بيان إعجاز القرآن

الخطابي

ذخائر العرب (16) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي حققها وعلق عليها محمد خلف الله - عميد معهد الدراسات العربية سابقا دكتور محمد زغلول سلام - أستاذ اللغة العربية وآدابها بجامعة الإسكندرية الطبعة الثالثة دار المعارف بمصر

بيان إعجاز القرآن لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (319هـ - 388)

القول في بيان إعجاز القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا القول في بيان إعجاز القرآن قال أبو سليمان: قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديمًا وحديثًا , وذهبوا فيه كل مذهب من القول , وما وجدناهم بعد صدروا عن رِي , وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن , ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته. فأما أن يكون قد يقبت في النفوس نقبة بكونه معجزًا للخلق ممتنعًا عليهم الإتيانُ بمثله على حال فلا موضع لها , والأمر في ذلك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر , من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عنه وانقطعوا دونه. وقد بقى صلى الله عليه وسلم يطالبهم به مدة عشرين سنة , مظهرًا لهم النكير , زاريًا على أديانهم , مسفهًا آراءَهم وأحلامهم , حتى نبذوه وناصبوه الحرب فهلكت فيه النفوس , وأُريقت المهج, وقُطعت الأَرحام , وذهبت الأموال. ولو كان ذلك في وسعهم وتحت أقدارهم لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة.

ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة , ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحزن الوعر من الفعل , وهذا ما لا يفعله عاقل ولا يختاره ذولب. وقد كان قومه قريش خاصة موصوفين برزانة الأَحلام , ووفارة العقول والألباب. وقد كان فيهم الخطباء المصاقع والشعراء المفلقون. وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللدد فقال سبحانه: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بل هُمْ قومٌ خَصِمون} وقال سبحانه: {وتُنذِرَ بِه قوما لُدَّا}. فكيف كان يجوز - على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة - أن يغفلوه ولا يهتبلوا الفرصة فيه , وأن يضربوا صفحًا , ولا يحوزوا الفلح والظفر فيه لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه. ومعلوم أن رجلا عاقلا لو عطش عطشًا شديدا خاف منه الهلاك على نفسه وبحضرته ماء معرض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشَا [لحكمنا] أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه. وهذا بين واضح لا يُشكل على عاقل. قلت: وهذا - من وجوه ما قيل فيه - أبينها دلالة وأيسرها مؤونة. وهو مقنع لمن تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه. وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصرفة , أَي صرف الهمم عن المعارضة , وإن كانت مقدورًا عليها , وغير معجزة عنها؛ إلا أن العائق من حيث كان أمرًا خارجًا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات. فقالوا: ولو كان الله عز وجل بعث نبيًّا في زمان النبوات , وجعل معجزته في تحريك

يد أَو مد رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه , ثم قيل له: ما آيتك؟ فقال آيتي أَن أحرِّك يدي أَو أَمد رجلي , ولا يمكن أَحدًا منكم أن يفعل مثل فعلي , والقوم أصحاء الأَبدان لا آفة بشيءٍ من جوارحهم , فحرك يده أَو مد رجله , فراموا أَن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه , كان ذلك آية دالة على صدقه. وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما ياتى به النبي ولا إلى فخامة منظره , وإنما تعتبر صحتها بأَن تكون أمرًا خارجًا عن مجاري العادات ناقضًا لها , فمهما كانت بهذا الوصف كانت آية دالة على صدق من جاءَ بها , وهذا أيضًا وجه قريب , إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه وهي قوله سبحانه: {قُل لَئِن اجتمعتِ الإِنْسُ والجنُّ عَلَى أَنْ ياتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا ياتُون بمثلِهِ ولوْ كانَ بعضُهَمْ لبعْضٍ ظَهِيرًا} , فأشار في ذلك إلى أَمر طريقه التكلف والاجتهاد , وسبيله التأَهب والاحتشاد. والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة , فدل على أن المراد غيرها , والله أعلم. وزعمت طائفة أَن إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: {الم. غُلِبَتِ الرومُ في أَدنَى الأَرْض , وهُمْ من بعْدِ غَلَبِهمْ سَيَغْلِبُون , في بِضْعِ سنين} , وكقوله سبحانه: {قُل للمخَلَّفين من الأَعرابِ ستُدعَوْنَ إلى قوم أُولي باس شديدٍ , ونحوهما من الأَخبار التي صدقت أقوالها مواقع أَكوانها. قلت: ولا يشك في أَن هذا وما أَشبهه من أَخباره نوع من أَنواع إعجازه , ولكنه ليس بالأَمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن , وقد جعل سبحانه في صفة كل

سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أَحد من الخلق أَن ياتي بمثلها , فقال: {فاتوا بسورة من مِثْلِهِ وادْعوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إن كُنْتُم صَادِقين} من غير تعيين , فدل على أَن المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه. وزعم آخرون أَن إعجازه من جهة البلاغة , وهم الأكثرون من علماءِ أَهل النظر , وفي كيفيتها يعرض لهم الإِشكالُ , ويصعب عليهم منه الانفصال , ووجدت عامة أَهل هذه المقالة قد جروا فب تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به , ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي اختص بها القرآن , الفائقة في وصفها سائر البلاغات , وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة , قالوا إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأَمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام , وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربًا من المعرفة لا يمكن تحديده , وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذى يقع منه التفاضل فتقع في نفوس العلماءِ به عند سماعه معرفة ذلك , ويتميز في أَفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه. قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أَثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. قالوا: وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس لا توجد مثلها لغيره منه , والكلامان معًا فصيحان , ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة. قلت: وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم , ولا يشفى من داءِ الجهل به ,

وإنما هو إشكال أَحيل به على إبهام , وقد تمثل بعضهم في هذا بأَبيات جرير التي نحلها ذا الرُّمة: ذكرت الرواة أن جريرًا مرّ بذي الرمة وقد عمل قصيدته التي أَولها: نَبتْ عَيْنَاكَ عن طَلَلٍ بحُزْوى ... عَفَتْهُ الريحُ وامتنح القِطَارَا فقال: أَلا أُنجدك بأَبيات تزيد فيها! فقال: نعم. فقال: يعدُّ النَّاسِبُونَ بني تَميمٍ ... بيوت المجْد أربَعَةً كِبَارَا يعدُّون الرَّباب وآل تَيم ... وسعدًا ثم حنْظَلةَ الخِيارا ويذهب بينها الْمَرْئِي لغوًا ... كما أَلغيتَ فى الدِّية الحُوارا فوضعها ذو الرمة في قصيدته ثم مرَّ به الفرزدق فسأَله عما أَحدث من الشعر , فأَنشده القصيدة , فلما بلغ هذه الأَبيات قال: ليس هذا من بحرك , مُضيفها أَشدُّ لَحيين منك! قال: فاستدركها بطبعه , وفطن لها بلطف ذهنه. قلت: فأَما من لم يرض من المعرفة بظاهر السِّمة دون البحث عن باطن العلة , ولم يقنع في الأًمر بأًوائل البرهان حتى يستشهد لها دلائل الامتحان , فإنه يقول إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع , والهشاشة في نفسه , وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب , والتأثير في النفوس , فتصطلح من أجله الأَلْسُن على أنه كلام لا يشبهه كلام , وتَحْصَرُ الأَقوال عن معارضته , وتنقطع به الأَطماع عنها , أَمر لا بد له من سبب , بوجوده يجب له هذا

الحكم , وبحصوله يستحق هذا الوصف. وقد استقرينا أوصافه الخارجة عنه , وأسبابه النابتة منه , فلم نجد شيئَا منها يثبت على النظر , أو يستقيم فى القياس , ويطَّرد على المعايير , فوجب أَن يكون ذلك المعنى مطلوبًا من ذاته , ومستقصىً من جهة نفسه: فدل النظر وشاهد العِبر على أَن السبب له , والعلة فيه أَن أَجناس الكلام مختلفة , ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة , ودرجاتها في البلاغة متابينة غير متساوية؛ فمنها البليغ الرصين الجزل , ومنها الفصيح القريب السهل؛ ومنها الجائز الطلق الرَّسْلُ. وهذه أَقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم , الذي لا يوجد فى القرآن شيء منه أَلبتة. فَالقسم الأول أَعلى طبقات الكلام وأَرفعه , والقسم الثاني أَوسطه وأَقصده , والقسم الثالث أدناه وأَقربه؛ فحازت بلاغاتُ القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصةً , وأَخذت من كل نوع من أنواع شعبة , فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة , وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة. والجزالة والمتانة تعالجان نوعًا من الوعورة , فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوّ كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن , يسرها الله بلطيف قدرته من أمره ليكون آية بينة لنبيه , ودلالة له على صحة ما دعا إليه من أمر دينه. وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور: منها أن علمهم لا يحيط

بجميع أسماءِ اللغة العربية [وبألفاظها] التى هى ظروف المعانى والحوامل لها , ولا تدرك أَفهامهم جميع معاني الأَشياء المحمولة على تلك الأَلفاظ , ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التى يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض , فيتوصلوا باختيار الأَفضل عن الأَحسن من وجوهها إلى أن ياتوا بكلام مثله , وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل , ومعنى به قائم , ورباط لهما ناظم. وإذا تأَملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه , ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاؤمًا وتشاكلاً من نظمه. وأما المعاني فلا خفاءَ على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها. والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها. وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام , فأَما أَن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير , الذي أحاط بكل شيء علمًا , وأحصى كل شيء عددًا. فتفهم الآن واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأَنه جاءَ بأَفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني , من توحيد له عزت قدرته , وتنزيه له فى صفاته , ودعاء إلى طاعته , وبيان بمنهاج عبادته؛ من تحليل وتحريم , وحضر وإباحة , ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر , وإرشاد إلى محاسن الأخلاق , وزجر عن مساوئها , واضعًا كل شيءٍ منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه , ولا يرى في صورة العقل أمر أليق

منه , مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مَثُلات الله بمن عصى وعاند منهم , منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأَعصار الباقية من الزمان , جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له , والدليل والمدلول عليه , ليكون ذلك أوكد للزوم مادعا إليه , وإنباء عن وجوب ما أمر به , ونهى عنه. ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور , والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قُوى البشر , ولا تبلغه قدَرهم , فانقطع الخلق دونه , وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته فى شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه كلامًا منظومًا , ومرة سحر إذ رأوه معجوزًا عنه , غير مقدور عليه , وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا فى النفوس يُريبهم ويحيرهم , فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف. ولذلك قال قائلهم: إن له حلاوة وإن عليه طلاوة. وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: {أساطير الأولين اكْتَتَبها فَهى تُمْلَى عليه بُكرةً وأصِيلاَ} مع علمهم أن صاحبه أميُّ وليس بحضرته من يملي أو يكتب , في نحو ذلك من الأمور التي جماعها الجهل والعجز , وقد حكى الله جل وعز عن بعض مردتهم وشياطينهم - ويقال هو الوليد بن المغيرة المخزومي - أنه لما طال فكره في أمر القرآن , وكثر ضجره منه , وضرب له الأخماس من رأيه فى الأسداس , لم يقدر على أكثر من قوله: {إن هذا إلَّا قولُ البَشَرْ} عنادًا للحق وجهلًا به , وذهابًا عن الحجة وانقطاعًا دونها , وقد وصف ذلك من حاله وشدة حيرته فقال سبحانه: {إنه فكَّرَ وقدَّر , فقُتل كيف قدَّرَ , ثم قُتِل كيف قَدَّر. ثم نَظَر. ثم عَبَس وبسَر. ثم أدبر واسْتكبَر. فقال إن هذا إلا سحر يُؤْثَر. إنْ هذا إلَّا قولُ البشَر}.

وكيفما كانت الحال ودارت القصة , فقد حصل باعترافهم قولاً , وانقطاعهم عن معارضته فعلًا أنه معجز , وفي ذلك قيام الحجة وثبوت المعجزة , والحمدلله. ثم اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به , الذي إذا أُبدل مكانه غيره جاء منه: إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام , وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة , ذلك أن فى الكلام ألفاظًا متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب؛ كالعلم والمعرفة , والحمد والشكر , والبخل والشح , وكالنعت والصفة , وكقولك: اقعد والجلس , وبَلَى ونعم , وذلك وذاك , ومن وعن , ونحوهما من الأسماء والأفعال والحروف والصفات مما سنذكر تفصيله فيما بعد , والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك , لأن كل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها وإن كانا قد يشتركان في بعضها. تقول: عرفت. يقتضى مفعولاً واحدًا كقولك: عرفت زيدًا , وعلمت يقتضى مفعولين , كقولك: علمت زيدًا عاقلًا ولذلك صارت المعرفة تستعمل خصوصًا في توحيد الله تعالى وإثبات ذاته , فتقول عرفت الله , ولا تقول علمت الله , إلا أن تضيف إليه صفة من الصفات فتقول: علمت الله عدلاً , وعلمته قادرًا , ونحو ذلك من الصفات. وحقيقة

البيان أن العلم ضده الجهل , والمعرفة ضدها النكرة. والحمد والشكر قد يشتركان أيضًا , والحمد لله على نعمة أي الشكر لله عليها , ثم قد يتميز الشكر عن الحمد في أشياءَ؛ فيكون الحمد ابتداءً بمعنى الثناء , ولا يكون الشكر إلا على الجزاء. تقول: حمدت زيدًا إذا أثنيت عليه فى أخلاقه ومذاهبه وإن لم يكن سبق إليك منه معروف. وشكرت زيدًا إذا أردت جزاءَه على معروف أسداه إليك , ثم قد يكون الشكر قولًا كالحمد , ويكون فعلاً كقوله جل وعز: {اعملوا آل داوود شكرًا}. وإذا أردت أن تتبين حقيقة الفرق بينهما اعتبرت كل واحد منهما بضده. وذلك أن ضد الحمد الذم , وضد الشكر الكفران. وقد يكون الحمد على المحبوب والمكروه , ولا يكون الشكر إلا على المحبوب. وأما الشح والبخل فقد زعم بعضهم أن البخل منع الحق , وهو الظلم والشح ما يجده الشحيح في نفسه من الحزازة عند أداءِ الحق وإخراجه من يده. قال: ولذلك قيل: " الشحيح أعذر من الظالم ". قلت: وقد وجدت هذا المعنى على العكس مما روى عن ابن مسعود: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك قال: نا عمر بن حفص السدوسي قال: نا المسعودي عن جامع بن شداد عن أبى الشعثاء قال: قلت لعبد الله بن مسعود. يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت , قال: ولم ذاك؟ قلت: لأني سمعت الله يقول: {ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفسِه فأُولئك هُمُ المفْلِحُون}. وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء. قال: ليس ذاك الشح الذي ذكره الله في

القرآن ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما , ولكن ذاك البخل , وبئس الشيء البخل. وأما النعت والصفة , فإن الصفة أعم والنعت أخص , وذلك أنك تقول: زيد عاقل وحليم , وعمروا جاهل وسفيه , وكذلك تقول: زيد أسود ودميم , وعمروا أبيض وجميل , فيكون ذلك صفة ونعتًا لهما وأما النعت فلا يكاد يطلق إلا فيما لا يزول ولا يتبدل , كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما من الأمور اللازمة. وأما قول القائل لصاحبه: اقعد واجلس , فقد حكى لنا النضر بن شميل أنه دخل على المأمون عند مقدمه من مرو , فمثل بين يديه وسلم؛ فقال له المأمون اجلس , فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا بمضطجع فأجلس , قال: فكيف تقول؟ قال: قل اقعد. فأمر له بجائزة. قلت: وبيان ما قاله النضر بن شميل إنما يصح إذا اعتبرت إحدى الصفتين بالأخرى عن المقابلة , فقتول: القيام والقعود كما تقول: الحركة والسكون , ولا نسمعهم يقولون القيام والجلوس وإنما يقال قعد الرجل عن قيام , وجلس عن ضجعة واستلقاء , ونحو ذلك. وأما قولك: بلى ونعم؛ فإن بلى جواب عن استفهام بحرف النفي كقول القائل: ألم تفعل كذا؟ , فيقول صاحبه: بلى , كقوله عز وجل: {ألست بربكم قالوا بلى}. وأما نعم فهو جواب عن الاستفهام نحول هل كقوله سبحانه: {هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً قالوا نعم}.

وقال الفراء: بلى لا يكون إلا جواباً عن مسألة يدخلها طرف من الجحد. وحكى عنه أنه قال: لو قالت الذرية عندما قيل لهم ألست بربكم , نعم , بدل قولهم بلى لكفروا كلهم. وأما قولك: ذاك وذلك فإن الإشارة بذلك إنما تقع إلى الشيء القريب منك , وذلك إنما يستعمل فيما كان متراخيًا عنك. وأما من وعن فإنهما يفترقان في مواضع كقولك: أخذت منه مالا , وأخذت عنه علمًا , فإذا قلت: سمعت منه كلامًا أردت سماعه من فيه , وإذا قلت سمعت عنه حديثًا كان ذلك عن بلاغ , وهذا على ظاهر الكلام وغالبه. وقد يتعارفان في مواضع من الكلام. ومما يدخل في هذا الباب ما حدثني محمد بن سعدويه قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الجنيد قال: حدثني محمد بن النضر بن مساور قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: جمعنا الحسن لعرض المصاحف أنا وأبا العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصمًا الجحدري؛ فقال رجل يا أبا العالية قول الله في كتابه: {فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} ما هذا السهو؟ , قال الذي لا يدري عن كم ينصرف؛ عن شفع أو عن وتر , فقال الحسن: مه يا أبا العالية ليس هذا بل الذين سهوا عن ميقاتهم حتى تفوتهم. قال الحسن: ألا ترى قوله عز وجل: (عن صلاتهم) , وناه أبو رجاء الغنوي , نا محمد بن الجهم السجزي ,. نا الهيثم بن خالد المنقري

عن أبي عكرمة عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار نحوه. قلت: وإنما أتى أبو العالية في هذا حديث لم يفرق بين حرف عن وفي , فتنبه له الحسن فقال: ألا ترى قوله: {عن صلاتهم} يؤيد أن السهو الذي هو الغلط في العدد إنما هو يعرض في الصلاة بعد ملابستها , فلو كان هو المراد لقيل: في صلاتهم ساهون , فلما قال عن صلاتهم دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت. ونظير هذا ما قاله القُتَبي في قوله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين} زعم أنه من قوله: عشوت إلى النار أعشو إذا نظرت إليها. فغلَّطوه في ذلك وقالوا: إنما معنى قوله: من يعرض عن ذكر الرحمن, ولم يفرق بين عشوت إلى الشيء وعشوت عنه - وهذا الباب عظيم الخطر , وكثيرًا ما يعرض فيه الغلط , وقديمًا عني به العربي الصريح - فلم يحسن ترتيبه وتنزيله. حدثني عبد العزيز بن محمد المسكني قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم قال حدثني سويد نا ابن المبارك عن عيسى بن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب أن أعرابيًا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملاً يدخلني الجنة فقال: اعتق النسمة وفك الرقبة قال: أوليسا واحدًا؟. قال: لا , عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها. فتأمل كيف رتب الكلامين

واقتضى من كل واحد منهما أخص البيانين فيما وضع له من المعنى وضمنه من المراد. وحدثني عبد الله بن أسباط عن شيوخه قال جمع هارون الرشيد سيبوبه والكسائي فألقى سيبويه على الكسائي مسألة فقال: هل يجوز قول القائل: كاد الزنبور يكون العقرب فكأنه إياها أو كأنها إياه؟ فجزوه الكسائي على معنى كأنه هي أو كأنها هو , وأباه سيبويه , فأحضر الرشيد جماعة من الأعراب الفصحاء كانوا مقيمين بالباب وسألهم عنها بحضرتهما فصوبوا قول سيبويه ولم يجوزوا ما قاله الكسائي , قيل وذلك أن حرف (إيَّا) إنما يستعمل في موضع النصب , وهي هنا في موضع رفع فلم يجز. ومثل هذا كثير واستقصاؤه يطول. قلت: ومن هاهنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن , وتركوا القول فيه حذرًا أن يزلوا فيذهبوا عن المراد , وإن كانوا علماء باللسان , فقهاء في الدين؛ فكان الأصمعي - وهو إمام أهل اللغة - لا يفسر شيئًا من غريب القرآن. وحكي عنه أنه سئل عن قوله سبحانه: {قد شغفها حبًا} فسكت وقال: هذا في القرآن , ثم ذكر قولاً لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها: أتبيعونها وهي لكم شغاف؟. ولم يزد على ذلك , أو نحو هذا الكلام. قلت: ولهذا ما حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم إعراب القرآن وطلب معاني الغريب منه. نا إسماعيل بن محمد الصفار قال: حدثني محمد بن وهب الثقفي , قال حدثني محمد بن سهل العسكري قال حدثني ابن أبي زائدة عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ".

قلت: فإذا عرفت هذه الأصول تبينت أن القوم إنما كاعوا وجبنوا عن معارضة القرآن لما قد كان يئودهم ويتصعدهم منه , وقد كانوا بطباعهم يتبينون مواضع تلك الأمور ويعرفون ما يلزمهم من شروطها ومن العهدة فيها , ويعلمون أنهم لا يبلغون شأوها , فتركوا المعارضة لعجزهم , وأقبلوا على المحاربة لجهلهم , فكان حظهم مما فروا إليه حظهم مما فزعوا منه {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} والحمد لله رب العالمين. فإن قيل: إنا إذا تلونا القرآن وتأملناه وجدنا معظم كلامه مبيناً ومؤلفًا من ألفاظ مبتذلة في خطابات العرب المستعملة في محاوراتهم , وحظ الغريب المشكل منه بالإضافة إلى الكثير من واضحه قليل , وعدد الفقر والغرر من ألفاظه بالقياس إلى مباذله ومراسيله عدد يسير , فكيف يتوهم عليهم العجز عن معارضته والإتيان بمثله , وهم عرب فصحاء مقتدرون على التصرف في أودية الكلام , عارفون بنظومه. قصيده ورجزه وسجعه , وسائر فنونه , فلو كانوا أرادوه وقنعوا عن شفاء الأنفس به لسهل ذلك عليهم , وإنما عاقهم عن ذلك رأي آخر كان أقوى في نفوسهم وأجدى عليهم في مبلغ آرائهم وعقولهم , وهو مناجزتهم إياه الحرب ومعالجته بالإهلاك استراحة إلى الخلاص منه , وكراهة لمطاولته على القول ومعارضته بالكلام الذي يقتضي الجواب , فيتمادى بهم الزمان للنظر فيه والانتقاد له , فتكثر الدعاوى , ويخفى موضع الفضل بين الكلامين , فمالوا إلى هذا الرأي قصدًا إلى اجتياحه واستئصاله , إذ كانوا فيما يرونه مستظهرين عليه مستعلين بالقدرة فوقه. قيل: إنا قدمنا من بيان أوصاف بلاغة القرآن وذكرنا من شرائطها ما أسقطنا به عن أنفسنا هذا السؤال. وزعمنا أنها أمور لا تجتمع لأحد من

البشر ولا يجوز أن تأتي عليها قدرته , وإن كان أفصح الناس وأعرفهم بطرق الكلام وأساليب فنون البيان , وذكرنا العلة في ذلك , وبينا المعنى فيه , ولم نقتصر فيما اعتمدناه من البلاغة لإعجاز القرآن على مفرد الألفاظ التي منها يتركب الكلام دون ما يتضمنه من ودائعه التي هي معانيه , وملابسه التي هي نظوم تأليفه. وقد قال بعض العلماء في الأسماء اللغوية وهي نوع واحد من الأنواع الثلاثة التي شرطنا أنه لا يجوز أن يحيط بها كلها إلا نبي؛ وقد كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه - وهو من الفصاحة في ذروة السنام والغارب - يقرأ قوله عز وجل: {وفاكهة وأبَّا} فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول: ما الأبّ؟ ثم يقول: إن هذا تكلف منك يا ابن الخطاب. وكان ابن عباس رحمه الله - وهو ترجمان القرآن ووارث علمه - يقول: لا أعرف حناناً ولا غسلين ولا الرقيم. هل في اللغة التفث في شيء من كلام العرب؟ وإنما أخذوه عن أهل التفسير على ما عقلوه من مراد الخطاب. فأما المعاني التي تحملها الألفاظ فالأمر في معاناتها أشد لأنها نتائج العقول وولائد الأفهام وبنات الأفكار. وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكلام , ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان.

وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفناه فقد علم أنه ليس المفرد بذَرَبِ اللسان وطلاقته كافيًا لهذا الشأن , ولا كل من أوتي حظًا من بديهة وعارضة كان ناهضًا بحمله ومضطلعًا بعبئه ما لم يجمع إليها سائر الشرائط التي ذكرناها على الوجه الذي حددناه , وأنى لهم ذلك ومن لهم به؟ و {لئن اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضِ ظهيرًا}. وأما ما ذكروه من قلة الغريب في ألفاظ القرآن بالإضافة إلى الواضح منها , فليست الغرابة مما شرطناه في حدود البلاغة , وإنما يكثر وحشي الغريب في كلام الأوحاش من الناس , والأجلاف من جفاة العرب , الذي يذهبون مذهب العنجهية , ولا يعرفون تقطيع الكلام وتنزيله والتخير له , وليس ذلك معدودًا في النوع الأفضل من أنواعه. وإنما المختار منه النمط الأقصد الذي جاء به القرآن , وهو الذي جمع البلاغة والفخامة إلى العذوبة والسهولة. وقد يعد من ألفاظ الغريب في نعوت الطويل نحو من ستين لفظة أكثرها بشع شنع. كالعشنَّق , والعَشَنَّط , والعطنَّط , والشوقب والشوذب والسلهب , والقوق , والقاق , والطوط والطاط. فاصطلح أهل البلاغة على نبذها وترك استعمالها في مرسل الكلام , واستَثْقَلوا الطويل. وهذا يدلك على أن البلاغة لا تعبأُ بالغرابة ولا تعمل بها شيئَا. فإن قيل: إنا لا نسلم لكم ما ادعيتموه من أن العبارات الواقعة في

القرآن إنما وقعت في أفصح وجوه البيان وأحسنها , لوجودنا أشياء منها بخلاف هذا الوصف عند أصحاب اللغة وأهل المعرفة بها كقوله: {فأكله الذئب} وإنما يستعمل مثل هذا في فعل السباع خصوصًا "الافتراس" , يقال: افترسه السَّبُعُ. هذا هو المختار الفصيح في معناه , فأما الأكل فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان دون نوع. وكقوله: {ذلك كيل يسير} قالوا: وما اليسير والعسير من الكيل والاكتيال , وما وجه اختصاصه بهذه وأنت لا تسمع فصيحًا يقول: كِلت لزيد كيلاً يسيرًا إلا أن يعني به أنه يسير العدد والكمية. وكقوله {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم} , والمشي في هذا ليس بأبلغ الكلام , ولو قيل بدل ذلك أن امضوا وانطلقوا لكان أبلغ وأحسن. وكقوله: {هلك عني سلطانية} وإنما يستعمل لفظ الهلاك في الأعيان والأشخاص كقوله: هلك زيد , وهلك مال عمرو ونحوهما , فأما الأمور التي هي معان وليست بأعيان ولا أشخاص فلا يكادون يستعملونه فيها. ولو قال قائل: هلك عن فلان علمه أو هلك جاهه على معنى ذهب علمه وجاهه لكان مستقبحًا غير مستحسن. وكقوله سبحانه: {وإنه لحب الخير لشديد} وأنت لا تسمع فصيحًا يقول: أنا لحب زيد شديد , وإنما وجه الكلام وصحته أن يقال: أنا شديد الحب لزيد , وللمال ونحوه. وكقوله سبحانه: {والذين هم للزكاة فاعلون} ولا يقول أحد من الناس: فعل زيد الزكاة , إنما يقال: زكى الرجل ماله , وأدى زكاة ماله , أو نحو ذلك من الكلام , وكقوله سبحانه: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُداً} , ومن الذي يقول:

جعلت لفلان ودًّا وحبًّا بمعنى أحببته؟. وإنما يقول وددته وأحببته , أو بذلت له ودي؛ أو نحو ذلك من القول. وكقوله سبحانه: {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} , وإنما هو ردفه يردفه من غير إدغام اللام. وكقوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم}. وكقوله سبحانه: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيَ بخلقهن بقادر} فأدخل الباء في قوله بإلحاد وفي قوله بقادر , وهي لا موضع لها ها هنا. ولو قيل: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم , وقيل: قادر على أن يحيي الموتى , كان كلامًا صحيحًا لا يشكل معناه ولا يشتبه. ولو جاز إدخال الباء في قوله: بقادر لجاز أن يقال: ظننتُ أن زيدًا بخارج , وهذا غير جائز البتة. قالوا: ومما يعرض فيه من سوء التأليف ومن نسق الكلام على ما ينبو عنه ولا يليق به قوله سبحانه: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون} عقيب قوله: {أولئك هم المؤمنون حقًا. لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} وكما (في) تشبيه شيء بشيء ولم يتقدم من أول الكلام ما يشبه به ما تأخر منه. وكقوله سبحانه: {وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين} , وقوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم ...} الآية. قالوا: وقد يوجد في القرآن الحذف الكثير والاختصار الذي يشكل معه وجه الكلام ومعناه كقوله سبحانه: {ولو أن قرآناً سيِّرت به الجبال أو

قطعت به الأرض أو كلِّم به الموتى} الآية ثم لم يذكر جوابه , وفي ذلك تبتير الكلام وإبطال فائدته. وكقوله سبحانه: {حتى إذا جاءُوها وفتحت أبوابها} الآية ونظائرها. ثم قد يوجد فيه على العكس منه التكرار المضاعف كقوله سبحانه في سورة الرحمن {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وفي سورة المرسلات: {ويل يومئذ للمكذبين} , وليس واحد من المذهبين بالمحمود عن أهل اللسان , ولا بالمعدود في النوع الأفضل من طبقات البيان. وقد يدخل بين الكلامين ماليس من جنسهما ولا قبيلهما كقوله سبحانه: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتَّبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} عقيب قوله {بل الإنسان على نفسه بصيره , ولو ألقى معاذيره} بين يدي قوله {كلا بل تحبون العاجله وتذرون الآخرة} وليس ذلك بالمستحسن ولا بالمختار عند أهل البلاغة وأرباب البيان , والأحسن أن يكون الكلام مفصلاً مقسوماً على أبوابه , وأن يكون لكل نوع منه حيز وقبيل لا يدخل في قبيل غيره. قالوا: لو كانت سور القرأن على هذا الترتيب فتكون أخبار الأمم وأقاصيصهم في سورة , والمواعظ والأمثال في سورة , والأحكام في أخرى لكان ذلك أحسن في الترتيب , وأعون على الحفظ , وأدل على المراد؛ في أمور غير هذه يكثر تعدادها. والجواب: أن القول في وجود ألفاظ القرآن وبلاغتها على النعت الذي ,

وصفناه صحيح لا ينكره إلا جاهل أو معاند , وليس الأمر في معاني هذه الآي على ما تأولوه ولا المراد في أكثرها على ما ظنوه وتوهموه. فأما قوله تعالى: {فأكله الذئب} فإن الافتراس معناه في فعل السبع القتل فحسب , وأصل الفرس دق العنق , والقوم إنما ادعوا على الذئب أنه أكله أكلاً وأتى على جميع أجزائه وأعضائه , فلم يترك مفصلًا ولا عظماً , وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إياه بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه , فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة , والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى , لم يصح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل؛ على أن لفظ الأكل شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع. وحكى ابن السكيت في ألفاظ العرب قولهم: أكل الذئب الشاة فما ترك منها تامورا , وقال بعض شعرائهم: فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوما دما فهو آكله وقال آخر: أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضَّبع وفي حديث عتبة بن أبي لهب أنه لما دعا عليه السلام: فقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك , فخرج في تجر إلى الشام , فنزل في بعض المنازل ,

جاء الأسد وأطاف بهم فجعل عتبة يقول: أكلني السبع , فلما كان في بعض الليل علا عليه ففدغ رأسه. وقد يتوسع في ذلك حتى يجعل العقر أكلا وكذلك اللدغ واللسع. أخبرنا أبو عمر قال: أخبرنا أبو العباس عن ابن الأعرابي عن أبي مكارم قال: مررت بمنهال وعلى شفيره صنبور بيده شوشب فقلت لأمه: أدركي القامة لا تأكله الهامة. قال أبو العباس: الشوشب , العقرب والقامة الصبي الصغير. وحكي أيضا عن بعض الأعراب أكلوني البراغيث؛ فجعل قرص البرغوث أكلا. ومثل هذا الكلام كثير. وأما قوله سبحانه: {ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير} فإن معنى الكيل المقرون بذكر البعير المكيل , والمصادر توضع موضع الأسماء كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير وهذا ثوب نسج اليمن , أي مضروب الأمير ونسيج اليمن , والمعنى أنا نزداد من الميرة المكيلة إذا صحبنا أخونا حمل بعير؛ فإنه كان لكل رأس منهم حمل واحد لا يزيده على ذلك لعزة الطعام , فكان ذلك في السنين السبع القحطة , وكانوا لا يجدون الطعام إلا عنده ولا يتيسر لهم مرامه إلا من قبله فقيل على هذا المعنى: {ذلك كيل يسير} أي متيسر لنا إذا تسببنا إلى ذلك باستصحاب أخينا , واليسير شائع الاستعمال فيما يسهل من الأمور كالعسير فيما يتعذر منها , ولذلك قيل يُسِّرّ الرجل إذا نتجت مواشيه وكثر أولادها. قال الشاعر: يعد الفتى من نفسه كل ليلة ... أصاب غناها من صديق مُيَسر

وقال آخر: هم سيِّدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا أن يَسَّرتْ غنماهما وقد قيل في ذلك: كيل يسير أي سريع لا حبس فيه , وذلك أن القوم كانوا يحبسون على الباب وكان يوسف يقدمهم على غيرهم؛ وقد قيل إن معنى الكيل هنا السعر. أخبرني أبو عمر عن أبي العباس قال: والكيل بمعنى السعر , كيف الكيل عندكم؟ أي: كيف السعر؟ وقد أنشدنا عمرو ابن أبي عمرو الشيباني عن أبيه: فإن تك في كيل اليمامة عسرة ... فما كيل ميَّافَارِقين بأعسرا وأما قوله سبحانه: {أن امشوا واصبروا على آلهتكم} وقول من زعم أنه لو قيل بدله: امضوا وانطلقوا كان أبلغ , فليس الأمر على ما زعمه , بل المشي في هذا المحل أولى وأشبه بالمعنى , وذلك لأنه إنما قصد به الاستمرار على العادة الجارية ولزوم السجية المعهودة في غير انزعاج منهم ولا انتقال عن الأمر الأول , وذلك أشبه بالثبات والصبر المأمور به في قوله: {واصبروا على آلهتكم} والمعنى كأنهم قالوا: امشوا على هينتكم وإلى مهوى أموركم , ولا تعرجوا على قوله , ولا تبالوا به. وفي قوله: امضوا وانطلقوا زيادة انزعاج ليس في قوله امشوا , والقوم لم يقصدوا ذلك ولم يريدوه , وقيل: بل المشي هاهنا معناه التوفر في العدد والاجتماع للنصرة دون المشي الذي هو نقل

الأقدام , من قول العرب: مشى الرجل إذا كثر ولده. وأنشدوا: والشاة لا تمشي عل الهملَّعِ أي لا يكثر نتاجها , والهملع الذئب. وأما قوله سبحانه: {هلك عني سلطانيه} وزعمهم أن الهلاك لا يستعمل إلا في تلف الأعيان فإنهم ما زادوا على أن عابوا أفصح الكلام وأبلغه , وقد تكون الاستعارة في بعض المواضع أبلغ من الحقيقة كقوله عز وجل {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} والسلخ ها هنا مستعار وهو أبلغ منه لو قال نخرج من النهار وإن كان هو الحقيقة وكذلك قوله سبحانه: {فاصدع بما تؤمر} وهو أبلغ من قوله: فاعمل بما تؤمر وإن كان هو الحقيقة , والصدع مستعار , وإنما يكون ذلك في الزجاج ونحوه من فِلِزِّ الأرض , ومعناه المبالغة فيما أمر به حتى يؤثر في النفوس والقلوب تأثير الصدع في الزجاج ونحوه , وكذلك قوله سبحانه: {هلك عن سلطانيه} وذلك أن الذهاب قد يكون على مراصدة العود , وليس مع الهلاك بقيا ولا رجعى , وقد قيل إن معنى السلطان ها هنا الحجة والبرهان. وأما قوله سبحانه: {وإنه لحب الخير لشديد} وأن الشديد معناه هاهنا البخيل , ويقال: رجل شديد ومتشدد أي بخيل. قال طرفة: أرى الموت يعتام النفوس ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدِّدِ واللام في قوله: {لحب الخير} بمعنى لأجل حب الخير وهو المال لبخيل , وأما قوله عز وجل: {والذين هم للزكاة فاعلون} وقولهم إن المستعمل في الزكاة المعروف لها من الألفاظ , كالأداء والإيتاء والإعطاء , ونحوها كقولك:

أدى فلان زكاة ماله وآتاها وأعطاها , أو زكَّى ماله , ولا يقال: فعل فلان الزكاة , ولا يعرف ذلك في كلام أحد. فالجواب أن هذه العبارات لا تستوي في مراد هذه الآية , وإنما تفيد حصول الاسم فقط , ولا تزيد على أكثر من الإخبار عن أدائها فحسب , ومعنى الكلام ومراده المبالغة في أدائها والمواظبة عليه حتى يكون ذلك صفة لازمة لهم , فيصير أداء الزكاة فعلاً لهم مضافاً إليهم يعرفون به , فهم له فاعلون. وهذا المعنى لا يستفاد على الكمال إلا بهذه العبارة , فهي إذًا أولى العبارات وأبلغها في هذا المعنى. وقد قيل إن معنى الزكاة هنا العمل الصالح الزاكي , يريد - والله أعلم - والذين هم للأعمال الصالحة والأفعال الزاكية فاعلون. وأما قوله عز وجل: {سيجعل لهم الرحمن وُدا} وإنكارهم قول من يقول جعلت لفلان ودًا بمعنى وددته فإنهم قد غلطوا في تأويل هذا الكلام , وذهبوا عن المراد فيه , وإنما المعنى أن الله سيجعل لهم في قلوب المؤمنين , أي يخلق لهم في صدور المؤمنين مودة , ويغرس لهم فيها محبة , كقوله عز وجل: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا} أي خلق. وأما قوله سبحانه: {ردف لكم} فإنهم لغتان فصيحتان: ردفته وردفت له كما تقول: نصحته ونصحت له. وأما قوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} ودخول الباء فيه فإن هذا الحرف كثيرًا ما يوجد في كلام العرب الأول الذين نزل القرآن به , وإن كان يعز وجوده في كلام المتأخرين. وأخبرني الحسن بن عبدالرحيم عن أبي خليفة عن محمد ابن سلام الجمحي قال: قال أبو عمروا بن العلاء: اللسان الذي نزل به

القرآن وتكلمت به العرب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عربية أخرى عن كلامنا هذا. وقد زعم بعضهم أن كلام العرب كان باقيًا على نجره الأول وعلى سنخ طبعه الأقدم إلى زمان بني أمية ثم دخله الخلل فاختل منه أشياء , ولذلك قال أبو عمروا حين أنشد قول امرىء القيس: نطعنهم سُلكى ومخلوجَةً ... كرَّكَ لأمين على نابل ذهب من يحسن هذا الكلام. وأخبرني أبو عمرو عن أبي الحسن العباس عمن ذكره أن أبا عمرو أنشد قول الحارث بن حلزة: زعموا أن كل من ضرب العَيـ ... ـرَ مُوالٍ لنا وأنَّا الولاء فقال: ذهب من يحسن هذا الكلام. قلت: ولهذا صار العلماء لا يحتجون بشعر المحدثين , ولا يستشهدون به كبشار بن برد , والحسن بن هانئ , ودعبل العتَّابي , وأحزابهم من فصحاء الشعراء والمتقدمين في صنعة الشعر ونجره. وإنما يرجعون في الاستشهاد إلى شعراء الجاهلية وإلى المخضرمين منهم , وإلى الطبقة الثالثة التي أدركت المخضرمين , وذلك لعلمهم بما دخل الكلام في الزمان المتأخر من الخلل والاستحالة عن رسمه الأول , فمن لم يقف على هذه الأسباب ثم قاس ما جمعه من تلاد الكلام الأول , واعتبره بما وجد عليه كلام الأنشاء المتأخرين عيَّ بشيء كثير من الكلام وأنكره , وأما من تبحر في كلام العرب , وعرف أساليبه الواسعة , ووقف على مذاهبه القديمة فإنه

إذا ورد عليه منها ما يخالف المعهود من لغة أهل زمانه لم يسرع إلى النكير فيه والتلحين. أخبرنا أبو عمر عن أبي العباس قال: قال ابن الخطاب: أنحى الناس من لم يلَحِّن أحدًا. وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال: سأل رجل بعض العلماء عن قول الله عز وجل: {لا أقسم بهذا البلد} قأخبر أنه لا يقسم ثم أقسم به في قوله: {والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا} فقال له ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك؛ أجيبك ثم أقطعك , أو أقطعك ثم أجيبك؟ قال: لا بل اقطعني ثم أجبني. فقال له: أعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزًا , وعليه مطعنًا فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه , ولكن القوم علموا وجهلت , فلم ينكروا ما أنكرت , ثم قال له: إن العرب قد تدخل لا في أثناء كلامها وتلغي معناها , كقول الشاعر: في بئر لا حور سرى وما شعر يريد في بئر حور سرى وما شعر , وأخبرني أبو عمر عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: العرب تذكر لا وتلغيه ولا تضمر لا وتستعمله , وانشد في الأول قوله: في بئر لاحور سرى وما شعر

وفي الآخر قول الشاعر: أوصيك أن تحمدك الأقارب ... أو يرجع المسكين وهو خائب قلت: فهذا وما أشبهه زيادات حروف في مواضع من الكلام وحذف حروف في أماكن أخر منها , إنما جاءت على نهج لغتهم الأولى قبل أن يدخلها التغيير , ثم صار المتأخرون إلى ترك استعمالها في كلامهم. فافهم هذا الباب , فإنك إذا أحكمت معرفته استفدت علمًا كثيرًا وسقطت عنك مئونة عظيمة وزال عنك ريب القلب , وتخلصت من شغب الخصم , ولا قوة إلا بالله. ونعود إلى الجواب عن قوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} فنقول: قد قيل إن الباء زائدة. والمعنى: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم , والباء قد تزاد في مواضع من الكلام ولا يتغير به المعنى. كقولك: أخذت الشيء وأخذت به , وكقول الشاعر: نضرب بالسيف ونرجو بالفرج وكقول الآخر: هن الحرائر لا ربات أحمرة ... سود المهاجر لا يقرأن بالسُّوَر يقال: قرأت البقرة , وقرأت بالبقرة. وقد قرأ غير واحد من القراء: {تُنْبِتُ بالدُّهْنِ} بضم التاء منهم ابن كثير وأبو عمرو , وزعم بعضهم أن

معناه تنبت الدهن بعضهم تنبت وفيها دهن كما يقال: جاء زيد بالسيف أي جاء ومعه السيف , وكذلك قوله سبحانه: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيَ بخلقهم بقادر ...} المعنى قادر على أن يحيي الموتى , قالوا: وإنما تدخل الباء في هذا المعنى مع حرف الجحد كقوله: {أليس ذلك بقادرٍ على أن يحيي الموتى} وقد ضارع ألم في معنى الجحد أليس , فألحق بحكمه , قالوا: ودخول أن إنما هو توكيد للكلام وأنشد الفراء في مثل هذا الباء: فلما رجعت بخائبةٍ ركابٌ ... حكيم بن المسيب منتهاها قال: فأدخل الباء , قال: وتقول: ما أظنك بقائم , فإذا حذفت الباء نصبت الذي كانت فيه بما تعمل فيه من الفعل. وأما قوله سبحانه: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ..} الآية ففيه وجوه ذهب إليها أهل التفسير والتأويل , كلها محتملة , أيها اعتمدت وعلَّقت عليه الكاف حملها وصح الكلام عليه. وقال بعضهم أن الله سبحانه أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون , وذلك أنهم في يوم بدر اختلفوا في الأنفال , وحاجوا النبي صلى الله عليه وسلم وجادلوه , فكره كثير منهم ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفل , فأنزل الله تعالى الآية , وأنفذ أمره فيها , وأمرهم أن يتقوا الله , وأن يطيعوه , ولا يعترضوا عليه فيما يفعله من شيء فيما بعد إن كانوا مؤمنين , ووصف المؤمنين ثم قال:

كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} يريد أن كراهتهم لما فعلته في الغنائم ككراهتهم في الخروج معك وقد حمدوا عاقبته فليصبروا في هذا وليسلموا ويحمدوا عاقبته كذلك. وقيل معناه: أولئك هم المؤمنون حقًا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق كقوله: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}. وقيل "كما" صفة لفعل مضمر وأن تأويله: افعل في الغنائم كم فعلت في الخروج إلى بدر وإن كره القوم ذلك. كقوله سبحانه: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم} معناه: " كما أنعمنا عليكم بإرسال رسول فيكم من أنفسكم كذلك أتم نعمتي عليكم ". وأما قوله سبحانه: {كما أنزلنا على المقتسمين} فإن فيه محذوفًا يدل ظاهر الكلام عليه؛ كأنه قال: أنا النذير المبين عقوبة أو عذابًا , كما أنزلنا , أي مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين. فإن قيل: أو ليس وإن توجه الكلام وصح على الوجه الذي ذكرتموه في معنى قوله سبحانه: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} فقد دخله من الانتشار بتفرق أجزائه وتباعد ما بين فصوله ما أخرجه من حسن النظم الذي وصفتموه به؟ قبل: لا , وذلك لأنه لم يدخل بينه وبين أول ما يتصل به إنما قال: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} ثم وصف هذا الإيمان وحقيقته إذ كان هذا القسم يقع على أمر ذي شعب وأجزاء , يلزم أدناه من ذلك ما يلزم أقصاه , فلو لم يستوفه بالصفة الجامعة له لم يبين المراد , ثم عطف

بالكلام على أول الفصل فقال: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون}. فشبه كراهتهم ما جرى في أمر الأنفال وقسمها بالكراهة في مخرجه من بيته , وكل مالا يتم الكلام إلا به من صفة وصلة فهو كنفس الكلام. فإن قيل: فما معنى قوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} الآية؟. وقد اكتنفه من جانبيه قوله سبحانه: {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} وقوله: {كلا بل تحبون تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} , ولا مناسبة بين الكلامين اللذين اعتوراه , قيل هذا عارض من حال دعت الحاجة إلى ذكره , فلم يجز تركه ولا تأخيره عن وقته , كقولك للرجل وأنت تحدثه بحديث فيشتغل عنك ويقبل على شيء آخر - أقبل علي واسمع ما أقول , وافهم عني , ونحو هذا من الكلام , ثم تصل حديثك ولا تكون بذلك خارجًا عن الكلام الأول قاطعًا له , إنما تكون به مستوصلًا للكلام مستعيدًا له. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب وكان إذا نزل الوحي وسمع القرآن حرك لسانه يستذكر به , فقيل له: تفهم ما يوحى إليك ولا تتقلبه بلسانك , فإنا نجمعه لك ونحفظه عليك , أخبرنا الأصم قل نا أبو أمية الطرطوسي قال: حدثني عبيد الله بن موسى قال: حدثني إسرائيل عن أبي إسحق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله سبحانه: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: كان يحرك به لسانه مخافة أن يتفلت منه. وأما ما عابوه من الحذف والاختصار في قوله سبحانه: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} فإن الإيجاز في

موضعه. وحذف ما يستغنى عنه من الكلام نوع من أنواع البلاغة , وإنما جاز حذف الجواب في ذلك وحسن لأن المذكور منه يدل على المحذوف والمسكوت عنه من جوابه , لأن المعقول من الخطاب عند أهل الفهم كالمنطوق به والمعنى: لو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكان هذا القرآن. وقد قيل: إن الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب في الحذف كل مذهب , ولو ذكر الجواب لكان مقصورًا على الوجه الذي تناوله الذكر. فحذف الجواب كقوله: لو رأيت عليًا بين الصفين! وهذا أبلغ من الذكر لما وصفنا. وكذلك قوله سبحانه: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ..} الآية والمعنى كأنه قيل: لما دخلوها حصلوا على النعيم المقيم الذي لا انقطاع له ولا تكدير فيه. وأما ما عابوه من التكرار؛ فإن تكرر الكلام على ضربين: أحدهما مذموم وهو ما كان مستغنى عنه , غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفيدوه بالكلام الأول , لأنه حينئذ يكون فضلًا من القول ولغوًا. وليس في القرآن شيء من هذا النوع. والضرب الآخر ما كان بخلاف هذه الصفة , فإن ترك التكرار في الموضع الذي يقتضيه. وتدعو الحاجة إليه فيه , بإزاء تكلف الزيادة في وقت الحاجة إلى الحذف والاختصار , وإنما يحتاج إليه ويحسن استعماله في الأمور المهمة التي تعظم العناية بها ويخاف بتركه وقوع الغلط والنسيان فيها والاستهانة بقدرها. وقد يقول الرجل لصاحبه في الحث والتحريض على العمل: عجل

عجل , وارم ارم , كما يكتب في الأمور المهمة على ظهور الكتب: مهم مهم مهم , ونحوها من الأمور. وكقول الشاعر: هلا سألت جموع كنـ ... ـدة يوم ولو أين أينا وقول الآخر: يال بكر أنشروا لي كليبا ... يال بكر أين أين الفرار وقد أخبر الله عز وجل بالسبب الذي من أجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن فقال سبحانه: {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} وقال تعالى: {وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} وأما سورة الرحمن فإن الله سبحانه خاطب بها الثقلين من الإنس والجن , وعدد عليهم أنواع النعمة التي خلقها لهم , فكلما ذكر فصلًا من فصول النعم جدد إقرارهم به واقتضاءهم الشكر عليه , وهي أنواع مختلفة وفنون شتى , وكذلك هو في سورة " المرسلات " ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها فقدم الوعيد فيها وجدد القول عند ذكر كل حال من أحوالها لتكون أبلغ في القرأن وأوكد لإقامة الحجة والإعذار , ومواقع البلاغة المعتبرة لمواضعها من الحاجة. فإن قيل: إذا كان المعنى في تكرير قوله: {فبأي آلاء ربكم تكذبان} تجديد ذكر النعم في هذه السورة واقتضاء الشكر عليها , فما معنى قوله {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} ثم أتبعه قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وأي موضع نعمة هاهنا؟ وهو إنما يتوعدهم

بلهب السعير والدخان المستطير , قيل إن نعمة الله تعالى فيما أنذر به وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها بإزاء نعمه على ما وعد وبشر من ثوابه على طاعته ليرغبوا فيها ويحرصوا عليها. وإنما تحقق معرفة الشيء بأن يعتبر بضده ليوقف على حده. والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما فإنهما متوازيان في موضع النعم بالتوقيف على مآل أمرهما والإبانة على عواقب مصيرهما , وعلى هذا ما قاله بعض حكماء الشعراء: والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي أنباك كيف نعيمها وأما قولهم: لو كان نزول القرآن على سبيل التفصيل والتقسيم , فيكون لكل نوع من أنواع علومه حيز وقبيل , لكان أحسن نظمًا وأكثر فائدة ونفعًا فالجواب: أنه إنما نزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة وفي الآية المجموعة القليلة العدد لتكون أكثر لفائدته وأعم لنفعه. ولو كان لكل باب منه قبيل , ولكل معنى سورة مفردة لم تكثر عائدته , ولكن الواحد من الكفار والمعاندين المنكرين له إذا سمع السورة منه لا تقوم عليه الحجة به إلا في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط , فكان اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظًا وأجدى نفعًا من التمييز والتفريد للمعنى الذي ذكرناه. والله أعلم. وقد أحب الله عز وجل أن يمتحن عباده ويبلو طاعتهم واجتهادهم في جمع المتفرق منه , وفي تنزيله وترتيبه , وليرفع الله الذين آمنوا منهم والذين أوتوا العلم درجات.

فإن قيل ما أنكرتم أن القوم قد عارضوه ولكنه لم ينقل إلينا وغيب عنا ذكره , وكتم الخبر فيه لما اتسع الإسلام وخافوا على أنفسهم , فانقطع رسمه وامحى أثره. قيل: هذا سؤال ساقط. والأمر فيه خارج عما جرت به عادات الناس , خواصهم وعوامهم من نقل الأخبار , والتحدث بالأمور التي لها شأن , وبالنفوس تعلق , ولها فيها وقع. وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد انزعجت له القلوب وسار ذكره بين الخافقين! ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظيم خطره وجلالة قدره لجاز أن يكون قد خرج في ذلك العصر نبي آخر , وأنبياء ذوو عدد , وتنزلت عليهم كتب من السماء , وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة , وكتم الخير فيها فلم يظهر. وهذا ما لا يتوهم أن يكون لخروجه من سوم الطباع ومجاري العادات , فكذلك ما سألونا عنه. فإن قيل: ما أنكرتم أن المعارضة قد حصلت منهم لبعضه , وهو ما بلغ مقداره عدد الآي من السور القصار , نحو ما حكي عن مسيلمة من قوله: " يا ضفدع نقي كم تنقين , لا الماء تكدرين ولا الوارد تنفرين " وكما حكى عن بعضهم من قوله:" ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى , أخرج منها نسمة تسعى , بين شراسيف وحشى " ن وكما قال آخر منهم: " الفيل , وما لفيل , وما أدراك ما الفيل. له مشفر طويل , وذنب أثيل , وما ذاك من خلق ربنا بقليل ". قيل: أما قول مسيلمة في الضفدع فمعلوم أنه خال من كل فائدة ,

لا لفظه صحيح , ولا معناه مستقيم , ولا فيه شيء من الشرائط الثلاث التي هي أركان البلاغة , وإنما تكلف هذا الكلام الغث لأجل ما فيه من السجع. والساجع عادته أن يجعل المعاني تابعة لسجعه , ولا يبالي بما يتكلم به إذا استوت أساجيعه واطردت. ولخلو هذا الكلام من كل نوع من الفوائد قال أبو بكر رضي الله عنه حين طرقت سمعه: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من بال. وأخبرني ابن الفارسي محمد بن القاسم بن الحكم قال: أخبرني أبي قال أخبرني إبراهيم بن هانئ قال: أخبرني يحيى بن بكير قال: أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن نشيط قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى البحرين , فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو ثم َّ. قال عمرو: فأقبلت حتى مررت على مسيلمة فأعطاني الأمان ثم قال: إن محمدًا أرسل في جسيم الأمور وأرسلت في المحقرات. فقلت: أعرض علي ما تقول. فقال: " يا ضفدع نقي فإنك نعم ما تنقين. لا واردًا تنفرين , ولا ماءً تكدرين , يا وبر يا وبر , يدان وصدر , وسائرك حضر نفر ". ثم أتى أناس يختصمون إليه في نخل قطعها بعضهم لبعض فتسجَّى بقطيفة ثم كشف رأسه فقال: " والليل الأدهم , والذئب الأسحم , ما جاء بنو أبي مسلم من محرم " ثم تسجَّى الثانية فقال: " والليل الدامس , والذئب الهامس ما حرمته رطبًا إلا كحرمته يابس , قوموا فلا أرى عليكم فيما صنعتم شيئًا ". قال: قال عمرو: أما والله إنك تعلم وإنا

لنعلم أنك من الكاذبين. فتوعدني. قلت: صدق عمرو. هل يخالج أحدًا شك في ضلالة من هذا سبيله , وسقوط من هذا برهانه ودليله؟! وأي بلاغة في هذا الكلام؟ , وأي معنى تحته , وأي حكمة فيه حتى يتوهم أن فيه معارضة للقرآن , أو مباراة له على وجه من الوجوه؟. ولكن البائس أعلم بنفسه حين يقول: أرسلت في المحقرات , ولا يراد أحقر مما جاء به وأقل. ولعل بعض ما جاء به أبو الينبعي وأبو العَبْر , والطرميُّ وأضرابهم من السخافات أشف منه وأخف على السمع. وما أشبه الأمر في هذا بما حكي لنا عن أبي عمرو بن العلاء: حدثني محمد بن الحسين بن عاصم قال: حدثني محمد بن الصباح المازني قال: حدثني عبدالله بن الهيثم حدثنا الأصمعي قال: أنشد رجل أبا عمرو بن العلاء شعرا رديئًا فقال: هذا شبه شعر فلان: حدارجا جدارجا ... سبعين فرخا دارجا قال: وأنشد رجل آخر شعرًا رديئًا فهًّا فقال: هذا يشبه شعر بشار: حبابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت لها سبع دجاجات ... وديك حسن الصوت وأما قول الآخر: الفيل ومالفيل وما أدراك مالفيل , وقول صاحب ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ... فإن كل واحد من هذين الكلامين مع قصور آيه , وقصر معانيه خال من أوصاف المعارضات وشروطها؛ وإنما

هو استراق واقتطاع من عرض كلام القرآن واحتذاء لبعض أمثلة نظومه , وكلا لن يبلغوا شأوه أو يصيبوا في شيء من ذلك حذوه. وسبيل من عارض صاحبه في خطبة أو شعر أن ينشئ له كلاما جديدًا ويحدث له معنى بديعًا , فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين فيحكم بالفلج لمن أبر منهما على صاحبه , وليس بأن يتحيف من أطراف كلام خصمه فينسف منه ثم يبدل كلمة مكان كلمة فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق , ثم يزعم أن قد واقفه موقف المعارضين وإنما المعارضة على أحد وجوه: منها أن يتبارى الرجلان في شعر أو خطبة أو محاورة فيأتي كل واحد منهما بأمر محدث من وصف ما تنازعاه , وبيان ما تباريا فيه يوازي بذلك صاحبه أو يزيد عليه فيفصل الحكم عند ذلك بينهما بما يوجبه النظر من التساوي والتفاضل , نحو ما تنازعه امرؤ القيس وعلقمة بن عبدة من وصف الفرس في قصيدتيهما المشهورتين , فافتتح امرؤ القيس قصيدته بقوله: خليليَّ مرَّا بي على أمِّ جُنْدبِ فلما صار إلى ذكر الفرس وسرعة ركضه قال: فللزجر أُلهوبٌ وللسَّاق دِرةٌ ... وللسَّوطِ منه وقْعُ أهوجَ مُنْعِبِ

وابتدأ علقمة قصيدته بقوله: ذهبتِ مِنَ الهجران في غير مذهبِ فلما صار إلى ذكر الفرس وركضه قال: فعفَّى على آثارهنَّ بحاصِبٍ ... وغيبة شؤبوبٍ من السَّد ملهبٍ فأدركهنَّ ثانيًا من عنانه ... يمرُّ كمرِّ الرائح المتَحَلِّبِ وكانا قد حكَّما بينهما امرأة امرئ القيس , فقالت لزوجها: علقمة أشعر منك , فقال: وكيف ذلك؟ قالت: لأنه وصف الفرس بأنه أدرك الطريدة من غير أن يجهده أو يكده , وأنت مريت فرسك بالزجر وشدة التحريك والضرب , فغضب عند ذلك وطلقها. ونحو هذا معارضة الحارث بن التوأم اليشكري إياه في إجازة أبيات: أخبرني محمد بن الحسين بن عاصم قال أخبرني محمد بن الصباح المازني قال: أخبرني عبيدالله بن محمد الحنفي قال أخبرني محمد بن سلام عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان امرؤ القيس ينازع كل من قيل أنه يقول شعرًا , فنازع الحارث بن التوءم , فقال امرؤ القيس: أحارِ ترى بريقًا هبَّ وهناً

فقال الحارث: كنار مجوسَ تستعرُ استعارا فقال امرؤ القيس: أرِقتُ له ونام أبو شريحٍ فقال الحارث: إذا ما قلت قد هدأ استطارا فقال امرؤ القيس: غمر بجانب العبلات منه فقال الحارث: وبات يحتفر الأكم احتفارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك ببطن السِّي ظبيا فقال الحارث: ولم يترك بعرصتها حمارا فقال امرؤ القيس: كأن هزيزه بوراء غيب قال الحارث: عشارٌ وُلَّهٌ لاقت عشارا

فقال امرؤ القيس: فلما أن علا شرجي أُضاخٍ قال الحارث: وهت أعجاز ريِّقه فخارا قال امرؤ القيس: فلم تر مثلنا ملكًا هماما قال الحارث: ولم تر مثل هذا الجار جارا قال: فآلى امرؤ القيس ألا يناقض بعده شاعرًا. قال محمد بن سلام في غير هذه الرواية: فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه , ولم يكن في ذلك الدهر شاعر يماتنه آلى ألا ينازع الشعر بعده أحدًا. قلت: هذه مباراة عجيبة , ومعارضة تامة مستوفاة فصلًا فصلأ , ومصراعاً مصراعاً , وللحارث فيها ما ليس لامرئ القيس لأن المبتدئ , متمكن من الاختيار موسع عليه الطرق يسلك أيها شاء , والمجيز مقصور القيد ممنوع من التصرف إلا في الجهة التي هو بإزائها فلذلك قد أبر عليه الحارث لما جاء من حسن التشبيه والتمثيل الذي خلا منه كلام امرئ القيس , ولأجل ذلك آلى امرؤ القيس ألا يماتن شاعرًا بعده.

وقد روي لنا أن الوليد بن عبد الملك وأخاه مسلمة تنازعا ذكر الليل وطوله , ففضل الوليد أبيات النابغة في وصف الليل , وفضل مسلمة أبيات امرئ القيس؛ فحكَّما الشعبي بينهما , فقال الشعبي: تنشد الأبيات وأسمع , فأنشد للنابغة: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب ثم أنشد لامرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدولهُ ... عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَطّى بصلبه ... وأردَف أعجازاً وناءَ بكلْكلِ ألا أيها الليل الطويل إلا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل قال فركض الوليد برجله , فقال الشعبي: بانت القضية. قلت: افتتاح النابغة قصيدته بقوله: كليني لهم يا أميمة ناصب متناه في الحسن , بليغ في وصف ما شكاه , من همه وطول ليله. ويقال إنه لم يبتدئ شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام. وقوله: وصدرٍ أراح الليل عزب همَّه

مستعار من إراحة الراعي الإبل إلى مباتها , وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة؛ إلا أن في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة وحسن التشبيه وإبداع المعاني ما ليس في أبيات النابغة , إذ جعل لليل صلبا وأعجازا وكلكلا , وشبه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضًا حالا على حال , وجعل النجوم كأنها مشدودة بحبال وثيقة فهي راكدة لا تزول ولا تبرح , ثم لم يقتصر على ما وصف من هذه الأمور حتى عللها بالبلوى ونبه فيها على المعنى , وجعل يتمنى تصرم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الروح , ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدمه وأمضاه فزعم أن البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء , والمحنة فيها أعلظ من أن يوجد لدائها في حال من الأحوال داء وشفاء , وهذه الأمور لا يتفق مجموعها في اليسير من الكلام إلا لمثله من المبرزين في الشعر الحائزين فيه قصب السبق , ولأجل ذلك كان يركض الوليد برجله إذ لم يتمالك أن يعترف له بفضله. فبمثل هذه الأمور تعتبر معاني المعارضة فيقع بها الفصل بين الكلامين من تقديم لأحدهما أو تأخير أو تسوية بينهما. وقد يتنازع الشاعران معنى واحدًا فيرتقي أحدهما إلى ذروته ويقصر شأو الآخر عن مساواته في درجته , كالأعشى والأخطل حين انتزعا

في وصف الخمر على معنى واحد فكان لأحدهما العلو , وكان للآخر السفل. أخبرني أبو رجاء الغنوي قال: أخبرني أبي قال: أخبرني عبدالله بن أبي سعد قال: حدثني أبو غسان مالك بن غسان المسمعي قال: حدثني هشام ابن أدهم المازني -وكان علامة - قال: دخل الشعبي على الأخطل فوجده ثملا وحوله لخالخ ورياحين , فقال: يا شعبي فعل الأخطل وذكر أمهات الشعراء , فقال الشعبي: بماذا يا أبا مالك؟ قال: بقوله: وتظلُّ تنصفنا بها قرويةٌ ... إبريقها بِرقاعه ملْثُومُ فإذا تعاورت الأكف زجاجها ... نفحت فنال رياحها المزكوم فقال الشعبي: أشعر منك الذي يقول: وأدكن عاتق جحلِ سِبْحلٍ ... صبحت براحه شرْبًا كراما من اللائي حُملنَ على الروايا ... كريح المسك تستلُّ الزكاما فقال له الأخطل: من يقول هذا يا شعبي؟ , قال: الأعشى , قال: قدُّوس قدوس , فعل الأعشى , وذكر أمهات الشعراء. فتأمل أين منزلة أحدهما من الآخر , لم يزد الأخطل حين احتشد وافتخر على أن جعل رائحتها لذكائها تنفذ حتى تخلص إلى الرأس فينالها المزكوم , وجعلها الأغشى لحدتها وفرط ذكائها مستلة للزكام طاردة له , وقد طبت لدائه وتأيَّت لبرئه وشفائه.

وأعجب من هذا في المعارضات. وأبلغ منه في مذاهب المقابلات والمناقضات بناء الشيء وهدمه , وتشييده ثم وضعه ونقضه , كقول حسان بن ثابت. أخبرني أبو رجاء قال: حدثني أبي قال: حدثني عمر بن شبة قال: حدثني هارون بن عبد الله الزبيري قال: حدثني يوسف بن عبد الله الماجشون عن أبيه قال: قال حسان: أتيت جبلة بني الأيهم الغساني وقد مدحته فقال لي: يا أبا الوليد إن الخمر قد شغفتني فاذممها لعلي أرفضها فقلت: ولولا ثلاثٌ هن في الكأس لم يكن ... لها ثمن من شارب حين يشرب لها نزقُ مثل الجنون ومصرع ... دنيٌّ وأن العقل ينأى ويعزب فقال: أفسدتها فحسنها , قلت: ولولا ثلاثٌ هن في الكأس أصبحت ... كأنفس مال يستفاد ويطلب أمانيها والنفس يظهر طيبها ... على حزنها والهم يسلى فيذهب فقال: لا جرم. والله لا تركتها أبدًا. قلت: وها هنا وجه آخر يدخل في هذا الباب , وليس بمحض المعارضة , ولكنه نوع من الموازنة بين المعارضة والمقابلة , وهو أن يجري أحد الشاعرين في أسلوب من أساليب الكلام وواد من أوديته , فيكون أحمدهما أبلغ في وصف ما كان من باله من الآخر في نعت ما هو بإزائه , وذلك مثل أن يُتأمل شعر أبي دؤاد الإيادي والنابغة الجعدي في صفة الخيل. وشعر الأعشى والأخطل في نعت الخمر , وشعر الشماخ في وصف الحمر , وشعر ذي الرمة في وصف الأطلال والدمن , ونعوت البراري والقفار , فإن كل واحد منهم وصاف لما يضاف إليه من أنواع الأمور , فيقال: فلان أشعر في بابه

ومذهبه من فلان في طريقته التي ذهبها في شعره , وذلك بأن تتأمل نمط كلامه في نوع ما يعنى به ويصفه , وتنظر فيما يقع تحته من النعوت والأوصاف , فإذا وجدت أحدهما أشد تقصيًا لها , وأحسن تخلصًا إلى دقائق معانيها , وأكثر إصابة فيها حكمت لقوله بالسبق , وقضيت له بالتبريز على صاحبه , ولم تبال باختلاف مقاصدهم وتباين الطرق بهم فيها. قلت: وإذا أنت وقفت على شروط المعارضات ورسومها , وتبينت مذاهبها ووجوهها علمت أن القوم لم يصنعوا في معارضة القرآن شيئًا , ولم يأتو من أحكامها بشيء بتة. والأمر في ذلك بين واضح لا يخفى على ذي مُسكة ذكي والحمد لله. فيقول الآن لصاحب الفيل: يا فائل الرأي , أين ما شرطناه من حدود البلاغة فيما جائت به من الكلام , وأين ما وصفناه من رسوم المعارضات فيما هذيت من جهلك وضلالتك , افتتحت قولك بـ: " الفيل ما الفيل وما أدراك ما لفيل ... " فهولت وروعت , وصعدت وصوبت ثم أخلفت ما عدت وأخدجت ما ولدت حين انقطعت , وعلى ذكر الذنب والمشفر اقتصرت , ولو كنت تعرف شيئًا من قوانين الكلام وأوضاع المنطق ورسومه لم تحرف القول على جهته , ولم تضعه في غير موضعه. أما علمت يا عاجز أن مثل هذه الفاتحة إنما تجعل مقدمة لأمر عظيم الشأن فائت الوصف متناهي الغاية في معناه , كقول الله تعالى: {الحاقَّة , ما الحاقَّة , وما أدراك ما الحاقّة} و {القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة} فذكر يوم القيامة وأتبعها من ذكر أوصافها وعظيم أهوالها ما لاق بالمقدمة التي أسفلها وصدر

الخطبة بها فقال: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش ...} إلى آخر السورة. وأنت علقت هذا القول على دابة يدركها البصر في مدى اللحظة ويحيط بمعانيها العلم في اليسير من مدة الفكر , ثم اقتصرت من عظيم ما فيه من العجب على ذكر المشفر والذنب , فما أشَبِّه قولك هذا إلا بما أنشدنيه بعض شيوخنا لبعض نظرائك: وإني وإني ثم إني وإنني ... إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا أي صغير ما أتيت به في عجز كلامك من عظيم ما أصميته في صدره ويسير ما رضيت به في آخره من كثير ما أنميته في أوله , وإذ قد دلك فيالة رأيك وسوء اختيارك على معارضة القرآن العظيم بذكر الفيل وأوصافه , فهلا أتيت منها بما هو أشف قليلًا وأشفى وأجمع لخواص نعوته وأوفى فتذكر ما أعطيته هذه البهيمة العجماء من الذهن والفطنة التي بها تفهم عن سائسها ما يومئ به إليها من تدبيره , وهلا تعجبت وعجبت من ذلك من حسن مواتاتها وطاعتها له إذا أغراها , وقرب ارتداعها إذا زجرها ونهاها. وهلا فرنت إلى ذكر مشفرها ذكر نابيها اللذين بهما تصول , وبسنانهما تطعن وتجرح.!! وكيف أغفلت أمر أذنيها العريضتين اللتين تلحفهما وجهها وتذب بتحريكهما البق والذباب عن صما خيها وعينيها , وبهما تروح على نواحي رأسها ,

وكيف لم تفطن لموضع التدبير من قصر رقبتها واندماج عنقها , فإنها لو طالت لم تقل رأسها , ولأوهنها ثقل حمله. فإذ قد منعت امتداد العنق فقد عوضت به انسدال المشفر , لتتناول به من وجه الأرض حاجتها من القوت والعلف , وتدلو به شربها من الماء , وتملأ كالسقاء فتنضح به أعضاءها إذا شاءت , ثم قد منعت البروك بأن لم تجعل لها مفاصل لم تقدر على النهوض , إذ ليس لها عنق تتطاول بها كالبعير الذي يهنع بعنقه وينبعث ويثور , فما يشبه هذه الأمور من نعوت خلقها وعجائب تركيبها. ويقال له أرأيت لو عارضك في قولك سفيه مثلك بالبعوض الذي هو خصم فيلك وجنفه في مضادة الطباع , وقد حكاه في مناظر الخلقة من شخوص الفودين وانخراط الخدين. وانسدال المشفر والصول به. فقال: " البعوض ما البعوض وما أدراك مالبعوض , له مشفر عضوض , في الدماء يخوض. فهو للفيل عروض " هل يكون سبيله فيما تعاطاه من السخف إلا سبيلك فيما أتيته من الجهل؟. فإن قيل إن البعوض ليس بعروض الفيل لبعد ما بينهما من التفاوت في الحجم والجثة وما بينهما من الضعف والقوة قيل: مدار الحكم في باب التشبيه والتمثيل على المعاني دون الأعيان والأجسام , والبعوض حيوان من أوجه كالفيل , يكسب القوت ويتوقى المهالك , ولذلك صار يتوارى نهارًا ويبرز ليلًا , وقد أشبه خلقه الفيل برأسه وبخرطومه ,وبسائر ما ذكرناه من أمره , ثم قد زاد عليه بجناحين , فصار موضع نقص الجسم والجثة مجبورًا بهما , فهما متساويان في المعاني التي تجمعهما غير مفترقين فيهما.

وأما قول الآخر وما جاء به من نعت للحبلى , فإن أول ما غلط به هذا الجاهل أنه وضع كلمة الانتقام في موضع كلمة الإنعام حين قال: " ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى " , وإنما تستعمل هذه اللفظة في العقوبات ونحوها كقوله: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} , وكقوله سبحانه: {ما يفعل الله بعذابكم} وكقوله: {وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال} وكقول القائل: فعل الله بفلان وفعل , إذا دعا عليه , وإنما وجه الكلام مما رامه من المعنى أن يقول: ألم تر إلى ربك كيف لطف بالحبلى , وكيف أنعم عليها أو نحوًا من هذا الكلام الذي يجري مجرى الامتنان والإنعام. وأما قوله: أخرج منها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشى , فإنما تعاطى استراقا من قول الله تعالى: {خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب} , وهذا في أول تارات الخلقة التي ذكرها الله سبحانه عز وجل؛ ثم ذكر في آية أخرى عدد انتقالاته في الرحم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم. وإنشاء خلق بعد ذلك آخر , وهو اجتماع الصورة ونفخ الروح فيها , فدل بها على عظيم قدرته ولطيف حكمته وسعة رحمته , فتبارك الله أحسن الخالقين , وإنما تتصرف به هذه الأحوال بعد الانتقال إلى الرحم , وبين الرحم والشراسيف مسافة وحجب. قال أصحاب التشريح: الرحم موضوعة بين المثانة والمعي المستقيم , فلم يدر هذا البائس ما يقول حين جعل الولد بعد الحبل خارجًا من بين الشراسيف والحشى تمثلًا بقوله جل وعز: {يخرج من بين الصلب والترائب} فغلط في الوصف.

وأخطأ في المعنى كما أبطل في الدعوى. وتلك سبيل مقالات المتكلفين وعاقبة دعاوى المبطلين. قلت في إعجاز القرآن وجهًا آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم , وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس , فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوما ولا منثورا , إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال , ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه , تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور , حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق , وتغشاها الخوف والفرق , تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب , يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها؛ فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن , فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول , وأن يركنوا إلى مسالمته , ويدخلوا في دينه , وصارت عداوتهم موالاة , وكفرهم إيمانا. خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمد قتله , فسار إلى دار أخته وهي تقرأ سورة طه , فلما وقع في سمعه لم يلبث أن آمن. وبعث الملأ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليواقفوه على أمور أرسلوه بها , فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من حم السجدة , فلما أقبل عتبة وأبصره الملأ من قريش

قالوا: أقبل أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في الموسم على النفر الذين حضروه من الأنصار آمنوا به وعادوا إلى المدينة فأظهروا الدين بها , فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه قرآن. وقد روي عن بعضهم أنه قال: فتحت الأمصار بالسيوف وفتحت المدينة بالقرآن. ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت: {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به} ومصداق ما وصفناه في أمر القرآن في قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} , وفي قوله {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} , وقال سبحانه: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}. وقال سبحانه: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}. وقال سبحانه {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} في آي ذوات العدد منه , وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد , وهو من عظيم آياته , ودلائل معجزاته. والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , قيِّما , ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا , وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين , غيظ الكافرين , وحتف الملحدين , المبعوث بدين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تم الكتاب بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا والحمد لله رب العالمين أوائل شوال عام ستة وألف. عرفنا الله خيره ووقانا شره وجاء في آخر النسخة: " بلغت المقابلة هنا من الأصل المنتسخ منه "

§1/1