بيئات التربية الإسلامية

عباس محجوب

أولا: الأسرة

بيئات التربية الإسلامية للدكتور عباس محجوب يقصد بالبيئات الأمكنة التي تتم فيها العملية التربوية لما لتلك البيئات من وظائف تربوية تقوم بها مع التركيز على الصفة التربوية لهذه البيئات وتشمل هذه البيئات الأسرة والمسجد والمدرسة والمجتمع. أولا: الأسرة تعتبر الأسرة المكونة من الأبوين أقدم مؤسسة اجتماعية للتربية عرفها الإنسان إذ إنها كانت ولا تزال المؤسسة الوحيدة التي تعلم وتهذب الطفل وتنقل إليه عن طريق الأب خبرات الحياة ومهارتها المحدودة ومعارفها البسيطة وكانت القبيلة هي التي تساعد الآباء في عملية التربية وكثيرا ما كان الإبن وارثا لمهنة والده التي تعلمها ومارسها معه ولا زالت الأسرة في المجتمعات المختلفة هي مصادر التربية والمعرفة بالنسبة لأبنائها، وقد أدى تطور الحياة البشرية واستقرار الإنسان وبناء المجتمعات المدنية والقروية وزيادة الخبرات البشرية وتعدد أنواع المعرفة البشرية إلى إن تشارك مؤسسات أخرى الأسرة في واجب الرعاية والاهتمام والتربية والتوجيه وتخلت الأسرة عن بعض ما كانت تقوم به بالرغم من أنها ظلت المؤسسة الأولى في حياة المجتمع الحديث أيضا في التربية. كانت الأسرة تقوم بواجب التربية من الناحية الصحية والجسمية فيوفر الأبوان لطفلهما الطعام والشراب والكساء والمأوى ثم تعليمه المهنة التي يعيش بها في المستقبل وغالبا ما تكون مهنة الوالد على حين تتعلم البنت أمور البيت وقد تساعد في أعمال الزراعة مع أمها، ولكن تطور الحياة جعل الأسرة تسعى إلى تعليم أبنائها وأصبحت المدرسة المؤسسة الثانية بعد الأسرة. وقد سبق أن تحدثنا عن بعض المهام التربوية التي تقع على عاتق الأسرة المسلمة وأهمها إيجاد الأم الصالحة للأبناء ورعاية الأمهات ثم اختيار الاسم الصالح للأبناء وتعهدهم بالرعاية والتربية الدينة والتوجيه إلى المثل العليا والتمسك بالفضائل وغيرها مما لا نود تكراره. وأول الحاجات الضرورية التي يجب أن توفرها الأسرة هو حاجة الطفل إلى الحب والعطف والحنان ولا يمكن توفر ذلك في أسرة لا تقوم أساسا على المودة كما يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ

لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 1 لأن هذه المودة بين الوالدين تنتقل إلى الأولاد فتسود المحبة جو العائلة وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الطفل إذا أحس بفقد العطف والحنان والرعاية ترجم ذلك في تصرفات يريد بها إثارة الانتباه واستدرار عطف والديه ثم تنعكس هذه الآثار في مستقبل الطفل فيصبح قاسيا في سلوكه ساخطا على المجتمع. ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بالأطفال وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجا لما يجب أن تكون عليه العلاقة الأسرية بين الأبناء والآباء فقد كان يحنو على الحسن والحسين… يمتطيان ظهره الشريف فيحبو بهما ويخاطبهما وقد أطال الرسول صلى الله عليه وسلم السجود مرة فسئل عن ذلك فقال: "إن ابني ارتحلني فكرهت أن اعجل حتى يقضي حاجته "2 وقد حدث أن كان عليه الصلاة والسلام يقبل الحسن وعنده أعرابي يتعجب من ذلك ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لي عشرة الأولاد ما قبلت أحدا منهم قط" فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يرحم"3 وفي رواية: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ "، وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر" 4، وكان صلى الله عليه وسلم رحيما بالصبيان عامة يسلم عليهم إن رآهم ويتسابق معهم إن رآهم يتسابقون ويلتقي بصبيان أسرته إذا عاد من سفر ويركب على ناقته من يلقاه منهم. وهذا النوع من التربية للأطفال يؤدي إلى نتيجتين أولاهما إشباع حاجة الطفل الغريزية للحب والعطف والحنان والرعاية وثانيهما انتقال هذه الصفات منه إلى الآخرين كبارا كانوا أم أطفالا. إن الإسلام عندما وضع على عاتق الأم أعظم مهام الحياة وهي التربية للأجيال وبناء الإنسان كان ذلك من معرفة الإسلام بأن التربية الصحيحة لا تتوفر إلا في الأسرة التي تستطيع المرأة فيها أن تعطي وقتها لبيتها وزوجها وأطفالها وأن توفر لهم جميعا المأوى الدافئ والجو المليء بمعاني العطف والمودة والرحمة. إن المجتمعات الحديثة وقد خرجت فيها المرأة مع الرجل إلى العمل جعلت الأبوين منصرفين عن العناية والرعاية لأطفالهما لأنهما يعودان من العمل منهكين متعبين محتاجين إلى الراحة الجسدية مما يفقد أبناءهما عواطف المحبة والرحمة والنظر في مشاكلهم التربوية والتعليمية وحاجتهم إلى الحنان والرعاية ومثل هذه الأسرة لا تفقد أبناءها ما تقدم بل تجعلهم يتعلمون كثيرا من أنواع السلوك السيء والعادات الضارة من الشارع أو صحبة الأشرار أو الخدم في البيوت.

_ 1 الروم 21. 2 رواه أبو داود. 3 رواه البخاري. 4 رواه الترمذي.

إن واجب الأسرة في الإسلام توجيه الأطفال إلى الصلاة وعبادة الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ومراقبة تنفيذ هذا الأمر وأخذهم بشدة في سن العاشرة والتفريق بينهم في المضاجع والاستئذان في الأوقات التي حددها القرآن لأن الطفل لا بد أن ينشأ على السلوك الإسلامي الذي يخضع النظام الأسري فيها لتعاليم الإسلام ونظمه في المأكل والملبس والسلوك وكل شأن من شؤون الحياة، وعن دور الأسرة في تربية الأولاد يقول الغزالي: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة ... وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك… ورياضته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء.. ومهما رأى فيه مخايل التمييز فإنه ينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله تعالى إليه، وبشارة تدل على الأخلاق، وصفاء القلب، وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه، وإن الصبي إذا أهمل في بدء نشأته خرج في الأغلب رديء الأخلاق، كذابا حسودا، سروقا، نماما لحوحا، ذا فضول وضحك، وكيد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب ثم يشغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار وأحوالهم ليغرس في نفسه حب الصالحين ويحفظ (بضم الياء وسكون الحاء وفتح الفاء) من الأخبار التى فيها ذكر العشق وأهله ... ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فإنه ينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح ويمدح بين أظهر الناس فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة ينبغي أن يتغافل عنه وألا يهتك ستره ولا يكاشفه، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه وإن عاد ثانية ينبغي أن يعاتب سرا ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا فتفضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين، فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب النتائج ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن حافظا هيبة الكلام معه، فلا يوبخه إلا أحيانا، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح" ويقول أيضا: "وينبغي أن يعود ألا يبصق في مجلسه ولا يتمخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره، ولا يضع رجلا على رجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل، ويعلم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام، ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة، ويمنع الحلف رأسا، صادقا كان أو كاذبا حتى لا يعتاد على ذلك من الصغر. ويمنع أن يبتدئ بالكلام، ويعود ألا يتكلم إلا جوابا وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سنا وأن يقوم لمن فوقه، ويوسع له المكان، ويجلس بين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك، فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء ... وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه وكل من هو أَكبر منه سنا من قريب وأجنبي ومهما بلغ من التمييز ألا يسامح في ترك الطهارة والصلاة، ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان.

إن الأسرة التي تقوم بالواجبات التي سبق ذكرها والتي هي جماع لما يسمى الآن بالتربية الخلقية والجسمية والعقلية والاجتماعية، لهي أسرة مثالية قادرة على تخريج رجال نافعين لأنفسهم ولأمتهم، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم واجبات الأسرة نحو أبنائها فيما ذكرنا من الرحمة والشفقة والعطف عليهم لأن تلك الأمور تعطي الأطفال الاطمئنان النفسي والثقة بالذات… والنشأة السوية والاهتمام بالواجب كما دعا الإسلام إلى التعويد على الصلاة باعتبارها عماد الدين كما أن على الأسرة أن تملأ فراغ الأطفال باللعب وتعلم فنون القتال وما يقوي الأجسام والقراءة النافعة الموجهة وقفل أبواب الفساد والانحراف وذلك بالتوجيه لهم إلى الصحبة الطيبة وإبعادهم عن رفاق السوء ومراقبتهم الدائمة من غير مضايقة لهم أو إشعارهم بذلك، كما أن حسن معاملة الوالدين لبعضهما ولأولادهما هو خير طريقة لتربيتهما لأن المعاملة القاسية والإحباط الدائم بالتوبيخ والضرب والإهانة والسخرية تؤدي إلى نتائج سيئة أهمها فقدان الثقة بالنفس وحب العزلة عن الناس والخوف وعدم تحمل أي مسئولية في الحياة والاعتماد على الغير، وربما الاتجاه نحو الجريمة والانحراف والشذوذ، ولذلك دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة والرفق ولين الجانب وعذوبة الألفاظ والتوجيه الحسن والعقوبة المعقولة فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بأن الراحمين يرحمهم الرحمن وأن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على سواه ويقول: "إن أراد الله تعالى بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق، وإن الرفق لو كان خلقا لما رأى الناس خلقا (بفتح الخاء) أحسن منه وإن العنف لو كان خلقا لما رأى الناس خلقا أقبح منه". وأهم واجبات التربية الأسرية أيضا التربية الإيمانية للطفل وذلك بتوجيه عواطف الطفل نحو حب الله وحب رسوله وإخباره بأن الله يجب أن يكون أحب إليه من أمه وأبيه ونفسه التي بين جنبيه وإلى جانب عاطفة الحب تكون عاطفة الخوف من الله لأن العاطفة الأولى تؤدي إلى طاعة الله والعمل بما أمر والثانية تؤدي إلى البعد عن المعاصي قولية أو فعلية ظاهرة أو باطنة والأطفال يستهويهم الحديث عن الله وحبه والجنة والنار ووسائل الوصول إليهما، وعلى الآباء إشعار أبنائهم بأن حبهم له ينشأ من حاجتهم الدائمة إليه هم وآباؤهم لأن كل شيء بيد الله، الإحياء والإماتة والشقاء والسعادة، والرزق والنعمة والهداية والضلال وهذه الحاجة هي التي جعلتنا نحبه أولا ونقوم بواجب الشكر ثانيا من اتباع ما أمر واجتناب ما نهى، ويمكن غرس هذه المعاني في الطفل ساعة وصوله إلى مرحلة الاستغناء عن أمه ونمو قواه الجسمية والعقلية بحيث يستطيع فهم التوجيهات القرآنية والنبوية في ذلك وبحيث يستقر في قلبه أن مصدر كل شيء في الوجود هو الله، وتوجيهه إلى بعض الأحاديث مثل الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجال واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه" وكما روي الحديث.

إن غرس الإيمان الحقيقي في نفوس الناشئة والإيمان المطلق بالله بصفاته الثابتة له وحبه والخضوع له والخوف منه والالتجاء إليه في كل أمر هو سر السعادة للأبناء والأسرة خاصة إذا أثبتت العقيدة بالطرق التربوية السليمة التي تقوم على العاطفة والعقل والعلم والحكمة حتى يكون الإيمان هو مصدر السلوك وموجه الإنسان في الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا التدرج في تربية الأولاد فيقول فيما رواه ابن عباس: "افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله" ثم أمرهم بالصلاة في السابعة ثم تأديبهم على حب النبي وآل بيته وتلاوة القرآن وتعريفهم بالحلال والحرام ممارسة أمامهم وتلقينا وتوجيها لهم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ووعظا بتوصيلهم إلى بعض الأمور كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس. إن الأسرة هي البيئة الأولى التي يتعلم فيها الطفل فإذا وجد الأبوين الصالحين اللذين يرعيان ويوجهان ويحسنان التربية نشأ الأطفال نافعين لأنفسهم ولأمتهم ومطيعين لربهم منجين لأنفسهم وأهليهم من عقاب الله وسخطه.

ثانيا: المسجد

ثانيا: المسجد: أخذت الكلمة من أصلها الاشتقاقي وهو السجود لله سبحانه وتعالى فكان المكان الذي يخضع فيه الإنسان ويخشع لله هو المسجد، ومسجد قباء هو أول مسجد في الإسلام أسس على التقوى من أول يوم مما جعل المسجد على مر العصور رمزا لحضارة الإسلام وأماكن التربية والعبادة للمسلمين، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المهام التربوية التعبدية للمسجد فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} 1.. وقد وردت لفظة "مسجد" بالمفرد والجمع ثمان وعشرين مرة في القرآن كما وردت اللفظة كثيرا في السنة المطهرة مرتبطة بالبناء والتربية ورسالة المسجد، فالمسجد في الإسلام من أهم الأسس التي يقوم عليها تربية الفرد وبناء المجتمع ويمكننا أن نحدد المهام التربوية الوظيفية للمسجد من خلال القرآن والسنة فيما يلي: 1- المسجد مكان الصلاة والذكر والعبادة {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 2 {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ويقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 3 والمسجد هو مكان العبادة الجماعية وصلاة الجماعة التي يحسن بالمسلم أن يحرص عليها ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" 4.

_ 1 النور 37. 2 النور 37. 3 التوبة 109. 4 رواه مسلم.

والمساجد مكان الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . 2- المسجد مكان العلم والتعلم وأول ذلك دراسة القرآن الكريم يقول عليه الصلاة والسلام: فيما رواه أبو هريرة "… وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" 1. ويقول عليه الصلاة والسلام: "أفلا يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد يتعلم أويقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل"، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله تعالى وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم2. 3- المسجد مكان القضاء والحكم والشورى ومجمع للوزارات الإسلامية فقد كان المسجد هو مكان الحاكم والمدرسة التي تربى فيها الرعيل الأول من الصحابة إيمانيا وروحيا وخلقيا واجتماعيا وتفاعلت أرواحهم ونفوسهم بتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم وعطائه وقدوته، تعلموا فيه أمور الدين وعرفوا فيه الحلال والحرام كما تعلموا فيه علوم القرآن والسنة والشريعة واللغة وعلوم الحياة كلها، وتحققت فيه معاني الأخوة ممارسة وواقعا وتعاونوا على البر والتقوى واطمأنت فيه قلوبهم بذكر الله، وضربوا المثل النادر في التفاني والحب والإيثار والرحمة واختاروا فيه الخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وكل خليفة يلقي بيان سياسته وأسس حكمه فيه ابتداء بأبي بكر الصديق، وفيه تقاضى المتنازعون ففيه أصدرت الأحكام بإقامة حدود الله، وفيه قاضى كعب بن مالك رجلا دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: "يا كعب ضع عن دينك هذا" فقال: قد فعلت يا رسول الله. فقال: "قم فاقضه" 3 وفي المسجد أقيمت بعض ألعاب الفروسية فقد روت عائشة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قولها: "دعاني رسول الله والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد فقال: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم فقلت: نعم فأقامني من ورائه فنظرت من وراء منكبيه" قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم يهود أن في ديننا فسحة"4، وكان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا لإيواء الفقراء والغرباء الذين عرفوا بأهل الصفة بالمكان الذي خصص لهم، وكان فيه سبعون من الفقراء منهم أبو هريرة رضي الله عنه وفيه حبس بعض الأسرى وفيه كان الجرحى يداوون فقد روت عائشة فقالت: "أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل فضرب

_ 1 رياض الصالحين ص424 عن رواية مسلم. 2 رواه مسلم / رياض الصالحين 644. 3 فتح الباري ج5 ص73. 4 مسند الإمام أحمد.

رسول الله خيمة في المسجد ليعودوه من قريب"1 ومن المسجد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يدبرون شؤون الأمة والدولة والدعوة ويرسلون السفراء ويجهزون الجيوش ويضعون الاستراتيجيات ويخططون ويمارسون نظام الشورى وإذا جدّ أمر واستدعى قرارا سريعا ورأيا قاطعا نودي (الصلاة جامعة) فيجتمع الناس ويتشاورون، وفيها ينتخب العمال ويرسلون ويحاسبون وتوزع فيها أموال الزكاة والصدقات ويعقد فيها النكاح فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه الدفوف" 2 ومنه تعطى الشهادة بالنجاح مع الله للمسلم إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" 3 وبالتردد عليها يشهد للرجل بالإيمان فقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان "4، وهذا تأكيد لقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} . إن المسجد يمكن أن يؤدي دوره الأول في حياة المسلمين وتربية أبنائهم وتوجيههم في النواحي الروحية والأخلاقية والاجتماعية حيث يتعلم فيها ويستمع إلى الموعظة النافعة ويخطط فيها لرعاية الشباب وممارسة نشاطاته ويتعلم فيها النواحي الدينية وما يتعلق بمناهج الحياة وأمور التشريع، إن المسجد يمكنه ممارسة مهامه الأولى في التربية إذا كان للحاكم مكان فيه وإذا كان التخطيط للأمة المسلمة في ربوعه وإذا جعل المسجد مكانا لمناقشة الدراسات التي تقدمها اللجان المتخصصة في السياسة والتعليم والتربية والمال والشئون البلدية وما إليها. إننا نلحظ الآن لدى المسلمين اتجاهات إلى تحقيق رسالة المسجد الأولى ببناء المساجد والمدارس وقاعات المحاضرات والندوات والمستشفيات في مبنى واحد حتى يمكن للمسلمين أن يقضوا أمورهم كلها في ذلك المبنى، كما أننا نجد في كثير من البلاد اتجاه الشباب إلى جعل المسجد منارة للعلم ومكانا للمحاضرات ومجلسا شوريا للحي الواحد، وهذا يقضى أن يكون من يتولون الأمر على درجة من العلم والمعرفة بشؤون الدين والدنيا وأن يكون الخطباء في مستوى الإسلام وتعاليمه ومعارفه وفي مستوى الحياة ومشكلاتها وهمومها حتى يكون الخطيب إمام الناس حقا في أمور د ينهم ودنياهم. إن المسجد عامل مهم من عوامل التربية وبناء الأفراد والأمم فيه يعلَّم النشء الحلال والحرام وأمور الدين والدنيا وأحوال المسلمين وتاريخهم وهمومهم ومشاكلهم وفيه تتحقق معاني التعاطف والمودة والرحمة والتعارف والتعاون وفيه يتدارس الناس القرآن وعلوم الدين وتصقل فيه المواهب وتقوى النواحي الروحية والجسمية والعقلية والوجدانية ففي كل خطوة إلى المسجد تحط خطيئة وتكتب حسنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة".

_ 1 رواه البخاري ومسلم. 2 رواه الترمذي. 3 رواه أبو داود والترمذي. 4 رواه الترمذي.

ولا يمكن للناشئة أن يكونوا على صلة بالمساجد ما لم يكن الآباء قدوة لهم في ذلك ... يشجعونهم ويأخذونهم معهم ويربطونهم بدروسه ونشاطاته المختلفة حتى ينشأ الشباب في رحاب الله وفي بيت من بيوته.

المسجد ودوره في محو الأمية وتعليم الكبار

المسجد ودوره في محو الأمية وتعليم الكبار: يقول العبدري في كتابه المدخل: "أفضل مواضع التدريس هو المسجد؛ لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة أو تخمد به بدعة أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى والمسجد يحصل فيه هذا الغرض متوافرا، ولأنه موضع لاجتماع الناس رفيعهم ووضعيهم وعالمهم وجاهلهم"1 وهو يقصد بهذا تعليم الكبار العلوم الدينية، ويرى الدكتور عبد الفتاح جلال: "أن المسجد كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أول مدرسة لتعليم الكبار كان عليه الصلاة والسلام المعلم والصحابة الكرام تلاميذها العباقرة الأفذاذ إذ تعلموا فيها كل أنواع العلم والمعرفة التي تفيد الإنسان في الدنيا والآخرة وتبني جميع جوانب شخصيته فيخرج منها متكامل الشخصية حقا"2 ويرى هذا الباحث المتخصص في التعليم الوظيفي أن من احتياجات المجتمع المعاصر لبعض وظائف المسجد ما يلي: 1- إمكانية قيام المسجد بدوره في تعليم الأميين تعليما يربطهم بدينهم إذ بلغوا خمسين مليونا في البلاد العربية وحدها. 2- تعاون المسجد مع المؤسسات الاجتماعية في تقديم التعليم المفيد لنسبة كبيرة وقف تعليمها في المرحلة الابتدائية وتعاني نقصا في مهارات الكتابة والقراءة والثقافة العامة أو الدينية. 3- سد المسجد للثغرات الموجودة في مناهج التعليم فيما يخص التربية الدينية التي يغلب عليها في مدارسنا طابع التلقين والهامشية. 4- الاستعانة في المسجد بذوي الخبرات والمعرفة لتقديم المحاضرات لكبار المتعلمين الذين يحتاجون إلى مزيد من العلم في جوانب متعددة ومتنوعة وتساعدهم على أداء أعمالهم. 5- إقامة مكتبة مزودة بالكتب الدينية والعلمية والثقافية الهامة والمفيدة في المسجد لتحقيق الربط العضوي الفعلي بين العلم والدين. 6- مشاركة المسجد في تنمية المجتمع وتطويره وتقدمه وانتشاله من مظاهر التخلف الاجتماعي والاقتصادي. 7- أن يشمل تعليم الكبار الرجال والنساء بدءا بالكتابة والقراءة إلى أعقد أمور التخصص وأرفع درجات المعرفة. إن المسجد لا يمكن أن يقوم بدوره في المجتمع الحديث المعقد ما لم يستفد من الإمكانات المتاحة

_ 1 نقلا عن الأبراشي عن التربية الإسلامية وفلاسفتها ص78-79. 2 مجلة الفيصل العدد الثامن السنة الثانية ص80.

وما لم يتفاعل مع الناس ومشكلاتهم وحياتهم يقدم لهم الحلول والعلوم ويستفيد من العلماء الصالحين والمتخصصين في صفوف المعرفة ويزود بالمكتبات العلمية الضخمة والوسائل العلمية الحديثة في مجال التعليم والتربية.

ثالثا: المدرسة

ثالثا: المدرسة: إن المدرسة مؤسسة اجتماعية حديثة العهد في العالم فكما ذكرنا فإن الأسرة ثم القبيلة هي الوسائل التي عرفتها البشرية لتربية الأولاد وإكسابهم المهارات التي يراد لهم تعلمها وبتطور الحياة أصبحت الحاجة ماسة إلى اتخاذ مكان يتعلم فيه الصغار وإلى أشخاص ينوبون عن المجتمع في أداء هذه المهمة، ولم يعرف المسلمون المدرسة بالصورة التي نعرفها إلا في القرن الخامس الهجري نسبة إلى ارتباط التربية والتعليم في الإسلام بالمسجد وكان للمسجد دوره الذي ذكرناه في تحمل مسؤولية نشر الثقافة الإسلامية والمعارف الإسلامية وكان كثير من العلماء يرون عدم تدريس الأولاد في المساجد لتزايد أعدادهم وما يحدثه وجودهم في المسجد من حركة وضجيج زيادة على كثرة المواد التي تدرس وما يترتب عليها من نقاش وحوار وجدل ومناظرة مما جعلهم ينشؤون المدارس مرتبطة بالمساجد ويخصصون فيها ما عرف بـ (الإيوان) قاعة المحاضرات وأمكنة لإيواء الطلاب والمدرسين وما يتبع ذلك من مرافق كالمطبخ وحجرة الطعام وغيرها1. ومع ذلك ظل المسجد الجامع في حياة المسلمين منارة العلم وإشعاع النور. وقد اختلفت نشأة المدرسة في تاريخ الإسلام عن نشأتها عند الأمم الأخرى لارتباط التعليم بتعاليم الإسلام ونظرته في اعتبار التعليم حقا وفريضة على كل مسلم وهو ما يسمونه الآن بديمقراطية التعليم فلم يكن التعليم في الإسلام مقتصرا على ما يسمى برجال الدين أو أبناء الحكام والطبقات الراقية. إن المسلمين كان لهم الفضل باتصال الغرب بهم عن طريق الأندلس والمغرب والقسطنطينية وعن طريق إيطاليا والحروب الصليببية في توجيه الغرب إلى نقل التراث الإسلامي العربي وإنشاء الجامعات والمدارس التي اتخذت صفات كثيرة، ولكن المسلمين بعد نكستهم وتخليهم عن مناهج تربيتهم وتعليمهم اقتبسوا نظام المدارس في صورتها الراهنة من الغرب عن طريق الإرساليات وغيرها بعد أن جرد الغرب التعليم من الصفة الدينية وصبغه بصبغة علمانية بعيدة عن الدين. إن المدرسة الإسلامية كما ذكرنا تجعل التعليم والتربية حقا لكل مسلم وليست امتيازا لطبقة أو فئة من الناس وإنَّ اتجاه الناس إلى التعليم يجعل المسؤوليات التربوية للمدرسة أكبر من المسجد إذ إن المدرسة قد انفصلت الآن كبيئة تربوية لا تكتفي بإعطاء المعلومات والمعارف بل هي أداة للتربية المتكاملة عقلية وجسدية وعاطفية ووجدانية ويمكننا أن نشير إلى بعض الوظائف التي يمكن للمدرسة بها أن تكون وسطا صالحا للتربية الإسلامية. 1- اختيار المنهج الدراسي الإسلامي: إذ إن المناهج الدراسية لدى المسلمين كانت تراعي عدة أمور من أهمها مراعاة ميول الأطفال ورغباتهم

_ 1 راجع أحمد شلبي ـ تاريخ التربية الإسلامية ص114.

ومراعاة الفروق الفردية إذ إن الطفل يفهم ما بإمكانه أن يفهمه والاختلافات الفردية قد ترجع إلى طبيعة التربية أو البيئة أو السن أو مستوى الذكاء ولذلك طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من سيدنا عبد الله بن عباس أن لا يحدث الناس بما لا تحتمله عقولهم والشريعة الإسلامية تراعي الاستعداد الشخصي حتى في العبادات فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا" ويقول الغزالي في ذلك: "وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، كذلك المربي لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم وإنما ينبغي أن ينظر في مرض المريض وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله نفسه من الرياضة ويبني على ذلك رياضته"1. والقرآن الكريم يقول مبينا هذه الفوارق في الاستعدادات: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} 2، ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" 3، وفي أحاديث كثيرة يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلم ألا يذل نفسه بتعريضها لما لا تطيق من البلايا كما يطالب بالقصد في كل شيء. 2- مراعاة الطبيعة النفسية للبشر: وهذا يتطلب من المدرسة أن تكون بعيدة عن العنف والقسوة ومكانا للرحمة والرفق والتوجيه بالوسائل الحسنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة: "عليك بالرفق فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه" 4، والإسلام يهدف إلى إيجاد المسلم اللطيف الرقيق الرفيق الذي يكره العنف والقسوة والفظاظة والغلظة إذ أن العنف لا يلد إلا العنف ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" 5. 3- الاستفادة من الخبرات الإنسانية: من المهام الأساسية للمدرسة نقل خبرات الأجيال السابقة لما بعدها وهذه الخبرات تراث إنساني يستفيد به المسلمون بالنافع منه والمتفق مع عقيدتهم ويتركون ما لا يتفق معهم بعد التعرف على جوانب السوء فيه، والإسلام دين متطور يدعو إلى التحرر من ربقة التقاليد والأفكار البالية لأن الحرص على

_ 1 الغزالي ـ إحياء علوم الدين ج أول. 2 البقرة. 3 رواه البخاري في كتاب العلم. 4 رواه مسلم. 5 رواه البخاري في كتاب العلم.

المعتقدات الفاسدة بحجة المحافظة على التراث قد يقود إلى الضلال والكفر: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 1، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. 4- الحب للفضيلة والكراهية للرذيلة لذاتهما: إن التربية تهدف إلى جعل الأخلاق عادة في سلوك الإنسان وأن يكون اتجاه المسلم إلى الخير نابعا من الحب للخير واجتناب الشر نابعا من كراهية للشر لأنه شر في السر والعلانية وتحت كل الظروف والأحوال فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} 2… فمحك الفضيلة والكمال الخلقي أن يصدر العمل عن طبيعة ثابتة في حب الخير سرا وعلنا ولذلك وسع الإسلام في دائرة الخير فجعل كل فعل خير صادر من المسلم نحو المسلم صدقة حتى الإمساك عن الشر صدقة لمن لم يجد ما يفعله إيجابا بل إن فعل الخير نحو الحيوان صدقة لا تصدر إلا من طبع فطر على حب الخير وجبل عليه، وقد وصف القرآن الطبائع التي مارست حب الفضيلة في واقع الحياة فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، كما وصفهم بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 4، فالذي صبغ نفسه على حب الفضيلة يكره بداهة الرذيلة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أعينوا أولادكم على البر". إن المدرسة تستطيع تحقيق التربية الأخلاقية الكاملة كما ذكرنا عن طريقين: الأولى: الطريقة غير المباشرة بأن تكون المؤسسات الاجتماعية والمواد المدرسية وسلوك المعلمين ومن لهم صلة بالتعليم متمشية مع الأخلاق والسلوك الإسلامي والثانية تدريس علم الأخلاق كعلم مستقل بذاته. إن المدرسة هي البيئة التي يتعلم فيها الطفل ويعبر فيها عن رغباته وميوله ويظهر فيها إمكاناته وقدراته وعلى المدرسة أن ترى ذلك كله وتوجه وتكمل رسالة البيت والمسجد لأن عمل كل واحد مكمل لعمل الآخر في تنمية شخصية الطفل وإعداده لحياته المقبلة ليكون على صلة بالله طيبة وبالمجتمع مفيدة وبالوطن مصدرا للخير والعطاء. المعلم هو حجر الزاوية في العملية التربوية كما يقولون فالمدرسة تقوم بدورها بواسطة المعلم لذلك كان لا بد من إعداده لمهمته واختياره من النخبة الطيبة لذلك ركز علماء التربية قديما وحديثا على صفات لابد أن تتوفر في المعلم وقد حصر القدماء هذه الصفات في كلمات، فابن سينا يقول: "ينبغي أن يكون

_ 1 الأعراف. 2 الرعد 22. 3 الحشر 9. 4 الحجرات 7.

مؤدب الصبي عاقلا ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق، حاذقا بتخريج الصبيان، وقورا رزينا، غير كز ولا جامد، حلوا لبيبا ذا مروءة ونظافة ونزاهة"1، ومن خلال تلك الآراء نستطيع أن نحدد الصفات الواجب توفرها في المعلم المسلم فيما يلي: 1- الورع وتقوى الله: وذلك بمراقبة الله سبحانه وتعالى في السلوك والأقوال فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" والمعلم أب لأولاده يوجههم إلى الخير ويلتزم به في سلوكه والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن أكرم الناس أتقاهم وأن أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق، ولا بد أن يكون المعلم ورعا يشعر بأن الله معه أينما كان، وأن مراقبة الله الدائمة هي الموجهة للسلوك والإرادة فإذا لم يكن المعلم تقيا ورعا نشأ أولاده على الفساد والتحلل وانعدام الضمير والرادع. 2- الإخلاص في العمل: لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه وكل عمل يبتغي به المرء وجه الله فهو عبادة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2، ويقتضي الإخلاص أن يكون المعلم واسع العلم عالما بأمور الدين وتعاليم الإسلام وآرائه في الحياة والموت والكون ونظامه الاقتصادي والسياسي والتربوي والتشريعي زيادة على ما في الحياة من مبادئ ونظم وأفكار ثم التمكن من مادته التي تخصص فيها والتعرف على الجديد في العلم عن طريق البحث والاطلاع والصلة بالعلماء وما إلى ذلك، وقد أوصى هشام بن عبد الملك معلم ابنه بقوله: "إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني وقد وليتك تأديبه فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله إلخ"3. 3- الالتزام بالإسلام والعمل له: إن المسلم المعلم في حقيقة الأمر داعية إلى الله على بصيرة وإدراك وعليه أن ينقل هذا المفهوم لطلابه قولا وعملا وسلوكا وممارسة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فالربط بين الأقوال والأعمال دليل على الالتزام الأخلاقي بالإسلام وليس الالتزام الفكري فقط، وهذا يقتضي أن تتمثل الفضائل الأخلاقية كلها في سلوك المعلم لأنها مراقبة ومحسوبة عليه مثل الالتزام بالصدق والأمانة والتواضع والعفة في اللسان والجوارح والشجاعة والكرم والمروءة والحب والبغض في الله والرفعة والرقة واللين ودماثة الخلق وما إلى ذلك. إن المدرسة تمثل نافذة الحياة بالنسبة للأطفال يعيش فيها الطفل وقتا كبيرا من يومه ليتزود بالمعارف والتعاليم والخبرات التي تجعله قادرا على اقتحام الحياة والتكيف معها وأداء رسالته فيها وتحقيق سر وجوده في الأرض وهو معرفة الله وعبادته.

_ 1 الأبراشي ـ التربية الإسلامية وفلاسفتها ص225. 2 البينة 5. 3 راجع الأبراشي ـ التربية الإسلامية ص146.

رابعا: المجتمع

رابعا: المجتمع: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ

نَكِداً} 1، وهذه الآية توضح لنا أن التربية لا تتم إلا في إطار اجتماعي وداخل مجتمع مسلم نظيف لأن الطفل لا يمكن تربيته بعيدا عن المؤسسات الاجتماعية مثل البيت والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها لما لهذه المؤسسات من أثر تربوي فعال ولما للعادات والتقاليد والأخلاقيات الاجتماعية من تأثير على الطفل والسلوك الإنساني عبارة عن التفاعل بين الظروف الاجتماعية البيئية والطبيعة الإنسانية. إن المجتمع المسلم يتميز عن المجتمعات الأخرى كما يتميز الفرد عن الأفراد غير المسلمين في عقيدته التي ينشأ منها سلوكه والمصدر الذي يلتقى منه سلوكه والأخلاق التي يتميز بها عن غيره والطرق التي يسلكها في حياته وفي تحقيق أهدافه والعبادة التي يمارسها والمؤسسات التي ينشأ فيها والقيم التي يوزن بها البشر. وإن المجتمع المسلم قائم على نبذ العنصرية والوطنية الإقليمية وعلى الحرية المبنية على العبودية الكاملة لله وحده والتي تحقق له المحافظة على ماله وعرضه ونفسه وتطلب منه الالتزام بالحق والعدل، كما أنه مجتمع الأخوة والمساواة والكفاية والعدل بين المسلمين الذين يتساوون في الواجبات والحقوق: "المسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم…" فالمجتمع عامل تربوي فعال يحتاج إلى تضافر المؤسسات في تحقيقه لمسؤلياته التربوية التي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي: 1- التعاون على البر والتقوى: والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2، لأن التعاون على البر والتقوى هما وسيلتا المجتمع لنشر الفضية والخير ومحاربة الرذيلة والشر فوسائل التربية الحديثة من صحافة وإذاعة وتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام كل منها معلم يملك أذواق البشر وأسماعهم وأبصارهم فإذا وجهت وجهتها الصحيحة كانت وسائل خير ورحمة وتعليم وتثقيف وإذا تركت على ما هي عليه من نشر السموم والأغاني المائعة والتمثيليات الهابطة والكذب الدائم والسخافات والأباطيل كانت وسائل دمار وهدم لجهود مؤسسات التربية الأخرى كالبيت والمدرسة والمسجد، فواجب الدول أن تطهر مؤسساتها من كل ما يعوق تربية أجيالها على الحق والفضيلة والبر والتقوى وأن تحارب هذه الأجهزة وتجعلها تتكيف مع طبيعة المجتمع وعقائده ونظمه، ولا يتم التعاون على محاربة الإثم والعدوان إلا بإغلاق مظاهر الفساد الاجتماعي وتوجيه الثقافة التي يتأثر بها الأطفال والكبار إلى الثقافة التي يبني المجتمع عليها وحماية الشباب من المؤثرات الثقافية الدافعة للفساد، والإسلام يوجه توجيهات كثيرة في هذه الناحية فالله سبحانه يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ} 3. والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الرجل يرتكب عملا بالليل وينشره بالنهار وقد ستره الله لأن عمل الشر إثم ونشره عن طريق إذاعته إثم آخر لا يفعل ذلك إلا الماجن الذي لا يستحي وإذاعة الفاحشة مضر

_ 1 البقرة آية 286. 2 المائدة 3. 3 الأعراف 33.

للمجتمع من الناحية التربوية فكيف به إذا تولته أجهزة في الدولة وبأموال المسلمين والله لا يحب الجهر بالسوء من القول أو الفعل فواجب المجتمع التعاون على إزالة الإثم الفواحش إلى درجة قتال المفسدين في الأرض وقتلهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، كما يحث الإسلام الفرد في النيابة عن المجتمع في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "من رأى منكم منكرا فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 2. والمجتمع المسلم هو الذي يقوم على التقوى ويطالب أفراده بذلك والحض على التقوى كثير في القرآن باعتبار التقوى مصدرا لسلوك المسلم فردا وجماعة فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله ويؤمنون بالآخرة وبالكتب المنزلة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرون في البأساء والضراء والمنفقون فيهما والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس المحسنون الذين يذكرون الله ليلا وسحرا والمستغفرون، فالتقوى هي وصية الله الدائمة لكل أمة على لسان الأنبياء وهي خير زاد للمسلم وخير لباس له والمتقون هم أولياء الله وهم سبب سعادة المجتمع وأساس بنائه وسبب الرزق والانفتاح الاقتصادي وسبب النجاة من كل ضعف والوصول إلى الجنة التي أعدت للمتقين. والمجتمع هو الذي تتعمق فيه بالممارسة معاني الود والرحمة والإيثار والتضحية فالمسلمون في توادهم وتراحمهم جسد واحد ألف الله بين أعضائه بنعمته بعد أن كانوا أعداء وقد ضرب المسلمون الأوائل أروع الأمثلة في ممارسة التكافل الاجتماعي والإيثار مع الحاجة والتضحية في سبيل الغير فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ترسل إليهم الأموال الكثيرة فيوزعونها على المحتاجين وينسون أنفسهم وهم أحوج ما يكونون إليها وكانوا رحماء فيما بينهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا. إن المجتمع المسلم هو الذي يقوم بدوره في مساعدة الآباء على تربية أبنائهم على أخلاق الإسلام وتقاليده بحيث أنهم إن خرجوا إليه وجدوا فيه ما تعلموه من الوالدين فلا يسمع كلمة نابية أو لفظا جارحا ولا يرى مظهرا للغش أو الخداع وهو يبتاع ويتعامل في الخارج ويجد مدرسيه في حرص أبويه على المثل الإسلامية فلا يسمح له بالغش في الامتحان أو يعطى ما لا يستحقه إرضاء للمدير أو جنسيته. المجتمع الذي لا يعج بمظاهر الفساد والتحلل والعري ويطلب من المراهق أن يكون عفيفا طاهرا…إن النشء المسلم يجب ألا يجد نوعا من التناقض بين تربية والديه والأخلاقيات الممارسة في المجتمع، فالمجتمع المسلم مجتمع متحرر من الانقياد لغير الله ونظيف طاهر تبنى فيه العلاقات على القاعدة القرآنية {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . إننا لا نستطيع تربية أطفال صالحين في بيئة اجتماعية فاسدة كما لا نستطيع أن نزرع أرضا دون تهيئة هذه الأرض لأن أدواء المجتمع كلها معدية تنتقل إليهم شاءوا أم أبوا.

_ 1 المائدة 32. 2 رواه مسلم في كتاب الإيمان.

إن الدولة تستطيع توجيه الوسائل الاجتماعية كلها بدءا بالأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام في خدمة التربية وقد وجه الإسلام إلى تكوين جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مزودة بالخبرات والأساليب التربوية الصحيحة توجه المجتمع من داخله وتراقب ما يجد من انحراف في السلوك للأفراد أو المؤسسات أو الدولة نفسها ثم تعالج الأمور بحكمة وموعظة حسنة متعاونين مع أفراد المجتمع في ذلك {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} . إن الدول تشرع كثيرا من القوانين لحماية ما يسمى بالنظم الاشتراكية والمكتسبات الثورية وما إلى ذلك فما الذي يمنع المجتمع المسلم من سن القوانين والنظم التي تكفل حماية المجتمع ونظمه وتقاليده ويوقف مظاهر الفساد والانحلال ويحمي النشء والأمة من كل ما يدنس أخلاقها أو ينحرف بها عن التوجيهات التربوية للإسلام وبالتالي تشجع الناس على الفضائل، ويزيل هذا الصراع المستمر بين التعاليم التربوية والإغراءات الخارجية، إن الإسلام يطالب الأسر بالتعاون فيما بينها بتعليم الأسر المتعلمة للأخرى حتى يتحقق التعاون على البر في واقع الحياة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه علقمة عن أبيه قال: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة". فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن المجتمع يمكن أن يتخذ سلطته عن طريق القوانين التي تكفل سلامة المجتمع وتربيته وتعليمه حتى تتحقق الأهداف التربوية للمجتمع المسلم.

خامسا: الوراثة والبيئة

خامسا: الوراثة والبيئة: أثبت العلم حديثا أن الأطفال يرثون الصفات الثابتة فيهم من أبويهم كما يرثون الصفات الشكلية فيهم، وأن الأطفال يحملون خصائص أصولهم وإن بعدت المسافة الزمنية بينهم وبين أصولهم وأثبتت قوانين الله في الكون أن الفرع يشبه أصله في الكائنات كلها، إن انتقال خصائص الآباء والأجداد للأبناء الذين يمثلون الفروع هو الذي يعرف بعلم الوراثة وهو علم لا يوجد من ينكره، ولكن الخلاف بين العلماء في الشيء الذي يورثه الآباء ومقداره ونوعه. فالبشرية كلها تشترك في الصفات التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات وتورث هذه الصفات جيلا بعد آخر، ولكن هناك صفات خاصة إلى جانب الصفات العامة تتميز بها أمة ما في مكان ما عن الأمم الأخرى وهي التي تميز بها الإفريقي عن الآسيوي والشرقي عن الغربي ثم يتدرج هذا التمايز في الصفات إلى مستوى الأبوين اللذين يورثان ألوانهما وأشكال قامتهما وطبائعهما لأبنائهما وتختلف نسبة الصفات المورثة من الأب والأم والمقدار الذي يرثه من كل منهما، وقد لا يرث الأبناء صفات آبائهم الأقرباء ولكن

تظهر هذه الصفات في الأجيال التالية ولذلك نجد الطب الحديث يبحث في الأمراض عما إذا كان المرض موجودا في العائلة أو قد وجد في جيل سابق كما أن العلم يقول إن الأبناء يرثون الاستعداد للشيء كالاستعداد للنبوغ أو الغباء أو الإصابة بأمراض معينة أو الانحرافات الخلقية وما إلى ذلك وهنا يظهر دور البيئة في نمو تلك الاستعدادات. والبيئة تطلق على ما يحيط بالإنسان من أناس وبحار وبلاد وأرض وأجواء، وكما أن النبات لا يعيش وينمو ويثمر إلا إذا وجد التربة الصالحة والماء والهواء والضوء فكذلك الإنسان في جانبه المادي يتأثر بالناحية الجغرافية في البيئة من بحار وأنهار وأجواء وطبيعة وجبال وهضاب وغيره ذلك كما يتأثر بذلك في جانبه العقلي أما بيئة الإنسان الخاصة فهي المنزل والمسجد والمدرسة ودينه ومعتقداته ولغته وتراثه وما إلى ذلك. ما أثر ذلك كله في التربية بعامة والتربية الإسلامية بخاصة؟. إن الإنسان إذا نشأ في بيئة صالحة، وأسرة متدينة ومدرسة راقية ورفقة صالحة وأمة خيرة ونظام سياسي عادل وتربية ممتازة كان الشخص المثالي الذي تهدف التربية إلى إيجاده، أما إذا وجد في بيئة سيئة، أسرة منحلة ورفقة سيئة وأمة شريرة ونظام سياسي جائر وحاكم طاغ متجبر وأنظمة بشرية فاشلة وتربية لا تقوم على أساس فإن النتائج أفراد فاشلون وذلك مصداق لقول الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} 1. وقد أثبت علماء الوراثة أن الصفات الجسمية والخلقية والعقلية والنفسية لدى الآباء تكون استعدادا لدى الأبناء بما في آبائهم والقرآن يحدثنا أن أبناء الزناة يحملون استعدادا وراثيا للزنا من آبائهم ولذلك عبر عنه القرآن بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} 2، كما أن الأمراض الناشئة عن الزنا مثل السيلان والزهري قد تنتقل كاستعدادات وراثية لدى الأطفال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول محذرا المهاجرين من خمس خصال ذكر منها "ولم تظهر الفاحشة في قوم قط يعمل بها علانية إلا فشا فيهم الطاعون الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم" 3، وقد أثبتت الدراسات لحالات المجرمين في جرائم مختلفة علاقة بين المجرم ومن مارس في قرابته نفس الجريمة التي ارتكبها فلذلك يرى بعض العلماء أن الزواج بين أبناء السكيرين أو المصابين بالأمراض جريمة لأن الأبناء يرثون الاستعداد لذلك، وقد سبق أن ذكرنا استنكار بني إسرائيل للسيدة مريم ذات السلالة الطاهرة النقية كيف أنجبت سيدنا عيسى من الزنا بدعواهم {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} 4، وبعض العلماء يرى أن الإجرام ليس وراثيا إنما هو أثر من آثار البيئة على الإنسان فإذا أخذ الأولاد من الآباء السيئين ونشأوا في بيئة طيبة نشأوا عكس آبائهم.

_ 1 الأعراف 58. 2 الإسراء 32. 3 رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي. 4 مريم 28.

إن أهمية البيئة والوراثة كوسائل تربوية وإن دراستهما ومعرفة حدودهما ومدى تأثيرهما في الإنسان يجعل التربية مبنية على أسس علمية باعتبار كل منهما عاملا مكونا للعقل والجسم والخلق مع الآخر بدرجة تجعل من الصعب إعطاء دور كل منهما كما يفعل البعض نسبة معينة ثابتة فإذا لم توجد البيئة الصالحة للعبقري فإن عبقريته تموت وتندثر، كما أن البيئة الراقية لا تلد العباقرة والفلاسفة وإنما يوجد العبقري في البيئة الصالحة يكون انتفاع الأمة بأبنائها والأبناء بإمكاناتهم ومواهبهم.

§1/1