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} 3 الآية: إن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم؛ ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد. انتهى ملخصا. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير أنه رأى قوما يمسحون المقام فقال: لَم تُؤْمَرُوا بهذا، إنما أُمِرْتُم بالصلاة عنده. وأخرج عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قول الله –تعالى-: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} 4 قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة أشياء ما تكلفته الأمم قبلها. فإذا كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام؛ فهذا صريح كلامه المُؤَيَّد بالأدلة والبراهين. وكلام العلماء كمثل كلام شيخ الإسلام في هذا المعنى كثيرٌ جدا، لو ذكرناه لطال الجواب. وأما قول المعترض: بل مدح الصرصري، وأثنى عليه بقوله: قال الفقيه الصالح يحيى بن يوسف الصرصري في نظمه المشهور. (فالجواب) : أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ الإسلام وغيره،

_ 1 أحمد (2/367) . 2 مالك: النداء للصلاة (416) . 3 سورة نوح آية: 23. 4 سورة البقرة آية: 125.

وقد كذب على "الإقناع" و"الشفاء"، وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله. وفي الحديث "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1 وإلا فكلام شيخ الإسلام في رد ما يقوله الصرصري وإنكاره: موجود بحمد الله. قال -رحمه الله تعالى- في رده على البكري بعد وجهين ذكرهما. (الثالث) : أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به، وهذا جائز في حياته، لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما عَلِمْتُهُ يُنْقَلُ عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة، وكمحمد بن النعمان؛ وهؤلاء لهم صلاح ودين، ولكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، وليس معهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مَرْضِي، بل عادة جَرَوْا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وأكثر منه: مَن يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، ويدعو به ويدعو عنده، وهؤلاء ليس لهم مُسْتَنَد شرعي من كتاب، أو سنة، أو قول عن الصحابة والأئمة، وليس عندهم إلا قول طائفة أخرى: قبر معروف: ترياقٌ مجربٌ، والدعاء عند قبر الشيخ مجابٌ، ونحو ذلك، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت، فَرَأَوْهُ قد أتى في الهواء، وقضى بعض تلك الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين، أو الكواكب والأوثان، فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها، وقد تخاطب أحدهم ولا يراها، ولو ذكرتُ ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا لطال المقال. وكلما كان القوم أعظم جهلا وضلالا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر، وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحدا أتاه به فيحسب ذلك كرامة، وإنما هو من الشيطان، وسببُه شركُه بالله، وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة الشيطان، فأضلتهم الشياطين بذلك كما كانت تضل عُبَّاد الأصنام. انتهى ما ذكره شيخ

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3483 ,3484) والأدب (6120) , وأبو داود: الأدب (4797) , وابن ماجه: الزهد (4183) , وأحمد (4/121 ,4/122 ,5/273) .

الإسلام -رحمه الله تعالى- من إنكاره ما في شعر الصرصري وغيره من هذه الأمور الشركية وبيان أسبابها. الفتنة بقصائد المتأخرين في مدح النبي وغيره والاستغاثة بهم وأما قول المعترض: وفيه توسل عظيم، إن لم يزد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه. (فالجواب) : أن هذا من عدم بصيرته وكبير جهله، فإن مَن له أدنى معرفة وفهم يعلم أن بين قول صاحب البردة وقول الصرصري في أبياته تفاوتا بعيدا؛ فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة من قصر الإلهية والربوبية والملك وشمول العلم على عبد شَرَّفَه الله بعبوديته ورسالته، ودعوة الخلق إلى عبادته وحده، وجهاد الناس على ذلك، وبَلَّغَ الأمةَ ما أنزله الله –تعالى- عليه في الآيات المُحْكَمَات من تجريد التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله، كما قدمنا الإشارة إليه. وأما الصرصري ففي كلامه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، لكن لا قصر ولا حصر للاستعانة والاستغاثة في جانب المخلوق، وقد أنكره شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه، ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وقد بيَّن -رحمه الله تعالى- أن استغاثة الحي بالحي إنما هو بدعائه وشفاعته. وأما الميت والغائب فلا يجوز أن يُسْتَغَاثُ به، وكذلك الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأن أهل الإشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى، وعوائد نشؤوا عليها بلا برهان، وقد عرفتَ أن هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهية، وحكايات سوفسطائية، أو منامات تضليلية، كما قال كعب بن زهير: فلا يغرنك ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ ... إن الأماني والأحلام تضليل ... وليس مع هؤلاء المشركين إلا دعوى مجردة مَحْشُوَّة بالأكاذيب، وليس معهم -بحمد الله- دليل من كتاب أو سنة أو قول واحد من سلف الأمة وأئمتها،

وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة، وما عليه الصحابة والأئمة، ولو استقصينا ذكر الأدلة، وبسط القول لاحتمل مجلدا ضخما. وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين كقصائد البوصيري والبرعي، واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وغيرهم من شعراء الصحابة -رضي الله عنهم- وفيها من شواهد اللغة والبلاغة ما لم يُدْرِك هؤلاء المتأخرون منه عُشْرَ المِعْشَار، وما ذاك إلا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله، فَزَيَّنَهَا الشيطانُ في نفوس الجُهَّال والضُلال، فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة التي ليس فيها إلا الحق والصدق، وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَحَرَّوْا فيها ما يرضيه، وتجنبوا ما يُسْخِطهُ صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه من الغلو. فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفاء بن عقيل- وهو في القرن الخامس: "لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطَّغَام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ... إلا آخره. مقصود زيارة الموحدين للقبور ومما يتعين أن نختم به هذا الجواب: فصل ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه- قال، بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور وأن مقصودها ثلاثة أشياء: (أحدها) : تذكير الآخرة والاعتبار والاتعاظ. (الثاني) : الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به فيتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة، ازداد بذلك سروره وفرحه. ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ويسأل لهم العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم. (الثالث) : إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما الزيارة الشركية، فأصلها مأخوذٌ عن عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قربٌ ومَزِيَّة عند الله –تعالى- لا يزال تأتيه الألطاف من الله –تعالى- وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه، فَاضَ من روح المَزُور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفاتٌ إلى غيره. وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم: كان أقرب إلى الانتفاع به. وقد ذكر هذه الزيارة ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا وتعليق السُّتُور عليها، وإيقاد السُّرُج، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطالَه ومَحْوَهُ بالكلية، وسد الذرائع المُفْضِيَة إليه، فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِقٍّ وهؤلاء في شِقٍّ. وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله، قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوَجِيهِ المُقَرَّب عند الله، وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصالٌ يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله. وشَبَّهُوا ذلك بمن يخدم ذا جاهٍ وحظوةٍ وقُرْبٍ من السلطان، وهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلقَ به بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله؛ وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار. الشفاعة جميعها لله يأذن لمن شاء لمن ارتضى والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم، قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ

قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه؛ ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه؛ فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له. والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره، بعد شفاعته -سبحانه- إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون وَمَن وافَقَهم، وهي التي أبطلها الله -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} 2، وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 3، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4. وأخبر –سبحانه- أنه ليس للعباد شفيع من دونه؛ بل إذا أراد –سبحانه- رحمة لعبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 6. فالشفاعة بإذنه، ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيعٌ من دونه، بل يشفع بإذنه. والفرق بين الشَّفِيعَيْن كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: أشفع في فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد، وخَلَّصُوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله -سبحانه-. قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 7، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 8، فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضى قول المشفوع له، وإذنه للشافع. فأما المشرك فإنه لا يرضاه، ولا

_ 1 سورة الزمر آية: 43،44. 2 سورة البقرة آية: 123. 3 سورة البقرة آية: 254. 4 سورة الأنعام آية: 51. 5 سورة يونس آية: 3. 6 سورة البقرة آية: 255. 7 سورة الأنبياء آية: 28. 8 سورة طه آية: 109.

يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه -سبحانه- علَّقَها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع. فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل، والملائكة المقربون، وهم عبيدٌ محضٌ: لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا من بعد إذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئا. فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشركهم به المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه ظَنًّا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب –سبحانه- وما يجب له ويمتنع عليه، فإن هذا مُحَالٌ ممتنعٌ يشبه قياس الرب –سبحانه- على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم مَن يشفع له عندهم في الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عُبِدَتْ الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي. والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. الفرق بين شفاعة المخلوق إلى الخالق وشفاعته إلى المخلوق فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولا هم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس؛ فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإنْ لم يأذنوا فيها، ولم يرضوا عن الشافع؛ لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم فلا يجدون بُدًّا من قبول شفاعتهم على الكُرْهِ والرضى. فأما الذي غناه من لوازم ذاته، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه لذاته، وكل مَن في السماوات والأرض عبيدٌ له مقهورون؛ لقهره، مُصَرَّفُونَ بمشيئته، لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة. قال تعالى:

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 1؛ وقال في –سيدة آي القرآن- آية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2 وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3، فأخبر أن مُلْكَهُ السماواتِ والأرضَ يُوجِبُ أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محضٌ، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله –سبحانه- في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يفعلها بعضهم مع بعض. ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بإذنه. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أَذِنَ، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع، والذي وَفَّقَهُ لفعل ما يستحق به الشفاعة. شفاعة المخلوق إلى المخلوق لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده وقوله: فَمُتَّخِذُ الشفيع لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومَرْجُوَّه ومخوفه، الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله –سبحانه- للشفيع أن يشفع له، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4. فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن متخذي الشفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم. وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقا ولا أمرا ولا إذنا، بل هو سبب مُحَرِّك له من خارج كسائر الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المحرك؛ لأجله ما يوافقه، كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون

_ 1 سورة المائدة آية: 17. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة الزمر آية: 44. 4 سورة يونس آية: 18.

وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده

عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المُعَارض فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المُعَارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بِمُرَجِّح. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب -سبحانه وتعالى- فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد. والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له. فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر، فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله وخلقه. الله تعالى هو الذي يُحَرِّك الشفيع حتى يشفع فالرب -تعالى- هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق، هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مُسْتَغْن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والضر والمعاونة وغير ذلك. كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره؛ فكل منهما محتاج إلى الآخر. ومن وَفَّقَهُ الله لفهم هذا الموضوع، تَبَيَّنَ له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله من الشفاعة وما نفاه وأبطله، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ومَن له خبرةٌ بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم: عَلِمَ أن بين السلف وبين هؤلاء الخُلُوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل: سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَانَ بين مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّب والأمر، والله أعظم، مما ذكرناه. انتهى. وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده، وما كنا

لنهتدي؛ لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. تم نسخ ذلك في 5 رمضان سنة 1346، بقلم الفقير إلى الله عبد الله بن إبراهيم الربيعي، غفر الله له ولوالديه، ولجميع المسلمين خصوصا أهل هذه الدعوة النجدية، والطريقة المحمدية، أئمتنا ومشايخنا، عليهم الرضوان والرحمة ما تعاقب المَلَوَان، ونطقت شَفَة ولسان آمين.

§1/1