بناء المجتمع الإسلامي

نبيل السمالوطي

المقدمة

المقدمة مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فإن لكل علم موضوع ومنهج، وموضوع علم الاجتماع هو الفهم العلمي للمجتمع من خلال دراسة الظواهر والنظم الاجتماعية دراسة علمية، بتطبيق المنهج العلمي الذي يقوم على طرح الفروض وتحقيقها تحقيقًا واقعيًا عن طريق الأساليب التاريخية والإحصائية والتجريبية، ودراسة الحالة والمقارنة. كل هذا بهدف الوقوف على السنن الاجتماعية والتاريخية أو القوانين التي أودعها الله تاريخ الإنسان ومجتمعه. كما يذهب المشتغلون بفلسفة العلم والمناهج، فإن الهدف من فهم الظواهر فهمًا علميًّا، هو إمكانية التنبؤ بها تمهيدًا للتحكم فيها بإذن الله، وهذا يعني أن الهدف النهائي من العلم لا بد أن يكون تطبيقًا، فالفهم والتوصل إلى القوانين مرحلة نظرية توصل إلى ميدان التطبيق لصالح الإنسان ومجتمعه. وإذا كانت محاولات وأساليب الفهم النظري متفقًا عليها في مجال العلوم الطبيعية بين العلماء، ويظهر الخلاف بينهم في حال التطبيق، فإن الأمر مختلف في العلوم الاجتماعية، حيث إن الخلاف لا يظهر فقط عند مرحلة التطبيق، وإنما يظهر كذلك عند محاولات وأساليب الفهم النظري، بل وفي أساليب المعالجة المنهجية ذاتها. ومن هنا نجد مدارس واتجاهات وتيارات كثيرة ومتصارعة ومتناقضة، مطروحة في تراث علم الاجتماع، أبرزها التيار الوظيفي أو تيار التوازن وتيار

الصراع أو التيار المادي الجدلي. ونحن في مجتمعاتنا الإسلامية العربية، بحاجة إلى إعادة النظر في كل هذه التيارات المتصارعة التي ما زالت تدرس في جامعتنا، وإعادة النظر في فحصها من منظور نقدي، واستنادًا إلى الحقائق الواردة في القرآن الكريم والسنة، وإلى محاولات الفهم العلمي لواقعنا الاجتماعي من خلال دراسات واقعية هادفة وموجهة. وقد تكفلت الشريعة الإسلامية بتقديم بناء متكامل للنظم الاجتماعية -أسرية واقتصادية وإدارية وعقابية وتربوية ... إلخ، التي تحقق النمو الروحي والعقلي والأخلاقي والاجتماعي للإنسان، وترقى به إلى مرتبة الخلافة عن الله سبحانه وتعالى- كما تحقق التقدم والنمو الاقتصادي والسياسي والعلمي والتكنولوجي للمجتمع الإسلامي، حتى تكتمل له أساليب القوة التي تمكنه من أداء رسالته الدينية القائمة على العدل والأخوة والمساواة، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وهذه النظم الاجتماعية الإسلامية تختلف بشكل جوهري عن النظم الاجتماعية الوضعية -سواء التاريخية أو المعاصرة، في أن مصدرها هو الخالق البارىء المصور الذي خلق الإنسان بجانبيه الترابي والروحي السامي، كما خلق حاجاته وتطلعاته. وخلق المجتمع والتاريخ بسننهما. هذه النظم الاجتماعية الإسلامية المتضمنة في الشريعة المنظمة لشئون الإنسان وإشباع حاجاته - تجمع بين المثالية والواقعية، أو قل إنها تحقق الواقعية الأخلاقية بالمفهوم الإسلامي الكريم - وقد وجدت مجالها للتطبيق العملي خلال فترة دولة المدينة وعصر الرسول -صلي الله عليه وسلم- وعصر الخلفاء الراشدين من بعده وخلال العصور الإسلامية المزدهرة. وإذا كانت النظم الاجتماعية الوضعية المتصارعة والمتناقضة قد أدت إلى ضياع الإنسان وسقوطه، وإلى تعاقب الأزمات والمشكلات، فإن الحل الأساسي يكمن في تطبيق شريعة الله. وقد حاولت في الجزء الأول من كتابي هذا أن أعرض لمفهوم النظم في علم الاجتماع وأساليب دراستها سوسيولوجيًا، وللأسس البنائية للمجتمع

الإسلامي. ثم عرضت بعد ذلك لثلاثة نظم إسلامية محورية وهي: نظام الأسرة، ونظام التربية، والنظام الاقتصادي، مرجئًا بقية النظم إلى الأجزاء التالية من هذا الكتاب. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. أبها في 19/ 1/ 1401هـ الموافق 27/11/1980م د. نبيل السمالوطي

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية أقدم لزملائي وطلابي والدارسين والمشتغلين بقضايا المجتمع الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي بفروعه المتعددة، الطبعة الثانية من "كتابي بناء المجتمع الإسلامي ونظمه" بعد أن نفدت الطبعة الأولى. وأجد لزامًا عليّ أن أقدم الطبعة الثانية مطورة منقحة، فقد أضفت في فصل "النظام التربوي في الدين الإسلامي الحنيف" فقرة عرضت فيها نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين. وقد اقتصرت على عرض أهم الآراء والمرئيات التربوية عند أكبر علماء الكوفة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري وهو الإمام أبو حنيفة، وعند أحد الباحثين المعاصرين وهو مالك بن نبي. ولما كانت قضية تنمية المجتمعات وتحديثها من بين الموضوعات التي تحتل أهمية استراتيجية في كل العلوم الاجتماعية المعاصرة سواء على المستوى النظري والتوجهات الإيديولوجية، أو على المستوى التطبيقي، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث، فقد رأيت أن أقدم فصلًا يضاف إلى هذا الكتاب أعرض فيه لأهم قضايا التنمية والتحديث كما تتناولها العلوم الاجتماعية بشكل عام وعلم الاجتماع بشكل خاص، وأوضح فيه أهم أبعاد ومداخل التنمية المتصارعة في الفكر الاجتماعي، وأقدم المدخل الإسلامي المقترح للتنمية بوصفه مدخلًا متوازنًا متكاملًا شموليًا ينطلق من منطلقات إيمانية سواء على مستوى الدافعية أو التوجهات أو السلوك ويحقق التكامل في

التنمية بين الجوانب الروحية والعقلية والمادية ويركز على رعاية الإنسان بوصفه خليفة الله في أرضه، خلق لأداء رسالة معينة أرادها له الخالق سبحانه وتعالى. وقد وضحت الأسس الشرعية لهذا المدخل بوصفه يستند إلى الشريعة الإسلامية على كل المستويات الأسرية والاقتصادية والتربوية والقيمية والسلوكية والسياسية والدولية ... إلخ. أما بالنسبة لبقية الفصول فقد بقيت كما هي، وأسأل الله العلي القدير أن يتقبل السادة القراء هذا الكتاب بقبول حسن. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. د. نبيل السمالوطي

فهرس

فهرس أولا: مقدمة الكتاب 7 مقدمة الطبعة الثانية 11 الفصل الاول: الأسس البنائية للمجتمع الإسلامي 19-50 1-مقدمة 21 2-العقيدة بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المعارضة 23 3-المفهوم القرآني للعقيدة 27 4-الفكر الاجتماعي الإسلامي 30 5-أهداف الشريعة الإسلامية 33 6-أسس العلاقات الاجتماعية الصالحة 35 7-العلاقة بين العقيدة والشريعة 48 8- مصادر الفصل الأول 50 الفصل الثاني: الدراسة السوسيولوجية للنظم الاجتماعية 51-74 1- مقدمة حول مفهوم النظم الاجتماعية 53 2- تعريف النظام الاجتماعي 56 3- خصائص النظم الاجتماعية 59 4- أنواع النظم الاجتماعية 63 5- أهداف النظم الاجتماعية 67 6- تصنيف النظم الاجتماعية 68 7- أهمية الدراسة العلمية للنظم الاجتماعية 72

8- النظم وأوزانها داخل البناء الاجتماعي 73 9- مصادر الفصل الثاني 74 الفصل الثالث: النظام العائلي: 75-108 1- الأسرة: أهميتها ووظائفها 77 2- أسس بناء الأسرة 80 أ- التعرف والاختيار. ب- الرضا الذاتي الكامل. ج- الكفاءة. د- المهر. 3- الحقوق والواجبات الزوجية 83 4- نظام الأدوار والمراكز الأسرية -الحقوق والواجبات 87 أ - حقوق الزوجة "مركزها" وواجباتها "دورها" ب- حقوق الزوج وواجباته. ج- حقوق الأبناء. 5- نظام المحرمات من النساء في الإسلام 93 أ- بسبب القرابة. ب- بسبب المصاهرة. ج- بسبب الرضاع. 6- نظام التحريم على سبيل التأقيت 96 7- النظام الإسلامي لمواجهة الخلافات والمشكلات الأسرية 96 8- النظام الإسلامي لإنهاء العلاقات الزوجية مع محاولات العلاج101 9- الإسلام وقضية تعدد الزوجات 103 10- مصادر الفصل الثالث 108 الفصل الرابع: النظام التربوي 109-181 1- مقدمة 111 2- نماذج قرآنية للتربية 118 3- نماذج من أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام 121 4- أهداف التربية الإسلامية 121 5- ميادين التربية الإسلامية 123 أ- الميدان الأول: تلاوة الآيات.

ب- الميدان الثاني: التزكية بجوانبها المختلفة. ج-الميدان الثالث: تعليم الكتاب. د- الميدان الرابع: تعليم الحكمة. 6- أهم الأسس العامة التي تقوم عليها التربية الإسلامية 135 7- أساليب التربية الإسلامية 141 8- التربية الإسلامية وقضية الصحة النفسية 155 9- مؤشرات الصحة النفسية بالمفهوم الإسلامي 159 10- مبادئ التعلم في التصور الإسلامي للتربية 163 11- نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين 171 12- مصادر الفصل الرابع 180 الفصل الخامس: النظام الاقتصادى 183-283 1- مقدمة 185 2- المنظور الإسلامي للمال والثروة المالية 186 3- أساليب تحصيل الثروة المادية 186 4- دعوة الإسلام إلى الاستثمار 189 5-الأسس البنائية للاقتصاد الإسلامي 192 6-نظام الملكية في الإسلام 199 - مقدمة حول موقف الإسلام من الملكية الخاصة. - واجبات التملك. - ضوابط الملكية الخاصة. - أساليب اكتساب الملكية وموقف الإسلام منها: 1- الكسب بالانتظار. 2- العمل. 3- المخاطرة. 4- الزراعة وإحياء الأرض الموات. 5- العقود الناقلة للملكية. 6- الميراث والوصايا. 7- نظام المعاملات المالية في الإسلام 233 8- علاقات العمل في الإسلام 240 9- الواقعية الاقتصادية -تكافؤ الفرص وتفاوت الثروات - في مقابل المثاليات والمادية المتطرفة 243

10- العدالة الاقتصادية في الإسلام 245 11- أسلوب مواجهة المشكلات الاقتصادية.249 أولًا: مواجهة مشكلة الفقر. ثانيًا: مواجهة التمايز والصراع الطبقي. ثالثًا: مواجهة مشكلة البطالة. 12- تحقيق الاستقلال الاقتصادي للمجتمع الإسلامي 261 13- التوجيه الاقتصادي في الإسلام 262 14- الوظائف الاقتصادية للدولة 264 15- مسئولية الدولة عن الأموال العامة 268 16- مسئولية الدولة عن الضمان الاجتماعي 269 17- الملكية العامة وضوابطها 271 18- الفكر الاقتصادي في التراث الإسلامي -ابن خلدون- 275 19- مصادر الفصل الخامس 281 الفصل السادس: قضايا التحديث والتنمية في علم الاجتماع مع طرح مدخل إسلامي مقترح 285-348 1- مقدمة حول دراسات التنمية والتحديث في علم الاجتماع 289 2- التحديث وارتباطه بالتصنيع 289 3- التحديث والتغير الاجتماعي 295 4- التحديث الحضاري -شروطه- مداخله -معوقاته 301 5- اتجاهات دراسة التحديث في الدول النامية 304 - تحديث البناء الاجتماعي 304 - التحديث الفردي أو السيكولوجي 304 6- التحديث الفردي وقضية الالتزام الجماهيري بقضايا المجتمع والتنمية 309 7- نماذج من المعوقات الإستراتيجية أمام تحديث الدول النامية 312 8- التحديث والتنمية -العلاقة بينهما- أبعاد التنمية 317 - مداخل دراسة التنمية الاجتماعية الشاملة 317 9- المدخل الإسلامي المقترح لدراسة وفهم التنمية 322 10- أبعاد التنمية الاجتماعية المتكاملة في الإسلام 323 - البعد الفكري والعقائدي والبعد التفسيري

للإنسان والمجتمع 324 - البعد الاقتصادي والتنمية الاقتصادية 324 - بعد علاقات العمل والتنمية المهنية 332 - البعد التعليمي والتنمية التربوية 338 - البعد النفسي وبناء الشخصية 338 - البعد الصحي والتنمية الصحية 339 - البعد الاجتماعي والتنمية القيمية -وحقوق الإنسان 339 - البعد الإداري والتنمية الإدراية 340 - البعد السياسي والتنمية السياسية 341 - البعد الدولي والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، الدولة الصحيحة 342 11- مصادر الفصل السادس 345

الفصل الأول: الأسس البنائية للمجتمع الإسلامي

الفصل الأول: الأسس البنائية للمجتمع الإسلامي مقدمة يقيم الدين الإسلامي الحنيف بناء مجتمع إسلامي يتسم بالقوة والتعاون والتكامل والتقدم التربوي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، ويتميز أعضاؤه بشخصية متميزة سوية قادرة على العمل البناء والإنتاج، وعلى الحب والعطاء، وتكوين علاقات راضية مرضية مع الذات والآخرين. ويكمن مفتاح هذه الشخصية الإسلامية المتمتعة بالصحة النفسية من الإيمان -اليقين- الكامل بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والاتسام بالأخلاق الإسلامية التزامًا وليس إلزامًا، ومراقبة الله سرًّا وعلنًا. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77-78] . فالمسلم عليه أن يعبد الله ركوعًا وسجودًا وصومًا وحجًّا وزكاةً. وأن يوحده ويشهد ألا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلى جانب سلوك طريق الخير قولًا وسلوكًا ونيةً. وإلى جانب إقامة الصلاة، فالقرآن الكريم -في الآيات السابقة- يوجهنا إلى ضرورة إيتاء الزكاة تحقيقًا للعدالة الاقتصادية، وللتراحم والتكافل بين الناس، وللحيلولة دون ظهور الحقد الطبقي بين الأغنياء والفقراء، هذا إلى جانب الاعتصام بالله سبحانه.

ويمكن القول: إن الدين الإسلامي دين ودولة، عبادة وسيادة، اقتصاد وجهاد، مصحف وسيف، تربية فردية وتعاون جماعي. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] { ... وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . وسبيل المؤمنين هو الذي طبقه الرسول عليه الصلاة والسلام، وطبقه أصحابه من بعده -عليهم الرضا من الله سبحانه- فقد كانوا يصلون بالناس في المساجد، ويقودون العسكر في الحروب، ويفصلون في قضايا الرعية في المحاكم، ويتعهدون الأفراد والجماعات بالإرشاد والتوجيه، وإنكار المنكر وإقرار المعروف. ويراقبون سياسة عمالهم ونوابهم في المدن والأمصار، فيعزلون الجائر المنحرف، ويبقون الأمين المستقيم. ويشير أبو الأعلى المودودي إلى خصائص الدين الإسلامي الشمولية بقوله1: "إن الدين الذي تؤمن به يجب أن تفوض إليه شخصيتك كاملة، ولا تستثني منها جزءًا من أجزاء فكرك أو عملك. ومن مقتضيات الإيمان اللازمة أن تدخل في السلم كافة، حتى يكون ذلك الدين دينا لعقلك وقلبك وعينيك وأذنيك، وليدك وجسمك ورجلك وجسدك، ولقلمك ولسانك، ولبيتك، وأطفالك وزوجتك، ولمدرستك ومجتمعك، ولتجارتك ومكاسب رزقك، ولسياستك وحضارتك وأدبك. ثم لا تنسَ أن تنشر مكارم هذا الدين الذي آمنت به وتثبت محاسنه وفضائله، وتدعو البشر كافة للإيمان به والدخول فيه. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] ويؤكد القرآن الكريم على الدلائل الساطعة الجلية التي بثها الله في الآفاق وفي النفس لإثبات وحدانيته الكاملة. يقول تعالى:

- {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام- 114] - {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام- 14] - {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام- 164] - {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [الأنعام- 71] - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ... } [الزمر- 38] - {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس- 22] - {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات- 125] - {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل- 17] - {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور- 35]

العقيدة بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المعارضة

العقيدة بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المعارضة: تحتل العقيدة مكانة كبرى لدى كل إنسان -حتى الملحد- ولدى كل المجتمعات، حتى تلك التى لا تعترف بالأديان. وتعد العقيدة الموجه الأساسي لسلوك الفرد، حيث تتحول إلى موجهات قيمية Value Orientations تترجم إلى واقع سلوكي. فالمعتقدات هى التي تحكم وتصبغ وتحدد القيم، وهذه الأخيرة هى التي تحدد مسارات السلوك وتضبطه وتحكمه وتوجهه.2 ويطلق مفهوم العقيدة faith على التصديق الناشيء عن إدراك شعوري أو لاشعوري يقهر صاحبه على الإذعان لقضية ما3. وقد اهتم العلماء الغربيون والمسلمون بقضية العقيدة لأسباب دينية وفلسفية وفقهية، ومن الغربيين الذين اهتموا بدراسة هذا الموضوع جوستاف لوبون j.Lobon الذي يُعرِّف العقيدة بأنها: "إيمان ناشئ عن مصدر لا شعوري يكره الإنسان على التصديق بقضية من

القضايا من غير دليل" ويلاحظ هنا: أن لوبون يحيل العقائد إلى قضايا لا شعورية مفروضة على الإنسان لا دليل عليها، قد تطابق الواقع وقد لا تطابقه*. ويميز لوبون بين العقيدة faith والمعرفة Knowledge فالأولى عبارة عن إلهام لا شعوري يصدر عن أسباب خارجية دون إرادة الإنسان، أما المعرفة فهي علم يحصل بفعل التفكير العقلي المتزن، ويذهب الباحث المذكور إلى أنه كثيرًا ما يحدث أن تنشأ العقيدة في النفس دون دليل، ثم يحاول الإنسان إيجاد ما يبررها عقليًّا. وهذه العملية -عملية التبرير rationalization- هي إحدى ميكانزمات الدفاع اللاشعورية Defence Mechanism التي يلجأ إليها الإنسان للدفاع وتبرير بعض الدوافع اللاشعورية غير المعقولة. ويحاول "لوبون" تفسير كيفية ظهور المعتقدات من خلال الرجوع إلى عدة عوامل، مثل: طبيعة الشعوب وما تتسم به من طبائع وأخلاقيات وتقاليد، وما يسودها من نظم -اجتماعية اقتصادية وسياسية وعائلية ... - وتوجيهات ومضامين تربوية.. هذا على مستوى المجتمع؛ أما على مستوى الأفراد، فإن أهم العوامل التي تسهم في تشكيل العقائد لدى الأفراد هي الأخلاق الموروثة والمكتسبة4، والمثل العليا لهؤلاء الأفراد والمنافع والحاجات. هذا إلى جانب أثر الإطار الثقافي والاجتماعي لهؤلاء الأفراد، ومختلف عوامل صياغة وتشكيل الفكر والرأي، ومسائل اتصال جمعية وشخصية**. ويشير "لوبون" إلى حاجة الإنسان إلى العقيدة؛ لأنها تمثل الغذاء الروحي والفكري له، وتحقق له الهدوء والاستقرار النفسي، ولعل هذا هو ما يفسر سعي

_ * يلاحظ هنا أن لوبون يقدم تعريفًا عامًّا للعقيدة -سواء الصحيحة أو الزائفة- لكنه أخطأ عندما حولها إلى قضايا لاشعورية مفروضة على الإنسان. ** واضح هنا: الخلط وعدم الدقة العلمية فلا يوجد ما يطلق عليه الأخلاق الموروثة، فهناك دوافع عامة موروثة، وهي عامل مشترك بين البشر جميعًا -وضمن هذه الدوافع دافع التدين والارتباط بالخالق- أما الأخلاق بمعنى الموجهات السلوكية والمعايير ونماذج السلوك الفاضل -حسب معتقد الشخص وحسب معايير الاستواء والانحراف- فهي كلها أمور يكتسبها الإنسان من بيئته الاجتماعية من خلال عملية الصياغة الثقافية والتنشئة الاجتماعية.

الإنسان المستمر للارتباط بعقيدة ما من أجل إشباع الحاجة النفسية للعقيدة. والعقيدة عامل ضابط Controling Factor في حياة الفرد وسلوكه، وكلما ازداد يقين الفرد بعقيدة معينة، زاد التزامه فكريًّا وسلوكيًّا بمقتضياتها. ونلاحظ صدق هذه الفكرة واضحًا في إقدام أصحاب العقيدة إلى التضحية بأنفسهم في سبيل عقيدتهم -سواء أكانت عقيدة صحيحة أم فاسدة- ومن نماذج التضحية بالنفس في سبيل العقيدة الصحيحة: إقدام المسلم على الاستشهاد في سبيل الله واستعذابه للموت دفاعًا عن دينه. ومن أبرز نماذج التضحية بالنفس في سبيل العقائد الزائفة: إقدام بعض فرق البوذية في جنوب شرق آسيا على الانتحار الجماعي بالحرق، تنفيذًا لبعض تعاليم البوذية. وإذا كانت العقيدة تسهم في صياغة الشخصية المتماسكة، فإنها تسهم كذلك في تحقيق تماسك الجماعة Group Cohesion وتحقيق التكامل الاجتماعي Social Integration على مستوى المجتمع كله، لما تحققه من الشعور بالترابط والتقارب والإلفة والقوة بين أبناء العقيدة الواحدة؛ نتيجة لوحدة المنطلق ووحدة الهدف. والعقيدة في نظر الإسلام هي الجانب النظري الذي يطلب إلى المسلم الإيمان به أولًا وقبل كل شيء إيمانا لا يرقى إليه شك، ولا تؤثر فيه شبهة. ومن طبيعتها: تضافر النصوص الواضحة على تقريرها، وإجماع المسلمين عليها من يوم أن ابتدأت الدعوة، مع ما حدث بينهم من اختلاف بعد ذلك فيما وراءها، وهي دعوة كل الرسل السابقين كما أخبرنا القرآن الكريم نفسه5: - {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة - 136] . ويشير المدلول اللغوي لكلمة -عقيدة- إلى ما انعقد عليه القلب وتمسك به وصعب تغييره، سواء نتيجة لوهم زائف أو نتيجة لدليل صادق. كذلك يصح استخدام -عقيدة- لغويًّا بمعنى الاقتناء حيث يقال: "اعتقد ضيعة أو مالًا" أي:

اقتناهما6. ويعرف علماء الكلام العقيدة بأنها "الإيمان المطابق للواقع الثابت بدليل أو الإدراك المطابق للواقع الناشئ عن دليل". وواضح هنا الفرق بين هذا التعريف للعقيدة عند علماء الكلام، وتعريف بعض علماء الغرب -مثل بين هذا التعريف للعقيدة عند علماء الكلام، وتعريف بعض علماء العرب- مثل "لوبون" - فهذا التعريف الذي أورده علماء الكلام لا ينطبق إلا على الإسلام -وهو العقيدة الصحيحة- ولا ينطبق على الاعتقادات المخالفة للإسلام؛ لأنه ينقصها الدليل، ولا تطابق الواقع. وقد اختلف العلماء عند بحث قضية التقليد في الاعتقاد، فمنهم من أوجب التقليد حتى لا يكون البحث العقلي مؤديًا إلى الضلال. لكن القرآن الكريم نفسه ينعي على المقلدين تقليدهم، ويدعو إلى إعمال العقل والنظر في الآفاق وفي النفس؛ حتى يتبين للناس أن الله هو الحق، لكن القرآن الكريم يطالب المؤمن أن يكون على يقين بالغيب. ولا يناقش بعض الأمور التي تتجاوز عقله المحدود ويختص بها سبحانه فقط، كالروح مثلًا، وذات الله ... إلخ. ومن العلماء من أجاز التقليد وأجاز البحث عن الدليل، طالما أن الغاية الأساسية هي الوصول إلى الإيمان الصحيح والقناعة العقلية والوجدانية. فلو وصل الإنسان إلى هذه الغاية عن طريق التقليد جاز ذلك، ولو أراد النظر والبحث جاز ذلك لحصول المقصود في كلتا الحالتين. قال الإمام الغزالي7: "إن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهدية من عنده، تارة بتنبيه في الباطن لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بسبب مشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال.... والحق الصريح أن كل من اعتقد فيما جاء به عليه الصلاة والسلام، اشتمل عليه المستمد من الدليل الكلامي ضعيف جدًّا مشرف على الزوال بأقل شبهة، والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل على قلوبهم في الصبا بتواتر السماع، أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التعبير عنها. وهناك من علماء المسلمين من أجاز التقليد وأوجب إعمال العقل، حيث يجب على من كان من أهل النظر القادرين أن يعمل نظره، وحجتهم أن النظر

هو الطريق إلى الإيمان الكامل، فإن وصل الإنسان إلى الإيمان الكامل بدون نظر كانت معرفته ناقصة، وكان آثمًا -إن كان من القادرين على التفكير والبحث. وهناك من الباحثين من جعل التقليد باطلًا والنظر واجبًا لأن الله سبحانه يأمرنا بالنظر: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس - 101] ، وهناك العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي تحض على إعمال العقل نذكر منها: {إِنّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة - 164] . وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر-21] . وقال تعالى في معرض عرض سنن الله في التاريخ والمجتمع: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر- 21] . وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج - 46] .

المفهوم القرآني للعقيدة

المفهوم القرآني للعقيدة: يوجه القرآن الكريم نظر الإنسان وفكره إلى كل ما يحيط به وإلى ذاته ونفسه، حتى إذا ما كان النظر والفكر سليمًا فإنه سوف يصل حتمًا إلى العقيدة الصحيحة وهي التوحيد. وهذا التوجيه القرآني الكريم أبسط وأبلغ وأعمق وأنفذ من كل دلائل الفلاسفة والمتكلمين. يقول تعالى: - {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ

تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40] . - {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 4-5] . ويطرح القرآن الكريم مجموعة من التساؤلات أمام عقل الإنسان ليس لها سوى إجابة واحدة سليمة، ومثال هذا: - {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] - {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63-64] . - {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة: 71-72] . هذه التساؤلات وغيرها ليس لها سوى إجابة واحدة وهي -الله-، ذلك أنها تثير قضية الخلق ولا الخالق إلا الله سبحانه. ومن الواضح أن الله سبحانه وهو يخاطب عقل الإنسان ينتقل به من المحسوس إلى الغيبيات، ومع أن الإيمان بالغيب شرط أول للإيمان، إلا أن القرآن مع هذا يقدم مختلف صور الإقناع والتدليل البليغ على وجود الله استنادًا إلى طبيعة تفكير البشر. ويمكن إيجاز أهم أركان العقيدة الإسلامية في قوله تعالى: - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] . وإذا كانت العقيدة هي الجانب النظري الذي يطلب الإيمان به إيمانًا يقينيًّا، فإن الشريعة هي النظم التي شرعها الله سبحانه أو شرع أصولها

ليأخذ الإنسان بها نفسه من علاقته بربه، "وسبيلها أداء الواجبات الدينية كالصلاة والزكاة والصوم ... " وعلاقته بأخيه المسلم "وسبيلها تبادل المحبة والتناصر والأحكام الخاصة بتكوين الأسرة والميراث ... "، وعلاقته بأخيه الإنسان "وسبيلها حرية البحث والنظر في الكائنات التي سخرها الله سبحانه للإنسان واستخدام آثارها في رقيه"، وعلاقته بالحياة "وسبيلها التمتع بلذائذ الحياة الحلال أي ما أحله الله دون إسراف أو تقشف شديد". ويدرك الباحث في كتاب الله الكريم أن القرآن قد عبر عن العقيدة بالإيمان وعن الشريعة بالعمل الصالح، ومثال هذا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: 107-108] . {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] . وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13] . ولهذا فإن الإسلام لا ينطوي على عقيدة فقط، تنظم علاقة الإنسان بربه فحسب، وإنما ينطوي كذلك على شريعة توجه الإنسان إلى نواحي الخير في الحياة، وتقيم مجتمعا يحقق القوة والتعاون والتكامل والتكافل. فالإسلام دين عقيدة وشريعة يستغرق ويوجه حياة الإنسان الذاتية والاجتماعية من المهد إلى اللحد، يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 162-164] .

الفكر الاجتماعي الإسلامي

الفكر الاجتماعي الإسلامي مدخل ... الفكر الاجتماعي الإسلامي: تتضمن الشريعة الإسلامية التي تؤسس على كتاب الله الكريم وما صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، أقوى المبادئ، والأسس التي تنظم العلاقات الاجتماعية بين الناس بعضهم ببعض، وبينهم وبين خالقهم سبحانه. ولعل القيمة الكبرى للتنظيم الإسلامي أنه لا يقتصر على التنظيم القانوني الخارجي وتوجيه السلوك الخارجي للإنسان، لكنه يمتد لتنظيم بناء الإنسان الداخلي، وتوجيه السلوك الخارجي للإنسان، ولكنه يمند لتنظيم بناء الإنسان الداخلي -الدافعي والقيمي والمعياري- فالإيمان هو ما وقر في القلب -داخلي- وصدقه العمل -خارجي- ويقرن القرآن الكريم دائمًا الإيمان بالعمل: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر] . ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 9-10] . وتقوى الله هي الأساس الأول في ضبط علاقات الإنسان داخل مختلف الجماعات الاجتماعية التي ينتمي إليها الإنسان، مثل جماعة الأسرة وجماعة العمل وجماعة الأصدقاء داخل المجتمعين المحلي والعام. كذلك فإن التقوى تضبط علاقة الإنسان بخالقه وتضبط سلوكه وتجعله فاعلًا ملتزمًا من الداخل، وليس مجرد رد فعل Reaction للمثيرات الخارجية فحسب، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وقال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70] وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرا} [الطلاق: 4] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل، كانت في النساء"، رواه مسلم. وعن ابن مسعود رضي

الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"، رواه مسلم. وقد تضمنت الشريعة الإسلامية كل ما ينفع الإنسان في حياته وبعد موته، ويكفل قيام مجتمع صالح. والإسلام أقام مجتمعًا فاضلًا في عهد النبوة وعهد الخلفاء الراشدين، لأنه ينظم شئون الإنسان في دنياه، علاقاته الأسرية، علاقاته الاقتصادية، السياسية، وبالآخرين، وبربه.... إلخ. والشريعة معناها الطريق المستقيم، وقد أطلقها فقهاء المسلمين على مجموعة الأحكام التي سنها الله لعباده على لسان رسوله الكريم ليعمل بها المسلمون عن إيمان والتزام ويقين قلبي مطلق، وتتضمن الشريعة الإسلامية أمورًا ثلاثة، وهي: المعتقدات، والأخلاق، وأفعال العباد الحسية. وهي ثلاثة أسس حددها الإسلام بشكل يكفل بناء مجتمع يخلو من الانحرافات، ويتسم بالتعاون والتنافس البناء في تقوى الله، ويخلو من الصراعات المدمرة. وتوجب العقيدة الإيمان المطلق بالغيب، وتحث الأخلاق الإسلامية على الصدق والعدل والوفاء ... إلخ، وهي التي تكفل علاقات اجتماعية سليمة، وقد امتدح الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} . أما أفعال العباد -الأحكام العملية- فتتعلق بما يصدر عن الشخص المكلف من أقوال وأفعال، أو هي القواعد التي تنظم سلوك الإنسان في إطار الأحكام الخمسة، وهي: الإيجاب والندب والإباحة والكراهية والتحريم القاطع، وهي كلها أحكام تستهدف توجيه التفاعلات الاجتماعية Social Interction في الاتجاه الذي يحقق التكامل الاجتماعي Social Integration على مستوى المجتمع، كما يحقق تماسك الجماعة Group Cohesion على مستوى الوحدات الصغرى -الأسرة- تنظيم العمل ... إلخ. ويقوم التشريع الإسلامي على مجموعة من الدعائم نوجزها فيما يلي:

نفي الحرج

أولًا: نفي الحرج، أي إلغاء كل ما يسبب الضيق والعسر للمسلمين.

قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78] . وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 17] .

قلة التكاليف

ثانيًا: قلة التكاليف، فالإسلام لا يرهق المسلمين، وإنما يراعي قدراتهم وطاقاتهم التي أودعها الله سبحانه داخل أجسام ونفوس عباده. يقول تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] . ويقول عليه السلام: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها".

التدرج في الأحكام

ثالثًا: التدرج في الأحكام، فالله رحيم بعباده وأسلوب معالجة الإسلام للمشكلات الاجتماعية والانحرافات -مثل شرب الخمر- أسلوب معجز يقوم على التدرج، ومثال تحريم شرب الخمر وتحريم الربا أدلة واضحة على ذلك.

مسايرة مصالح الناس

رابعًا: مسايرة مصالح الناس، يراعي التشريع الإسلامي والتوجيهات النبوية الشريفة -حتى في أدق التفاصيل كالأكل والشرب- مصالح الناس الروحية والجسمية والنفسية. يقول تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] .

تحقيق العدالة بين الناس

خامسًا: تحقيق العدالة بين الناس، من رحمة الله بالعباد أن أزال معايير التمايز بين البشر التي تقوم على الطبقية والثراء واللون والجنس ... وأقام معيارًا موضوعيًّا في متناول جميع الناس وهو التقوى، فالناس جميعًا كما يقول عليه الصلاة والسلام: "كأسنان المشط". ويقول تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .

أهداف الشريعة الإسلامية

أهداف الشريعة الإسلامية مدخل ... أهداف الشريعة الإسلامية: ويستهدف التشريع الإسلامي تحقيق مجموعة من الأهداف التي تحقق مجتمعًا فاضلًا، غير مغرقة في المثالية -غير قابلة للتحقيق كما حدث في النظريات الوضعية الزائفة- ولكنها تجمع بين السمو الروحي والإشباع الإنساني في غير تطرف. ونوجز فيما يلي أهم أهداف الشريعة الإسلامية:

تهذيب الإنسان بالعبادات

أولًا: تهذيب الإنسان بالعبادات، لفضلها في شفاء النفوس والتخلص من وسوسة الشيطان. يقول تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . وقد جعل سبحانه بقية العبادات من صوم وزكاة وحج تطهيرًا للنفس والمال وتقربًا إلى الله لنيل رضائه سبحانه.

إقامة العدل في الجماعة الإسلامية

ثانيًا: إقامة العدل في الجماعة الإسلامية، ينشد الإسلام تحقيق المجتمع الصالح الذي تسوده علاقات التعاون والتكافل والحب، وهذا لن يتحقق إلا إذا شعر الجميع بالعدل، واختفى من بينهم الشعور بالظلم أو الاستغلال. يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] . ويقول تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الحجرات: 9] . ويقول تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" رواه مسلم.

المصلحة

المصلحة مدخل ... ثالثًا: المصلحة، جميع أحكام الشريعة الإسلامية تستهدف تحقيق

المصلحة -سواء علم الناس أو لم يعلموا- ويحدد الفقهاء هذه المصالح وأطلقوا عليها مقاصد التشريع الإسلامي، ومنها: أ-حفظ الدين. ب-حفظ العقل. ج-حفظ العرض. د-حفظ النفس. هـ-حفظ المال. وأية نظرة عاقلة لن تجد مجتمعًا صالحًا بدون هذه الأهداف أو الغايات السامية، التي تكفل تحقيق مجتمع متكامل متماسك متعاون يقوم على الحب بأسمى معانيه. وحفظ الدين، يعني ضرورة التمسك بالشريعة الإسلامية، وإقامة الحد على الكافرين، وعلى كل من أنكر فرضًا من الفرائض أو أحل حرامًا. ويكون حفظ النفس باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى وإقامة الحد وردع كل معتد من أجل تكريم النفس وحمايتها من كل ضرر. ويكون حفظ العقل بتحريم المسكرات والخمور وكل ما يفقد العقل ويؤدي إلى التهلكة. ويكون حفظ العرض بتنظيم العلاقة بين الرجال والنساء على أساس مبادئ الشريعة الإسلامية، فقد أحل الله الزواج، وبين ذلك عليه السلام بقوله: إنه يقوم وينام ويصوم ويفطر ويتزوج النساء، وإنه من رغب عن سنته فلا ينتسب إليه عليه السلام أو إلى الأمة المسلمة، وأباح الشرع للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع بشرط تحقيق العدل والقدرة على الإنفاق، وحرم الله الزنا، ويعد الزنا من الكبائر لأنه يخرب البيوت ويقطع العلاقات ويفكك الأسر، ويؤدي إلى ظهور الحقد والكراهية والغيرة والحسد وكافة الموبقات. ولهذا شدد الشرع حد الزنا. أما حفظ المال فيكون بحماية كل ما يجمعه الإنسان من مال حلال، وذلك بإقامة الحد على السارق المغتصب الذي يقطع الطريق على المارة ويعتدي على أموالهم قهرًا. فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا.

ويمكن القول أن جميع الشرائع السماوية لم تختلف على هذه الأهداف الخمسة، وترتب الشريعة الإسلامية السامية هذه المقاصد الخمسة حسب الأولويات في ثلاث مراتب متفاوتة الأهمية وإن كانت متكاملة، ويجب أن تؤخذ ككل.

مرتبة الضروريات

أولًا: مرتبة الضروريات: وتتمثل في ضرورة محاربة الكفر وإقرار الإيمان، وهذا يكون بقتل الكافر وإخضاع المبتدعين لحدود الله وتطبيق كافة حدود الله حتى يستقيم الناس وتستقيم تفاعلاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والأسرية والسياسية ... إلخ.

مرتبة الحاجيات

ثانيًا: مرتبة الحاجيات: وهي ما يلزم لحماية الأصل السابق، ويتضمن العديد من الإجراءات الوقائية والعلاجية، مثل منع بيع الخمر حتى يمتنع تداوله، ومثل منع الاحتكار -في أي سلعة- حتى يمتنع التحكم والتلاعب بالأسواق الأمر الذي ينعكس بشكل سيئ على أحوال المسلمين.

مرتبة التحسينات

ثالثًا: مرتبة التحسينات: وهذه المرتبة تتعلق بحفظ كرامة المسلمين وتحمي الأصول وتحفظ للمؤمن العزة فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ومثال هذا حماية المسلم من الدعاوي الباطلة والسلب والنهب، ومنع خروج المرأة متزينة حتى لا تثير الشباب، وبالتالي تثير الفتنة وتؤدي إلى سلسلة من المشكلات الاجتماعية والدينية الكبرى. وسبيل الإسلام لتحقيق المجتمع الصالح والعلاقات الاجتماعية الراضية المرضية بين الناس، هو الوقاية فهي خير من العلاج.

أسس العلاقات الاجتماعية الصالحة

أسس العلاقات الاجتماعية الصالحة العدل واجتناب الظلم ... أسس العلاقات الاجتماعية الصالحة: أولًا: العدل واجتناب الظلم من قبل أولياء الأمور وضرورة التزامهم بالتواضع والخلق الإسلامي. يقول تعالى لرسوله الكريم صلي الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] . ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ

وَالبَغْيّ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] . وعن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" متفق عليه. عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة" رواه الترمذي وأبو داود. وفي باب تحريم الظلم الذي يؤدي إلى خراب الأسر والمجتمعات والدول والعلاقات الاجتماعية*، يقول الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" رواه مسلم. وواضح هنا: أن هذا الأساس يوضح أهمية القيادة العادلة في بناء المجتمع الصالح.

_ *ورد في مقدمة ابن خلدون "فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران، وفصل في أن من أشد الظلمات وأعظمها في فساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق".

طاعة أولياء الأمور في غير معصية

ثانيًا: طاعة أولياء الأمور في غير معصية: قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". " متفق عليه".

الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

ثالثًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: واجب على الناس التناصح فيما بينهم وترشيد بعضهم بعضًا بما يتفق مع الشريعة الإسلامية حتى يستقيم الناس في أجسادهم ونفوسهم وعقولهم وعلاقاتهم بشتى صورها وأنواعها، بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الله سبحانه وتعالى. يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110] . وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] . ويقول تعالى: {وَالمُؤمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71] . ويقول تعالى في شأن بني إسرائيل وسبب لعنتهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان" رواه مسلم.

التخلق بالأخلاق الإسلامية

رابعًا: التخلق بالأخلاق الإسلامية: والتي تقتضي من المسلم الإخلاص والتوبة المستمرة والاستغفار والصبر والصدق ومراقبة ربه في كل أعماله وعلاقاته واليقين بالله والتوكل عليه والاستقامة والمجاهدة وبر الوالدين، وصلة الأرحام وستر عورات المسلمين، والبعد عن البخل والشح، واستمرار ذكر الموت وقصر الأجل والتواضع، وخفض الجناح وهدم التكبر، وحسن الخلق والحلم والأناة، والرفق والعفو والإعراض عن الجاهلين، وحفظ السر والوفاء بالعهد وطلاقة الوجه عند اللقاء ... إلخ. وواضح أن مجتمعًا هذه سمات أبنائه لا بد وأن يكون أفضل مجتمع يحقق التكامل والتعاون، ويخلو من المشكلات الاجتماعية والانحرافات بشتى أنواعها. ويذهب العديد من علماء اجتماع اليوم مثل: روبرت ميرتون R. Merton أن العديد من أشكال الانحراف التي نشاهدها في مجتمعاتنا المعاصرة لا ترجع إلى الأفراد كأفراد، وإنما ترجع إلى طبيعة الثقافة السائدة*، وهو رأي يتفق معه عدد كبير من علماء الاجتماع

_ * قام ميرتون Merton بدراسة المجتمع الأمريكي ووجد أن أنواع الانحرافات هناك تتخذ خمسة =

المعاصرين، مثل: إدوين سوذرلاند E. Sutherland صاحب كتاب "جرائم الصفوة" في أمريكا White Collar Crimes وهذا يعني أن الانحراف عندما يسود مجتمعًا فإن هذا يشير إلى انحراف ثقافة Culture ذلك المجتمع، وثقافة المجتمع الإسلامي -بأسسها سابقة الذكر- ثقافة صحية تؤدي -وقد طبق ذلك تطبيقًا واقعيًا- إلى إيجاد مجتمع متكامل متكافل متعاون، وهو ما يفتقده الكثير من مجتمعات البشر اليوم. وبالنسبة للإخلاص وإحضار النية في جميع الأقوال والأعمال والأحوال البارزة والخفية، يقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . وبالنسبة للتوبة فهي واجبة من كل ذنب، فإذا كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: الأول: أن يقلع الإنسان عن المعصية تمامًا. الثاني: أن يندم على فعلها. الثالث: أن يعقد العزم على ألا يعود إليها أبدًا. فإذا كانت المعصية تتعلق بآدمي فيجب إلى جانب الشروط الثلاثة السابقة أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالًا أو نحوه رده إليه، وإن كان قذفًا ونحوه مكنه منه وطلب عفوه وهكذا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم: 8] . وقال عليه السلام: "يا أيها

_ = أشكال هي: أ- التمرد على الغايات المفضلة ثقافيا وعدم الاعتراف بها أو السعي لتحقيقها. ب- محاولة تحقيق الغايات المفضلة ثقافيًا من خلال أساليب غير مشروعة. ج- التمرد على كل من الغايات المفضلة ثقافيًّا ووسائل تحقيقها معًا. د- الانسحاب من دنيا الواقع -بالإدمان والمخدرات- نتيجة الفشل في مسايرة الواقع والتوافق معه. هـ- الامتثال المفرط أو المغالاة في الالتزام بالقواعد والإجراءات والمعايير لدرجة تحول الوسائل إلى غايات ... والواقع أن هذه الدراسة صدرت عن المجتمع الأمريكي الذي يركز على الثراء والنجاح الاقتصادي فحسب مع إهمال الإنسان والعلاقات الإنسانية بين الناس، والثقافة الإسلامية المستندة إلى الكتاب والسنة تقيم مجتمعًا صالحًا لا تظهر داخله هذه الأنواع والانحرافات كما تتخذ الأساليب الوقائية التي تحول دون ظهورها أصلًا. R. K. Merton Social Structure And Anomie -E- Sutherl, and White Collar Criminality.

الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة" رواه مسلم. والمسلم يتخلق بالصبر وعدم الجزع، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] . وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الآية [البقرة: 155] كذلك فإن المسلم يتسم بالصدق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن الني صلي الله عليه وسلم قال: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عن الله كذابًا" متفق عليه. والمسلم يعلم أن الله يراقبه ولهذا يحسن كل اعماله ونياته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] . وقال تعالى: {يعلم خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] . والمؤمن يتقي الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] . والمؤمن متوكل على الله، يقول تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] . والمؤمن يسلك السلوك المستقيم في كل سلوكه وعلاقاته وتفكيره لأنه أمر بذلك، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} [هود: 112] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30-32] . والمؤمن يستبق ويبادر إلى فعل الخيرات، يقول تعالى:

{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} [البقرة: 148] . ومن خصائص الشخصية الإسلامية الجهاد، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه} [الحج: 78] . والمؤمن مقتصد في الطاعة، فمن رحمة الله بعباده أن رفع المشقة عنهم {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1-2] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة: 185] . والمؤمن متعاون مع غيره فيما يحقق الصالح العام وليس في الشر والانحراف، يقول تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . ويقول تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر] . والمؤمن يصدق النصيحة لغيره، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] . والمؤمن الحق يستر عورة أخيه، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19] . وقال عليه السلام: "لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" رواه مسلم. والمسلم يسعى إلى قضاء حوائج إخوانه المسلمين، يقول تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الحج: 77] . ويقول عليه السلام: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" متفق عليه. والمؤمن يسعى بالصلح بين الناس، يقول تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] . وأكتفي بهذه الخصائص الأساسية التي يتسم بها المسلم في أخلاقه وسلوكه وعلاقاته بالآخرين، يتضح منها كيف أنها قادرة على إقامة مجتمع فاضل -ليس بالمعنى الطوبائي الذي تحدث عنه أفلاطون وكمبانلا وتوماس مور- وإنما بالمعنى الإسلامي الواقعي الذي تحقق في أرض الواقع وكان

خير مثال في تاريخ الدنيا للمجتمع المتعاون المتكافل المتكامل القوي واستطاع الإسلام بهذه المبادئ أن ينتشر في كل بقاع العالم.

التربية الإسلامية الصحيحة

التربية الإسلامية الصحيحة مدخل ... خامسًا: التربية الإسلامية الصحيحة: تلك التربية التي تستهدف الحفاظ على الفطرة النقية، فكما يحدثنا رسولنا الكريم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه ينصرانه أو يهودانه أو يمجسانه". ويقوله سبحانه وتعالى: "خلقت عبادي حنفاء فاحتالتهم الشياطين" وهناك مجموعة من الخصائص التي تميز التربية الإسلامية نوجزها فيما يلي:

التربية الإسلامية تربية تكاملية

1- التربية الإسلامية تربية تكاملية: حيث لا تركز على أحد جوانب الإنسان، وإنما تعتني بالتنشئة المتكاملة للإنسان جسمًا وعقلًا وسلوكًا ووجدانًا، وبالعلاقات بين الإنسان وغيره، وبينه وبين ربه. فهي تحرر العقل من الأوهام، وتحرر النفس من العبودية لغير الله، وتحرر الجسم من الوقوع في أسر اللذات والشهوات، وتقيم علاقات بين الناس قوامها الأخوة والمساواة والعدل والحب.

التربية الإسلامية تربية متوازية

2- التربية الإسلامية تربية متوازية: حيث تحرص على تحقيق التوازن الدقيق المعجز بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة، يقول تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] . وهي ترفض التطرف سواء في الجانب المادي -الشهوات- أو في الجانب الروحي -الرهبانية.

التربية الإسلامية تربية سلوكية وعملية

3- التربية الإسلامية تربية سلوكية وعملية: حيث لا تكتفي بالقول وإنما تركز كذلك على الفعل والسلوك والعمل، ويتضح هذا في أسس الإسلام الخمسة التي تقتضي القول والممارسة وهي: الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والصلاة والزكاة والصيام والحج، كما يتضح من أسلوب مخاطبة الله سبحانه للمؤمنين حيث يقرن الإيمان بالعمل الصالح -الذين آمنوا وعملوا الصالحات- ويقول

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 34]

التربية الإسلامية تجمع بين الفردية والجماعية

4- التربية الإسلامية تجمع بين الفردية والجماعية: فإذا كان كل مسلم مسئول عن معتقداته وأفكاره وأعماله مسئولية فردية أمام الله، فإن كل راع مسئول مسئولية فردية عن رعيته، والإسلام ينبذ الأنانية ولا يقيم أي وزن للنعرات العرقية أو العنصرية أو الطبقية أو اللونية ... ويحث الإنسان على التعاون ... وتعاونوا على البر والتقوى، ويقول عليه السلام: "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله". وتقوم جماعية الإسلام استنادًا إلى أساسين هما: وحدة الأصل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الآية [النساء: 1] . وكل البشر لآدم وآدم من تراب بالإضافة إلى النفخة الإلهية ووحدة العقيدة، وهذا هو ما نادى به كل الرسل {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} [آل عمران: 18] . {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه} [آل عمران: 85] . {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَك} [البقرة: 128] . وتؤكد التربية الإسلامية على أهمية القدوة والوسط الاجتماعي في تنشئة الفرد، واهتمت بتكوين العادات الحسنة منذ النشأة الأولى للطفل بمخالطته للنماذج الطبية، وإبعاده عن قرناء السوء، فمثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كبائع المسك ونافخ الكير. واهتمت التربية بالوسط الأسري لأهمية دوره في الحفاظ على نقاء الإنسانية.

التربية الإسلامية تركز على تقوية جانب المراقبة لله

5- التربية الإسلامية تركز على تقوية جانب المراقبة لله: ذلك لأنه مهما بلغت من قوة القوانين، فلن تكفل المجتمع الصالح، فالفرق بين مراقبة الله والخضوع للقانون، فرق بين الالتزام الداخلي والإلزام الخارجي، والإنسان الذي يراقب ربه فإنه يراقب الله سبحانه في السر

والعلن ذلك أنه سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} [غافر: 19] . وتهتم التربية الإسلامية بإيجاد المراقبة الدائمة لله بحيث تعصمه من الشطط والانحراف.

التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان

6- التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان: وتسمو بغرائزه، فالإنسان مسلم بفطرته، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] . ويقول عليه السلام: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" والتربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان لأن الإسلام دين الفطرة حيث تتفق كافة تعليماته مع فطرة الإنسان وطبيعة تكونه الجسمي والروحي والوجداني ... إلخ {ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} . ويقول عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وأساس التكليف في الإسلام الاستطاعة فلا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها. ويربي الإسلام الفرد على الاعتدال {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين} ، والإسلام لا يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، لكنه ينظم ويهذب إشباع الإنسان لدوافعه بشكل يتفق مع مبادئ الإسلام أو الشريعة الإسلامية.

التربية الإسلامية توجه الإنسان نحو الخير

7- التربية الإسلامية توجه الإنسان نحو الخير: يقول تعالى مخاطبًا نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} ، ويقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر} والتربية الإسلامية موجهة باستمرار إلى ما فيه خير الفرد دنيويًّا -جسميًّا وروحيًّا واجتماعيًّا، وفي الآخرة حيث يفوز برضوان الله والجنة. فالإسلام يربي الإنسان على الخلق الفاضل وحسن معاملة الناس وحب الآخرين "ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وتستهدف التربية الإسلامي

الحفاظ على مقصود الشرع من حفظ للدين والعقل والعرض والنفس والمال.

التربية الإسلامية تربية مستمرة

8- التربية الإسلامية تربية مستمرة: فهي تستمر مع الإنسان من المهد إلي اللحد، حيث يجب على المسلم التزود باستمرار من العلوم بكافة أنواعها {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، وينبهنا بل يطالبنا القرآن الكريم بإمعان النظر والتأمل والتفكر في مخلوقات الله؛ لأن أي تفكير صحيح -في النفس أو في التاريخ أو في الكون- سوف يدعم الإيمان الكامل اليقيني بوحدانية الله سبحانه.

التربية الإسلامية تتسم بالعالمية والشمول

9- التربية الإسلامية تتسم بالعالمية والشمول: ينبذ الإسلام التعصب والفروق العرقية والطبقية واللونية ويقيم معيارًا واحدًا للتمييز بين كل البشر، وهو معيار التقوى والعمل الصالح وفعل الخير. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . والمسلمون متساوون في العبودية المطلقة لله وهم جميعًا إخوة فيما بينهم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، فالمسلمون في كل أنحاء الدنيا، يجمع بينهم عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويجمع بينهم أداء الفرائض واعتناق القيم الإسلامية وأداء السلوك الإسلامي الموحد.

التربية الإسلامية محافظة ومجددة

10- التربية الإسلامية محافظة ومجددة: فهي محافظة بما تقوم عليه من مبادىء سماوية خالدة، وتقاليد ثابتة، وقيم أصلية تمتد بجذورها إلى ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان. وتعمل التربية الإسلامية على ترسيخ هذه المبادئ في نفوس النشء، وصياغة الشخصية الإسلامية المتكاملة التي تؤمن بربها وبالرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر والقدر خيره وشره. غير أن التربية الإسلامية ليست جامدة ولا متحجرة فهي تصلح لكل زمان ومكان، والمسلمون تتجدد أحوالهم المعيشية

بتغير الأزمنة -مع الاحتفاظ بالمبادئ والقيم الإسلامية- ولهذا يجب على التربية الإسلامية أن تنقل للنشء كل علوم العصر المادية التي لا تتعارض مع القيم الإسلامية من أجل رفع شأن المسلمين والنهضة المستمرة بالمجتمع الإسلامي والوفاء بالمطالب المتجددة للمسلمين. هذه هي أهم أهداف وأسس التربية الإسلامية، وهناك مجموعة من الأساليب والسبل التي يحاول بها الإسلام الوصول إلى هذه الأهداف نوجزها فيما يلي: أولا: أسلوب القدوة الصالحة: فهو أنجح الأساليب في تربية النشء، وخاصة في فترة الاكتساب خلال فترة الطفولة المبكرة والمتأخرة، وقد ضرب لنا الرسول -عليه السلام- أحسن الأمثلة في القدوة الصالحة بسلوكه وخلقه، قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} [الأحزاب: 21] ، وشبه الرسول -عليه السلام- الجليس الصالح والجليس السوء ببائع المسك ونافخ الكير. ويجب أن يضرب الآباء والأساتذة الدعاة المثل الصالح حتى يحتذي بهم الأبناء والدارسون والمستمعون. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2] . ثانيا: أسلوب الترغيب والترهيب: يعد الثواب والعقاب هو الأسلوب الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية، والذي ثبت صلاحيته في كل زمان ومكان. ويستخدم القرآن الكريم هذا الأسلوب في حض المؤمنين على فعل الخير والتمسك بمبادئ الشريعة الإسلامية واجتناب الكبائر والفواحش والرذائل وكل ما يقرب إلى النار، فهناك الحدود التي يجب تطبيقها في المجتمع الإسلامي على كل مخالف للشرع، وهناك الثواب الدنيوي والأخروي، كما أن هناك العقاب الدنيوي والأخروي. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} الآية [فصلت: 30] وإذا كان كل بني آدم خطاء، فإن خير الخطائين التوابون كما أخبرنا الرسول، عليه الصلاة والسلام.

ثالثا: أسلوب الموعظة والنصح: يقول مخاطبًا النبي عليه السلام: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 25] . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] . وقال عليه السلام: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" رواه مسلم. وهذا الأسلوب التربوي من أنجح الأساليب في إقناع الدارسين والمتمعنين وإرشادهم إلى ما فيه رضا الله وفلاحهم في الدنيا والآخرة. رابعًا: أسلوب الإقناع والاقتناع: يقوم الإسلام على مبدأ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} ، وقد استخدم القرآن الكريم العديد من أساليب الإعجاز والإقناع العقلي من أجل ترشيد الناس وهدايتهم -منها أسلوب سيدنا إبراهيم مع الذي حاجه في ربه، وأسلوب موسي عليه السلام مع فرعون.... إلخ- ومن خلال الحوار والإقناع والاقتناع -القائم على أساس سليم- تتضح الحقائق ويزداد الناس اقتناعًا بالعقيدة الإسلامية السمحة. خامسًا: أسلوب التعلم بالمحاولة والخطأ: وكان الرسول -عليه السلام- يعلم أصحابه بهذا الأسلوب أحيانًا، حيث كان يراقبهم في أثناء تطبيق تعاليم الإسلام ثم يصحح لهم أخطاءهم، حتى يتعلموا من خلال الممارسة والتجرية. ومن أشهر الأدلة على ذلك ما جاء في حديث -المسيء صلاته- فقد رأينا في هذا الحديث كيف أن الأعرابي دخل المسجد فصلى وأخطأ وسلم على الرسول -عليه الصلاة والسلام- فرده الرسول ليصلي، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، وفي الثالثة طلب من الرسول عليه السلام أن يعلمه -وجود الدافعية في التعليم- فعلمه. سادسًا: التعليم بالأساليب الحسية: كان الرسول -عليه السلام- يستخدم الأساليب الحسية -لسهولتها- من أجل شرح الأمور المعنوية، فكان على سبيل المثال يخط خطًا على الرمال وخطين عن يمينه وخطين عن شماله، ثم يذكر للصحابة عليهم رضوان الله أن الخط الوسط يمثل سبيل الله، والخطوط الجانبية هي سبل الشيطان، ويتلو قوله تعالى:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية [الأنعام: 153] . سابعًا: أسلوب الحوار الموجه: استخدام الرسول -عليه السلام- أسلوب الاستجواب والحوار الموجه في تعليم أصحابه عليهم رضوان الله، مثال هذا ما فعله -عليه السلام- مع معاذ بن جبل. ثامنًا: الأسلوب القصصي: وقد استخدم القرآن الكريم الأسلوب القصصي في عرض وقائع وأحداث التاريخ السابق للنبي -عليه السلام- لما لهذا الأسلوب من أثر عميق، وإيجابي في نفس الإنسان. وسوف نفصل هذا الأسلوب في فصل قادم. تاسعًا: أسلوب المعرفة النظرية والممارسة العملية: تحتل المعلومات النظرية أهمية كبرى في حد ذاتها، لأنها تنمي عقل الإنسان وتساعد على تكوين خلفية ثقافية تمكنه من التعامل مع مجتمعه، وتساعده على القيام بدور المواطنة الصالحة. وقد تعالت الصيحات من جانب المربين يتساءلون حول جدوى المعرفة النظرية، وانتقدوا جانبًا من التعليم المعاصر لأنه لفظي نظري، يفتقر إلى مغزاه الوظيفي والتطبيقي والاجتماعي. غير أن هذا القول لا يقلل من أهمية المعرفة النظرية لأنها الأصل والأساس في كل التطبيقات العملية والسلوكية. والإسلام يحترم العلم وأهله، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} [الزمر: 9] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} [المجادلة: 11] . وإذا كان الإسلام يعتني بالعلم النظري فإنه يركز كذلك على التطبيقات العملية للعلم. وقد استعاذ الرسول -عليه السلام- من علم لا ينفع. ويجب على المربين أن يقرنوا العلم بالعمل والنظرية بالتطبيق، فالإيمان بالله ورسوله له تطبيقاته السلوكية. والصلاة والصوم والزكاة والحج تمثل مبادئ شرعية لها تطبيقاتها السلوكية. وبالإضافة إلى كل ما سبق فالإسلام دين عظيم متكامل يرسم صورة

مجتمع فاضل بكافة نظمه السياسية والاقتصادية والعسكرية والتربوية والأسرية ... وصدق تعالى إذ يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] .

العلاقة بين العقيدة والشريعة

العلاقة بين العقيدة والشريعة مدخل ... العلاقة بين العقيدة والشريعة: تعد العقيدة -في الإسلام- هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، فلا وجود للشريعة إلا بوجود العقيدة، ولا ازدهار ولا تطبيق للشريعة إلا في ظل سيادة العقيدة. وللإنسان قوتان، إحداهما نظرية -وكمالها يتحقق في معرفة الحقائق على ما هي عليه، والأخرى عملية- وكمالها يتحقق في القيام بما ينبغي من الشئون في الحياة8. وإذ يقرر الإسلام هذا المبدأ يستهدف تحقيق سعادة الإنسان وتحقيق أمنه الجسمي والنفسي والاجتماعي في الحياة الدنيا، وسعادته وفوزه بالنعيم في الآخرة. وقد جاءت التكاليف الإسلامية على نوعين: الأول، يتطلب علمًا. والثاني، يتطلب عملًا. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] . وقد اصطلح العلماء على تسمية التكاليف التي تطلب علمًا بالعقائد أو أصول الدين، كما اصطلحوا على تسمية التكاليف التي تطلب عملًا بالشريعة أو الفروع. والشريعة اسم للنظم والأحكام التي شرعها الله أو شرع أصولها وكلف المسلمين بها ليأخذوا أنفسهم بها في علاقتهم بالناس. وهي على كثرتها ترجع إلى ناحيتين أساسيتين هما:

الجوانب السلوكية التى تحدد العلاقة بين الإنسان وربه

أولًا: الجوانب السلوكية التي تحدد العلاقة بين الإنسان وربه، ومن خلالها يتم التقرب إليه سبحانه واستحضار عظمته، وتكون عنوانًا على صدق الإيمان بالله ومراقبته، والتقرب إليه سبحانه. وهذه الناحية هي ما يعرف بالعبادات.

الجوانب السلوكية الذاتية والاجتماعية

ثانيًا: الجوانب السلوكية الذاتية والاجتماعية والتي تستهدف الحفاظ

على المصالح وتجنب الأضرار والمظالم، وسيادة الأمن والاطمئنان والتماسك الجماعي والتكامل الاجتماعي داخل المجتمع. هذه الناحية هي التي تعرف في الإسلام باسم المعاملات، وتشمل ما يتعلق بنظم الأسرة -النظم الفرعية التي تتعلق بالخطبة والمهر والزواج والعلاقات الأسرية والحقوق والواجبات الأسرية وأساليب مواجهة المشكلات الأسرية والطلاق والميراث- والنظام الاقتصادي -نظم الإنتاج المشروع والأموال والتبادل والزكاة والعقود والملكية وتحريم الربا- والنظام السياسي -أسلوب اختيار الحاكم والشروط الواجبة توافرها فيه ومهامه أو واجباته حدود الله والدفاع الاجتماعي Social Defence للحيلولة دون وقوع الجريمة أصلًا، وردع الآخرين وعلاج الانحرافات البسيطة حتى يعود المنحرفون إلى الحياة السوية- هذا إلى جانب النظم المحددة لعلاقة المجتمع الإسلامي والمجتمعات، وهو ما يطلق عليه السياسة الخارجية بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى. وسوف نعرض فيما يلي لأهم النظم الاجتماعية الإسلامية التي تؤلف البناء الاجتماعي المتميز للمجتمع الإسلامي.

مصادر الفصل الأول

مصادر الفصل الأول 1- محمد فاروق النبهان: مبادئ الثقافة الإسلامية، دار البحوث العلمية، الكويت 1394-1974. 2- محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، 1394-1974. 3- محمد على الصابوني: روائع البيان - تفسير آيات الأحكام من القرآن الجزء الأول 1397-1977.

الفصل الثاني: الدراسة السوسيولوجية للنظم الاجتماعية

الفصل الثاني: الدراسة السوسيولوجية للنظم الاجتماعية مدخل ... الفصل الثاني: الدراسة السوسيولوجية للنظم الاجتماعية مقدمة: حول مفهوم النظم الاجتماعية Social Institutions تسير الحياة الاجتماعية في كل مجتمع بشكل منظم ومصطلح عليه اجتماعيًّا. فالإنسان عندما يريد أن يتعلم يسلك سلوكًا معينًا، وعندما يريد أن يحسن من مكانته الاجتماعية يسلك سلوكًا معينا. وهو عندما يريد أن يكون له دور سياسي أو اقتصادي معين يسلك سلوكًا معينًا. وعندما يريد أن يتزوج يسلك سلوكًا محددًا ... إلخ. وهذا السلوك الاجتماعي الذي يقوم به الشخص يتصرف على أصوله ويستدمجه في ذاته بحيث يصبح جزءًا من بنائه الفكري والنفسي عن طريق عملية التربية أو التنشئة الاجتماعية التي تقوم بها الأسرة، ومختلف مؤسسات التربية في المجتمع. وعندما يسلك الإنسان نماذج السلوك السابق الإشارة إليها وغيرها، يخضع لمجموعة من الضوابط أو القواعد والمعايير المتفق عليها بين أبناء المجتمع. وبعض أنواع الاتفاق تحدث تلقائيًّا نتيجة للتاريخ المشترك الطويل مثل قواعد الخطبة أو العزاء أوالتهاني ... إلخ. وبعضها يحدث بطريقة قانونية معتمدة مثل قواعد الالتحاق بالوظائف أو الترقي ... إلخ. ومن المعروف أنه لا يمكن لمجتمع أن يستمر في الوجود ما لم يشبع حاجات الإنسان البيولوجية والنفسية والاجتماعية. فالإنسان بحاجة إلى الطعام والمأوى والأمن والجنس، وإلى الحصول على مكانة اجتماعية، وأن يكون موضع تقدير إلى أن يعبر عن نفسه، وأن يكون له دور في حياة الجماعة ... إلخ. وعلى كل مجتمع أن يواجه هذه

الحاجات الإنسانية الضرورية. وهذه الأساليب هي ما نطلق عليها النظم الاجتماعية. فالأساليب التي تنظم وتضبط لنا عملية الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، والتي تشبع حاجة الإنسان إلى الماديات كالأكل والشرب والمسكن والتملك والحصول على أجر ... هي ما نطلق عليه: النظام الاقتصادي. والأساليب التي تنظم وتضبط لنا عملية ممارسة الجنس وإنجاب الأطفال وتربيتهم، والعلاقة بين الأصهار وخطوات الخطبة والزواج وتبين لنا ما هو محلل ومحرم ... إلخ. نطلق عليها نظام الأسرة ... إلخ. وبقول آخر، فإن النظم الاجتماعية هي نماذج السلوك والتفكير المقننة والمتفق عليها، والتي تستهدف أساسًا إشباع الدوافع والحاجات الجسمية والنفسية للإنسان. ومن أمثلة الحاجات النفسية، الحاجة إلى الأمن وإلى تقدير الذات والتعبير عنها. ومن أمثلة الحاجات الجسمية، الحاجة إلى الطعام والنوم والجنس ... إلخ. وإذا كانت الحاجات الإنسانية قليلة أو محدودة العدد، إلا أن وسائل إشباعها متعددة ومتغيرة ومختلفة من مجتمع لآخر، وتختلف داخل نفس المجتمع من فترة تاريخية لأخرى. فحاجة الإنسان إلى الطعام لا تتمثل في طريقة الحصول عليه، وإنما تمتد إلى نوعيته ووسائل طهوه ومواعيد تناوله ومع من وأساليب تناوله، إلى جانب مختلف الأساليب المعقدة لإنتاجه واستهلاكه وتوزيعه ... إلخ. ومن الواضح أنه مع وحدة الحاجة الإنسانية، فإن أساليب إشباعها تختلف بساطة وتعقيدًا من مجتمع لآخر. كذلك الحال بالنسبة للدافع الجنسي، وهو دافع واحد بسيط إلا أنه يستتبع لإرضائه ظهور عدة أساليب متعددة للسلوك تحتلف من مجتمع لآخر، كالاختيار والرضى والخطبة والزواج والتحريم والتحليل والطلاق والبقاء ... إلخ. هذه الأساليب المقننة للسلوك التي تخضع لقواعد هي محل اتفاق في المجتمع، وهي ما يطلق عليه النظم الاجتماعية.

ويجب ألا نعتقد أن كل الظواهر أو ما يحدث داخل المجتمع تعد أساليب أو ظواهر اجتماعية، فكل إنسان يأكل وينامُ ويشرب ويفكر ويتأمل ... إلخ، ومن الواضح أن هذه ظواهر بيولوجية أو نفسية أو عقلية وليست اجتماعية، وهي حاجات يشبعها المجتمع بأساليب متفق عليها. هذه الأساليب هي ما نطلق عليه الظواهر الاجتماعية. وقد حرص "دوركيم" على توضيح الخصائص الجوهرية التى تميز الظاهرة الاجتماعية. ويؤكد "دوركيم" أن فهم الظاهرة أو النظام الاجتماعي كالزواج أو الملكية أو الحكم.... إلخ، لا يمكن أن يتحقق بفصله عن المجتمع أو منفردًا. فالنظام الاجتماعي هو في واقع الأمر جزء من كل، هو ما تعارفنا على تسميته البناء الاجتماعي. ولهذا يجب فهم أي نظام في إطار الكل البنائي الذي يوجد فيه وفي أثناء أدائه لوظائفه داخل هذا الكل. وكي نفهم هذا المعنى يمكننا ضرب مثل من الحياة العضوية. فإذا ما رغب باحث في دراسة القلب -وهو عضو في الجسم الحرّ- يماثل النظام في المجتمع، فإنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بانتزاع القلب خارج الجسم لدراسته، وإنما عليه أن يدرسه داخل الجسم كجزء من كل يتفاعل مع غيره من الأعضاء ويؤدي وظيفة معينة. وعلى هذا فإن الشيء الذي يعطي الظاهرة قيمتها وأهميتها ومعناها في المجتمع بل ويجعل منها موضوعًا للدراسة العلمية، هو ارتباطها وتشابكها مع غيرها من الظواهر التي تؤلف نسقًا واحدًا متكاملًا نسميه -النظام الاجتماعي. ونستنتج من هذا النظام الاجتماعي. أنه مجموعة نماذج من السلوك والعلاقات المتفق عليها والتي تخضع لمجموعة من القواعد والمعايير الجمعية، والتي تواجه حاجات الإنسان الأساسية. فالزواج والأسرة والملكية نظم اجتماعية يتضمن كل منها قواعد ومعايير معينة تحدد نوع السلوك والتصرفات التي يجب أن يتبعها الأشخاص الذين يدخلون أطرافًا في ذلك النظام. وغالبًا ما تنطبق هذه القواعد والمعايير على المجتمع كله بغض

النظر عن الأفراد، وإن كانت هناك بعض النظم التي تسود مناطق معينة في المجتمع، كالريف أو الحضر، أو يخضع لها فئة معينة كالطبقة العليا أو الدنيا ... إلخ. ولكن حتى في هذه الحالة فإن للقواعد خاصية العمومية بالنسبة للمجتمع المحلي أو بالنسبة للطبقة.

تعريف النظام الاجتماعي

تعريف النظام الاجتماعي: أوضحت فيما مضى معنى النظام والمقصود به في علم الاجتماع، وهذا يكفي غير أنه استكمالًا للموضوع فإنه يجب القول بأنه على الرغم من أهمية مفهوم النظام وشيوعه في علم الاجتماع، إلا أنه شأنه شأن أغلب مفاهيم علم الاجتماع، لا يوجد اتفاق واضح بشأنه. وهناك العديد من التعريفات التي أطلقها العلماء للنظام يكفي هنا أن نعرض لبعضها فقط. "وليم أجبرن"1 Ogburn وهو عالم أمريكي يعرف النظم الاجتماعية بأنها الطرق التي ينشئها المجتمع وينظمها لإشباع الحاجات الإنسانية الضرورية*2. ويشير "نادل" Nadel إلى أن النظام هو طريقة مقننة للسلوك الاجتماعي أو للعمل المشترك. وهو يؤكد أن النظام ليس مجرد السلوك، ولكن يتضمن أيضا القواعد التي تحكم هذا السلوك. أما عالم الاجتماع الأمريكي "روبرت ماكيفر" Maczver فإنه يعرف النظام، بأنه الصور والأشكال الثابتة التي يدخل الناس بمقتضاها في علاقات اجتماعية، ويشير في دراسة أخرى إلى النظام هو كل ما هو مقرر اجتماعيًّا3. وهو يشير في موضع ثالث إلى أن النظم الاجتماعية هي الأشكال المقررة لأساليب العمل والسلوك في الحياة اليومية. ويذهب "جيلين" و"جيلين"4 في دراسة لهما بعنوان "علم الاجتماع الثقافي" إلى أن النظم الاجتماعية هي الأنساق ذات الأبنية المنظمة والثابتة نسبيًّا من السلوك والاتجاهات والأهداف والأشياء المادية والرموز والمثاليات والتي تحدد اتجاه

_ * Social Insititutions Are Arganized Established Ways Of Satisfying Certain Basic Human Needs.

أغلب جوانب الحياة الاجتماعية*A. ويشير الباحث الأنثروبولوجي الوظيفي البريطاني مالينومسكي 5 Maliowski إلى أن النظام هو مجموعة من الذين يشتركون في عمل معين يتعلق بناحية معينة من البيئة التي يعيشون فيها، وهم يستعينون في ذلك بأساليب فنية مرسومة، كما يخضعون لفئة معينة من الضوابط والقواعد والقوانين. ويذهب "هاري بارنز" H. Barnes 6 في دراسة له بعنوان "النظم الاجتماعية" إلى أن النظم الاجتماعية تضم أو تمثل البناء الاجتماعي والأساليب الفنية التي يستطيع المجتمع الإنساني من خلالها تنظيم وتوصية وتنفيذ الأنشطة المتعددة المطلوبة لإشباع الحاجات الإنسانية**. ويذهب "موريس جينزبرج7" M. Ginsberg في دراسة له بعنوان "علم الاجتماع" إلى أن النظم هي مجموعة القواعد والاستخدامات المعترف بها والمقررة التي تحكم العلاقات بين الأفراد أو الجماعات*** ويذهب "بيتر روز8" P. Rose إلى أن النظم الاجتماعية هي الأنساق المعيارية التي تنظم سلوك وتحدد العلاقات الاجتماعية داخل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، ويذهب عالم الاجتماع الأمريكي "سمنر9" Summner إلى أن مفهوم النظام الاجتماعي Social Instution يتألف من جانبين: الأول، فكرة أو مبدأ مشترك بين أبناء المجتمع، والثاني؛ هو البناء الذي هو المؤسسات التي تمنح الفكرة والمبدأ الطابع النظامي وتضعها موضع التطبيق بشكل يحقق مصالح الإنسان ويؤكد "سمنر" أن النظم تبدأ بأساليب السلوك التي تتحول إلى عادات جماعية، وهذه الأخيرة ما تلبث أن تتحول إلى قيم ومعايير أخلاقية بسبب ارتباطها بالفلسفة الاجتماعية

_ * Social Institutions Are those Relavely Pemanent Arganized And Stuctralized System Of Behaviour, Attitdes, Purposess Material Objects Symbols And Ideals Which Give Direction To Much Of Social Life. ** Social Institutions Represent The Social Structure And Machinery Through Which Human Society Arganizes. Directs And Executes The Multifarous Activities To Satisfy Human Needs. *** Recognized And Established Usages Governing The Relations Between Inividuals Or Groups.

للمجتمع التي تجعل منها ضرورة للصالح العام. ويذهب "هاملتون" Hamilton إلى أن النظام الاجتماعي هو رمز لفظي، ومن أجل توضيحه يمكن القول أن النظام هو تجمع لمجموعة من العادات الاجتماعية، وهو يتضمن أسلوبا للتفكير أو العمل له تأثير قوي ودائم. ويشير "دوركيم" إلى أن النظم الاجتماعية هي الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع. فقد أكد هذا العالم أهمية دراسة الظواهر الاجتماعية لا من حيث موضوعها فحسب، ولكن من حيث معناها كذلك داخل المجتمع الذي ندرسه، ولا يتحقق الفهم الموضوعي التكاملي لأية ظاهرة إلا من خلال إدراك ارتباطها بمختلف الظواهر الأخرى، التي تؤلف معها نظامًا اجتماعيًّا، يسهم في تشكيل البناء الكلي للمجتمع عن طريق ما يؤديه من وظيفة، ومن خلال ارتباطه ببقية النظم الأخرى داخل هذا البناء. فمما يمنح الظاهرة معناها وأهميتها داخل المجتمع، وهو علاقاتها التفاعلية ببقية الظواهر الأخرى التي يؤلف معها ما نطلق عليه النظام الاجتماعي. وهذا الفهم هو ما جعل "دوركيم". يعترض على إجراء مقارنة بين ظواهر منفصلة في مجتمعات مختلفة، ذلك لأن هذه الظواهر لا معنى لها إلا داخل سياقها النظامي. يضاف إلى ذلك أن علم الاجتماع يهتم بمسائل أكثر تجريدًا من الظواهر الجزئية، فهو يهتم بدراسة مبادئ التنظيم الاجتماعي، والنظم الاجتماعية التي هي في جوهرها النماذج المنظمة للفعل الاجتماعي أو الأفعال الاجتماعية التي تحكمها مجموعة محددة من القواعد أو المعايير التي تستهدف تحقيق هدف مقرر داخل المجتمع. وعلى الرغم من تعدد تعريفات النظم الاجتماعية عند علماء الاجتماع، إلا أنه يمكن القول: إن هناك شبه اتفاق بين المشتغلين بعلوم الاجتماع والإنسان، على أن النظم الاجتماعية هي الأساليب المقننة والمتفق عليها اجتماعيا -سلوك وعلاقات وتفاعلات وأفكار

ومعايير ومفاهيم وجزاءات- والتي تستهدف إشباع حاجات في أثناء المجتمع. وقد تنشأ هذه النظم بشكل تلقائي أو مقصود، وقد يكون مصدرها وضعيًّا، بشريًّا أو إلهيًّا، من خلال تشريع سماوي -كما في حالة النظم الإسلامية. والنطم تتفاعل وتتساند وظيفيًّا بشكل يحليها إلى أنساق معيارية Normative-System تتضمن السلوك المتوقع والهدف ونماذج العلاقات بالإضافة إلى الغايات القيمية والضوابط والجزاءات.

خصائص النظم الاجتماعية

خصائص النظم الاجتماعية لكل نظام وظيفة أو مجموعة من الوظائف يؤديها داخل المجتمع ... خصائص النظم الاجتماعية: أولا: لكل نظام وظيفة أو مجموعة من الوظائف يؤديها داخل المجتمع، ولعل هذه الخاصية يمكن استنتاجها من تعريف النظم بأنها أساليب مقننة جماعية لمواجهة الحاجات الإنسانية الأساسية. فالنظام الاجتماعي أيًّا كان لا بد وأن يكون له وظيفة اجتماعية ما دام أنه إفراز اجتماعي أو أمر يعترف به المجتمع ويقره. وقد ذهب بعض الباحثين إلى حد القول بأن كل النظم مثل نظام الأسرة أو النظام السياسي أو الاقتصادي ... إلخ، هي نوع من السلوك المقصود أو الهادف. ومع اعتراف أغلب الباحثين بهذه الفكرة، إلا أن أغلبهم يرى أنه ليس من مهام الباحث معرفة الغرض وإنما يجب أن يقتصر على بيان دوره في الحياة الاجتماعية أو ما يقوم به من وظائف اجتماعية.

يرتبط النظام بفكرة المعايير أو القواعد الضابطة للسلوك

ثانيًا: يرتبط النظام بفكرة المعايير أو القواعد الضابطة للسلوك، فهو ليس مجرد نماذج سلوكية، فهو إلى جانب ذلك نماذج مقننة، أي تخضع لقواعد معينة متفق عليها، ويجب على الناس الالتزام بها.

التزام الناس بهذه القواعد يرتبط بفكرة الجزاءات الاجتماعية

التزام الناس بهذه القواعد يرتبط بفكرة الجزاءات الاجتماعية ... ثالثًا: إن الالتزام الناس بهذه القواعد يتربط بفكرة الجزاءات الاجتماعية Social Sanctions فاتباع الناس لنماذج السلوك المعترف بها في المجتمع يرجع إلى التربية أو التنشئة الاجتماعية كأساس أول. وإذا فشلت فإن الأساس الثاني هو الخوف من الجزاءات الاجتماعية السلبية. وتتمثل

الجزاءات الاجتماعية في نوعين: نوع إيجابي كالمكافآت والمدح والتقدير ... إلخ. ونوع سلبي، يتمثل في عدة درجات تمتد من الذم إلى الإعدام والطرد من المجتمع.

النظام هو السلوك الاجتماعي الذي يعترف به أبناء المجتمع

رابعًا: إن النظام هو السلوك الاجتماعي الذي يعترف به أبناء المجتمع، وهي خاصية تتطلب مدة زمنية طويلة حتى تتحقق، وإذا وصل السلوك إلى أن يكون موضع قبول عام، فإنه يستمر لفترات زمنية طويلة أطول من أعمار الأفراد. وبهذا يستطيع النظام الاستمرار والصمود في وجه التغيرات الطارئة. ومثال هذا: خطوات وإجراءات الزواج والوفاة التي يظل الأفراد يتمسكون بها على الرغم من عدم اقتناعهم ببعضها، ولكنهم لا يمكنهم التنازل عنها لأنها صارت تشكل ضاغطًا اجتماعيًّا قويًّا يصعب التخلص منه -مثل: الاحتفالات باهظة في حالة الزواج.

أغلب النظم تتسم بدرجة عالية من التعقيد

خامسًا: أغلب النظم تتسم بدرجة عالية من التعقيد، حيث يتضمن كل منها مجموعة معقدة ومتشابكة من النماذج السلوكية، وضوابط السلوك وقواعد معينة يجب أن يتبعها إلى جانب شبكة معقدة من العلاقات التي تحتاج إلى كثير من الجهد لفهمها وتحليلها. فنظام الزواج إذا كان يبدو بسيطًا فإنه يتضمن مجموعة متافعلة متشابكة متكاملة من الظواهر أو النظم الفرعية الأقل حجمًا، مثل نظام المهر وشبكة العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين أفراد الأسرة الصغيرة إلى جانب شبكة العلاقات بين الجماعتين القرابيتين اللتين ينتمي إليهما الزوجان ... إلخ. وإذا حاولنا تحليل أي من هذه النظم الفرعية الداخلة في نظام الزواج كالمهر، نجده يشكل في حد ذاته ظاهرة معقدة يتضمن دراسة نوع المهر -كأن يتألف من النقود أو الإبل كما كان سائدا في الجزيرة العربية، أو من الأبقار كما هو الحال في أغلب مجتمعات شرق إفريقيا- ومقداره وطريقة الاتفاق عليه وطريقة دفعة ... إلخ، مع ما يصاحب ذلك كله من إجراءات أو عمليات واحتفالات يحددها العرف. يضاف إلى هذا ضرورة دراسة معنى المهر، وما يقوم به من دور

في تحقيق الاستمرار الأسري وتأمين مستقبل الزوجة والأبناء. كذلك الأسرة كنظام ظاهرة معقدة أشد التعقيد، فقد حاول بعض العلماء التمييز بين أنواع العلاقات السائدة داخل الأسرة، وجد أن هناك أنماط على الأقل العلاقات الأساسية لكل منها وظيفة محددة وهي: 1- علاقة الزوج والزوجة: وهي التي تقوم على أساس تنظيم الحقوق الزوجية والجنسية والاقتصادية، وتحديد المسئولية المشتركة نحو البيت والأولاد، بكل ما يتضمن ذلك من إنجاب الأطفال وتنشئتهم اجتماعيًّا، وتقسيم العمل بين الزوجين فيما يتعلق بالملكية والسلطة وحق الطلاق ... إلخ. 2- علاقة الأب بالابن: بما تتضمنه من مسئولية الأب نحو ابنه من تعليم وحماية ورعاية وتهذيب، وما يقابل ذلك من طاعة الابن لأبيه، ثم علاقات التعاون الاقتصادي في نواح معينة بالنسبة لنواحي النشاط المختلفة التي يضطلع بها الذكور خاصة بعد أن يكبر الابن ويستطيع الإسهام في الحياة الاقتصادية. 3- علاقة الأم بالابنة: وهي تشبه علاقة الأب بالابن، وهي تدور داخل البيت بما تتضمنه من عملية التنميط الجنسي Sex Typing. 4- علاقة الأب بالابنة: وتتمثل في مسئوليته تجاه تربيتها وتجهيزها وزواجها ورعايتها قبل وبعد الزواج ... إلخ. 5- علاقة بين الأم والابن الذكر: وتتمثل فيما تلعبه الأم من دور في حياة ابنها من التصاق به خلال الطفولة، ثم تعويده على الاستقلال التدريجي عن محيط النساء، كذلك تتضمن مسئولية الابن الذكر نحو أمه عندما يشب ويكبر، وعندما تصبح مسنة وخاصة بعد موت الأب. 6- العلاقة بين الأخوين: وهي علاقة زمالة في اللعب في الصغر، وعلاقة تعاون اجتماعي واقتصادي في الكبر ومسئولية الأخ الأكبر تجاه أخواته بعد موت الأب ودوره في تقسييم التركة ... إلخ.

7- العلاقة بين الأختين: وهي تماثل العلاقة بين الأخوين ولكن الأخت الكبرى عادة ما تكون مسئولة عن أخواتها الصغيرات، حيث تقف منهن موقف الأم. 8- علاقة الأخ بالأخت: وهي علاقة زمالة لعب في الصغر، ثم يحدث نوع من التحفظ في سلوك كل منهما إزاء الآخر. ويرتبط ذلك بتفاصيل المركز الاجتماعي لكل منهما، وما يشعر به الأخ من مسئولية نحو أخته خاصة بعد وفاة الوالد. ومع هذا التعقيد الملحوظ في نظامي الزواج والأسرة، فإنهما إلى جانب نظم أخرى كثيرة -كالخطبة والميراث والطلاق ... إلخ- تعد نظما فرعية أو مكونات النظام القرابي. ولعل هذا هو ما أدى بالعلماء إلى إطلاق مصطلح النسق الاجتماعي على النظم الكبرى، كالنسق القرابي والنسق الديني والنسق السياسي ... إلخ10

الترابط الوظيفي

سادسًا: الترابط الوظيفي بين النظم الاجتماعية داخل المجتمع، ويقصد بهذا الترابط أن النظم ليست مستقلة بعضها عن بعض، ولكنها تمثل أجزاء مترابطة متساندة متداخلة متكاملة. فنظام الخطبة يسبق ويمهد لنظام الزواج، وهذا الأخير يمهد لنظام الأسرة، ونظام الأسرة يرتبط بالنظام الديني الذي يبين لنا المحللات والمحرمات ... إلخ، كذلك يرتبط نظام الأسرة بالنظام الاقتصادي والسياسي والقانوني ... إلخ. ونفس الأمر ينطبق على بقية النظم المكونة لبناء المجتمع. وهذا هو معنى أن النظم مترابطة أو متساندة وظيفيًّا، وهذا هو معنى التساند الوظيفي Functional Interdependence بين النظم.

لكل نظام اجتماعي مجموعة من العناصر

سابعًا: لكل نظام اجتماعي مجموعة من العناصر يمكن إيجازها فيما يلي: أ- هدف أساسي ومجموعة من الأهداف الفرعية.

ب- مجموعة من النماذج السلوكية التي تحكمها معايير أو قواعد معينة. ج- جوانب رمزية للنظام. د- جوانب مادية للنظام. و مجموعة من التقاليد الشفاهية والمدونة. ويمكننا أن نفهم هذه الخاصية بالتطبيق على بعض النظم، فنظام الأسرة يستهدف تحقيق أهداف معينة مثل: الإشباع العاطفي والجنسي وعاطفة الأبوة والأمومة وإنجاب الأطفال وتربيتهم ... إلخ. كذلك للأسرة مجموعة من الاتجاهات ونماذج السلوك التي تتمثل في تصرفات الزوج إزاء زوجته، وتصرفات الزوجة مع زوجها، وتصرف الآباء مع الأبناء ... إلخ، يضاف إلى هذا عواطف الحب والحنان والولاء والاحترام ... إلخ. أما النواحي الرمزية فإنها تتمثل في خاتم الزواج وشعار الأسرة والتحف الموروثة، وتتمثل في المنزل والأثاث، وتتمثل الجوانب القانونية في وثيقة الزواج.

أنواع النظم الاجتماعية

أنواع النظم الاجتماعية مدخل ... أنواع النظم الاجتماعية: تنقسم النظم الاجتماعية إلى عدة أنواع يمكن تصنيفها طبقا لعدة معايير إلى ما يلي:

من حيث العمومية والخصوصية

أولًا: من حيث العمومية والخصوصية: فهناك نظم عامة تشيع في كل المجتمعات، كالأسرة والدين والاقتصاد ... وإن اختلف شكل النظام ومضمونه من مجتمع إلى آخر، وهناك نظم خاصة بمجتمعات معينة مثل نظام الرق الذي ساد بعض المجتمعات. ومسألة عمومية النظام مسألة نسبية، ذلك أننا يجب أن نأخذ في الاعتبار الجماعة المحلية التي تقبل النظام وتمارسه. فهناك نظم عامة تشيع على مستوى المجتمع المصري كله، كالأسرة والدين واللغة ... إلخ، ولكن هناك نظم تشيع داخل أجزاء معينة بمعنى أنها تعد نماذج للسلوك تخضع لمعايير معينة داخل هذا الجزء

من المجتمع دون غيره. ومثال هذا النظام الثأر في بعض أماكن بصعيد مصر. ولا شك أن هناك نظمًا تشيع داخل مجتمع القرية لا توجد في المدينة، مثل نظام المشاركة على المواشي أو على الأرض الزراعية. وتختلف النظم باختلاف الطبقات الاجتماعية والجماعات المهنية ... وهذه يطلق عليها النظم الخاصة أو محدودة الانتشار.

من حيث الاستمرار والعرضية أو الوقتية في الحدوث

ثانيًا: من حيث الاستمرار والعرضية أو الوقتية في الحدوث: -فهناك نظم مستمرة داخل المجتمع كنظام الأسرة أو نظام الإنتاج الصناعي أو نظام الحكم ... إلخ. وهناك نظم أخرى تتكرر في مواسم معينة بالذات يطلق عليها النظم التكرارية Repetitive Institutions.حيث يتكرر القيام بالنماذج السلوكية وفق معايير ثابتة في أوقات محددة من السنة، مثل نظام الامتحانات في آخر العام الدراسي، ونظام الصوم في أوقات محددة من السنة ... إلخ. وهناك نوع ثالث من النظم يعترف بها المجتمع ومستقرة ثقافيًا، ولكنها ليست مستمرة كالأسرة ولا تتكرر في مواسم معينة، وإنما يلجأ إليها الناس كلما دعت الحاجة إليها مثل نظام الزواج وإجراءاته النظامية المختلفة.

من حيث التلقائية والتقنين

ثالثًا: من حيث التلقائية والتقنين: -هناك نظم تنشأ بشكل تلقائي عفوي دون تخطيط أو تدبير بشري منظم، فلا يستطيع أحد الزعم بأن نظام الدين أو الأسرة أو الزواج ظهرت نتيجة لجهد بشري واعٍ ومقصود، ذلك لأنها كلها نظم ظهرت بشكل تلقائي استجابة لحاجات بشرية ملحة، وللفطرة الإنسانية التي فطر الله سبحانه الإنسان عليها. وعلى العكس من ذلك هناك نظم تظهر نتيجة للقصد أو الجهد البشري المنظم مثل نظام التعليم ونظام الصناعة ونظم الادخار والبنوك ... إلخ.

من حيث المشروعية وعدم المشروعية

رابعًا: من حيث المشروعية وعدم المشروعية: هناك نظم يعترف بها المجتمع ولا تتعارض مع القانون العام السائد داخله، بل يدعمها القانون ويجمعها مثل نظام الدين والملكية والبنوك ... إلخ، ولكن هناك مجموعة أخرى من النظم التي تتضمن نماذج سلوكية وقواعد معية تحكمها، لكنها

تتعارض مع مبادئ المجتمع وقوانينه، ومع هذا تمارس بالعقل، ويطلق عليها علماء الاجتماع مصطلح النظم. ومن أمثلة هذه النظم غير المشروعة: نظام الثأر في مجتمع الصعيد، ونظام البغاء ونظم التهريب والرشوة والسرقة المنظمة في بعض المجتمعات الغربية. وعلى الرغم من عدم مشروعية هذه النظم الأخيرة باعتبارها انحرافًا عن الثقافة العامة في المجتمع، إلا أن هناك قواعد ومعايير تحكم الممارسات السلوكية داخلها، مثل: الالتزام الأدبي بين عصبة المقتول بأخذ الثأر له، وعدم تقبل العزاء إلا بعد الثأر، وشرف المهنة بين اللصوص أو المهربين ... إلخ. هذه المعايير والقيم الفرعية تتعارض أساسًا مع القيم المشروعة داخل الثقافة العامة للمجتمع.

من حيث الهدف

خامسًا: من حيث الهدف: هناك نظم عاملة لها وظائف نوعية محددة وأخرى ضابطة، تسهم في تهيئة المناخ للنظم العاملة أن تؤدي وظائفها على خير وجه. ومن أمثلة النوع الأول نظم الصناعة والتعليم. ومن أمثلة النوع الضابط النظام القانوني. ويمكن القول، إن وظيفة النظم العاملة تنظيم نماذج السلوك التي تُعد ممارستها ضرورية لتحقيق ما يسعى إليه النظام من أهداف، ولبقائه أيضا كالنظم الصناعية والمصرفية. بينما يتميز النظام الضابط بأنه يستهدف ضبط عدد من الممارسات السلوكية التي لا تعد في حد ذاتها جزءًا من النظام نفسه، كما هو الحال في النظم القانونية، حيث لا تمثل الجرائم والانحرافات والمخالفات جزءًا من النظام القانوني. وبقول آخر: فإن النظم العاملة تنظم مجموعة من الممارسات السلوكية والعلاقات الاجتماعية طبقًا لمعايير معينة، بينما تعمل النظم القانونية إلى جانب تنظيم السلوك للحيلولة دون وقوع الانحراف، ثم عقاب المنحرفين وردع غيرهم.

من حيث ما إذا كان النظام أساسي أو فرعى

من حيث ما إذا كان النظام أساسي أو فرعى ... سادسًا: من حيث ما إذا كان النظام أساسيًّا أو فرعيًّا، ويجمع العلماء على أن هناك أربعة نظم أساسية عامة في كل المجتمعات هي: النظام الديني والاقتصادي والعائلي والسياسي، ولكن يوجد في كل مجتمع مجموعة أخرى من النظم التي تتفاوت أهميتها من مجتمع لآخر على حسب المستوى الحضاري

لكل مجتمع، مثل نظم التعليم والتربية، ونظم الفن والتعبير الأدبي والجمالي والفني ... إلخ. وما يعد أساسيًّا في مجتمع معين، قد لا يعد كذلك في مجتمع آخر فنظام التعليم والتحصين ضد الأمراض لا وجود له في بعض المجتمعات المتخلفة، بينما تعد نظمًا أساسية في مجتمعنا وهكذا.

النظم الاختيارية والنظم الإجبارية

سابعًا: النظم الاختيارية والنظم الإجبارية، هذا التصنيف قدمه "هيوز" Hughes11. فالنظم الإجبارية لا يكون للفرد حرية الالتزام بها أم لا -مثل الأسرة والمواطنة في الدولة والذكورة والأنوثة ... أما النظم الاختيارية، فهي تلك التي يشارك الفرد فيها، ويملك الانسحاب منها، كالنظم المهنية والتعليمية والرياضية. وقد استخدم "ميريل" Merill12 نفس الأساس وهو الاختيارية والإجبارية عند تصنيف النظم، لكنه اعتمد في التصنيف على فكرة حقوق النظم على الأفراد أو واجبات والتزامات الأفراد إزاء النظم. فبعض النظم تفرض واجبات إجبارية لا مناص منها، وليس للفرد حق في العضوية داخلها كالأسرة، وبعضها ذات صفة اختيارية كالنظم المهنية والرياضية.

يضيف بعض العلماء

ثامنًا: يضيف بعض العلماء -مثل "بارتر" Barter شكلين من أشكال النظم13 وهي أشكال تصنيفية حيث يصنف النظم الأولية Primary Institutions والنظم الثانوية Secondary Institutions. فالنظم الأولية أساسية تلقائية النشأة، كالدين والأسرة والملكية والحرف والحكومة كتنظيم. ومع تعقد المجتمعات ونمو الحضارات ظهر العديد من النظم الاختيارية، وهي نظم فرعية تتفرع عن النظم الأولية -مثل نظم الصناعة، ونظم التعليم المتطور، ونظم العلاج الطبي ... إلخ. وأخيرًا هناك وضعية تنشأ أي من صنع البشر. وهناك نظم إلهية المنشأ مصدرها الكتب السماوية المنزلة على الرسل عليهم السلام. ومن أمثلة النظم الأولى: نظم الحكم والأسرة والاقتصاد في المجتمعات غير الإسلامية،

ومن أمثلة النظم الإلهية، تلك التي تطبق داخل المجتمعات الإسلامية، والتي تستند إلى الشريعة الإسلامية، مثل نظام الأسرة والمواريث. ونظام الاقتصاد والحكم والعقوبات التي تستمد كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

أهداف النظم الاجتماعية

أهداف النظم الاجتماعية: سبق أن أشرت إلى أن هناك وظائف معينة تؤديها النظم، ولكن يجب ألا يفهم من هذا أن النظام يحقق هدفا واحدًا بعينه، أو أنه ظهر ليشبع حاجة واحدة فحسب. فاستعراض النظم يبرز بجلاء أن أي نظام مهما بلغ من البساطة يؤدي عدة وظائف، كما أنه يحقق عدة حاجات. ويمكننا أن نوضح ذلك بنظام الزواج الذي يحقق عدة أهداف منها: تحقيق الاستقرار النفسي والعاطفي، وإشباع الحاجة الجنسية، وإشباع الرغبة في الإنجاب وتكوين ذرية، ... إلخ. وهناك من الباحثين مثل "ميرتون" Merton من يميز بين الوظيفة الظاهرة Manifest Function، والوظيفة الكامنة Latent Function للنظام، والوظيفة الظاهرة هي الوظيفة المدركة والتي يمكن لأعضاء المجتمع إدراكها، أما الوظيفة الكامنة، فهي مجموعة الأدوار التي يؤديها النظام والتي تحتاج إلى تحليل الباحث. وبوجه عام يمكن القول: إن النظام الاجتماعي يؤدي أكثر من وظيفة اجتماعية أو يحقق أكثر من هدف، أو يشبع أكثر من حاجة. ولكن غالبًا ما يكون للنظام وظيفة أساسية أو محورية إلى جانب مجموعة أخرى من الوظائف الفرعية. فالوظيفة الأساسية للأسرة، إنجاب الأطفال الشرعيين وإشباع الحاجات العاطفية والجنسية للأفراد بطريق مشروع. وإلى جانب هذه الوظيفة الأساسية، فإن الأسرة تشبع الكثير من الحاجات الاقتصادية والسياسية والدينية في بعض المجتمعات. وعلى هذا الأساس تعد الأسرة نظامًا اقتصاديًّا جزئيًّا باعتبارها تقوم على أساس تقسيم العمل بين الزوجين وتعد وحدة إنتاج واستهلاك في بعض المجتمعات. ونظام العمل الصناعي يستهدف كنظام اقتصادي إشباع الحاجة إلى الأجر. ولكنه إلى جانب هذه الوظيفة فإنه يشبع العديد من الحاجات الاجتماعية والنفسية

الأخرى كالحاجة إلى المركز الاجتماعي وإشباع الذات ... إلخ، وتَعدد وظائف النظم يكشف عن تشابك النظم وتداخلها، فللأسرة وظائف دينية واقتصادية وسياسية، وهي بذلك تتداخل مع النظم الدينية والاقتصادية والسياسية. ووظيفة النظام التعليمي -المدارس- في المجتمعات المتقدمة، هي التربية وتعليم النشء. ولكن هذه الوظيفة ليست قاصرة على النظام التعليمي وحده، حيث تشترك عدة نظم مع النظام التعليمي في أداء المهمة التربوية والتعليمية مثل نظام الأسرة ونظام الإعلام ونظام النوادي ... إلخ. وهذا يعني بوضوح أن النظم الاجتماعية متشابكة متداخلة، فللأسرة وظائف اقتصادية وقانونية وسياسية ودينية، ولهذا فإن دراسة نظام الأسرة أو أي نظام يقتضي إجراء القيام بعدة أمور هي: 1- دراسة النظام ومكوناته ووظائفه الأساسية والفرعية. 2- دراسة العلاقات المتداخلة بين النظام وبقية النظم الاجتماعية الأخرى. 3- دراسة الجوانب الاقتصادية والسياسية والقانونية ... لأي نظام. وهذا هو جوهر الاتجاه البنائي الوظيفي في علم الاجتماع.

تصنيف النظم الاجتماعية

تصنيف النظم الاجتماعية مدخل ... تصنيف النظم الاجتماعية: يمكننا فهم النظم الاجتماعية على أنها مجموعة النماذج السلوكية والعلاقات المقننة التي تستهدف إشباع حاجات الإنسان والجماعات الإنسانية المكونة للمجتمع. ولما كان المجتمع يحتاج إلى أعضاء جدد وإلى أن يمد هؤلاء الأعضاء الجدد بأساسيات الثقافة السائدة في المجتمع ورعاية هؤلاء الأعضاء الجدد إلى جانب إشباع الحاجات الجنسية والعاطفية والنفسية عند الإنسان، فإن أي مجتمع يحتاج إلى نظام الأسرة. وهو ما يجعله نظامًا عامًّا وضروريًّا وشائعًا داخل كل المجتمعات سواء أكانت بدائية، أم حديثة. وإذا كان الإنسان -أينما وجد- في حاجة إلى الطعام والكساء والمأوى وإلى أساليب لتنظيم الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، فإن هذا معناه حتمية وجود النظام

الاقتصادي داخل أي مجتمع. وإذا كان وجود المجتمع مرهونًا أساسًا بوجود النظام ومجموعة قواعد تنظم سلوك الناس وتحدد الجزاءات الاجتماعية التي يواجه بها المجتمع الأعمال التي تنحرف عما تواضع عليه المجتمع من قيم. هذا إلى جانب هيئة حاكمة تحكم المجتمع ويرجع إليها عند وجود خلافات لحسمها ... إلخ، فإن هذا كله معناه حتمية وجود النظام السياسي داخل المجتمع. وأخيرًا فإن الضعف الإنساني، وحاجة الإنسان إلى الكائن القوي القادر، جعله منذ القدم يلتمس معرفة تلك القوة التي تسيطر على قدره ومصيره، ويحاول التقرب منها بالعبادات والشعائر. وهذا معناه عمومية النظام الديني في كل المجتمعات، وهذه النظم الأربعة الأساسية: الأسرة، والاقتصاد، والسياسة، والدين، يجمع عليها العلماء باعتبارها النظم الأساسية والمنتشرة في كل المجتمعات مهما كانت درجة بدائيتها أو حداثتها. ويختلف العلماء كثيرًا في تصنيف النظم الاجتماعية، ويرجع الاختلاف إلى اختلاف معايير التصنيف. وتتمثل عملية تصنيف النظم الاجتماعية في محاولة التعرف على أنماط السلوك الاجتماعية. التي ترتبط معًا لتؤلف نظامًا واحدًا. وتحديد النظم الاجتماعية الفرعية التي تؤلف النظم الكبرى أو ما يطلق عليها بعض الباحثين الأنساق الاجتماعية. وهناك خلاف كبير بين الباحثين حول تحديد العناصر التي تؤلف نظام الأسرة أو الملكية أو النظام السياسي ... إلخ. ومما يزيد من صعوبة التصنيف ما سبق أن أشرت إليه من أن لكل نظام اجتماعي جوانب متعددة، فالأسرة في الكثير من المجتمعات، لها وظائف اقتصادية ودينية وسياسية. فهل يحق لنا على هذا الأساس اعتبار الأسرة نظامًا اقتصاديًّا أو دينيًّا أو سياسيًّا. يضاف إلى هذا أن هناك نظمًا معينة تقع على الحدود بين عدة نظم النظام ينفذ داخل النظام العائلي بين الأقارب، وهو مختلفة مثل نظام الميراث -كما هو في الشريعة الإسلامية مثلًا- فهذا النظام ينفذ داخل النظام العائلي بين الأقارب وهو بهذا الشكل يتعلق بالملكية وانتقال الثروات والحقوق الاقتصادية، وبذلك يمكن النظر إليه على أنه أحد مكونات النظام الاقتصادي. ومن جهة ثالثة، فإن الشريعة الإسلامية ممثلة في الكتاب والسنة، وهي التي تحدد الميراث وأسلوب توزيعه على سبيل

التحديد، وهو بهذا الوصف يمكن النظر إليه على أنه أحد مكونات النظام الديني وهكذا ... ويمكننا أن نعرض هنا لنماذج من تفكير العلماء واختلافاتهم حول قضية تصنيف النظم فـ"هربرت سبنسر" H. Spencer عالم الاجتماع البريطاني يصنف السلوك الاجتماعي المقنن إلى عدة نظم هي: النظام العائلي، والنظام الشعائري، والنظام الديني، والنظام المهني، والنظام الصناعي. أما "سمنر" Summner و"كيلر" Keller، وهما من أشهر علماء الاجتماع في أمريكا يذهبان إلى أن هناك مجموعة من الحاجات الإنسانية الأساسية هي التي أدت إلى ظهور النظم الاجتماعية، وهي الجوع والحب والغرور والخوف، ويستهدف الناس من وراء إشباع هذه الحاجات الحفاظ على الذات وعلى النوع، وإشباع الذات والخضوع للكائنات الخفية التي تتجاوز قدرات الإنسان. وعلى هذا الأساس قام الباحثون بتصنيف النظم الاجتماعية إلى ما يلي:

النظم الاقتصادية والحكومية

1، 2- النظم الاقتصادية والحكومية: وأهم وظائفها توفير الطعام وتنظيم الملكية وتنظيم عمليات التفاضل أو التمايز الطبقي إلى جانب تنظيم سلوك الناس وعلاقاتهم من خلال القانون.

النظام العائلى

3- النظام العائلي: ويتصل هذا النظام بالغزل والزواج والطلاق وتنشئة الأبناء وأسلوب معاملة كبار السن.

نظام الدين

4- نظام الدين: وهو يتعلق بالمعتقدات التي تدور حول المقدس وما يتصل به من شعائر وممارسات سلوكية سواء تعلقت بالحياة الدنيا أو بالحياة الآخرة. والدين الإسلامي الحنيف هو الدين الوحيد* الذي ينظم حياة الإنسان

_ * إن الدين عند الله الإسلام، والدين الإسلامي ينظم علاقة الإنسان مع ربه ومع غيره وينظم كافة جوانب الحياة الاجتماعية والأسرية والسياسية والاقتصادية ... إلخ، والإسلام هو الدين الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل المرسلين من قبل الخالق سبحانه وتعالى والذي اكتمل على يد خاتم الأنبياء والرسل محمد عليه الصلاة والسلام.

بجميع جوانبها، فالإسلام عقيدة وشريعة مصدره الخالق البارئ المصور.

نظام التعبيرات الجمالية والعقلية والترويح

5- نظام التعبيرات الجمالية والعقلية والترويح: وتتمثل في مجموعة من الممارسات السلوكية كالرقص والتمثيل والشعر والفن والعلم والفلسفة والألعاب والتسلية وغيرها. ويتضح لنا مما سبق ذكره عن النظم الاجتماعية أن هناك اتفاقًا بين العلماء على محاولة ربط النظم بالحاجات البشرية، على أساس أن النظم الاجتماعية تظهر أساسًا محاولة ربط النظم بالحاجات الجماعية والمجتمعية. ولما كانت هناك حاجات عامة بين جميع البشر وكافة أنواع الجماعات، فإن هناك نظما لها خاصية العمومية كالعائلة والاقتصاد والسياسة والدين. ولكن الحاجات البشرية الجماعية متغيرة تختلف باختلاف الثقافات. فكلما تعقدت ثقافة المجتمع كلما ظهرت حاجات جديدة. ولهذا يختلف عدد النظم ونوعيتها باختلاف المجتمعات وموقعها على سلم التطور الحضاري والتكنولوجي. وأيا كان الأمر فإن فهم المجتمع كما يذهب بعض الباحثين مثل "كونيج" Keenig لا يحتاج في حقيقة الأمر إلا إلى عدد قليل من النظم التي توجد في كل المجتمعات على اختلاف درجات تقدمها أو تأخرها، وهي: النظام الاقتصادي ونظام الملكية والدين والعائلة والتعليم والتسلية والترويح. وهناك من الباحثين مثل "نادل" Nadel من يتخذون من غرض النظام الكلي معيارًا للتصنيف. ويذهب الباحث المذكور إلى أن هناك نظماً مركبة وأخرى بسيطة. فالنظام المركب هو الذي يتألف من مجموعة من النظم التي تتشابه في هدفها. ومثال ذلك النظام القرابي الذي يضم نظماً فرعية مثل الزواج والخطبة والأسرة والوراثة والتبني ... إلخ. ويمكن في الواقع تصنيف بعض هذه النظم الداخلية في نظام العائلة ضمن مكونات النظام الاقتصادي مثل المهر والميراث. ولكنه يفضل تصنيفها ضمن النظام العائلي على أساس التشابه في الغرض الكلي للنظام المركب.

أهمية دراسة النظم الاجتماعية

أهمية دراسة النظم الاجتماعية مدخل ... أهمية دراسة النظم الاجتماعية: ونحن نهتم في دراستنا في علوم الاجتماع والإنسان بدراسة النظم الاجتماعية لعدة أسباب علمية وعملية نوجزها فيما يلي:

تدخل النظم الأساسية في تكوين البناء الاجتماعي

أولًا: تدخل النظم الأساسية في تكوين البناء الاجتماعي، ولهذا فإن التعرف عليها يعد أمرًا لازمًا من أجل دراسة البناء الاجتماعي.

تكشف النظم الاجتماعية للمجتمع عن أساليب لمواجهة حاجاته الجماعية

ثانيًا: تكشف النظم الاجتماعية للمجتمع عن أساليبَ لمواجهة حاجاته الجماعية وحاجات أبنائه الجسمية والروحية والنفسية والاجتماعية وبالتالي تعد مدخلًا أساسيا للفهم العلمي للمجتمع.

تعد دراسة النظم الاجتماعية هى الأساس الأول للدراسة المقارنة بين المجتمعات

ثالثًا: تعد دراسة النظم الاجتماعية هي الأساس الأول للدراسة المقارنة بين المجتمعات تمهيدًا لإصدار قضايا عامة أو للتعميم في الدراسات الاجتماعية. فمن الخطأ إجراء مقارنة بين ظواهر اجتماعية جزئية أو حتى بين نظم جزئية كالزواج والخطبة ... إلخ، على أساس أن مقارنة هذه الظواهر والنظم الجزئية بين عدة مجتمعات معناه انتزاع الظاهرة أو النظام من إطاره الكلي، الأمر الذي يحولها إلى ظاهرة هينة وبالتالي تبطل المقارنة. وإذا ما أردنا المقارنة فإنه لا مناص على الأقل من دراسة النظم الاجتماعية الكبرى. ومثل هذه الدراسة المقارنة هي التي تمكننا من إصدار تعميمات حول مكونات ووظائف النظم الاجتماعية من جهة، وحول عوامل تغيرها وتحولها واتجاهات التغير وأساليبه ومداخله من جهة أخرى.

تعد الدراسة العلمية للنظم الاجتماعية هي الأساس الأول لمواجهة المشكلات الاجتماعية

رابعًا: تعد الدراسة العلمية للنظم الاجتماعية هي الأساس الأول لمواجهة المشكلات الاجتماعية، فالمشكلات أو الأمراض الاجتماعية هي في جوهرها اختلال في أداء النظم لوظائفها، أو انحراف عن الفطرة السليمة. ولا شك أن العلاج يفترض فهم ميكانزمات ثبات النظم وتغيرها وعلاقاتها الوظيفية بعضها ببعض.

النظم وأوزانها داخل البناء الاجتماعي

النظم وأوزانها داخل البناء الاجتماعي مدخل ... النظم وأوزانها داخل البناء الاجتماعي: اختلف الباحثون في تحديد النظم المحورية التي تحتل وزنًا خاصًّا داخل البناء الاجتماعي من حيث اعتبارها المتغير للمستقبل الذي يحدد طبيعة النظم الأخرى ويقود عمليات التغير. وهنا انقسم الفكر السوسيولوجي إلى تيارينِ متناقضين:

التيار الماركسي الملحد

الأول: التيار الماركسي الملحد الذي يذهب إلى أن النظام الاقتصادي هو النظام المحوري الذي يمثل البناء الأساسي Infra-Structure الذي يحدد ويصوغ كل نظم البناء الفوقي Supra-Structure بما فيها نظم الأسرة والسياسة والدين، وهذا تيار إلحادي ماديّ مسرف ينبثق من أيديولوجية الصراع والمادية الجدلية العقيمة.

التيار الديني أو القيمي

الثاني: التيار الديني أو القيمي ويمثله "ماكس فبير" Veber ويؤكد أن النظام الديني هو النظام المحوري الذي يوجه ويصوغ كل النظم الاجتماعية الأخرى بما فيها النظم الاقتصادية. وسوف نناقش هذه الآراء والتيارات بمزيد من التفصيل في فصل قادم. ويكفي هنا أن أشير إلى أن الإسلام كنظام ديني يصوغ كافة النظم الاجتماعية الأخرى السياسية والاقتصادية والأسرية، ويقيم بناء مجتمع تختفي داخله الصراعات المدمرة ويقوم على التعاون والحب والتكافل والعدل والشورى والتقدم العلمي والتكنولوجي14 وهو ما سنزيده تفصيلاً في فصل قادم.

مصادر الفصل الثاني

مصادر الفصل الثاني 1- د. نبيل السمالوطي: دراسات في علم الاجتماع- الجبلاوي- القاهرة سنة 1977، ص 234. 2- W. Orburn and M. Nimkoff. A Handbook of Sociology, London 1949 pp. 363- 64. 3- دكتور أحمد أبو زيد: البناء الاجتماعي- مدخل لدراسة المجتمع- الجزء الأول، الدار القومية سنة 1966، الفصل الثالث. وانظر أيضا كتاب ماكيفرو بيج بعنوان "المجتمع" الترجمة العربية. 4- J.L. Gillin and J.P. Gillin: Cultural Sociology, N.Y. 1978, p. 313. 5- Gug Rocher: A General Introduction to sociology: A theoretical perspective: 6- H.E. Barnes. SOcial Institutions. N.Y.. Prentice- Hall, 1947. pp. 28-30 7- M. Ginberg: SOciology: Oxford 1949, p.43. وهذا الكتاب مترجم للعربية ضمن سلسلة الألف كتاب. 8- P. Rose: The study of society: Rondan House Inc. N.Y. 1967, p. 523. 9- G. Summner: Folkways Boston 1906 pp. 53- 55 10- Koening S: sociology: An Introduction to the Science of Society: Barns and Nobi N.Y.1960. 11- E.C. Hughs: SOcial Introduction: In Alfred Lee: (ed) Principles of sociology: Col- lege outtine series pp. 256- 258. 12- Francis Meril: Sociology and Culture: Englewood Cliff, New - Jersy 1963, pp. 335- 338. 13- Harry Elmer Barnes: social Institutions, op. cit 14- د. نبيل السمالوطي: المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع، دراسة في علم الاجتماع الإٍسلامي، دار الشرق، جدة 1980، الفصل الأول.

الفصل الثالث: النظام العائلي

الفصل الثالث: النظام العائلي الأسرة الأسرة أهميتها ووظائفها ... الفصل الثالث: النظام العائلي الأسرة: أهميتها ووظائفها. يهتم الإسلام بشكل ملحوظ ببناء الأسرة -أسلوب تكوينها والنظم المؤدية إليها، كالخطبة والزواج والعلاقات الأسرية وبيان حقوق الأبناء، وحقوق كل من الزوج والزوجة، وأساليب مواجهة المشكلات والخلافات الأسرية إن وجدت، وأسلوب إنهاء العلاقة الزوجية إن استحالت الحياة الأسرية المتكاملة، وبيان أساليب توزيع الميراث ... - وذلك لأن الأسرة السوية الصحية هي أساس الحياة الاجتماعية السوية، وهي أساس المجتمع المتكامل، ولا يخفى أن المجتمع ليس إلا مجموعة من الأسر المتفاعلة فإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، ولعل المشكلة الكبرى في المجتمعات المتقدمة صناعيًّا وتكنولوجيًا تتمثل في تفكك الأسر وتسيب العلاقات داخلها، وهذا هو ما دعا المصلحين إلى التركيز على ضرورة الحرص على بناء الأسرة على دعائم قوية، وتتضح هذه الدعائم بشكل واضح ومعجز في التنظيم الإسلامي للأسرة. والسبيل الأول لتكوين الأسرة هو نظام الزواج، والواقع أن كل الأديان قدَّمت تصورات لتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل يخضع لضوابط وتنظيمات دقيقة، وبشكل ينظم الفطرة التي أودعها الله في الإنسان كما أودعها في الحيوان، تنظيماً يرتفع بالإنسان -الذي كرمه الله ونفخ فيه من روحه وأهله للخلافة عنه سبحانه- عن مستوى الفطرة الحيوانية. وإذا كان الإنسان مطبوعاً على حب البقاء، وإذا كان لا سبيل إلى بقائه بذاته -لأن كل نفس ذائقة الموت- فإن سبيله، للبقاء هو النسل المعروف نسبته

للشخص، يراه امتدادًا في بقائه واستمرارًا لذكراه وخلودًا لحياته. والسبيل إلى ذلك هو نظام الزواج. يقول تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72] . وتشير هذه الآية الكريمة أن حاجتنا إلى الأزواج وثمرة الأزواج وتنظيم الزواج ليست أقلّ من حاجتنا إلى حفظ حياتنا والتمتع بلذائذ الحياة وطيبات الرزق التي تحفظ كياننا وتقينا التعرض للضعف والانحلال. والزواج هو السبيل لتكوين الأسرة التي تحقق للإنسان إشباع فطرته وإشباع حاجاته البيولوجية والنفسية حيث يجد كل من الزوجين الشريك الذي يحقق له السكن والرحمة والمودة والراحة. يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . هذه الإشباعات المتعددة التي يحققها الزواج المشروع حب البقاء والمودة والسكن والرحمة، هو ما يَطلق عليها القرآن الكريم قرة العين التي أطلق الله لسان عباده المقربين بدعائهم إياه بها {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] . ومحبة الولد حاجة ماسة عن كل إنسان سوي، كما يتضح في دعاء زكريا عليه السلام بعد أن بلغ من العمر الشيخوخة قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 4-6] . وإلي جانب تنظيم الفطرة وإشباع الإنسان إلى البقاء من خلال النسل، فإن نظام الزواج يهيئ للإنسان جوَّ الشعور بالمسئولية ويكون للإنسان تدريبًا عمليًّا على تحمل المسئولية والقيام بأعبائها. فالإنسان -ذلك الكائن السامي الذي استحق تكريم الله سبحانه- لم يُخلق للاستمتاع بالأكل والشرب واللذات الحسية فحسب ثم يموت كم تموت الأنعام، وإنما خلق ليعبد الله وليفكر ويقدر ويعمر الكون ويدبر ويدير المصالح

وينفع غيره وينتفع ... فهو كائن مسئول مكلف، ولا بد من بيئة تحضيرية يكون للإنسان فيها هيمنة له عليها قوامة، وله بها رباط لا يستطيع بمقتضى الشعور بهذا الرباط أن يتحلل منه، وأن يلقي به عن عاتقه. هذه البيئة هي التدريب العلمي على تحمل المسئولية، وذلك الرباط -الذي هو بمثابة المدرسة الأساسية للمسئولية- هو رباط الزواج. ولعل أقرب ما يوحى بهذا المعنى من كلام الله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [أول سورة النساء] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] . ويعدّ الزواج في نظر الإسلام عقداً -ولكنه عقد أطلق عليه الميثاق لأهميته وما يترتب عليه من علاقات هي أساس تكوين أسرة وإنجاب أبناء وترتيبهم وميراث ... إلخ- ويتم الزواج بتوافر الإيجاب والقبول مع توافر الشهود، لأن الإيجاب والقبول يعني موافقة الرجل والمرأة بإرادتهما الحرة، مع ضرورة توافر الشهود. ولا يشترط في عقد الزواج أن يتم على يد أحد رجال الدين، كما لا يشترط أن يتم بمكان معين -كما هو الحال في المسيحية التي تستوجب إتمام عقد الزواج في الكنيسة على يد القسيس -ولا يعد العقد كاملًا وملزماً إلا إذا ما توفرت له الشروط الإسلامية كالشهود، وعدم كون المرأة محرمة على الرجل تحريماً مؤبداً أو مؤقتاً. وقد حدد التشريع الإسلامي أنواع المحرمات من النساء على وجه التأبيد، كالمحرمات عن طريق القرابة أو المصاهرة أو الرضاعة، بالإضافة إلى بعض المحرمات على وجه التأقيت، وهؤلاء يزول تحريمهن إذا زال السبب الذي أدى إلى التحريم كالجمع بين محرمين أو معتدة الغير أو المرأة التي لا تدين بدين سماوي2. ومن شدة اهتمام الإسلام بالزواج جعله ميثاقاً يجب على الإنسان أن

يكافح في سبيل الحفاظ عليه والوفاء بمقتضاياته والتصدي لما يعترض له من صعوبات، وأطلق الإسلام عليه "الميثاق الغليظ" أي العهد القوي. يقول تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 20] . ويقول تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُن} [البقرة: 178] . وتشير هذه الآيات الكريمة إلى عمق علاقة الزوجية، بحيث تتخطى كل العلاقات الأخرى في أهميتها. وإذا كان المتتبع لكلمة الميثاق في القرآن الكريم يدرك أنها تأتي -في أكثر من موضع- حيث يأمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده والأخذ بشرائعه وأحكامه، فإنه يستطيع -وقد جاءت في شأن الزواج- إدراك الأهمية العظمى التي يضفيها القرآن الكريم على ظاهرة الزواج.

أسس بناء الأسرة في الإسلام

أسس بناء الأسرة في الإسلام مدخل ... أسس بناء الأسرة في الإسلام: عقد الزواج في نظر الإسلام ميثاق غليظ، وعلاقة الزوجين علاقة سكنٍ ومودة ورحمة، وهو أساس لإنجاب الذرية -البنين والأحفاد، والزواج هو العملية الاجتماعية التي تتكون منها الأسرة وتتفرع عنها غصون الإنسانية- شعوبًا وقبائلَ- تتعارف وتتعاون، وتكون منها الأمة الفاضلة التى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحقق للإنسان معنى الخلافة التي خلق من أجلها. وهناك مجموعة من الأسس البنائية التي تقوم عليها الأسرة الإسلامية، تضمن لها القوة والاستمرار والعلاقات الطيبة والوقاية من التفكك أوجزها فيما يلي:

التعرف

أولًا: التعرف: يستوجب الإسلام أن يتعرف كل من الرجل والفتاة على بعضهما البعض بحيث لا يترك الأمر للمصادفة العمياء. ويوحي الإسلام هنا أن يكون معيار الاختيار هو الدين والخلق، ويحذر من الركون

إلى معايير الجمال أو الحسب أو المال وحدها. ومن أقوال الرسول -عليه الصلاة والسلام- في هذه الناحية: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لمَ ْيُزِدْهُ اللَّهُ إلا ذلًّا، ومن تزوجها لمالِهَا لم يزده اللَّهُ إلا فقراً، ومن تزوجها لحسبها لم يزده إلا دناءة، ومن تزوجها لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن نفسه بارك الله له فيها وبارك لها فيه". وهذا لا يعني إهمال بقية المعايير -كالجمال أو الحسب- لكنها يجب أن تكون في مرتبة تالية للدين والخلق. هذه الخطوة الأولي وهي التعرف على خلق شريك المستقبل -المرأة والرجل- وعلى درجة تمسكه بالدين، يتلوها خطوة الخطبة، وهي خطوة الاختبار عن طريق المشاهدة والاستماع حيث يمكن للخاطب أن يرى من خطيبته وجهها ويديها وقدميها، ويسمع حديثها للوقوف على المزايا الجسمية والصوتية والفكرية. وخلال هذه اللقاءات -التي يتعرف كل طرف على الآخر- تتم في حضور بعض الأهل والأقارب في وسيطة مقبولة دون أن تسد منافذ الرؤية ويحكم سدها، ودون أن يطلق السراح ويطلق لهما العنان، فالفضيلة وسط بين طرفين كلاهما رذيلة. وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للمغيرة بن شعبة عندما خطب امرأة: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، والأحاديث الشريفة- كثيرة وكلها ضرورة رؤية كل طرف من طرفي الخطبة للآخر.

الرضا الكامل الذاتي من الطرفين

ثانيا: الرضا الكامل الذاتي من الطرفين دون ضغط أو إكراه، فلم تكتف الشريعة الإسلامية بالتعرف والاختبار المسبق، لكنها أوجب ضرورة الموافقة الصريحة من جانب الرجل والمرأة على الزواج، ولا يكفي -في أصح الآراء والمذاهب- رضا الولي ولو كان أباً ما دام الطرفان أو أحدهما غير راض بقلبه وضميره. وقد جعلت الشريعة الإسلامية الأمر شورى بين الفتاة وولي أمرها وأمها، حيث استوجبت من الولي أخذ رأي المخطوبة في زوجها المستقبل المرشح مع أخذ رأي أمها لأنها على دراية بأحوالها. قال عليه السلام: "أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فزواجها باطل وكررها

ثلاثاً"، وقد قيل للرسول -عليه الصلاة والسلام- إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت: قال عليه السلام: "سكوتها إذنها"، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "آمروا النساء في بناتهن" 3، وهكذا تحفظ الشريعة السمحة للأب سلطته الأبوية وتصون للبنت أدبها مع تمكينها من عرض رأيها كاملًا وبحرية في قضية هي أمس خصوصيتها، وهي الزواج واختيار زوج المستقبل. وبهذا الشكل يختفي استبداد الآباء وتسيب البنات.

الكفاءة

ثالثاً: الكفاءة: وضمانًا لحسن التوافق بين الزوجين وحسن العشرة وإمكان التفاهم وبناء العلاقة الزوجية على النديَّة، حرصت الشريعة الإسلامية على أن يكون الزوج كفئًا للزوجة في كل القيم التي يعتز بها الناس في حياتهم، خاصة بالنسبة للمكانة الاجتماعية والاقتصادية Socio-economic Status والكفاءة عنصر مهم لاستمرار الحياة الأسرية في ضوء قوامة الرجل، ذلك لأن انخفاض المكانة الاجتماعية والاقتصادية للزوج بالمقارنة بالزوجة يضعف مكانته كرب للأسرة وقد تهز من قوامته وتكون سبباً في تفكك العلاقة بينهما فيما بعد.

المهر

رابعًا: المهر: فرضت الشريعة الإسلامية منحة تقديرٍ للزوجة تحفظ عليها حياءَها وكرامتها، يتقدم بها الزوج معبرًا عن تقديره لزوجة المستقبل وكامل رغبته في إتمام الزواج بها، وهذه المنحة هي المهر. وقد حرصت الشريعة على عدم الغلوِّ في المهر وضرورة التيسير في تحديده. وهناك العديد من التوجيهات النبوية الشريفة في هذا الصدد منها "من بركة المرأة سرعة تزويجها ويسر مهرها"، "وخير النساء أحسنهن وجوهًا وأرخصهن مهورًا4. وعلى هذا فإنه يمكن القول أنه إلى جانب التعرف والاختبار والرضا والكفاءة والمهر، هناك وصية إسلامية كريمة بعدم المغالاة في المهور حتى لا يضطر الرجل إلى الاستدانة وتحمل عبء الدين خلال الحياة الزوجية

مما ينعكس سوءًا على حالته النفسية والاقتصادية وموقفه من زوجته الأمر الذي يهدد العلاقات الأسرية نفسها.

الحقوق والواجبات الزوجية

الحقوق والواجبات الزوجية ... الحقوق الواجبات الزوجية: أ- إذا تحقق التعرف والاختبار والرضا والكفاءة والمهر مع تيسيره، تم عقد الزواج -بشهادة الشهود- ويترتب على هذا العقد الذي أطلق عليه القرآن الكريم "الميثاق الغليظ" مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة تضمن تماسك الأسرة واستمرارية العلاقات الزوجية وسيادة المودة والرحمة والتفاهم المتبادل. وقد كرَّمَ الإسلام المرأة بعد أن كانت كمًّا مهملًا في الجاهلية، وهذا التكريم لم يرقَ إليه أكثر القوانين الغربية المعاصرة التي تدعي أنها منحت المرأة كل حريتها. ويتضح هذا التكريم القرآني للمرأة من القاعدة القرآنية الكريمة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} [البقرة: 228] . ويذهب الإمام الشيخ محمد عبده إلى أن الدين الإسلامي رفع النساء إلى درجة سامية لم تصل إليها أمة سواء قبل الإسلام أو بعده. ففي بعض الدول الأوروبية تحصل المرأة على نصف أجر الرجل على الرغم من قيامها بنفس العمل المهني للرجل. كذلك فإن قوانين بعض هذه الدول تمنع المرأة من حق التصرف في مالها دون إذن زوجها. أما الإسلام فقد أعطى المرأة استقلالها الاقتصادي ومنع الرجل من أن يأكل من مال المرأة، فضلًا عن تملكه أو التصرف فيه، أو فرض الوصاية عليها. ولا يحق للرجل أخذ شيء من مال زوجته إلا إذا كان عن طيب نفس منها {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . وقد كان النساء يعانين حتى أقل من قرن في أوروبا من جاهلية -فكرية واجتماعية- ليست بأحسن من جاهلية ما قبل الإسلام، فقد كانت المؤتمرات تعقد في أوروبا لبحث قضية وهي:

"هل المرأة إنسان أم حيوان"؟ وبالتالي هل يحق لها التمتع بحقوق الإنسان أم لا؟. ب- يقول تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} [البقرة: 228] . وهذا يعني أن الأساس الذي يرجع إليه تقرير الحقوق والواجبات هو العرف الذي تقضي به فطرة المرأة وفطرة الرجل. وقد أفاض الفقهاء في بيان حقوق كل من الزوج والزوجة، والحق الذي تقضي به الفطرة السليمة هو ما قضى به النبي عليه الصلاة والسلام، بين عليٍّ وابنته فاطمة، حيث قضى على ابنته بخدمة البيت ورعايتِهِ، -تدبير المنزل ورعاية الأطفال- وعلى زوجها بالعمل والسعي والكسب خارج البيت. ويقضي الإسلام بالتعاون بين الزوجين إذا دعت الضرورة حيث يساعد كل زوج زوجته في تدبير ورعاية البيت، وتساعد كل زوجة زوجها في عمله، وهذا هو التعاون الذي يطالبنا به ديننا الحنيف {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . ومن حسن العشرة والعلاقات الاجتماعية الطيبة عدم قيام أي طرف بتكليف الطرف الآخر ما لا يطيق {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، ومن حسن العشرة استمرار الود والحب والمودة والرحمة، فالأسرة في نظر الإسلام ليست مؤسسة اقتصادية ولا مؤسسة سكن بالمعنى الحرفي فحسب، لكنها تنظيم يهيئ الجو الملائم لحياة الإنسان حياة مريحة يشبع من خلالها كلٌّ من الزوجين حاجاته النفسية إلى الحب والأمن والتقدير وإثبات الذات والتعبير عنها، والحاجة إلى الذرية الصالحة، والحاجة إلى المودة والرحمة إلى جانب إشباع الحاجات المادية. ج- وإذا كان الإسلام قد ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات فإنه جعل القوامة للرجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، فالرجل

هو المسئول عن المرأة مكلف بالإنفاق عليها وصيانتها ودفع الشر عنها، فهي مسئولية قوامة وتكليف وليست مسئولية سيطرة وسلطان وقهر. وهذه المسئولية تقتضيها ضرورة الاجتماع. فأي جماعة لا بد لها من قائد ومدير ومتصرف {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] . وليس معنى هذا إعفاء المرأة من المسئولية، فعن ابن عمر رضي عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم، قال: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" متفق عليه5. فالمرأة مسئولة ومشاركة للرجل في المسئولية وأعباء المنزل. وإذا كان الإسلام قد منح الرجل القوامة فلأنه قادر على القيام بمشاق الأمور بسبب ما أودعه الله سبحانه فيه من قوة جسيمة وتحكيم العقل وعدم الانقياد للعواطف، وقدرته أو مسئوليته عن الإنفاق ورعاية الأسرة كلها. وهذا يعنى أن حق اتخاذ القرار النهائي Decision Making يكون للرجل، ولكن هذا القرار لا يصدر عن تسلط ولكن عن شورى وتبادل للرأي وإقناع واقتناع. وعلى هذا فإن المرأة تعد قوة من قوى تشكيل القرار Decision Shaping. وهذه الاستراتيجية الأسرية كفيلة بدوام الأسرة واستمراريتها وتماسكها. د- وقد سبق أن أشرنا إلى أن قوامة الرجل وقيامه باتخاذ القرارات لا يعني التسلط، وإنما يقوم على أحد المبادئ الإسلامية الخالدة لبناء العلاقات الاجتماعية على مستوى الجماعة Group Level أو مستوى التنظيم Organization Level أو مستوى المجتمع المحلي Community Level أو مستوى المجتمع العام Society Level، وهو مبدأ الشورى وتبادل الرأي والمشاركة الإيجابية Positive Participation من جانب الأعضاء. فأمر المؤمنين شورى بينهم كما يحدثنا القرآن الكريم

{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} [الشورى: 38] . وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يشاور أصحابه إشعارًا لهم بأهميتهم في إتخاذ القرارات، فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159] ، وليست الشورى كنظام قاصر على المستوى السياسي أو مستوى الدولة، لكنه يمتد ليطبق داخل كل الجماعات الاجتماعية Social Groups على اختلاف مستوياتها وليست الجماعة الأسرية استثناءً من هذه القاعدة. وقد جاء ذلك صريحاً في القرآن الكريم في مجال الحق في إبداء الرأي بشأن رضاع الأبناء الأطفال وفطامهم، فليس من حق الرجل منفردًا أو المرأة منفردة حق الاستئثار باتخاذ القرار دون الرجوع للطرف الآخر، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] ، وقد وضع القرآن الكريم هذا المبدأ ليطبق في كل أمر يحتاج إلى تفاهم وتشاور داخل الحياة الأسرية. وقد أثبتت دراسات ديناميات الجماعة Group Dynamics أن درجة رضا عضو الجماعة وصحته النفسية وإنتاجيته تتناسب طرديًّا مع شعوره بالمشاركة في اتخاذ القرارات داخل الجماعة، وقد أقر الإسلام هذا المبدأ منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. وعلى هذا فالتسلط والاستبداد بالرأي من جانب الزوج أمر مرفوض في الإسلام يتنافى مع قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُن} [البقرة: 187] ، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . هـ- توصي التعاليم الإسلامية بحسن المعاشرة بين الزوجين، ووصايا الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الصدد منها: "استوصوا

بالنساء خيرًا". ومنها قوله عليه السلام: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها أسرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في ماله وعرضه". وقال عليه السلام: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم"، وقال: "لا يفرك مؤمن مؤمنة -لا يبغضها- إن كره منها خلقًارضي منها غيره" 6، ولا يقتصر حسن العشرة على الماديات كالطعام والسكن والملبس والمشرب، ولا على مجرد تلبية الزوجة دعوة زوجها إذا دعاها، لكنه أعمق من ذلك حيث يتمثل في تلك العلاقة النفسية العميقة التي عبر عنها القرآن الكريم بمصطلحات السكن والمودة والرحمة واللباس والميثاق الغليظ.

نظام الأدوار والمراكز الاجتماعية داخل إطار العلاقات الأسرية

نظام الأدوار والمراكز الاجتماعية داخل إطار العلاقات الأسرية مدخل ... نظام الأدوار والمراكز الاجتماعية داخل إطار العلاقات الأسرية: هناك مجموعة من الحقوق للزوجة هي واجبات الزوج، وهذا هو الدور الاجتماعي Social Role للزوج، فالدور عند جونسون7 Johnson هو مجموعة الواجبات، أما المركز Status فهو مجموعة الحقوق. وهناك واجبات على الزوجة هي حقوق الزوج. وهناك حقوق وواجبات للأبناء وسأوجز كل منها فيما يلي:

حقوق الزوجة على الزوج

أولًا: حقوق الزوجة على الزوج: أ- الإنفاق باعتدال: ومن حق الزوجة على زوجها أن ينفق عليها من غير تقتير ولا تبذير، فالتقتير يسيء إليها وينفرها، وقد يصرفها عنه ويجعلها تمد عينيها إلى زهرة الدنيا عند غيره، والتبذير يطغيها ويرديها، ويجعلها توغل في شهواتها وتندفع وراء أهوائها. قال معاوية القشيري رضي الله عنه: يارسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال عليه السلام: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا يضرب

الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" 8 حديث حسن رواه أبو داود. ب- حسن المعاملة والاحتمال: تطبيقًا لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "واستوصوا بالنساء خيرًا"، وهذا يعني مداراة النساء وحسن سياستهن والصبر على عوجهن ذلك أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على أسباب معاشه وتحصين نفسه وحفظ ذريته. ولنا في رسول الله أسوة حسنة في حسن تعامله مع زوجاته. ج- الملاطفة والمداعبة في اعتدال: لما لذلك من تطييب قلب النساء، وقد كان عليه الصلاة والسلام يمزح مع نسائه ويتنزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخلاق، قالت عائشة رضي الله عنها: سابقني رسول الله صلي الله عليه وسلم فسبقته، فلما حملت اللحم سابقني فسبقني، وقال: "هذه بتلك" وفي الحديث: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" وقال عليه السلام: "كل شيء ليس من ذكر الله لهوٌ ولعب إلا أن يكون أربعة، ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الفرضين، وتعليم الرجل السباحة". لكن يجب أن يكون الرجل معتدلًا في مداعبة زوجته فلا يسرف في مداعبتها إلى حد يفسدها أو يضيع كرامته وهيبته عندها، ويجب أن تكون هناك مسافة اجتماعية Social Distance محفوظة بينهما باستمرار، تلك المسافة التي تجعل الرجل قوامًا على المرأة يوجهها للخير ويأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر ويوقفها عند حدها عند مخالفة الشرع. وإذا لم تجد مخالفة الشرع. وإذا لم تجدِ المْرَأة من الرجل حزماً، قد تنحرف عن سوي الطريق وقد تحمله هو ما لا يطيق، وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ

وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34] . وكما يطلب من الرجل عدم الإفراط في المداعبة وتقريب زوجته منه بشكل مسرف، فإنه يطالب كذلك بعدم الإسراف في التزمُّت والقسوة فخير الأمور الوسط. د- الغيرة: ويجب أن يكون الزوج غيوراً على زوجته فلا يمكنها من مقارفة ما يمس شرفها أو عرضها أو كرامتها أو يغض من مروءته أو مروءتها أو منزلته الاجتماعية على أية صورة من الصور. وإذا كان على الرجل أن يوجه زوجته للخير ويمنعها من عمل الشر أو ما ينهى عنه الإسلام، فإنه مطالب أن يفعل الخير وينتهي عن فعل المنكرات. وقال عليه السلام: "إن الله يغار، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله". قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فقال عليه الصلاة والسلام: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير منى، ومن أجل غيرة الله، حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين"، ويوجهنا الإسلام الحنيف إلى عدم المغالاة في الغيرة في غير ريبة، وعدم إساءة الظن أو التعنت مما يفسد الحياة الزوجية دون داع.

حقوق الزوج على زوجته

ثانيًا: حقوق الزوج على زوجته: أ- الطاعة في غير معصية: والمقصود هنا الزوج طالما لم يأمر بمعصية الله، وعليها أن تجتهد في إرضائه وسروره {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت آمراً أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". رواه الترمذي وقال: حديث حسن

صحيح9. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة" رواه الترمذي وقال حديث حسن. ب- لا تدخل أحدًا بيته إلا بإذنه: عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه" متفق عليه10. ج- المحافظة على مال زوجها: على الزوجة الحفاظ على مال زوجها بحيث لا ترهقه بما لا يستطيع مما يضطره للاستدانة، كذلك يجب ألا تتصرف في ماله إلا بإذنه، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يجوز لامرأة عطية إلا أن يأذن زوجها" وقال عليه السلام: "لا يحل لها أن تطعم من بيته إلا بإذنه إلا الرطب من الطعام الذي يخاف فساده فإن أطعمت عن رضاه كان لها مثل أجره، وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر" 11. د- عدم الخروج من منزل زوجها إلا لضرورة وبإذنه: من حق الرجل على زوجته أن تلزم بيتها -لعملها المنزلي- إدارة المنزل وتربية الأطفال وتهيئة جو الراحة لزوجها وأبنائها -وهذا العمل المنزلي لا يقل أهمية عن عمل الرجل في الخارج. كذلك عليها ألا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، وحينئذ تخرج محتشمة غير متبرجة- قال عليه السلام: "أيَّما امرأة خرجتْ من بيتها بغير إذن زوجها كانت في سخط الله تعالى حتى ترجع إلى بيتها أو يرضى عنها زوجها" ويجب على المرأة أن تعنى بصلاح شأنها وتدبير بيتها وطاعة ربها، قانعة من زوجها بما رزقه الله وتقدم حقه على حقها، وحق سائر أقاربها حتى يرضى عنها فيرضى عنها الله تعالى. وعلى المرأة العناية بحسن تنشئة أبنائها وغرس العقيدة الإسلامية السليمة في نفوسهم.

يضاف إلى هذا أن هناك مجموعة كبيرة من الحقوق والواجبات لكل من الزوج على زوجته، وللزوجة على زوجها. يقول تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] . وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". متفق عليه12. وعن عمرو بن الأحوص الجشمي -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حجة الوداع بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه وذكَّر ووعظ ثم قال: "ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك *، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا، ألا إن لكم على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا، فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

_ * أي غير الاستمتاع وحفظ الزوج في نفسها وماله وولدها.

حقوق الأولاد

ثالثًا: حقوق الأولاد: ينص الإسلام على مجموعة من الحقوق الثابتة للأبناء على الآباء، ولم يترك هذه الحقوق للالتزامات الأخلاقية أو لغرائز أو دوافع الحنو على الأبناء، وإنما ينظمها في شكل أحكام ملزمة توضح حقوق الأبناء منذ ولادتهم سواء فيما يتعلق بنسبهم أو تربيتهم وتنشئتهم اجتماعيًّا أو الإشراف وحماية أموالهم. أ- حق النسب: يثبت نسب الأبناء لأبيهم من خلال عدة أساليب وهي: -الزواج - الإقرار

- البينة. وبالنسبة للأسلوب الأول وهو الزواج، فهو الطريق الطبيعي لثبوت النسب، فكل مولود يأتي بعد تسعة أشهر من بداية الزواج، فهو ابن للزوج لينسب إليه دون حاجة لإقامة بينة فالزواج كان لإثبات النسب. ومن حق الرجل الإقرار ببنوة طفل، ليس من زوجته المعروفة، ذلك أنه ربما تزوج سرًّا، لكن لا يجوز الاعتراف بولد الزنا. كذلك مكن للنسب أن يثبت عن طريق البينة، كما في حالة ادعاء المرأة أن ولدها هو ابن رجل معين تزوج منها ثم أنكر الطفل. هنا إذا استطاعت المرأة أن تقيم البينة على دعواها عن طريق الإشهاد يثبت النسب. ب- حق الرضاع: من واجب الأم إرضاع وليدها، فهو حق للطفل على الأم، والأم التي لا تقوم بهذا الواجب الديني -مع قدرتها- تعد آثمة عند الله. هذا الواجب لا يمكن أن تجبر عليه الأم قانونًا، فهو واجب ديني وهو واجب أكثر إلزامًا من الواجب القانوني لأنه يصدر عن التزام داخلي. وإذا رفضت الأم إرضاع طفلها فلا تجبر على ذلك قضاءً، إلا إذا رفض الطفل الرضاع من غيرها، هنا تجبر عليه، فإذا كانت مطلقة، فعلى الأب أن يدفع لمطلقته أجرًا نظير إرضاع الطفل. قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] . ج- حق الحضانة: والحضانة هي من حق الصغير على الأبوين، ويقصد بالحضانة التربية والاهتمام بجميع أمور الصغير خلال سن معينة، ومن

الواجب أن يعيش الطفل عيشة طبيعية بين والديه، لكن إذا انفصلا يجب ألا يبعد عن أمه التي حملته وأرضعته لأنها أقدر على تربيته والإشراف عليه. وقد جاءت امرأة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- تشكو زوجها وقالت له: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني. فقال لها عليه الصلاة والسلام: "أنت أحق به ما لم تتزوجي". والحضانة من حق الأم ما لم يثبت عدم قدرتها على القيام بواجبات الحضانة سواء بسبب زواجها أو بسبب سوء أخلاقها، الأمر الذي يمكن أن يضر الطفل. د- حق الأبناء النفقة والرعاية: يجب على الآباء الإنفاق على الأبناء ورعايتهم قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] . وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك" رواه مسلم13.

نظام المحرمات من النساء في الإسلام

نظام المحرمات من النساء في الإسلام مدخل ... نظام المحرمات من النساء في الإسلام: يشترط في الزواج -حتى يكون صحيحًا- ألا تكون محرمة عليه. ويحرم الإسلام على الرجل الزواج من بعض النساء اللائي يرتبطن به بروابط: أ- القربى.

ب- المصاهرة. ج- الرضاع. لحكمة يعلمها سبحانه وحتى تبقى صلته وعلاقاته بهن بعيدة عن المشكلات والخلافات وهن أقرب الناس إليه. ويتضح نظام التحريم الإسلامي من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء: 23] . ويتضح من هذه الآية الكريمة أن هناك ثلاثة أنواع من المحرمات:

المحرمات بسبب القرابة

أولاً: المحرمات بسبب القرابة وهن: أ- الأصول وإن علون: كالأم والجدة ... ب- الفروع وإن نزلن: كالبنت والحفيدة وابنة الحفيدة ... ج- فروع الأبوين: كالأخوات وبناتهن وإن نزلن ... د- فروع الجدين: كالعمات والخالات وهنا لا ينسحب التحريم على فروعهن وإنما يقتصر عليهن فقط. ويمكن أن نفهم حكمة التشريع الإسلامي الحنيف من تحريم هؤلاء النساء، فهن يرتبطن بعلاقة هي، أوثق علاقة بالإنسان في حياته الدنيا -فهن أصوله وفروعه وفروع أبويه وأجداده. ويمكن أن يؤدي الزواج بإحداهن إلى خلافات ومشكلات- كالتي تحدث بين الزوج والزوجة، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور علاقات الصراع وقطع الأرحام والإساءة إلى الأهل وإثارة البغضاء بين الأقارب ... إلخ.

المحرمات بسبب المصاهرة

ثانيًا: المحرمات بسبب المصاهرة وهن: أ- زوجة الأصل: أي زوجات الأب والجد.. ب- زوجات الفروع، مثل زوجات الابن والحفيد من الابن أو البنت ... ج- أصل الزوجة، ويشمل التحريم هنا أم الزوجة الحماة وأم أمها وأم أبيها. د- فروع الزوجة، ويشمل التحريم هنا بنات الزوجة، ويشترط للتحريم أن يتم الزواج بالدخول لا بمجرد العقد، فالعقد وحده بالنسبة للأم لا يحرم البنت. وحكمة التشريع الإسلامي الحنيف من تحريم هؤلاء النساء هو الحرص على استمرار العلاقات الوثيقة بالأصهار، وحتى لا يزرع الحقد والكراهية بين البنت وأمها مثلًا، إذا تزوجا من شخص واحد. ولهذا حرم الإسلام على الرجل أن يتزوج ممن يرتبطون بزوجته برباط قرابة وثيق ونفس الشيء بالنسبة للمرأة، حتى لا يساء للزوجة أو للزوج، حتى تظل علاقة الأصهار بمعزل عن الصراع والكراهية والخلاف.

المحرمات بسبب الرضاعة

ثالثاً: المحرمات بسبب الرضاعة: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ويشترط في الرضاع كي يكون محرمًا أن يتم خلال السنتين الأوليين من حياة الطفل، وأن تكون الرضعات مشبعة. ويدخل تحت هذا القسم كل من ارتبط بالشخص عن طريق الرضاعة، ولعل الحكمة من التحريم هنا أن الأخ في الرضاعة مثلاً يكون قد بنى جسمه من لبن الأم -وهو الغذاء الأساسي في فترة الطفولة المبكرة، وبالتالي يعد بمثابة الأخ الشقيق للاشتراك في الغذاء من نفس الأم المصدر.

نظام التحريم على سبيل التأقيت

نظام التحريم على سبيل التأقيت: هذه الأقسام سالفة الذكر هي من قبيل المحرمات على سبيل التأييد وبصفة نهائية، ولكن هناك مجموعة من الأقسام يحرم على الإنسان الزواج منهن بصفة مؤقتة لأسباب معينة، ويسمح له بالزواج منهن إذا زالت هذه الأسباب وهن: أ- زوجة غيره ومعتدته حتى لا تختلط الأنساب. ب- الجمع بين محرمين: كالجمع في الزواج بين الزوجة وأختها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها أو عمتها أو خالتها.. ج- الجمع بين أكثر من أربعة زوجات. د- المشركة أو الملحدة غير الكتابية التي لا تدين بدين سماوي أما المرأة التي تدين بالمسيحية أو اليهودية فهي تعبد الله وبالتالي يجوز للمسلم الزواج بها. هـ- المطلقة ثلاثاً، يحرم زواجها من مطلقها ما لم تطلق من زوج آخر بعد زواج شرعي حقيقي بنية التأبيد. وهذه الأقسام يحرم على الرجل الزواج منهن على سبيل التأقيت، ذلك لأنه يستطيع الزواج بإحداهن إذا زال سبب التحريم.

النظام الإسلامي في مواجهة الخلافات والمشكلات الأسرية

النظام الإسلامي في مواجهة الخلافات والمشكلات الأسرية: أ- يحرص الإسلام على بناء الأسرة على أسس متينة تضمن لها البقاء والاستمرار والتماسك، غير أن الأمر لا يخلو من إمكانية حدوث خلافات وصراعات ومشكلات بين الزوج وزوجته. هنا يتدخل الإسلام بنظام فريد للمواجهة والعلاج بعد أن اتخذ مجموعة من الإجراءات الوقائية. فالإسلام يتخذ إجراءات وقائية Protective Procedures، تحول دون وقوع المشكلات أصلاً، لكن الله يعلم طباع البشر لأنه

سبحانه خالقها، ولهذا وضع مجموعة من الإجراءات الإرشادية Exten- Sion Procedures لإرشاد أعضاء الجماعة لمواجهة المشكلات قبل وعند ظهورها، ثم بعد هذا يتخذ مجموعة من الإجراءات العلاجية Curative Procedures. ب- ويعلم سبحانه أن القلوب معرضة للتحول والاتجاهات تتغير، فقد يحل الشقاق محل التفاهم لأي سبب من الأسباب. وهنا يبدأ القرآن بالتحذير من الانقياد للنزعات الطارئة التي يمكن أن توجد الشقاق والخلاف. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] . وهنا يأمرنا الله سبحانه بعدم التضييق على الزوجة والتشدد في معاملتها بدون سبب معقول، وهو هنا يرشدنا إلى أن نزعات الكراهية قد تكون مؤقتة وطارئة، وقد يكره الإنسان شيئاً ولا يدري أن الله يجعل فيه خيراً كثيراً. ج- وإذا كان القرآن الكريم يوجه النصح للرجال فإنه يرشد النساء إلى ضرورة التزام الصلاح والقنوت وطاعة الله فيما أمر بشأن حقوق الزوج وصيانتها وحفظها، وإطاعة أمر الزوج والاحتفاظ بالأسرار الزوجية والمنزلية، وهذا النوع من الزوجات ليس للأزواج عليهن سلطان {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] ، أما اللائي يخرجن عن حدودهن ولا يطعن الله ويخشى منهن النشوز فهنا يبدأ العلاج الاجتماعي والنفسي تجنباً لإمكانية تفكك الأسرة وانحلالها. وهناك خطوات قرآنية للعلاج تتمثل في المستويات التالية: 1- النصح والإرشاد عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة. 2- إذا لم يجد هذا العلاج الأول، يقوم الزوج بهجر زوجته في

المضجع، وفي هذا إيلام نفسي عنيف للزوجه يدركه النساء. 3- فإذا لم يجد الهجر، يقوم الزوج بتأديبها بالإيلام الجسمي المادي عن طريق الضرب، وهذا هو آخر وسيلة يملكها الرجل لعلاج زوجته التي يخاف نشوزها وهو عقاب لا يلجأ إليه الزوج إلا عند الضرورة. هذا العلاج القرآني الكريم يصلح لكل العصور ولا يتعارض مع كرامة المرأة، ويتفق مع الطبيعة النفسية للمرأة، يتفق في تدرجه مع درجة النشوز والانحراف، فإذا أجدى النصح اللفظي انتهى الأمر، فإذا لم يجد لجأ الزوج إلى الأسلوب الثاني، وهو لا يلجأ للأسلوب الثالث -الإيلام الجسمي- إلا عندما تفشل الوسائل السابقة. وحتى في عملية الضرب وضع الإسلام الحنيف لها شروطاً يجعل منها وسيلة للتأديب والعقاب وليس للانتقام أو الإيذاء العنيف. هذا العلاج الذاتي الداخلي أجدى وأكرم من اللجوء -في كل صغيرة وكبيرة- إلى المحاكم وإذاعة الأسرار الأسرية مما يعقد المشكلة ويجعلها تستعصي على العلاج. يقول تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء: 34] . د- يرشدنا القرآن إلى الأسلوب الأمثل في مواجهة إمكانية نشوز الزوجة، فإنه قد أرشد الزوجات إلى أمثل الأساليب لعلاج إمكانية نشوز الزوج. قال تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 128] . فالزوجة التي تلاحظ إعراض زوجها عنها أو تخاف نشوزه، عليها أن تعمل على إرضائه واستمالته إليها من خلال وسائل الترضية

المشروعة التي لا تمس ديناً ولا خلقاً. ومن خلال الكلام الطيب والابتسامة المشرقة وإرضاء مطالبه المشروعة. وما يهمنا هنا أن مواجهة الخلافات هنا تتم داخل الجماعة الداخلية In Group وهي جماعة الأسرة الصغيرة ذاتها طالما أن المشكلة لم تتجاوز مجرد الخوف من النشوز، وملاحظة الإعراض، فالزوجان هما المكلفان بحل المشكلات دون اللجوء للتحكيم الخارجي في أي شكل من الأشكال. هـ- في حالة تفاقم الخلاف والصراع بين الزوجين، ولم يستطيعا بجهودهما الذاتية حل المشكلات الداخلية. يوجهنا الإسلام إلى ضبط النفس حتى لا يسرف أحد الطرفين في إيذاء الطرف الآخر -حفاظاً على حق العشرة السابقة- لعل الله يجعل بعد عسر يسراً. وهنا يبدأ دور الجماعة الإسلامية- متمثلة أولاً في أسرة الزوج والزوجة- فمن واجب المسلمين إصلاح ذات بينهم يقول تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114] . ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . وحفاظاً على تماسك الأسرة وهي الوحدة الأساسية للحياة الاجتماعية، وحماية لها من التفكك وما يترتب على التفكك كمشكلة من مشكلات مترتبة عليها كتشرد الأطفال وضياع مستقبلهم، أو الانحرافات الجنسية وتفكك الحياة والعلاقات بين الأسر، وإحلال علاقات الصراع بدلاً من التآخي والتعاون ... إلخ، فإنه يجب على القادرين من المسلمين محاولة إصلاح ذات بين الزوجين من أجل إزالة أسباب الخلاف وإعادة العلاقات بينهما إلى ما كانت عليه. وهذه هي خطوة التحكيم. حرصاً من الإسلام على عدم إذاعة أسرار الأسرة ونشر أسباب الخلافات بين الناس، فإنه استوجب من الأقارب -أقارب الزوجة وأقارب الزوج- في شكل مجلس

عائلي صغير -محاولة الإصلاح والقيام بعملية التحكيم بين الزوجين- وهي إحدى العمليات الاجتماعية Social Processes14 في علم الاجتماع الحديث- يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء: 35] . ومن عظمة القرآن أنه جعل الخطاب هنا للمؤمنين جميعاً -لأن المجتمع الإسلامي هو مجتمع الحب والحرص على مصالح الآخرين والتعاون- ولما كان أمر التحكيم لا يمكن أن يقوم به جميع المسلمين، فإن بعض المفسرين ذهبَ إلى أنه موجه إلى من يمثل الأمة أو الحاكم -ومساعديه- ذلك أن الحاكم المسلم مكلف بملاحظة أحوال الناس والعناية بها ومحاولة إصلاحها. وذكر آخرون أنه خطاب عام يدخل فيه الزوجان وأقاربهما فإذا استطاع الأقارب القيام بمهمة الإصلاح كان بها وإلا لكان الواجب إبلاغ الأمر إلى الحاكم15. وهنا المسئولية شركة بين جماعة المسلمين والحاكم، فالعضو في المجتمع الإسلامي مكلف بأن يلعب دورًا إيجابيًّا بناءً في حياة بقية الأعضاء، فهو إيجابي مشارك، وهذه هي ما يُطلق عليها المشتغلون بقضايا التنمية البشرية "المواطنة المشاركة" Participant Citizinship ولكن بالمفهوم الإسلامي البناء الذي ينبثق من عقيدة محددة. والله من وراء القصد دائمًا في عملية الإصلاح {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، وهذا توجيه إلهي كريم بضرورة إخلاص النية وتحري العدل والصبر في التحكيم من أجل الإصلاح، ويشير الله سبحانه وتعالى في نهاية الآية أن الله كان عليمًا خبيرًا فهو يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، وفي هذا حفز ودفع للمحكمين إلى إخلاص النية والصدق في الإصلاح، والحفاظ على تماسك الأسرة وتجنب الانفصال. وهذه هي الوسيلة الرابعة في محاولات الإصلاح -وهي محاولة من الخارج بعد أن فشلت المحاولات الذاتية.

النظام الإسلامي لإنهاء العلاقات الزوجية مع محاولات العلاج

النظام الإسلامي لإنهاء العلاقات الزوجية مع محاولات العلاج: أ- فإذا فشلت كل المحاولات الذاتية الداخلية، كذلك فشلت محاولة التحكيم الصادق ورفض الزوج أن يطلق سراح زوجته وأجبرها على البقاء معه وهى كارهة للمقام معه -دون إيذاء لها أو إضرار بها- فقد شرع الإسلام للزوجة أن تفتدي نفسها بمالها تقدم بعضه للزوج وهو ما يطلق عليه "الخلع" وروي أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت له: يا رسول الله: ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكنى أكره الكفر في الإسلام -لا أطيقه بغضًا- فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمره رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزيد. وقال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . وشرط الخلع أن يكون بقيام المرأة بافتداء نفسها بإرادتها بدفع جزء من مالها للزوج بشرط عدم ظلمها أو إيذائها أو إجبارها على دفع هذا المال، أما إن قام الزوج بالاعتداء على زوجته وأجبرها على أن تعطيه من مالها كرها ثم طلقها كان الحكم فيما تختار، فالطلاق ينفذ تخليصًا للزوجة من ظلم الزوج، وعليه رد المال الذي أكرهها على دفعه، وهذا الأمر إذن لا يقع في دائرة الخلع الشرعي. ب- وهناك التطبيق للضرر. فمن المحتمل ألا يكون لدى المرأة ما تفتدي به نفسها، وقد يكون لديها ولكن الزوج لم يقبل واستمر ممسكًا لها مع إيذائها وإلحاق الضرر بها، هنا يبيح الإسلام للمرأة أن تلجأ للقضاء الإسلامي مع إثبات أوجه الضرر والإيذاء الذي يوقعه بها زوجها، ويمكن للقاضي أن يحكم بتطليقها وإطلاق سراحها.

ج- وإذا كان الطلاق أبغض الحلال عند الله فإن الإسلام شرعه كعلاج عندما تستعصي الحياة الزوجية، ولم يشرع الإسلام الطلاق من أول وهلة، وإنما شرعه عندما تستعصي كل محاولات الإصلاح. وقد منح الإسلام الرجل حق الطلاق -دون مال تفتدي به الزوجة نفسها، ودون الرجوع للقاضي. ولكنه لم يجعل الطلاق كلمة يلقيها الزوج على الزوجة فيحرمان بعضهما على بعض تحريمًا أبديًّا لا رجعة فيه، لكنه جعله فترة يمكن للزوجين مراجعة نفسيهما والتبصر في أمورهما وما بينهما من ارتباطات -أبناء، وتاريخ، ومستقبل- فشرعه مفرقًا مرة بعد أخرى دفعات متعددة، فخلال الطلقة الأولى والثانية يدعو الإسلام الزوج بالرجوع إلى زوجته -من خلال المراجعة- دون تجديد عقد ما دامت في عدتها، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] . د- وَضَعَ الإسلام للطلاق الصحيح مجموعة من القيود بالنظر إلى لفظه وبالنظر إلى أهلية الزوج، وبالنظر إلى حالة الزوجة. فالطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا واحدة، وجعل الإسلام الجمع لغوًا لا يقع به شيء. كذلك يجب ألا يعلق الطلاق على شيء بفعل منه أو منها كأن يقول: "إن فعلت كذا فأنت طالق"، ولا يقع الطلاق بالأمور الشائعة، كأن يقول الشخص: عليَّ الطلاق أن هذه السلعة بكذا" كذلك رسم الإسلام أن يكون الطلاق في طهر لم يمسها فيه ... إلخ16. هـ- يقول تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . فبعد الطلقة الأولى والطلقة الثانية يحل لكل من

الزوجين مراجعة أنفسهما للزوج ردّ زوجته، أما إذا وقع الطلاق الثالث سقط هذا الحق إلا بشرط بالغ الصعوبة من شأنه أن يجعل الزوج يعيد النظر عدة مرات في الإقدام عليه، هذا الشرط عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] . فحتَّى فِي هذه الحالة ومع هذا الشرط الصعب، وحتى آخر مرحلة يحافظ الإسلام على إعادة التماسك والتكامل الأسري. و من كل هذا يتضح أن الطلاق الأول والثاني في الإسلام علاج لحالات مستعصية، ويحاول من خلالها الإسلام تقديم علاج قاسٍ عندما تفشل كل وسائل العلاج الأخرى. والطلاق أمر واقع حتى في المجتمعات والشرائع التي تحرمه، وهناك الانفصال الروحي والاجتماعي مع بقاء الارتباطات القانونية أو الجسدية، وهذه ظاهرة مرضية خطيرة تهدد الأبناء والأزواج والمجتمع، وتؤدي إلى انتشار السلوك الانحرافي كالزنا والبغاء، وجناح الأحداث وتفكك العلاقات الاجتماعية. ولعل هذا هو ما جعل بعض المجتمعات الغربية تعيد النظر في قضية الطلاق والأخذ ببعض جوانب الحل الإسلامي، ذلك الحل الذي يتسم بالمواجهة الواقعة والجذرية والصحية للمشكلات الاجتماعية بشكل يحفظ على كل من الرجل والمرأة كرامتهما، وعلى المجتمع تكامله، ويحول دون ظهور الانحرافات، وإن ظهرت يواجهها مواجهة شمولية جذرية.

الإسلام وقضية تعدد الزوجات

الإسلام وقضية تعدد الزوجات: لقد حاول بعض المستشرقين وبعض الكتاب تشويه صورة النظام الأسري الإسلامي بالكثير من الدعاوي الباطلة حول الطلاق وتعدد

الزوجات، وقد عرضنا الأسلوب الإسلامي في إنهاء العلاقات الزوجية ومقتضياته وكيف أنه حل صحي وواقعي يتفق مع فطرة الإنسان، وهو حل لجَأَتْ إليه الدول غير الإسلامية عندما لم تجد حلًّا غيره. أما عن قضية تعدد الزوجات فقد أباحها الإسلام كحق للرجل، لحكمة تقتضي استخدام هذا الحق مع وضع شروط يجب تحقيقها. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3] . وجاء في نفس السورة قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] . والواقع أن الإسلام لم يستحدث نظام الزواج ولا نظام التعدد وإنما شرع ما يحقق الوسطية وتجنب الانحراف والميل وما يتفق مع الطبيعة الإنسانية في فطرتها السليمة. فقد كان هناك زواج وهناك تعدد وأباحته كثير من الشرائع السماوية كما يحدثنا التاريخ عن سيدنا إبراهيم ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء والمرسلين. وقد كان التعدد شائعًا في الجاهلية إلى غير ما عدد. وكان التعدد شائعًا في أوروبا حتى عهد شرلمان الذي كان متزوجًا بأكثر من واحدة، ثم أشار رجال الدين في ذلك الوقت على المتزوجين بأكثر من واحدة أن يخصصوا منهن واحدة كزوجة ويطلق على غيرها اسم "خدن". وهذا الاسم الأخير هو ما يطلق عليه الآن الخليلة أو الصديقة أو المعشوقة ... وهي نظم تعرفها بعض الدول الغربية، ويحق للشخص أن يمارس معهن الجنس، وهي صورة مسرفة من الانحراف عن الفطرة السليمة. فالتعدد عند مثل هذه الدول ممنوعٌ من خلال الارتباط الشريف، مباحٌ من خلال العلاقات غير الشرعية. وهذا يعني تحريم الممارسة المشروعة للجنس وإباحتها من خلال الوسائل غير المشروعة عن طريق الاختلاط المحرم تحت زعم الحريات الشخصية.

وقد تعرض موضوع تعدد الزوجات لهجوم زائف على الإسلام، وقد كانت نقطة الانطلاق في الهجوم الفهم الخاطئ للإسلام أو محاولة التشوية المتعمد للإسلام، مع إعطاء أمثلة من الممارسات السيئة لحق الرجال في التعدد، تلك الممارسات التي قد تبتعد عن الصورة الإسلامية الصحيحة التي استهدفتها الشريعة. والواقع أن قضية التعدد كثيرًا ما تكون في صالح المرأة وتكريمًا لها ولأولادها. فإذا ما كان الزوج يرى في زواجه بواحدة إشباعًا لحاجاته الجسمية وحاجاته النفسية وحاجاته إلى الولد والمودة والرحمة والسكن قضي الأمر، لكن في بعض الحالات تعجز الزوجة الأولى عن الوفاء بكل حاجات الزوج -سواء الجسمية "الغريزية" أو النفسية "لا يجد معها إشباعاته النفسية"- أو حاجاته إلى الولد والذرية الصالحة إما بسبب المرض أو العجز أو سوء الخلق والمعاملة ... إلخ. هنا يكون التعدد يقينًا لصالح المرأة -الزوجة الأولى- حيث يبقي عليها مع البحث عن إشباع حاجاته من خلال الزواج الثاني. يضاف إلى هذا الحاجة النفسية لدى الرجل للتعدد وهنا بدلًا من أن يتصل الرجل - إشباعًا لحاجاته النفسية والجسمية- بالنساء بشكل غير مشروع أباح له الإسلام حق التزوج ثانية ليعصم نفسه من الانحراف والزلل. والتعدد ظاهرة شائعة في العالم كله- حتى في البلاد التي تحرمه قانونًا- والفرق أن بعض الرجال هناك يمارسونه فعلًا بشكل غير مشروع، أما الإسلام فإنه يبيحه بشكل مشروع وبشروط معينة بكل ما يترتب عليه من حقوق مشروعة للزوجة والأبناء- مع الاحتفاظ للزوجة الأولى بكرامتها وحقوقها كاملة- وقيل في تفسير التعدد: إنه يتفق مع طبيعة القدرة الجنسية عند الرجل والمرأة، فقدرة الرجل متصلة، أما المرأة فتتعرض لفترات يحرم ممارسة الجنس معها، وتنعدم خلالها قابليتها. كفترات الحيض والحمل والوضع والنفاس، هذا إلى جانب أن قابليتها للممارسة تقل أو تنعدم بعد بلوغ سن معينة. وهناك من الرجال ما لا يحتمل الانقطاع- هنا وحتى يحمي الرجل نفسه من الانحراف لا بأس من استخدام حقه في التعدد- يضاف إلى هذا- أي حق الرجل-

فقد يمر المجتمع بظروف تختل فيها نسبة الإناث إلى الرجال بسبب ما يتعرض له الرجال من ظروف شاقة في العمل ومن إبادة في الحروب، هنا بدلًا من لجوء النساء -اللائي لا يجدن زواجًا- للانحراف يكون العلاج في التعدد. وإذا كان التعدد ظاهرة تاريخية ومعاصرة لم يخل منها مجتمع -سواء بشكل مشروع أو غير مشروع- فإن الإسلام وضع لها ضوابط وقواعد تجعل منه علاجًا لمشكلة أو وقاية من انحراف. هذه الضوابط تتمثل في أمرين أساسيين هما: أ- وضع حدٍ أعلى للتعدد يكفل حاجة الرجل بشكل يتخطى الفترات التي تنعدم فيها قابلية المرأة. ب- أوجبت على الرجل أن يعدل في مطالب الحياة بين هذه الزوجات تحقيقًا للهدوء والاطمئنان وتجنبًا للظلم والميل والانحراف: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 129] . وليس معنى هذا تحريم التعدد لكن إباحته بشرط تحقيق العدالة بين الزوجات بمعنى ألا يميل الزوج إلى إحداهن كل الميل بحيث يترك الثانية كالمعلقة. وفي ظل هذا المبدأ عدد النبي -صلي الله عليه وسلم- زوجاته وعدد الأصحاب والتابعون زوجاتهم17. وتتضح عظمة وواقعية الإسلام في أن كثيرًا من المجتمعات تحاول مراجعة تشريعاتها اليوم للاستفادة بالحلول الإسلامية، ذلك لأن منع التعدد أدى إلى الكثير من الظواهر الانحرافية -في المجتمعات الغربية- منها البغاء وارتفاع نسبة اللقطاء وتفكك العلاقات، وانتشار الأمراض النفسية والجنسية. مثال هذا أنه في مؤتمر عقد في فرنسا سنة 1901- لمواجهة انتشار الفسق -وجد أن عدد اللقطاء المودعين في ملاجئ في إحدى المقاطعات "السين" وحدها والذين يتلقون معاشهم على

نفقة المقاطعة بلغ 50.000 لقيط، علما أن اللقطاء من الإناث يمارسون الرذيلة "البغاء"، ومن الذكور -يمارسون الجنسية المثلية. وقد دعا بعض المصلحين الغربيين -من غير المسلمين- إلى ضرورة الأخذ بفكرة إباحة التعدد مثل "توماس" للقضاء على العديد من الظواهر الانحرافية السائدة في بريطانيا -كالبغاء وكثرة اللقطاء والأمراض الجنسية- يقول تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] . ويقول تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] . فالإسلام لا ينهى عن التعدد لكنه ينهى عن السفاح والمخادنة والبغاء. وإذا كان بعض الرجال يسيئون استخدام هذا الحق -لا يراعون في هذا حقًّا ولا خلقًا- فإن مثل هذا الاستهتار محرم في الإسلام. ومن حق ولاة الأمور التصدي لهذا الاستهتار.

مصادر الفصل الثالث

مصادر الفصل الثالث 1- محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة: دار الشروق، 1394-1974، صـ 159-163. 2- النبهان: مصدر سابق صـ 194. 3- محمود شلتوت: مصدر سابق صـ171. 4- المصدر السابق: 172. 5- الإمام المحدث محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 671هـ: رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، طبعة مصححة تحت إشراف لجنة من العلماء، بدون تاريخ صـ142. 6- محمود شلتوت: مصدر سابق صـ178. 7- h. johnson: sociology: A systematic introduction: Allied publishers, new delhi- 1970, PP.95-96. 8- أمين الخولي، عبد الله المشد، أحمد الحوفي، محمد عبد الرءوف بهنسي: الآداب الدينية والاجتماعية، التربية والتعليم سنة 1955 صـ181. 9- المصدرالسابق: صـ182، والحديث مذكور في رياض الصالحين صـ142. 10- المصدر السابق: رياض الصالحين صـ142. 11- أمين الخولي وآخرون: صـ183. 12- رياض الصالحين: صـ142. 13- المصدر السابق: صـ143. 14-A. lnKeles: what is sociology, Introduction to the discipline and profession. prentice hall. new jersy. 1964, pp. 20-31. وانظر أيضًا: نبيل السمالوطي: المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع، دار الشروق، جدة 1980. 15- محمود شلتوت: مصدر سابق، صـ187. 16- المصدر السابق، صـ193. 17- المصدر السابق، 202-203.

الفصل الرابع: النظام التربوي

الفصل الرابع: النظام التربوي مقدمة قدم الإسلام الحنيف بناءً تربويًّا متكاملًا للبشرية -يحقق لهم السعادة في الدنيا، والفوز بالجنة ورضوان الله في الآخرة- منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. ويتسم البناء التربوي الإسلامي بخاصية فريدة تميزه عن كافة النظريات الوضعية وهي أن مصدره كتاب الله وسنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4] ، وهذا المصدر الإلهي للبناء التربوي الإسلامي هو الذي يؤكد صدقه وثباته المطلق، وفائدته العظمى للإنسان في الدنيا والآخرة معًا. وينبثق النظام التربوي في الإسلام من النظام التفسيري والرؤية الصادقة للكون والحياة والمجتمع والتاريخ والإنسان، فالله هو الخالق وهو سبحانه المنظم ومبدع الإنسان وخالقه بنوازعه وجوهرة، ومنزل الشريعة المناسبة له والقادرة على تنظيم شئونه، وعلى تحقيق التوازن أو التعادلية المعجزة لحاجاته الجسدية المادية والروحية والعقلية*. وينطلق النظام الإسلامي في التربية من الفهم الصادق لحقيقة الإنسان والهدف من خلقه وأساليب تحقيق أهدافه ومصيره في الآخرة، وهي مقدمات لا بد منها حتى يستوي النظام التربوي غاية ووسيلة، ويحقق أهدافه. فقد خَلَقَ الله سبحانه وتعالى الإنسان ليكون خليفة له في الأرض،

_ * للمزيد من المعلومات حول هذه القضية ارجع إلى دراسات المؤلف بعنوان: الإسلام وقضايا علم النفس، المنهج الإسلامي في تفسير المجتمع، والكتابان صادران عن دار الشروق- جدة.

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] . والهدف الأساسي من هذا الخلق والاستخلاف كما يوضحه لنا القرآن الكريم هو: أولًا: توحيد الله سبحانه وعبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58] . ثانيًا: تعمير الكون والتعارف بين الناس شعوبًا وقبائل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] . ثالثاً: إقامة دين الله على الأرض وتتبع هدى الله سبحانه، الأمر الذي يتفق مع الفطرة السليمة التي خلق الله الناس عليها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] . وقال تعالى: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 22-25] ، والإنسان المفطور على التوحيد قد تغريه الحياة الدنيا لأنه ضعيف، فهو في حاجة مستمرة للاتصال بالله وتلقي هدايته، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] . واستوجب الدين القيم انطلاق المسلمين للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] . وقال سبحانه؛ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] . والمسلم مطالب بالمجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه ودحر الباطل وأهله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . رابعًا: العمل بما يتفق مع التكريم الإلهي للإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] . فلا يهبط الإنسان عن مستوى الإنسانية الذى استحق من أجله التكريم الإلهي، وعليه أن ينشط في عمارة الأرض بما توحيه الآية الكريمة مِنْ حمله -في البر والبحر- ورزقه من -الطيبات- فيستغل هذه الطاقة الممنوحة له في كل اتجاه في إطار تقوى الله ومبادئ الإسلام الحنيف. فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يدعو المؤمنين إلى إعمال عقلهم في كل اتجاه من الكون ومجتمعه وتاريخه من أجل فهم سنن الله في الكون والمجتمع والإنسان والتاريخ، ذلك لأن كل تفكير سليم سوف يسهم في إثبات عظمة الخالق سبحانه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] . ولقد زود الله سبحانه الإنسان بكل إمكانات الخلافة عن الله سبحانة وتلقي الهداية عنه قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] . وقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] . ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6-8] . من رحمة الله سبحانه بعباده أن وجههم منذ الميلاد إلى الفطرة السليمة، وأودع فيهم ميلًا طبيعيًّا للارتباط بتوحيده سبحانه، يقول عليه السلام: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه" صحيح البخاري -4/144. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا

أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . غير أن الإنسان -على الرغم من فطرته السليمة- ضعيف أمام المغريات {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] . وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر] . وقال سبحانه: {خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 4-8] . وقال سبحانه مخاطبًا الإنسان: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا، وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 6-12] . والواقع أن انحراف الإنسان عن الفطرة يؤدي إلى اختلال حياة الإنسان في الدنيا وإلى عذاب السعير في الآخرة، وهنا تبرز وظيفة التربية في الفكر الإسلامي الحنيف فهي المسئولة عن الحفاظ على الفطرة وتوجيه الإنسان للإيمان بالله وتوحيده فكرًا وسلوكًا، وهي المسئولة عن إعداد الإنسان الصالح، وهي مستمرة باستمرار وجود الإنسان على الأرض، وقد احتلت التربية والتعليم أهمية بالغة في الدين الإسلامي {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] . وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] . وقال عليه السلام: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقًا إلى الجنة" الترمذي 5/28. وقال عليه السلام: "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع" الترمذي 5/29. و "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ابن ماجه 1/81. وتحرص التربية الإسلامية على تحقيق التوازن والتكامل في شخصية

المسلم، وفي إشباع حاجاته وميوله، فلو كان الله سبحانه يريد للبشر أن يكونوا أرواحًا خالصة أو ملائكة مجردة عن الشهوة لفعل، ولو كان يريد لهم أن يكونوا كالأنعام يسعون وراء الشهوة الخالصة لفعل، لكنه سبحانه خلق الإنسان من قبضة طين ونفخة من روحه سبحانه، قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 6-9] . وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] . وعلى هذا فالروح والجسد في الإنسان متلازمان تتم بهما الحياة ولا يمكن إنكار أحدهما في سبيل الآخر، فلا يجوز للمؤمن بالكتاب أن يبخس الجسد حقًّا ليوفي حقوق الروح، ولا يجوز له أن يبخس الروح حقًّا ليوفي حقوق الجسد، ولا يحمد منه الإسراف في مرضاة هذا ولا مرضاة ذاك، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87-88] . ويقول تعالى في مجال استنكار تحريم الزينة والطيبات من الرزق التي أحلها الله لعباده: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32] . وما هو محرم حدده الله في نفس السورة وفي سور أخرى حيث قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . وأباح الله ممارسة الشهوات بالطرق التي أحلها الله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِن

أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] : ويقول سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] . وفي مقابل هذه الشهوات مَنَحَ اللَّهُ سبحانه الإنسان ضوابط للتحكم والتوجيه فيما يرضي الله {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] ، وقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 57] . وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلي بيوت أزواج النبي -صلي الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلي الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي -صلي الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ وأما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" البخاري 3/237. ونستطيع القول أن النظام التربوي الإسلامي يأخذ في الاعتبار مجموعة من الأبعاد وهي: أولًا: تحديد الصلة بين الخالق والبارئ المصور وبين الإنسان المخلوق. ثانيًا: تنظيم أمور الناس في الدنيا -علاقاتهم بعضهم ببعض سياسيًّا واقتصاديًّا وأسريًّا وتربويًّا ... إلخ- فالإنسان خلق ليعيش فترة ما في الحياة الدنيا وهو محتاج للشريعة التي تنظم له شئونه الدنيوية وعباداته معًا. ثالثًا: بيان كيفية تحقيق الهدف السامي من استخلاف الله للإنسان في الأرض، وأسلوب معيشته على الرقعة المكانية التي تشمل الكرة الأرضية

كلها بشكل يحقق الهدف الذي خلق من أجله الإنسان الذي كرمه الله على سائر خلقه. رابعًا: مراعاة البعد الزمني لعمر المتعلم فهو يبدأ في الدنيا ويمتد إلى الآخرة عبر مستقبل غير متناهٍ. ولعل فلسفة التربية الإسلامية برزت من أول سورة نزلت على الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهي، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . فالقراءة هنا والتعلم باسم الرب موجهة لما يرضيه، وهذه السمة ميزت التربية الإسلامية عن كل تربية سابقة أو لاحقه، فمخطط هذه التربية وواضع أصولها هو الخالق، وهو المعلم، وهو المربي الذي يعرف دقائق الإنسان وقدراته الإدراكية والاستيعابية، ويجعل هدف التربية تحقيق عبودية الإنسان لله، تلك العبودية التي تحقق له العزة على كافة المستويات الأرضية. وقد اتسمت كل فلسفات التربية الأخرى بأنها تتم في أطر ضيقة كالفردية أو العائلية أو القومية أو الإقليمية أو النزعة العرقية ... وهي غالبًا ما تكون موجَّهةً لخدمة أسرة أو دولة أو مجتمع محدد ... وهناك من فلسفات التربية ما أَدَّتْ إلى أبشع أنواع التجارب البشرية المريرة كأسلوب التربية في إسبرطة القديمة وأساليب التربية السوفيتية، وداخل الكميونات الصينية -والتي تحاول تجريد الإنسان من إنسانيته حيث تسعى إلى تجريده من الميول الدينية والأسرية والعاطفية، لتجعله عبدًا للأرض ينتج عليها ويدافع عنها ويحيا حياة جماعية حيوانية كاملة- ولا نستطيع أن نتناسى ما جره الأسلوب النازي في التنظيم والتربية في ألمانيا من دمار شملت آثاره العالم كله. أما التربية الإسلامية فإنها لا تتم لصالح طبقة محددة أو باسم قومية أو مجموعة عرقية Ethnic Group أو باسم مجتمع محدد أو دولة معينة، لكنها تتم باسم الله خالق البشر والأكوان ولصالح الإنسان حيثما وجد سواء

في هذه الحياة الدنيا القصيرة أو في الآخرة دار الخلود. فالقراءة والتعلم والتربية كلها تتم باسم الله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .

نماذج قرآنية للتربية

نماذج قرآنية للتربية: يوجه القرآن الكريم أنظار الآباء والمربين إلى مبادئ تربوية سامية عليهم الحرص عليها خلال تربية أبنائهم. ويتجلَّى هذا التوجيه فى عدة مواضع من القرآن الكريم منها لقمان الحكيم لابْنِهِ، ذلك لأن لقمان قد أوتي الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 13-19] . وهذه الوصايا التربوية تتضمن مجموعة من القيم التي يحرص الإسلام على تنشئة الناس عليها وفي مقدمتها النهي عن الشرك، وتحقيق التوحيد المطلق لله سبحانه، والتنبيه إلى أن الله يعلم السر وما يخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والتوجيه بضرورة رعاية الآباء والأمهات في كل ما يرضي الله وعدم إطاعتهما إذا كانت تعليماتهما تتعارض مع الدين، مع

ضرورة مراعاة الأدب معهما في كل الأحوال. كذلك تضمنت الوصية ضرورة إقامة الصلاة لأنها عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين، ومن هَدَمَهَا فقد هدم الدين، كما احتوت على ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراعاة الالتزام بالصبر على المكاره {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . وتنهي هذه الموعظة التربوية عن الكبرياء في معاملة الناس وعن الخيلاء، وضرورة الالتزام بالتواضع ومن تواضع لله رَفَعَه. وتشير كذلك إلى مجموعة من الآداب المهمة منها الاعتدال في الخطب وضرورة خفض الصوت عند الحديث وعدم التشبه بالحيوانات ... إلخ. وقد أثنى القرآن الكريم على أهل الكهف لأنهم صمدوا في مواجهة الظلم وثبتوا على العقيدة في مواجهة الكفر يقول تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] . وفي سورة يوسف يضرب الله لنا مثلًا بالشاب الصالح العفيف الذي يراعي الله ويراقبه في السر والعلن، ويتمسك بدينه في مواجهة إغراءات الدنيا، فقد تعرض لفتنة جمال امرأة العزيز وحسبها ونسبها، ولكنه أبى واعتصم بعقيدته: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 23-24] . وتشير هذه الآية إلى مجموعة من الحقائق والقيم، منها ضرورة الصمود في مواجهة المغريات، وأن هذه المغريات قد تكون اختبارًا من الله سبحانه، ويجب على الإنسان مراقبة الله في السر والعلن، وأن الله يساعد المؤمنين الذين يراقبونه على الاستمرار في الفضائل وتجنب الرذائل. ويوضح لنا الخالق سبحانه في سورة النور مجموعة من الآداب والقيم

الاجتماعية التربوية التي يجب غرسها في نفوس النشء وتدريبهم سلوكيًّا عليها، مثال هذا استئذان الصغار عند دخولهم على الكبار خلال وقت الراحة والخولة {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59] ، وذلك حتى لا يطلع الأبناء على علاقات آبائهم الخاصة فتترك أثرًا سيئًا في نفوسهم، وينشغلون بها قبل الأوان. ويوضح لنا القرآن الكريم في سورة الفرقان خصائص عباد الرحمن التي يجب غرسها في النشء من خلال العملية التربوية قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 63-96] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 63-74] . - ويروي لنا القرآن الكريم قصة نوح عليه السلام مع ابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42] . ولكن الابن أصر على العناد، فلم ييأسْ نوح وتوجه إلى ربه العزيز الحكيم بقلب الأب العطوف اللاهف قائلًا: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45] . وهذا سيدنا إبراهيم يدعو ربه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] .

نماذج من أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام

نماذج من أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام: وقد اهتم عليه الصلاة والسلام بقضية إعداد الشباب وتربيتهم في العديد من الأحاديث، منها ما يلي: - "يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" رواه الإمام البخاري 3/238. - "يا غلام إني معلمك كلمات. احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فلتسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" أخرجه أحمد 1/293. - "مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع" رواه أحمد 2/187. - "اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" رواه البيهقي عن ابن عباس في كتاب شعب الإيمان. -وعد عليه الصلاة والسلام ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله "شاب نشأ في عبادة ربه" رواه البخاري 1/121. - كذلك أخبر عليه السلام أن العبد سوف يسأل يوم القيامة ضمن ما يسأل عنه "عن شبابه فيم أبلاه" أخرجه الترمذي 4/612.

أهداف التربية الإسلامية

أهداف التربية الإسلامية: تبدأ التربية الإسلامية بتهذيب الفرد ضمانًا للمجتمع الصالح، كما أنها تبدأ في الدنيا تحقيقًا لصالح الناس في الدنيا والفوز برضوان الله وجنته في الآخرة، وقد سبق أن أشرنا إلى أهم أهداف التربية الإسلامية ونعيد إيجازها فيما يلي:

أولًا: الحفاظ على الفطرة وتنميتها من خلال تعريف الإنسان بخالقه، وبناء العلاقة بينهما على أساس ألوهية الخالق وعبودية المخلوق. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] . ثانيًا: تطوير سلوك الفرد وبناء -أو تغيير اتجاهاته اللفظية Verbal Atitudes والعملية السلوكية Action-A بحيث تتسق وتتطابق مع السلوك والاتجاهات الإسلامية {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلي: 14-17] . ثالثًا: إعداد لمواجهة متطلبات حياته في هذه الدنيا {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} [الملك: 15] ، وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] ، وهذا هو ما يطلق عليه اليوم الإعداد المهني للحياة. رابعًا: بناء المجتمع الإسلامي الصالح الذي تقوم نظمه على أساس شريعة الإسلام استنادًا إلى الكتاب والسنة، يقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنَ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] . خامسًا: إعداد المسلمين لحمل الرسالة الإسلامية ونشرها في العالم كله حتى ينتشر الحق وتعلو كلمة الله في الأرض، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] . سادسًا: غرس القيم الإيمانية الإسلامية في نفوس النشء مثل وحدة

الإنسانية والمساواة بين البشر {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] ، والإخلاص وإحضار النية {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] ، والصبر {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] ، والصدق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ، ومراقبة الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] ، والتقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] إلى آخر هذه القيم كالتوكل على الله والاستقامة والمبادرة إلى الخيرات ... إلخ. وهكذا نرى أن أهداف التربية الإسلامية تحقق التكامل بين الأهداف الدينية والدنيوية كما تحقق التفاعل الخلاق واللقاء الدائم بين الإنسان وخالقه، بين القلب والعقل، بين الدنيا والآخرة.

ميادين التربية الإسلامية

ميادين التربية الإسلامية مدخل ... ميادين التربية الإسلامية: يتمثل الإطار العام الذي يحدد ميادين التربية الإسلامية مناهجها في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] *. وهذه هي ميادين التربية الإسلامية:

_ * ورد هذا المعنى في ثلاث سور أخرى في القرآن الكريم وهي: - {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] . - {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] . - {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] .

أ- يتلو عليهم آياته. ب- يزكيهم. ج- يعلمهم الكتاب والحكمة.

الميدان الأول تلاوة الآيات

الميدان الأول تلاوة الآيات ... تلاوة الآيات: الميدان الأول: وتتعدد معاني كلمة آية فقد وردت في القرآن الكريم بعدة معانٍ منها المعجزة، والعلامة، والبرهان والدليل على قدرة الله، والعبرة إلى جانب الآيات القرآنية. والهدف من تلاوة الآيات هو غرس الولاء للإسلام بين المتعلمين عقيدة وسلوكًا وإبراز شواهد الألوهية والربوبية، وغرس الاتجاهات الإيمانية. ومناهج تحقيق هذا الهدف الرجوع إلى معجزات الأنبياء وظواهر الغيب إلى جانب فهم القوانين التي تنظم الكون المادي وبناء الجسم الإنساني، ومجتمع الإنسان وتاريخه، والسنن التي تحكمها، وما يتوصلون إليه من علوم ومكتشفات {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . وقد كان التركيز الأول خلال العهد المكِّي على هذه القضية الإيمانية حيث كانت الآيات في ذلك العهد تركز على أمور العقيدة والألوهية والعبادة دون التعرض للتشريع أو تنظيم الحياة الاجتماعية، وعلاقات البشر وتفاعلاتهم الاجتماعية أو كيفية بناء الحياة الجماعية الإسلامية بوجه عام.

الميدان الثاني التزكية

الميدان الثاني التزكية ... التزكية: الميدان الثاني: هذا عن ميدان تلاوة آيات الله البينات، أما عن ميدان التزكية وتعديل السلوك في الاتجاه الإسلامي الصحيح والتي يعبر عنها بكلمة "ويزكيهم" الواردة في الآية الكريمة السابقة، فإن كلمة التزكية في اللغة تعني الإصلاح والتطهير والتنمية، وزكاة المال تطهيره وتثميره وإنماؤه وتعني الزكاة -الطهارة والبركة- والتزكية في مجال السلوك هو انتزاع ما هو غير مطلوب ودعم ما

هو مرغوب، وهو يتضمن تنمية وبناء السلوك الفاضل، وإحداث تغير في السلوك غير المستقيم من أجل جعله سلوكًا مستقيمًا. والقرآن الكريم يقدم التزكية على التعليم في الآية الكريمة السابق الإشارة إليها، كما يتضح من السياق ويجعلها مقدمة له حيث تسهل العملية التعليمية وتدعمها قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] . وقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] . ويستوجب الإسلام ابتعاد المسلم عن بيئة الكفر وعدم مخالطة الفسقة، وعلى المسلمين مخالفة غير المسلمين في كل مظاهر حياتهم. ويجب على الإنسان أن يقتنع بالمبادئ الإسلامية وأن تتحول هذه المبادئ عنده إلى عقيدة ثم يترجمها سلوكيًّا. وهناك ثلاث مراحل يمر بها الإنسان وهي: الإسلام، ويتمثل في شهادة لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا رسول الله. ثم مرحلة الإيمان، وهي مرحلة أعمق حيث إنها تتصل بالاعتقاد اليقيني القلبي، وبالسلوك الظاهر معًا، فهو ما وقر في القلب وصدقه العمل. وأخيرًا مرحلة الإحسان، وهو تحقيق عبودية الإنسان الكاملة لله فكرًا واعتقادًا وسلوكًا، فهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ويعتمد المنهج الإسلامي في تنمية العقيدة الإسلامية على نوعين من الدراسات وهي: أ- دراسات نظرية، حيث يتعرف المتعلم على معنى الإسلام والإيمان والإحسان من أجل بناء العقيدة في نفسه وتثبيتها، وبلوغ مرتبة العبودية الحقة لله سبحانه، تلك العبودية التي تحقق له الإيجابية والعزة

والشخصية القوية المتماسكة المتميزة الصالحة. ب- الممارسات السلوكية العملية، بعد الاقتناع وتكوين الدوافع الإيمانية التي تثير السلوك وتوجهه من أجل إشباع هذا الدافع، وذلك بالجنة في هدف محدد يتمثل في الرغبة في رضا الله سبحانه والفوز بالجنة في الآخرة. ويقوم المنهج الإسلامي في استشارة الدوافع الإيمانية الصحيحة على أسلوبي الترغيب والترهيب، وهما من أنجح الأساليب التربوية في أي عصر بشرط أن يكون المضمون التربوي سويًّا. ويركز الإسلام على مجموعة من الجوانب السلوكية التي من شأنها دعم العقيدة والدوافع الإيمانية في نفس الفرد أهمها: الحض على استمرار ذكر الله تعالى، الصلاة على النبي، وقراءة القرآن الكريم، الاستغفار، والصلاة والمشاركة في الممارسات الجماعية للشعائر، ومراعاة الصحبة الحسنة، والابتعاد عن مواطن الشبهات، والابتعاد عن مصادر الانحرافات أو كل ما يمكن أن يعرض للانحراف، ومجاهدة النفس {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] . ويتدرج منهج التربية الإسلامية في تنمية الرهبة والرغبة مراعيًا المستويات العقلية والنفسية ومراحل نمو الإنسان، وخصائص كل مرحلة جسميًّا وعقليًّا وانفعاليًّا واجتماعيًّا، وهو الأمر الذي أدركه أخيرًا علماء التربية والمشتغلون بالعلوم السلوكية مع أن الإسلام الحنيف سبق أن نبه إليه منذ 1400 سنة. ففي تنمية الرغبة يبدأ الإسلام في تنمية كراهية الفرد للرذيلة وكافة ألوان السلوك الانحرافي -طبقًا للمعايير الإسلامية الصادقة وليس طبقًا للمعايير الإحصائية أو غيرها من معايير خادعة- وتحذير الفرد من العواقب الوخيمة للمعاصي والانحرافات لما تجلبه من غضب الله وما يتبعه من عذاب وآلام سواء العاجلة أو الآجلة، إلى أن يصل الفرد إلى كراهية المعاصي والرذائل والنفور منها لقبحها وبشاعتها، وتنبثق هذه

الكراهية من التزام داخلي وهي ما نطلق عليها الدوافع الإيمانية التي تتكون عند الإنسان كثمرة للتربية. ونفس الأمر بالنسبة للطاعة، حيث تنمي في نفس الفرد حب الطاعات لما تجلبه على الإنسان من ثمار طيبة أسماها رضاء الله سبحانه، وما يستتبع ذلك من ثواب عاجل أو آجل، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30-32] . ويحرص المنهج الإسلامي في التربية على الوصول بالإنسان إلى حب الله وحب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وحب الإيمان، وهذا هو كمال التزكية وتتجلى هذه الخاصية السامية -الحب- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] ، وقد أشار عليه السلام إلى أن الإيمان الحقيقي لا يتحقق حتى يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمن ممن سواهما. ولا تقتصر التزكية على ميادين النفس فقط ولكنها تمتد لتشمل جميع الأبعاد الإنسانية النفسية والعقلية والجسمية. وقد عرضنا مفهوم تزكية النفس، ونعرض الآن لجوانب تزكية العقل البشري ونوجزها فيما يلي: 1- الدعوة إلى التفكير وإعمال العقل والنقد الذاتي بدلًا من الاقتصار على التبرير Rationalization غير الصادق. والمقصود بالتفكير التبريري تلك الحيلة النفسية اللاشعورية Defence Mechanism التي يلجأ إليها الإنسان للتخلص من أخطائه وانحرافاته وإلقائها على عوامل تبعد عن النفس. جاء القرآن الكريم ليؤكد مبدأ العلية Causality ودعا الناس إلى محاسبة النفس ومراقبة الله، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُو

أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] . {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد: 11] وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . 2- الدعوة لاستخدم العقل والتجريد بدلًا من التقليد الأعمي: والتقليد الذي عناه القرآن هو عدم استخدام العقل والتقليد الأعمي، وينعي القرآن على المقلدين الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، ويستنكر القرآن الكريم تعطيل العقل والجمود والتحجر، ويدعو إلى التحرر من أوهام السلبية والانعزالية والتقليد، يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 170-171] . والدين الإسلامي يوجه المؤمن لإعمال عقله لاكتشاف قوانين الكون أو السنن الكونية والسنن الاجتماعية التي تحكم حركة المجتمعات والسنن التاريخية التي تحكم تاريخ الإنسان، فهو دين انفتاح عقلي على الكون والمجتمع والتاريخ، لأن هذه المخلوقات كلها تشهد بوحدانية الله وربوبيته وألوهيته سبحانه. 3- الدعوة إلى التفكير المنطقي العلمي الصحيح بدلًا من الظن والهوى: يرفض القرآن الكريم الاعتماد على الظن وينتقد أولئك الذين يتبعون الظن {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى، أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} [النجم: 23-25] ، ويقول تعالى في سورة: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] . كذلك يندد القرآن الكريم بأولئك الذين يتبعون هواهم دون هدى من الله،

يقول تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] . ونهانا القرآن الكريم عن تبديد الطاقات التي وهبها لنا الله من سمع وبصر وعقل في أشياء زائفة، مع ضرورة استخدام العقل والتثبت من كل أمر قبل الاعتقاد فيه، يقول تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ، ويوجهنا القرآن الكريم إلى عدم التسرع في اتخاذ القرارات وضرورة التحقق، قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] . وينبهنا القرآن الكريم إلى ضرورة دراسة الأمور وأخذ رأي المتخصصين وأولي الأمر قبل إذاعتها ونشرها، ويعيب على المتسرعين تسرعهم، يقول تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . 4- الدعوة إلى التفكير الجماعي بدلًا من التفكير الفردي: يحرص الإسلام على تحقيق الصالح العام، ولا شك أن تفكير المجموع خير من تفكير الفرد، والإسلام يدعو إلى التماسك والتكامل، يقول عليه السلام: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" البخاري 1/160. أما في مجال تزكية -تطهير السلوك وتعديله في الاتجاه الإسلامي- الجسم فإن ذلك يتضح في الميادين التالية: 1- تلبية حاجات الجسم والاهتمام به في الإطار المشروع: أحل الله للإنسان الطيبات واستوجب من الإنسان العناية بجسمه وإشباع رغباته فيما يرضي الله والابتعاد عن الخبائث وما يسبب له الأضرار.

يقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-33] . فما هو محرم هو الفواحش والإثم والبغي بغير الحق والشرك. وأشار عليه السلام إلى أنه يقوم وينام ويصوم ويفطر ويتزوج النساء وقال: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" البخارى: 3/237، وأباح الإسلام النكاح ولم يستقذره بل جعله عملًا من أعمال الخير إذا مورس بالأساليب المشروعة. قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} [البقرة: 223] ، وقال عليه السلام: "وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرًا" رواه مسلم: 2/697. 2- تجنب الإسراف والإفراط: يدعو الإسلام الحنيف إلى الاعتدال وتجنب الإسراف في الأكل والمشرب والعمل وحتى في العبادة حيث يدعو إلى الاقتصاد في الطاعة فالإسلام لا يحرم الإنسان من الاستمتاع بالشهوات طالما يلتزم بمبادئ الشريعة السمحة في غير إسراف.

الميدان الثالث تعليم الكتاب

الميدان الثالث تعليم الكتاب ... تعليم الكتاب-الميدان الثالث: هذه الخطوة التربوية تترتب على الخطوتين السابقتين -تلاوة الآيات وتزكية النفس والعقل والجسم، وهنا يكون الإنسان مؤهلًا لاستيعاب

المعارف والمبادئ والتشريعات التي يشتمل عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة. والإنسان يتعلم خلال هذه المرحلة العلاقة الواجبة بين العبد وربه وأثر العبودية في تزايد عزة الفرد وكرامته وعلى كل المستويات، ذلك على المستوى الفردي، ويدرس آثار الإيمان الإيجابية على المجتمعات وآثار الكفر السلبية عليها والتفسير القرآني الصادق الموضوعي للكون والإنسان والمجتمع والتاريخ، وأساليب التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي لمجتمع الإنسان، هذا إلى جانب دراسة أعمق للعبادات والتفقه في أمور الدين.

الميدان الرابع تعليم الحكمة

الميدان الرابع تعليم الحكمة ... تعليم الحكمة -الميدان الرابع: ويحتاج الإنسان ليمارس حياته بشكل يحقق العزة أن يكون على علم بمبادئ دينه، وأن يتزود بالمهارات الفكرية والعملية. وقد جاء لفظ الحكمة في القرآن الكريم بعدة معان أهمها: - الحكمة بمعنى الإتقان: يقول تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] . - الحكمة بمعنى العبرة: قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 4، 5] . - الحكمة بمعنى الحلول الفاصلة الملائمة؛ قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 63، 64] . - الحكمة بمعنى القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب؛ أو بين الطريق المستقيم والطريق المعوج، أو بين الأمور النافعة والضارة، يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ

وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 268-269] . وقال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113] . - الحكمة بمعنى الفهم والمعرفة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] . - الحكمة بمعنى الرأي وحسن التبصُّرِ في الأمور؛ فضمن الأمور التي يستحق الرجل من أجلها الحسد -كما يخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام: "رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" رواه البخاري -كتاب الاعتصام. -الحكمة بمعني حسن التقدير والإدارة والتصرف؛ يقول تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] . ويذهب مقاتل بن سليمان أشهر مفسري التابعين أن تفسير الحكمة في القرآن الكريم جاء على أربعة أوجه: 1- مواعظ القرآن الكريم. 2- الحكمة بمعنى الفهم والعلم. 3- الحكمة بمعنى النبوة. 4- القرآن الكريم نفسه بما فيه من عجائب وأسرار.

أما فخر الدين الرازي فيشير في "مفاتيح الغيب" أن الحكمة لا تخرج عن معنيين هما: أ- العلم. ب- فعل الصواب. وأنها تنقسم إلى قسمين: حكمة نظرية، وحكمة عملية، ولا بد من تكاملها في الإنسان الفاضل والسلوك الكامل، فقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] ، فالشق الأول يشير إلى الحكمة النظرية، أما الشق الثاني، فإنه يشير إلى الحكمة العملية، وفي اللغة: الحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. وتخلص مما سبق إلى أن الحكمة هي نفاذ البصيرة في السنن الكونية والاجتماعية والإنسانية والتاريخية وإتقان العمل والتصريف دون تصادم مع هذه السنن، وفي ضوء ظروف العصر المتغيرة، فالحكمة لدى الفقيه تعني القدرة على استنباط التشريعات والأحكام اللازمة في مختلف ميادين الحياة، وهي لدى القائد فهم معنى الجهاد والوقوف على منطلقاته وأهدافه وتنظيماته وحسن التعامل بذلك كله حسب المواقف المتغيرة، وهي لدى المربي المسلم فهم منطلقات التربية الإسلامية وأهدافها وأسسها ووسائلها، وهي لدى الإداري حسن تصريف الأمور، وهي لدى السياسي حسن التخطيط والتنفيذ في الداخل والخارج. وهذا هو ما يقرره فخر الدين الرازي في كتابه "مفاتيح الغيب"، حيث ذهب إلى أن "الحكمة هي اسم لكل عمل حسن وعمل صالح، وهي بالعلم العملي أخص منها بالعلم النظري، وفي العمل أكثر استعمالًا من العلم". وانطلاقا من هذا الفهم لمعاني الحكمة فإن ترجمتها التربوية تتمثل في محاولة فهم قدرات الفرد واستعدادته وميوله "الاجتماعية والتعليمية والمهنية" من أجل القيام بمختلف عمليات التوجيه "النفسي والتعليمي

والمهني ... ، ومن أجل تحديد الدور الاجتماعي Social Role الذي يمكن أن يقوم به الفرد مستقبلًا، ثم يتم تدريبه على ممارسة هذا الدور بشكل يمكنه من إتقانه وحسن إنجازه. ولقد كان لنا في رسولنا الكريم أسوة حسنة حيث جمع معاني الحكمة في المعاني التي سبق أن أشرنا إليها، وكان عليه السلام يعالج الأفراد والجماعات والمواقف المتغيرة بالحكمة المثلى، وكان صلي الله عليه وسلم يتعرف على قدرات أصحابه واستعداداتهم ثم يوزع العمل والمهام والأدوار بينهم بما يتفق مع قدرات واستعدادات كل صحابي جليل، فوجه مجموعة للتخصص في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف، ومجموعة أخرى للتخصص في الفنون الحربية، ومجموعة ثالثة للولاية والجباية ... ، وكان عليه السلام يرى أن الحكمة ضالة المؤمن وحيث وجدها فهو أحق بها، ومن مظاهر الحكمة الانفتاح على ما عند المجتمعات الأخرى من تنظيمات ووسائل، وأخذ ما يتناسب مع العقيدة الإسلامية وما يفيد المسلمين، وترك كل ما يتعارض مع العقيدة. وإذا ما تأملنا قليلا في التعبيرات الثلاثة الواردة في الآية السابقة وهي: 1- يتلو عليهم آياته. 2- ويزكيهم. 3- ويعلمهم الكتاب والحكمة. نجد أنها تتضمن جانبي العقل والنقل، أو جانبي الغيب الذي لا يناقش، وإنما هو محل للإيمان المطلق لأن العقل البشري قاصر عن فهمه قال تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 1-3] . وهنا يكتفي بتلاوة الآيات من المتعلم أو متلقي التربية، وهذا هو الجانب الأول متمثلًا في الإيمان بالغيب بناء على آيات الله البينات دون محاولة للتقصي والخوض فيما لا يمكن لعقل الإنسان فهمه. أما الجانب الثاني فهو الذي يتمثل في تعبير "يزكيهم" و"يعلمهم" فكلاهما يشير إلى عملية تتعلق ببناء السلوك وتشكيله وتغيره، وتفسح المجال أمام العقل والملاحظة والتجريب.

أهم الأسس العامة التي تقوم عليها التربية الإسلامية

أهم الأسس العامة التي تقوم عليها التربية الإسلامية مدخل ... أهم الأسس العامة التي تقوم عليها التربية الإسلامية يمكننا إيجاز أهم أسس التربية الإسلامية فيما يلي:

التربية الإسلامية تحقق النمو المتكامل المتوازن لشخصية الإنسان

أولًا: التربية الإسلامية تحقق النمو المتكامل المتوازن لشخصية الإنسان: فالتربية الإسلامية لا تركز على جانب واحد من الشخصية -الروحي أو العقلي أو الجسمي أو الانفعالي أو الاجتماعي- وإنما تهتم بجميع هذه الجوانب معًا، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى الإنسان من الجنة إلى الأرض، والمعيشة الأرضية تحتاج إلى إشباع حاجات النفس والعقل والروح والجسم معًا. يقول تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] ، وقد سبق أن رأينا أن مفهوم التزكية يشمل النفس والعقل والجسم معًا. فالإسلام يطالبنا بصحة الأبدان "إن لبدنك عليك حقًّا"، وبالحفاظ على السمع والبصر والفؤاد {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] . والإسلام يخاطب عاطفة الإنسان وقلبه ووجدانه، اعتبر أن العلم أحد المعايير الحاسمة للتمايز بين البشر كما يتضح من العديد من آيات العلم التي سبق أن أشرنا إليها، والتقوى ذاتها تقوم على العلم بالكتاب والسنة. وبوجه عام نستطيع القول إن التربية تحرر الإنسان نفسًا وروحًا وعقلًا وجسمًا ...

التربية الإسلامية تحقق للإنسان التوازن

ثانيا: التربية الإسلامية تحقق للإنسان التوازن: ويتضح هذا في قول الرسول عليه الصلاة والسلام:"أنه يرفض التطرف في العبادة وإنه يقوم وينام ويصوم ويفطر ويتزوج النساء". وقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] . والإسلام يحرص على تجريد الإنسان من الأنانية

البغيضة "لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه" أو قال: لجاره " ما يحب لنفسه" "أخرجه مسلم 67/1" وقد أقر الرسول عليه الصلاة والسلام قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء أخيه في الإسلام: "فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا". "أخرجه البخاري 361/3".

التربية الإسلامية تربية فكرية وسلوكية وعملية معا

ثالثا: التربية الإسلامية تربية فكرية وسلوكية وعملية معا: تتعدى العقيدة الإسلامية مجال القلب إلى العمل، فالإنسان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل وكثيرا من اقترن العمل الصالح بالإيمان في آيات القرآن الكريم {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ومبادئ الإسلام الخمسة من شهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، كلها تتطلب ترجمة الإيمان إلى سلوك، ويذم من المسلم أن يقول خلاف ما يفعل، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 2، 3] .

تجمع التربية الإسلامية بين الطابع الفردى والاجتماعي معا

تجمع التربية الإسلامية بين الطابع الفردى والاجتماعي معا ... رابعا: تجمع التربية الإسلامبية بين الطابع الفردي والاجتماعي معا: تركز التربية الإسلامية على تنشئة الفرد على الفضيلة وعلى تحمل المسئولية فكل امرئ بما كسب رهين، وكل مسلم راع وكل راع مسئول عن رعيته، فالمسئولية في الإسلام مسئولية فردية، كل إنسان مسئول أمام الله سبحانه عن أعماله بعد أن منحه عقلا وأرسل له الرسل للهداية وأنزل إليه الكتب وبين له طرق الخير والشر، وأعطى له الجهاز الذي يميز به وفطره أصلا على الميل للتوحيد. ولكن هذا لا يعني التطرف في الفردية المطلقة لأن الإسلام يربى الفرد ليعيش في مجتمع يكفل له الإسلام العدل والإخاء والتكامل والتكافل والقوة ... إلخ. فالمسلم أخو المسلم، والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة". "رواه مسلم 4/ 2002".

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه" " أو قال: لجاره" "ما يحب لنفسه" "أخرجه مسلم 1/ 67". وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره"، "رواه البخاري 4/ 202" وتؤكد التربية الإسلامية على أهمية القدوة والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الشخص على فكره وسلوكه، فمثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير، وقد أكد عليه الصلاة والسلام أثر الأسرة في التنشئة الاجتماعية للفرد، وفي الحفاظ على الفطرة أو تشويهها وطمس مصالحها فما من مولود كما يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم: "إلا ويولد على الفطرة فأبواه يوهدانه أو ينصرانه"، "أخرجه البخاري 4/ 144" ويقول عليه السلام: "تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن" "أخرجه ابن عدي في كتاب الكامل".

التربية الإسلامية تنشيء الفرد على مراقبة الله سبحانه

التربية الإسلامية تنشيء الفرد على مراقبة الله سبحانه ... خامسًا: التربية الإسلامية تنشئ الفرد على مراقبة الله سبحانه: فالتربية الإسلامية تعمل منذ اللحظة الأولى على غرس الدوافع الإنسانية في نفس الفرد1، تلك الدوافع التي تملك عليه فكره وسلوكه، فهو يراقب الله في عبادته وعمله وأكله وشربه وزواجه وعلاقته بزوجته وأبنائه.. إلخ، فاستقامة المسلم تنبع عن الالتزام الداخلي؛ لأنه يعلم أن الله مطلع على كل أموره: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] .

_ 1 يعرف الدافع بأنه حالة داخلية جسمية أو نفسية تثير السلوك وتوجهه نحو عقلية عصبية من أجل إشباع الدافع المستثار، والدوافع الإنسانية شاملة مسيطرة على حياة الفرد المسلم، فالمسلم يراعي الله، ويقصد وجه الله في كل سلوكه "أكل وشرب وزواج ... " إلخ فضلًا عن العبادات.

التربية الإسلامية تحافظ على فطرة الإنسان النقية وتعلي غرائزه الفطرية

سادسًا: التربية الإسلامية تحافظ على فطرة الإنسان النقية وتعلي غرائزه الفطرية: تحافظ التربية الإسلامية على فطرة الإنسان النقية، فكما يخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وقد خلق الله سبحانه عباده حنفاء. يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] ، وهنا تبرز أهمية التربية في تزكية النفس وتطهيرها ودعم جانب التقوى ومقاومة جانب الفجور والحفاظ على فطرة الله التي فطر الناس عليها. والإسلام لا يقف ضد رغبات الفرد المادية، لكنه ينظم ممارستها حسب الشريعة بما يحقق صالح الفرد والمجتمع، ويعلم الإسلام الفرد المؤمن الصبر وقوة الإرادة والتحكم في رغباته والقدرة على تأجليها، وهذا هو مؤشر النضج الانفعالى Emotional Marturity ويوجه الرسول عليه السلام الشباب إلى الزواج لمن يستطيع وإلى الاستعانة بالصوم لمن لا يستطيع، قال عليه السلام: "معشرَ الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" رواه البخاري 3/238، وهذا هو إعلاء الغرائز في أسمى صوره، ويوجه الإسلام الشباب المسلم إلى قضاء أوقات الفراغ فيما يعود عليهم وعلى أمتهم بالنفع كالتربية الرياضية والقراءة ... إلخ.

التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الخير

سابعًا: التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الخير: يستهدف الإسلام أساسًا تقدم الإنسان وتمتعه بالخيرات والرحمة به، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . ولا

يوجد معيار للتمايز بين البشر غير التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، والعلم والعمل الصالح. وتستهدف التربية الإسلامية تربية المسلمين على تمثل القيم التي تكفل لهم الفلاح في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة، وفي مقدمتها الإخلاص وإحضار النية {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . والصبر، يقول تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . والصدق، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] . ومراقبة الله والتوكل عليه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون} [إبراهيم: 11] . والاستقامة، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} [هود: 112] . والتعاون على البر والتقوى، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 13] . والنصيحة المتبادلة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] . وستر عورات المسلمين، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19] . والعدل، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل: 90] . وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الحجرات: 9] .

التربية الإسلامية تربية مستمرة

ثامنًا: التربية الإسلامية تربية مستمرة: فهي لا تنتهي بفترة زمنية معينة وإنما تمتد من المهد إلى اللحد، تدعم باستمرار عقيدة التوحيد عند الإنسان وتدعوه باستمرار لتحصيل المزيد من العلم والمعرفة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} [الإسراء: 85] كما تدعو إلى إعمال البصر والعقل في الكون الماديِّ والعالم الاجتماعي من أجل التقدم في فهمهما وتحقيق حياة إنسانية أسعد على هذا الكوكب. والحياة لا تسير على وتيرة واحدة فهي في تغير مستمر، ولا بد على الإنسان المسلم أن يساير هذا التطور بل وأن يقوده من خلال إعداد الشباب المؤمن المتعلم المنجز.

التربية الإسلامية تربية عالمية منفتحة

تاسعًا: التربية الإسلامية تربية عالمية منفتحة: فالإسلام دين لكل البشر، وليس لأقوام محددة كما هو الحال في

الديانات السابقة عليه وهو يرفض التعصب ويتجاوز الانغلاق الطبقي أو العرقي أو اللوني أو الفئوي، ويقر معيارًا عامًا للتمايز في متناول الجميع، وهو التقوى: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 12] ، وورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "كلكم لآدم وآدم من تراب" والتربية الإسلامية يتساوى فيها كل البشر، لا يستأثر بها طبقة دون طبقة أو فئة دون فئة، وليس فيها أسرار كما في بعض الديانات والمسلمون يتساوون، ويسعى يذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم من الكفار. ومنذ المرحلة الأولى في العهد المكي والمسلمون قلة قليلة تعد بالأفراد، قلة مطرودة من كل حمى إلا حمى الله سبحانه، محرومة من كل قوة وسلطان أرض إلا سلطان الله الواحد القهار فوق عباده، يقر القرآن الكريم عالمية الدعوة الإسلامية وإنسانيتها، فيقول تعالى في سورة مكية من أوائل السور وهي سورة التكوير: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27] ، فهي دعوة للعالمين وليس لقريش ولا لأهل مكة، ولكنها لكل البشر، دعوة لا تعرف حدود الوطن أو العنصر أو القبيلة، فهي تخاطب الإنسان كإنسان كائنًا من كان وحيثما وجد.

التربية الإسلامية تجمع بين المحافظة والتجديد

التربية الإسلامية تجمع بين المحافظة والتجديد ... عاشرًا: التربية الإسلامية بين المحافظة والتجديد: فهي محافظة بالنسبة لمجال المعتقدات وما تقوم عليه من مبادئ سماوية خالدة وتقاليد راسخة وقيم عريضة، وترفض البدع، يقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] وحذر عليه الصلاة والسلام من محدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة. وإذا كانت التربية الإسلامية تحافظ على الأصول العقلية والتشريعية، فإنها تدعو إلى التجديد من أجل الوفاء

بمطالب الحياة المتغيرة في كل عصر، بشرط الالتزام بالأصول العامة.

أساليب التربية الإسلامية

أساليب التربية الإسلامية مدخل ... أساليب التربية الإسلامية: يعتمد النظام التربوي الإسلامي على مجموعة من الأساليب التي لم يصل إليها الفكر الغربي -كأساليب تربوية لتنمية الشخص تنمية متكاملة- إلا حديثًا. ونستطيع إيجاز أهم هذه الأساليب فيما يلي:

أسلوب القدوة الصالحة

أولًا: أسلوب القدوة الصالحة: وهو أهم الأساليب فلا خير في مرب يتشدق بقيم واتجاهات لا يحققها سلوكيًّا في نفسه، وينهانا القرآن الكريم عن التناقض بين القول والفعل، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] . وقد كان رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة لكل المؤمنين، والمثل الذي يجب الاهتداء به قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21] . وعندما سُئِلَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ الرسول قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: "فإن خلق نبي الله صلي الله عليه وسلم كان القرآن" أخرجه مسلم 1/513. ويجب على كل مرب -أب أو مدرس أو واعظ- أن يضرب المثل بنفسه لكل ما يدعو إليه حتى يكون له الأثر الطيب في نفوس النشء، إلى جانب تخير الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الأطفال لما له من أثر في الصياغة الثقافية Cultural Moulding للفرد، ويجب أن تكون سيرة الرسول -عليه السلام- جزءًا دائمًا من منهج التربية ليكون قدوة حية أمام الناس للفرد. وقد سبق أن أشرنا إلى هذه النقطة.

أسلوب الترغيب والترهيب

ثانيًا: أسلوب الترغيب والترهيب: يعتمد الإسلام في صياغة الشخصية الإسلامية وتنمية التلميذ معرفيًّا

وعقليًّا ونفسيًّا على أسلوب الثواب والعقاب، وهو أسلوب يتفق مع طبيعة الإنسان حيثما كان، وفي أي مجتمع مهما كانت عقيدته ولونه وجنسه. فالإنسان يتحكم في سلوكه وفكره ويعدل فيهما بمقدار إدراكه لطبيعة أو نوعية ما يترتب عليهما من نتائج وخبرات -سارَّة أو مؤلمة- ويميل الإنسان إلى الخبرات والسلوك الذي يقترن بخبرات سارة، والتخلي أو رفض السلوك الذي يقترن بخبرات مؤلمة. ويستخدم القرآن الكريم هذا الأسلوب حيث يحرص باستمرار على تأكيد أن هناك نتائج إيجابية للإيمان ومراقبة الله والتحلي بالقيم الإسلامية، وهناك نتائج سلبية سيئة للانحراف عن العقيدة سواء في الدنيا وفي الآخرة. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30-32] . ويقول تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ، كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 51-75] . وفي مقابل هذا الوضع والمصير الرائع للمؤمنين، هناك الوضع والمصير المزري للمشركين والكفار والمنحرفين، يقول تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 19-20] . وإذا كان الإنسان معرضًا باستمرار إلى الزلل فيجب عليه أن يتوب من قريب، وأن يستغفر ربه بصفة مستمرة، فذلك هو أسلوب العودة إلى الله ونبذ السيئات، وهذا الأسلوب التربوي

يجب أن يستخدمه الآباء والمدرسون من أجل غرس القيم والمعلومات المطلوبة في نفوس التلاميذ وتوجيه سلوكهم في الاتجاه المطلوب.

أسلوب التوجيه والموعظة الحسنة

ثالثًا: أسلوب التوجيه والموعظة الحسنة: الإنسان قابل للتأثر بالتوجيهات والتشكيل، لما تتمتع به الطبيعة الإنسانية من مرونة وقابلية للتشكيل. وهذه القابلية تمثل استعدادًا مؤقتًا، الأمر الذي يستلزم تكرار التوجيهات في كل مناسبة حتى تثبت في نفس النشء، وهذا الأسلوب مكمل للأساليب السابقة واللاحقة التي سيأتي ذكرها، إنها لتحدث الأثر المطلوب. والحاجة إلى الموعظة والتوجيه ليست قاصرة على الأطفال فقط، وإنما تمتد هذه الحاجة إلى الكبار ومجتمع الراشدين، لما يوجد في النفس الإنسانية من ضعف، والذكرى تنفع المؤمنين، ويحفل القرآن الكريم بالعديد من المواعظ والتوجيهات الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] . وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36] ، ويجب على المربين أن يستمروا في توجيه النشء في كل موقف -حسب كل موقف- وبذلك يكون نوعًا من الدعوة غير المباشرة، وفي هذه الحالة يكون تأثيره أقوى وأثبت. ويجب أن تتسم المواعظ والتوجيهات بالأسلوب الحسن والبعد عن الجفاف مع إشعار النشء أن المربي حريص على صالحهم يقول تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] .

أسلوب العقاب الفعلي

رابعًا: أسلوب العقاب الفعلي: وإذا كان أسلوب التوجيه اللفظي أو العملي، وأسلوب الموعظة يجدي مع أغلب الناس، فهناك مجموعة من الناس لا يجدي معهم هذا الأسلوب، ولا يزيدهم التوجيه إلا عنادًا وانحرافًا، وهؤلاء ليسوا أسوياء. كذلك فإن المبالغة في الرقة والتلطف مع النشء أمر غير مطلوب، حيث يجب أن تجمع التربية الناضجة بين اللين والحزم، ومن الحزم استخدام العقوبة أو التهديد باستخدامها في بعض الأحيان. ولم يترك الإسلام بابًا للنفاذ إلى نفس الإنسان والتأثير عليها إلا وطرقه، فهو يستخدم القدوة والموعظة والترغيب والترهيب والعقوبة. فهو مرة يهدد بعدم رضا الله سبحانه، وذلك أيسر التهديد وهو عظيم الأثر في نفوس المؤمنين، يقول تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] ، ومرة يهدد القرآن بغضب الله صراحة كما جاء في حديث الإفك وتلك درجة أشد، يقول تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 14-17] . ومرة أخرى يهدد سبحانه المنحرفين بحرب من الله ورسوله، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] . ويلجأ القرآن كثيرًا إلى التهديد بعقاب الآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ

ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 68-69] ، كذلك فإن القرآن الكريم يهدد بالعقاب في الدنيا، يقول تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39] ويقول تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74] ويأمر الله بتوقيع العقاب فمثلًا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ويقول تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] وهذا التدرج في العقاب يراعي طبائع الناس كما يراعي تعدد المواقف، فمن الناس من تكفيه الإشارة ومنهم من لا يردعه إلا الغضب، ومنهم من يرجع عن الانحراف أو الشروع في الانحراف إذا هدد بالعقاب، ومنهم من لا يرجع عن غيه إلا بعقاب نفسي أو بدني أو هما معًا.

أسلوب القصة

خامسًا: أسلوب القصة: يعد الأسلوب القصصي في التربية من أنجح الأساليب لما للقصة من سحر وتأثير كبيرين على نفس السامع وعقله، ولما يمكن أن تؤديه القصة من خلال مضامينها التربوية من دور في غرس الإيمان والقيم والاتجاهات والميول المطلوبة في نفس الفرد خاصة في مرحلة الطفولة، وإن كان أثرها يمتد على مدى حياة الإنسان، ويراعى القرآن الكريم هذا الميل الطبيعي لدى الإنسان إلى القصة، فيقدم العديد من القصص المحتوية على مضامين إيمانية تربوية عميقة كأسلوب فعال في تربية المسلمين، وهو يستخدم كل أنواع القصة، القصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وأحداثها، والقصة الواقعية التي تعرض نموذجًا لحالة بشرية

فعلية، ويستوي أن تكون بأشخاصها الواقعيين أو بأي شخص يتمثل فيه ذلك النموذج، والقصة التمثيلية الحوارية التي يمكن أن تحدث في أي لحظة وأي مكان وأي عصر. ومن النوع الأول كل قصص الأنبياء وقصص المكذبين بالرسالات وما أصابهم من هلاك ودمار نتيجة هذا التكذيب، وهي قصص تذكر بأسماء أشخاصها ومواقع حدوثها المكانية وزمن حدوثها مثل قصص موسى وفرعون، وعيسى وبني إسرائيل، وصالح وثمود، وشعيب ومدين، ولوط وقريته، ونوح وقومه، وإبراهيم وإسماعيل ... إلخ. أما النوع الثاني قصة ابني آدم، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 27-30] ، ومن النوع الأخير قصة صاحب الجنتين {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف: 32-43] .

ويوظف القرآن الكريم القصة في خدمة تحقيق العديد من الأهداف، مثل تثبيت فؤاد النبي عليه الصلاة والسلام، وإيضاح أسس الدعوة إلى الله وتصديق الأنبياء السابقين، وإظهار صدق محمد -عليه الصلاة والسلام- ومقارعة أهل الكتاب بالحجة، إلى جانب جميع أنواع التربية والتوجيه، تربية الروح وتربية العقل، وتربية الجسم، حيث تتضمن مضامين تربوية ترسخ الدوافع الإيمانية في نفوس المؤمنين، وتضرب لهم القدوة والمثل، وتحذرهم من نتائج الكفر والانحراف. ومن الطبيعي أن توظف القصة في القرآن لخدمة أهداف دينية من أجل تربية المؤمنين، فليس القرآن الكريم كتاب قصة، غير أن إعجاز بلاغة القرآن ودقة الأداء وفنية التعبير، جعل القصص القرآني الذي يحتوي على مضامين دينية وتربوية طليقة بليغة من المنظور الفني. وهذا يشير إلى إمكانية استخدام القصص كأسلوب في التربية بشرط نقاء مضمونها واتفاقه مع مبادئ الإسلام.

أسلوب التربية السلوكية باقتلاع العادات السيئة

أسلوب التربية السلوكية باقتلاع العادات السيئة ... سادسًا: أسلوب التربية السلوكية باقتلاع Dislearning العادات السيئة وتكوين العادات الصالحة: وهذا الأسلوب لم تكتشف أصوله إلا مدرسة ديناميات الجماعة Group Dynamics حديثًا في حين أن الإسلام نَبَّهَ إِلَيْهِ مُنْذُ أكثر من أربعة عشر قرنًا. وقد بدأ الإسلام بإزالة العادات السيئة التي سادت مجتمع الجاهلية، وكان السبيل إلى ذلك أمرينِ، الأول: هو القطع الحاسم الفاصل، والثاني: أسلوب التدرج البطيء. ويتوقف استخدام الأسلوب الأول أو الثاني على نوع العادة التي كان يعالجها ودرجة أهميتها ومدى عمقها داخل الجماعة. فالعادات التي تتصل بالعقيدة هي الأسس الجوهرية للإسلام -مثل عبادة الأصنام والوقوف أمام التماثيل والدعارة- قطعها الإسلام بشكل حاسم من اللحظة الأولى؛ لأنها مثل الأورام السرطانية لا بد أن تستأصل من جذورها وإلا فلا حياة. ومن أمثلة هذه العادات الوثنية التي

استأصلها الإسلام الشرك والاجتماع حول الأوثان والتوسل إليها ووأد البنات والكذب والغيبة والنميمة والتكبر....إلخ. أما بالنسبة لبعض العادات الاجتماعية التي تحتمل التأجيل في اقتلاعها، والتي تمارس بشكل جماعي وتتمكن من نفوس الناس، ولا تتصل بالأساس الأول للإيمان وإن كانت ترتبط به بشكل وثيق مثل شرب الخمر والزنا والربا والرق، فقد لجأ الإسلام في علاج كل منها إلى التدرج على مراحل ودرجات، أو أخر تحريمها حتى اكتمل نمو المجتمع المسلم ونضج. فالخمر جاءت أو إشارة لتحريمه في قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] ففصل سبحانه بين السكر والرزق الحسن وكله توجيهًا رقيقًا أحس منه أذكياء المسلمين أنها بداية لتحريم الخمر، ثم كانت الإشارة الثانية في سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] وتشير هذه الآية إلى تحقيق مرحلتي الوعي والاقتناع، وهما خطوتان أساسيتان من خطوات تغيير الاتجاهات Attitude change على المستوى اللفظي، ثم جاءت الإشارة الثالثة في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] وهو هنا يربط الصلاة بالامتناع عن الخمر، فهو سبحانه يحض المسلمين على اتخاذ موقف عملي من الخمر بالامتناع عنها حتى تصح الصلاة، وهو في الواقع امتناع ونهي عن التعاطي؛ لأن الإنسان لا يستطيع عمليًّا أن يشرب ثم يفيق قبل حلول موعد الصلاة، ثم جاءت الخطوة الحاسمة في سورة المائدة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] أما الزنا فقد تدرج به الأمر من النصيحة إلى التهديد بالعقوبة إلى

تقرير عقوبة مجملة ثم إلى تقرير عقوبة مفصلة محددة، كما تدرج من عدم إكراه الفتيات على البغاء مع إباحة زواج المتعة إلى تحريم البغاء وتحريم زواج المتعة معًا، وإغلاق كل الطرق إلى ممارسة الجنس إلا الزواج المشروع المؤبد المعقود باسم الله وبنية الدوام1. وبالنسبة للربا فقد أخر تحريمه إلى العام العاشر من الهجرة حتى اكتمل نمو الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي، وبالنسبة للرق فقد اتخذ الإسلام في معالجته وسائل بطيئة جدًّا تنتهي في النهاية بتحرير الرقيق. هذا بالنسبة لمنهج الإسلام في القضاء على سيئ العادات، أما منهجه في غرس وتثبيت ودعم العادات الصالحة المرغوب فيها فإنه وضع عدة أساليب: أ- أسلوب الهزة الوجدانية العنيفة الموحية القادرة على تغيير البناء العقدي والتصوري عند الإنسان، واستخدم هذا الأسلوب من أجل تحويل الناس من الكفر إلى الإيمان، ويقترن هذا الأسلوب بتغيير البيئة، حيث ينتقل المسلم من بيئته الكافرة لينتمي إلى جماعة الإيمان حيث يدخل معهم في علاقات إيمانية قوامها العدل والمساواة والتآخي، ويمارس معهم شعائر الإسلام، ويستمع معهم إلى القرآن الكريم، ويشترك أعضاء الجماعة الإسلامية في الإكرام والآمال والجهاد، وهنا تصبح النماذج السلوكية الجديدة ظاهرة فردية وجماعية معًا "الاستقامة، الصدق، العدل، الإخاء.. إلخ"، فالإسلام يستثير الوجدان، ويفرض الرغبة في العمل، ثم يحول الرغبة إلى عمل وسلوك يدعمه الإيمان وتدعمه الجماعة المسلمة. ب- الإقناع والاقتناع العقلي: فالإسلام يتضمن جانب الغيب، وهو مسألة

_ 1 يمكن الرجوع إلى دراسة محمد قطب: مناهج التربية الإسلامية، دار الشروق، الطبعة الثانية صـ346-251.

إيمانية خالصة، وجانب عقلي يحاول الإسلام إقناع المؤمنين به. والإسلام جانب عقلي يدعو إلى إعمال العقل وينعي على أولئك الذين يعطلون عقولهم. فالإسلام يعرف، ثم يستثير الرغبة، ثم يعمل إلى ترجمتها سلوكيًّا على المستويين الفردي والجماعي معًا.

استخدام الأساليب الحسية

سابعًا: استخدام الأساليب الحسية: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكثر من التشبيهات الحسية من أجل توضيح الأمور المعنوية، فكان مثلًا يخط خطًّا على الرمال وخطين عن يمينه وخطين عن شماله، ثم يمثل لهم الأول بأنه سبيل الله، ويقول لهم عن الخطوط الجانبية بأنها سبيل الشيطان ويتلو قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] . وهذه التشبيهات هي ما يمكن أن نطلق عليه بالتعبيرات المعاصرة وسائل الإيضاح. ويحفل القرآن الكريم بالعديد من التشبيهات الحسية قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] .

أسلوب النقاش والحوار

ثامنًا: أسلوب النقاش والحوار Dialogue: تعمد الطرق الحديثة في التدريس على تطبيق أسلوب الجماعات النقاشية Discussion Group وعادة ما يتم التفاضل بين الطريقة الإلقائية والطريقة النقاشية في التدريس، وقد توصل الفكر النفسي والاجتماعي الحديث إلى أن الطريقة المناسبة هي التي تتفق مع طبيعة الموضوع، ومدى معرفة المستمعين به، ونوعية المستمعين ومستوى ذكائهم وقدراتهم الإدراكية، وعددهم ... إلخ. وتوصل أنصار مدرسة ديناميات الجماعة إلى أن الطريقة النقاشية تفوق الطريقة الإلقائية داخل الجماعات الصغيرة مثل موقف الفصل الدراسي. وقد كان الرسول -صلي الله عليه وسلم- يستخدم كلا من الأسلوبين

حسب مقتضى الحال. وكان عليه السلام يستخد أسلوب الحوار موجه لتحقيق غايتين، الأول: توجيه الصحابة وتعليمهم حقيقة دينهم -كما حدث مع معاذ بن جبل عندما أرسله واليًا على أحد الأقاليم وسأله إذا عَنَّ له أمر فبماذا يقضى- قال إنه يقضي بكتاب الله، ثم بسنة رسوله، ثم يلجأ إلى الاجتهاد، والغاية الثانية: من أجل الوصول إلى الرأي الصائب فيما لم يرد فيه وحي ولا نص كما حدث في اختيار المكان في موقعه بدر. ويعلمنا القرآن الكريم أبرع أساليب الحوار كما في حالة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- وحواره مع الملحد ومع أبيه، وحوار سيدنا موسي -عليه السلام- مع فرعون ... إلخ، ومثال هذا: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 42-47] . وقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه: 43-52] .

أسلوب المحاولة والخطأ

تاسعًا: أسلوب المحاولة والخطأ: ادَّعَى عُلَمَاء الغرب -مثل ثورنديك 1874-1949- أنهم اكتشفوا أسلوبًا جديدًا في التعليم أو تفسير كيف يتعلم الإنسان والحيوان،

واتضح ذلك في نظرية المحاولة والخطأ tri and eirror، ومنطوق هذه النظرية أن الفرد يتعلم من خلال القيام بعدة محاولات عشوائية دون خطة واضحة، وأنه يكتشف المحاولات الصحيحة مصادفة، وهناك مجموعة من القوانين التي تحكم التعلم بالمحاولة، مثل قانون التكرار law off Exerise ويذهب ثورنديك thourdke وقد اتضح أن التكرار وحده لا قيمة له، ذلك أن التعلم ينطوي على عامل آخر يقوي الرابطة العصبية بين المثيرات، والاستجابات في حالة النجاح ويضعفها في حالة الفشل، هذا العامل هو مما أطلق عليه ثورنديك قانون الأثر law of effect ومنطوقه أن الفرد يميل إلى تكرار السلوك الذي يصاحبه أو يتبعه ثواب، كما ينزع إلى التخلي عن السلوك الذي يصاحبه أو يتبعه عقاب، فالاستجابة الناجحة تقترن بحالة من الرضا، الأمر الذي يقوي الروابط بين المثير والاستجابة الناجحة، والعكس صحيح ... إلخ، والواقع أن الجديد ليست الفكرة لكن إجراء التجارب ومحاولة صياغة قوانين التعلم، ذلك أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- استخدم أسلوب التجربة والخطأ، في تعليم أصحابه عليهم الرضا من الله، ذلك أنه عليه السلام كان يراقبهم برهة وهم يطبقون الذاتية learning by doing وكان في هذا يطبق مبدأ من أحدث مبادئ التعلم وهو "التعلم بالعمل"، ومن أشهر الأمثلة حديث المسيء صلاته الذي أخطأ عدة مرات في الصلاة اشتاق إلى التعلم، فأرشده عليه السلام فتعلم الصحابي واستفاد من خطأه ومن إرشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- له

أسلوب استخدام الأحداث والظروف والمواقف في مجال التعليم

عاشرًا: أسلوب استخدام الأحداث والظروف والمواقف في مجال التعليم: المربي الناجح هو الذي يستغل الأحداث والمواقف المختلفة المتنوعة لتعليم النشء. فالمواقف تثير حالة في النفس من الداخل تحقق التهيؤ الذهني لتقبل المعلومات والتوجيهات، ويتضح هذا النوع من التعليم.

باستخدام المواقف وإعطاء الجرعة التوجيهية أو المضمون التربوي الملائم لكل موقف، بشكل معجز في القرآن الكريم بشكل عام وبشكل تفصيلي، ويتمثل الأول في مضمون التوجيه التربوي القرآن الكريم في مكة، الذي اختلف عنه في المدينة، ففي العهد المكي كان التوجيه إلى الصبر على الأذى واحتمال المكروه والصمود في وجه الكفار.. أما في العهد المدني صدر التوجيه إلى رد العدوان، واستخدام القوة في رد المعتدين وتحقيق العزة ورفض الخضوع، ومن أمثلة الآيات الكريمة التي نزلت في العهد المكي والتي تحض على الصبر والجلد والتحمل ما جاء في سورة المزمل: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10] أما في العهد المدني عهد القوة والعزة الإسلامية فقد فرض القتال والدفاع ورد العدوان ومحاربة الكفر ... وكان سبحانه يعلم المؤمنين أخطاءهم خلال المواقف الفعلية الواقعية حتى يتخلصوا من أخطائهم، ويتحقق لهم النصر والغلبة والعزة، يقول تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] وهكذا يعلم الله سبحانه المسلمين من هذا الدرس القاسي، يعلمهم أن الفوز والهزيمة لا تتعلق بقضية العدد أو بأسباب القوة الأرضية بقدر ما تتعلق بعون الله ونصرته وإرادته، كذلك فإن الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ويوضح لهم دروس مستفادة من واقعة بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 7-10] .

توجيه طاقات الإنسان في مساراتها الصحيحة

حادي عشر: توجيه طاقات الإنسان في مساراتها الصحيحة: إذا كانت الطبيعة الإنسانية تنطوي على طاقات كامنة أودعها الخالق

سبحانه، فإن اختزانها في النفس يؤدي إلى الأمراض النفسية والانحرافات السلوكية، كذلك فإن توجيهها في المسارات الباطلة يؤدي كذلك إلى الانحراف. ويحرص الإسلام على توجيه طاقات الإنسان إلى الحب والكره والعمل والجنس ... في مساراتها الصحيحة وفيما يعود بالخير على الإنسان في الدنيا والآخرة، وبما يكفل تحقيق المجتمع الصالح الذي يقوم على الإخاء والعدل والتكافل ... إلخ. فطاقة الكره توجه إلى كراهية الشيطان وكراهية الفسوق والكفر والشرك. وتوجه طاقة الحب إلى حب الله ورسوله والمؤمنين. وطاقة العمل توجه إلى الصالح من الأعمال والأبحاث والاكتشافات الناجحة، وطاقة الجنس توجه إلى الزواج الشرعي وإلى إنجاب ذرية صالحة. وهذا يعني أن الإسلام يوجه طاقات الإنسان في مسارات الجهاد والإنتاج والبناء والاستمتاع المشروع وهدم الباطل، وهذا يعني تصريفها فيما يرضي الله سبحانه.

أسلوب استثمار وقت الفراغ

ثاني عشر: أسلوب استثمار وقت الفراغ: يحرص الإسلام على استثمار وقت الإنسان من يقظته إلى نومه، ويحسن توزيع وقت الإنسان بين العبادة والعمل الجاد والراحة والترفيه الهادف والاستمتاع بالطيبات، فالإسلام دين يسر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . "وإن الدينَ يسرٌ ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه"، كما يذكر عليه الصلاة والسلام. ولا يهدف الإسلام إلى استنفاد طاقة الإنسان فليس ذلك قطٌّ من أهداف الإسلام الذي يدعو إلى الاعتدال وعدم الإفراط أو التطرف، ويعترف بحق العقل وحق النفس وحق البدن وحق الإنسان في الترويح الطيب البريء، ويدعو الإنسان المؤمن أن يأخذ زِينَتَهُ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وأن يستمتع بالطيبات من الرزق وأن يتذكر نصيبه من الدنيا. فالإسلام يدعو إلى توزيع الوقت بين العبادة والعمل الجادّ، والتعليم والتفكير في الكون والمجتمع والتاريخ والإنسان من أجل فهم سنن الله سبحانه التي تسير هذه المخلوقات وتحكمها، وإدراك عظمة الخالق

والانتفاع بها في الحياة الدنيا، هذا إلى جانب السمر الطيب والترفيه المقبول والتزاور وممارسة أنواع الرياضة الهادفة -كالسباحة والرماية وركوب الخيل ... إلخ. وإذا كان الإسلام قد ألغى عادات الجاهلية وأعيادها ومواسمها وأساليب حياتها، فلم يترك ذلك فراغًا يتحير المسلمون في ملئه، أو يملئونه فيما لا يفيد، بل جعل لهم في الحال أعيادًا مقابلة ومواسم ومهام تملأ فراغهم، مثل العيدين الأكبر والأصغر والتجمع لتلاوة القرآن الكريم ودراسته والاستماع إلى توجيهات الرسول عليه الصلاة والسلام. ويجب على المربين أن يوظفوا وقت الفراغ لدى النشء فيما يفيدهم جسميًّا وعقليًّا ونفسيًّا ويسهم في تنميتهم بشكل شامل ومتكامل، وفيما يعود بالنفع على المجتمع معًا.

التربية الإسلامية وقضية الصحة النفسية

التربية الإسلامية وقضية الصحة النفسية مدخل ... التربية وقضية الصحة النفسية: هناك صلة وثيقة بين بناء الشخصية الفردية وبين الصحة النفسية، ويعد تكامل الشخصية -بالمفهوم الإسلامي الذي يقوم على غرس الدوافع الإيمانية المكتسبة التي تستند إلى أساس فطري وهو الفطرة السليمة- شرطًا ضروريًّا للصحة النفسية والتوافق الاجتماعي السوي. ومن أهم العوامل التي تخل هذا التكامل غياب العقيدة السليمة التي تفسر للإنسان وجوده وحياته والكون والمصير إلى جانب الصراعات النفسية العنيفة والموصولة -ساء الشعورية أو اللاشعورية- وترتبط الصحة النفسية أشد الارتباط بنوعية التربية وأساليبها ومضامينها، يضاف إلى هذا أن من أهم سمات الشخصية المفككة غير المتكاملة -غياب الإيمان والدوافع الإيمانية، وكثرة الصراعات الداخلية والخارجية- الشعورية واللاشعورية -والعجز عن التوافق السوي مع المجتمع والآخرين والعجز عن العمل والإنجاز والعجز عن العطاء. وإذا استطاع الفرد أن يعيش في زحمة هذه الحياة عيشة راضية مرضية في حدود عقيدته وقيمه وقدراته واستعداداته قيل، إنه حسن التوافق، أما إن

عجز عن ذلك بالرغم مما يبذله من جهود قيل: إنه سيئ التوافق maladjusted. ويعرف سوء التوافق بأنه حالة دائمة أو مؤقتة تبدو في عجز الفرد وإخفاقه في حل مشكلاته اليومية خاصة الاجتماعية بشكل لا يحقق معه ما ينتظره غيره منه أو ما يتنظره هو من نفسه، وهناك مجموعة من الميادين التي تتصل بالتوافق وعدم التوافق، فهناك التوافق أو سوء التوافق المهني، والتوافق الأسري، والتوافق الديني، والتوافق الاقتصادي، والتوافق التعليمي.. غير أن هذه الجوانب المختلفة تتصل بمظهر التوافق العام الذي يتعلق بمدى تمسك الفرد بالعقيدة والقيم وقدرته على التعامل السوي مع الآخرين، وإقامة صلات راضية مرضية معهم، وقدرته على العمل، وأن يكون إنسانًا منجزًا. ولسوء التوافق العام مظاهر شتى ودرجات تختلف شدة وعنفًا وإزمانًا واستعصاءًا على العلاج، فقد يبدو في صورة انحراف خفيف أو سلوك مغرب لا يكاد يوصف بالشذوذ، أو في صورة مشكلة سلوكية مما يَعْرَض لكثير من الأطفال كقضم الأظافر أو التبول القسري أو التمرد أو العناد، أو السرقة والكذب، كما يبدو في صورة تمرد شديد لدى المراهق أو ميله الشديد للانطواء، وقد يبدو في صورة أشد عنفًا كالأمراض النفسية neuroses والأمراض النفسية المهنية والأمراض النفسية الجسمية psycho- somatic والانحرافات الجنسية sex deviance والإجرام criminality. وأخطر ضروب سوء التوافق هو الأمراض العقلية psychoses التي تسمى في اللغة الدارجة بالجنون، تلك الأمراض التي تجعل الفرد غريبًا عن نفسه وعن الناس، خطرًا على نفسه وعلى الناس، مما يقعده عن العمل ويتطلب من المجتمع عزله والإشراف عليه وعلاجه. ولسوء التوافق العام عدة أسباب بيولوجية أو نفسية اجتماعية psycho- social فمن الأسباب البيولوجية تلف الجهاز العصبي المركزي central nervous system، أو الجهاز الغدي glandular system، أو

الاختلال الكروموزومي، أو ضعف العقل الشديد.. أما الأسباب النفسية الاجتماعية فإنها تتعلق بالتربية التي تفشل في مساعدة الطفل على استدماج internalizaion الدوافع الإيمانية والقيم الدينية، وتفشل في تقديم القدوة الصالحة للنشء وتصيبه بالإحباطات frustrations "وهي مشكلات وأزمات نفسية تنشأ عن وجود معوقات مادية أو جسمية أو اجتماعية تعترض إرضاء حاجات الفرد ودوافعه وتسبب له أزمات نفسية"، وهنا يلجأ الفرد إلى الحيل الدفاعية تخفيفًا من هذه الأزمات*، فإذا لم يوفق في ذلك لجأ إلى أساليب ومحاولات شاذة. وإذا ما تساءلنا عن معيار السواء والانحراف نجد أن الباحثين يقدمون مجموعة من المعايير يهمنا أن نعرضها بإيجاز مع مناقشتها وعرض المعيار الإسلامي الصحيح.

_ * من أهم هذه الحيل الدفاعية defence mechanisms، العدوان بكل أشكاله سواء الموجه للغير أو العدوان المزاح أو العدوان المرتد أو الإيذاء الذاتي macsism، الاستسلام resignation، الجمود fixation، النكوص regression، التبرير rationalizaion، الإسقاط projection، التكوين العكسي reaction formation،التعويض المسرف over compansation، أحلام اليقظة dreams day، التقمص identificaion.

المعيار المثالي

أولًا: المعيار المثالي: ويذهب أنصاره إلى أن السوي هو الكامل أو ما يقرب منه، فقوة الإبصار السوية مثلًا، ليست هي قوة الإبصار المتوسطة بل الكاملة، وهذا هو المعيار الذي يقصده أتباع مدرسة التحليل النفسي عندما يقولون: إنه لا توجد شخصية سوية. ولعل المشكلة هنا هي اختلاف الباحثين عند تحديد معيار الشخصية المثالية.

المعيار الإحصائي

ثانيًا: المعيار الإحصائي: ويذهب أنصاره إلى أن السوي بوجه عام هو من لم ينحرف كثيرًا أو إطلاقًا عن المتوسط، وهو الذي يمثل الجزء الأعظم من المجموعة وفق

منحنى التوزيع الطبيعي Normal Curve. وبناءً على هذا المعيار تختلف معايير الشخصية السوية من مجتمع إلى مجتمع، ومن فترة زمنية إلى أخرى داخل نفس المجتمع، ولا يوجد معيارٌ عام بالإطلاق. هذا إلى جانب أنه يجعل المتمسكين بالقواعد تمسكًا شديدًا مثلهم مثل المتسيبين تمامًا، حيث يعدهما من المنحرفين عن المتوسط الحسابي.

المعيار الحضاري

ثالثًا: المعيار الحضاري: يَرَى أَنَّ السوي هو المتوافق مع المجتمع أي الذي يجاري قيم المجتمع وقوانينه ومعاييره وأهدافه. ولهذا المعيار أكثر من عيب، وعليه أكثر من مأخذ. فهو يرى أن السواء هو الامتثال التام لقوانين المجتمع وقيمه حتى وإن كانت فاسدة كما هو الحال في عبادة البقرة في الهند، وعبادة الطواطم في الكثير من المجتمعات المتخلفة، ومثل شرب الخمر ولعب الميسر والاتصالات الجنسية غير المشروعة في العديد في الدول الأوروبية، تتطلب من الفرد العمل على إصلاحها وتغييرها بدلًا مِنَ التكيّف معها. يضاف إلى هذا اختلاف معيار الاستواء والانحراف من حضارة إلى أخرى، فوأدُ البنات في الجاهلية لم يكن جريمة لأنه يتفق مع عادات العرب وتقاليدهم، والانتحار في الحضارة الغربية دليل على اضطراب نفسي أو عقلي في حين أنه ظاهرة سوية في اليابان في بعض الظروف، والارتياب الشديد وتوهم العظمة والاضطهاد التي نراها من أعراض "جنون التوهم أو العظمة" تعد سلوكًا لا انحراف فيه عند الهنود الحمر في بعض قبائل الساحل الشمالي للمحيط الهادي ... وهذا يعني عدم وجود معيار عام للسواء والانحراف.

المعيار السيكولوجي أو الطبي النفسي

رابعًا: المعيار السيكولوجي أو الطبي النفسي: ويذهب أنصاره إلى أن الشخصية الشاذة هي ما كان انحرافها ناجمًا عن صراعات نفسية لا شعورية أو خللًا في الجهاز العصبي أو الغدي للإنسان، غير أن هذا المعيار لا يخلو من المآخذ المهمة، فقد يخلو إنسان

ما من الصراعات النفسية أو الاختلافات العضوية، لكنه لا يؤمن بالله أو يمارس سلوكًا يغضبه سبحانه، فكيف يمكن اعتباره سويًّا؟

المعيار الإسلامي الصحيح

خامسًا: المعيار الإسلامي الصحيح: اتضح أن العلماء يختلفون في تحديد معيار السواء والانحراف المثالي -لأنها معايير وضعية مختلف عليها. أما المعيار الإحصائي والمعيار الحضاري فمن الواضح فسادهما. فبناء عليهما تعد المرأة التي تتزوج أكثر من رجل -في بعض القبائل مثل قبيلة التودا في الهند- ظاهرة سوية لأنها تتفق مع ما يفعله أغلب سكان هذه القبيلة، وعبادة البقرة في الهند ظاهرة سوية، والإقدام على الانتحار ظاهرة سوية بين بعض جماعات البوذيين في اليابان، والاتصالات الجنسية خارج الزواج تعد ظاهرة سويةً في مجتمع ساموا الذي درسته "مارجريت ميد"، وفي مجتمعات الغرب وفي الكميونات الصينية ... إلخ؛ لأنها ظواهر يمارسها غالبية السكان في تلك المناطق، ولا شك أن هذا هراء لا يقبله عقل ولا منطق. أما المعيار النفسي فلا يمكن الاعتماد عليه لأنه قد يخلو إنسان ما من الصراعات الداخلية ولكنه يمارس رذائل. يبقى بعد هذا المعيار الإلهي العام والشامل الذي صَمَّمَه خالق الإنسان ومبدع الكون وهو الله سبحانه وتعالى. ويتمثل هذا المعيار في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والعمل بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية وتمثل القيم الإسلامية التي تقوم على الإخلاص والصدق والاستقامة ومراقبة الله سبحانه في السر والعلن والعدل والتقوى ... وهذا المعيار عام شامل.

مؤشرات الصحة النفسية بالمفهوم الإسلامي

مؤشرات الصحة النفسية بالمفهوم الإسلامي مدخل ... مؤشرات الصحة النفسية بالمفهوم الإسلامي: هناك مجموعة من المؤشرات التي يمكن من خلالها الحكم على شخصية الإنسان بالاستواء أو الانحراف، وبالتالي معرفة مدى ما يتمتع به الشخص من صحة نفسية.

الإيمان الكامل اليقيني بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره

أولًا: الإيمان الكامل اليقيني بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وهذا العامل يستغرق كل العوامل التالية:

التوافق الاجتماعي مع الغير

ثانيًا: التوافق الاجتماعي مع الغير: بمعنى القدرة على عقد صلات اجتماعية راضية مرضية مع الآخرين قوامها التعاون والتسامح والإيثار، فلا يشوبها العدوان أو عدم الاكتراث لمشاعر الآخرين، يقول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] والرضا المتبادل سمة من سمات العبد المؤمن ليس فقط بينه وبين الناس ولكن بينه وبين ربه كذلك. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 7-8] ، ويوجهنا سبحانه إلى ضرورة إيجاد علاقات اجتماعية سوية مع الآخرين تخلو من التكبر والخيلاء: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18-19] ، وتتضمن خصائص عباد الرحمن كما جاءت في القرآن الكريم أسمى خصائص التوافق النفسي والاجتماعي السوي الفاضل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ

هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} الآيات [الفرقان من 63-77] ، ويخبرنا عليه الصلاة والسلام أن أقرب المؤمنين مجلسًا منه يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا والموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون. فهذا هو الحب بمعناه الواسع الذي يعد مؤشرًا على الصحة النفسية بالمفهوم الإسلامي، الحب الواسع -حب الله وحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وحب المؤمنين وحب الأهل وحب الجنة.

التوافق الذاتي

ثالثًا: التوافق الذاتي: وهو يتمثل في قدرة الفرد على التوفيق بين دوافعه المتصارعة توفيقًا يرضيها بشكل متزن وفي إطار ما تسمح به العقيدة السمحة والتوجيهات القيمية الإسلامية. فالمسلم قادر على ضبط نفسه وضبط شهواته حتى يستطيع ممارستها بالأسلوب المشروع. يقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ... الآية [النور: 30، 31] ، وقال تعالى في نفس السورة: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] ، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] ، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] .

الشعور بالسمو والعزة والعلو والقدرة على مواجهة الصعاب والأزمات

رابعًا: الشعور بالسموِّ والعزة والعلوِّ والقدرة على مواجهة الصعاب والأزمات والشدائد دون إسراف في العدوان أو النكوص أو محاولة استدرار العطف والرثاء للذات Self Pity، والمؤمن دائمًا يشعر بالعزة، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين. والمؤمن قوي في كل حالاته مستعلٍ في كل الظروف لأنه خليفة الله سبحانه ويتمتع بروحه سبحانه {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُم

الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139-140] ، وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحا} [لقمان: 18] ، فالمؤمن معتز بنفسه يشعر بالسمو والعلو ولكنه لا يوجه هذا الشعور للظلم والعدوان، وإنما يوجهه في الخير فهو صادق وعادل ومستقيم يراقب الله في السر والعلن، ويعترف بتكريم الله له ويحرص على أن يكون أهلًا له في كل سلوكه.

الشعور بالرضا والسعادة

خامسًا: الشعور بالرضا والسعادة: ويتمثل في استمتاع الفرد بالحياة بعمله وأسرته وأصدقائه وشعوره بالطمأنينة وراحة البال والأمن في أغلب أحواله. فالمؤمن لا يشعر بالخوف على المستقبل لأن المستقبل غيب والغيب بيد الله ولا يقلق على الموت لأنه يعلم أنه السبيل إلى الحياة الأبدية في جنة الخلد إن كان من المؤمنين حقًّا، وهو لا يقلق على الرزق لأنه يوقن: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] ، ويوجهنا سبحانه إلى عدم نسيان نصيبنا من الدنيا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87-88] ، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] ، وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ، َعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 8-11] .

القدرة على العطاء والإنجاز والعمل

سَادسًا: القدرة على العطاء والإنجاز والعمل: ويقصد بذلك أن يكون للإنسان دور إيجابي في حياة أسرته ومجتمعه حيث يقوم بالعمل أو الإنتاج المعقول في حدود ذكائه وحيويته واستعداداته، وكثيرًا ما يكون الكسل والخمول والسلبية مؤشرات لشخصيات هدتها الصراعات والأمراض النفسية بشتى أشكالها. والمؤمن منتج منجز إيجابي، والإنسان كما يريده الله سبحانه قوة فاعلة موجهة مريدة وهو قوة موجبة في واقع الحياة، فهو يتأمل في مخلوقات الله يحاول استغلالها لصالحه بعد أن سخرها الله سبحانه وتعالى له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الجاثية: 13] ، وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] . وواجب المربي أن ينشئ المؤمنينَ على أساس هذا النموذج المتميز للشخصية الإسلامية، تلك الشخصية التي تقوم على أساس الإيمان والتوافق الاجتماعي والتوافق الشخصي، والخلو من الصراعات والقلق والقادرة على الصمود أمام الشدائد والقادرة على العطاء والإنجاز والعمل، والتي تتمثل مجموعة من القيم الموجهة التي تدور حول مراقبة الله والصدق والإخلاص والاستقامة والعدل والمساواة ... إلخ.

مبادئ التعلم في النظرية التربوية الإسلامية

مبادئ التعلم في النظرية التربوية الإسلامية مدخل ... مبادئ التعلم في النظرية التربوية الإسلامية: يربط الإسلام بين التقوى والتعلم حيث يقول تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] ، ويقول تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، ويشير القرآن الكريم إلى أنه سبحانه يصرف الذين يتكبرون في الأرض عن آياته يقول تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ

يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146] . فهناك علاقة بين المعرفة وأسلوب توظيفها وبين الإيمان بالله، فالله يهدى من يشاء ويضل من يشاء. وهناك مجموعة من المبادئِ التي يجب الاهتداء بها خلال عملية التعلم، يمكن استنتاجها من الكتاب والسنة نوجزها فيما يلي:

الربط بين النظرية والتطبيق

أولًا: الربط بين النظرية والتطبيق: يعد هذا المبدأ من أحدث مبادئ التعليم التي لم ينتبه إليها رجال التربية إلا مؤخرًا، وقد سبق أن نبه القرآن الكريم منذ أكثر من 1400 سنة إلى هذا المبدأ المهم، وهو ربط المعلومات النظرية بالتطبيق والممارسات العملية، يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] ، ويتضح من قراءة القرآن الكريم أن الله سبحانه يقرن الإيمان بالعمل الصالح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 277] . ويذكر ابن مسعود أن الرجل في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن ويعمل بهن. ويحذرنا القرآن الكريم بعمل شيءٍ خلاف ما نقوله وضرورة الالتزام بما نقوله قولًا وعملًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]

مراعاة استعدادات المتعلم وقدرته الاستيعابية والإدراكية

ثانيًا: مراعاة استعدادات المتعلم وقدرته الاستيعابية والإدراكية: نبه القرآن الكريم منذ 1400 سنة إلى ما يطلق عليه علم النفس الحديث الفروق الفردية Individual Differences فالأفراد تتفاوت قدراتهم العقلية واستعداداتهم وميولهم وذكائهم ... كذلك فقد نبه القرآن الكريم

إلى ضرورة أخذ خصائص كل مرحلة من مراحل النمو في الاعتبار عند إعطاء الجرعات التعليمية والتربوية للأفراد، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [لبقرة: 286] . ويمكن القول أن التدرج في التشريع الإسلامي -كما هو الحال في تحريم شرب الخمر وتحريم الزنا- راعى القدرة الاستيعابية لأعضاء مجتمع الجاهلية وهو ما يطلق عليه اليوم الجوانب الاجتماعية للقانون Sociology Of Law، وقد كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يستخدم الأساليب الحسية -أو وسائل إيضاح حسية مبسطة- ليقرب المعاني المجردة لأذهان المسلمين وقد سبق إيضاح ذلك.

تكوين الاتجاهات قبل الفهم واستيعاب المعلومات

ثالثًا: تكوين الاتجاهات قبل الفهم واستيعاب المعلومات: نَبَّهَ الْقرآن الكريم إلى ضرورة تكوين الاتجاهات الإيجابية نحو قضية أو علمٍ أو موضوع ما قبل تلقي المعلومات والتفصيلات بشأنه، وهو ما يطلق عليه اليوم تحقيق التهيؤ الذهني والنفسي لدى المتعلم. ويتضح هذا في أول سورة البقرة التي توضح أن الكتاب الكريم موجه للذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون ما رزقهم سبحانه ... يقول تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1-5] . وما لم يتكون الاتجاه الإيماني السليم لدى المتعلم في مجال العقيدة، فلن تجدي محاولات الإقناع والتعليم والبرهان ... إلخ. وقد بين سبحانه -على سبيل المثال- أن العجزة لا تجدي مع من لم تتكون

لديهم الاتجاهات الإيمانية والذين يكابرون، يقول تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14-15] ، ويقول سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 11] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا، وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} [الإسراء: 89-96] . وقصة بني إسرائيل مع أنبيائهم تؤكد أهمية التهيؤ الذهني لتقبل الرسالة وهو ما يمكن أن نطلق عليه الاتجاه الإيجابي نحو الإيمان، وهذا المبدأ ينطبق على كل أنواع التعلم من تعلم العقيدة إلى تعلم الهندسة والطب ومختلف العلوم والمهن.

تسهيل العملية التعليمية وتيسير حصولها

رابعًا: تسهيل العملية التعليمية وتيسير حصولها: يحرص الإسلام باستمرار على التيسير على المؤمن فالدين يسر لا عسر فيه، وكان النبي عليه الصلاة والسلام، يوصي بالرفق بالمتعلمين وتسهيل أمورهم.

التعزيز من خلال الاستفسار والمراجعة والمناقشة

التعزيز من خلال الاستفسار والمراجعة والمناقشة مدخل ... خامسًا: التعزيز من خلال الاستفسار والمراجعة والمناقشة: يوضح لنا القرآن الكريم والسنة المطهرة إمكان النقاش والاستفسار من أجل الفهم وزيادة اليقين: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . وكان أصحاب الرسول -صلي الله عليه وسلم- يكثرون الاستفسار منه عليه الصلاة والسلام من أجل زيادة الفهم وتأكيد اليقين. هذه هي أهم المبادئ الأساسية للتعليم في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهناك مجموعة من المبادئ العامة التي يجب الاسترشاد بها والتي تعد أصولًا للنظرية التربوية الإسلامية يمكننا إيجازها فيما يلي:

التطور، سنة من سنن الحياة

أولًا: التطور، سنة من سنن الحياة: يفرق الإسلام بين أمرين: العقيدة، والأمور الدنيوية. فالعقيدة ثابتة والشريعة الإسلامية تلائم كل عصر ولا تغيير فيها، أما الأمور الدنيوية فإنها تتغير تبعًا لتطور العلوم والتكنولوجيا، ولم ينه الإسلام عن مواكبة التطور والتغير والأخذ بالعلوم الحديثة -التي يدعو الإسلام إلى تطويرها وإعمال العقل في كل مخلوقات الله سبحانه- بشرط عدم تعارضها مع مبادئ الشريعة الأساسية قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] ، وقال عليه السلام: "من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" رواه مسلم 2/ 705.

التبصر في التراث وإعمال العقل وعدم التقليد الأعمى

ثانيا: التبصر في التراث وإعمال العقل وعدم التقليد الأعمي: سَبَقَ أَنْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الإسلام يعيب على المقلدين تقليدهم الأعمى ويدعو إلى إعمال العقل لا تعطيله، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . وقد يعتمد الناس في تبريرهم فعل الفواحش على أنها مسألة تتعلق بالتراث يقول تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 28-29] ، وتشير الآية إلى أن الناس قد تخلط بين العادات والتقاليد والممارسات السلوكية المنحدرة من الماضي وبين قضايا الدين المقدسة من أجل إضفاء قوة على ما ينحدر من الماضي وبين قضايا الدين المقدسة من أجل إضفاء قوة على ما ينحدر من الماضي مع بطلانه. ولهذا يدعو القرآن الكريم إلى ضرورة تمحيص التراث ودراسته قبل إقراره والعمل به، ومعيار السواء والانحراف أو الرفض والقبول، وهو مبادئ الشريعة الإسلامية.

الانفتاح العقلى على مختلف التجارب والخبرات البشرية

ثَالثًا: الانفتاح العقلي على مختلف التجارب والخبرات البشرية مع تقييمها من المنظور الإسلامي والاستفادة مع ما يتفق منها مع مبادئ الإسلام ورفض ما يتعارض معها، ويقول عليه الصلاة والسلام: "الحكمة ضالَّة المؤمن فحيثما وجدها فهو أحق بها" "أخرجه ابن ماجه 2/ 1395"، ومما نعى به القرآن الكريم على اليهود والنصارى انغلاق كل فريق وتقوقعه ورفض الحوار أو التفكير فيما لدى الآخر من تراث وأفكار، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] . كذلك يندد القرآن الكريم بإصدار أحكام مسبقة على أي أمر من الأمور أو أي فكرة أو رأي تنبثق عن انغلاق سلبي وخوف أو تخوف من المناقشة الحرة المفتوحة دون فهم أو وعي بطبيعة الأمر أو الرأي المرفوض أصلًا، ويشير سبحانه أن هذا الرفض السلبي المنغلق للأفكار الجديدة دون دراسة وفحص، يؤدي إلى الهلاك لأنه يؤدي إلى الجمود والتحجر الفكري والثقافي والاجتماعي. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 25-28] . ومن أبرز خصائص الإسلام دعوته إلى إعمال العقل والانفتاح على خبرات البشرية، ذلك لأنه دين عقلي فإذا أعمل الإنسان عقله، وفكر بمنطق سليم فسوف يكتشف الحقيقة وهي أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] ، فوحدة الكون

ووحدة القوانين العلمية والحتمية العلمية كلها تشهد بوحدانية الله سبحانه، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] ، وقد استدل القرآن الكريم بهذه الآية -وغيرها- من وحدة الكون على وحدة الإله، كما استدل بوحدة الإله على وحدة القوانين واستمرارها {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: 23] . ويدعو الإسلام إلى التفاعل مع الخبرات الإنسانية المختلفة من أجل الاستفادة بما يوجد فيها من خير، ومن أجل تقويم ما يوجد فيها من اعوجاج حتى ينتشر دين الله ويعم الأرض كلها.

التكامل بين العلم والإيمان

رابعًا: التكامل بين العلم والإيمان: سَبَقَتِ الإشارة إلى أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحض على العلم وإعمال العقل والمنطق، ويعيب على المقلدين والمقدسين للماضي دون فهمٍ والرافضين مناقشة الجديد عن انغلاق وتحجر، وما ذلك إلا لأن الإسلام دين الفطرة وحيثما وجهت نظرك وعقلك فَسَوْفَ تُدْرِكُ الحقيقة متمثلة في وحدانية الله سبحانه، ومصدر العلم هو الله سبحانه وتعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] . وَإِذَا كان الله سبحانه وتعالى هو المصدر الوحيد للعلم الصادق، {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [لأحقاف: 23] وهو سبحانه خالق الإنسان والأكوان فلا تعارض بينهما، فالكون هو كتاب الله المنظور والقرآن الكريم كتاب الله المقروء. وإذا حدث تعارض فهذا دليل على زيف العلم والعلم الزائف Psoudo Science يؤدي إلى التهلكة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 82-84]

التكامل بين العقل والنقل أو الإيمان بالغيب ومنطق العلم

خامسًا: التكامل بين العقل والنقل أو الإيمان بالغيب ومنطق العلم: يتطلب الإيمان الكامل اليقين المطلق بالغيب كما جاء ذلك في أول

سورة البقرة، هذا الإيمان لا يخضع لمنطق العقل والتجريب مباشرة، وذلك لقصور العقل ومحدوديته. غير أن الاستخدام السليم للعقل -في ميدانه- سوف يؤدي إلى تعميق الإيمان بالغيب، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فُصِّلَتْ: 53] . وقد ترك الرسول عليه الصلاة والسلام للعقل البشري مطلق الحرية في البحث في العلوم الطبيعية حيث قال عليه السلام: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" رواه مسلم 4/ 1836.

ضرورة أن يكون العلم موجها لما يرضي الله سبحانه

سادسًا: ضرورة أن يكون العلم موجهًا لما يرضي الله سبحانه: يجب أن يكون طلب العلم ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى وعدم تَوْجِيهِهِ لدمار الإنسان أو في مجال الشرور أو ابتغاء المكاسب الدنيوية الرخيصة وقد استعاذ رسولنا الكريم من شر علم لا ينفع.

ضرورة العمل على نشر العلم وتعليم الناس

سابعًا: ضَرُورة العمل على نشر العلم وتعليم الناس: أشار الرسول الكريم إلى أن خير الناس هم من يتعلمون القرآن الكريم، ويعلمونه لغيرهم، وَاعْتَبَرَ القرآن الكريم أن حرمان الناس من التعليم ذنبًا يقترفه العلماء الذين يجب عليهم نقل ما مَنَّ الله به عليهم من عِلْمٍ إلى الآخرين، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159] .

استمرارية التعلم وعدم تقيده بسن

ثامنًا: استمرارية التعلم وعدم تقيده بسن: يُنَبِّهُنَا القرآن الكريم إلى أن الله سبحانه وتعالى هو مصدر العلم وهو سبحانه الذي علم الإنسان ما لم يعلم، ومهما نما علم الإنسان فهو قليل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} [الإسراء: 85] ، وطلب العلم فريضة على كل مؤمن من المهد إلى اللحد، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم} .

إيجاد علاقة شخصية وطيدة بين المتعلم والمعلم

تاسعًا: ضرورة إيجاد علاقة شخصية وطيدة بين المتعلم والمعلم: وقد طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ حيث كان يجمع المسلمين في المسجد -الصحابة عليهم رضوان الله الذين صاحبوه عليه الصلاة والسلام- ويوجههم ويربيهم ويرشدهم ويعلمهم مبادئ دينهم الحنيف. وهذه العلاقة لها أهميتها حيث إن القضية لا تتعلق فقط بالمعلومات وإنما تتعلق بالسلوك والقدوة. وفي أحاديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما يشير إلى أهمية صحبة المتعلم لأستاذه، وأثر ذلك في تقويم السلوك وتصحيح القيم والاتجاهات.

نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين

نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين مدخل ... نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين: سوف نعرض هنا نموذجا من الآراء التربوية عند كل من أبي حنيفة أكبر علماء الكوفة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ومالك بن نبي المفكر المعاصر 1905-1973م. وقد جاءت فلسفة أبي حنيفة التربوية في رسالة العالم والمتعلم ورسالته إلى عثمان البني والفقه الأبسط* ويبدأ أبو حنيفة إلى المتعلم أبي مقاتل بإيضاح ثلاثة أمور منهجية: أ- ضرورة النظرية. ب- ضرورة التجديد عن طريق الاجتهاد.

_ * كتاب العالم والمتعلم رواية مقاتل عن أبي حنيفة حيدر أباد 1958هـ ثم نشره الشيخ زاهد الكوثري بمصر 1368هـ، وكذلك نشر هذا الأخير رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البني. -والفقه الأبسط هو رواية أبي مطيع عن أبي حنيفة نشره الكوثري كذلك. مذكور في دراسة للدكتور رضوان السيد مقدمة إلى مؤتمر التربية الإسلامية الذي انعقد في بيروت 1-16 جمادي الأولى 1401هـ وطبع كتاب بعنوان الفكر التربوي الإسلامي صدر عن دار المقاصد الإسلامية -بيروت وسوف نعتمد في عرض آراء أبي حنيفة التربوية على هذه الدراسة- التي محاضرة ألقاها الدكتور رضوان السيد في المؤتمر المذكور

جـ - المعنى الجامع للإسلام. وفي مجال ضرورة النظرية في التربية يقول أعلم أن العمل تبع للعلم، كما أن الأعضاء تبع للبصر. فالعلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير. ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] وهو هنا يركز على أهمية الوضوح النظري ووضوح الرؤية كأساس لتجنب الانحرافات في الفكر والعمل. أما بالنسبة للأمر الثاني الذي يتعلق بمشروعية إعادة النظر والتفكير فإن أبي حنيفة يواجه فيه أولئك الذين يدعون بشكل عام إلى التزام أقوال السلف الصالح، والتنكر لكل ما لم يحدث في أيامهم. وهو يرى أن التغير في الظروف الاجتماعية يبرر مشروعية الجديد في المتغيرات الشاملة منذ أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ومن هذه المتغيرات تكاثر الفرق والخصوم في الدين فإذا كف الرجل لسانه عن الكلام فيما اختلف فيه الناس وقد سمع ذلك، لم يطلق أن يكف قلبه لأنه لا بد للقلب أن يكره أحد الأمرين أو الأمرين جميعًا. فإذا تجاهل العلم ما يقع أمامه من خلافات في الرأي فإما أن يهتم بالجهالة لعدم تمييزه الخطأ من الصواب، وإما أن ينزل به من الشبهة ما نزل بغيره، وإما أن يختلط الأمر عليه فلا يدري من يحب في الله ومن يبغض في الله لعدم إمكان معرفة المصيب من المخطئ. وهذا يعنى عند أبي حنيفة كما تشير محاضرة د. رضوان السيد أن الوضوح النظري ليس فقط مقدمة للتصرف، ولكن مقدمة لكل عمل اجتماعي. والعالم المسلم الحق هو الذى يختلط بالجمهور فلا يوجد علم للعزلة ولا يكون العالم لنفسه ولا يكون العالم المسلم عالمًا إلا إذا بدأت فاعليته الاجتماعية أي تأثيره في الناس وأوجب الله على العلماء أن يبينوا العلم للناس ولا يكتموه. ومن كتمه عن أهله ألجمه الله بلجام من النار يوم القيام. وهذا يعني كما يشير المحاضر المذكور: أ - أن العلم عند أبي حنيفة يعني الرؤية الشاملة الواضحة. ب - يعني كذلك الفاعلية الاجتماعية بين الجمهور.

ج- ويعني ثالثًا الوضوح في التوجه والصدق في تمييز الحق من الباطل. د- وعلى العالم هنا أن يقف إلى جانب الحق وينكر الباطل. والأمر الثالث الذي لا بد منه لاكتمال المنهج التربوي للعالم المسلم عند أبي حنيفة، يتمثل في الفهم الصحيح للإسلام ولرسالته ولأسلوب الدعوة وأصول النقاش حتى مع المخطئين. وهو هنا يقول: "إن الله عز وجل إنما بعث رسوله رحمة ليجمع به الرفقة، وليزيد الألفة ولم يبعثه ليفرق الكلمة ويحرض المسلمين بعضهم على بعض". فعلى المسلم أن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن وأن يبشر ولا ينفر، وأن يوضح للمخطئين خطأهم بالحسنى ولا يتجاوز ذلك إلى القذف والاتهام والتفكير، أو تحريض فئة مسلحة على فئة بسبب الخلاف معها في الرأي. ويجب -في نظر أبي حنيفة- أن يبقى الخلاف بين العالم وخصومه خلافًا في الرأي وليس خلافًا في الدين". وعلى العالم -عند أبي حنيفة- دعوة غير المسلمين للدخول في الإسلام ودعوة المسلمين للالتزام بأحكامه، وهو يرى أن الإسلام هو جوهر جميع الديانات السماوية السابقة وهو الدين الجامع، فهو الدين الذي نادى به جميع الرسل. فهناك دين واحد منذ زمن آدم يقوم على التوحيد. وما دام الدين واحدا فاللقاء أمر ضروري بين جميع الناس لأن الدين واحد وإن اختلفت الشرائع. وعلى العالم المسلم أن يدعو المسلم والمسيحي في إطار الدين الواحد. وهذه هي الفكرة الاجتماعية والحقيقة التاريخية الأساسية التي يجب الالتزام بها. بالإسلام لم يأت به محمد -صلي الله عليه وسلم- بشكل مفاجئ ولكنه الدين التاريخي للبشرية كلها، والمتبع للإسلام إنما يدخل نفسه وبحرية واتساق مع المجرى العام للتاريخ من خلال التعامل مع الرسالة الإلهية الواحدة. وبعد أن يعرض أبو حنيفة لقضية دين الإسلام وموقعه من التاريخ البشري، يتناول الجانب الداخلي للدين وهو الإيمان ويحدده بأنه التصديق والمعرفة واليقين والإقرار والإسلام وهو لا يجعل العلم جزءًا من الإيمان

-تعرض في هذا لكثير من الهجوم- وقد تبنى هذا الرأي معارضًا رأي الخوارج الذين أخرجوا أكثر المسلمين من حظيرة الإسلام واستباحوا قتلهم. والأصل في الإسلام عند أبي حنيفة الجمع والتوحيد والتأليف وليس التمزيق والتفريق والصراع، وهذه رسالة الإسلام ورسالة العالم المسلم -عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يفكر أحدًا من الناس بذنب. ويجب أن يظل الباب مفتوحا للعودة إلى الدين سواء بالنسبة لأداء الفرائض أو التزام الجماعة. ويجب على العالم أن يعمل على انتشار الثقة بالنفس بين المؤمنين. فالإيمان، لأن الإيمان هو التصديق والتسليم لله وهذا لا يتجزأ ولا يزيد أو ينقص. ويؤكد أبو حنيفة أن الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، ولئن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير ... ويؤكد كذلك أنه على المتعلم أن يدرك أن مصادر المعرفة أربعة: كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه واجتهاد قياس وإجماع. وهو يصنف الناس من أجل توضيح أسلوب تعامل العالم مع كل فئة حيث يقول الناس على أربعة أصناف المؤمن المخلص في إيمانه، والكافر الجاحد في كفره، والمنافق المداهن في نفاقه والمعاهد ... وعلى العالم أن يراعي هذا التصنيف. ويركز أبو حنيفة على قيمة العمل وقيام المجتمع على أساس العمل -وقد كان كل الأنبياء من العاملين- وقد فعل ذلك في مقابل بعض الدعاوي إلى ترك الدنيا واعتبار هذا أفضل من التكسب فيها وأوجه الكسب عنده الإمارة والتجارة والزراعة والصناعة أما العلم فليس وسيلة للكسب عنده حفاظا على قيمة العلم والعالم. وأشار إلى ضرورة محاسبة العالم لنفسه ومراقبة سلوكه الشخصي والعام وتقوى الله وأداء الأمانة والنصيحة، ذلك أنه قدوة للمتعلم وللناس. وكانت له آراء في سلوك المتعلم فقد ذكر أنه يحسن إلا يتزوج وإلا يمتهن مهنة إلا بعد التحصيل العلمي الأساسي وهذا يعني التفرغ للعلم في الشباب، وليس معنى عدم الاهتمام بالمال، ولكن يجب العمل على

تحصيله من الحلال للاستغناء به عن وجهاء المجتمع والسلطة. وقدم العديد من النصائح التربوية التي يجب أن يلتزم بها العالم والمتعلم للحفاظ على كرامة العلم والعلماء والحصول على ثقة الناس فيهم*. ومن هذا يتضح أنه كان لأبي حنيفة رؤية تربوية منهجية واضحة في تربية العالم وسلوك المتعلم وأساليب التحصيل العلمي وأسلوب التنشئة الاجتماعية التربوية السليمة وأخلاقيات العالم وأسلوب الدعوة وأسلوب الحوار ومصادر العلم.. مما يتفوق على الكثير من النظريات التربوية المعاصرة. وإذا انتقلنا لعرض موجز سريع لأهم التصورات التربوية عند مالك بن نبي وتصوره لكيفية استعادة الشعوب الإسلامية المعاصرة مجدها الأول كما كان في صدر الإسلام، فإنه يرى أن إيديولوجية التغير وإعادة البناء هي إيديولوجية التغير والبناء نفسها التي انطلق منها المجتمع العربي في صدر الإسلام إذ إن نهضة مجتمع ما تتم في الظروف العامة نفسها التي تم فيها ميلاده. وقد كانت آراء مالك بن نبي موضوع رسائل علمية منها رسالة علي القريشي بعنوان الأسس التربوية للتغير الاجتماعي عند مالك بن نبي والتي سوف تقتطف منها أهم التصورات التربوية عند هذا المفكر المسلم. وهو يرى أن هناك أسسا تربوية للوصول إلى الحضارة. وهو يرى أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها. ويرى لتحقيق هذه الغاية أنه يجب معالجة ثلاث مشكلات أولية للتغير الحضاري وهي: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب "الإمكانات الطبيعية" ومشكلة الوقت "عنصر الزمن". ولتحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات العربية يجب العودة للبنية التي شكلت من خلالها الفكرة

_ * مثل التزام الجلوس في المسجد وعدم الجلوس في الطرقات أو أمام المحلات، وعدم الأكل في الأسواق، وعدم مخالطة التجار والوجهاء ورجال الديوان في البداية تجنبا لإساءة الظن بالعالم، وعدم مجالسة أهل الأهواء إلا على سبيل الدعوة للدين وعدم مجالسة ذوي الجاه والشراء يجب الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويجب على العالم أن يكون فقيه الجمهور وأن يتجنب السلطان ولو كان عالمًا عادلًا.. هذه الصفات وغيرها ذكرها رشوان السيد في المحاضرة التي أشرنا إليها.

الإسلامية والتجربة التأسيسية للمجتمع الإسلامي. وهذا يعني أن نقطة الانطلاق عنده هي الفكرة الدينية ويصنف مالك مراحل تغير الحضارة حيث يرى أنها تمر بثلاث مراحل هي: أ- مرحلة النهضة وهي مرحلة بداية الصعود التي تتمثل في سيادة الروح. ب- مرحلة الأوج أو القمة وهي مرحلة الانتشار والتوسع وسيادة العقل. ج- مرحلة الأفول والانحدار والتدهور وهنا تسود الغرائز. ولهذه الدورة الحضارية مضامين تربوية. ففي المرحلة الأولى يبرز ذو دور الصفوة بوصفهم الدعاة إلى الروح الجديدة. وهذه المرحلة كما يذكر مالك، تربوية وليست تعليمية حيث يكون التركيز على بناء الشخصية وليس على البناء العلمي. أما المرحلة الثانية: وهي مرحلة العقل فإنها تتمثل في اللجوء إلى العلم والحوافز العلمية التي فرضها الانتشار الحضاري، وهنا يسود التفرغ للماديات والأمور العقلية نتيجة لتعقد حاجات المجتمع. وتأتي المرحلة الثالثة: نتيجة للصراع بين العقل والضمير الذي يقضي إلى المرحلة الغريزية. وهو يرى أن المجتمع الإسلامي المعاصر يعيش في هذه المرحلة. ففي غياب الروح والعقل تسيطر الغرائز على سلوك الناس، حيث تظهر عدة خصائص كاللفظية والجمود، والسلبية والقابلية للاستعمار، وفقدان مشكلات الواقع، وهو يرى أن هذه المراحل ليست حتمية -كما هو الحال عند ابن خلدون، حيث يفسح فيها مجال للإرادة استنادًا إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ويوضح ابن نبي الموجهات التربوية التي يعتبرها أسس التغير الاجتماعي، وهي: أ- الفعالية كقيمة أساسية في التغير. ب- المضمون التربوي للأفكار المتغيرة.

ج- الاتصال باللغة المربية وخلق المبررات. د- أهمية المجتمع كوسيط تربوي. هـ- أهمية العلم والتعليم. ويؤكد أن الأفكار الليبرالية والماركسية هى إنعكاس لواقع معين -حضاريًّا أو إيديولوجيا، وهي غير مجدية لواقعنا العربي. وهو يحدد الثقافة بأنها تتضمن العادات والأذواق والقيم التي تسهم في تشكيل الشخصية وتحدد دوافع الفرد وانفعالاته وصلاته بالناس والأشياء ويشير إلى محددات الشخصية، فالشخصية لا تشكل من خلال المدرسة فحسب، ولكنها تحدد من خلال مختلف عوامل البيئة والوسط الثقافي الذي يعيش الفرد. والتخلف عنده هو حاصل ضرب اللافعالية الضرورية في مستوى مجموع الأفراد. ويشير مالك إلى أن الثقافة كنظرية في التغير وإعادة البناء لا بد أن تصاغ صياغة تربوية معتمدة على العناصر الآتية: أولا: التوجه الجمالي: فالقبح يعبر عن التخلف، والإحسان صورة نفسية للجمال وعلى التربية الجمالية أن تنطلق من منطلقات أخلاقية. ثانيا: التوجه الأخلاقي: فقوة المجتمعات وضعفها أمر يرتبط بشكل وثيق بتوجهاتها الأخلاقية. وهو يركز على ربط العلم بالأخلاق وعلى المفاهيم الإسلامية كالإخاء والتعاون والإخلاص ... ثالثا: التوجه العقلي ويشير إلى استخدام المنطق العلمي. رابعا: التوجه العلمي والصناعي ويركز على التوجيه المهني والتربوي بحيث يكون التوجيه العلمي والتكنولوجي ضمن تصميم ثقافة النهضة على نحو تربوي وتعليمي مدروس. وقبل أن يعرض مالك لأساليب إعادة البناء الاجتماعي يشير إلى أزمات الواقع العربي الراهن وأهمها محاولات التجريب المستمرة والغياب

الديمقراطي واختلاف الأهداف وعدم الاسترشاد بنظرية تعليمية واضحة المعالم، وارتجال الحلول والشخصانية واستمرار الصراع بين القوى السياسية بصورة تشبه الصراع مع الاستعمار في أثناء وجوده وغموض التوجهات الفكرية والإيديولوجية ... وكل هذا من شأنه دعم التخلف والتمزق البنائي وإضعاف شبكة العلاقات الاجتماعية وبالنسبة لإعادة البناء وأساسه الأيديولوجي أو العقائدي، فإنه يرى أن الإسلام هو الموجه والمنطلق الأساسي لهذه العملية من حيث كونه عملية واقعية تشريعية في أحداث التحولات الحضارية بمفهومها الشمولي وهذا يعني التوقف عن الاستيراد والتكديس للمنتجات والأفكار والتجارب عن حضارات أخرى، والبعد عن الحلول أحادية البعد، وإعادة بناء الإنسان كأساس تربوي لإعادة البناء الحضاري. ويتحدث مالك عند إعادة البناء السياسي عن إعادة بناء الإنسان سياسيا وعن إعادة البناء الاقتصادي، ينطلق من التصور الإسلامي للاقتصاد وأهمية تحقيق الاكتفاء الذاتي وإعطاء المواد الخام قيمتها المطلوبة من عمليات التبادل، وعدم الاعتماد على رءوس الأموال الأجنبية. ويؤكد على أهمية شعار لقمة العيش حق لكل فم والعمل واجب على كل ساعد، والاعتماد على جهد وعمل أبناء الوطن، ومن المنظور التربوي يتطلب ذلك إعادة صياغة الوعي الفردي بالنسبة للمتغيرات الاقتصادية كالانتاج والاستهلاك والإعداد المهني، ونشر روح التضحية والتقشف. وعند الحديث عن إعادة البناء الاجتماعي، فإنه يعالجه من خلال ثلاثة مستويات وهي:

المستوى الفردي

أ- المستوى الفردي ويعالج خلاله أبعاد الإنسان المستهدفة للتغيير من حيث القدرة على التكيف الاجتماعي وقضية الحرية والنقد الذاتي.

المستوى الاجتماعي العام

ب- المستوى الاجتماعي العام ويعالج من خلاله عدة قضايا تربوية وقيمية والأبعاد التربوية للتخطيط وتصفية القابلية للاستعمار والتراث ووضع المرأة ومشكلة الأمية ومفهوم الديمقراطية والنظر إلى القضايا والمشكلات.

المستوى الإنساني

ج- المستوى الإنساني ويعالج من خلاله قضايا دولية أو عمالية ذات مضامين تربوية مثل تكريم الإنسان، وفكرة الخير، وفكرة الحوار والتعايش بين الشعوب.

مصادر الفصل الرابع

مصادر الفصل الرابع اعتمدنا في هذا الفصل على القرآن الكريم وكتب الحديث المعتمدة. كذلك فقد استعنا بالمصادر الآتية -حسب تسلسل الفصل. 1- أحمد محمد جمال: محاضرات في الثقافة الإسلامية -مصر- مطبوعات الشعب 1975 -مقالته الخاصة بالشباب وقد استعنت بها عند عرض فقرتي- نماذج قرآنية للتربية، ونماذج قرآنية من السنة النبوية. 2- ماجد عرسان الكيلاني: تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية -جمعية عمال المطابع التعاونية عمان 1978- وقد اعتمدنا عليه في عرض أهداف التربية الإسلامية ص34-36 وميادين التربية الإسلامية ص37-54. 3- د. محمد منير مرسي: التربية الإسلامية: أصولها وتطورها في البلاد العربية: عالم الكتب 1978م وقد استعنت به في عرض أسس التربية الإسلامية وأساليبها ص57-73. 4- مناع القطان: مباحث في علوم القرآن -مؤسسة الرسالة 1396هـ 1976م الفصل 21 وقد استعنت به في عرض القصص القرآني كأسلوب تربوي. 5- ماجد عرسان الكيلاني: المصدر السابق ذكره. وقد استعنت به في عرض فقرة مبادئ التعلم في النظرية التربوية الإسلامية ص54-63. 6- الدكتور رضوان السيد: كتاب العالم والمتعلم لأبي حنيفة والمنهج التربوي الإسلامي -المحاضرة الأولي في كتاب الفكر التربوي الإسلامي الصادر عن دار المقاصد الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت وهذا هو الكتاب الثاني لنشر أعمال مؤتمر التربية الإسلامية الذي عقد في بيروت 10-16 جمادي الأولى 1401هـ وقد اعتمدنا عليه في عرض آراء أبي حنيفة التربوية. 7- زكريا فايد الأسس التربوية للتغير الاجتماعي عند مالك بن نبي -عرض لرسالة على حسن على القريشي التي تقدم بها لكلية التربية، جامعة عين شمس بمصر وحصل على الماجستير- وقد قدم زكريا فايد عرضا لها في مجلة الأمة التي تصدر عن رئاسة المحاكم الشرعية

والشئون الدينية في قطر -العدد الخمسون- صفر 1405هـ نوفمبر 1984م، وقد اعتمدنا عليه في عرض الآراء التربوية لمالك بن نبي ص24-27. 8- د. أحمد فؤاد الأهواني: التربية في الإسلام -دار المعارف القاهرة 1967. 9- د. أحمد شلبي: تاريخ التربية الإسلامية -بيروت- دار الكشاف 1954. 10- أبو الأعلى المودودي: منهج جديد للتربية والتعليم -دار النذير- بغداد 1969. 11- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية -جزءان دار الشروق- بدون تاريخ. 11- محمد أسعد طليس: التربية والتعليم في الإسلام -بيروت- دار العلم للملايين 1957.

الفصل الخامس: النظام الاقتصادي

الفصل الخامس: النظام الاقتصادي مقدمة يشير الاقتصاد لغة إلى الاعتدال والموازنة بين الدخول والنفقات، وقد نبهنا القرآن الكريم إلى هذا المعنى عندما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] ، وجاء في التوجيه النبوي الكريم: "ما عال من اقتصد" بمعنى أن من يحسن ويعتدل في معيشته لا يفتقر. وينطبق هذا التوجيه على الأفراد والتنظيمات والجماعات والدول والشعوب. وقد نبهنا عليه الصلاة والسلام أن من فقه الرجل قصده في معيشته. أما الاقتصاد كعلم فهو العلم الذي يبحث في مسألة الثروة من حيث إيجادها وتنميتها واستهلاكها وتوزيعها ويبحث في قضايا الندرة والقيمة والإنتاج والتبادل والتوزيع والتجارة الخارجية ... ومن يرجع إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة والتراث الإسلامي عند العلماء المسلمين مثل ابن خلدون وإلى التطبيقات الاقتصادية خلال عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- وعهد الخلفاء الراشدين من بعده، يدرك أن الإسلام قدم لنا نظاما اقتصاديا متكاملا قبل ظهور العدالة والرخاء في إطار من التكافل والتكامل الاجتماعيين، ويجنب المجتمع النزعة الفردية المسرفة والتي تتمثل في الرأسمالية بشكلها الغربي خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كما يجنبه الجماعة والشمولية المفرطة والتي تنكر على الإنسان فطرته وتطلعه إلى التملك والحوافز الاقتصادية المحركة له وتحيله إلى ترس يدور في عجلة المجتمع. والواقع أنه لا مجال للمقارنة بين نظام الاقتصاد الإسلامي والنظم الاقتصادية الوضعية؛ لأن النظام الأول يرتكز على أسس إلهية سامية صادرة عن الخالق سبحانه الذي خلق الإنسان ويعلم دوافعه ومحركات سلوكه وما يحقق خيره وخير مجتمعه، أما النظم الثانية فهي نظم

وضعية نشأت نتيجة لوقائع وملابسات تاريخية معينة تتسم بالنسبية والتغير ومعرضة للنقد الهادم سواء من حيث النظرية أو من حيث التطبيق.

المنظور الإسلامي للمال أو الثروة المادية

المنظور الإسلامي للمال أو الثروة المادية: يعتبر المنظور الإسلامي للثروة المادية جزءًا لا يتجزأ من صلب العقيدة الإسلامية ذلك لأن الإسلام دين يحقق مجتمعا متوازنا فاضلا أو هو دين الحياة. وقد جعل الإسلام للثروة والمال مكانة كبيرة وأعطاها القيمة الواقعية التي تستحقها ذلك لأن على المال يتوقف العديد من الأمور الدنيوية. وقد وصف القرآن الكريم المال بأنه زينة الحياة الدنيا، وسوى في ذلك بينه وبين الأبناء، ووصف الأموال بأنها قوام للناس، وقوام الشيء ما به يحفظ ويستقيم وهي قوام المعاش والمصالح الخاصة والعامة. ولما كان الدين الإسلامي الحنيف يحقق التوازن الواقعي العملي بين مطالب الروح ومطالب الجسد على أساس معيار دقيق يستند إلى العدل والتعادلية والاستقامة، فقد وجهنا الدين إلى تحصيل الأموال بمختلف الأساليب والأنشطة والأعمال التي تحقق الخير للإنسان ومجتمعه، والتي يتم من خلالها تنمية المجتمع وتحسين أحوال الإنسان وعمارة الكون والتقلب في الأرض والتعارف والتعاون1.

أساليب تحصيل الثروة والأموال

أساليب تحصيل الثروة والأموال مدخل ... أساليب تحصيل الثروة والأموال: يشجع القرآن الكريم كل أساليب تحصيل الثروة التي تحقق خير الإنسان وصالح المجتمع ولا تتعارض مع المعايير المشروعة لاكتساب المال. وأهم هذه الأساليب ما يلي:

التجارة

أ- التجارة: فقد أمر الله سبحانه الناس بالتجارة من أجل تحصيل المال، وبالرحلة اليمنية الشامية اللتين يسرهما الله لقريش من تجارتها، يمن عليهم ويذكرهم بفضله ونعمته: {لإِيلافِ قُرَيْشٍن، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ

وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4] .

الزراعة

ب- الزراعة: فقد وجهنا سبحانه إلى إحياء الأرض وزراعتها واستثمارها، يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32] .

الصناعة

ج- الصناعة: وقد وجهنا سبحانه إلى تحصيل الثروة من خلال الصناعة التي تعد الدعامة الكبرى التي تقوم عليها الحضارات الإنسانية وهي أساس تنمية المجتمعات اقتصاديا. ويشير القرآن الكريم إلى عدة صناعات مهمة -مثل صناعة الحديد وهي صناعة استخراجية وتحويلية يقول تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ، ومثل صناعة الملابس الغزل والنسيج، يقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف: 26] ، ومثل صناعة المعمار والتشييد والبناء، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] ، ويمكن أن يجد المتتبع للقرآن الكريم العديد من الإشارات إلى صناعات أخرى كثيرة. وإذا كان الإسلام يوجه الناس إلى هذه الأساليب الثلاثة الأساسية لصناعة الثروة وتحصيلها، فقد أطلق على السعي في هذه السبل ابتغاء من فضل الله. وأمر بهذا السعي حيث قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] , ولم يأمر بالانصراف عن تحصيل الثروة بالأساليب المشروعة إلا لخصوص العبادة، فإذا انتهت أمر سبحانه بالاستمرار في الابتغاء من فضل الله يقول

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . ثم قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] إذا كان هذا هو أمر تحصيل الثروة، فقد وجهنا القرآن الكريم إلى الاعتدال والوسطية وتحقيق التوازن في استخدامها، وينهانا سبحانه وتعالى عن الإسراف فيها أو الضن بها، حيث جعل الاعتدال في الإنفاق من خصائص عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] . كذلك فإن الإسراف في الثروة أو الضن بها عن الحقوق والواجبات أمر يؤدى إلى اللوم والحسرة ... يقول تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء: 29] . إذا كان الإسلام يوجهنا إلى ضرورة تحصيل الثروة والابتغاء من فضل الله فإنه يوضح لنا الأساليب المشروعة التي تحقق صالح الفرد والجماعة. وهي التجارة والزراعة والصناعة -وهي الأساليب التي تكفل تلبية الحاجات المادية الاقتصادية لأبناء أي مجتمع ولهذا تعد في علم الاجتماع من الضرورات الاجتماعية Social Imperatives التي لا غنى لمجتمع عنها، فإن الإسلام يوضح لنا- في نفس الوقت الأساليب غير المشروعة في تحصيل الثروة وينهى عنها بشدة لما تؤدي إليه من مشكلات اجتماعية وتمزق في العلاقات الإنسانية ولما فيها من الشرور والآثام مثل أسلوب الربا الذي يعتمد على الاستغلال، والسرقة والنهب والسلب والتسول لما تؤدي إليه هذه الأساليب من زعزعة للأمن وتهديد للناس. والأمن أساس مهم من أسس الاستقرار الاجتماعي وتماسك وتكامل الجماعات. كذلك يحرم الإسلام الإتجار فيما يفسد العقل والصحة كالخمر ولحم الخنزير، أو تحصيل المال بأساليب الميسر أو الرقص أو الإتجار في الأعراض، لما تؤدي إليه هذه الأساليب من إفساد للأخلاق وانهيار الأسر وتصدع للعلاقات

بين الناس. كذلك ينهانا الإسلام عن تحصيل الثروة بأسلوب الرشوة لما تؤدي إليه من ضياع لحقوق البعض وضياع للكفايات وأخذ البعض حقوقا ليست لهم على حساب غيرهم. في هذا الصدد يقول تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ، وقد أوضح لنا القرآن الكريم أن الله عاقب بعض خلقه نتيجة لمخالفتهم أوامره سبحانه حيث قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160-161] .

دعوة الإسلام إلي الاستثمار

دعوة الإسلام إلي الاستثمار مدخل ... دعوة الإسلام إلى الاستثمار: قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] ، تنبهنا هذه الآية الكريمة إلى أن الملك كله لله أساسا، وأن الإنسان يجب أن يبتغي في عمله وجه الله سبحانه، وألا يهمل في حقه في الاستمتاع الحلال، ويجب أن يحسن إلى المحتاجين كما أحسن الله إليه، وألا يستهدف في استخدامه لثروته وتنميتها الفساد في الأرض. والإسلام يوجهنا إلى العمل والاستثمار وتنمية الثروة بشكل مشروع. وقد أنزل العاملين منزلة كبيرة في المجتمع، وجعل لهم الفضل على العابدين المنقطعين للعبادة، لأن العمل في نظر الإسلام عبادة متواصلة الأثر محدودة الفائدة. ودعوة الإسلام إلى الاستثمار تتضح من عدة أمور هي:

دعوة الإسلام إلى العمل

أ- دعوة الإسلام إلى العمل: والعمل يعد عنصرًا أساسيًّا أو عاملًا من عوامل الإنتاج في الاقتصاد،

وقد شجع الإسلام على العمل بكافة أنواعه -العمل العقلي والعمل اليدوي- في وقت كان العمل اليدوي حرفة وضيعة لدى الأمم القديمة كاليونان والرومان، وقد غير الإسلام من وضع العمل والعاملين وقيمتهم حيث أضفى على العمل بكل أنواعه قيمة كبرى وصلت به إلى حد العبادة. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت: 33] ، وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] ، وقد ورد عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- العديد من التوجيهات الكريمة التي توضح قيمة العمل، وأن الكسب الذي يكسبه الإنسان من عمله هو أشرف أنواع الكسب وأشار عليه السلام إلى يد رجل تورمت من قسوة العمل بأنها يد لا تمسها النار وأنها يد يحبها الله ورسوله. وقد وسع عليه الصلاة والسلام من مفهوم الخروج في سبيل الله، فمن يخرج للسعي على أولاده الصغار فهو في سبيل الله، ومن يخرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان قد خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان.

تحريم الاكتناز والاستغلال

ب- تحريم الاكتناز والاستغلال: الإسلام يشجع العمل والاستثمارات الفردية لأن عائدها يشمل الفرد والجماعة، لكن الإسلام يحرم الاكتناز Hoarding لأن فيه حبس للمال عن قيامه بدوره الاستثماري في خدمة المجتمع ولما يؤدي إليه من أضرار تلحق بالفرد والمجتمع. فالإسلام يحارب الأنانية لدى المكتنز الذي ينظر إلى المال من خلال مصلحته الخاصة، ذلك لأن المال في نظر الإسلام أداة لإسعاد الفرد ومجتمعه من خلال الاستثمار وما يخرج منه من زكاة وصدقات. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35] .

تحريم الاستثمار الاستغلالي

ج- تحريم الاستثمار الاستغلالي: فالإسلام يتسم بالواقعية الأخلاقية، فهو وإن كان يحث على الاستثمار فهو يشجع على الاستثمار المشروع وينهى عن ألوان الاستثمار غير المشروع التي تتضمن الاستغلال والاحتكار والربا لما تؤديه هذه الألوان الاستثمارية من أضرار تصيب المجتمع وأعضائه ولما فيه من استغلال لحاجة الآخرين. وعلى هذا فإن الإسلام لا يتفق من النزعات الماكيافيلية التي تحاول تحقيق الغايات بأي وسيلة كانت، ذلك أن الإسلام يحدد غايات سامية ووسائل شريفة لتحقيقها. ويشترط الإسلام في عملية الاستثمار تحقيق التكافؤ بين الشركاء من حيث ضرورة اشتراكهم في الربح والخسارة، في المال وفي الجهد، وكل اتفاق لا يحقق هذا التكافؤ هو اتفاق لا يقره الإسلام وبالتالي فهو محرم، أما الاتفاق الذي يتضمن مسئولية كل من الفريقين المتشاركين عن كل خسارة متوقعة فهو اتفاق مشروع حلال. وإذا كان الإسلام قد حرم الاستثمار الذي يخل بالتكافؤ بين الشركاء في العملية الاستثمارية، فقد فتح الطريق أمام أصحاب رءوس الأموال وأصحاب الخبرات والكفايات على أن ينشئوا فيما بينهم اتفاقات لاستثمار إمكاناتهم المالية وخبراتهم الاستثمارية. فأصحاب الأموال يقدمون أموالهم وأصحاب الخبرة يقدمون خبراتهم وجهدهم، ثم يقتسم الجميع الأرباح بالشكل الذي يتفق الطرفان عليه. ويطلق على هذا الشكل من المعاملات المالية المضاربة أو القراض في الفقه الإسلامي. وكلمة مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض وتعني السفر فيها للتجارة والاستثمار لقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْض} . وقد اختار علماء الحنفية كلمة المضاربة لكثرة استخدامها في العراق، بينما استخدم أنصار المذهب الشافعي كلمة القراض وهي من القرض وهو القطع، وكأن صاحب المال قد اقتطع جزءًا من ماله ليسلمه إلى شريكه. وقيل، إن كلمة القراض مشتقة

من المساواة والموازنة. وكأن كل واحد من الشركاء يسهم في الشركة عن طريق المال أو العمل2. وتشير المضاربة أو القراض في الفقه الإسلامي إلى شكل مثمر صحي من أشكال الاستثمار حيث يتم الاشتراك بين عدة أطراف في العقد، طرف يقدم إسهاما ماليا ماديا، وطرف آخر يقدم الخبرة والجهد والعمل على أن توزع الأرباح بين الجميع بنسب محددة ينص عليها في العقد. وهذا الشكل الاستثماري أو من أشكال الشركات الاستثمارية يكفل تنمية الأموال للجميع ويحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية ويوفر الحافز المادي لدى العامل الذي يساهم بجهده ويدفعه للمزيد من الجهد لأنه يعلم أنه شريك في الأرباح*. وقد عرف الفقهاء عقد المضاربة بأنه عقد على شركة بمال من أحد الجانبين والعمل من الجانب الآخر3. وعرفه آخرون بأنه عقد يشتمل على توكيل المالك لآخر على أن يدفع إليه مالا ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما4. والحكمة من الإقرار هذا الشكل من الاستثمار أن أصحاب المال قد لا تتوفر لهم الخبرة الاقتصادية والحنكة اللازمة للمشروعات، وأصحاب الخبرة والحنكة ومن لديهم الجهد للعمل المثمر قد لا تتوافر لهم الأموال اللازمة، وهنا يكون عقد المضاربة محققا لمصلحة الطرفين دون ظلم أو استغلال، على أن يتحمل كل طرف في الخسارة المحتملة ويقتسما الربح في حالة وجوده. وقد طبق عدد من الصحابة هذا الشكل الاستثماري فعلا.

_ * سوف يأتي تفصيل شركة المضاربة عند بيان أنواع العقود المشروعة في الإسلام.

الأسس البنائية للاقتصاد الإسلامي

الأسس البنائية للاقتصاد الإسلامي مدخل ... الأسس البنائية للاقتصاد الإسلامي: يتميز الاقتصاد الإسلامي عن غيره من النظم الاقتصادية القديمة والحديثة بأنه جزء من عقيدة لا تقبل التجزئة ولا تحتمل الشرك، وهو

اقتصاد يحاول السمو بالإنسان إلى مرتبة المخلوق المتصل بخالقه أملا وعملا ومصيرا. والاقتصاد الإسلامي ينبذ النزعات الماكيافيلية التي تجعل سمو الهدف مبررا لدنو الوسيلة، ذلك لأنه يتسم بالواقعة الأخلاقية في وسائله وغاياته. وإذا كان الاقتصاد الإسلامي يدعونا إلى التملك والعمل والاستثمار وتعمير الأرض والضرب فيها ... فإن هناك ضوابط دينية أخلاقية تحكمه تتمثل في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص: 77] ، وهناك خمس اعتبارات يمكن استخراجها من هذه الآية وهي: أ- إن الملك كله لله أساسا. ب- يجب على الإنسان أن يبتغي وجه الله تعالى في كل أعماله. ج- يجب ألا يهمل الإنسان حقه في الاستماع الحلال. د- يجب على الإنسان أن يحسن إلى المحتاجين كما أحسن الله إليه. هـ- أن يتجنب الإنسان توجيه ثرواته وأمواله وأعماله نحو الإفساد في الأرض أو إيذاء الآخرين. ويشير الباحث الفرنسي جاك أوستروي في دراسة له بعنوان الإسلام أمام التطور الاقتصادي5 إلى أن الاقتصاد الإسلامي نظام وسط، وهو ينتقد المذاهب الاقتصادية المعاصرة بقوله: إنه لا توجد طريقة وحيدة ضرورية للإنماء الاقتصادي كما تريد أن تقنعنا المذاهب قصيرة النظر في النظامين السائدين يعني الرأسمالية والشيوعية في دعوى كل منهما بأنها المنهج الاقتصادي الأمثل. ويؤكد الباحث المذكور على ضرورة الاستفادة بالمذهب الثالث في الإسلام، ذلك المذهب الذي يقف موقفا وسطا بين الفردية والجماعية، ويجمع بين حسنات كل المذاهب الاقتصادية المعاصرة إلى جانب أنه يتغلب على جميع الصعوبات الاقتصادية التي يقف الاقتصاد الحديث عاجزا عن معالجتها. ويذهب ماسينيون المستشرق

الفرنسي إلى أن الإسلام يمتاز بأنه يحقق المساواة بشكلها الصحيح من خلال فريضة الزكاة التي يفرضها على الأغنياء لصالح الفقراء، وبتحريمه الربا والضرائب غير المباشرة على ضروريات الحياة ... إلى جانب تمسكه الشديد بالملكية الفردية وبحقوق الزوجة والأولاد ... وهو بذلك يتوسط الرأسمالية والشيوعية. ونستطيع إيجاز أهم أسس الاقتصاد الإسلامي فيما يلى:

الاتفاق مع الطبيعية البشرية

الاتفاق مع الطبيعية البشرية ... أولا: الاتفاق مع الطبيعة البشرية: فالإسلام دين الفطرة وقد شرع الله للإنسان ما يتفق مع تكونه البيولوجي والنفسي والاجتماعي ومحركاته السلوكية ودوافعه، فأباح له حق التملك والعمل والربح والدخول في مشروعات اقتصادية ... بشرط الالتزام بالضوابط التي تستهدف صالح الفرد والجماعة وعدم الظلم أو الاعتداء أو الاستغلال.

تحقيق التوازن بين الفرد والجماعة وبين دوافع الإنسان

ثانيا: تحقيق التوازن بين الفرد والجماعة وبين دوافع الإنسان: يحقق الاقتصاد الإسلامي مبدأ الوسطية المتزنة كما يتضح من العديد من التوجيهات الإلهية والنبوية. قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء: 29] ، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء: 26-27] ويبرز الاتزان في الاقتصاد الإسلامي في موقفه من الملكية. فالملكية في نظر الإسلام ليست ذات طبيعة فردية مطلقة، كما أنها ليست ذات طبيعة جماعية مطلقة وإنما تحقق التوازن بين الفردية والجماعية، يبرز فرديتها من خلال إقرار الإسلام وحمايتها من كل اعتداء عليها، وتظهر جماعيتها من خلال تقييد نموها واستخدامها بمصالح الجماعة.

الضوابط الاقتصادية

ثالثا: الضوابط الاقتصادية: فالاقتصاد الإسلامي يقيد التصرفات الفردية بالمصالح الجماعية. فالفردية المطلقة مرفوضة في الإسلام والاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي يستوجب على المواطن أن يلتزم بعدة أمور منها: أ- عدم كنز الأموال وضرورة استثمار أمواله لما يعود من ذلك الاستثمار من خير على المجتمع في شكل زيادة في الدخل القومي وفتح فرص جديدة للعمل والأجور وتوافر للسلع ... إلخ. ب- أداء فريضة الزكاة الواجبة والمستحقة ونفقات الأقارب أخرى تحقيقا للتكافل الاجتماعي. ج- الامتناع عن ممارسة الربا والغش والاحتكار* في كل الأنشطة الاقتصادية. د- عدم استخدام المال للإضرار بالآخرين، أو للحصول على جاه أو سلطة أو مركز اجتماعي من خلال الرشوة بشكلها المباشر أو غير المباشر هدايا مثلا. هـ- الالتزام بنظام الإرث والوصية كما شرعها الإسلام لما يحققه هذا النظام من بر وتعاون وعدالة في التوزيع وحيلولة دون تكديس الأموال وتركيز الثروة واحتكارها من جانب قلة من الناس. و عدم التقتير لما فيه من كنز للثروة وحرمان للمجتمع وحرمان للشخص

_ * هناك الكثير من التوجيهات النبوية الكريمة التي تنهي عن الغش والاحتكار من أن "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" و "من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه" رواه الإمام أحمد. وقد اختلف الفقهاء في تحديد الممنوع من الاحتكار، فقصره البعض على الأطعمة، والبعض أضاف الملبوسات، لكن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما أشار إلى أن كل ما أضر الناس حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضة. لأن المقصود من منع الاحتكار هو رفع الضرر عن الناس في كل حاجاتهم وضروراتهم. أما الغش فقال عليه السلام: "من غش فليس منا".

صاحب الثروة. كذلك يوجهنا الدين الحنيف إلى عدم الإسراف، لأن الإسراف فيه إضاعة للمال في اللهو واللعب والمتاع الحرام. وولاة الأمور مطالبون بالتدخل في حالات الإسراف في التقتير أو الإسراف لوضع الأمور في نصابها. وقد ارتبطت إباحة العديد من التصرفات -في الإسلام- بألا تحمل معنى الإضرار بالغير -كالوصية الشرعية التي لا يجوز أن يكون القصد منها الإضرار بالورثة وإمساك الزوجة بنية الإضرار بها، وطلاقها بنية الهروب من إرثها. قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 12] ، وقال تعالى في شأن الزوجات: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وقال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" وهذه تعد من أهم القواعد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي. وتشير القواعد الفقهية إلى جواز تقييد الحقوق الفردية إذا ما ترتب على استخدامها الإضرار بالفرد أو الجماعة، منها الحجر على الطبيب الجاهل إذا أساء في معالجته لمرضاه، ومنها جواز الحجر على السفيه إذا أساء التصرف في أمواله حرصا على مصلحته ومصلحة وارثيه ومصلحة المجتمع، ومنها جواز مصادرة الأموال المحتكرة وبيعها بسعر المثل حتى لا يكون الاحتكار وسيلة للإثراء غير المشروع على حساب حاجة الناس، ومنها جواز تحديد الأرباح حتى لا يؤدي جشع التجار إلى استغلال المستهلكين. وهنا تكون إساءة استخدم الحق مبررا لتدخل ولاة الأمر لحماية مصالح المجتمع من العابثين المستغلين.

إطلاق الطاقات الاستثمارية وتشجيع النشاط الاقتصادي المنتج

رابعا: إطلاق الطاقات الاستثمارية وتشجيع النشاط الاقتصادي المنتج: نهى الإسلام عن البطالة والتواكل والإهمال والاكتناز والاعتماد عليه ولم يوجب الإسلام النفقة للفقير القادر على العمل حتى لا يركن إلى

الكسل والخمول اعتمادا على النفقة. وقد دعا الإسلام إلى النشاط الإنتاجي المثمر في مجالات الاقتصاد المختلفة -من زراعة وتجارة وصناعة ... فقد دعا الإسلام إلى إحياء الأرض الموات- وفي كتب الفقه باب خاص بهذه الناحية، ومن أحيا أرضا مواتا تصبح ملكا له لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضا ميتة فله رقبتها" وقد انصرف المسلمون إلى إحياء الأرض الموات تحت تأثير هذا التوجيه الكريم وتحت دافع التملك والربح6. ولم تكتف الدولة الإسلامية بذلك إنما لجأت إلى أسلوب إقطاع الأراضي العامة لم يقدر على زراعتها واستثمارها لأن الدولة لا تستطيع القيام بهذا الاستثمار، وهذا الأسلوب يؤدي إلى زيادة الدخل القومي وزيادة إنتاج الطعام والمواد الخام اللازمة للصناعة الأمر الذي ينعكس على أعضاء المجتمع إنخفاض الأسعار وزيادة الرخاء ... ونفس الشيء ينطبق على العمل الصناعي والتجاري حيث يشجع الإسلام على بذل الجهد في هذه الميادين بالضوابط الشرعية المقررة.

الحيلولة دون التضخم المرضي للثروات الخاصة

خامسًا: الحيلولة دون التضخم المرضي للثروات الخاصة: إذا كان الإسلام أقر حرمة للمال والثروة الخاصة وكفل حمايتها فقد وضع مجموعة من الضوابط التي تحد من التوسع في الثروات الخاصة نوجز أهمها فيما يلي: أ- الالتزام بالأساليب المشروعة في تنمية الثروة، وتقوم الأساليب المشروعة على العمل والكسب البعيد عن الاستغلال أو إضرار الغير. ب- لا يجب توظيف الثروة الخاصة في خدمة تحقيق مصالح المالك لها على حساب الآخرين بأي شكل من الأشكال كالرشوة أو الاحتكار. ج- يجب على صاحب الثروة أداء حق الله فيها من خلال إخراج فرض الزكاة وواجبات التكافل الأخرى، وعلى الدولة أن تجبره على ذلك إن

رفض الامتثال طوعا لأوامر الله، وذلك تحقيقًا لصالح المحتاجين والخير العام. د- نظام الميراث الإسلامي الذي يضمن عدم تركز الثروة وتوزيعها على المستحقين بشكل عادل. هذه ضوابط تكوين الثروة في الإسلام، فإذا استطاع شخص أن ينمي ثروته المشروعة وأن يوفي حقوق الله والمجتمع، فهي ثروة يصونها الإسلام ويحميها ويحترمها.

المجتمع الإسلامي يقضي على الفقر ويعالج مشكلة الاحتياج

سادسًا: المجتمع الإسلامي يقضي على الفقر ويعالج مشكلة الاحتياج: لا تستقيم الحياة الاجتماعية مع وجود طبقة من الفقراء والمحتاجين، في الوقت الذي يصاب فيه البعض من التخمة من كثرة الثروة والمال. وقد عالج الإسلام ظاهرة الفقر بأسلوب فريد متجدد وهو أسلوب الزكاة وهي فرض واجب على كل مسلم قادر. وتقوم الزكاة على مبدأ المشاركة المتجددة من جانب الفقراء في مال الأغنياء سنويا بنسبة محددة في كل عام على جميع أنواع المال المعد للنماء سواء أكان نقدا أو عقارا أو منقولا أو زروعا. ولا يعد عملا خيرا يستحق الشخص الشكر عليه، إنما هو واجب يخرجه المسلم القادر كل عام رغبة أو رهبة وواجب الدولة مراقبة ذلك وتوصيله للمستحقين، فهو واجب على المالك وحق مقرر للمحتاج. وإلى جانب الزكاة هناك واجبات التكافل الاجتماعي الأخرى من نفقات وكفارات وصدقات وديات وأوقاف ووصايا. وقد أقر الرسول -عليه الصلاة والسلام- مبدأ المشاركة بين الأنصار والمهاجرين، وقال في ذلك: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعبد به على من لا زاد له" وليس من المسلمين من بات شبعانا وجاره جائع، وروي عن علي بن أبي طالب أنه

قال: إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه7.

نظام الملكية في الإسلام

نظام الملكية في الإسلام مدخل ... نظام الملكية في الإسلام: تختلف المذاهب الاقتصادية القديمة والحديثة والمعاصرة وتتصارع حول قضية الملكية، فهناك من المذاهب من تطلقها فردية دون حدود، وهناك من المذاهب من تمنع الملكية الفردية نهائيا ولا تعترف إلا بالملكية الجماعية أو ملكية الدولة، وهناك من المذاهب من تتيح فرصة الملكية الفردية بحدود معينة يحددها القانون. وتتصارع الأيديولوجيات المبررة للنظم الاقتصادية، فهناك من الفلاسفة -مثل لوك وبعض فلاسفة العقد الاجتماعي- من يرى أن الإنسان عاش في مرحلة طبيعية Natural State وكانت له خلالها حقوق طبيعية Natural Right في مقدمتها حق العمل والتملك والاجتماع وهي حقوق لم تقرر للإنسان نتيجة لدخوله في عقد اجتماعي يقيم من خلاله المجتمع. وبالتالي لا يحق للمجتمع أن يسلب الإنسان حقه في التملك. وقد استند أنصار الاتجاه الرأسمالي إلى هذه الفلسفة في تبرير حق الإنسان في الملكية المطلقة بغير تدخل من السلطات الاجتماعية. وفي مقابل هذه النظرية استند أنصار الاتجاه الماركسي المتطرف إلى بعض النظريات الزائفة حول أصل نظام الملكية وتطوره -مثل نظرية لويس مورجان L. Morgan الأثنولوجي الأمريكي- والذي ذهب إلى أن الإنسان خلال طفولة البشرية لم يكن يعرف الملكية الفردية، ولم تظهر هذه الملكية إلا من خلال القوة، وعلى هذا فإن الوضع الفطري الطبيعي للإنسان أن تكون الملكية جماعية وليست فردية*.

_ *هذه الفكرة التي تتمثل في القول بداية البشرية قد اقترنت بالملكية الجماعية وأن الإنسان خلال هذه المرحلة لم يعرف الملكية الفردية -فكرة زائفة لأنها اعتمدت على التاريخ الظني أو الفرضي Conjectural History وهو بعيد عن اليقين. وهذه الفترة -طفولة البشرية- لا يوجد لدينا شيء يقيني عنها. وإذا رجعنا إلى التاريخ الاجتماعي للشعوب القديمة التي توجد لدينا بيانات عنها مثل مصر الفرعونية والإغريق والرومان القدماء وبني إسرائيل، نجد أن هذه الشعوب جميعها عرفت أشكال الملكية الخاصة. وفي المصادر الإسلامية اليقينية ما يدل على أن الملكية الفردية ظاهرة ارتبطت بوجود الإنسان. يضاف إلى هذا أن الدراسات النفسية والاجتماعية الصادقة تشير إلى أن النزعة إلى التملك نزعة فطرية، وأن الإنسان البدائي -مهما أوغل في البدائية- يعرف شكلا من الخاصة، على الأقل ملكية ملابسه وأسلحته ومنقولاته ... إلخ.

وعلى العكس من هذه النظريات الزائفة التي تستند إلى تصورات وهمية لا يوجد ما يؤكدها مثل الحالة الطبيعية التي تحدث عنها لوك Lock وطفولة البشرية التي تحدث عنها مورجان والماركسيين من بعده، فقد قدم لنا الإسلام الحنيف تفسيرا صادقا لطبيعة الملكية وحدودها وضوابطها بشكل معجز -لأنها صادرة عن الخالق سبحانه- يحقق التكامل والتوازن بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، وهو الأمر الذي عجزت المذاهب غير الإسلامية عن تحقيقه. والملكية حسب التصور القرآني هي أساسا لله، فالله هو الخالق وهو المالك الحقيقي للكون وللإنسان نفسه ولما في الأرض من ثروات مختلف أنواعها يقول تعالى: - {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] . - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] . - {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63] . - {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة: 68] . - {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة: 72] . - {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 17] .

- {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم} [النور: 33] . - {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه} [الحديد: 7] . ولكن إذا كان القرآن الكريم ينسب الملكية لله أساسا، فقد نسبها في آيات أخرى إلى الإنسان تشجيعًا له وحفزا له على العمل والضرب في الأرض وتعميرها وإشباعًا لغريزة حب التملك في نفسه، واختبارًا له -هل يوظفها في الخير أم في الشر. والإنسان هو خليفة الله في الأرض خلقها له، وخلقه هو لعبادته وتعمير الأرض والتعارف بين الشعوب والقبائل- يقول تعالى في نسبة الملكية للإنسان: - {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة} [التوبة: 111] . - {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} [البقرة: 188] . - {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} [البقرة: 261] . - {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم} [البقرة: 267] . ويستهدف القرآن الكريم من نسبة الملكية للإنسان إثارة عواطف الكدح والكسب في نفسه وبعث الطموح والتنافس وإشعاره بلذة الحياة وفرحة الدنيا حين يحصل -تملكًا- على ثمرات عمله وجهده المشروع هذا إلى جانب إشعار بالمسئولية عن نتائج أعماله وعن حفظ الثروة وتنميتها وأداء الواجبات الدينية والاجتماعية المفروضة عليه، أما نسبتها إلى الله ففيه تذكير للإنسان بالحقيقة وبضرورة عدم الإسراف في الأنانية وعدم توجيهها فيما يلحق الضرر بالإنسان8. ولقد بلغ الأرب القرآني مبلغًا رفيعًا أطلق على ما ينفقه الإنسان في سبيل الله وابتغاء مرضاته -قرضًا حسنًا لله، يرده الله سبحانه إليه أضعافًا

مضاعفة ويجزيه به أحسن الجزاء قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُم} [التغابن: 17] وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] ، مع أن الله هو الغني والخلق هم الفقراء.

واجبات التملك

واجبات التملك مدخل ... واجبات التملك: فرض الله سبحانه وتعالى مجموعة من الواجبات على الملاك -إلى جانب مراعاة تحصيل الثروة من خلال أساليب مشروعة وعدم توجيهها فيما يضر الناس- أهمها ما يلي:

أداء الزكاة التي فرضها الله سبحانه

1- أداء الزكاة التي فرضها الله سبحانه: وهي عبارة عن التزام مالي بنسب محددة يجب على المالك أن يؤديه إلى الفقراء والمحتاجين طبقًا لمصارف الزكاة المحددة -وقد جعلها الله فرضًا دينيًّا حتى يدفع الناس إلى إخراجها رغبة أو رهبة ولما طبع عليه الإنسان من حب للمال.

أداء واجبات التكافل الاجتماعي

2- أداء واجبات التكافل الاجتماعي: يربي المسلم على أساس أن المؤمنين إخوة، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] ، ويقوم المجتمع الإسلامي على الإخوة والتعاون والتكامل والمحبة. والمؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ويقول تعالى: {ليْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] . وهذا هو معنى البر في الإسلام مما يشير إلى أن واجبات المالك لا

تقتصر على أداء الزكاة، وإنما يمتد إلى الإسهام في خدمة المسلمين ودعم الروابط الأخوية وخدمة المجتمع وتحقيق الخير العام.

ضوابط الملكية الخاصة في الإسلام

ضوابط الملكية الخاصة في الإسلام: أقر الإسلام أن لكل شخص الحق في تحصيل الثروة والتملك تلبية للدوافع التي فطر الناس عليها -طالما أنه يؤدي واجباته الدينية والاجتماعية، واستغلال الآخرين، وطالما أنه لا يحصل ثروته وأملاكه من خلال وسائل غير أخلاقية كالإتجار في السلع الضارة بالناس والتي تضر بالمجتمع كالخمور والمخدرات وتهريب العملة والإتجار في الأعراض، وهنا العديد من النصوص التي تفرض ضوابط وقيودا على الملكية إذ ما امتدت لإحداث أضرار بالناس أو المجتمع "لا ضرر ولا ضرار". وقد عرف الإسلام فكرة الدفاع الاجتماعي قبل أن يعرفها الغرب بقرون طويلة، فالضرر بجميع أنواعه ممنوع في الإسلام ويجب اتخاذ التدابير الوقائية لمنع حدوثه وعلاج آثاره إذا دفع. والإسلام لم يكتف بتحريم التصرفات الضارة، لكنه حرم التصرفات المباحة أصلا والتي تقترن بنية الإضرار، إذ لا يجوز للإنسان أن يتعسف في استخدام حقه. فالتاجر الذي يستعمل ملكيته بنية الإضرار بجاره أو شريكه يقدم على عمل محرم. وإذا كان الإسلام يحترم الملكية التي يحصلها الفرد من خلال الأساليب المشروعة -الميراث والجهد البشري المنتج- ويحميها ويصونها، فإنه يحرم الظلم بكل أشكاله وصوره، سواء أكان واقعًا على الفرد من قبل الدولة، أو على المجتمع من قبل الفرد. والأصل في الملكية المشروعة أن تحميها الدولة لصاحبها. لكن قد يكون من الحالات التي تستدعي نزع ملكية خاصة تحقيقًا للصالح العام بحيث يضار المجتمع لو لم تقم الدولة بنزع هذه الملكية- كما هو الحال عندما تتطلب الضرورة والمصلحة العامة إقامة سدود أو توسيع

طرق ... وهنا يكون نزع الملكية جائز شرعًا9. ويروي المؤرخون أن عمر ابن الخطاب أراد أن يوسع المسجد الحرام فطلب شراء البيوت المحيطة بالكعبة ليضمها إلى المسجد، فوافق بعض أصحابها ورفض البعض الآخر. فقام عمر ابن الخطاب بأخذها جبرًا عن أصحابها ووضع قيمتها في خزانة الكعبة ليأخذها أصحاب الدور وقال لهم: "إنما نزلتم على الكعبة وهذا فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم". على أن الإسلام لا يقر الظلم بأي شكل ولهذا فإن واجب الدولة في حالة نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة تعويض المالك بالثمن العادل لأملاكه. أما بالنسبة للممتلكات التي تنمو من خلال طرق غير مشروعة كالربا والاحتكار والإضرار والرشوة والتهريب والامتناع عن أداء الزكاة والإتجار بالسلع المحرمة وتحقيق أرباح فاحشة نتيجة استغلال ظروف معينة مثل ظروف الحرب ... فإن واجب السلطة العادلة أن تدرس كل حالة وتحدد الإجراء الذي يتخذ في كل حالة على حدة، فتصادر كليًّا ما جمع عن طريق الرشوة والربا والاحتكار، وتصادر جزئيًّا ما جمع عن طريق الاستغلال والربح الفاحش، ولها سلطة تقديرية في اتخاذ القرارات العادلة طبقًا لمبدأ لا ضرر ولا ضرار مع مراعاة مبدأ العدالة في كل حالة10. وإذا كان الإسلام يبيح نزع الملكية الخاصة تحقيقًا للصالح العام، فإنه يبيح نزعها في حالة إساءة استخدام الحق وعدم إمكان إيقاف سوء الاستخدام بوسائل أخرى. ويحفل التاريخ الإسلامي بالتطبيقات العديدة لهذا المبدأ. فقد كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار، وكان سمرة يكثر من دخول البستان هو وأهله فيؤذي ذلك صاحب البستان، فشكا إلى الرسول -صلي الله عليه وسلم- فاستدعى سمرة وقال له: "بعه نخلك" فأبى، فقال: "فاقطعه"، فأبى. فقال: "هبه ولك مثله في الجنة"، فأبى، فقال عليه الصلاة والسلام: "أنت مضار" ثم التفت إلى الأنصاري وقال: "اذهب فاقلع نخله"* وهذا يعني أن

_ *مذكور في كتاب أبو زهرة ص22، العسال ص58.

الإسلام لا يحترم الملكية المعتدية المتعسفة، ويوجب الإسلام الحجر على ملكية السفيه والمجنون لأنهما لا يحسنان التصرف ويخشى أن يبددا ثروتهما الأمر الذي يضر بالورثة كما يضر بالصالح العام. وقد أقر الإسلام حق الشفعة والذي يجيز للجار إذا باع جار ملكه لغيره ورأى أن هذا البيع يضر به فله أن يطالب بحق الشفعة وله حق التقدم على الغريب في الصفقة. وهذا يعني أن الملكية الخاصة في الإسلام ليست مطلقة لكنها مضبوطة بأمرين هما: أ- عدم الإضرار بالغير. ب- تحقيق الصالح العام.

أساليب اكتساب الملكية

أساليب اكتساب الملكية مدخل ... أساليب اكتساب الملكية: هناك مجموعة من الأساليب تتحق من خلالها الملكية أهمها*: 1- الكسب بالانتظار. 2- العمل. 3- المخاطرة بالكسب أو الخسارة. 4- الزراعة وإحياء الأرض الموات. 5- العقود الناقلة للملكية بأنواعها المختلفة من بيع وهبة ... إلخ. 6- الخلافة بميراث أو وصية.

_ *اعتمدنا في هذه الفقرة على الدراسة القيمة للشيخ محمد أبو زهرة بعنوان محاضرات في المجتمع -معهد الدراسات الإسلامية- بدون تاريخ ص42-65، ودراسة أحمد محمد العسال، فتحي أحمد عبد الكريم: النظام الاقتصادي في الإسلام -مبادئه وأهدافه- مكتبة وهبة 197.

الكسب بالانتظار

أولا: الكسب بالانتظار: ويقر الإسلام هذه الأساليب جميعها عدا الأسلوب الأخير، وهو الكسب

بالانتظار، ويتمثل في أن يدفع المال إلى الغير لأجل معلوم أو غير معلوم، في نظير أن تؤدي في نظير الأجل أموال الربا. ومنع الإسلام هذا الطريق لأنه لا مخاطرة فيه إذ إنه كسب لا خسارة فيه، فهو ربح مستمر من غير أي تعرض للخسارة، ولأنه يؤدي إلى أن توجد طائفة من الناس لا تسهم في أي عمل إنتاجي وتكون في حالة بطالة إلا ما تقضيه متابعة الدائنين والسير وراءهم وعمل الحساب للأرباح بسيطها ومركبها، ولأن ذلك كسب من غير القيام بأي عمل، لأنه كسب غير طبيعي -كما قال أرسطو فإن النقد لا يلد النقد. يضاف إلى ما سبق أن الربا يتعارض مع مبدأ التكافل الاجتماعي إذ إن التكافل يقتضي التعاون، الذي من صوره التعاون بين صاحب رأس المال والعمل بحيث يكون المكسب والخسارة مشتركة، أي يتحمل طرفي- رأس المال والعمل- المخاطرة معا، وليس ضمان الربح من جانب صاحب رأس المال فقط فهذا هو الربا المحرم. وقد يذهب البعض إلى أن يؤجر أرضه فإنه يحصل على المال من خلال الانتظار دون مخاطرة، فلماذا أباح الإسلام الإجازة وهي ليست إلا كسبا عن طريق الانتظار تماما مثل الربا؟ والواقع أن الإجازة هي دفع عين مغلة مملوكة، ولواضع اليد عليها اختصاص يبيح استغلالها بكل الطرق، والفرق بين المنقود والأرض، أن الأرض مصدر مغل، فغلتها من عمل العامل فيها لا من ذاتها بخلاف الأرض، فليست حصة صاحب الأرض بالإيجار إلا جزءا مما تنتجه الأرض. فإذا كان لها شبه بالكسب بطريق الانتظار فشبهها بالكسب عن طريق الزرع أقوى. وهناك من الفقهاء من منعوا إجارة الأراضي الزراعية ولم يبيجوا إلا المزارعة لأن المزارعة مشاركة، فهي إنتاج زرع ومخاطرة بالكسب والخسارة، ولأنه ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا كان لك أرض فازرعها أو ادفعها إلى أخيك يزرعها" ولم يرد نص بإجارتها. غير أن جمهور

الفقهاء يقرون جواز الإجازة، بل أن بعضهم -مثل بعض الزيدية وبعض الحنفية- منع المزارعة. وعلى أي حال فالفرق واضح بين الإجارة والربا من حيث الكسب بالانتظار، ولعل أوضح الفروق أن الإجارة فيها مشاركة في الخسارة إذا لم تنتج الأرض شيئًا نتيجة للآفات ونحوها. فقد قرر الأكثرون أن الأجرة توضع من باب وضع الجوائح، فإذا نزلت جائحة أسقطت الواجبات التي كانت مرتبطة بما أهلكته الجوائح، وقد وضع ابن تيمية هذه النظرية. وعموما فقد منع الإسلام طريق الكسب بالانتظار متمثلا في الربا لما فيه من استغلال للحاجة ومنع للتكافل الاجتماعي، وحصول طبقة على أموال دون مخاطرة ودون أن يسهموا في أي عمل إنتاجي اكتفاء بالانتظار.

العمل

ثانيا: العمل: يعد العمل هو العامل الفعال في كل طرق الكسب التي أباحها الإسلام وقد ينفرد العمل وحده بالكسب وقد يختلط مع رأس المال فيشتركان في الإنتاج. وجميع الأعمال -يدوية وفنية ومهنية وإدارية- كلها فروض كفاية يجب على الأمة أن تتيح فرص العمل لكل قادر عليه حسب قدراته وإمكاناته من خلال نظام تعليمي دقيق. وقد فصلنا القول في المنظور الإسلامي للعمل وعلاقات العمل وإراحة العاملين وتسهيل أسباب السعادة في هذه الحياة الدنيا، حتى إن الإسلام يعمل على تزويج العاملين الذين لا يستطيعون مئونة الزواج، ويسكنهم في مساكن تليق بهم إذا لم تكن هناك مساكن. قد روى الإمام أحمد عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له امرأة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة". وكل ذلك من بين مال المسلمين. وعلى الأمة ممثلا في الحاكم التدخل لإنصاف العمال المظلومين. ويستوجب الإسلام من العمال الاستمرار في عملهم -عند شكواهم- وعدم تعطيل العمل حتى يبت في شكواهم. وقد رسم الإسلام طريق تأهيل العاملين والكشف عن مواهب الناس لوضع الرجل الصالح في المكان الصالح وتشغيل العمال حسب طاقاتهم ويحدد

ساعات عمل مناسبة للعمال حتى يستطيع الاستمرار في العمل بحالة صحية جيدة بدون إرهاق. كذلك رسم الإسلام سياسة عادلة للأجور. قالمقرر أن الأجور في الأعمال تقدر بقيمة العمل وبما يكفي العامل وأهله بالمعروف من غير تقتير ولا إسراف، ويختلف ذلك باختلاف الأعمال والأشخاص والأصول والأعراف. وتستحق الأجرة على العمل أو على الزمن. ولذلك يقسمون العمل المأجور والعمال إلى قسمين: أ- أجير عام: يستحق أجرته على العمل الذي يقوم به كالخياط مثلا. ب- الأجير الخاص: وهو العامل الذي يأخذ أجره خلال زمن محدد كالعامل الذي أجرته على استمراره في العمل شهرًا أو أسبوعا أو يوما، فهو يستحق الأجرة على الزمن لا على حجم عمل معين. ومن المقررات الشرعية أن العامل يجب أن يوفر له الغذاء الكافي الذي يحمي جسمه، والكساء الكافي والمسكن الذي يليق بمثله والذي تستوفي فيه كل المرافق الشرعية، ويجب أن تكون الأجرة محققة لهذا12.

المخاطرة

ثالثا: المخاطرة: المخاطرة سبب من أسباب يقره الإسلام لأنه حلال، وأساسه الإتجار بنقل البضائع من مكان إلى مكان، وهي في أخص معناها نقل الأشياء من أقليم ينتجها إلى أقليم آخر لا ينتجها، ثم اتسع معناها حتى صارت تشمل البيع والشراء في الأقليم الواحد أو في المدينة أو القرية13. والإسلام يقر هذا الأسلوب لأنه يحقق صالح المجتمع وفائدة أبنائه ويلبي حاجاتهم إلى السلع، وهو يعلو بعلو العمل وبقدر المخاطرة المتحققة مخاطر الطريق والتعرض للخسارة أو لفساد البضائع أو نقصها بفعل المؤثرات الجوية ... وقد شجع النبي -صلي الله عليه وسلم- البضائع من قطر إلى

قطر حيث قال عليه السلام: "الجالب مرزوق والمحتكر خاطئ" والجلب يعني الاستيراد بلغة العصر. وإذا كان الإسلام قد أباح التجارة، فلأنها تشبع حاجة الناس دون أكل لأموال الناس بالباطل. لأنها تحقق التعاون والتكافل الاجتماعي بين البشر فهي تتيح فرص كتبادل الخيرات بين الأقاليم والدول كما تتيح فرص الاتصال الثقافي والتعارف ذلك التعارف الذي يحقق منافع اجتماعية واقتصادية متبادلة بين الناس. ويضع الإسلام مجموعة من الضوابط للتجارة الشريفة أهمها التراضي بين البائع والمشتري في البيع والشراء وتحديد الثمن حرصًا على حرية التبادل. ولهذا حرم الإسلام الاحتكار، فقد روى ابن عمر أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "الجالب مرزوق والمحتكر محروم، ومن احتكر على المسلمين طعامًا ضربه الله بالإفلاس والجذام" وروى أبو سلمة أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "من احتكر يريد أن يغالي المسلمين فهو خاطئ، وقد برئ من ذمة الله" وأهم أسباب تحريم الاحتكار في الإسلام هي: أولا: الإضرار بمصالح الناس حيث تحبس سلعة يحتاج إليها المسلمون حتى وقت الحاجة الشديدة إليها وخلو السوق منها لا يكون الثمن متعادلا مع قيمة السلعة المحتكرة، وهذا ما يجعل الاحتكار يقوم على الاضطرار من جانب المشتري فيفتقد شرط الرضا في التجارة الشريفة. ثانيا: الكسب في حالة الاحتكار يتحقق بالانتظار، وهو كسب حرام فهو كسب يشبه الربا. والأحاديث كثيرة في تحريم الاحتكار بغض النظر عن نوعية السلع -ما دام أن حبس السلع يضر بالناس ... فكبار ملاك الأرض الأثرياء الذين

ينافسون صغار المزارعين في شراء كل قطعة تظهر للبيع فلا يستطيع صغار المزارعين منافستهم -لأنها منافسة غير متكافئة- وهنا يحق لولي الأمر التدخل. وقد اشترط الكثير من الفقهاء عدة شروط حتى يتحقق الاحتكار أهمها14: أولا: أن يكون الشيء المحتكر فائضًا عن حاجة الشخص وحاجة يمونهم سنة كاملة، لأنه يجوز للإنسان أن يدخر حاجه أهله حيث ثبت عن النبي -صلي الله عليه وسلم- أنه كان يحبس قوت سنتهم من الطعام إن تسنى له ذلك. ثانيا: أن يكون المحتكر ينتظر فرصة لارتفاع ثمن السلعة حتى يبيعها بأثمان فاحشة حين تشتد حاجة الناس إليها. وهنا يجد الغني سبيلا إلى شرائها وسد حاجته منها ولا يجدها الفقير أو غير الميسور. ثالثا: أن يكون الاحتكار في وقت احتاج الناس إلى الشيء المحتكر، فلو كان الشيء أو السلع في أيدي عدد من التجار، ولكن لا يوجد ضيق عند الناس، فلا يعد ذلك احتكارًا؛ لأن السبب في المنع هو رفع الضرر عن الناس*. وفي سبيل مواجهة المشكلات الاقتصادية في مجال المعاملات بالبيع والشراء فقد وضع الإسلام مجموعة من الضوابط أهمها: أولا: منع الاحتكار بأن تباع السلع المحتكرة جبرًا عن صاحبها بالسعر

_ * ويضيف بعض الفقهاء مثل أبي حنيفة شرط رابع وهو أن تكون السلعة المحتكرة مشتراة من ذات الإقليم الذي ظهرت فيه الضائقة، أما إذا كانت مجلوبة من إقليم آخر، أو كانت إنتاجًا للمالك الذي انفرد بالملكية فإن أبا حنيفة لا يعده احتكارًا. وقد بنى رأيه على احترام الملكية الفردية وعدم التعرض لها إلا ثبت ضرر مؤكد، وهو لا يعتبر أن انفراد الشخص ببيع بضاعته المجلوبة أو التي أنتجها بالزراعة ضررًا لأن الجلب ذاته خير والإنتاج خير للجماعة، ولو أجبر الجالب على البيع بأسعار ما قبل الندرة لامتنع الناس عن الجلب أو عن الاستيراد مما يزيد في ضائقة الناس. كذلك الأمر في الإنتاج الذي يجب تشجيعه15.

المعقول أو يجبر هو على البيع -تحت تهديد العقوبة- دون استغلال. ثانيًا: كثرة الجلب أو استيراد السلع تطبيقًا لقانون العرض والطلب الذي عرفه المسلمون قبل الغرب بعدة قرون. وقد لجأ عمر بن الخطاب إلى الإكثار من الجلب من الأقاليم الإسلامية الخصبة خلال عام الرمادة -فقد أرسل إلى عمرو بن العاص والى مصر يقول له: "الغوث الغوث" فأجابه عمرو: "ستكون عير أولها عندك وآخرها عندى". ثالثًا: وضع تسعيرة محددة للسلع تحدد أثمانها بشكل يحقق كسبًا محدودًا للتجار بحيث لا يظلم المالك ولا المشتري. وهناك من الفقهاء من أجاز التسعير لأنه يدفع الأذى عن الناس ويمنع الاحتكار ويمكن المستهلك من الحصول على ما يحتاجه من سلع بأجر معقول، ولأنه هو السبيل لإجبار التجار على البيع بأسعار معقولة، ولأن واجب الحاكم تأمين حاجة الناس حسبما يستطيعون وهذا لا يتحقق إلا من خلال تسعيرة السلع. ولكن هناك من الفقهاء مثل أبي حنيفة من لا يجيز التسعير لقول النبي صلي الله عليه وسلم: "لا تسعروا فإن المسعر هو الله" ولأن التسعير يؤدي إلى اختفاء البضائع من السوق الظاهرة وظهورها في السوق الخفية السوداء. وفي هذه الحالة الأخيرة تكون المغالاة في الأسعار أشد مما يضر بالفقراء. ويذهب بعض الفقهاء إلى رأي وسط وهو التسعير علاج مؤقت مع العمل على غمر الأسواق بالسلع من خلال الجلب، لأن التسعير وحده دون جلب يؤدي إلى ظهور السوق السوداء، أما كثرة الجلب سوف تؤدي إلى كثرة العرض حتى يكون أكثر من الطلب فيتنافس التجار على البيع، كل هذا لصالح المستهلك. ونخلص مما سبق إلى أن الإسلام أباح التجارة ورغب فيها وباركها

لكنه قيدها بضوابط تدفع الأضرار وتجلب المنافع، مثل التراضي وحرية الاتجار وتحدث الفقهاء عن تنظيم الاتجار في الدائرة الشرعية فتكلم الفقهاء عن قيد السلم وهو البيع الذي يكون المبيع فيه مؤجلَا والثمن معجلَا لينتفع بذلك من عنده مال ويريد بضاعة مستقبلًا ومن ينتظر بضائع، أو من ينتج زرعًا ويريد مالًا عاجلًا. كذلك تحدث الفقهاء عن عقد المرابحة بأن يبيع التاجر ما عنده على نسبة معينة في الثمن تكون ربحًا، وتحدثوا كذلك عن عقد التولية بأن يكون البيع بمثل الثمن -وذلك عادة يكون بين التجار أنفسهم ليسد كل تاجر نقص بضاعته مما عند الآخر ... ويحرص الإسلام أن ينطلق كل تنظيم اجتماعي أو اقتصادي للسلوك الإنساني من منطلق دفع الضرر وجلب المنفعة وتحقيق التعاون والتكافل الاجتماعي بين الناس. ولهذا يحرم الإسلام بيوع الغرر - والغرر هو الخطر وقال ابن عرفة هو ما كان ظاهره يغر وباطنه مجهول- وقال صاحب المشارف: بيع الغرر وهو بيع المخاطرة وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله. وبيع الغرر يعنى إذن البيع الذي لا يتحقق من نتائجه ذلك لأن هذه النتائج تكون متوقفة على أمر مستقبل مجهول قد يقع وقد لا يقع. مثال هذا بيع الثمار قبل نضجها، أو بيع السمك في الماء، أو بيع الحيوان قبل ميلاده ... وتحريم هذا النوع من البيع ثابت بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام. فعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن بيع الغرر رواه مسلم وعن علي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة حتى تدرك" رواه أبو داود. وحكمة تحريم هذا النوع من البيوع سد باب الخلافات والمنازعات المحتمل حدوثها بين المتعاملين، طالما أنها تشبه المقامرة التي لا تنتهي في الغالب إلا بحدوث مشكلة.

الزرع وإحياء الأرض الموات

رابعًا: الزرع وإحياء الأرض الموات: شجع الإسلام على الزراعة وحث المسلمين على الاهتمام بالزراعة

تقديرًا لأهمية الزراعة لأنها هي مصدر الغذاء ومصدر المواد الخام للصناعة، قال عليه السلام: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة" رواه البخاري -ويشير هذا الحديث إلى ان الزارع في صدقة مستمرة لأن زرعه لا يمر عليه يوم إلا ويأكل منه طير أو بهيمة أو إنسان أو يأكلون منه جميعًا. والزراعة تتضمن عملًا بشريًّا من جانب المزارع إلى جانب تفويض الأمر إلى الله سبحانه بعد أن يؤدي ما عليه. وتقديرًا من الإسلام لأهمية الزراعة، وحفزًا للناس على إحياء الأرض بالزراعة، جعل مكافأة من يحيي أرضًا- لا تنتج زرعًا وغير مملوكة لأحد- أن يتملكها. ولكن ما معنى الأرض الموات؟ هي الأرض التي تعطل زرعها لانقطاع الماء عنها، أو لغمر الماء لها، أو لكون طينتها غير صالحة للزراعة16. ويتمثل الإحياء هنا في إزالة السبب المانع من زراعتها، فإن كان مواتها بسبب غمر المياه لها فإحياؤها بإقامة السدود، وإن كان بسبب قلة المياه فإحياؤها بإجراء المياه لها وحفر الآبار واستخدام آلات الري، وإن كانت غير مستوية سويت وإن كانت الأرض تحتاج إلى تسميد وإضافة المخصبات فعلى المزارع لها ذلك. ويشترط لاعتبار الأرض مواتًا ألا يكون منتفعًا بها بأي شكل من الأشكال -مرابض للحيوانات أو ملاعب للخيل يتريض فيها الناس ... إلخ ولعل هذا هو ما جعل الفقهاء يشترطون لاعتبار الأرض مواتًا أن تكون بعيدة عن العمران حتى لا تكون مرفقًا من مرافقه أو يمكن أن تكون كذلك مستقبلًا -هذا إلى جانب أن إحياء أرض بعيدة يسهم في امتداد العمران وتنمية الثروات. ومن الفقهاء من وضع حد للبعد عن العمران، ومنهم من ترك ذلك للعرف. وإحياء الأرض الموات يكون واجبًا على القادر في حالة ما إذا كانت غير مملوكة لأحد، فإذا كان لها مالك فإن عليه إحياءها وإلا حق لولي الأمر نزعها منه وتسليمها لمن لديه استعداد وقدرة على إحيائها.

وهناك من الناس من يضع سورًا حول أرض غير مملوكة لأحد، لكن حيازتها أو وضع اليد عليها وتحجيزها -أي تسويرها- ليس مثبتًا للملكية لكنه مثبت للأولوية أو الأحقية في الزراعة والإحياء، وهي سند الملكية الحقيقة. لكن هذه الأولوية في الاستصلاح والاستنزاع لا تستمر إلى ما لا نهاية، ذلك لأن معنى هذا أن واضع اليد الذي لا يزرعها يحرم غيره من الانتفاع بها كما يحرم الأمة من الانتفاع بخيراتها. لهذا حدد الرسول -صلي الله عليه وسلم- لواضع اليد ثلاث سنوات كفرصة لزراعتها أو محاولة ذلك وإلا تنزع منه وتعطى لآخر أقدر منه ولديه الاستعداد. قال عليه السلام: "من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين" وقد روي مثل ذلك عمر بن الخطاب. والإحياء سبب للملكية باتفاق الفقهاء لورود نص واضح عن الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك. لكن هناك خلافا بين الفقهاء حول اشتراط إذن الإمام. فهل الإحياء وحده سبب للملكية دون إذن الإمام أو باشتراط إذنه؟ وقال أبو حنيفة: الإحياء سبب الملكية ولكن شرطها إذن الإمام. ويحكي أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة هذا الخلاف في كتابه الخراج17 وبين وجهة نظره هو التي هي وجهة نظر جمهور الفقهاء كما بين وجهة نظر شيخه*. ونستطيع القول: إن الجمهور ينظرون إلى الواقع وليس إلى

_ يذهب أبو يوسف في كتابه الخراج ويقول: "وكان أبو حنيفة -رحمه الله- يقول: من أحيا أرضا مواتا فهي له إذا أجازه الإمام ... ومن أحيا أرضا مواتا بغير إذن الإمام فليست له، وللإمام أن يخرجها من يده ويصنع فيها ما يرى من الإجارة أو الإقطاع وغير ذلك". قيل لأبي يوسف ما ينبغي لأبي حنيفة أن يكون قد قال هذا إلا من شيء لأن الحديث قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" فبين لنا ذلك الشيء فهل سمعت عنه في هذا شيء يحتج به؟ قال أبو يوسف حجته في ذلك أنه يقول الإحياء لا يكون إلا بإذن الإمام، أرأيت رجلين أراد كل واحد منهما أن يختار موضعًا واحدًا، وكل واحد منهما منع صاحبه أيهما أحق؟، أرأيت إن أراد رجلا أن يحيي أرضا ميتة بفناء رجل وهو مقر أنه لا حق له فيها، فقال لا يحق له فإنها بفنائي وهذا يضرني، فإنما جعل أبو حنيفة إذن الإمام في ذلك ههنا فصلا بين الناس، فإذا أذن الإمام في ذلك لإنسان كان له أن يحييها وكان ذلك الإذن جائزا مستقيما وإذا منع الإمام أحد كان ذلك المنع جائزًا، ولم يكن بين الناس التشاح في الموضع الواحد، ولا الضرار فيه مع إذن الإمام ومنعه، وليس ما قاله أبو حنيفه يرد الأثر، إنما رد الأثر أن يقول: وإن أحياها بإذن الإمام فليست له، فأما أن يقول هي له فهذا اتباع ولكن بإذن الإمام ليكون إذنه فصلًا فيما بينهم من خصوماتهم ومنع إضرار بعضهم ببعض، أما أنا فأرى إذا لم يكن ضررًا على أحد، ولا لأحد فيه خصومة أن إذن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قائم وقال: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق".

المتوقع، فهم يقولون إنه إذا لم يكن خلاف ولا نزاع فإن الإحياء وحده سبب للملكية، وأبو حنيفة يتوقع الخلاف فيعمل على الوقاية منه قبل وقوعه -ويذهب أبو حنيفة إلى أن سلطان الدولة قائم على الأراضي كلها- مواتًا أو غير موات -وأن غير الموات عليها سلطان لأصحابها، وأصحابها في ولاية الإمام العامة المنظمة للحقوق والواجبات فيها ولهم سلطان محدود، الشيخ محمد أبو زهرة في دراستة عن المجتمع الإسلامي18 إلى أن هذا الرأي الأخير يتفق مع نظام الولاية الإسلامية وهو أجدر بالقبول لقول النبي صلي الله عليه وسلم: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه". وإذا كان الإحياء سبب للملكية فإن الملكية لا تنتقل إلى غير المحيي إلا بسبب مشروع من أسباب انتقال الملكية، وإذا ما عادت مواتًا وهي في يد المحيي أو يد وريثه، فإن الملكية لا تزول وعلى ولي الأمر الحاكم أن يلزمه بالإحياء لأن تركها مواتًا يضر بالصالح العام. وقد اختلف الفقهاء في هذا الأمر -فالإمام مالك يرى أن الملكية تزول لأن العلة في التملك الإحياء وقد زال، فإذا زال السبب بطل المسبب. والإحياء كاصطياد الحيوان، فالاصطياد هو سبب الملكية، فمن اصطاد سمكًا من البحر ولكن سقط في الماء حيًّا تزول ملكيته. وقد ناقش الفقهاء قضية مهمة وهي ملكية الرقبة والمنفعة -فهل التملك بالإحياء يؤدي إلى ملكية الرقبة أم المنفعة أم لكليهما؟ يذهب بعض الفقهاء أنه في البلاد المفتوحة- إذا كان المحيي مسلمًا- ملك الرقبة والمنفعة، وإذا كان غير مسلم فإن الملكية تكون للمنفعة فقط -لأن

المسلم سوف يخرج الزكاة على الزرع والثمار -والزكاة عبادة إسلامية لا يلزم بها غير المسلم احترامًا من الإسلام لحرية العبادة. ولهذا فإن غير المسلمين يجب عليهم دفع الخراج الذي هو في طبيعته مقاسمة بين الدولة وواضع اليد تحقيقًا للتكافل الاجتماعي حيث تلتزم الدولة المسلمة بتغطية حاجات فقراء غير المسلمين. وهناك رأي ينظر إلى القضية -ليس من زاوية المحيي ولكن من زاوية طريقة الحصول على الماء الذي ينبت الزرع ومصدره، فنوع الملكية يتبع الماء فإن كانت تسقى من ماء السماء أو من الآبار أو بماء الأنهار العظام التي لا تقع في قبضة أحد فإنها تكون مملوكة الرقبة وتكون الأرض عشرية لأن هذه المياه لم يكن لغير المسلمين سلطان عليها. أما إذا كانت تسقى من نهر حفره غيرالمسلمين فإنها تكون خراجية أي لا تكون الملكية فيها تامة- هذا إذا كان الذي أحياها مسلمًا، أما إذا كان الذي أحياها غير مسلم فإنها تكون خراجية تحقيقًا للتكافل الاجتماعي بدون مساس بحرية العقيدة. هذا هو التصور الإسلامي لإحياء الأرض بالزراعة والعمران والتسوية وتقسيمها إلى بيوت وإنشاء قرى وتحويل الصحاري إلى مناطق زراعية مثمرة عامرة. وفتح باب الإحياء في الحقيقة هو فتح لباب العمارة في الأرض وتنمية الثروة ومواجهة مشكلات تزايد السكان وتحقيق للتطلعات المشروعة المتزايدة للناس وللتعاون بين الناس، ذلك أنه مع نمو الزراعة تنمو مقادير الزكاة ومقادير الخراج مما يحقق النفع للجميع. وقد قرر الفقهاء أن وجوب الزكاة في الزرع وجوب مقاسمة فهي بمقدار عشر ما تخرجه الأرض إن سقيت بغير آلة، وبمقدار نصف العشر إن سقيت بآلة. وبذلك يكون بيت مال الزكاة شريكًا لمن أخرج الزرع أو تعهد الغراس، الأمر الذي يجعل من الإحياء سبيلًا لتحقيق التنمية الاقتصادية من جهة، ولتحقيق أعلى درجة من درجات التكافل الاجتماعي بين أعضاء المجتمع من جهة أخرى.

العقود الناقلة للملكية

خامسًا: العقود الناقلة للملكية: يستهدف الإسلام تنمية موارد الأمة من خلال كافة أساليب التنمية الاقتصادية، تنمية زراعية وتنمية صناعية بكافة أنواعها وتبادلات تجارية داخلية أو تجارة خارجية ... كل ذلك من أجل تحقيق الحياة الطيبة للمؤمنين التي تخلو من مشكلات الجوع والخوف والتي تتسم بالأمن والعدل والتكافل والإخاء وتبادل المنافع والمصالح دون احتكار أو اكتناز أو استخدام للنفوذ في الإثراء غير المشروع أو عنصرية لون أو دين أو مركز حتى لا تكون الأموال دولة بين الأغنياء وحدهم، وذلك وعد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حيث قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ووعيد الله شديد عند كفران نعمه وحبس خيراته عن عباده حيث يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . ويضع الإسلام خطوطًا عامة في مجال تنظيم الإنتاج والاستثمار أو التنمية الاقتصادية بشكل عام، حتى يمكن مراعاتها في كل مكان وزمان، وبشكل يتفق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويحافظ على حق الإنسان في التملك والعمل والتعمير، غير أن كل عمليات التنمية الاقتصادية يجب أن تدور في دائرتين أساسيتين هما: أولًا: دائرة الحلال، والله لا يحب المفسدين. ثانيًا: دائرة العدل: والله لا يحب الظالمين.

والعقود من الأساليب التي يتم من خلالها التملك والكثير من المعاملات الاقتصادية سواء في مجال الإنتاج أو الاستهلاك أو التوزيع، وهي مجالات الاقتصاد الأساسية. وهناك عدة أسس تستند إليها العقود في الإسلام، تلك العقود التي يطالبنا القرآن الكريم الوفاء بها: أولًا: عقود المعاملات يُنظر فيها للمقاصد والمصالح، فإذا كان الأصل في العبادات الالتزام بما جاء به الشرع والتقيد بالصور التي أمر الله بها لأنها تستهدف التقرب إلى الله وتحقيق الصلة المستمرة بين العبد وخالقه، فإن الأصل في المعاملات تحقيق مصالح العباد في الحياة ورفع الحرج عنهم بعيدًا عن الباطل والظلم والحرام. ويفسر ابن تيمية -رحمه الله- هذا الفرق بين العبادات والمعاملات19 أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم. فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيها عدم الحظر، فلا يحظر منها إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد وأن تكون مأمورًا بها. فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه أنه عبادة؟ وما لم يثبت أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} [يونس: 59] ، ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله في سورة الأنعام حيث قال

تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 136-138] ، ومن صحيح مسلم عن عياض بن حرام رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاحتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا". وهذه القاعدة عظيمة النفع في مجال التنمية الاقتصادية، وبناء عليها فإن البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج إليها الناس في معاشهم كالأكل والشرب والملبس وضعت لها الشريعة آدابها فحرمت منها ما يؤدي إلى الفساد أو ما فيه حرمة أو ظلم وأوجبت ما لا بد منه وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة. ثانيًا: تنعقد العقود في الإسلام بكل ما يدل على مقصودها: يهتم الإسلام بالجوهر والمضمون والقصد وليس بالشكل ولهذا وبناء على الأصل السابق فقد حرر الإسلام العقود من الشكلية فلم يشترط لها صيغة محددة حيث اعتبر كل ما دل على إيجاب وقبول عقدًا وترتب عليه آثاره ما دام قد أبرمه من لهم أهلية التعاقد وتم فيما يجوز التعاقد معه. وهذا يدل على مقدار مرونة الإسلام حيث إن هذا المبدأ يتسع لعوائد الناس وأعرافهم ويسمح للاختلافات الناجمة عن اختلاف الثقافات بين المجتمعات*.

_ * يقول ابن تيمية رحمه الله: فكل ما عده الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال. وليس لذلك حد مستمر لا في الشرع ولا في اللغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم. فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة، بل قد تختلف أنواع اللغة الواحدة. ولا يجب على الناس التزام نوع من الاصطلاحات في المعاملات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذ كان ما تعاقدوا به دالًّا على مقصودهم وإن كان يستحب بعض الصفات. وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد.

وهذا يعني أن القاعدة العامة هي أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} [النساء: 3] . ويقول تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ويقول تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] ، {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة المشروع فيها هذه العقود ويتضح منها عدة أمور أهمها: أ- التراضي في العقود -ولا يوجد لفظ محدد يوضح التراضي لأنه أمر معروف ومتروك للثقافات المحلية والأعراف. ب- من الأسماء ما يعلم حده باللغة -كالشمس، ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق- وما لم يكن له حد في اللغة أو الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس -كالقبض المذكور في قوله صلي الله عليه وسلم: "من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه" ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوهما لم يحدد الشرع لها حدًّا وتركها للأعراف. ثالثًا: لا تتم العقود في الإسلام إلا برضا المتعاقدين واتفاقهما: يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وهذه الآية في المعاوضات، أما في التبرعات يقول تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . وقد وفر الإسلام

الحماية الكاملة والرعاية التامة لموضوع رضا الطرفين باشتراط أهلية التكليف للمتعاقدين، وبأن أفسح المجال للخيار بين المتعاقدين، ومن ذلك خيار الغبن وخيار المجلس وخيار الشرط وخيار الرؤية مما تفصله كتب الفقه. رابعًا: يوجب الإسلام توثيق العقود؛ ضمانا للحقوق وإقامة العدل بين الناس. ويكون التوثيق بالكتابة والإشهاد عليها حتى لا يتنازع الناس فيما بعد ولا يحدث ظلم أو تظالم ولحسم المسائل عند حدوث الاختلاف. يقول تعالى في سورة البقرة آية 282: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . - {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} - {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} - {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} - {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} - {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} - {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} - {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} - {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} - {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

- {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُم} - {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . هذه الآية رقم 282 من سورة البقرة نموذج فريد من الإعجاز التشريعي في مجال العلاقات الاقتصادية يعلمنا فيها الله سبحانه وتعالى أصول هذه العلاقة في مجال التوثيق لأنه خالق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وما جلبت عليه النفوس من التباين والتقلب والمطامع والجحود ... إلخ خامسًا: يجب أن تحقق العقود العدل بين المتعاقدين وتتجنب الظلم: الأصل في مبادئ الاقتصاد الإسلامي ألا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، ولا تطيب النفس إلا بأن تقدم ما عندها طائعة غير مكرهة -راضية بدون غش أو خداع- وكما يقول ابن تيمية: إن من العدل ما هو ظاهر يعرفه كل واحد بعقله مثل وجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان- ووجوب الصدق وتحريم الكذب والخيانة وإن جزاء القرض الوفاء والحمد21. ومن العدل ما هو خفي فصلته الشريعة الإسلامية عندما حَرَّمَتْ كل المعاملات التي تسبب أكل المال بالباطل كعقود الربا والميسر وما يجري مجراهما مثل بيع الغرر وحبل الحبلة، أو العقود التي تقوم على الغش وإخفاء العيب في المبيع لأن باطنها يحمل الظلم والاستغلال والكذب وهي ما لا تتفق مع القيم الإسلامية. سادسا: وجوب تحقيق العقود والمعاملات لمقاصد الشريعة في العبادة والأخلاق: فإذا كانت العقود والمعاملات الاقتصادية الإسلامية تستهدف تحقيق

مصالح الناس في الكسب وتبادل المنافع وتيسير وسائل الحياة ... فإنها يجب أن تلتزم بأصول العقيدة والقيم الإسلامية وإلا فإنها تنقلب إلى أساليب تدمر الإنسان ومجتمعه من خلال جرائم الغش والسرقة والاختلاس والرشوة -كما أنها تفكك علاقات الأخوة بين الناس- قال صلي الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] . وقد ذكر عليه الصلاة والسلام أن من يكون مطعمه حرام وملبسه من حرام ومشربه من حرام فإن الله لا يستجيب له الدعاء. وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنون بأنهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37-38] ، ولهذا فقد حدد الإسلام مجموعة من المبادئ الأخلاقية في مجال المعاملات الاقتصادية منها: أ- النهي عن البيع وقت النداء للصلاة وخاصة الجمعة -وقد اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] . ب- النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه لما في هذا من اعتداء على حق ثبت للمشتري الأول مما يؤدي إلى اختفاء روابط الثقة والأخوة وظهور الصراع والحقد وانعدام الثقة. ج- النهي عن بيع الأشياء التي يستعملها مشتريها فيما حرم الله -فلا يجوز بيع العنب لمن يتخذه خمرًا أو بيع السلاح للصوص الذين يهددون أمن المسلمين. د- النهي عن التحايل على الحرام كالطرق التي يتحايل بها التجار على أكل الربا بما يستعملونه من بيانات وهمية كعملية بيع السكر أو الأرز

أو أي سلعة بسعر عالٍ للمحتاج الذي يبيعها بسعر أقل ليدخل فرق السعر في جيب التاجر تحايلًا على أخذ الزيادة مقابل القرض -وهذا ما نهى عنه الرسول صلي الله عليه وسلم. سابعًا: لا تتم العقود إلا بضبط المقادير وتحديد الأثمان؛ تجنبًا للتغابن والنزاع واحتمال الصراعات، ولهذا حرم بيع الغرر لما فيه من جهالة الثمن أو المثمن. وعن بيع ما في بطون الأمهات والسمك في الماء. وينبغي عند اختلاف الأصناف تقويمها بالنقد تحريًا للعدل وابتعادًا عن المراباة. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال النبي: " لا تفعل، بع الجمع -التمر الرديء- بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا -أي: تمر جيد-" وقد قص القرآن الكريم علينا قصة نبي الله شعيب الذي طالب قومه بالوفاء بالكيل والميزان دون تطفيف أو بخس للناس أشياءهم وقد نزلت سورة بأكملها تهدد المطففين بالويل وهي سورة المطففين. وقد اهتم الاسلام بقضية ضبط المقادير والوفاء بالكيل والميزان والبعد عن التطفيف، وقد ظهرت وظيفة المحتسب في الدولة الإسلامية لمراقبة الأسواق والتأكد من سلامة الموازين والقضاء على الغش والخداع في مجال المعاملات الاقتصادية. ثامنًا: يوجب الإسلام الصدق والإحسان والسماحة وتحريم الغش والتدليس والالتواء، وفي الكتاب والسنة العديد من الأدلة على هذا المبدأ. أنواع العقود الاقتصادية: رفع الله الحرج عن عباده فأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، والأصل في المعاملات الاقتصادية الإباحة لا الحظر إلا ما كان محرمًا، ولهذا فإنه يجب الاستحداث في العقود طالما أنها تحقق الشروط الإسلامية

وهذا من يسر الإسلام وشموله22. وسوف نورد بعض أنواع العقود التي يقرها الإسلام. أولًا: عقد تمليك مال بمال على وجه التراضي: ويشترط في العاقد العقل والتمييز وأن يكون له حق الملك والولاية على ما بيده، كما يشترط أن يكون المباع مباحًا متقوَّمًا، وأن يكون مقدور التسليم. وعن رفاعة بن رافع أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل، أي الكسب أطيب فقال: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور" رواه البزار وصححه الحاكم والبيع المبرور هو ما يجري في الأمور المباحة ويبتعد تمامًا عن المحرمات كالربا والغش والعقود المجهولة وأساليب الكسب الخبيثة كالاتجار في الملاهي والأعراض. ثانيًا: عقد السلم: والسلم هو السلف -وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في المجلس ويشترط له ما يشترط في البيع. قال عليه السلام: "من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، وهناك سبعة شروط يجب أن تحقق في عقد السلم هي: 1- أن يكون فيما يمكن ضبط صفاته من المكيل والموزون من حبوب وغيرها. 2- أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرًا، فيذكر جنسه ونوعه فيقول في التمر مثلًا برني أو معلقي ونحوهما. 3- أن يذكر قدره بالكيل -أو بالوزن- أو بالذراع أو بالعدد. 4- أن يشترط أجلًا معلومًا له وقع في الثمن عادة كالشهر. 5- أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله سواء كان موجودًا حال العقد أو معدومًا.

6- أن يقبض رأس ماله في مجلس العقد أو ما في معنى القبض. 7- أن يسلم في الذمة فإن أسلم في عين لم يصح لأنه ربما تلف قبل أوان تسليمه. ثالثًا: عقود الشركة -وهي خمسة أقسام: أ- شركة العنان: وهي أن يشترك اثنانِ فأكثر بمالَيْهما ليعملا فيه ببدنيهما وربحه بينهما، أو يعمل أحدهما بشرط أن يكون له من الربح أكثر من ربح ماله نظير إدراته وعمله -ويشترط أن يكون المالان معلومين حاضرين وأن يكون رأس المال من النقدين المضروبين، وأن يشترط لكل واحد منهما جزءًا من الربح كالنصف أو الثلث23، وكتب الفقه تفصل هذا النوع من الشركة. ب- شركة المضاربة: وهي دفع مال معين معلوم قدره إلى من يتجر فيه بجزء معلوم. وتسمى هذه الشركة قراضًا ومعاملة وتنعقد بما يؤدي معنى ذلك وهي أمانة ووكالة وكتب الفقه تفصل هذا النوع من الشركات24. والمضاربة أمانة ووكالة فإن ربح فشركة وإن فسد فإجارة وإن تعدى فغضب، قال في الهدى: "المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك: فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير فيما يباشر من العمل بنفسه وشريك إذا ظهر فيه الربح". ومن شروط صحتها تقدير نصيب العامل بجزء شائع كالربع والثلث أو يقول رب المال بيننا فيكون على النصف.. وإن اختلفا فللعامل أجرة المثل، وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله وفي الشروط -والعامل أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد ولا تفريط. والقول قوله في قدر رأس المال والربح25. ج- شركة الوجوه: وهي أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما شيئًا يشتركان في ربحه من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه فهو بينهما

نصفين أو ثلاثًا ... فيكون الملك بينهما على ما اشترطاه. د- شركة الأبدان: وهي أن يشتركا فيما يتقبلان بأبدانهما في ذممهما من العمل فهي شركة صحيحة ولو مع اختلاف الصنائع، وما يتقبله أحدهما من العمل يصير في ضمانهما يطالبان به ويلزمهما عمله. هـ- شركة المفاوضة: هي تفويض كل منهما إلى صاحبه شراء وبيعًا ومضاربة وتوكيلًا وابتياعًا في الذمة ومسافرة بالمال وارتهانًا وضمانًا ما يرى من الأعمال فصحيحه26. رابعًا: عقد المزارعة: وهي دفع أرض وحب لمن يزرعه ويقوم عليه، أو مزروع لمن يعمل عليه بجزء مشاع من المتحصل ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة والزرع وزيادتهما من السقي والاستسقاء والحرث وآلة ... والمزارعة جائزة في أصح أقوال العلماء. خامسا: عقد الإجارة: وهو عقد على منفعة مباحة معلومة تؤخذ شيئًا فشيئًا مدة معلومة عين معلومة أو موصوفة في الذمة أو عمل معلوم ولا تصح إلا بشروط ثلاثة: 1- معرفة المنفعة: إما بالعرف كسكنى الدار شهرًا، وخدمة الآدمي سنة فإذا كان هناك عرف فإن هذا يغني عن تعيين النفع وصفته وينصرف الإطلاق إليه. وإما بالوصف كحمل بضاعة وزنها كذا إلى موضع معين أو بناء حائط طوله كذا وعرضه كذا وسمكه كذا ... 2- معرفة الأجرة: بمعنى تحديدها بشكل واضح. 3- أن تكون المنفعة مباحة: فلا تصح الإجارة في المحرمات كالزنى والنياحة والقمار ...

والإجارة عقد لازم من الطرفين يقتضي تمليك المؤجر الأجر وتمليك المستأجر المنافع. ولا يفسخ إلا أن يجد العين معيبة تنقص بها المنفعة. وهناك نوعان من الإجارة وهما: أ- إجارة عين: وهي ما يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائهاكاستئجار الدار الصالحة للسكن -أما استئجار أرض لا تنبت للزرع أو لا ماء لها فلا يجوز. ويشترط في إجارة العين أن يعقد على نفع العين دون أجزائها، وأن ترى العين التي ستؤجر أو توصف وصفًا يحصل به المعرفة، وأن يكون المؤجر قادرًا على تسليمها، وأن تكون مشتملة على المنفعة، ومملوكة للمؤجر، أو مأذونًا له فيها. ويمكن أن تكون إجارة العين على مدة كإجارة المنزل شهرًا، كما يمكن أن تكون لمهمة أو عمل محدد كإجارة الدابة، أو السيارة للركوب إلى مكان محدد، ويشترط هنا معرفة العمل وضبطه بما يمنع الخلاف. ويلزم المؤجر مع الإطلاق كل ما يتمكن به من النفع مما جرت به عادة أو عرف. ب- يطلق على النوع الثاني من الإجارة الأجير المشترك وهو عقد على منفعة في الذمة بالنسبة لشيء محدد وموصوف وبصفات يمكن ضبطها بالعمل أو المدة كخياطة ثوب أو صناعة أثاث ... إلخ.

الميراث

سادسًا: الميراث: يمكن تعريف الميراث بأنه انتقال الشيء من شخص إلى آخر سواء أكان هذا الشيء حسيًّا أو معنويًّا -يقال ورث فلان المال وورث المجد- ويراد بالميراث هنا انتقال المال من الميت إلى ورثته. وقد حددت الشريعة الإسلامية نظامًا دقيقًا للميراث يتضمن مجموعة من المعايير والقواعد والضوابط والأسس الثابتة تبين كيفية توزيع الميراث بين الورثة. ويقوم النظام الإسلامي في الميراث على مجموعة من المبادئ العامة نحددها كما يلي:

أولًا: الميراث إجباري بالنسبة للوارث والمورث: فأحكام الميراث ثابتة لا يملك الوارث أو المورث أو القاضي أن يعدل أو يغير فيها. المورث لا يستطيع حرمان أحد الورثة من الإرث عن طريق توقيع وثيقة حرمان أو التوصية بذلك وإلا فإن الوصية بهذا المعنى لا قيمة لها لأن المال بعد الموت يعد من حق الورثة، ولا يمنع الوارث من الإرث إلا إذا توافرت أسباب معينة حددتها الشريعة. كذلك فإن الوارث لا يملك رفض الإرث لأن حصته من الإرث حق ثابت له بمقتضى الشرع ولا تتوقف على إرادته هو أو إرادة المورث المتوفى. ومن حق الشخص أن يتصرف في أمواله -بعد موته كوصية- في حدود الثلث فقط وفيما عدا الثلث فهو حق الورثة يوزع بينهم بنص القرآن الكريم. ثانيًا: أسباب الميراث هي القرابة والزوجية: يستحق الإنسان الإرث بسببين27. أ- القرابة: وهي النسب الحقيقي الذي يتصل بالميت سواء من جهة الأصول أو الفروع، أو فروع أبيه أو فروع جده. وقد راعتِ الشريعة الإسلامية تقسيم المال بين الأقارب بحسب درجة القرابة ودرجة الحاجة، فالأقرب إلى الميت يحجب الأبعد ... فالإسلام يعطي الميراث للأقرب الذي يعد شخصه امتدادًا في الوجود لشخص المورث بدون تفرقة بين الصغير والكبير. ولهذا كان الأولاد أكثر ذوي القربى حظًّا في الميراث. ويلاحظ أنه كلما كانت الحاجة أشد كان العطاء أكبر. وهذا هو سبب أن نصيب الأولاد أكثر من نصيب الأبوين لأن الأولاد وهم يستقبلون الحياة يحتاجون إلى المال أكثر من الأبوين اللذين يستدبران الحياة. وهذا هو سبب أن نصيب الذكر ضعف نصيب المرأة لأن أعباءه المالية أكثر28. ب- عقد الزواج: حيث يرث بمقتضى هذا العقد كل من الزوج والزوجة.

فَلَوْ تَمَّ عقد الزواج وتوفي أحد الزوجين قبل الزفاف يرث الآخر. ولو طلقت المرأة من زوجها طلاقًا رجيعًّا ثم توفي عنها زوجها وهي في العدة فإنها ترث أيضًا، لأن الطلاق الرجعي لا يقطع الزوجية ولا يزيلها بخلاف الطلاق البائن. ثالثًا: القتل مانع من الميراث: لا يجوز في الشرع الإسلامي لمن يقتل إنسانًا أن يرث منه ولو كان أقرب الناس إليه بنص قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل"، والمقصود هنا القتل العمد وليس الخطأ أو الدفاع عن النفس وإن كان بعض الفقهاء تشدد، فجعلوا جميع أنواع القتل مانعة من الإرث29. رابعًا: اختلاف الدين يمنع من الإرث: فاختلاف الدين مانع من التقاء الأهداف والتعاون في تنفيذ أهداف الإسلام ولهذا فلو تزوج مسلم من كتابية ثم توفي أحدهما فلا يرث الآخر منه -كما لا ترث الأم الكتابية من أولادها المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". كذلك فإن الردة تمنع الميراث. خامسًا: للذكر مثل حظ الأنثيين: وهذا أمر منطقي وواقعي لأن تكاليف الرجل أكبر وأعباءه أشد، وقد أوجب الإسلام على الرجل لصالح المرأة أمورًا كثيرة سواء في طفولتها أو شبابها أو كهولتها كالنفقات والمهور. والرجل مسئول عن زواجه وعن زوجته وأولاده وأسرته وهو مسئول عن كل محتاج من أبويه وأقاربه. ويمثل الإسلام الاتزان والوسطية عندما أعطى للمرأة حق الإرث بمقدار نصف الذكر فهو لم يحرمها تمامًا كما فعلت بعض الشرائع قبل الإسلام، ولم

يساويها بالذكر لأنها هي نفسها تقع ضمن الرجل، والدها أو زوجها. سادسًا: المساواة بين الصغير والكبير في الميراث: لم يفرق الإسلام بين الصغير والكبير أو بين الجنين والشاب. فالكل مع تساوي الدرجة -يأخذون مقدارًا واحدًا لا تفاوت فيه قضاء على الأحقاد والصراعات المحتملة بين الأقارب ولا يحق للزوج أو الأب أن يخص بعض الورثة- زوجات أو أبناء -بمقدار زائد عن حصته في الإرث حتى لا يكون للعواطف أثرها في تمزيق الروابط الأسرية وإثارة الأحقاد. سابعًا: إجازة الوصية بثلث المال: إذا كان للإنسان الحق في التصرف في ماله في أثناء حياته، فإنه بعد الموت لا يحق له أن يتصرف -بوصيته- بعد الموت إلا في حدود الثلث حتى لا يضار الورثة قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . ولا يجوز أن تكون الوصية لأحد الورثة لأن الله سبحانه وتعالى تولى تحديد مقادير الإرث للأقارب بما يحقق العدل بينهم فلا يجوز للإنسان تغييرها حفاظًا على حدود الله وحكمته العليا. ثامنًا: حقوق الدائنين مقدمة على حقوق الورثة: فلا يجوز للورثة أخذ أنصبتهم سداد جميع الديون. فسداد الديون مقدم على توزيع الإرث على مستحقيه. تاسعًا: تبين الشريعة الورثة الدائمون الذين لا يجرى عليهم الحجب: تضع الشريعة الإسلامية قواعد دقيقة لعملية الميراث وعمليات الحجب. فالقريب قد يرث في حالات محددة وقد يحجب من الإرث في

حالات أخرى كالجد فإنه لا يرث إلا عند عدم وجود الأب -وابن الأب لا يرث إلا عند عدم وجود الابن ... وهناك طبقة من الأقارب لا يحجبون عن الميراث إطلاقا إلا إذا كانت هناك عوامل أخرى مانعة- كالقتل أو اختلاف الدين ... وهم الأبناء والبنات والزوجات والأبوان -فهؤلاء يرثون في كل الأحوال لا يحجبهم أحد بخلاف الجد وأبناء الابن والإخوة وأبنائهم والأعمام وأبنائهم- فهؤلاء لا يرثون إلا عند عدم وجود من هو أقرب إلى الميت. عاشرًا: ترث الدولة من لا وارث له: تمثل الدولة الخزانة العامة التي ينفق منها على الصالح العام -فإذا لم يكن للميت وارث يرث ماله فإن أمواله لأقاربه غير الوارثين من ذوي الأرحام، فإن لم يكن له أحد ترد أمواله إلى بيت مال المسلمين لينتفع بها المسلمون وحتى توظف في تحقيق الخير العام لهم30. حادي عشر: تتجه الشريعة الإسلامية إلى توزيع الثروة بعد الوفاة لا إلى تركيزها وتجميعها في يد أو أيدي محددة كما كانت تفعل بعض الشرائع السابقة حيث تقتصر الإرث على الابن الأكبر أو على الذكور دون الإناث. ولهذا لم تجعل الشريعة الإسلامية وارثًا واحدًا ينفرد بالإرث دون غيره. ويختلف النظام الإسلامي في مجال الميراث عن المذاهب الوضعية المتطرفة. فالماركسية تلغي الملكية أصلا وبالتالي تلغي الميراث كلية، والرأسمالية تجعل للمورث السلطان الكامل في ماله بعد وفاته- تمامًا كما أن له سلطانًا عليه في حياته. وبهذا الشكل أهمل المذهبان الأسرة وحاجاتها وحقوق الأقارب فالماركسية لم تعترف بهذه الحقوق على الإطلاق، أما الرأسمالية فقد وضعت أفراد الأسرة تحت رحمة المورث إن

شاء أعطاهم وإن شاء حرمهم. أما الشريعة الإسلامية فإنها وقفت موقفًا متوازنًا عادلًا ملزمًا. فقد سلبت من المورث الإرادة في الثلثين، وتركت له حرية التصرف في الثلث فقط. وقد وزعت الثروة طبقًا لمعايير عادلة وهي درجة القرابة ودرجة الحاجة، وجعلت هذا التوزيع ملزمًا بنص القرآن الكريم حتى تصد الأبواب في مواجهة محاولات التحايل إلى جانب أن قضية الميراث تقع في صلب البناء العقدي الذي يلتزم به المسلم بشكل كامل لأنه أمر من الله سبحانه.

نظام المعاملات المالية في الإسلام

نظام المعاملات المالية في الإسلام مدخل ... نظام المعاملات المالية في الإسلام: يتضمن النظام الاقتصادي الإسلامي من النظم الفرعية Sub- inistitutions التي يتألف منها النظام العام مثل نظام الملكية ونظام الزكاة ونظام المعاملات المالية ونظام الإنتاج المشروع، وحقوق الدولة في التدخل في حالات محددة ... وقد تضمنت الشريعة الإسلامية نظامًا متكاملًا للمعاملات والمبادلات المالية مثل: أحكام البيع والإجارة وبيان ما يجوز بيعه وإجارته وما لا يجوز، وطرق استثمار الأموال والمضاربة والشركة وأحكام الأمانات وطرق الاستيثاق في الديون وعلاقة العمل بين صاحب العمل والعمال ... إلخ، وغير ذلك من العلاقات الاقتصادية التي تحتاج إلى ضبط وتنظيم حفاظًا على الحقوق والمصالح وتحقيقًا للعدل وتجنبًا للظلم والصراعات الاجتماعية والاقتصادية التي تمزق المجتمع وتفكك الجماعات32. والأساس الإسلامي الأول في المعاملات المالية بين الناس، الارتباط بالالتزام والوفاء بالحقوق وعدم أكل أموال الناس بالباطل، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] . وفي طرق الاستيثاق يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى

أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وتوجهنا الشريعة إلى إقرار الرهن والإشهاد على المبايعات يقول تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، ويقول تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] . واهتمت الشريعة بالجانب المادي للإنسان وأساسه المعاملات إلى جانب اهتمامها بالجانب الروحي وأساسه العبادات. وقد حثت الشريعة على البيع والشراء ورغبت فيهما تحصيلا للرزق ووضعت آدابا حتمت رعايتها والالتزام بها من أجل قضاء المصالح وتوفير الحاجات بشكل يخلو من الغش والخديعة والتضليل، وقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع الطعام فأعجبه ظاهره فأدخل يده فيه فوجد به بللا فقال عليه السلام: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء -يريد أن المطر نزل عليه- فقال عليه السلام: "فهلا أبقيته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غش -وفي رواية- من غشنا، فليس منا" وهكذا يحكم النبي عليه الصلاة والسلام بأن من غش في الطعام -وهو من أبسط أنواع الغش- يخرج من جماعة المؤمنين، ذلك لأن الإيمان يقتضي الصدق ولا يتفق مع الكذب. وإذا كان الغش هو تقديم الباطل في ثوب الحق، فإن الغش منهي عنه في الرأي والعمل والفتوى والتوجيه والوظيفة والبيع والشراء. وقد أرسل الله سبحانه شعيبا عليه السلام يدعو الناس إلى التوحيد وتحذيرهم من نقص الكيل والميزان معتبرا لك إفساد في الأرض بعد إصلاحها، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85] . ويستهدف التوجيه القرآني الكريم تربية الإنسان على عدم الإضرار بالآخرين واحترامهم والقضاء على أخلاقيات الغش والخديعة والظلم وهو ما أسماه الإفساد في الأرض.

نظام المعاملات الربوية وموقف الإسلام منها: يمكن القطع بأن الإسلام يحرم الربا بنص القرآن الكريم، وقد اتخذ في تحريمه أسلوبًا متدرجًا مراعاة للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة، وحتى يمكن استئصال كل المعاملات الربوية التي سادت الجاهلية بشكل كلي وجذري. وقد استخدم القرآن الكريم في تحريم الربا نفس الأسلوب المتدرج الذي اعتمد عليه في تحريم الخمر. وعلى الرغم من الاتفاق على تحريم الربا، إلا أن الخلاف قائم في تحدي المقصود بالربا -وسوف لا ندخل هنا في بيان أوجه الخلاف حول تحديد الربا مكتفين ببيان أسلوب القرآن التدريجي في تحريمه نهائيًّا- والربا في اللغة يشمل كل زيادة، ولكن لا يمكن أن تكون كل زيادة ربا، لأن البيع يشتمل على الزيادة وهو مباح لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقد حرمت النصوص القرآنية الربا دون بيان المراد منه، ذلك لأنه كان معروفًا على عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن الربا المحرم هو نظام الربا الذي ساد الجاهلية والمتعارف بين الناس في ذلك الحين. وقد نزلت في الربا أربع آيات، واحدة في مكة وثلاث في المدينة مما يؤكد حرص القرآن الكريم على تحريم هذه المعاملة الكريهة التي تتضمن الظلم والاستغلال البشع الكريه الذي تشمئز منه النفس الإنسانية. وتبين الآية الأولى أن الربا أمر منفر وغير مرغوب فيه، كما تدعو إلى دفع الزكاة التي تتضاعف عند الله سبحانه، لكنها لم تذكر التحريم، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] ، ثم جاءت الآية الثانية تذم اليهود لأنهم يأكلون الربا وقد نهوا عنه، ولأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل. وعلى الرغم من عدم ورود نص قاطع في تحريم الربا حتى هذه المرحلة إلا أن سياق النص القرآني الكريم يؤكد كراهية التعامل بالربا، ويهيئ الأذهان والنفوس لتحريم الربا تحريمًا قطعيًّا، قال

تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 160، 161] . وقد جاءت الآية الثالثة تحرم الربا المضاعف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] . وقد حسمت الآية الرابعة قضية التحريم الكامل للربا قليله وكثيره وبشكل لا يقبل المناقشة حيث قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] ، والأحاديث النبوية الصحيحة كثيرة في تحريم الربا تحريمًا قاطعًا.

نظام الزكاة: فلسفتها وأهدافها الاجتماعية

نظام الزكاة: فلسفتها وأهدافها الاجتماعية: الزكاة ركن أصيل من أركان الإسلام وهي إحدى أسس الاقتصاد الإسلامي الجوهرية، وقد ذكرت الزكاة في القرآن الكريم مقرونة بالصلاة التي هي عماد الدين في نحو ثلاثين موضعًا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} [النور: 56] ، ووصف سبحانه وتعالى المؤمنين {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة} [لقمان: 4] ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة علامة لصدق الإسلام وانطباق أحكامه، كما جعل الامتناع عن آداء الزكاة من صفات المشركين. وقال عليه السلام: "أمرت أن أقاتل

الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسوله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" رواه البخاري. وتتسم الزكاة الإسلامية بعدة خصائص أهمها: أولًا: أنها جانب من جوانب العبادة أو هي عبادة مالية يقصد بها المسلم التقرب إلى الله تعالى خالق الأكوان والأرض والإنسان والمالك الحقيقي لكل الأموال والثروات، أي: أن الإيمان والاحتساب مصاحبان لعملية الزكاة. ثانيًا: تستهدف الزكاة الإسلامية تزكية وتطهير نفوس أصحاب الأموال من الشح والبخل والأثرة، وتذكرهم بحقوق الفقراء والمساكين في أموالهم وإشعارهم بالعدل والأخوة الإيمانية والإنسانية، وتستهدف من الجانب الآخر انتزاع الغل والحقد من نفوس الفقراء، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] . وقال عليه السلام: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم". وهذا يعني أن الزكاة فريضة وهي تزكي نفوس الأغنياء والفقراء معًا وتحقق الألفة والأخوة والعلاقات الطيبة بين جميع أبناء المجتمع وتقضي على ظاهرة الفقر وما يصاحبه من حقد وصراع مدمر للجميع، هذا إلى جانب أن مخرج الزكاة يشعر أنه يؤديها التزامًا وليس إلزامًا، إيمانًا وليس قهرًا، وهذا هو ما يميزها عن الضرائب. ويدحض شبهة بعض المستشرقين المغرضين الذين يحاولون عقد مقارنة بين الزكاة والضرائب بالمفهوم الحديث مع أن الفارق شاسع بينهما، وأهم فارق أن الزكاة أساسي من أركان الإسلام لا يصح إسلام المرء إلا بأدائه، بعكس الضرائب التي تفرضها الدولة قهرًا وإلزامًا وبقوة القانون. والمسلم عندما يدفع الزكاة يقصد بهذا إرضاء الله سبحانه وتعالى ونيل عفوه وغفرانه وثوابه،

أما المواطن الذي يدفع الضرائب يقصد بهذا عدم الوقوع تحت طائلة القانون الوضعي والفرق شاسع بين الحالتين. ثالثًا: للزكاة الإسلامية شروط وقواعد ومصارف محددة، فهي تؤخذ من الأغنياء ليستفيد منها الفقراء وأصحاب الحق كما يحددهم القرآن الكريم، بعكس الضرائب التي تؤخذ من المواطنين كي ينفق منها -في بعض الدول كالدول الشيوعية- على الدعايات الكاذبة وعلى بعض الأمور التي لا تحقق الصالح العام. رابعًا: لا تقبل الزكاة الإسلامية إلا من مال طيب حصل على صاحبه من خلال أسلوب حلال. والزكاة حق للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء الذين يخرجونها بدون من ولا أذى، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] . وقد نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- السيدة عائشة من أن تتصدق بما لا تأكل. خامسًا: الزكاة تشريع إسلامي يحفظ للفرد استقلاله وحريته في العمل والكسب ويحفظ للمجتمع حقه على الفرد من المعونة والتضامن. وقد حدد الرسول -عليه الصلاة والسلام- مقدار الزكاة والأموال التي تجب فيها والنصاب الذي تجب فيه الزكاة وزمن وجوبها، وجعلها في أربعة أصناف من المال، وهي أكثر الأموال دورانًا بين الناس وهي: الزروع والثمار، وبهيمة الأنعام من إبل وبقر وغنم، والذهب والفضة، وأموال التجارة على اختلاف أنواعها. وقد أوجبها الإسلام مرة كل عام وجعل حول الزروع والثمار -أي زمن وجوبها- عند تمام نضجها. وهذا أمر يحقق العدل لأنه لو أوجبها مرة كل شهر لأضر بأصحاب الأموال، ولو أوجبها مرة في العمر لأضر بالمساكين. ومن عدالة الإسلام أنه فاوت بين المقادير الواجب إخراجها بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها ومدى سهولة ذلك وصعوبته. وقد حدد القرآن الكريم مصارف الزكاة. وقد ظل القرآن الكريم في عهديه -المكي والمدني- يدفع المؤمنين بأساليب قوية إلى الإنفاق في

سبيل الله -سد حاجة الفقير وإقامة المصالح- دون تحديد للأنواع المالية التي منها ينفقون والمقادير التي لها ينفقون تاركًا هذا الأمر لتقدير المسلمين حسب شعورهم ودوافعهم الإيمانية وإحساسهم بالأخوة الدينية، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] . ومرة أخرى يحدثنا القرآن عن تساؤل المؤمنين حلو الإنفاق قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] . وبعد أن تركز المسلمون واتسع نطاق حياتهم بالهجرة إلى المدينة وصاروا جماعة متميزة لها منهجها الخاص في الحياة ولها هدفها التي تعمل له، وتهيأت في ظل ذلك نفوسهم لقبول التحديد، امتد بيان الرسول عليه السلام إلى هذا الجانب بالتنظيم والتحديد على الوجه الذي يهدف إلى صالح الفرد والجماعة حيث صارت الزكاة ركنا من أركان الدين وفريضة من فرائضه وقرنت بالصلاة وشهادة التوحيد، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] . وقد كانت وصية الرسول عليه الصلاة والسلام عندما بعث واليًا على اليمن: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". وتدل التعاليم النبوية أن الزكاة في نظر الإسلام ليست إلا صرف بعض أموال الأمة -ممثلة في أغنيائهم- إلى الأمة نفسها ممثلة في فقرائها. استخدم القرآن الكريم كلمة الأموال للتعبير بها عن كل ما يتملكه الإنسان ويتخذ وسيلة لعيشه وحفظ كيانه وقضاء مصالحه -وتشمل النقد والماشية والزرع وجميع أوجه الثروة- قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة

تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24-25] . وجاء في بعض الآيات ذكر الذهب والفضة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] . وقد وقف القرآن الكريم عند هذا الحد الذي قرر عنده مبدأ الإنفاق وأرشد إلى بعض أنواع الأموال تاركًا التفاصيل للرسول عليه الصلاة والسلام الذي بين بالتطبيق العملي أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة والمقادير التي يجب إخراجها عن كل نوع. وقد حددت الآية رقم 60 من سورة التوبة الجهات أو الفئات التي تستحق الزكاة شرعًا حيث قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] *.

_ * ارجع لتفصيل هذه الفئات إلى دراسة الشيخ محمود شلتوت -الإسلام عقيدة وشريعة- الصادر عن دار الشروق، بيروت 1974، ص117-124.

علاقات العمل في الإسلام

علاقات العمل في الإسلام: يحثنا الإسلام على العمل والإنتاج وينظم لنا العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، على أساس مراقبة الله والإخلاص واتقان العمل وأداء الحقوق. ومن التوجيهات النبوية الكريمة "إن الله يحب إذا عمل أحدكم

عملًا أن يتقنه"، وقال عليه السلام: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" و "من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره" و "أطيب ما أكلتم من كسبكم" و "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه" و "إخوانكم حولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم" و "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي. ثم غدر ورجل باع حرامًا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره". وتشير هذه التوجيهات الإسلامية الكريمة إلى حث المسلمين على العمل والتكسب فهو أكرم للمسلم وأطيب له، كما يحثه على إتقان العمل الذي يكلف به وتجويده والبعد عن الغش فيه. ويستوجب الإسلام من صاحب العمل أن يحدد للعامل نوعية العمل والتزاماته وتحديد الأجر الذي سوف يتقاضاه العامل والمسارعة إلى دفعه بدون مماطلة أو تأخير، هذا إلى جانب أن صاحب العمل يجب أن يحسن معاملة المستخدمين أو العمال وإكرامهم كإخوة في الدين وفي البشرية. ولا تصح الأجرة على المجهول في الإسلام "من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره". ويجوز أن تكون الأجرة نقدًا أو مالًا أو منفعة، بشرط أن تكون معلومة. كما يجوز أن يكون العمل لقاء المسكن والملبس والطعام لقوله عز وجل في حق الأمهات اللاتي يرضعن أو يحضنّ أولادهن {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} [البقرة: 233] . وإذا لم يجد المسلم فرصة للعمل فعلى الدولة أن تهيئ له عملًا شريفًا يتكسب به ويتعيش منه. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم، رجلا عاطلا قدوما ودرهما وأمره أن يحتطب وبهذا وفر عليه الصلاة والسلام للعامل آلة العمل وحثه على الكسب، وهذا هو ما حدا بالإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" إلى القول بأنه على ولي الأمر تزويد العامل بآلة العمل. أما إذا كان العامل عاجزًا أو شيخًا أو مريضًا لا يمكنه العمل، فإن واجب الدولة أن

تؤمن له حاجاته المعيشية من ملبس ومسكن ومطعم. وقد وجه الإسلام إلى فكرة الضمان الاجتماعي وحماية حقوق الإنسان والتأمينات الاجتماعية بالشكل الإسلامي قبل أن يتنبه إليها الغرب بقرون طويلة. فالإسلام يؤمن الإنسان على أكله وشربه ولبسه ونفقات أسرته ويؤمنه ضد البطالة وضد العجز والشيخوخة، فإذا كان الإنسان عاجزًا عن العمل أو شيخًا هرمًا أو مريضا فإنه يجب على الدولة تأمين حاجاته المعيشية من ملبس ومطعم ومسكن. ولا يقف الإسلام عند هذا الحد من تكريم العامل وصاحب العمل وتأمين العجزة والشيوخ وتحديد العلاقة الاقتصادية والأخلاقية بين العامل وصاحب العمل، وإنما يحدد علماء الاقتصاد الإسلامي الحاجات الحيوية للإنسان في حدها الأدنى -استنادا إلى الكتاب والسنة، بالمأوى والكساء والطعام والماء. وهم يستنبطون هذا التحديد من الآية الكريمة: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: 117، 118] . ثم يقررون أن كل أجر لا يضمن للعامل أو الموظف حاجاته الأساسية الحيوية تلك لا يقره الإسلام. ويضيفون أن كفاية الأجر لضرورات الحياة أساس أول لقيام المجتمع الإنساني المستقر المتماسك. وإلى جانب هذه الحاجات الحيوية الأساسية ينبغي أن يؤمن للعامل متطلبات التطور الاجتماعي المشروع كالعلاج الطبي وفرص التعليم33 ... إلخ. يضاف إلى كل ما سبق أن الإسلام يحث على تنمية أجر العامل، فقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم أن ثلاثة رهط سد عليهم باب مغارة فدعا كل واحد منهم بصالح عمله، ومن قول ثالثهم: "اللهم إني كنت استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك أجره وذهب، فثمرته له حتى كثرت منه الأموال. فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدِّ إلى أجري. فقلت كل ما ترى من البقر والغنم والإبل والرقيق أجرك ... اذهب فاستقه. فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي. فقلت إني لا أستهزئ بك. اذهب فاستقه فأخذه كله".

الواقعية الاقتصادية في الإسلام-تكافؤ الفرص وتفاوت الثروات

الواقعية الاقتصادية في الإسلام -تكافؤ الفرص وتفاوت الثروات وأوجب الإسلام على كل قادر على العمل أن يعمل وأن يلتمس رزقه وأن يكتسب حماية له من التسول وسؤال الناس -أعطوه أو منعوه- وحفاظًا على كرامته وكرامة أسرته وحماية للمجتمع من العاطلين الفاسدين المفسدين ... وأوجب الإسلام على الدولة تأمين العمل للقادرين وتأمين الحاجات الأساسية للعجزة والشيوخ والمحتاجين، وأوجب على الأغنياء أداء الزكاة وهي حق معلوم من أموالهم للفقراء والمحتاجين، وقد جعل الله في غنى الأغنياء سعة لذوي الحاجات. وعلى الدولة الإشراف على أداء الزكاة وضمان إخراجها، ويأمر الإسلام بالتعاون بين الناس في البر والتقوى وتحقيق التوازن داخل المجتمع ... غير أن هذا ليس معناه تحقيق المساواة الحسابية بين الناس وجعل الأغنياء والفقراء سواء -كما يريد أصحاب بعض المذاهب الهدامة- ذلك لأن الإسلام دين الفطرة يتسم في نظمه الاقتصادية بالواقعية الأخلاقية، فهو يعترف بالواقع وبالتفاوت بين الأفراد في الملكات والمواهب والاستعدادات والميول والذكاء والقدرات والجهود ... فلكل سعيه وجهده ومقدرته على الكسب، وخبرته في العمل. وقد بحث بعض الفقهاء -مثل أبي عبيد القاسم في كتابه الأموال، وأبي يوسف في كتابه الخراج- في القوانين الاقتصادية على أساس تحقيق العدلة الاجتماعية والفرصة المتكافئة بين الناس عامة34.. مع ترك المواهب والقدرات الذهنية والبدنية تعمل في نطاق الغاية العظمى التي يهدف الإسلام إلى تحقيقها في كل تشريعاته وهي المصلحة العامة والعدالة وعدم التعسف. قال عمر بن الخطاب: الرجل وبلاؤه.. الرجل ووفاؤه.. الرجل وقدمه.. الرجل وحاجته. ويقر الإسلام حقيقة التفاوت الفطري بين الناس في القدرات والاستعدادات والمساعي والأرزاق35. قال تعالى:

{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] . {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71] . {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت: 62] . {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] . وبهذا الشكل المعجز يحقق الإسلام فكرة التوازن والوسطية بشكل يعترف بتفاوت الثروة والملكية بين الناس في إطار المشروعية والعدل والفرصة المتكافئة. فالعدالة لا تعني التسوية الحسابية بين الناس كما يذهب الماركسيون؛ لأن تفاوت الناس في قدراتهم وذكائهم واستعدادهم وخبراتهم وسعيهم حقيقة واقعية، هذا إلى جانب أن هذه المساواة الحسابية المزعومة تقضي على حوافز المجتهدين للعمل وبذل الجهد الفكري والمادي كما تقتضي على كل تطلع وطموح نحو الأحسن وتحيل المحتمع إلى قطيع من الناس وتشيع فيهم روح التذمر والحقد لأن المجتمع سلبهم تطلعاتهم ودوافعهم وحوافزهم الفطرية وحقهم في التفوق والحصول على نتائج جهدهم المشروع. ولعل هذه الحقيقة هي ما جعلت المجتمعات التي تدعي التحول نحو الماركسية إلى التراجع الجزئي عن الفكرة المحورية في النظرية الماركسية من كل بحسب جهده إلى كل بحسب حاجته حيث أباحت الكثير من هذه المجتمعات حق الملكية الفردية كما أباحت فكرة الحافز الفردي والربح كمعيار للإنتاجية، بعد أن اتضح تطبيقيًّا زيف فكرة المساواة الحسابية. كذلك فإن العدالة لا تعني ترك الثروات الفردية تنمو وتتضخم دون حد كما تدعو إلى هذا الرأسمالية بمفهوم القرن التاسع عشر

وإلا حدث التمزق الاجتماعي وهنا نجد الإسلام يستوجب ضرورة استخدام الأساليب المشروعة في تحصيل الثروة ولا يقر الأساليب غير المشروعة، ويستوجب أداء فرض الزكاة للفقراء والمحتاجين بنسبة محددة تتجدد كل عام، إلى جانب واجبات التكافل الاجتماعي. يضاف إلى هذا كله تفتيت الثروة بالميراث.

العدالة الاقتصادية في الإسلام

العدالة الاقتصادية في الإسلام: يدعي كل مذهب من المذاهب الاقتصادية المعاصرة أنه وحده الذي يحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية تماما كما هو الحال بالنسبة لإشراك الشعب أو الشورى أو ما يطلق عليه بالمصطلح اليوناني الديمقراطية. غير أن مفهوم العدالة والشورى والديمقراطية والحرية مختلف عليه أشد الاختلاف بين هذه المذاهب. فالعدالة في النظام الرأسمالي تتحقق بإتاحة الفرصة أمام الناس للتملك بغير محدود، في حين أن العدالة في ظل النظام الماركسي تتحقق من خلال إلغاء الملكية الفردية، ويسود النظام الرأسمالى حرية السوق أو اقتصاديات السوق في حين أن الاقتصاد الذي يسود في النظم الماركسية هو الاقتصاد المخطط بمفهومه الماركسي ... والحرية في النظام الرأسمالي تتمثل في ترك الاقتصاد للنشاط الفردي دون تدخل الدولة، كما تتمثل في سيادة حريات العقيدة والاجتماع والعمل والتشغيل وتكوين الأحزاب ... أما الحرية في ظل النظم الماركسية فإنها تتمثل في تملك الدولة لوسائل الإنتاج وقيام الدولة بكل الوظائف الاقتصادية وتحويل الناس إلى مأجورين عند الدولة، مع عدم إتاحة الفرصة للاختلاف وإلغاء الحريات الفردية كحرية الاعتقاد والاجتماع والمعارضة وإبداء الرأي ... ولهذا فإن النظم الماركسية والنازية والفاشية تدرج كلها دستوريا ضمن النظم الدكتاتورية التسلطية*.

_ * ارجع إلى دراسة د. عبد الحميد متولي عن القانون الدستوري والنظم السياسية، دار المعارف، مصر.

وفي مقابل هذا التخبط بين الإفراط والتفريط نجد أن الاقتصاد الإسلامي يحقق التوازن الدقيق بين حاجات الإنسان الفطرية والمكتسبة وبين حاجات الجماعة والمجتمع، بشكل يؤدي إلى التكامل الاجتماعي social intigration. فالفرد في النظام الإسلامي مطالب بالعمل والتكسب طالما أنه قادر على ذلك وهو عندما يعمل ويتكسب من حقه تملك ما يحصل عليه بالطرق الشرعية القانونية الخالية من الاستغلال والإضراب بمصالح الآخرين، وهذا هو ما يبرر الحق في التملك، نتيجة الميراث ونتيجة الجهد والعمل المشروع -وعلى المالك الذي من حقه تنمية ممتلكاته أن يؤدي فريضة الزكاة حيث يخرج من ماله- بالنسب التي حددها الشرع؛ ليعطي الفقراء والمحتاجين، إلى جانب ما يخرجه تطوعا لأداء واجب التكافل الاجتماعي. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسمله، ومن تركه يجوع ويعرى - وهو قادر على إطعامه وكسوته- فقد أسلمه" وصح عنه عليه السلام أنه قال: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له"، ويقول المحدث: ثم ذكر أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منها في فضله. ويقول عمر بن الخطاب: "لو استقبلت من امرئ ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين". والدولة الإسلامية لا تكتفي بالإشراف على أداء الأغنياء لفرض الزكاة وواجبات التكافل الاجتماعي وإيجاد فرص العمل للقادرين عليه ومنع الأساليب غير المشروعة -كالربا والغش والاحتكار- في التعاملات الاقتصادية، والقيام بالمشروعات التي يعجز عنها الأفراد أو التي يجب أن تقوم بها الدولة حماية للصالح العام ... إلخ، ولكنها تراقب ممارسة الفراد لحريتهم المقررة ومن حقها -في بعض الحالات- التدخل للحد من هذه الحريات تحقيقا لصالح المجتمع والجماعة المسلمة. وليس أدل على ذلك مما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عام المجاعة، فلما وجد أن

القحط قد اشتد وأن الطعام قد ندر وأن الناس متفاوتة الأرزاق بشكل واضح، وأحس أن من بين رعيته من ينام على الطوى جائعا ومنهم من يختزن أكثر من كفايته، صادر الكثير من الطيبات وأودعها بيت المال وقسمها على الناس كل بقدر حاجته -طبقا لإحصاءات دقيقة- ولم يعترض عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، بل أقروه فيما عمل. والحاكم الإسلامي مطالب بتحقيق وتطبيق العدل الاجتماعي والاقتصادي بين الناس، وهو مطالب بالبدء بنفسه أولا كقدوة، فالمال مال الله ليس أحد أحق به من أحد، وقال عليه السلام: "ما أعطيكم ولا أمنعكم إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت" وقال عمر بن الخطاب: "والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب. ولئن بقيت لكم ليأتي الراعي بجبل صنعاء حظه من هذاالمال وهو يرعى مكانه". وقد فرض عمر في بيت المال فروضا شهرية لكل رجل ولكل امرأة ولكل صغير وكبير، بل أنه فرض لكل طفل يولد بمجرد ولادته. ويشير الكاتب الهندي الدكتور محمد يوسف الدين في بحث له بمجلة البعث الإسلامي إلى أن نظام الحكم في الإسلام يقوم على الأخوة الإنسانية والعدالة الاقتصادية، وأن الدول الحاضرة لو طبقت نظام الاقتصاد الإسلامي لتمتع كل فرد بحقوق اقتصادية متساوية. وأشار إلى أن عمر بن الخطاب عندما نظم للناس مخصصات شهرية عام الرمادة لم يحدد الرواتب بالحدس والتخمين، وإنما قام بتعيين مقادر الطعام لكل فرد استنادا إلى إحصاءات دقيقة. وقد أنشأ عمر بن الخطاب في العام العشرين للهجرة إدارة حكومية أطلق عليه اسم الديوان، كانت مهمتها إحصاء السكان على فترات معينة. وعلى هذا الأساس كانت تحدد أنصب كل فرد من بيت المال. وتطبيقا لمبدأ المساواة الاقتصادية بين الحاكم والمحكوم أرسل عمر إلى عبد الرحمن بن عوف الصحابي الثري المعروف يقترض منه أربعمائة

درهم. فقال له ابن عوف: أتستسلفني وعندك بيت المال؟ ألا تأخذ منه ثم ترده؟ فقال عمر: إني أتخوف أن يصيبني قدري فتقول أنت وأصحابك اتركوا هذا لأمير المؤمنين ... حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة، ولكني أستلفها منك فإذا مت جئت فاستوفيتها من ميراثي" ويذكر ابن سعد في طبقاته أن عمر رؤي أسود اللون في هذه النازلة التي نزلت بالمسلمين عام الرمادة وقد كان أبيضه.. فقيل: مم هذا؟ ويأتي الجواب: إنه رضي الله عنه كان يأكل السمن واللبن فلما أمحل الناس أكل الزيت حتى تغير لونه، وقد حلف ألا يأكل لحما ولا سمنا حتى يحيا الناس. وعمر نفسه هو الذي قال لعقبة بن فرقد -وقد زاره في بيته- كما يروي البلاذري في "فتوح البلدان" فرآه يأكل طعاما خشنا لا يستطاب ... فقال له ألا تأكل في طعامك سميدا؟ فرد عليه عمر: بئس الخليفة أنا إذا أكلت طعاما جيدا وتركت الناس يأكلون طعاما خشنا. وقد فعل الصحابة رضوان الله عليهم نفس الشيء ليضربوا المثل ويكونوا قدوة للأمة الإسلامية في كيفية سلوك القائد والبدء بأنفسهم من كل التوجيهات الدينية. فقد جيء لأبي عبيدة عامر بن الجراح -خلال قيادته للجيش الإسلامي في حرب فارس- بطعام شهي خاصا به فرده وقال: بئس الرجل أبو عبيدة إذا خص نفسه بشيء دون من يقاتلون معه ويريقون دماءهم، والله إن أبا عبيدة لا يأكل من الطعام إلا ما أكله المسلمون كلهم. وقد اعترف باحث فرنسي اعتنق الإسلام بعد دراسة واقتناع وهو -ليون رونتي- في كتابه "ثلاثون عاما في الإسلام" بانفراد الدين الإسلامي في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية بشكل معجز. يقول هذا الكاتب: "إن هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون هو أفضل دين عرفته، فهو دين طبيعي واقتصادي وأدبي ... ولقد وجدت فيه حل المسألتين الاجتماعية والاقتصادية اللتين تشغلان بال العالم طرا: الأولى في قول القرآن الكريم {إنما المؤمنون إخوة} فهذه أجمل مبادئ التعاون الاجتماعي. والثانية

بفريضة الزكاة في مال كل ذي مال بحيث يحق للدولة الإسلامية أن تستوفيها غصبا إذا امتنع الأغنياء عن دفعها طوعا36.

أسلوب مواجهة الإسلام للمشكلات الاقتصادية

أسلوب مواجهة الإسلام للمشكلات الاقتصادية مدخل ... أسلوب مواجهة الإسلام للمشكلات الاقتصادية: يتسم الأسلوب الإسلامي في الحيلولة أصلا دون ظهور المشكلات من خلال تطبيق مقتضيات وتعليمات الشريعة السمحة، فإذا ظهرت مشكلات اتسم أسلوب المواجهة بالجذرية والعمق والرشد. وسوف نركز هنا على بعض المشكلات كالفقر والبطالة والطبقية.

مواجهة الإسلام لمشكلة الفقر

مواجهة الإسلام لمشكلة الفقر مدخل ... أولا: مواجهة الإسلام لمشكلة الفقر: يقر الإسلام مبدأ الفروق الفردية بين الناس في قدراتهم وظروفهم واستعداداتهم وثرواتهم، واعتبر الإسلام أن الفقر والغنى حقيقتان ثابتتان من طبيعة الوجود الإنساني والاجتماعي، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] . غير أن الإسلام لا يسمح أن يذل الفقير ولا أن يتغطرس الغني فيكون الحقد الطبقي والصراع الاجتماعي المدمر واستغلال بعض الناس موقفهم على السلم الاقتصادي لنيل امتيازات غير مشروعة. وقدم الإسلام نظاما متكاملا لمواجهة الفقر أوجز أهمها فيما يلي: أ- تمكين كل قادر على العمل أن يعمل كواجب من واجبات الدولة سواء أكان عملا ذهنيا أو يدويا، وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على العمل اليدوي حيث قال عليه السلام: "ما أكل ابن آدم طعاما خيرا من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يديه" وقد ذكر نبي الله داود بالذات لأنه كان قائدا عظيما وملكا ذا سلطان، وتحت يده خزائن الدولة لو أخذ منها ما يكفيه وأهله بالمعروف ما كان عليه غضاضة فيا يأخذ لكنه آثر أن يأكل من عمل يديه لينال ذلك الكسب

الطيب الذي هو خير كسب. وقد جاء رجل إلى النبي يطلب منه صدقة من بيت المال فوجده النبي -صلى الله عليه وسلم- قويا قادرا فلم يعطه مالا ينفق منه، لكنه اشترى له فأسا وأعطاه إياه ليحتطب بها ويأكل من عمل يده. وقال عليه السلام: "لأن يحتطب أحدكم بفأسه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". وتكريم الإسلام للعمل اليدوي يؤدي إلى أداء الأعمال اليدوية التي تحتاجها الأمة من جهة، ويمنع الناس من أن يحتقروا بعضهم بعضا، فلا تكون هناك طبقة عاملة تنال الاحتقار، وأخرى -لا يعمل بيدها- تنال التقدير والاعتبار37. ب- تمكين كل ذي موهبة وقدرة من الانتفاع بموهبته وقدرته، فقد قرر فقهاء الإسلام أن كل ما يقوم عليه العمران من هندسة وطب وفرحة للأرض وإقامة المصانع والجهاد في سبيل الله تعالى دفعا للأذى وحماية للحوزة ... واجب على الأمة، وهو واجب على وجه الخصوص على من كان قادرا بالفعل على واحد من هذه الأمور، وواجب على العموم على الأمة ممثلة إرادتها في ولي أمرها والقائمين على شئونها. ومعنى هذا أنه يجب على الدولة الإسلامية تشجيع الكفايات وتنمية قدرات أبنائها ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وقد قدرر بعض فقهاء المسلمين أن إتاحة الفرصة أمام الجميع ليظهروا مواهبهم وقدراتهم إنما يتحقق من خلال نظام تربوي تعليمي متدرج فالمرحلة التعليمية الأولى تكون عامة للأمة كلها، لا يتخلف عنها أحد. ومن كان لديه القدرة على متابعة الدراسة في المرحلة الثانية دخل المرحلة الثانية، أما من وقفت به مواهبه عند المرحلة الأولى، وقف عند أمر يحتاج إليه العمران، حيث يكون من بينهم العاملين بأيديهم في الأرض وفي المتاجر وفي الصناعات اليدوية ... وغير ذلك مما لا يحتاج إلى تخصيص فني مهني رفيع.

ومن ينهي المرحلة الثانية من التعليم أو التأهيل واحد من اثنين، إما أن يكون لديه قدرة على متابعة التعليم في المرحلة الثالثة، حيث يتم التخصص الفني والعلمي والمهني التقدم -طب- قيادة عسكرية، قضاء ... وإما أن يقف عند نهاية المرحلة الثانية بسبب طبيعة قدراته وميوله ... هؤلاء الذين يقفون عند نهاية المرحلة الثانية تحتاج إليهم الأمة ليمارسوا بعض الأعمال التي لا تحتاج إلى تخصص فني متقدم مثل العمالة الفنية في مجال الصناعة وأعمال الحسابات البسيطة ... تلك الأعمال التي لا يكفي لممارستها اجتياز المرحلة التعليمية الأولى فقط38، ولا يدخل المرحلة الثالثة إلا من تؤهله قدراته لهذه المرحلة المتخصصة المتعمقة من الدراسة والتي تخرج المؤهلين تأهيلا رفيعا لتولي مناصب الدولة الحساسة. وهذا يعني أن أبناء كل مرحلة يجب عليهم أداء الأدوار والواجبات كل فيما يخصه ويستطيعه، وعمل الأمة ممثلة في ولي أمرها أن تسهل لهم التعليم والقيام بهذه الواجبات، وأن تؤهلهم التأهيل الذي يمكنهم من أداء دورهم حسب قدرتهم واستعداداتهم الفطرية وميولهم المكتسبة. وهنا تبرز وظيفة الدولة في تأهيل أبناء المجتمع تأهيلا حرفيا ومهنيا، وإذا تركت الأمة هذا الواجب تكون قد باءت بالإثم وتحملت الوزر ولم ينج منه حاكم ولا رعية لأن الفرض الكفائي مطلوب من الأمة بجميع أفرادها القيام به. وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه الموافقات أن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة فهم مطالبون بسدها على الجملة فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهل لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها. فالقادر إذن مطالب بإقامة الفرض، وغير القادر مطالب بتقديم ذلك القادر. وهذا يعني أن الإسلام أوجب على الحاكم القيام بتلك المهمة الشاقة متمثلة في تأهيل جميع الأفراد لما يناسبهم ويستطيعون القيام به39.

ج- أما بالنسبة للعاجزين عن الكسب، بسبب الشيخوخة أو المرض أو الأنوثة أو الصغر أو اليتم ... فإن الإسلام يتكفل بهم حيث يجب على الدولة إعالتهم من بيت المال. فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإليَّ وعلَيَّ" أي من يموت عن مال فإنه يوزع على ورثته. أما من ترك أشخاصًا كان يعولهم، ولا مال ينفقون منه، فإن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يتكفلهم ويتولى الإنفاق عليهم. وقد دبر الإسلام سد حاجة المحتاجين من أبواب ثلاثة تتلاقى فلا تجعل لفقير حاجة لم تسد. وهذه الأبواب هي:

بيت مال المسلمين

1- بيت مال المسلمين، فللفقير حق في هذا المال يعطى منه بانتظام.

الزكاة

2- الزكاة: فإنها تبدأ من الصرف منها للفقراء والمساكين وأبناء السبيل الذين انقطعوا عن أموالهم، وكانوا في أماكن لا مورد لهم فيها فيحق على المسئول عن بيت المال أن يعطيهم من أموال الزكاة.

النفقات الواجبة

3- النفقات الواجبة: فالإسلام أوجب على الغني نفقة قريبه العاجز40 الفقير*. فإذا لم يكن للفقير العاجز قريب غني موسر وجبت نفقته

_ * من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتكافل بين أعضاء الأسرة والمجتمع حدد الإسلام أربع طرق لتحقيق التكامل، وهي: أ- نفقات الأقارب. ب- الزكاة. ج- التعاون في المجتمعات الصغيرة. د- الكفارات والصدقات غير الواجبة وجوبا قانونيا، ومنها الأوقاف والنفقة حق قانوني يرتبه الدين الإسلامي ويجب على القضاء تطبيقه بالإلزام. وقد اختلف الفقهاء في بيان حدود القرابة التي توجب حق النفقة. فقد قال مالك رضي الله عنه: إن القرابة الموجبة للنفقة هي قرابة الأبوين والأولاد المباشرين، وقد ذهب الإمام الشافعي إلى أن وصول من الآباء والأجداد والجدات تجب نفقتهم على فروعهم. والفروع من الأولاد وأولاد الأولاد تجب نفقتهم على أصولهم. أما الحنفية فيرون أن القرابة الموجبة للنفقة هي القرابة المحرمية أي القرابة التي تحرم الزواج، فالأعمام والعمات والأخوات والخالات تجب نفقتهم على أقاربهم. أما الإمام أحمد بن حنبل فإنه يذهب إلى أن كل من يرث الفقير العاجز عن الكسب إذا مات غنيا يجب عليه نفقته في حال عجزه، لأن الحقوق متبادلة والعزم بالغنم ويشترط لوجود النفقة عدة شروط منها: أ- حاجة القريب الذي يطالب بالنفقة، لأن النفقة إنما تجب لدفع الهلاك عن القريب. ب- عجز من يطالب بالنفقة، إلا في النفقة الواجبة للأصول على فروعهم، فإن العجز عن الكسب ليس يشرط بالنسبة لهؤلاء فتجب نفقة الأب على ابنه ما دام محتاجا وقادرا. وكذلك تجب نفقة الجد وغيره، والسبب في اشتراط العجز تحريض الإسلام على العمل والتكسب ما دامت هناك قدرة -أم السبب في استثناء نفقة الأصول على =

على خزانة الدولة وينفذ ذلك بالطريق الإداري. ويزيد فقهاء الحنفية أن ولي الأمر إذا لم ينفذ ذلك، كان للقاضي المختص الحكم بتنفيذ هذا بحكم يلزم بيت المال به، والحكم ينفذ في بيت المال الخاص بالضوائع، ذلك لأن بيوت المال تضم أربعة أقسام. أولا: بيت المال الخاص بالجزية والخراج وهذا يصرف منه على مرافق الدولة وعلى فقراء غير المسلمين. ثانيا: بيت المال الخاص بالغنائم، وينفق منه على مرافق الدولة وفقراء المسلمين. ثالثا: بيت المال الخاص بالزكاة، وينفق منه على مستقي الزكاة. رابعا: بيت المال الخاص بالضوائع، وهي الأموال التي لا مالك لها والتركات التي لا وارث لها، وهذا القسم يصرف منه على الفقراء فقط. وقد قال فيه صاحب البحر: "يعطي منه الفقراء العاجزون نفقتهم وأدويتهم ويكفن الفقير والمرضى وعلاجهم وأكفان الموتى الذين لا مال لهم ونفقة اللقيط ونفقة من هو عاجز وليس له من

_ = فروعهم هو أن الإحسان إلى الآباء واجب في الإسلام، ومن الإحسان أن يوفر الأبناء عنهم الجهد ويتولون عنهم عبء العمل خاصة وأنهم غالبا يكونون قد بلغوا سنا لا يصح أن ينافسوا معها الشبان، وتوجب المصلحة الاجتماعية أن يوفر للشبان العمل ويغنوا هم آباءهم. ج- أن يكون القريب الذي يطلب منه النفقة موسرا باستثناء نفقة الأبوين على ولدهما، ونفقة الولد على أبيه، فالشرط في نفقة الأبوين والولد القدرة وليس اليسار. د- وإذا كان للفقير العاجز قريب واحد من أهل اليسار الذين في كسبهم فضل فإن النفقة تجب عليه من غير مشارك له، أما إذا كان هناك قريب في طبقته وقوة قرابته ومتيسر مثله - كأن يكون للشخص شقيقان فإن النفقة تجب عليهما بالتساوي ما داما موسرين. أما إذا اختلفت درجات وقوة القرابة فقال الحنابلة إن النفقة تتبع الميراث وتجب بمقدار الميراث. وقد قرر الحنفية أن نفقة الفروع على أصولهم والأصول على فروعهم لا تحتاج إلى حكم، فلو كان لفقير ابن غني واحتاج إلى ماله فأخذ منه بغير إذنه قد أخذ حقه ولا يعد مغتصبا ولا سارقا "قول الرسول عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان" أما الحواشي فإن النفقة تثبت بحكم القاضي.

تجب نفقته ونحو ذلك، وعلى الإمام صرف هذه الحقوق إلى مستحقيها"41.

مواجهة الإسلام لمشكلة التمايز والصراع الطبقي

ثانيا: مواجهة الإسلام لمشكلة التمايز والصراع الطبقي: ينظر الإسلام إلى الإنسان على أنه أكرم من في هذا الوجود، وقد اختاره الله تعالى للخلافة عنه في الأرض، وسخر له -الخالق سبحانه- كل ما فيها من جبال وبحار وزرع وضرع، بل سخر له ما في السموات وما في الأرض، وأعطاه من العلم قدرا يستطيع معه تسخير كل ما في الأرض لمصلحته، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] وإذا كان معيار التمايز الطبقي في علم الاجتماع يتضمن عدة مؤشرات كالدخل والملكية والتعليم والمهنة وحق السكن....الخ، فإن الإسلام يرفض كل هذه المعاير للتمايز الطبقي ويستدبلها بمعيار آخر وهو معيار التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 49] ، ولا يقيم الإسلام وزنا للتمايز اللوني أو في الثروات أو في الحسب والنسب؛ لأن الله هو الذي قسم بين الناس معيشتهم في الحياة الدنيا وقد أمر الرسول المسلمين بضرورة السمع والطاعة ولو أمر عليهم عبد حبشي أسود طالما أنه يحكم بالشرع، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا ينادي السيد عبده، يا عبدي، وألا يقول العبد لسيده: يا سيدي، بل يقول المالك: فتاي وفتاتي، ويقول العبد: مولاي، أي صديقي الذي أواليه وأنصره، وأمر أن يأكل العبد مما يأكله مالكه ويكسوه مما يكسو بنفسه وأولاده، وقال عليه الصلاة والسلام: "إخوانكم خولكم ملككم الله إياهم ولو شاء لملكهم إياكم، أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم ما تكسون" وقال عليه السلام: "من لطم عبده فكفارته عتقه" وتشير نصوص القرآن الكريم أن نفس العبد كنفس الحر، فالحر يقتل بالعبد إن قتله ولو كان القاتل سيده، وللعبد حق الشكوى من سيده ومخاصمته في القضاء إذا ما كلفه ما لا يطيق. ويوجب الإسلام على

المالك نفقة مملوكة لو كان لا يعمل شيئا، وإذا كان البعض يقول: إنه كان الأولى بالإسلام أن يمنع الرق ما دامت الكرامة الإنسانية حقا ثابتا لكل إنسان بغض النظر عن اللون والجنس والدين.... فالواقع أن القرآن الكريم لم يرد فيه نص يبيح الرق، وإقرار الرق ثبت من كثرة أوامره بالعتق، ولم يثبت أن الني صلى الله عليه وسلم أمر إنشاء رق على حر لا في حرب ولا في سلم، والرق الذي أنشأه الخلفاء في الحروب من بعده كان لعدم وجود نهي صريح عنه، وكان ذلك من قبيل المعاملة بالمثل في الحروب تطبيقا لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ، وكان أعداء المسلمين يسترقون الأسرى من المسلمين، فكانت من المعاملة بالمثل قيام المسلمين باسترقاق أسرى الأعداء، فإذا كان الأعداء لا يسترقون المسلمين، فلا يجب على المسلمين أن يسترقوا أعداءهم لأن أمر الله سبحانه {وَلا تَعْتَدُوا} . ثم إن الإسلام فتح باب العتق على مصراعيه. وعلى أولئك الذين يقولون كيف سكت الإسلام على الرق فلم يلغه أن ينظروا إلى أسلوب معاملة أسرى الحروب -حتى في القرن العشرين- والمعاملات السيئة البشعة التي يلقونها من أعدائهم. ويرفض الإسلام معيار التمايز الاقتصادي كأساس لقيام بناء طبقي، فقد قرر الإسلام أن الفقر والغنى حقيقتان من حقائق الوجود الإنساني قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] ويقول الشيخ أو زهرة: إن بعض الناس فهموا من هذا أن الإسلام يقر الفقر والغنى ويقر وجود الطبقات بسبب الغنى لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} وذلك الفهم خطأ لأن مؤدى هذا أن يكون اعتراض المعترض بأن القرآن الكريم كان يجب أن ينزل على رجل غني -واردا- والمعنى الصحيح أن الله سبحانه وتعالى قسم المعيشة بين الناس، وأن رفع الدرجات قسمة أخرى غير قسمة المعيشة لا يتوقف

على الغنى والفقر. ولذلك قد يكون رفيع الدرجات فقيرا فيرسل رسولا، وإن كان هذا يؤدي إلى أن يتخذ بعضهم بعضا سخريا بأن يسخر الغني الذي لم يؤت درجة رفيعة من الفقير الذي نالها42. ويعترف الإسلامي بالتمايز بين البشر استنادا إلى معيارين فقط: أ- معيار التقوى. ب- معيار العلم والتعلم. يقول تعالى: {يََرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ويستوجب الإسلام ألا يستعلي الغني على الفقير لغناه، فالفصل عند الله بالتقوى والعمل الصالح والعلم ونشره بين الناس فخير الناس من تعلم القرآن وعلمه، وينطبق مفهوم العلم في القرن الكريم على كل العلوم النافعة سواء العلوم الدينية أو الدنيوية المطلوبة لاستعمار الأرض وتطبيق التوجيهات القرآنية والنبوية في صدد طلب العلم. يقول عليه السلام: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وقد حرص الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى تحطيم الحواجز الطبقية وتحطيم المعاملات المتميزة لكل طبقة، حيث منع عليه السلام التعالي بالنسب، ويروى أن أحد الصحابة عير آخر بأمه، فقال له النبي عليه السلام: "أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية". ويروى أنه قال له: "أجاهلي أنت؟ " وقال عليه السلام: "ليس منا من دعا إلى عصبية" كل ذلك من أجل وقاية المجتمع من الطبقية المتحجرة مع ما تومي إليه من صراع اجتماعي مدمر. وقد حرص الخلفاء الراشدين إلى محو الطبقات القائمة على معايير اقتصادية وأسرية حسب ونسب وقبلية ... من خلال تقريب الضعفاء الفضلاء إليهم. وروي أنه استأذن على عمر بن الخطاب بلال الحبشي وأبو سفيان من نفر من كبار قريش، فدخل إلى عمر الواقف على بابه يقول

بالباب أبو سفيان وبلال فغضب الإمام التقي لأنه قدم أبا سفيان على بلال في الذكر، وقال له قل بالباب بلال وأبو سفيان، وأذن لبلال ولم يأذن لأبي سفيان. وقد منع عمر كبار قريش من أن يذهبوا إلى الأقاليم حتى لا يشكبوا فيه طبقة من الأشراف يتحكمون في الناس باسم السلطان. وقد عمل الإسلام على إزالة الطبقية الاقتصادية من خلال نظم الزكاة والنفقات وكفالة الدولة للفقراء والمحتاجين من العجزة الذين ليس لم أقارب أغنياء، ومن خلال وضع ضوابط للملكية الخاصة، ومن خلال تفتيت ثروة كل جيل بالميراث، كما عمل على إزالة الطبقية النفسية من خلال العبادات الإسلامية، ففي الصلاة يقف الفقير بجوار الغني يجمعها الخضوع للديان، يقولان معا الله أكبر ليشعروا جميعا بالتضامن وقوة الله وجبروته. ويمحي الحج كل الفروق الاجتماعية بين الناس بسبب الملكية أو المهنة أو الجنس أو اللون. ذلك لأن جميع الحجاج ضيوف على الرحمن في بيته الحرام بملابس واحدة يؤدون نفس الشعائر بخشوع يشرعون بعضهم أمام خالقهم مالك كل شيء يطلبون رحمته ويخشون عذابه ... أما الطبقية المعرفية أو العلمية، فالإسلام لا يستخدم مصطلح الطبقة الاجتماعية، إنما يستخدم مفهوم الدرجات، فقد رفع الله العلماء على غيرهم درجات وأوجب عليهم الانتفاع بالعلم في الصالح العام واستعاذ الرسول عليه الصلاة والسلام من شر علم لا ينفع. ويوجب الإسلام على العلماء نشر العلم بين الناس وأفضل الناس من تعلم العلم وعلمه.

مواجهة الإسلام لمشكلة البطالة

ثالثا: مواجهة الإسلام لمشكلة البطالة: حارب الإسلام البطالة والتسول وأوجب العمل على كل قادر عليه، لأن العمل هو السبيل الوحيد لتحقيق الآمال وصنع الحضارة الإنسانية وتحقيق التقدم المادي والاجتماعي. وسبق أن أشرنا إلى موقف الإسلام من العمل متمثلا في التوجيهات القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة، سواء بالنسبة للعمل الديني أو اليدوي أو العقلي المهني الفني.... وقد لفت القرآن

الكريم أنظار المسلمين إلى مختلف جوانب العمل التي يجب على الإنسان أن يطرقها حيث أبرز للمؤمنين الكنوز التي في الأرض وموارد الرزق في البحار والأسرار التي في الكون، وأشار القرآن الكريم إلى ضرورة إعمال العقل والحواس التي وهبها الله للإنسان -لا ليعبث بها أو يوجهها في الشر- ولكن كي يستخدمها للانتفاع بالكون وما فيه، ذلك أن الكون الذي سخره الله لخدمة الإنسان قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [الحج: 65] ، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} [الجاثية: 12] . فبين بذلك -وغيره- موارد الرزق على كثرتها ومصادر الثروة على اختلافها، وما على الناس بعد ذلك إلا العمل والسعي لاستغلال هذه الموارد الاقتصادية والتمتع بزينة الحياة الدنيا وطيباتها. وقد أمر الإسلام كل مسلم أن يعمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] ،وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ، وإذا كان الإسلام قد طالب كل قادر على العمل أن يعمل لما يحقق له الخير ولمجتمعه، فهناك من يقدرون على العمل لكنهم لا يجدونه43. هنا يأتي دور الحاكم أو الدولة ممثلة في جهاز الحكم. وقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب من أموال الصدقة فنظر إليه الرسول الكريم فوجده إنسانا قويا قادرا على العمل، فقال له: "ألك شيء في بيتك؟ " قال: جلس نجلس عليه وإناء نشرب منه، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "ائتني بهما". فأتاه الرجل بهما فقال: من يشتري، فدفع أحدهما درهما، فقال من يزيد فقال آخر: درهمين، فدفعهما إليه وأعطى الدرهمين له فقال: "اشتر بأحدهما قدوما وحبلا وبالآخر طعاما لعيالك" فاشترى بالدرهم الفأس والحبل فشد النبي صلى الله عليه وسلم على الفأس ثم قال: "اذهب فاحتطب وبعه ولا تأتني إلا بعد خمسة عشر يوما". فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بعد خمسة عشر يوما ومعه عشرة

دراهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا خير". ويستنتج الفقهاء من هذا الحديث أن من واجب الحاكم الإسلامي تأمين العمل للقادر عليه أي تأمين الناس ضد البطالة، وعلى الدولة تأمين وسائل العمل للعمال، بغض النظر عن درجة بساطتها وتعقيدها. وقد ترك الحديث للحاكم طريقة تأمين العمل على حسب الظروف المتغيرة للحياة الاجتماعية. فالحديث قد وضع القاعدة العامة، وترك أمر التطبيق مرنا. حيث يمكن تشغيل العمال بتأمين المال لهم أو وسيلة العمل أو تشغيلهم في مشروعات الدولة. وقد خول الفقه الإسلامي للحاكم المسلم الحق في إلزام أصحاب الأعمال -إذا امتنعوا عن تشغيل العمال ظلما- بالعمال الذين يجيدون هذه الأعمال وله الحق كذلك في إلزام العمال الراغبين عن العمل -بضرورة ممارسة العمل- إذا اقتضت المصلحة ذلك. فقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه "الطرق الحكيمة" بعض ما بين أن بعض الأعمال قد تكون فرض عين على بعض الأشخاص القادرين عليها في حال عدم وجود غيرهم، وقد تكون فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين فقال: فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه الأعمال متحتمة عليهم ويجبرهم ولي الأمر على فعلها بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعة الفلاحة أن يقوم بها وألزم الجند ألا يظلموا الفلاح كما يلزم الفلاح أن يفلح، فإن الجند في هذه الحالة إذا احتاجوا إلى فلاحة الأرض فقد يلزم الحاكم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها. وهؤلاء العمال ليسوا من الذين أجروا عقد العمل مع صاحب الأراضي الزراعية إنما الحاكم هو الذي يقوم بتوزيع العمال على هذه الأراضي بشرط أن يعطي العمال أجر المثل بلا وكس ولا شطط، حتى لا يهضم حق أحد الطرفين، العامل الزراعي وصاحب الأرض. ويستطيع الحاكم تنظيم مكاتب لتسجيل العمال العاطلين الراغبين في العمل، ويلزم

أصحاب الأعمال في بعض الصناعات أو الأعمال باستخدام العمال وفقا لقرار من الحاكم تحقيقا للمصحلة العامة. وقد نبه الإسلام إلى خطورة البطالة وإلى ما يمكن أن تؤدي إليه من انحرافات فكرية وسلوكية وإلى الجرائم، فقد قال الإمام أحمد: "إذا جلس الرجل ولم يحترف دعته نفس إلى ما يأخذ ما في أيدي الناس". فالبطالة مدعاة إلى ارتكاب جريمة السرقة كما قال الإمام أحمد، وكثيرا ما تصاحب جرائم السرقة جرائم قتل، حيث يدبر السارقون القتل إخفاء لمعالم الجريمة. وقد سأل بعض الصحابة عروة بن الزبير فقال: ما شر شيء في العالم؟ قال البطالة44. ويصنف الإسلام البطالة إلى قسمين وهما: أ- بطالة المضطر: وتتمثل في اضطرار الناس إلى البطالة مع وجود القدرة على العمل والرغبة فيه والحاجة إليه نتيجة لعدم وجود فرص للعمل، أو الرغبة فيه والحاجة إليه نتيجة لعدم وجود فرص للعمل، أو الرغبة في العمل مع وجود مانع في العجز أو المرض يمنع صاحبه من إمكانية ممارسة العمل. ب- بطالة الكسول: فالكسول هو الشخص القادر الذي يجد أن أبواب العمل مفتوحة أمامه لكنه مع هذا يتوانى عن الالتحاق به كسلا ويعيش عالة على الناس دون استحياء، وقد يلجأ، في سبيل التعيش إلى الأساليب غير المشروعة دون وازع من دين أو خلق. والإسلام يحارب البطالة بكل أشكالها وأنواعها، فبطالة المضطر تواجهها الدولة فالحاكم مسئول عن تدبير عمل شريف لكل قادر عليه. أما بطاقة الكسول فإن الإسلام ينكرها ويحاسب عليها الدولة والفرد معا، فالإسلام يحارب البطالة ولو كانت بحجة التفرغ للعبادة. وقد قال عمر بن الخطاب إني لأرى الرجل يعجبني فأقول: هل له حرفة؟ فإن قيل لا سقط من عيني.

وقد رسم الإسلام طريقا للتأهيل المهني للمسلمين يقوم على نظام تعليمي متدرج تؤهل كل مرحلة لممارسة أعمال معينة تعد من فروض الكفاية في المجتمع. وقد سبق أن أشرنا إليه في فقرة سابقة. ولا ينبغي لولاة الأمر في المجتمع الإسلامي أن يلجئوا إلى سياسة الإعانة حتى يقطعوا كل سبيل إلى تأمين العمل ومواجهة البطالة، على أن قلة العاطلين تعني توجيه القوة البشرية القادرة للعمل المنتج من جهة، كما تكفل لكل عاطل -بسبب خارج عن إرادته- نصيبا كافيا من مال الدولة. والإسلام لا يحارب بطالة المسلمين فقط داخل الدولة الإسلامية، لكنه يؤمن كل عضو داخل المجتمع الإسلامي ضد البطالة -ولو كان من غير المسلمين- لقد مر عمر بن الخطاب على يهودي يسأل الناس -فسأله عن سبب سؤاله- فقال العجز والجزية، فقال عمر: ما أنصفناك، أكلنا شبابك ونتركك في شيبتك، ثم أمر خازن بيت المال بإسقاط الجزية عن اليهودي وفرض له ولأمثاله نصيبا من بيت مال المسلمين، وهذا السمو في معاملة الإنسان كإنسان تعجز النظم الوضعية عن تصورها، صنع الله الذي أتقن كل شيء

تحقيق الاستقلال الاقتصادي للمجتمع الإسلامي

تحقيق الاستقلال الاقتصادي للمجتمع الإسلامي: ويستهدف الإسلام من توجيه أبنائه إلى مختلف المسالك المشروعة لتحصيل الثروة الاقتصادية وتنميتها -زراعة وصناعة وتجارة- تحقيق مبدأ استقلال الجماعة الإسلامية، وقد أرشدنا الإسلام إلى أن تحقيق الاستقلال الاقتصادي شرط أساسي لتحقيق الاستقلالين السياسي والاجتماعي. ويدلنا التاريخ إلى أن الكثير من ألوان الاستعمار التقليدي والحدث إنما دخل إلى الشعوب تحت شعار محاولة التنمية الاقتصادية*. وإذا كان من قضايا

_ * يلاحظ أن كلمة الاستعمار نفسها كلمة خادعة حيث تدل على التعمير ومحاولة تنمية اقتصاديات الدول المستعمرة في حين أنها في الحقيقة أدت إلى استنزاف ثروات المستعمرات.

العقل والدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكانت الحياة متوقفة على عمد الاقتصاد الثلاث: الزراعة والصناعة والتبادل. كانت هذه العمد الثلاثة واجبة وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خيرها واجبا45.

التوجيه الاقتصادي في الإسلام

التوجيه الاقتصادي في الإسلام: وواجب الحكم المسلم العمل على تنمية اقتصادياتها والتنسيق بين جوانب الثروة في المجتمع بحيث لا يترك الأموال تتكدس وتتركز في ميدان اقتصادي واحد دون سواه، فلا عليه أن يحول بعضا من الاستثمارات الزراعية في اتجاه التجارة أو الصناعة على حسب حاجة المجتمع ومصلحته العليا وما يحقق نموه الاقتصادي، وبالتالي يحقق قوته وعزته، ويجنبه الاعتماد المطلق على المجتمعات الأخرى، ذلك الاعتماد الذي يفتح باب الاستعمار بشتى ألوانه. ولا يعد هذا التنسيق الاقتصادي من جانب الحاكم المسلم تقييدا لحرية الملكية إنما هو توجيه يحقق صالح المجتمع، وإذا أهمله الحاكم كان آثما46. ونظرا إلى أن فائدة المال واستثماراته وتوجيهاته في مسارات بعينها تعم المجتمع كل في مشكل عماله وأرباح وأجور وتوافر للسلع واستقلال اقتصادي ... إلخ، أضافه الله سبحانه تارة إلى نفسه، وجعل المالكين له مستخفلين في حفظه وتنميته وإنفاقه أو استهلاكه حسب توجيهاته سبحانه حيث قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِِ} [الحديد: 8] وأضافه الله تارة إلى الجماعة وجعله كله بتلك الإضافة ملكا لها حيث قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] وهذا يعني أن الاعتداء عليها أو التصرف السيئ فيها هو اعتداء أو تصرف سيئ واقع على الجمع. ولا شك أن هذا أمر منطقي متفق مع ما قرره الإسلام من أن المال أداة لصالح المجتمع كله به تحيا

الأرض وتقام الصناعات أو التنظيمات الصناعية ويتم التبادل التجاري، وبه يساهم أصحابه في سد حاجة المحتاجين وتأسيس المشروعات العامة النافعة، وإن لم يكن بعاطفة التعاون والتراحم، فبحكم الفرض الذي أوجبه الله في أموال الأغنياء للفقراء وفي سبيل الله، وبحكم الضرائب التي يفرضها ولي الأمر حسب تقدير ما تحتاج إليه البلاد من مشروعات الإصلاح والتنمية وقد حرص القرآن الكريم على حث المؤمنين على البذل للفقراء والمساكين وفي سبيل الله، وهذه الكلمة الأخيرة من الكلمات الفذة التي جاء بها القرآن الكريم حيث تملأ القلب روعة وجلالا ولا يخرج عن معناها نوع ما من أنواع البر والخير العام أو الخاص. وقد حض الإسلام أتباعه على تملك الأموال وتنميتها بالأساليب المشروعة، وأراد بذلك تحقيق الاكتفاء الذاتي داخل المجتمع من خلال إنتاج الأغذية التي تنبتها الأرض ومختلف الصناعات المدنية والعسكرية والمعمارية.... وقد تحدث فقهاء الإسلام في عصورهم الأولى عن هذه القضية، وجعلوا تعلم هذه الصناعات ووجودها في المجتمع من فروض الكفاية، فإذا لم يتحقق في الأمة أثمت إثما لا يرتفع عنها إلا إذا قامت كل طائفة بواجبها في قطاع معين من قطاعات الاقتصاد. وقد أوضح ابن تيمية في كتابه "الحسبة" أن واجب الدولة أن تتدخل بالتنظيم والإجبار لإيجاد حاجات الأمة من الصناعات والزراعات والمرافق المعاشية العامة، ولإعداد من يصلحون لها ويقومون بها47. كذلك ذهب إلى أن من واجب الدولة التدخل في تحديد أجور العمال وأسعار اسلع في حالة المغالاة. وهذا الرأي نفسه قد ذكره الشيخ محمود شلتوت في دراسته بعنوان "الإسلام عقيدة وشريعة". وهذا يؤكد أن النظام الاقتصادي الإسلامي يستند إلى الواقعية الأخلاقية ويقوم على فكرة التوازن الدقيق بين الفردية والجماعية على العكس من المذاهب الوضعية -الرأسمالية والشيوعية- التي تطرفت في صالح أحد الجوانب -الفردية أو الجماعية.

ولم يدرك الغرب إلا أخيرا فكرة التوازن الاقتصادي التي سبق أن أشار بها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وهو توازن لا ينجرف نحو الفردية المسرفة المهمة لصالح الجماعة ولا إلى الجماعية المتطرفة المهملة للإنسان كإنسان له عزته وكرامته. وإذا كان مبدأ الاقتصاد الموجه controlled economy يختلف من مجتمع لآخر ولم يطبق في العالم الغربي إلا بعد ظهور التصدع داخل مجتمعات الغرب نتيجة لتطبيق الرأسمالية بشكلها السافر خلال القرن التاسع عشر وما أدت إليه من بطالة دورية وانخفاض في مستوى معيشة العمال واحتكارات وكساد اقتصادي وأساليب استغلالية واستعمارية، وكرد فعل في مواجهة النظام الشيوعي الهدام ... فإن الإسلام سبق أن وضع لنا نظاما للاقتصاد الإسلامي الموجه طبقا لمبادئ تحقق التوازن بين الفردية والجماعية، وبين حرية الإنسان المسلم وواجباته الدينية والاجتماعية، كما تحقق النمو الاجتماعي والاقتصادي للإنسان والمجتمع في ضوء العدالة والمساواة والأخوة بالمفهوم الإسلامي الصحيح وليس بمفاهيم الغرب أو الشرق النسبية الزائفة.

الوظائف الاقتصادية للدولة طبقا للنظام الاقتصادي الإسلامي

الوظائف الاقتصادية للدولة طبقا للنظام الاقتصادي الإسلامي مدخل ... الوظائف الاقتصادية للدولة طبقا للنظام الاقتصادي الإسلامي: لا تقف الدولة في الإسلام بمعزل عن النشاط الاقتصادي -كما ينادي بهذا فلاسفة الرأسمالية- كما أنها لا تفرض نفسها بشكل كلي على كل جزيئات النشاط الاقتصادي -كما ينادي بهذا فلاسفة الماركسية- وإنما يكون تدخل الدولة بالقدر الذي يحقق أهم وظائف الدولة الإسلامية وهو تحقيق الخير العام وصالح الجماعة بالمفهوم الإسلامي. وهذه المصالح ليست قاصرة على إقرار الأمن الداخلي والدفاع عن حدود البلاد -كما هو الحال في الدولة الحارسة أو البوليسية في النظام الرأسمالي- وإنما

تمتد إلى حماية التشريعات التي أقرها الإسلام تحقيقا لصالح الفرد والمجتمع، وهذه التشريعات واجبة التطبيق لأنها تمثل أساسًا من أسس النظام العقدي الشامل، وتكفل قيام المجتمع الإسلامي بالشكل الذي أراده الله سبحانه، يتحقق له القوة والاكتفاء الذاتي والعدل والتكامل. وعلى عكس التصور في الكثير من النظم الوضعية، فإن الدولة في نظر الإسلام ليست مالكة، وليس طرفا في مواجهة الشعب، لأن هذا التصور الوضعي يؤدي إلى مختلف ألوان الصراع على المصالح، وغالبا ما يكون الانتصار للدولة وللطبقة الحاكمة بحكم ملكيتها لأجهزة القهر والسلطة. والدولة في نظر الإسلام هي الأداة المسخرة لخدمة المجتمع، فالمجتمع هو الأساس، وتطبيق الشريعة الإسلامية داخله، وتوفر السعادة لأبنائه هو الغاية، وإقامة العدل ومختلف ألوان التنظيمات الاجتماعية هو الوسيلة لتحقيق هذه الغاية.... وعلى هذا فلا يجوز للدولة أن تتخطى -في ممارستها للحكم- الحدود الشرعية المحددة لها، كما يجب ألا يغيب عنها الغاية الأساسية من وجود السلطة وهي تطبيق الشريعة وحماية المجتمع وتحقيق الخير العام. وهذا التصور لوظيفة الدولة في الإسلام يحقق قدرا من الحريات الفردية لا تحققها أحدث دساتير العالم المعاصر. فالإسلام يؤمن للأفراد حرية الاعتقاد وحرية الفكر وحرية العمل وحرية التملك والكسب والإنتاج والاجتماع ... وهذه الحريات ليست مطلقة، وإلا أمكن توجيها في طريق الهدم والاستغلال والتشكيك. فحرية الفكر يجب ألا توجه للتشكيك في عقيدة الأمة وتراثها وقدراتها على مقاومة أعدائها وحقا في الدفاع عن مصالحها. كذلك فإن الحرية الاقتصادية في مجال التملك والعمل والإنتاج والكسب يجب ألا توجه للاستغلال والاحتكار أو الإضرار بالمصالح الوطنية العليا للمجتمع. والدولة هي السلطة التي تقوم بحماية المصالح الدينية والاجتماعية من خلال مراقبة ومتابعة هذه المصالح وإقرار الأحكام وإصدار

القرارات التي تصونها من أي عبث أو استغلال48. وللدولة الحق في تشكيل التنظيمات القادرة إلى الإشراف على الأنشطة الاقتصادية بهدف حماية الحقوق، وهذه التنظيمات تخضع لظروف المجتمع. وواجب على الدولة إصدار القرارات والقوانين التي تستهدف تحقيق المصحلة العامة والحقوق العامة ومصالح الفئات المختلفة، بشرط أن تتصف هذه القوانين بصفة المصلحة المعتبرة، وألا تتضمن أي ظلم لأي عضو من أعضاء المجتمع. ومثال هذا قوانين العمل من حيث تحديد ساعات العمل، وتحديد الحد الأدنى من الأجور، وإيجاب الأجر عن أيام الإجازات، وإيجاب الضمان الاجتماعي، وإيجاب التعويض عن التسريح التعسفي49.. وتستمد هذه القوانين وأمثالها، شرعيتها الإسلامية من أن الإسلام يستهدف حماية مصالح الجماعة والقضاء على الظلم، ولما كان العمال هم الفئة الأكثر جهدا وإنتاجا فهم الأجدر بالحماية والرعاية ومنع تعرضهم للظلم والتعسف والاستغلال. ومن واجب الدولة أن تمكنهم من الحياة الكريمة، سواء من خلال إقامة مشروعات للعلاج والتعليم المجاني أو من خلال غيرها من المشروعات إلى جانب تأمين حق المستحقين منهم للزكاة في أموال الأغنياء. والدولة الإسلامية، من خلال تأمين فرص الحياة الكريمة لأبناء الفئات الفقيرة والمحتاجة والمجاهدة، فإنها تحميهم في مواجهة الدعوات المشبوهة والمذاهب الهدامة -شرقية وغربية- والتي تحاول استقطاب هذه الفئات واستغلالها وتخسيرها لتحقيق مآرب سياسية بعيدة عن مصالحها الحقيقة. والواقع أن الإسلام يتضمن مجموعة من النظم المالية المتكاملة التي تكفل العيش الكريم لكل فئات المجتمع وكل أبنائه، ويكفي أن الإسلام أوجب مبدأ مشاركة المحتاجين بشكل دوري متجدد في أموال الأغنياء بنسبة محددة تتجدد كل عام، وجعل هذه المشاركة ركنا لا يتم الإسلام إلا به، وهذه النسبة قادرة على إغراق كل محتاج وفقير بالمال الذي يكفل له حياة كريمة، هذا إلى جانب أن الإسلام يحارب الشح والترف والظلم والاستغلال في كل أشكاله.

وقد طبقت الدولة الإسلامية -في عصرها الذهبي- نظام الحسبة أو ولاية الحسبة بهدف مراقبة الأسواق والمعاملات المالية والمبيعات ومراقبة صالح الجماعة. وتمثل هذه لولاية الهيئة التي تقوم بالتفتيش والرقابة المستمرة على الأنشطة الاقتصادية بهدف القضاء على كل أشكال الظلم والفساد50 والاستغلال الاقتصادي. يقول الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية": "وأما المعاملات المنكرة كالربا والبيوع الفائدة وما منع الشرع منه مع تراضي المتعاقدين به إذ كان متفقا على خطره، فعلى والي الحسبة إنكاره والمنع منه والزجر عليه، وأمره في التأديب مختلف بحسب الأحوال وشدة الخطر. ومما يتعلق بالمعاملات غش المبيعات وتدليس الأثمان فينكره ويمنع منه ويؤدب عليه بحسب الحال فيه. فإذا كان الغش تدليسا على المشتري ويخفى عليه فهو أغلظ الغش تحريما وأعظمها مأثما، فالإنكار عليه أغلظ والتأديب عليه أشد، وإن كان لا يخفى على المشتري كان أخف مأثما وألين إنكارا"51. والواقع أن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي مرهون في الإسلام بتحقيق المصحلة والخير العام ومنع الإضرار والاستغلال والظلم. ويجوز للدولة أن تتدخل في الحالات الآتية:

حالات الاحتكار والاستغلال والإضرار

أولا: حالات الاحتكار والاستغلال والإضرار: فواجب الدولة حماية أعضائها فإذا كانت السلع الأساسية الضرورية لحياة الناس محتكرة لدى فئة من التجار فمن واجب الدولة مصادرتها لبيعها بالسعر العادي وتوفيرها للناس، ويجب على الدولة ألا تسمح لبعض الناس للإثراء بطرق غير مشروعة وعلى حساب الناس وحاجاتهم.

في حالة الربح الفاحش

ثانيا: في حالة الربح الفاحش: فإذا كان الربح حقا ثابتا للأفراد فإنه يجب ألا يصل إلى مرتبة

الاستغلال. فالدولة تحارب هذا الاستغلال. وإذا كان الإسلام أقر الربح كوسيلة مشروعة لتنمية رأس المال، فالمقصود بذلك الربح المعقول المتعارف عليه بين التجار الذي يدفعه المستهلك عن قناعة ورضى. أم الربح الفاحش المفروض قهرا على المستهلك فهو ربح مستغل آثم وخبيث، ويجب على الدولة في مثل هذه الحالة التدخل لتحديد نسبة الأرباح لحماية المستهلك.

في الحالات التي تستدعيها الضرورة

ثالثا: في الحالات التي تستدعيها الضرورة: مع تعقد الحياة الاجتماعية ونمو التنظيمات الاقتصادية المتعددة وتشابكها، وتعدد مجالات الإنتاج والاستهلاك وأساليب التوزيع، زادت وظائف الدولة وصار من الضروري قيام الدولة بالإشراف على العديد من المشروعات الاقتصادية العامة التي لا يجوز تركها للأفراد حتى لا يسخروها لمصالحهم الخاصة. هنا يجب على الدولة التدخل في هذه المشروعات من خلال الإشراف أو الرقابة أو الإدارة أو التملك إذا دعت مصحلة المجتمع لذلك. مثال هذا، الثروات العامة، كالمعادن ومصادر الطاقة ومصانع السلاح ومؤسسات النقل البحري والجوي وغير ذلك مما يتطلب الصالح العام أن يوضع تحت الإشراف المباشر للدولة.

مسئولية الدولة عن الأموال العامة

مسئولية الدولة عن الأموال العامة: المعيار الإسلامي لشرعية تصرفات الدولة هو تحقيق الخير العام والمصالح العامة وتطبيق الشريعة الإسلامية. والحاكم المسلم هو الشخص الذي يقع عليه الاختيار لأنه الأكثر جدارة والأقدر على إدارة الجهاز الحاكم. وهو يتقاضى أجرا من المال العام لقاء عمله بقدر ما يغنيه عن أي عمل آخر، ولا يحق له إساءة استعمال الأموال العامة لأنها ملك للمجتمع وليست ملكا خاصا له. وعلى هذا فلا يجوز أن يخص الحاكم نفسه

بامتيازات شخصية إلا بمقدار ما تستدعيه المصحلة. وقد طبق هذا المعيار خلال العصر الذهبي للمجتمع الإسلامي -خلال عهد الخلفاء الراشدين- حيث كانا لحاكم يحاسب نفسه أولا، ويطلب إلى الشعب محاسبته ومراقبته ويعتبرها ضرورة من ضرورات استمرار الحكم الصالح. ويتضح هذا في خطبة أبي بكر الصديق عندما تولى الخلافة إذ قال: "أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ... أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم". وقال رجل لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى، فقال له عمر: تدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر، فجمعوا منهم مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟ فالمال العام لدى الحاكم وديعة وكان الخلفاء الراشدون يحاسبون الأمراء والعمال عن الأموال الموجودة لديهم، فإذا اكتشفوا أن أحدهم استغل مركزه في تحقيق منفعة مادية أو إثراء غير مشروع، كانوا يصادرون هذا المال -كله أو بعضه- ويضمونه إلى بيت المال ليستفيد منه الناس جميعا. وقد حبس الخليفة عمر بن عبد العزيز أحد ولاته وهو يزيد بن المهلب لأنه امتنع عن إعادة الأموال التي بحوزته إلى بيت المال، وقال له في تعليل ذلك: إنها حقوق المسلمين52.

مسئولية الدولة في مجال الضمان الاجتماعي ومعاونة الفئات المحتاجة

مسئولية الدولة في مجال الضمان الاجتماعي ومعاونة الفئات المحتاجة. الدولة في المجتمع المسلم مسئولة عن الفقراء والأيتام والعاطلين والعجزة واللقطاء، وتشير الكتب الفقهية إلى ضرورة توافر الضمان الاجتماعي لكل محتاج حيث تقوم الدولة بتوفير الإنفاق والعلاج المجاني لكل محتاج. يقول الكاساني في بدائع الصنائع: وأما النوع الرابع فيصرف

إلى دواء الفقراء والمرضى وعلاجهم وإلى أكفان الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته، وإلى نفقة من هو عاجز عن الكسب، وليس ل من تجب عليه نفقته، ونحو ذلك وعلى الإمام صرف هذه الحقوق إلى مستحقيها". وقد خصت الدولة الإسلامية عطاء معينا من بيت المال للأطفال سواء كانوا أغنياء أم فقراء رعاية للأطفال وحرصا على تنشئتهم تنشئة صالحة متوازنة. وقد أمر عمر بن الخطاب مناديا ينادي بالناس بألا تعجلوا أولادكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام53. ولا تقتصر واجبات الدولة المسلمة على رعاية المحتاجين من المسلمين فحسب، وإنما تمتد رعاية الإسلام إلى غير المسلمين كذلك، فقد جاء في كتاب خالد بن الوليد إلى أهل الحيرة عندما صالحهم: وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام54. وهكذا تكفل الإسلام برعاية كل مواطن في الدولة الإسلامية بغض النظر عن دينه أو أصله أو لونه. فالإسلام يرعى الإنسان كإنسان، وهذا هو ما جعل أهل البلاد المفتوحة يدخلون في دين الله أفواجا التماسا للعدل والحق والرعاية الكريمة. والفرق شاسع بين الفتوحات الإسلامية والفتوحات الاستعمارية، فالفتوحات الإسلامية أدت إلى اندماج عضوي بين المسلمين وأهل البلاد المفتوحة حيث دخل أهل هذه البلاد في دين الإسلام وتبنوا اللغة العربية نتيجة الاقتناعهم بالدين الحنيف الذي يتفق مع الفطرة ولما حققه الإسلام لهم من قضاء على الظلم والاستغلال، وما نعموا به في ظل الإسلام من عدل ومساواة ومعاملة كريمة، وما قدمه الإسلام لهم من حضارة خالدة، أما الحركات الاستعمارية فكان مآلها طرد البلاد المستعمرة نتيجة لما قامت به من استغلال واستنزاف للمستعمرات.

ولم تتنبه الدول الحديثة إلا في القرن العشرين وبعد أربعة عشر قرنا إلى فكرة الضمان الاجتماعي، الذي سبق أن نبه إليه الإسلام وطبقه بصورة مشرقة لا ترقى إليها التطبيقات الحديثة حتى في أكثر الدول تقدما.

الملكية العامة في الإسلام وضوابطها

الملكية العامة في الإسلام وضوابطها مدخل ... الملكية العامة في الإسلام وضوابطها: يشير مفهوم الملكية العامة توظيف المال العام للصالح العام للمسلمين، في مقابل الملكية الخاصة التي يكون توظيف المال الخاص هنا للمالك على سبيل التخصيص، وعادة ما تكون المرافق السياسية في المجتمع كالطرق والأنهار في إطار الملكية العامة. وإذا كان الإسلام يقر الملكية الخاصة بالشروط السابق الإشارة إليها ويباركها ويحميها من كل اعتداء فإن الدولة الإسلامية عرفت منذ نشأتها صورة الملكية العامة في صور متعددة نذكر منها:

أرض الحمى

أ- أرض الحمى: فقد كان ولي الأمر يقوم بتخصيص جزء من الأرض لانتفاع عامة المسلمين، الأمر الذي يجعلها واقعة في إطار الملكية العامة ولا يسمح أن تكون -كلها أو بعضها- ملكية خاصة. وفي دول الرسول عليه السلام حمى عليه الصلاة والسلام أرض النقيع، وجعلها لخيل المسلمين "وهو موضع معروف قريب من المدينة المنورة". كذلك قام عمر بن الخطاب بحماية أرض بالربذة -مكان بين مكة والمدينة- وجعل كلأها لفقراء المسلمين ترعى فيها ماشيتهم، ومنع منها الأغنياء. وهذه الحماية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم من عمر -رضي الله عنه- تمثل إقرارا للملكية العامة حيث تصير الأرض ملكا لجماعة المسلمين تحقيقا لصالحهم العام55.

الأراضي الزراعية المفتوحة

ب- الأراضي الزراعية المفتوحة: هناك خلاف بين العلماء حول الأرض المفتوحة عنوة ونوجز آراء العلماء فيما يلي: 1- يرى أنصار المذهب الشافعي أن هذه الأرض يجب أن تقسم بين الفاتحين لأنها مغنم ويستدلون على ذلك بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام في أرض خيبر *. 2- يذهب أنصار المذهب المالكي أن الأرض التي تفتح عنوة تصير فيئا وبالتالي يجب حبسها. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في سورة الحشر: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 7، 8] يستدل من هاتين الآيتين بأن الذي آل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد إخراج بني النضير يكون محبوسا لمصالح المسلمين ويكون لسد باب من أبواب التكافل الاجتماعي. وتطبيقا للنص فقد قسم الرسول -عليه الصلاة والسلام- أموال بني النضير المنقولة بين الفقراء وخص المهاجرين بالنصيب الأوفر لشدة حاجتهم، أما الأرض فلم يوزعها وأبقاها لتكون غلاتها للفقراء واليتامى والمساكين. 3- الرأي الثالث وهو المشهور عن أحمد ومذهب أبي حنيفة وأصحابه والذي عليه أكثر العلماء، فإنه يذهب إلى أن ولي الأمر يفعل بالأرض ما يراه أصلح للمسلمين من قسمها أو حبسها. فإن رأى قسمها كما

_ * ذكر الإمام ابن تيمية أن هناك روايتان حول تصرف الرسول -عليه الصلاة والسلام- في أرض خيبر. الأولى: أنه عليه الصلاة والسلام قسم أرض خيبر، والثانية: أنه قسم نصفها وحبس نصفها، راجع مجموعة الفتاوى للإمام ابن تيمية ج28، ص581-582.

قسم النبي -عليه السلام- خيبر -فعل- وإن رأى أن يدعها فيئا للمسلمين فعل، كما فعل النبي -عليه السلام- عندما فتح مكة عنوة ولم يقسمها بين الفاتحين، وكما فعل بنصف خيبر في إحدى الروايات التي تقول: إنه قسم نصفها. فالوالي يختار فله أن يحبسها أي يجعلها في ملكية المسلمين العامة ويكون حق الانتفاع لحائزيها نظير الخراج، كما فعل الرسول عليه السلام بأرض مكة، كما له أن يوزعها على المقاتلين كما فعل الرسول -عليه السلام- بأرض خيبر. كل ذلك في ضوء ما يراه من المصلحة العامة للمسلمين. وكما يذكر الشيخ علي الحفيف، ففي عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت الثروة العامة للمسلمين ضيقة الحدود قليلة المقدار في جملتها. ولهذا يجب ألا يفهم من ذلك أن الاقتصاد الإسلامي لا يعرف غير تلك الصور من الملكية العامة التي أشرنا إليها، ذلك لأن تقرير الملكية العامة يضع في الإسلام لقاعدة أساسية وهي تحقيق صالح الجماعة الكتاب والسنة. فقد ذكر عليه الصلاة والسلام: "المسلمون شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار" أخرجه أحمد وأبو داود* أضاف عليه السلام في حديث آخر الملح. وهذا يعني أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أوجب أن تكون ملكية هذه الأشياء هي التي كانت ضرورية لجميع الناس على عهد الرسول -عليه السلام- ولا يتوقف وجودها أو الانتفاع بها على مجهود خاص. واختلاف الحضارات فإنه لا يوجد ما يمنع من أن يقاس على هذه الأشياء الأربعة أشياء أخرى تتوافر فيها صفاتها. وهذا ما فعله المجتهدون من الأئمة

_ * المراد بالماء ما ليس محرزا، والمراد بالنار مواد الوقود التي لا يتوقف وجودها والانتفاع بها على مجهود خاص كالحطب في الغايات....والمراد بالملح النوع الذي يظهر تلقائيا في الجبال والصحاري ولا يتطلب مشقة أو علاجا خاصا.

عندما قاسوا على هذه الأشياء أمورا أخرى مثل المعادن: الصلبة أو السائلة "كالبترول"56. ويذهب الفقهاء إلى أن المعادن وما يأخذ حكمها من نفط وخلافه، إن ظهرت في أرض ليست مملوكة لأحد تكون ملكا للدولة أي تكون في إطار الملكية العامة، وهناك خلاف بينهم في حالة ظهور المعادن في أرض مملوكة خاصة. فناك من الفقهاء من يقيسون ما في باطن الأرض على الأمور المنصوص عنها في الحديث السباق -الماء والكلأ والنار- ويذهبون إلى أن كل ما يوجد في باطن الأرض يكون من نصيب بيت مال المسلمين57، حتى ولو وجد في أرض مملوكة ملكيةخاصة -وهذا هو رأي غالبية المالكية. وهناك رأي الشافعية الذين يذهبون إلى أن المعادن تابعة للأرض كالثمر والنبات فإذا وجدت في أرض مملوكة ملكيةخاصة صارت ملكيتها لصاحب الأرض، وهم لا يمانعون من أن يكون للدولة نصيب فيها، والرأي الغالب أن ملكية المعادن وما في حكمها يجب أن تكون للدولة تحقيقا للتكافل الاجتماعي وللمبدأ القائل بأن عائد العمل ينبغي أن يكون متكافئا مع الجهد المبذول فيه ولا يجوز قياس ما في باطن الأرض على النبات لأنهما مختلفان، هذا إلى جانب أن الناس جميعا في حاجة إلى هذه المعادن ولا يجوز تملكها ملكية خاصة وإلا كان هناك احتمال إيقاع الضرر بالمسلمين، وهذا ما يؤكده ابن قدامة وغيره من الفقهاء58. وإذا كان الإسلام قد أباح الملكية العامة في بعض الحالات فإنه لم يطلقها بدون ضوابط وإنما حدد ضوابطها وقيودها وأهمها: وجوب تخصيص المال العام للإنفاق على أغراض محددة، وهذا يعني أن الحكومة الإسلامية لا تملك إنفاق هذه الأموال في غير وجوهها الموضحة في الشريعة، فحصيلة الزكاة يجب أن توجه إلى مستحقيها الذين حددهم القرآن الكريم في الآية 60 من سورة التوبة. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] .

وهناك واجبات تفرضها الشريعة على الدولة الإسلامية تسمى بفروض الكفاية كإنشاء دور العلم والمصانع والمستشفيات ... وهو يقع على عاتق الجماعة كلها. ويرى الفقهاء أن الدولة يجب أن تقوم بالأنشطة الاقتصادية التي يعجز عنها الفرد -كالصناعات الثقيلة والسكك الحديدية- أو التي يعزف عنها الأفراد لكثرة التكاليف وقلة الأرباح مثل: استصلاح الأراضي البور. وللدولة أن تتولى الأنشطة الاقتصادية التي يخشى من تركها للأفراد أن ينحرفوا أو يقصروا مع ما لها من أهمية كالتعليم والعلاج. ويجوز لولي الأمر أن يخصص الملكية الجماعية ويقيد الانتفاع بها إذا اقتضى ذلك الصالح العام، وقد فعل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما خصص جانبا من أرض الكلأ المباحة للجميع -في منطقة النقيع- وجعلها خاصة لخيل الجيش وإبله59.

الفكر الاقتصادي في التراث الإسلامي

الفكر الاقتصادي في التراث الإسلامي: سبق علماء المسلمين في بحث القضايا الاقتصادية التي اهتم بها علماء الاقتصاد في العالم الغربي بقرون طويلة، فقد بحث المفكرون المسلمون قضايا العرض والطلب ونظرية القيمة وقضية التبادل الاقتصادي ومسائل الأسعار والارتباط بين القضايا الاقتصادية بقضايا الثقافة والجوانب القيمية والعقدية والنظم الاجتماعية والتفاعل بين الإنسان والبيئة أو الأيكولوجيا لذلك فإنهم بحثوا في قضية مدى وحدود تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وعوامل التنمية الاقتصادية ومواجهة المشكلات الاقتصادية في المجتمع. ... وسوف نكتفي هنا بعرض أهم جوانب الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون فقد كتبت عنه عشرات الرسائل العلمية والكتب من بينها رسالة دكتوراه بعنوان: الفكر الاقتصادي في مقدمة ابن

خلدون"* ذكر صاحبها أن كتابة ابن خلدون جديرة بأن تكون نقطة البدء للدراسة العلمية في الاقتصاد، فهي ليست مجرد تجميع للمعارف المنوعة لكنها مجموعة معارف منظمة مرتبة ينطبق عليها مصطلح العلم بمعناه الدقيق. وهذا يعني أن العلماء المسلمين سبقوا علماء الغرب مثل: "آدم سميث" في كتابة "ثروة الأمم سنة 1776" وغير من مؤسسي علم الاقتصاد في الغرب بأكثر من أربعة قرون في دراسة القضايا الكبرى في مجال الاقتصاد. وقد تعرض ابن خلدون لهذه القضايا الاقتصادية في أكثر من فصل من فصول مقدمته** وسوف نعرض لأهم جوانب الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون في نقاط: أولا: ناقش ابن خلدون قضية الأساس الذي يقوم عليه المجتمع وهو في نظره تقسيم العمل وتلبية حاجات الناس لعجز الفرد عن تلبية جميع حاجاته، وهو يحاول تفسير التطور الاجتماعي على أساس اقتصادي. فهو يحدثنا عن انتقال المجتمع من البساطة إلى التعقيد من ناحية البنية والتركيب. ويقابل هذا التطور مراحل معينة في أسلوب استغلال موراد البيئة الطبيعية. فالمرحلة الأولى للمجتمعات هي رحلة الزراعة البدائية، تليها مرحلة الرعي والزراعة المتقدمة، ثم تليها مرحلة الصناعة والتجارة، وتقترب هذه المراحل التطورية عند ابن خلدون من تلك التي عرضها الاقتصادي الألماني "فردريدك ليست" ويربط ابن خلدون كل مستوى اقتصادي

_ * تقم بها الدكتور محمد علي نشأت. ** ارجع إلى الفصول الآتية في مقدمة ابن خلدون: "فصل في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو" و"فصل في معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها"، و"فصل في أي أصناف الناس يحترف بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفه" و"فصل في نقل التاجر للسلع" و"فصل في الاحتكار" و"فصل في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص" و"فصل في أن الصنائع لا بد لها من المعلم" و"فصل في أن الصنائع إنما تكتب بكمال العمران الحضري وكثرته" وغير هذه الفصول مما ورد في الفصل الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق -ارجع إلى مقدمة ابن خلدون.

بمستوى أخلاقي معين. فالبدو أقرب إلى الشجاعة والتضامن والعصبية والأخلاق الحميدة بالمقارنة بأهل الحضر. وهو بهذا التحليل سبق "فردناند تونيز" في التفرقة بين خصائص المجتمع المحلي "الجمنشافت" والمجتمع العام "الجزلشفات". ثانيا: وقد تعرض ابن خلدون لكثير من القضايا الاقتصادية كالعرض والطب وما يطلب عليه الآن نظرية القيمة، فقد أكد أن العمل هو الأساس الأول للقيمة، وقد سبق بهذا الرأي العديد من النظريات الحديثة، يقول ابن خلدون: "لا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب وممول لأنه إذا كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان يتعلق بالحيوانات والنبات والمعدن ففيه من العمل الإنساني كما نراه وإلا لم يحصل به انتفاع". ثالثا: بحث ابن خلدون ما يطلق عليه اليوم "المستوى العام للأسعار" فارجع تقدير إلى تفاوت الثروة من بلد لآخر. رابعا: قسم السلع التجارية إلى ضرورية وكمالية وتوصل إلى نسبية هذا التصنيف وارتباطه بدرجة التقدم والعمران. فالبلاد التي تبلغ درجة أعلى من الحضارة تنقلب الكماليات فيها إلى ضرورات. خامسا: قدم ابن خلدون تفسيرا اجتماعيا للتقدم الاقتصادي "تقدم الزراعة والتجارة والصناعة وارتفاع الأجور وكثرة عرض السلع" حيث ذهب إلى أن التقدم الاقتصادي يقوم على عاملين: الأول تكاثر السكان، الثاني تقسيم العمل، أي توزيع الاختصاصات وتزايد حجم التخصص والتكامل. وقد سبق بهذا الرأي "آدم سميث" a.smith الذي ينسب إليه تأسيس علم الاقتصاد في العالم الغربي. سادسا: ناقش ابن خلدون مسألة حرية التداول التجاري وموقف الدولة من النشاط الاقتصادي وحدود تدخلها. فقد كان من أنصار الحرية التجارية -مع الالتزام بالضوابط الإسلامية- وعارض تدخل الدولة بشكل

كبير في النشاط الاقتصادي للأفراد ونادى بعدم الإسراف في فرض ضرائب، ويؤكد ابن خلدون أن من واجب الدولة أن تتأكد أن "الضرائب" لا تثمر إذا هي فرضت فرضا تعسفيا وأن الضرائب المعتدلة أعظم حافظ على العمل الاقتصادي. سابعا: يؤكد ابن خلدون أن التعاون عملية اجتماعية أساسية في حياة البشر. ويعد هذا المفكر من أنصار نظرية تفسير المجتمع بحاجة الأفراد إلى التعاون لسد احتياجاتهم الاقتصادية والبيولوجية والدفاعية. يقول ابن خلدون في هذا الصدد: إن قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجاته من الغذاء غير موفية له عادة حياته منه ... فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه كي لا يحصل الموت له ولهم ... كذلك فإن الواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة الواحد من الحيوانات المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة، ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها، فلا بد في ذلك من التعاون عليه بأبناء جنسه. وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء، ولا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته، ولا يحصل له دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك على مدى حياته ويبطل نوع البشر. ويؤكد ابن خلدون أن ظاهرة السلطة أمر حتمي في شئون البشر. فمتى تحققت الضرورة الاجتماعية عند الناس وتجمعوا من أجل إتمام حكمة الله في خلق الجنس البشري، لا بد من وجود السلطة من أجل تنظيم علاقاتهم تنظيما يكفل استمرار المجتمع والتعاون. ويتجسد قيام السلطة في قيام الملك*.

_ * ترتبط فكرة ابن خلدون عن السلطة بنظريته في العصبية، حيث قرر ابن خلدون في المقدمة الأولى من الباب الأول ثلاثة مبادئ أساسية وهي: أولا: ضرورة الاجتماع للبشر واستحالة معيشتهم منفردين. ثانيا: ضرورة وجود الوازع. ثالثا: عدم ضرورة وجود الشرع للبشر وإمكان دفع العدوان بالعصبية وسطوة الملك وهو يستدل على هذا المبدأ الثالث بأن أهل الكتاب والمتبعين للأديان السماوية قليلون بالنسبة للمجوس الذين ليس لهم كتاب منزل، ومع هذا فقد كانت لهم الدول والمجتمعات فضلا عن الآثار. وهو يميز بين نوعين من الوازع: الأول هو الوازع الديني، والثاني أطلق عليه الوازع السلطاني. وتعد نظرية ابن خلدون في العصبية أساس ما يطلق عليه اليوم علم الاجتماع السياسي.

لكن ابن خلدون ينبه إلى أن تدخل الدولة بشكل سافر في النشاط الاقتصادي للأفراد وقيامها بمصادرة أموالهم والتعسف في تقييد النشاط الاقتصادي -كما هو حادث الآن في الدول الماركسية- أمر يؤدي إلى خراب الدولة. ثامنا: لم يغفل ابن خلدون عن العلاقة التفاعلية بين الإنسان والبيئة الطبيعية وهو ما يطلق عليه الآن الأيكولوجيا الإنسانية human ecology. وقد سبق ابن خلدون المفكر الفرنسي "مونتسكيو" في معالجة أثر العوامل الجغرافية على العمران في أكثر من موضع في مقدمته مثل: "المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار والأنهار والأقاليم، والمقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير في أخلاق البشر" ... إلخ. وبهذا يكون ابن خلدون سبق النظريات الأيكولوجية الحديثة في بيان العلاقة التفاعلية بين الإنسان والبيئة وأثر البيئة على لون الناس وأخلاقهم ونظامهم الإنتاجي. وقد عالج بشكل ممتاز العلاقة بين النمو السكاني والنمو العمراني، وبين هذين المتغيرين جملة وبين الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية. يقول في ذلك: ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثم زاد الترف تبعا للكسب وزادت عوائده وحاجاته واستنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمتها وتضاعف الكسب في المدينة. وقد سبق ابن خلدون بهذا بعض آراء "أميل دوركيم" في رسالته للدكتوراه عن "تقسيم العمل الاجتماعي" هذه هي بعض إسهامات أحد علماء المسلمين يتضح منها إمكانية اعتباره مؤسس علمي الاجتماع والاقتصاد معًا، خاصة وأنه أشار إلى أهمية الدراسة الموضوعية للمجتمع استنادا إلى الملاحظة والمقارنة من

أجل الكشف عن القوانين التي تحكم الحياة الاجتماعية أو السنن الاجتماعية، خاصة وأنه كان يؤمن أن الظواهر الاجتماعية لا تخضع في نشأتها وتطورها لعامل الصدفة، وإنما تخضع لقوانين وسنن محددة يكن اكتشافها، وقد كان هدفه من كل هذا التوصل إلى التاريخ الصحيح الخالي من الأخطاء والأغلاط التي حفلت بها الروايات التاريخية في عصره.

مصادر الفصل الخامس

مصادر الفصل الخامس 1- محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة دار الشروق، بيروت، القاهرة، جدة 1394-19474، ص270. 2- محمد فاروق النبهان: مبادئ الثقافة الإسلامية، دار البحوث العلمية، الكويت 1974، ص417-418. 3- المصدر السابق: ص 417، وقد رجع إلى نتائج الأفكار تكملة فتح القدير شرح الهداية ج7 ص58. 4- نهاية المحتاج للرملي: ج4 ص 161، مذكور في المصدر السابق ص 418. 5- أحمد محمد جمال: محاضرات في الثقافة الإسلامية، مطبوعات الشعب 1975، ص 238-239. 6- النبهان: مصدر سابق ص388. 7 - المصدر السابق، 391. 8- محمد عبد الله العربي: الملكية الخاصة وحدودها في الإسلام، المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية ص142، مذكور في المصدر السابق ص394. 9- النبهان: المصدر السابق ص398. 10- المصدر السابق. 11- محمد أبو زهرة: محاضرات في المجتمع الإسلام، معهد الدراسات الإسلامية بدون تاريخ ص42-65. 12- المصدر السابق: ص8. 13- المصدر السابق، ص58. 14- نفس المصدر، ص62. 15- ارجع إلى محمد أبو زهرة، المصدر السابق، ص63 وإلى الروض النضير، شرح المجموع الكبير باب البيع. 16- المصدر السابق: ص45. 17- محمد أبو زهرة: مصدر سابق، ص46 18- المصدر السابق، ص 46-47.

19- أحمد محمد العسال، فتحي عبد الكريم: النظام الاقتصادي في الإسلام، مكتبة وهبة 1397-1977، ص 160-161. 20- فتاوى ابن تيمية: 290، مذكورة في المصدر السابق ص163. 21- فتاوى ابن تيمية: المصدر السابق ص166. 22- العسال وعبد الكريم: ص174. 23- للمزيد من التفصيلات ارجع للمصدر السابق ص177. 24- المصدر السابق 178. 25- المصدر السابق: ص178. 26- هذه التعريفات للعقود مأخوذة من كتاب: الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، تأليف الشيخ شرف الدين الحجاوي المقدس، طبعة المكتبة التجارية بالقاهرة وأخذناها من كتاب العسال وعبد الكريم ص 178-179. 27- محمد فاروق النبهان: مصدر سابق ص330. 28- العسال وعبد الكريم: مصدر سابق 56. 29- النبهان: مصدر سابق 331. 30- نفس المصدر. 31- محمود شلتوت: مصدر سابق ص288-289. 32- أحمد جمال: مصدر سابق ص247-249. 33- المصدر السابق: ص249. 34- المصدر السابق: ص249-250. 35- المصدر السابق ص251-252. 36- محمد أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع: دار الفكر العربي، 1385هـ -1965م، ص38. 37- المصدر السابق: ص39-40. 38- عدنان خالد التركاني: العمال بين الإسلام والنظم الوضعية، مجلة كلية الشريعة واللغة العربية في أبها، العدد الأول 1398/1399هـ، ص59-60. 39- محمد أبو زهرة: مصدر سابق ص142-145. 40 - المصدر السابق: ص146-147. 41 المصدر السابق: ص36- الهامش. 42- عدنان التركماني: مصدر سابق ص55. 43- المصدر السابق: ص58. 44- نبيل السمالوطي: المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع، دار الشروق، جدة 1400هـ، الفصل الأول.

45- محمود شلتوت: مصدر سابق ص275. 46- المصدر السابق ص275. 47- أمد محمد جمال: مصدر سابق ص246. 48- محمد فاروق النبهان: مصدر سابق ص400. 49- المصدر السابق ص401. 50- من أجل المزيد من المعلومات حول نظام الحسبة في الإسلام يمكن للباحث الرجوع إلى الأحكام السلطانية للماوردي، والدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية للاستاذ محمد المبارك، مذكورة في المصدر السابق ص402. 51- الماوردي: الأحكام السلطانية ص253. 52- النبهان: مصدر سابق ص406. 53- المصدر السابق: ص407، نقلا عن الخراج للدكتور الريس ص173. 54- ارجع إلى محمد أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، مصدر سابق ص40- وإلى العسال وعبد الكريم، مصدر سابق ص60 وإلى علي الحفيف: الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام، من بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية الجزء الأول من كتاب التوجيه التشريعي في الإسلام سنة 1391-1971 ص20. 55- العسال وعبد الكريم: مصدر سابق ص66-68. 56- المصدر السابق: ص68. 57- نفس المصدر: ص70. 58- نفس المصدر ص71.

الفصل السادس: قضايا التحديث والتنمية في علم الاجتماع مع طرح مدخل إسلامي مقترح

الفصل السادس: قضايا التحديث والتنمية في علم الاجتماع مع طرح مدخل إسلامي مقترح مقدمة برزت قضية التنمية لدى مجتمعات العالم الثالث بشكل واضح بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن تحررت الكثير من الدول من الاستعمال تحررا سياسيا وعسكريا. وقد وجدت أن هذا التحرر لن يخرجها من دائرة الاستعمار والتبعية الفعلية إلا إذا تحررت اقتصاديا وأصبح اقتصادها قادرا على الاستقلال وعلى تهيئة مستويات معيشية مرضية لأبنائها، خاصة وأن هذه الفترة هي فترة نمو الاحتكاك الثقافي بين الدول النامية والمتقدمة صناعيا واقتصاديا وهي الفترة التي نمت فيه وسائل الاتصال بشكل مكثف وهي الفترة التي نمت فيها ما أطلق عليه ثورة التطلعات المتزايدة لدى شعوب الدول النامية التي تستهدف التخلص من الحرمان التاريخي الطويل1. والواقع أن هذه الشعوب عانت من الفقر والاستبعاد، ومن فقدان الأمل في عيشة إنسانية كريمة، ولم تعد قادرة على تحمل هذه الأوضاع أكثر من ذلك بعد المتغيرات التي ذكرت جانبا منها. وصار لديها تطلع على حد تعبير "روبرت لوير" R.lauer إلى الخبز والحرية A Passion For Bread and Freedom فقد زاد وعيهم -وخاصة وعي الصفوات الوطنية الحاكمة- إلى الهوة السحيقة التي تفصل بين مستويات المعيشة في الدول الفقيرة، ومثيلاتها من الدول الغنية المتخمة بالخيرات والتي يعيش أبناء المجتمعات النامية على فتات موائدها. وبرز التناقض أكثر إذا علمنا أن تلك المستويات المعيشية المتقدمة حققتها الدولة المتقدمة على حساب نهب موارد الدول المتخلفة وعلى حساب أسواقها وعلى حساب الأيدي العاملة فيها وعلى حساب استذلال أهلها. ولعل

التجسيد المأساوي لمشكلات التخلف في الدول النامية يتمثل في طائفة المنبوذين untouchables في الهند الذين كانوا يلتقطون القطع غير المهضومة من الحبوب داخل روث البهائم لأكلها سدا لرمقهم من الجوع، كما يتمثل في آلاف الأطفال في أمريكا اللاتينية -وفي أفريقيا الذين يموتون نتيجة لنقص المياه، وهنا كمئات الملايين في العالم الثالث الذين يتعرضون في كل لحظة للهلاك من المرض وسوء التغذية2. ويشير "روبرت لوير" R.lauer إلى أننا يمكننا إدراك أبعاد التباين وانعدام العدالة بين شعوب العالم من ضوء بعض المؤشرات الكمية لجوانب التقدم والتخلف. فإذا قسمنا دول لعالم إلى خمس مجموعات حسب مستواها من التنمية الاقتصادية والسياسية، نجد أن هناك تباينا ضخما بينهما من حيث استهلاك السلع والخدمات المقومة اقتصاديا valued goods and serveces وعلى سبيل المثال فإن متوسط الإنتاج الكلي لكل فرد يتراوح في هذه المجموعات بين 45 دولارا، 2577 دولارا في السنة، وقد وجد أن المتوسط في إحدى عشرة دولة تقليدية وصل إلى 56 دولارا للفرد، بينما وصل المتوسط في أعلى أربع عشرة دولة الاستهلاك الواسع 1330 دولارًا للفرد. وقد وصل متوسط المتعلمين للدول ذات المستوى الإنمائي المنخفض إلى 12.9% من مجموع الراشدين فوق سن الإلزام في حسن وصل إلى 98% بين أبناء الدول ذات أعلى مستوى إنمائي. وفي المجال الطبي نجد أن هناك طبيبا لكل 46073 مواطنا في الدول المنخفضة النمو، بينما تكون النسبة طبيبا لكل 85 مواطنا في الأربع عشرة دولة التي تمثل أعلى مستويات التنمية3. ونتيجة للمعاناة المستمرة لدى أبناء الدول المتخلفة، والفروق الضخمة والمتزايدة كان هناك اتساع في المستويات المعيشية بينها وبين الدول الأكثر

_ * يشير "لوير" إلى أنه استعان في إيراد هذه البيانات بدراسة "برجت بردر" B.Berger بعنوان "مجتمعات في حالة تغير". societies in change الصادر سنة 1971 -والإحصاءات الواردة في هذا الكتاب تعبر عن الفترة من 1950-1960.

تقدما -من الجانب الاقتصادي والتكنولوجي- وكان إدراك أبناء الدول المتخلفة لهذه الحقيقة وعدم قدرتهم على تحمل المزيد من المعاناة، لهذا فإن حكومات هذه الدول الأخيرة أخذت بفكرة التخطيط لإحداث نمط من التغيير الاجتماعي والثقافي يطلق عليه "التحديث" modernization وليس معنى هذا أن التغيرات التحديثية سوف تتجه نحو إحلال النموذج الغربي بالضرورة westernization في الاقتصاد "الاقتصاد الحر والتصنيع" والسياسة "تعدد الأحزاب الديمقراطية الغربية" والقيم "العلمانية والعقلانية" والإعلام والتعليم والسلوك ونماذج التفكير والفصل بين الدنيا والدين ... إلخ، فهناك عدة مسارات وغايات للتحديث لا تقتصر على النموذج الغربي على عكس ما يذهب إليه المؤرخ البريطاني "توبنيبي" toynbee الذي يرى أن كلمة عصري omdern تساوي كلمة غربي western التي يرفض الكثير استخدامها، على عكس ما يذهب إليه عالم الاجتماع اليهودي "ايزنشتادت" s.n.eisenstadt الذي يربط التحديث السياسي بصياغة نظم دستورية ديمقراطية كالتي تسود في الغرب وهو يرى أن سقوط التجربة الديمقراطية الدستورية في بعض الدول مثل باكستان والسودان -في أزمة معينة- هو سقوط لتجربة التحديث، لأنه فضل في تطبيق النظم الغربية4، كذلك فقط ربط البعض خطأ بين التحديث والصياغة الأمريكية للمجتمعات americanization وهذا لا يقل خطأ عن رأي "توينيبي" و "إزنشتادت". فهناك التجربة اليابانية وهناك التجربة الصينية وهناك التجربة السعودية وهناك تجارب كثيرة في العالم الثالث كالتجرب الهندية. وهي كلها تجارب تنطلق من إيديولوجيات ونماذج فكرية وغائية متباينة وهي تجارب ناجحة بالمعيار الاقتصادي والتكنولوجي وإن اختلفت المنطلقات والمسارات والأهداف.

التحديث وارتباطه بالتصنيع

التحديث وارتباطه بالتصنيع: وسوف نعالج التحديث هنا على أنه نموذج من التغيرات الاجتماعية من خلال طرح مجموعة من التساؤلات حول متضمناته وأهدافه وأساليبه. فقد

ارتبطت عمليات التحديث من الناحية التاريخية بعملية التصنيع. ولكن هذا لا يعني أنهما مترادفتان. فالتحديث كمصطلح أكثر شمولًا واتساعًا حيث يمكن حدوث التحديث حتى في غيبة التصنيع. ويشير "آبتر" Apter في هذا الصدد إلى أن تحديث العالم الغربي اقترن بعمليات الصياغة التجارية Commercialization والصناعية Industrialization للمجتمعات الأوروبية، أما في المجتمعات غير الغربية فقد اقترنت بدايات التحديث بالصياغة التجارية والبيروقراطية. ويشير "آبتر" إلى أن التحديث في المجتمعات الغربية كان نتيجة للتصنيع، بعكس الحال في المجتمعات النامية المعاصرة نجد أن التحديث يحدث نتيجة للتصنيع، بعكس الحال في المجتمعات النامية المعاصرة نجد أن التصنيع يحدث نتيجة لاطلاق برامج مخططة لتحديث المجتمعات5. والواقع أنه يصعب الفصل الفعلي بين التحديث والتصنيع؛ لأنهما معًا يشكلان العامل الأساسي في النمو الاقتصادي خاصة في ظل التقدم التكنولوجي في كل المجالات الصناعية والزراعية والتجارية حتى إنه أصبح يطلق على الزراعة المتقدمة وتربية المواشي والدواجن بشكل متقدم تهجين وتلقيح صناعي، وطرق متقدمة في التربية الصناعات البيولوجية، وإذا كان البعض يفصل بين التحديث وبين التصنيع فإنه يصعب وجود نماذج واقعية تدعم هذا الرأي، إلى جانب أنه يمكن النظر إلى التصنيع في المجتمعات بوصفه المدخل إلى عملية التحديث أو على الأقل بوصفه أحد عملياته أو وسائله الاقتصادية. ويمكن تحديد مفهوم التصنيع ببساطة بأنه جانب من التنمية الاقتصادية يحدث من خلال عمليات التحويل التي تحدث للمواد والطاقة من خلال استخدام تكنولوجيات معينة. وغالبًا ما تكون مصادر الطاقة في المجتمعات الزراعية ناجمة عن قوة الإنسان وقوة الحيوان. وقد قدرت مصادر الطاقة في أمريكا سنة 1850 فوجد أن 65% منها راجعة إلى قوة الإنسان والحيوان، أما في سنة 1950 فقد وجد أن 65% من الطاقة تأتي من الوقود والقوة الكهربائية الناجمة عن مصادر مائية. Hydro - electrik وقد ارتفع متوسط استهلاك

الطاقة من 435 حصانًا في الساعة لكل شخص سنة 1850 إلى 4470 حصانًا في الساعة لكل شخص سنة 1950وقد اختلف الباحثون بشأن محاولة تحديد مراحل النمو الصناعي والاقتصادي، وربما كانت أشهر محاولة في هذا الصدد تلك التي قدمها روستو W. W. Rostow حيث حدد خمس مراحل للنمو وهي7. أولًا: الوضع التقليدي Traditional Setting ثانيًا: التهيؤ للانطلاق Preconitions for take off ثالثًا: الانطلاق The take off رابعًا: الاتجاه نحو النضج Thurst Lowards Maturity خامسًا: مرحلة الاستهلاك الواسع High mass consumption ولقد لقيت هذه المراحل قبولًا واسعًا في الأوساط العلمية كما أنها وجهت بالعديد من ألوان النقد*. ولعل النقد الأساسي الموجه لهذه النظرية هي محاولة تعميم محصلة التجربة الأوروبية دون دراسات مقارنة واقعية تسمح منهجيا بهذا التعميم. فهذه النظرية تربط بين تجربة التنمية الاقتصادية بالتصنيع في إطار محدد، وهذا ينطبق على بعض المجتمعات ولا يعني انطباقها على تجارب مجتمعات معينة حتمية انطباقها على كل المجتمعات. وقد طرح في التراث الاقتصادي والاجتماعي العديد من نظريات المراحل كنماذج للتحديث تقترب من نظرية روستو في بعض الجوانب وتختلف عنها من جوانب أخرى. وهذه الاختلافات تعكس اختلاف التغيرات التحديثية من حيث محركاتها ومنطلقاتها واتجاهاتها وتوجهاتها الإيديولوجية والقوى المؤثرة فيها. ومثال هذا دراسة جون فيربانك J.K. Fairbank

_ * للوقوف على المزيد من التفصيلات عن نظرية روستو ونقدها ارجع إلى كتاب المؤلف بعنوان التنمية والتحديث الحضاري -الجزء الأول- الأبعاد الاقتصادية والنفسية للتنمية الاقتصادية -الجبلاوي، القاهرة 1975 ص69-83.

و"الكساندر ايكشتين A. Eckstein و"يانج" L.S. Yang في دراسة لهم بعنوان التغير الاقتصادي في الصين الحديثة: إطار تحليلي حيث ذهبوا إلى أن هناك خمس مراحل للنمو تتفق إلى حد كبير مع مشروع روستو، وهي: 1- مرحلة التوازن التقليدي. 2-مرحلة ظهور القوى المخلة بهذا التوازن التقليدي. 3- مرحلة الفوضى والاضطراب واختلال التوازن الأمر الذي يستثير الميكانزمات الاجتماعية التي تسعى لاستعادة التوازن والاستقرار. 4- الانطلاق نحو النمو. 5- الوصول إلى مرحلة النمو الذاتي المنتظم والمستمر. ويشير "لوير" إلى أن هذه المراحل تنطبق على التغيرات الحادثة في اقتصاديات الصين والهند وأغلب دول الشرق الأدنى باستثناء اليابان. فهذا المجتمع الأخير لم تظهر فيه مرحلة التوتر والاضطراب واختلال التوازن التقليدي بنفس الشكل والقوة الذي ظهرت بهما في مجتمعات الشرق القديم الأخرى. فقد حدث شكل من التزامن والمعاصرة بين التقليد والتحديث واستمر حتى الآن بشكل متناسق في مجتمع اليابان. ويحتاج نموذج "روستو" إلى تغيرات كبيرة عند التطبيق على مجتمعات العالم الثالث التي تعرضت للاستنزاف الاستعماري في الماضي، وما زالت تتعرض لضغوط اقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية وإيديولوجية واستراتيجية من جانب الدول المتقدمة اقتصاديًا والتي تملك مقومات التنمية والتحديث التي تحتاجها الدول النامية: الخبرات، التكنولوجيا المتقدمة، العلم، رأس المال، الاتصال، هذا إلى جانب أنها تملك مختلف ميكانزمات وتنظيمات التجسس والضغط وإحداث التوترات.. وتحاول توظيف كل هذه المقومات من خلال القروض، والمعونات، برامج التسليح، المخابرات ... لتوجيه حركة التغير المخطط داخل هذه الدول النامية في مسارات معينة، وتعويق اتجاه التغير إلى مسارات أخرى أو حتى بلوغ مراحل معينة.

والواقع أننا إذا كنا نوافق على الربط بين التنمية الاقتصادية والنمو في عمليات التصنيع كمًّا وكيفًا، باعتبار أن التصنيع هو المدخل الأساسي للإنتاج -بكل أنواعه- وبالتالي المدخل لزيادة الناتج القومي وبالتالي متوسط الدخل الفردي، فإننا نؤكد أن النمو أو التغير الصناعي ليس مجرد نمط من التغير التكنولوجي أو الاقتصادي أو تغير في ثقافة المجتمع المادي فحسب، ولكنه يمثل نمطًا من التغير الاجتماعي والثقافي كذلك بوصفه نمطًا اجتماعيًا يتطلب تغيرًا في السلوك والقيم والعادات وبعض المعتقدات، كما يرتبط بنماذج ونظم الأسرة والاتجاهات الوالدية والعلاقة مع البيئة وأساليب التفاعل معها، كما يرتبط بمضامين وتوجهات التنشئة الاجتماعية، وبالدوافع النفسية كالدافع إلى العمل والإنجاز والتحكم في البيئة وطلب العلم، ويرتبط بمستويات الطموح والتطلع والتحقيق، كما يرتبط بطبيعة النمط التعليمي السائد وتوجهاته وأهدافه ومضامينه ... إلخ. هذا إلى جانب أن توجهات التصنيع وأنواعه وأهدافه وتوظيف عائده أمر يرتبط بالتوجهات السياسية وبناء القوة والتأثير داخل المجتمع، وبالتوجه الإيديولوجي السائد، ويرتبط بالسلوك السياسي للجماعات الاجتماعية المختلفة. وقد اتسع مفهوم الصناعة في العصر الحديث، فهناك الصناعات الاستخراجية والتحويلية والخفيفة والوسيطة والثقيلة، وهناك الصناعات البيولوجية التهجين والتلقيح الصناعي، وهناك صناعة السياحة والفندقة، وحتى يقال صناعة الرأي العام ويقصد بها صناعة وسائل الاتصال وتكنولوجيات التعليم والتأثير في الجماهير.. وإذا كان مصطلح التحديث يرتبط بتزايد تحكم الإنسان في البيئة المادية والجغرافية وكأساليب متقدمة للتوافق الإيجابي معها، فإن التصنيع بكافة أشكاله يلعب دورًا مهمًا في هذا الصدد. وهذا يعني أن التصنيع يعد مدخلًا أساسيًّا للتحديث جنبًا إلى جنب مع المداخل الأخرى التي تحقق النمو الاجتماعي والثقافي والسياسي ... ويمكن القول أن الاختلاف في تحديد العلاقة بين المفاهيم المذكورة-

التحديث، التنمية الاقتصادية، التنمية الاجتماعية، التصنيع ... يرجع إلى اختلاف التوجهات الإيديولوجية، وإلى ارتباط هذه المفاهيم بالمصالح الدولية والمجتمعية -ومثال هذا، دراسة "رينهارت بندكس" R. Bendix بعنوان بناء الأمة والمواطنة8 يعرف التصنيع كنمط من التغير التكنولوجي والاجتماعي ويذهب إلى أن التحديث يتضمن كل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي صاحبت التصنيع في العديد من البلاد الغربية. ويشير لوير Lauer إلى أن بعض الدارسين يرون جوهر التحديث يتمثل في نوعية النظام الاجتماعي Social Order الذي يوصف بالحداثة Modernity والذي يطبق داخل المجتمعات الحديثة أم حتى المجتمعات النامية في أثناء عملية تحولها من التقليدي إلى النمو والتقدم. ومن الطبيعي أن رؤية الباحث في علم الاجتماع للنظام الاجتماعي من حيث مضامينه ومحدداته وارتباطاته بالقوى الاجتماعية ومنطلقاته وعوامل قيامه وثباته وتغيره.. سوف تختلف بالضرورة عن رؤية الباحث في علم الاقتصاد أو العلوم السياسية أو علم النفس.. فهناك من الباحثين مثل "شومبيتر وماكليلاند Mc. Cleland وهيجن Hagen من يرون أن جواهر التحديث يمكن في طبيعة الشخصيات الفردية Individual Personalities. والتحديث عندهم وظيفة نتيجة وسبب في نفس الوقت لنماذج محددة من الشخصية خاصة لدى الصفوة أو القيادات في المجالات المختلفة. وقد اختلف الباحثون في تحديد أهم هذه السمات والخصائص الشخصية المرتبطة بقضية التحديث القدرات الريادية Interprenerial abilities- "شومبيتر" أم تطوير الدافعية العالية للإنجاز Development of high achievement motivation "ماكليلاند" أم انتقال الشخصية من التسلطية إلى الشخصية الديمقراطية "هيجن" أم تغير في النماذج السلوكية Behavioral models "كنكل".... إلخ9. وهناك طائفة من الدارسين يربطون بين مفهوم التحديث ومفهوم الاختيار الحر من جانب الأفراد، وهذا المتغير يرتبط بدوره بالتربية والنشاط الاقتصادي والضوابط السياسية والاجتماعية والعقيدة الدينية والقيم

والاتجاهات الموجهة. والواقع أن حرية الاختيار تعد وظيفة لأنواع مختلفة من التنمية والتغيرات الإنمائية. ويؤكد دافيد آبتر D. Apter أهمية هذا المتغير حيث يشير في دراسته بعنوان The Politics of Modernization أرى أن التحديث كعملية غير اقتصادية يظهر عندما تُطَوَّر الثقافة اتجاهًا لطرح استفسارات أو تساؤلات حول كيفية قيام الناس بعملية الاختيار، سواء الاختيارات الأخلاقية أو المعيارية أو الاجتماعية البنائية أو الشخصية السلوكية فمشكلة الاختيار مشكلة أساسية أو محورية في حياة الإنسان الحديث10. ويذهب ايثيل دي سولا بول Pool في دراسته عن دور الاتصال في عملية التحديث والتغير التكنولوجي إلى أن التحديث هو عملية اكتساب تصورات أو صور عقلية جديدة مثل تصور التغير الموجه Direct Change، وتصور إمكانية حدوث التنمية Possibility of development. ويشير إلى أن وسائل الاتصال العامة Mass media تلعب دورًا مهمًا في إكساب الناس مثل هذه التصورات الجديدة. وهذا يعني أن من بين وظائف وسائل الاتصال تقديم مجموعة من البدائل الفكرية أو التصويرية أو السلوكية الأمر الذي يستثير أعمال الفكر والمقارنة والاختيار، وهذه المتغيرات أساسيَّة للتحول من التقليديين إلى الحداثة.

التحديث والتغير الاجتماعي

التحديث والتغير الاجتماعي وعلى الرغم اختلاف المنظورات والاتجاهات بصدد تحديد مفهوم ومضامين عملية ومصطلح التحديث، إلا أن هناك اتفاقًا حول بعض القضايا. ومثال هذا أن "دانيل ليرنر" D. Lerner يحدد لنا أهم جوانب الالتقاء بين الدارسين بصدد تحديد أهم خصائص الحداثة Charecteristics of Modernity فيما يلي: أولًا: توافر حد أدنى من القدرة الاقتصادية على النمو الذاتي المستمر

Self suslained growth. وهذا يعني قدرة الاقتصاد الوطني على تحقيق نمو مستمر ومنتظم في الإنتاج والاستهلاك. ثانيًا: تحقيق قدر معين من المشاركة السياسية على كافة مستويات المشاركة طبقًا لمقاييس المشاركة يمكن صياغتها وإعدادها لقياس هذه الظاهرة. ثالثًا: توافر إمكانات الحراك الاجتماعي أو التنقل الاجتماعي وتزايد معدلاته. رابعًا: انتشار المعايير العقلية والعلمية ونماذج التفكير المنطقي داخل الثقافة العامة للمجتمع. خامسًا: سيادة نموذج منوالي للشخصية يتيح للأفراد أداء الأعمال التي يقومون بها -لعب أدوارهم- بكافة في إطار نظام اجتماعي يتسم بخصائص معينة -قدرة الاقتصاد على النمو الذاتي المستمر والمنتظم، والمشاركة، وسيادة المعايير العقلية والعلمية، وشيوع الحراك والتنقل الاجتماعي. وإذا كان "لوير" يشير إلى أن التحديث ببساطة يعني مواجهة نوعين أساسيين من المشكلات وهي مشكلات الخبز، الاقتصاد، والحرية، الأخلاق والاجتماع والسياسة والثقافة، فإذا هذا يعني أن التحديث لا يقتصر على الجانب الاقتصادي ولكن يشير إلى مفهوم تتكامل في إطاره مختلف التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهناك تساؤل يطرحه "لوير" حول مدى كفاية نظريات التغير الاجتماعي المطروحة في تراث علم الاجتماع، من حيث تفسير التغيرات التحدثية أو التنموية التي تجري في دول العالم الثالث التي تمثل قطاعًا ضخمًا من سكان العالم. ومن الملاحظ أن الكثير من النظريات والآراء المطروحة في هذا العلم ركزت على جانب أو جوانب معينة في حين أغفلت جوانب أخرى. وينطبق هذا على التحليل البنائي الوظيفي الذي قدمه "سملسر" N. Smelser

عن التحديث في انجلترا، كما ينطبق على أنصار التيار السيكولوجي في تفسير التحديث "هيجن" و"ماكليلاند" وعلى أنصار تيار التحديث الفردي Individual Modrnity. ويتضح للمتتبع للتراث أن نظريات التغير المطروحة غير كافية لتفسير التغيرات الحادثة في العالم الثالث، وأن هذه النظريات متصارعة والعديد منها موجه إيديولوجيا، وتعكس تجربة مجتمع أو آخر أو تجربة إيديولوجية يعينها ولم تصغ أي منها بالأساليب المنهجية المقارنة الصحيحة. وهناك العديد من الدراسات النقدية التي تعرضت لدراسات التحديث من بينها دراسة "دين تيبس" Dean Tipps بعنوان نظرية التحديث والدراسة المقارنة للمجتمعات: منظور نقدي11. ويؤكد تيبس أن أغلب علماء الاجتماع استخدموا مفهوم التحديث على أنه مفهوم شمولي مستقل Inclusive وليس على أنه تصور فارق أو مميز Discriminating concept. فهم يستخدمونه للإشارة إلى تغيرات وظواهر معينة، وليس لتوضيح الفروق بين ما هو حديث وما هو تقليدي وأساليب التحول وعوامله. وغالبًا ما تكون مستويات التحليل النظرية منصبة على عموميات كالمجتمع والثقافة ولا يركزون على الفرد. وغالبًا ما ينظر علماء الاجتماع إلى الحداثة الفردية على أنها وظيفة للتحديث في المجتمع والثقافة وهذا يعني اتساع وحدة التحليل على مستوى المجتمعات Societal Level مما يدخلهم في دائرة التجريد ويفقد تحليلاتهم الطابع الأمبيريقي. ويصنف تيبس نظريات التحديث إلى نموذجين وهما: أ- نموذج المتغير الحاكم أو الرئيس The critical variable ب- نموذج النظريات الثنائية Dichotomous theories ويركز أنصار النموذج الأول على متغير يعينه بوصفه المتغير الأساسي الذي يقود حركة التغير ويستثير تغيرات تابعة مثل سيادة الاتجاه العقلي، أو التصنيع. وهنا يصبح التحديث مرادفًا للمتغير الحاكم. أما أنصار النموذج

الثاني -الأكثر شيوعًا- فهم يركزون على عملية التحولات الاجتماعية والثقافية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعقائدية والقيمية ... إلخ. من الأشكال التقليدية إلى الأشكال الحديثة. وهنا يتحدد مفهوم التحديث في ضوء الهدف النهائي سيادة النظم الغربية عند البعض، أو النظم السائدة في الاتحاد السوفيتي عند البعض، أو النظم الإسلامية عند البعض ... إلخ. ويمكن القول أن المشكلة الأساسية بالنسبة للنموذج الأول هو أن استبدال مصطلح التحديث بالمتغير الحاكم حسب ما يراه كل مفكر أمر لا يفيد كثيرًا من التحليل العلمي. أما مشكلة نموذج الثنائيات فهي كما يحددها "تيبس" ذات ثلاثة جوانب: أ- جانب إيديولوجي Ideological ب- جانب واقعي Emperical ج- جانب يتعلق بما بعد التنظير أو بفلسفة التنظير Meta theoretical ويتمثل النقد الإيديولوجي في فكرة الطوبائية التي يلحقونها بالمجتمعات الغربية بوصفها هدف التحديث في الدول النامية -وهذا ينطبق على أغلب النظريات الثنائية. وقد أطلق فرانك على هذه النظريات التشبيه التالي12. "الملابس التي تخفي الاستعمار العاري"*. ويؤكد "ميردال" أن أهم جوانب النقد الواقعي الموجهة لهذه الثنائيات أنها تتجاهل أثر القوى الخارجية. الدولية والإقليمية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية من حيث أثرها على تحريك المجتمعات نحو التحديث، سواء أكانت قوى تحدى أو تعويق، أو قوى للدعم والمساعدة. يضاف إلى هذه أن هذه النظريات تحاول تنميط التقليدية والحداثة بشكل جامد الأمر الذي يتجاهل الأنواع المختلفة من التقليدية ومن الحداثة، كما يتجاهل التجارب المختلفة للمجتمعات. هذا

_ * The clothes that hide the naked imperialism see. Ander Guunner Frank; Sociology of development and underdevelopment of sociology-Catalist. No. 1967 pp. 20-73.

إلى جانب إمكان التداخل بين جوانب التقليدية والحداثة. ولتوضيح النقطة الأخيرة يحاول بعض الباحثين المقابلة بين التوجه نحو الإنجاز Achievement orientation -وهو خاصية المجتمعات الحديثة- والتوجه نحو التركيز على العوامل المنسوبة Ascription. والواقع أنه حتى في المجتمعات الحديثة يوجد التوجهان ويعملان معًا بأشكال ونسب مختلفة وهذا ما كشفت عنه دراسة "أدوين سوذرلاند" E. Sutherland في دراسته عن جرائم ذوي الياقات البيضاء أو جرائم الصفوة13، ودرَاسَة "تشارلس رايت ملز" C.R. Mills عن صفوة القوة في الولايات المتحدة الأمريكية14 حيث كشف عن أن الصفوات الاقتصادية والسياسة والعسكرية هي في واقع الأمر صفوة واحدة لما يوجد بينها من مصالح وعلاقات وخلفيات اجتماعية وإيديولوجية وسياسية موحدة. ويصنف "فرانك" Frank فكرة الإنجاز إلى عنصرين وهما: أ- المكافأة Reward، ب- التعبئة Recruitment، وإذا كانت المكافآت تعتمد على الإنجاز بشكل أساسي، فإن التعبئة -ويقصد بها تحديد شاغلي بعض الأدوار القيادية خاصة في قمة التنظيمات الاستراتيجية- فإنها تعمد على عوامل منسوبة، وهذه العوامل الأخيرة تلعب دورًا مهمًّا في تحديد مراكز النساء في المجتمع الأمريكي -خاصة من حيث الجانب الاقتصادي- ونفس الأمر يحدث في المجتمع الياباني وإن كان بشكل عكسي -فهذا المجتمع عندما يحدد شاغلي الأدوار -التعبئة- يعتمد بشكل كامل على الكفاية والخبرة والتعليم -الإنجاز- أما عندما يوزع العائد أو المكافآت الاقتصادية فإنه يعتمد على عوامل منسوبة كالسن والجنس وحجم الالتزامات الشخصية ... إلخ15. مثل هذه الملاحظات وغيرها هي التي جعلت بعض الدارسين مثل "تيبس" و"فرانك" يرون ضرورة إحداث تغيرات أساسية في توجهات نظرية التحديث، وهذا هو ما حاوله بعض الدارسين بالفعل. غير أنهم انطلقوا من خلفيات إيديولوجية متناقضة: ومثال هذا فرانك الذي انطلق من منطلقات ماركسية جماعية مدخل جماعي وهناك باحثون انطلقوا من المستوى الفردي

حيث ركزوا على التحولات الفردية التي تحدث في المجالات المعرفية عند الأفراد In terms of cognitive transformation وفي اتجاهاتهم وقيمهم وسلوكهم -مدخل فردي أو سيكو اجتماعي- وهناك فريق ثالث من الباحثين ينطلقون من التحليل الفينومينولوجي لظاهرة التحديث -مدخل فينومينولوجي-16. ويمكن القول إنه نتيجة لانطلاق نظريات واتجاهات الدراسة في التحديث والتنمية من منطلقات إيديولوجية، فإنه لا توجد حتى الآن نظرية تنال موافقة جميع الباحثين أو حتى غالبيتهم. وعلى الباحث الموضوعي إحداث نوع من الالتقاء النظري بين الاتجاهات المطروحة خاصة تلك التي تركز كل منها على جانب أو آخر من جوانب الواقع الاجتماعي. والواقع أنّ محاولة التوصل إلى صياغة نظرية جديدة قادرة على تفسير الواقع وتحديثه، لا بد أن تلتزم بدورها بإطار عقائدي من جهة كما تستفيد من معطيات الدراسات الأمبيريقية داخل مجتمعات متقدمة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وعلميًّا، وداخل مجتمعات متخلفة وداخل مجتمعات انتقالية أو في حالة نمو Translation Societies من جهة أخرى. ونحن عندما ندرس قضايا التحديث يجب أن ندرسها في ضوء المدخل الإسلامي وفي ضوء خصائص الواقع ومعطياته، وإذا كان التكامل بين الإطار النظري ومعطيات الواقع الاجتماعي التاريخي أمرًا لازمًا، فإن التكامل بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية أمر مهم عند دراسة منطلقات ومحركات التغير التحديثي. وهنا يجب الربط بين التباينات أو التناقضات التي توجد داخل كافة مستويات الواقع الاجتماعي، تلك التي تدفع الناس إلى إحداث تغيرات من أجل القضاء عليها. ويجب أن نبدل أو ندرس هذه التباينات في إطار ها الاجتماعي التاريخي على أنها محصلة لعمليات وظواهر حدثت في الماضي وتتجه الجهود المعاصرة لتجاوزها. يجب الاستفادة من المدخل الوظيفي من حيث ضرورة إدراك التساند الوظيفي بين مكونات الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة والتساند بين مختلف التغيرات الحادثة داخله من جهة أخرى. ونفس الأمر يجب أن يطبق على ما يمكن أن نطلق عليه النسق العالمي World System حيث

يجب إدراك عمليات التنمية داخل الدول النامية في علاقاتها سلبًا وإيجابًا مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الدولية، حيث إنه لا يمكن فهم تنمية المجتمعات المتخلفة أو الانتقالية بمعزل عن المتغيرات العالمية.

التحديث الحضاري: شروطه، نماذجه، معوقاته

التحديث الحضاري: شروطه، نماذجه، معوقاته هناك مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية المتفاعلة والمتكاملة يمكن من خلالها تحقيق التحديث الحضاري مقاسًا بالمعايير العلمية مثل متوسط دخل الفرد والمستويات الغذائية ونسبة الأطباء إلى الجماهير وعدد الكيلومترات المرصوفة ومستوى الإسكان ومتوسط استهلاك الفرد من الكهرباء ... إلخ. وإذا كنا نستطيع توضيح أهم هذه العوامل فإنه يتبقى سؤالان مطروحان، الأول يتعلق بأوزان كل عامل ودوره في عملية التحديث، والثاني يتعلق بالتفاعل والعملية الدائرية بين هذه العوامل. فهناك عوامل معينة لا نستطيع الجزم بموقعها في عملية التحديث على الرغم من أهميتها الإستراتيجية: هل هي شرط لحدوثه أم مصاحبة لحدوثه، أم نتيجة لتحققه؟ ويضرب لنا "مايرون فاينر" Myron Weiner مثالًا على هذا في دراسة له بعنوان ديناميات النمو عام 1961* حيث يذكر أنه على الرغم من وجود اتفاق بين الدارسين على حتمية الارتباط بين التحديث وبين القيم والاتجاهات والتصورات العقلية، إلا أن هناك خلافًا حول تحديد موقع هذه المتغيرات في التسلسل الزمني Sequence هل هي شرط للتحديث أم نتيجة له، هل هي المتغير المستقل أم المتغير التابع؟ 17. ويحاول البعض من خلال منظور أكثر واقعية إدراك التفاعل بين القيم والاتجاهات من جهة وبين الترتيبات النظامية Inistitutional arrangements من جهة أخرى على أساس أن هذه الأخيرة يجب أن تتسم بحد أدنى من

_ * The dynamics of Growth: N.Y. Basic Books 1966.

المرونة بحيث تسمح ببدء التغيرات الإنمائية -في التعليم والصحة والصناعة والزراعة ... إلخ- وفي نفس الوقت يجب أن تتزامن مع هذه التغيرات محاولات لدعم القيم والاتجاهات والسلوكيات في الاتجاه الذي يخدم هذه التغيرات ويسرع بعملية التحول، بشرط أن تكون القيم والاتجاهات العاملة داخل المجتمع من النوع القابل للتغير في الاتجاه الذي يخدم عمليات التنمية. وهنا يحدث تفاعل بين محاولات التغيير المتزامنة في العاملين المذكورين معًا. وعلى الرغم من عدم وضوح طبيعة العلاقة العلمية أو التفاعلية بين العوامل والمتغيرات خلال عملية التنمية، فإن هناك عوامل ذات أهمية استراتيجية. ويركز البعض على العوامل الاقتصادية، وخاصة على عمليات التصنيع. فالتنمية ترتبط بالنمو الاقتصادي المتواصل والمستمر Sustained economic growth وهذا المتغير يتطلب -كما يشير "روستو" Rostow توافر ثلاثة عوامل وهي: أولًا: تهيئة البنية الأساسية أو توافر رأس مال اجتماعي عام Social over-head capital من أجل إيجاد وتنشيط السوق الوطني وتحقيق أحسن استغلال ممكن للثروات الطبيعية، ومن أجل تهيئة الظروف أمام الحكومة الوطنية لممارسة عمليات الحكم والضبط الاجتماعي بكفاءة. ثانيًا: تحقيق الثورة التكنولوجية في مجالات الزراعة والصناعة والاتصالات. ثالثًا: التوسع في الاستيراد من أجل دعم الانتاج، خاصة المواد الرأسمالية Capital import18. وعلى الرغم من اتفاق قطاع كبير من الاقتصاديين مع الشروط التي وضعها "روستو" للنمو الاقتصادي، فإن هناك خلافًا حول تحديد طبيعة هذه الشروط من جهة، وحول تحديد المسار المناسب Appropriate Path

المؤدي إلى الاقتصاد الحديث من جهة أخرى. ومن أمثلة التساؤلات المطروحة. هل تبدأ الدولة بنموذج للتصنيع الخفيف أم الثقيل؟ وهل تتطلب التنمية إحداث تغيرٍ متوازٍ أم غير متوازٍ بين مختلف المتغيرات الاقتصادية؟ ... إلخ. والواقع أنَّ البيئة الاجتماعية والاقتصادية تلعب دورًا مهمًّا في تهيئة المناخ للتنمية داخل الدول النامية أو في تعريضه. وقد أشار "هباكوك Habakkuk" إلى الدور الذي لعبه المناخ "السوسيو- اقتصادي" لإنجلترا في تسهيل النتمية الوطنية داخلها. ويعطي على هذا أمثلة، المجال الجغرافي واتساع حجم السوق بسبب المستعمرات وندرة الحروب الداخلية أو الاضطرابات السياسية وانخفاض تكاليف الأيدي العاملة والمواد الخام ... إلخ. وعلى العكس من الظروف في إنجلترا وفي الدول الأوروبية بوجه عام تواجه المجتمعات النامية العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المعوقة لانطلاقها الإنمائي. فهي ليس أمامها فرص للتوسع الإقليمي إلى جانب ضعف التراكم الرأسمالي وانتشار الأمية وانخفاض المستوى التكنولوجي وضعف قدراتها الإنتاجية وبالتالي التنافسية في الأسواق الدولية. وإلى جانب هذا فإن اقتصاد هذه الدول يتسم بعدم التنوع ذلك أنه يعتمد على المنتجات الأولية سواء الزراعية أو التعدينية. وقد وجد أن أكثر من 80% من أبناء غالبية هذه الدول يعملون في الزراعة الأولية. وكما يشير "لوير" Lauer بحق فإن تنمية المجتمعات الأوروبية تم بشكل لن يتكرر لأنه كان على حساب المواد الخام والعمالة الرخيصة والأسواق في الدول النامية التي كانت مستعمرات في الماضي. وهذا يعني أن المناخ الدولي لتجربة التنمية الأوروبية يتناقض مع المناخ الدولي لتنمية المجتمعات النامية اليوم، فهو مدعم في الأولى، معوق في الثانية: ولعل هذا المناخ الدولي المعوق للتنمية في دول العالم الثالث هو ما

جعل لجنة التنمية الدولية توصي بضرورة قيام الدول الصناعية بتخصيص 1% من ناتجها القومي العام* G.N.P للدولة منخفضة الدخل من أجل تيسير عملية التنمية داخلها19. وفي سنة 1968 خصصت كل من فرنسا والبرتغال حوالي 0.68% من ناتجها القومي للمعونات، وخصصت الدول الغربية الأخرى نسبًا أقل وكان ترتيب الولايات المتحدة التاسع حيث خصصت 0.41% فقط من ناتجها القومي20.

_ * Commision of international development

اتجاهات دراسة التحديث في الدول النامية

اتجاهات دراسة التحديث في الدول النامية تحديث البناء الاجتماعي-التحديث الفردي ... اتجاهات دراسة التحديث في المجتمعات النامية -تحديث البناء الاجتماعي- التحديث الفردي وإذا كانت العوامل الاقتصادية "توافر رأس المال والتراكم الرأسمالي والعملات الصعبة وكم وكيف المواد المصدرة والهياكل الأساسية والمستوى التكنولوجي المستخدم ونوعية الصناعات" تلعب دورًا مهمًّا في عمليات التنمية، فإن هذا لا يعني أن قضية التحديث قضية اقتصادية خالصة. فالعوامل غير الاقتصادية -الاجتماعية والسياسية التربوية والنفسية.. تحتل الدرجة نفسها من الأهمية. وهناك شبه اتفاق بين الدارسين على أهمية العوامل التي أوردها "روستو" في هذا الصدد مثل: ضرورة توافر صفوة حديثة تقود عمليات التحديث Modernizing elite وارتفاع مستوى الطموح لدى الجماهير، وانتشار التعليم العام الفني، والتنمية السياسية في مجال الحكم والمشاركة والسلوك السياسي ... وهذا يعني أن التحديث له جانبان -جانب بنائي- Structural وجانب فردي سيكولوجي اجتماعي Social Psychological وبالنسبة للعوامل البنائية التي تتعلق بطبيعة النظم والتنظيمات والوحدات الاجتماعية التي تتسم بالاستمرار النسبي -كالجماعات القرابية والسياسية والاقتصادية.. وأساليب

الضبط وطبيعة الأدوار الاجتماعية والبناء الطبقي أو التدرج الاجتماعي السائد، وموجهات السلوك كالمعتقدات والقيم والتصورات ... نجد أن التحديث بكل أشكاله يمكن أن يتعثر في ظل سيادة نظم اقتصادية معينة -مثل نظم معينة للحيازة الزراعية- أو نظم سياسة معينة أو نظم معينة للتدرج الاجتماعي مثل النظام الطائفي. ويرتبط التحديث بطبيعة العلاقات الاجتماعية وموجهات السلوك العقائدية والقيمية، كما يرتبط بطبيعة التنظيمات الطوعية السائدة ومدى تطبيق نظم مركزية أو لا مركزية، ومدى تطبيق نظام الاقتصاد الحر والأخذ بفكرة الحوافز الفردية ونظام الملكية السائد. يضاف إلى هذا ارتباط التحديث بنوعية الصفوات التي تتبنى التحديث سواء كانت الصفوات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية من حيث طبيعة انتماءاتها الإيديولوجية والطبقية والاجتماعية، ومدى تمتعها بالقدرات الكارزمية التي تحدث عنها "ماكس فيبر" M. Weber وإلى جانب هذه المتغيرات البنائية الأساسية فإن عملية التحديث تتوقف بشكل مباشر على طبيعة الجهاز البيروقراطي للدولة من حيث درجة استقراره Stability وكفايته Efficiiency وفعاليته Effectiveness ونوعية الكوادر الإدارية العليا التي ترسم له خططه وأهدافه21 ... ومن ضمن العوامل البنائية الأساسية التي تحكم حركة التحديث داخل المجتمعات النامية -قضية الصراعات والانقسامات البنائية للجماعات المكونة للمجتمع- فهناك مجتمعات تشيع داخلها الصراعات الداخلية بين وحداتها البنائية -مثل بعض المجتمعات الأفريقية- وهذا أمر معوق للتحديث أو التنمية22. ويشير أنصار الاتجاه الوظيفي إلى أن التحديث الحضاري هو في واقع الأمر إحداث تحولات في بعض الأبعاد البنائية أو في وظائف النظم والجماعات والعلاقات داخل المجتمع. ويذهب "تالكوت بارسونز" T. Parsons في دراسة له حول "بناء الفعل الاجتماعي"* إلى أن التغير الاجتماعي يرتبط بالتباين البنائي. وقد استخدم هذا المفهوم عند تحليله

_ * The structure of Social System

للنظم الاقتصادية والتنظيمات البيروقراطية في علاقتها بالنسق الاجتماعي العام -وقد طبق هذه الأفكار عند دراسة التغيرات البنائية في المجتمع الأمريكي بشكل عام، والأسرة الأمريكية بشكل خاص- ويركز بعض الدارسين على عوامل ينظرون إليها بوصفها عوامل بنائية استراتيجية لانطلاق عمليات التحديث، مثال هذا ما يطلق عليه "كارل دويتش" K. Duetsch التعبئة الاجتماعية Mobilization بوصفها مدخلًا للتنمية السياسية وهذا هو عنوان مقالته التعبئة والتنمية السياسية23. وهو يعرف التعبئة بأنها العملية التي تتحطم فيها جميع الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والسلوكية القديمة، ويصبح الناس على استعداد لتقبل أنماط جديدة من التنشئة الاجتماعية ومن السلوك وأشار إلى أنه إلى جانب هذا المتغير المحوري هناك عوامل أخرى تسهم في حدوث التحديث مثل التعرض للعناصر الحديثة كالأجهزة والمباني والمنتجات الاستهلاكية والتعرض لوسائل الاتصال الجماهيري ولمختلف عمليات التحضر، وتطوير التعليم وحدوث حراك مهني وارتفاع الدخل. وإلى جانب هذه العوامل فإن التحديث يفترض حدوث تحولات في النظم الاجتماعية بحيث تصبح قادرة على التوافق واستيعاب التغيرات القادمة. والتحول أو التغير هنا يتسم بالغائبة بمعنى أنه يستهدف تحقيق هدف مرسوم مقدمًا. ويجب التنبيه هنا إلى نقطة مهمة هي أن تغير النظم لا يعني أن التحديث يحقق إحداث تحولات جذرية في كل نظم المجتمع، فالتحديث في المجتمعات الإسلامية يتم في إطار التمسك بالنظام العقائدي والقيمي والسلوك الديني، كما أن التحديث في اليابان تم في إطار النظم والقيم التقليدية في المجال الأسري والقيمي والعقائدي وبعض النماذج السلوكية التقليدية. وهذا يثير نقطة أخرى أن الحداثة المادية لا تتعارض في كل الحالات مع التقليدية القيمية بحيث يمكن أن يتعايشا معًا. فالحرص على مواعيد الزراعة والري ومقاومة الآفات والقيام مبكرًا لأداء الأعمال في المجتمعات الريفية، والحرص على أداء الصلاة في مواعيدها في المجتمع

المسلم أو لدى المسلمين. وحرص المسلم على مراقبة الله في السر والعلن وعلى قيم الحق والعدل والأخوة والإخلاص والتكافل الاجتماعي وإفشاء السلام والسعي لكسب الرزق بالحلال والإحسان إلى الجار ... إلخ، كل هذه الأمور هي من صميم التحديث والتنمية، وهي من صميم المعتقدات الإسلامية في الوقت نفسه. والواقع أنه لا يوجد مجتمع تقليدي 100% ولا مجتمع حديث 100% حيث غالبًا ما تجتمع التقليدية والحداثة في كل المجتمعات بنسب متفاوتة. وغالبًا ما يكون للتحديث جوانب سلبية تنال من الجوانب الإيجابية للمجتمع التقليدي -ترابط الأسرة- الاستقرار النفسي -صلات الرحم- رعاية الآباء للأبناء، القناعة والرضى النفسي ... إلخ- وهذا يعني أن التمايز البنائي أو الانتقال من التجانس إلى اللاتجانس والحراك الاجتماعي وإن كانا ضرورة من ضرورات التحديث إلا أنه يؤدي إلى الكثير من السلبيات التي تخلو منها المجتمعات التقليدية إلى حد كبير. وإذا كانت مسارات التحديث مختلفة وليست كما يذهب "شلز" الذي يقصرها على الصياغة الغربية للمجتمعات، فإنه يمكن أن تتعايش التقليدية مع التحديث بأشكال مختلفة -كما حدث في تجربة التنمية في المجتمعات الإسلامية وكما حدث في التجربة اليابانية. وكما حدث في التجربة السوفيتية التي ينظر إليها "شلز" بوصفها تحديثًا مشوهًا. وإذا كان بعض الدارسين حاولوا إيجاد العلاقة بين المتغيرات خلال عملية التحديث مثل العلاقة بين التصنيع والأسرة أو التحضر والقيم، أو التعليم والسلوك أو التصنيع والتحضر من جهة وبين جانب الضبط الاجتماعي من جهة أخرى.. فإن هذه المحاولات ونظرًا لاختلاف نماذج التحديث واختلاف مساراته. كذلك فقد كانت المنطلقات التاريخية للتحديث مختلفة، فقد بدأت عمليات التحديث في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الْأُسْكُنْدِنَافِيَّة على يد جماعات نشطة في المجال الاقتصادي والثقافي وبدرجة أقل في المجال السياسي، الأمر الذي جعل جماهير هذه المجتمعات تنخرط في الأنشطة

الاقتصاد قبل السياسة بمدة طويلة. وعلى العكس من ذلك فإن دول أوروبا الوسطى والشرقية والدول النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بدأت التحديث من منطلقات سياسية تتمثل في الحصول على الاستقلال أو الثوارت الوطنية، والتطلعات الوطنية للحاق بالمستويات المعيشية في الدول المتقدمة ودعم استقلالها السياسي بمضمون اقتصادي واجتماعي. وقد تم ذلك على مستوى الجماعات الصغيرة الواعية أو الصفوات أولًا ثم على مستوى الجماهير بعد ذلك. وهذا وغيره من العوامل هو الذي يفسر اختلاط الأنماط البنائية في عملية التحديث بين مختلف المجتمعات24. وخلاصة الأمر بالنسبة للاتجاه البنائي في دراسة عمليات التحديث أن هذه العمليات تتطلب إحداث تغيرات في التشكيل البنائي للمجتمع، أي تغيير بعض المكونات البنائية، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث سلسلة متتابعة من المتغيرات الاجتماعية والثقافية. وهذا يعني بشكل آخر أن هناك ظروفًا بنائية Structural conditions تسهم في حدوث التنمية وظروفًا أخرى تعوق التنمية وهناك ظروفٌ بنائية تدعم التحديث وإن اتسمت بانعدام عدالة التوزيع والعكس ممكن. وفي الاتجاه المقابل نجد أنصار فكرة التحديث الضروري الذين يرون أن نقطة الانطلاق هي من حيث معتقداته وقيمه واتجاهاته وسلوكياته، وهذه يجب أن توجه في الاتجاه الذي يخدم عمليات التنمية. والواقع أن العوامل الاجتماعية والنفسية ترتبط في عمليات التحديث بالعوامل البنائية. فهذه العوامل البنائية تؤثر في الترتيبات البنائية Inistittutional arrangment، وهذه الترتيبات البنائية النظامية ترتبط بدورها بالقيم والعقائد ومختلف الموجهات السلوكية القائمة وتتفاعل معها سلبًا وإيجابًا. وإذا كانت العوامل السيكو- اجتماعية هي إفراز للواقع البنائي والنظامي للمجتمع فإنها قادرة على تحريك هذا الواقع وتغييره. في حالة تغيرها سواء بشكل تلقائي أو مخطط بفعل عوامل داخلية أو خارجية. وهنا تظهر مشكلة التفاعل والدعم المتبادل بين العوامل الاجتماعية والنفسية والواقع البنائي، وهي ما يطلق عليها الحلقات المفرغة الخبيثة. وهذه هي المشكلة التي يشير إليها "لوير" عندما

يحاول فحص مسألة الأولوية السببية Causal Priority.

التحديث وقضية الالتزام الجماهيري بقضايا المجتمع والتنمية

التحديث وقضية الالتزام الجماهيري بقضايا المجتمع والتنمية ويركز "لوير" على عامل سيكولوجي وبنائي في الوقت نفسه وهو التزام الناس بقضايا مجتمعهم وتطويره وتغييره. وهذا هو ما يفسر -في نظر الباحث المذكور- تخصيص القادة السياسيين جزءًا كبيرًا من وقتهم وجهدهم لتأمين هذا الالتزام. ويضرب لنا مثلًا حكام أندونيسيا في الفترة التي أعقبت 1958. غير أن النتيجة كما يذكر "هربرت فيث" كانت غامضة، فقد استطاعت هَذِهِ الْجُهُودُ السياسية حل بعض المشكلات الإدارية والاقتصادية، كما أدت إلى إقدام الناس على أعمال لم يعتادوا عليها طالما أنها مهمة لتنمية بلدهم، هذا من جانب -لكن من جانب آخر فقد وجد أن الكفاءة الاقتصادية والإدارية العامة للمجتمع لم تزد كثيرًا نتيجة أن التعبئة السياسية أشعرت الناس أن الولاء السياسي والإيديولوجي أهم من النشاط الاقتصادي25. على أن التركيز على الإيديولوجية القومية والانتماء الوطني كمدخل تحقيق الالتزام بقضايا المجتمع بوصفه الشرط الأول للتحديث الشامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل المجتمعات النامية، أدى في العديد من المجتمعات إلى أزمات داخلية Dilemas ويمكن تحليل ذلك على النحو التالي:26. أولا: غالبًا ما تؤدي دعوات التحديث إلى تهديد نماذج العلاقات والالتزامات أو المسئوليات التقليدية -مثل العلاقات والمسئوليات القرابية بين مجتمعات الجيرة، كما يهدد باختلال الكثير من العلاقات والجماعات الأولية، ونبذ الأساليب التقليدية في التفكير والعمل ... الأمر الذي يهدد أمن الناس وبالتالي يرفضونه أو على الأقل يتحفظون في قبول التجديدات. ويضرب لنا "لوير" مثالًا على ذلك بمجتمع جنوب أفريقيا حيث انتشرت فيه ظاهرة المشروعات التجارية لصيد الأسماك الأمر الذي أضفى الطابع

التجاري والنقدي على الاقتصاد، وسار هذا جنبًا إلى جنب مع الاقتصاد التقليدي. غير أن الاقتصاد النقدي تطلب من الأهالي الدخول في نمط العلاقات التعاقدية Contract type relationship من أجل الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة الأمر الذي يتناقض مع نمط العلاقات الأولية التقليدية السائدة، الأمر الذي قوبل بالرفض حيث رفض الأهالي أخلاقيات النزعة التجارية أو الصناعية، أو قبولها بشرط عدم تهديد القيم والنماذج التقليدية للتفاعل. ثانيًا: عادة ما يطالب الناس في ضوء الالتزام بقضايا مجتمعهم وتبني التحديث Commitment، بالتضحية في مجالات الاستهلاك أو الاستمتاع الشخصي من أجل بناء مجتمعهم تنمية شاملة over-all development، فاستمرار مستوى الاستهلاك أو ارتفاعه أمر يتناقض مع متطلبات التراكم الرأسمالي Capital Accomulation. ثالثًا: وفي ضوء الالتزام بقضايا التحديث عادة ما يطالب الناس بالتجديد في أنماط العمل وأساليب الإنتاج والإقدام على تجارب جديدة وأداء أعمال غير مألوفة مما يسبب لهم التأزم النفسي Psychic Strain وتتسبب في زيادة أعبائهم النفسية Psychic Costs خاصة وأن الأعمال الحديثة في ظل التنظيمات الحديثة والتكنولوجيا الأكثر تقدمًا تتعارض -كما يشير إلى ذلك "آجريس" مع مقتضيات الصحة النفسية. طالما أنه يتطلب الالتزام بالمواعيد وبالتعليمات واللوائح وبالإجراءات النظامية ونظم الإشراف والرقابة ويحتم تنميط السلوك وتحقيق إمكانية التنبؤ به، سواء في المواقف العادية أو حتى في مواقف الأزمات27. رابعًا: ويشير "لوير" إلى سبب آخر يجعل التزام الناس بقضية التحديث صعبًا وشاقًّا وأحيانًا مرفوضًا، وهو غياب القدوة الصالحة، بمعنى عدم إلزام القيادة أنفسها بما تطالب به الجماهير من تقشف والحد من الاستهلاك وبذل الجهد والتضحية. فإذا كانت الصفوة القائمة والداعية

للتحديث Modernizing elite هي التي تستمتع بعائد التنمية أو بالثروة التقليدية على حساب جهد الجماهير والتزامهم، فإن الجماهير غالبًا ما يحدث بينهم تسيب ولا يميلون إلى تأجيل بعض إشباعهم الحالية إلى المستقبل. ويضرب لنا مثلًا على تجربة ناجحة في هذا الصدد وهي التجربة الصينية، وهو يعزو هذا النجاح إلى البناء الإيديولوجي الذي أسسه زعيمهم "ماوتسي تونج" Maoist ideology حيث رفضت الصفوة إيثار نفسها بما لم يتح للناس، وهذا ما جمع الشعب الصيني ووحده خلف قياداته وجعله أكثر التزامًا بقضايا مجتمعهم. وعلى الرغم من عدم إمكان التمييز في بعض الأحيان بين البيانات الإيديولوجية والواقع الاجتماعي، إلا أن التزام الشعب الصيني بالتنمية وتحديث مجتمعهم أمر شهد به الباحثون الغربيون ذوي الميول الليبرالية*. خامسًا: عادة ما تؤدي الدعوة إلى التزام الناس بقضايا مجتمعهم إلى زيادة انفتاح الناس على ثقافات أخرى Cosmopolianism وبالتالي اطلاعهم على نماذج استهلاكية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية مختلفة. الأمر الذي يؤدي إلى إثارة ما يطلق عليه البعض "ثورة التطلعات المتزايدة" Revolution of rising expectation في وقت يدعون فيه إلى التضحية والحد من الاستهلاك الأمر الذي يثير بعض المشكلات على المستوى المجتمعي والشخصي. سادسًا: وترتبط قضية الالتزام بالتنمية والتحديث من جانب أعضاء المجتمع بعدد من القيم والاتجاهات من بينها قبول الإيديولوجية الوطنية

_ * تجدر هنا الإشارة إلى أن نموذج التنمية في ظل العقيدة الإسلامية يحقق قضية الارتباط بين القادة والجماهير ويحقق الالتزام من جانب القادة والجماهير بقضية تقوية المجتمع وتطويره وتحسين المستويات المعيشية، بوصفها قضية عقائدية. فالاتفاق بين القول والعمل أمر إلهي أو أمر عقائدي، وضرورة التزام ولاة الأمر في المجال الاستهلاكي بما يستهلكه الإنسان العادي، أمر ديني. كل هذا يمنح قضية الالتزام بعدًا أعمق مما هو في التنظير أو التطبيقات الوضعية.

Nationalistic ideology، والقدرات الحركية والدينامية عند الأفراد، وقبول المعايير العقلية والمنطقية والروح العلمية.. ويشير الباحثون بأهمية ربط التحديث بأسس عقائدية حتى يستثيروا الدافع الكافي Sufficient motivation لدى أبناء المجتمع وهذا الجانب متوافر في العقيدة الإسلامية التي تجعل عمارة الأرض وتطوير المجتمع وتنميته واستخدام كل الظواهر التي سخرها الله لخدمة الإنسان من خلال الفكر والعلم والعمل. كل هذا من أسس العقيدة الإسلامية ويتحقق ذلك في العديد من المجتمعات من خلال بعض الأنشطة الرمزية Symbolic activity كذلك ترتبط قضية الالتزام الجماهيري بنظم الحكم المحلي أو لا مركزية الإدارة في العديد من الدول. سابعًا: تجدر الإشارة إلى أن قضية الالتزام الجماهيري أمر أساسي بالنسبة لانطلاق التحديث، ولكنها ليست القضية الوحيدة، فهناك العوامل الاقتصادية "مشكلات الموارد والتراكم الرأسمالي" والبشرية "العمالة والخبرات والكوادر الإدارية والفنية" والتكنولوجية "إمكانية نقل واستيعاب التكنولوجيا" ونوعية الثقافة القائمة ونوعية التعليم ونماذج التربية الأسرية وخصائص جماعات الصفوة ... إلخ.

نماذج من المعوقات الاستراتيجية أمام تحديث الدول النامية

نماذج من المعوقات الاستراتيجية أمام تحديث الدول النامية وعادة ما تواجه المجتمعات النامية بضرورة تحديد اختيارات استراتيجية وتجاوز بعض مناطق الأشكال الحرجة التي يمكن أن تحبط كل محاولات التحديث الحضاري وسوف تقتصر هنا على إيراد نماذج من هذه المعوقات. أولًا: المشكلة المتعلقة بتحديد نموذج التنمية أو التحديث Model of modernization وقد سبق أن أشرت إلى أنه على عكس زعم أنصار الصياغة الغربية للمجتمعات Westernization أو الصياغة الماركسية للمجتمعات، فإن هناك عدة مسارات ونماذج للتحديث، وتكمن المشكلة لدى المجتمعات وأمام الصفوات السياسية عند قيام كل مجتمع بتحديد النموذج التحديثي

المناسب والذي يتناسب مع الواقع الاجتماعي والديني والثقافي والتاريخي للمجتمع في إطار نسق العلاقات الدولية المعاصرة. وقد جاءت العديد من تجارب التحديث على أساس تطبيق النموذج الغربي في بعض الدول النامية مخيبة للآمال. فالتجربة الغربية في التحديث تجربة فريدة حيث سارت متغيرات النمو السكاني ونمو التطلعات والنمو التكنولوجي والنمو الاقتصادي وعمليات التحضير بشكل متناسق، بعكس الحال بالنسبة للمجتمعات النامية المعاصرة التي تعاني عدمَ اتساق أو تصارع هذه المتغيرات الاستراتيجية. ومن بين الخيارات الاستراتيجية المطروحة أمام الدول النامية تحديد شكل الملكية، وتحديد شكل الصناعة -ثقيلة أم خفيفة- وتحديد استراتيجية التمويل والقروض، ورسم استراتيجية التعليم ... إلخ. وسوف نلقي الضوء على هذا المتغير الأخير على سبيل المثال. ومن الواضح أن نمو التعليم يرتبط بالنمو الاقتصادي وتحديث المجتمع سياسيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا.. وهذا ما سار في التجربة الغربية بشكل متوازٍ أما في الدول النامية فقد حدث توسع في تعليم الشعب بشكل سريع ومفاجئ وغير مخطط -في كثير من الأحيان- الأمر الذي أدى إلى حدوث عدة أزمات من بينها: أ- أزمة اقتصادية حيث تخصص الدول جزءًا كبيرًا من ميزانيتها للإنفاق على التعليم بوصفه مشروعًا اجتماعيًّا واستثماريًّا طويل الأجل في وقت هي في أمس الحاجة إلى توجيه هذا الجزء من الدخل القومي لبرامج استثمارية سريعة العائد. ب- أدت سرعة تخريج حاملي الشهادات المتوسطة والعليا، بشكل يفوق سرعة نمو المشروعات الاقتصادية والاجتماعية إلى حدوث أشكال البطالة السافرة أو المقنعة لدى المجتمعات التي تلزم نفسها بتعيين الخريجين -مثل مصر- الأمر الذي يسبب عبئًا أكبر على الميزانية ولعل أخطر أنواع البطالة هي بطالة المتعلمين. جـ- مع تزايد أعداد المتعلمين تتزايد طموحاتهم وتطلعاتهم في وقت

يَعْجَزُونَ عَنْ تَحْقِيقِهَا مما يسبب أزمات للمجتمع سياسية واجتماعية وإيديولوجية. هـ- تتفاقم هذه المشكلات إذا كان التعليم موجهًا توجيهًا أرستوقراطيًّا أو نظريًّا لا يخدم متطلبات التنمية -تخرج عمالة ماهرة أو نصف ماهرة أو فنيين أو كوادر إدارية ذات كفاءة عالية- وهذا هو ما يطلق عليه "هوروفتز" Horowitz سوء التعليم أو سواء التوجيه التعليمي Miss Education وهو يتضمن إهدار القوة البشرية الأمر الذي يدفعها إلى السير في مسارات مدمرة على المستوى الفردي والمجتمعي. ثانيًا: والمشكلة الثانية التي تعوق العمليات التحديثية في المجتمعات النامية المعاصرة هو الوضع المتميز والفريد Advantageous position للمجمعات المتقدمة اقتصاديًّا وممارستها كل أنواع الضغط لتعويق التنمية في الدول النامية. وهذه النقطة عالجها الباحثون عند حديثهم عن البيئة الاجتماعية والاقتصاد الدولية كإطار عالمي للتنمية داخل الدول النامية، وهو ما يطلق عليه البعض مصطلح النسق العالمي The World System فالمزايا الهائلة التي حصلت عليها الدول الغربية عند دخولها في مجال التنمية خلال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، والمزايا التي حصلت عليها وتستمتع بها الآن -اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وعلميًّا وبشريًّا وعسكريًّا ... في ضوء استحوازها وتحكمها في الموارد ورأس المال والتقدم العلمي والتكنولوجي.. مكنها من ممارسة الضغط وزودها بقدرات تنافسية قوية، الأمر الذي يجعل تحديث المجتمعات النامية أمرًا صعبًا ومستوجبًا للدخول في الكثير من المشاكل والأزمات. فتحديث هذه المجتمعات الأخيرة يعني استقلالها عن الغرب اقتصاديًّا، كما يعني حرمان الغرب من سوق واسع لمنتجاتها كما يعني دخولها في منافسة مع الغرب في الأسواق العالمية، ويعني إعادة النظر في تصدير المواد الخام للدول الغربية بنفس المقادير ونفس الشروط السابقة لتمكنها من عمليات التصنيع ... إلخ.

وكما يشير "لوير" فإن تحديث المجتمعات النامية المعاصرة لا يتحقق كوظيفة لاتخاذ قرارات وطنية ولعمليات تحدث داخل هذه الدول نفسها فحسب، ولكنه يحدث في إطار سياق علمي International context محكوم بالعديد من المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإيديولوجية. ويشير "هانز سنجر" H. Singer في مقال له بعنوان توزيع العائد بين الدول المقترضة والدول المستثمرة إلى أن معدلات التجارة العالمية Terms of trade تسير في غير صالح الدول النامية بوصفها دولًا مصدرة للمواد النامية لأن متوسط دخول أبنائها منخفضة، ولهذا فإن التقلبات الحادة في معدلات وشروط التجارة الخارجية -سواء في حجمها أو في قيمتها. تضع عقبات أمام تحديث أو معدل وسرعة التحديث داخل هذه الدول. والدول النامية كما سبق القول غير قادرة على الدخول في منافسة في الأسواق العالمية العريقة بسبب رخص الصناعات المنافسة التي تملكها الدول المتقدمة صناعيًّا. يضاف إلى هذا أن أغلب الدول النامية تعتمد على اقتصاد الكفاف وبالتالي فإنها تعتمد على هامش الدخل Margin of Income الناجم عن التجارة الخارجية كمصدر أساسي للتراكم الرأسمالي، الذي يعد بدوره المصدر الأساسي للاستثمارات التنموية داخلها28. وإذا كانت الدول النامية في أمس الحاجة إلى توازنات في التجارة الخارجية تتجه لصالحها وهذا ما لا يحدث عادة إلا لظروف طارئة كما حدث في أسعار البترول بعد حرب 1973 بين الدول العربية وإسرائيل، فالواقع أن استثمارات الدول المتقدمة صناعيًّا داخل الدول النامية، حولت أغلب هذه الدول الأخيرة إلى دول مصدرة للطعام والمواد الأولية للدول المتقدمة صناعيًّا، الأمر الذي يضر باقتصاديات ومصادر تمويل التنمية في الدول النامية لاعتمادها الأساسي على تصدير سلعة أو أكثر من السلع الأولية، الذي تتجه معدلات التبادل العالمية في غير صالح الدول المصدرة لها. والعكس صحيح فأسعار المنتجات المصنعة "التي تزداد جودتها وتقل تكلفتها داخل الدول

المتقدمة صناعيًّا نتيجة الأخذ بأساليب علمية وتكنولوجية تتقدم يومًا بعد يوم "تزداد يومًا بعد يوم" ما يمثل أعباء جديدة ومتزايدة على كاهل الدول النامية. وهذا يعني أن الدول المتقدمة صناعيًّا تحصل على كل المميزات كمستهلكين للطعام والمواد الأولية وكمنتجين للصناعات الثقيلة والوسيطة والاستهلاكية. والعكس يحدث للدول النامية حيث تخسر مرتين كمستهلكين وكمنتجين29. ثالثًا: ويطرح "لوير" المشكلة الثالثة في شكل سؤال على النحو التالي: هل تكنولوجيا التحديث على مستوى العالم كله أمر ممكن؟ ويذهب بعض الباحثين إلى أن موارد الكرة الأرضية كافية لرفع مستوى سكان العالم كله إلى مستويات المعيشة التي يتمتع بها إنسان العالم الغربي المتقدم صناعيًّا. ويتنبأ الباحث المذكور باحتمال انخفاض المستويات المعيشية في كل دول العالم خلال الفترة الزمنية القادمة، ويذهب إلى أن هذا التنبؤ ليس رجمًا بالغيب، ولكنه يعتمد على نماذج تقديرية لحسابات الاحتمالات ولتقديرات الحاسبات الآلية، نتيجة لحساب العلاقة بين عدة متغيرات استراتيجية مثل سكان العالم ونسب نموهم وحجم الموارد الطبيعية ومشكلات التلوث والحروب وحجم الإنفاق العسكري العالمي ورأس المال وإنتاج الطعام. وقديمًا كانت هناك تحذيرات من جانب بعض العلماء المتشائمين مثل "مالتوس" بصدد مشكلة العلاقة بين السكان والموارد الاقتصادية، غير أن ظهور تكنولوجيات ومصادر غير متوقعة أفسد هذه التوقعات. ويشير أغلب المحللين الاقتصاديين والاجتماعيين المعاصرين إلى أنه إذا لم تتقدم التكنولوجيا بسرعة داخل الدول النامية، بحيث يصبح في إمكانها نقلها واستيعابها والاستفادة منها من رفع متوسطات دخول أفرادها وإشباع قدر من تطلعاتهم على الأقل في حدها الأدنى، فإن الموقف العالمي سوف يكون متفجرًا30. وينذر بأزمات كساد عالمي وبطالة داخل الدول المتقدمة صناعيًّا وبالتالي انخفاض معدلات التنمية ومتوسطات الدخول داخلها، هذا إلى جانب مشكلات الصراع والتطرفات والحروب.

ونستطيع القول بأنه إذا كانت هناك مجموعة من الشروط الداخلية والخارجية الضرورية لتحقق التحديث داخل الدول النامية، فإنه على هذه الدول أن تعالج العديد من المشكلات الخطيرة من أجل نجاحها في تجربة التنمية وتحقيق أهدافها. ويذهب "لوير" بوصفه باحثًا غربيًّا إلى أن السلام في المستقبل مرهون بمدى قدرة الدول المتقدمة صناعيًّا والدول النامية على تفهم الموقف العالمي سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وبمدى استعداد الدول المتقدمة صناعيًّا لتحمل مسئوليتها إزاء تنمية الدول الفقيرة والنامية. والواقع أن طبيعة هذه المسئولية ليست على درجة كبيرة من الوضوح، كما أن الدول المتقدمة صناعيًّا ليست صادقة النية في هذا الصدد. ولعل هذا هو سبب فشل العديد من المؤتمرات التي تعقد بين الدول النامية والدول المتقدمة صناعيًّا تحت عدة مسميات مثل، الشمال والجنوب، أو الشرق والغرب، أو الدول الغنية والدول الفقيرة.. ويؤكد كثير من المحللين -حتى في الغرب- على أن المستقبل ينذر بالخطر والمشكلات والفتن إذا استمرت الدول المتقدمة صناعيًّا في تبني نفس الاتجاهات القديمة إزاء الدول الفقيرة والنامية، تلك الاتجاهات التي تتمثل في الأقوال المستهلكة التالية "تستطيع أي دولة أن تحدث نفسها اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا إن هي أرادت وإذا كانت مستعدة للعمل من أجل هذا الهدف، وأن المشكلات الأساسية في الدول النامية، داخلية، اجتماعية وسيكولوجية.. وهذا يعني تجاهل الأبعاد والظروف الدولية الضاغطة وسوء نية الدول المتقدمة صناعيًّا الأمر الذي ينذر بالخطر حتى على مستقبل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل هذه الدول ذاتها.

التحديث والتنمية

التحديث والتنمية العلاقة بينهما ومداخل الدراسة مدخل ... التحديث والتنمية: العلاقة بينهما ومداخل الدراسة طرحت العديد من التعريفات لمصطلح التحديث ولمضمونه كما رأينا والكثير منها متصارع نتيجة لتأثره بتوجهات إيديولوجية معينة ونفس الشيء بالنسبة لمفهوم التنمية. ويرجع الاختلاف والصراع -إلى جانب التوجيهات

الإيديولوجية للباحث- إلى طبيعة التنظيمات التي حاولت صياغة المفاهيم. وقد سبق لي في دراسات سابقة* عرض أهم هذه التنظيمات وأهم التعريفات المطروحة لكل من التحديث والتنمية. والاتجاهات المختلفة في تحديد هذه المفاهيم32. ويلاحظ أن الكثير من الدارسين لا يميزون بشكل واضح بين المفهومين. وقد عرضت تصورًا للتمييز بينهما على أساس أن التحديث يتمثل في تزايد قدرة الإنسان والمجتمع في التحكم في البيئة من خلال التقدم العلمي والتكنولوجي فالتحديث الاقتصادي يرتبط بزيادة الناتج والدخل القومي وتزايد استمتاع الإنسان وتيسير حياته المادية من خلال زيادة متوسط الدخل، ويرتبط التحديث الاجتماعي بالتقدم في التعليم وتزايد المتعلمين وحسن التوجيه التربوي والمهني، وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية وسيادة القيم الإيجابية نحو العلم والتجديد والتخطيط والتفكير العقلي والمنطقي وترشيد السلوك في ضوء الحقائق العلمية والمعارف اليقينية ... ويتمثل التحديث السياسي في اهتمام الصفوات السياسية بأمور المجتمع وتحديثه وتطويره ويرتبط بالمشاركة الجماهيرية في قضايا المجتمع وتطويره، كما يرتبط بالسلوك السياسي والأخذ بنظام الشورى والتنظيمات السياسية والولاء السياسي لدولة موحدة لها سلطة مركزية ذات سيادة.. إلخ. وهذا يعني أن التحديث هو جعل المجتمع حديثًا، أما التنمية فهي كمفهوم لدى الباحث أشمل وأعم من التحديث، حيث تشمل التحديث -متضمنًا المبادئ والأساليب والمنجزات العلمية والتكنولوجية الحديثة من أجل تزايد سيطرة

_ * عرضت في كتاب علم اجتماع التنمية: دراسة في اجتماعيات العالم الثالث الصادر سنة 1974 والمعاد طبعة سنة 1978، 1981 عوامل ظهور قضية التنمية الاجتماعية الريفية في الفكر الاجتماعي والبدايات التاريخية لظهورها، ونشأة وتطور هذا المفهوم داخل الدوائر الاستعمارية، ونشأة وتطور هذا المفهوم داخل دوائر الأمم المتحدة، واتجاهات تحديد هذا المفهوم لدى علماء الاجتماع -المداخل المختلفة لتحديد هذا المفهوم- كالمدخل التربوي، ومدخل العملية، والمدخل الاقتصادي، والمدخل الإداري، والمدخل التكاملي. انظر: علم اجتماع التنمية -دار النهضة- بيروت 1981 الفصل الثاني.

الإنسان على البيئة وتحسين الإنتاج كمًّا وكيفًا في كل أشكاله الاجتماعية والاقتصادية من أجل تحسين أساليب الحياة الإنسانية وتيسيرها. أما التنمية فلها عدة أبعاد:

البعد العقائدي أو الإيديولوجي

البعد العقائدي أو الإيديولوجي ... 1- البعد العقائدي والايديولوجي: والذي يحدد منطلقات التنمية وقيمها وأهدافها ويحدد البناء المعياري والقيمي الموجه لسلوك الناس وأهدافهم ولكافة عمليات التحديث -والذي يحدد توجهاتها. فهناك التوجهات الوضعية مثل التوجهات الماركسية وتتضمن عدة نماذج كالنموذج السوفيتي والنموذج الصيني ونماذج شرق أوروبا.. وهناك التوجهات الليبرالية وتتضمن عدة نماذج كالنموذج الإنجليزي والفرنسي والأمريكي والياباني ... وهناك التوجهات المختلفة ويتضمن عدة نماذج كالنموذج الهندي وأغلب دول العالم الثالث، وهناك التوجهات الدينية حيث تنطلق التنمية من منطلقات دينية كما هو الحال في نماذج التنمية في ظل التوجهات الإسلامية وطبقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية كما أرادها الله سبحانه وتعالى.

بعد النظم الاجتماعية

2- بعد النظم الاجتماعية: ويتمثل في أساليب ووسائل توظيف وصياغة المركبات المعيارية داخل المجتمع وتوجيه وظائفها في خدمة المعتقدات والأهداف والمعايير العليا الحاكمة للمجتمع، وخاصة النظم الاستراتيجية كنظام الاقتصاد والسياسة والأسرة والتربية والحراك الاجتماعي ...

البعد التنظيمي

3- البعد التنظيمي: ويتمثل في تحديد أشكال التنظيم داخل المجتمع -الحالية والمستهدفة، ويتضمن أساليب ومضامين وأهداف التخطيط وتقسيم العمل والتخصص وأنواعه ونماذج الإدارة والإشراف والبيروقراطية، وأنماط الأسرة وأشكال

التنظيم الديموغرافي للمجتمع من حيث خصائص السكان ونموهم وتوزيعهم الجغرافي، وطبيعة النمو الحضري والصناعي وتحديد العلاقة بين المجتمعات المحلية، وبين البيئة والمجتمع -الأيكولوجيا- ونظم الإدارة أو الحكم المحلي ... إلخ.

البعد الثقافي

4- البعد الثقافي: ويتضمن كل أبعاد الثقافة المادية والمعنوية. وشمولية التنمية تتطلب التفاعل الانتقائي مع الثقافة التقليدية، من حيث التركيز على جوانب الثقافة التقليدية التي تدعم برامج وأهداف التنمية، وتفريغ الجوانب المعوقة من مضمونها القيمي، مع دَعْمِ نَمَاذِجَ ثَقَافِيَّةٍ بَدِيلَة. ويتصل هذا الجانب بالمعتقدات والفلسفات القائمة وبالعمق التاريخي للسمات والمركبات الثقافية وبطبيعة بناء السلطة والقوة داخل المجتمع من حيث الأهداف والفلسفة والأساليب والتصور الاستراتيجي للمجتمع.

البعد النفسي

5- البعد النفسي: ويتصل بطبيعة الشخصية وبنائها المرغوب فيه والقائم فعلًا، كما يتصل بمستويات الدافعية Motivation والطموح ومحركات السلوك خاصة ما يتصل منها بالإنجاز والابتكارية والنجاح والقدرات الريادية والتنظيمية والإدارية لدى الصفوة والجماهير. كذلك يتصل هذا البعد بمضامين وأشكال وعمليات التنشئة الاجتماعية والتربية عمومًا.

بعد الإمكانات المتاحة

6- بُعْد الإمكانات المتاحة: ويقصد هنا الإمكانات المالية والبشرية والمادية والتنظيمية والتكنولوجية والعلمية، وأساليب تعبئتها وتنظيمها وتوظيفها في خدمة المجتمع.

بعد المناخ الدولي أو النسق العالمي

7- بُعْد المناخ الدولي أو النسق العالمي: ويتضمن طبيعة العلاقات والتسهيلات وجوانب الضغط والتعويق التي

تتعرض لها برامج التنمية داخل المجتمعات النامية من جانب الدول المتقدمة والدول النظيرة، ويتعلق بطبيعة العلاقات الدولية وعلاقة المجتمع بالتكتلات والكيانات الكبرى والمناطق الاقتصاية والاتفاقيات الدولية والثنائية ... إلخ. وموقف المجتمع من هذه المتغيرات. -والواقع أن هناك تداخلًا كبيرًا بين مفهوم التحديث ومفهوم التنمية ولكن لأهداف الفهم العلمي نرى قصر مفهوم التحديث على الاستفادة من المنجزات العلمية والتكنولوجية في رفع مستويات الدخل القومي والإنتاج وحفز الناس وتعبئة قواهم في سبيل تحقيق هذا الهدف وبناء التنظيمات الإنتاجية والخدمية الأكثر كفاية وكفاءة، وتحسين العمليات التعليمية وجوانب الرعاية الصحية والاجتماعية، أما التنمية فتضمن هذا الجانب "التحديث" إلى جانب الانطلاقات الفكرية الموجهة له وأهدافه وغاياته النهائية. وإذا كان هناك تحديث في الغرب الليبرالي وفي الدول الماركسية وفي الدول ذات الاقتصاد المختلط وفي الدول الإسلامية ... إلخ، فإن الخلاف بينهما لا يمكن في الاستخدام العلمي والتكنولوجي، ولكن في منطلقات وفلسفة هذا الاستخدام وأهدافه وغاياته النهائية وأساليب توظيف نتائج التنمية أو التوجيهات الإيديولوجية للتنمية. هذا وقد طرحت عدة مداخل نظرية لفهم التنمية الاجتماعية في التراث الاجتماعي* منها: مداخل النماذج المثالية، والمتصلات الثقافية، التحضر المدخل التطوري، المدخل الاقتصادي، المدخل الديموغرافي، المدخل العنصري، المدخل الماركسي، المدخل السيكولوجي، مدخل النسق العالمي ... وقد فصلت هذه المداخل في دراسات سابقة34 وسننتقل الآن

_ * سبق أن عرضتها تفصيلًا في دراساتي السابقة. انظر كتاب "علم اجتماع التنمية" السابق الإشارة إليه الفصل الأول، وارجع إلى مقال بعنوان "الإيديولوجيا وأزمة علم اجتماع التنمية" الكتاب السنوي لعلم الاجتماع -كلية العلوم الاجتماعية الرياضية- الكتاب الأول 1408هـ.

لعرض المدخل الإسلامي لدراسة وفهم التنمية الاجتماعية الشاملة.

نحو مدخل إسلامي للتنمية

نحو مدخل إسلامي للتنمية يمكن القول أن الدين الإسلامي عقيدة وشريعة يعد منطلقًا للتنمية الاجتماعية بمفهومها الشمولي حيث إن الإسلام اهْتَمَّ بالإنسان الذي كرمه الله واستخلفه في الأرض ورسم له أسلوب عزته وسموه وتفوقه، كما اهتم بالجماعة والمجتمع حيث رسم لهما عوامل التكامل والتكافل والتقدم والنمو في جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويمكن إيجاز أهم جوانب الارتباط الوثيق بين الإسلام وقضايا التنمية كما سبق أن حددتها في النقاط التالية: أولًا: ارتبط خلق الإنسان -كإنسان- في الدين الإسلامي بالتكريم والرفعة والعزة، وليس أدل على هذا من أن الإنسان فيه نفخة من روح الله إلى جانب العنصر الترابي. وهذا يعني أن الجنس البشري منذ خلقه هو أفضل المخلوقات عند الله، وجدير به أن يعمل وأن يكون على هذا المستوى من التكريم الإلهي حتى أن الله يباهي به الملائكة في مواقف معينة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة} [البقرة: 30] ، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70] . ثانيًا: ارْتَبَطَ وُجُودُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ بِتَنْمِيَةِ الْأَرْضِ وَتَعْمِيرِهَا بعد عبادة اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] . وقال أيضًا: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] . وقد حمل سبحانه وتعالى بني آدم في البر والبحر ليؤدوا واجباتهم المفروضة عليهم وهي واجبات الاستخلاف والقيادة والتعمير والتنمية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] . ثالثًا: ارْتَبَطَ خَلْقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للبشر ذكورًا وإناثًا وجماعات

وقبائل وشعوبًا بالتعارف والاحتكاك ثقافيًّا، والتعاون على البر والتقوى وتحقيق الاستفادة المتبادلة من خبرات بعضهم البعض: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13] . رابعًا: أعلى الإسلام من قيمة العمل باعتباره أنه السبيل إلى إرضاء الله سبحانه وتعالى، وهو الوسيلة إلى إشباع حاجات الإنسان المشروعة وهو السبيل إلى تعمير الأرض والتنمية في كل المجالات والعمل الذي يعلي الإسلام قدره ويرفعه إلى مراتب العبادة، وهو ذلك العمل المشروع البعيد عن الانحرافات، والعمل المتقن الذي يخلص فيه العاملون. وقد وصف الله نفسه بأنه صانع يتقن صناعته كما يتقن كل شيء ويحسن كل شيء خلقه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} [النمل: 88] ويقول تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه} [السجدة: 7] . ويقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"، ويلاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى يقرن في الكثير من المواضع بين الإيمان والعمل الصالح: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} والعمل الذي يقصده الإسلام يتسع ليشمل العمل العقلي والعمل اليدوي المقترن بالتفكير معًا وهما السبيل الصحيح للتنمية يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191] . وتحض التوجيهات النبوية الشريفة على عمل اليد: "ما من نبي إلا وكان يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده". "من بات كالًّا من عمل يده، بات مغفورًا له". وليس من المصادفة أن جميع أنبياء الله كانوا من العاملين إعلاء لقيمة العمل وتقديرًا لأهله، فيروى أن نوحًا كان نجارًا وإدريس خياطًا وموسى

راعيًا، ومحمد راعيًا وتاجرًا عليهم جميعًا صلاة الله وسلامه. ويتعهد الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي يحاسب على عمل الإنسان وأنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الكهف: 30] . خامسًا: يربط الإسلام بين العمل والعلم، فالعمل الصالح هو الذي يستند إلى العلم السليم، ويعلي القرآن في أكثر من موضع من قدر العلم والعلماء ويؤكد أهمية طلب العلم، ومن المعروف أن العلوم النظرية والتطبيقية هي السبيل إلى التقدم والتنمية في كل مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والعلوم في الإسلام ليست قصرًا على العلوم الدينية فقط ولكنها تمتد لتشمل كل العلوم التي تدرس الجماداتِ والنباتات والحيوان والإنسان، فالعلم في الإسلام هو مطلق العلم بشرط ألا ينطلق من منطلقات مغرضة أو منحرفة مثل العلوم العنصرية مثلًا وهدف العلم التوصل إلى الحقائق والقوانين التي تحكم الظواهر، وهي كلها شواهد على عظمة الله سبحانه وتعالى في كل مجال وحدة المكونات العضوية -وحدة القوانين الطبيعية ... تدل على وحدانية الخالق- وهدف العلوم في الإسلام تحقيق مصالح الناس في دنياهم وتحسين ظروف حياتهم المعيشية وهذا هو جوهر التنمية بمفهومها الشمولي: فقد سخر الله سبحانه وتعالى كل ما في السموات والأرض للإنسان ودعاه للانتفاع بها ولا يكون ذلك إلا بالمعرفة العلمية الدقيقة قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [لقمان: 20] وقال تعالى في سورة إبراهيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [ابراهيم: 32، 34] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ويوجهنا الإسلام إلى ضرورة العمل بمقتضى هذا التسخير من

خِلال فهم الظواهر وما يحكمها من قوانين حتى يستفيد من هذه الظواهر في حياته ويستخدمها لصالحه. ويحثنا القرآن الكريم على التفكير وإعمال العقل في كل الظواهر: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} [آل عمران: 191] وتبين سورة الواقعة عظمة الله الخالق وتدعونا إلى الفهم الحقيقي للكثير من الظواهر التي هي خلق من خلق الله بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58- 59] . ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63- 64] ، ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة: 68-72] . ويقول تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76] . وفي هذه الآيات الكريمة دعوة صريحة للبحث العلمي والتفكير في مجالات علوم الحياة والأرض والمناخ والزراعة والماء والأجنة والطاقة والفلك ... إلخ، وهناك العديد من الآيات التي تدعونا للتفكير والبحث في المعادن: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} الآية. [الحديد: 25] . وكيف ينتفع به الناس أن لم يفهموا خواصه والقوانين التي تحكمه؟ ويدعونا القرآن الكريم إلى البحث في داخل الإنسان: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} [الذاريات: 21] وهذه دعوة إلى البحوث البيولوجية والنفسية والفسيولوجية والباثولوجية والطب النفسي والعقلي ... إلخ. ويقول تعالى في سورة فصلت: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} [فصلت: 53] ونجد نفس التوجيهات للتفكير والبحث والفهم في مختلف سور القرآن الكريم مثل سورة "يس" وغيرها من السور ويعلي الإسلام من قيمة العلماء ويرفعهم فوق مرتبة العباد. يقول تعالى في سورة الزمر: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 91] ويقول تعالى في سورة المجادلة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ويقول عليه الصلاة والسلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".

سادسًا: سبق الإسلام كل المواثيق العالمية الحديثة إلى إعلان حقوق الإنسان على نحو لم تصل إليه أية مواثيق وضعية. فقد طفت المسألة على السطح بعد الحرب العالمية الثانية حيث صدرت وثيقة عالمية لإعلان حقوق الإنسان في 10/ 12/ 1948، كما عقدت الاتفاقية الأوروبية سنة 1950 في روما لحماية حقوق الإنسان، وعقدت الاتفاقيات الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/12/1966. وعقد أخيرًا المؤتمر الدولي الأول لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية والذي نظمه المعهد الدولي الأول للدراسات الجنائية عقد في إيطاليا سنة 1979، وذلك بعدَ أن فشلت المواثيق الوضعية في مواجهة المشكلات العالمية ومحاولة البحث فيما يمكن أن يقدمه الإسلام والعالم الإسلامي في هذا الموضوع35 وترتبط التنمية ارتباطا جوهريًّا بقضية حقوق الإنسان، طالما أن الهدف الأساسي من التنمية تحسين ظروف حياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية وتحريره من كل الضغوط البيئية والاجتماعية وإشعاره بالعدل والمساواة وإتاحة الفرص المتكافئة أمام الجميع وتأمينه ضد كل أنواع الاستغلال والاستبداد والتمييز العنصري وجعله يستمتع بالحريات الشخصية في حدود عدم الإضرار بالغير أو الاعتداء على حقوقه عامة ... إلخ. وإذا حاولنا معرفة حقوق الإنسان في الإسلام والتي تستمد من النصوص المقدسة التي هي في مرتبة أعلى من الدساتير والمواثيق الدولية الوضعية نجد أنها كثيرة وشاملة وعميقة وفي مقدمتها مبدأ الكرامة الإنسانية بغض النظر عن الجنس واللون واللغة والدين أو الانتماءات الاجتماعية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} [الإسراء: 70] . ذلك المبدأ الذي جاء به الإسلام قبل أكثر من 1350 عامًا من وروده بصور أقل عمقًا وتأصيلًا في الفكر السياسي العالمي. وهناك مبدأ وحدة الإنسانية يقول عليه السلام: "كلكم لآدم وآدم من تراب" ويقول تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الآية. [النساء: 1] وحققت الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِن

بِالْمَعْرُوفِ} الآية. [البقرة: 228] وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِن} الآية. [النحل: 97] . وأقر الإسلام قبل كل المواثيق الوضعية الدولية والمحلية حق الإنسان في الحياة، تحريم القتل إلا بالحق وإقرار حق القصاص: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب} [البقرة: 179] . وهناك نصوص كثيرة تشير إلى حق الإنسان في الحياة الكريمة الآمنة التي تكفل له الحماية من الظلم، يكفي أنه في الحديث الشريف: "إن الله حرم على نفسه الظلم وجعله بينكم محرمًا فلا تظالموا، وإن الظلم ظلمات يوم القيامة". وأكد الإسلام حق الإنسان في المعاملة الكريمة والمحاكمة القضائية العادلة وضمانات في حالات الخطأ، وأكد حق الإنسان في المعيشة الكريمة من خلال توفير أساسيات المعيشة كالسكن والغذاء والتعليم والعلاج، وحقه في تكوين أسرة واختيار الشريك فيها بحرية، وأكد حقوق الأطفال الراشدين وكبار السن والرجال والنساء داخل الأسرة بشكل متوازن عادل36، وحقوقهم داخل المجتمع. وأكد الإسلام الحق في الملكية في إطار ضوابط معينة وفي الحماية القضائية وفي العمل وفي الضمان الاجتماعي عند العجز أو الحاجة -وأوجبت الشريعة الإسلامية حق التشاور حيث جعلت الشورى فريضة اجتماعية وسياسية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159] ونبذت الإكراه حتى في الدين: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] وهذا هو حق الإنسان في ألا يكره على شيء. ولا نستطيع حصر حقوق الإنسان في الإسلام ويكفي أن نشير إلى أن تحققها هو في جوهره تحقيق للتنمية الاجتماعية في أعلى مستوياتها. سابعًا: يدعو الإسلام الناس إلى الإنتاج والعمل على استثمار الموارد المتاحة لهم سواء أكانت مادية أم مالية أم بشرية وتوظيفها بما يحقق أعلى عائد ممكن في إطار ضوابط محددة ومحكمة تحقق التوازن بين صالح الفرد وصالح الجماعة- ونلاحظ أن المنظور الإسلامي للثروة المادية يعد جزءًا

أساسيًّا من صلب العقيدة الإسلامية، وقد جَعَلَ الْإِسْلَام للثروة - بكل أشكالها- وللمال مكانه كبيرة وأعطاها القيمة الواقعية التي يستحقها، حتى إن القرآن الكريم وصف المال بأنه زينة الحياة الدنيا وسوى في ذلك بينه وبين الأبناء، ووصف الأموال بأنها قوام للناس من معاشهم ومصالحهم الخاصة والعامة. والإسلام يدعو إلى تحصيل الثروة والأموال من خلال مختلف الأساليب المشروعة، وفي هذا دعوة إلى التنمية الاقتصادية بأعمق صورها. وأساليب تحصيل الثروة والمال في الإسلام متعددة، فهناك التجارة: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 1-2] وهناك الزراعة حيث يوجهنا القرآن الكريم إلى إحياء الأرض وزراعتها واستثمارها يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24- 32] . وقد دعا الإسلام إلى إحياء الأرض الموات فقد أفاض الفقهاء في هذه الناحية وهناك باب خاص بذلك في كتب الفقه ويقول عليه السلام: "من أَحيا أرضا ميتة فله رقبتها"، وقد انصراف المسلمون إلى إحياء الأرض الموات تحت تأثير هذا التوجيه الكريم وبدافع التملك والربح الحلال الذي حث الإسلام عليه. وهناك الصناعة وفي القرآن الكريم توجيهات إلى التنمية الصناعية بكل أشكالها في إطار ضوابط شرعية. فقد أشار القرآن الكريم إلى صناعة الحديد: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] وصناعة الملابس: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] ومثل صناعة المعمار والتشييد والبناء: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] . وينبه القرآن إلى السعي وابتغاء فضل الله في الأرض بمختلف الأساليب والوسائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ولم يأمر سبحانه وتعالى بالانصراف عن تحصيل الثروة بالأساليب المشروعة إلا للعبادة، فإذا قضيت الصلاة فإن الناس مدعوون إلى الانتشار في الأرض

واستثمار كل طاقاتها، من خلال التفكير والعلم المثمر. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] . وإذا كان الإسلام يعلي من قيمة العمل المثمر والاستثمار في كل المجالات، فإنه يضع من الضوابط ما يحول دون المشكلات والجوانب السلبية التي تنجم عن غياب الضوابط والقيم الحاكمة كالاستغلال والصراع بكافة أشكاله والتمزق في العلاقات الاجتماعية والانقسام الطبقي الحاد وتزايد حجم الحقد واتجاه الأغنياء نحو مزيد من الغنى، والفقراء إلى مزيد من الفقر مما يفتح الطريق أمام ممارسة السلوك الانحرافي بكل صوره وأشكاله "دعارة وقتل وسرقة وعنف وإدمان واعتياد وانحراف الأحداث وانحرافات فكرية وعقائدية ... إلخ". وكل هذه الأمراض الاجتماعية تنجم عن إطلاق التنمية الاستثمارية دون ضوابط حاكمة. يقول تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] وتتضح دعوة الإسلام إلى استثمار الموارد المختلفة من عدة أمور مثل الدعوة إلى العمل بوصفه العامل الأساسي في عملية الإنتاج: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] ويقول تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] والدعوة إلى تجنب الاستثمار الاستغلالي الذي يقوم على الربا والاحتكار لما لها من آثار ضارة على المجتمع والأمن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي لأعضائه، وتحريم الاكتناز والاستغلال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} [التوبة: 34] . ثامنًا: تقوم التنمية الاقتصادية في الإسلام على أسس بنائية، عقائدية وأخلاقية واجتماعية. وأهم هذه الأسس هي ما يلي27: أ- أن الْمُلْكَ كُلَّهُ لله سبحانه وتعالى أساسًا وأن الإنسان مستخلف فيه من

أجل التعمير والتنمية وأداء حقوق الله والعبادة -وتتمثل هذه الواجبات في آداء فرض الزكاة وواجبات التكافل الاجتماعي- والتملك الفردي يجب أن يكون من خلال الأساليب المشروعة غير الانحرافية, وأهم أساليب التملك المشروع: العمل والمخاطرة بالكسب والخسارة, والزراعة وإحياء الأرض الموات, والعقود الناقلة للملكية بأنواعها المختلفة من بيع وهبة, والخلافة بميراث أو وصية. ب- الاقتصاد الإسلامي يتفق مع الطبيعة البشرية حيث يتيح الفرص للاستمتاع بالطيبات, ويدعو للتملك والعمل والاجتهاد والاستثمار والثراء, بشرط عدم الإضرار بالغير, وتحقيق الصالح العام, وتجنب المحرمات. ج- تحقيق التوازن بين حاجات الفرد والحاجات الجماعية, ويظهر هذا في نبذ التبذير والإسراف, وفي الحث على الاستثمار والتملك, والملكية في نظر الإسلام ليست ذات طابع فردي مطلق، كما أنها ليست ذات طابع جماعي مطلق. ففرديتها تظهر في إقرار الإسلام للملكية الفردية وحمايتها من كل اعتداء عليها، أما جماعيتها فتظهر من خلال تقييد نموها واستخدامها بمصالح الجماعة أو الصالح العام. د- الضوابط الأخلاقية للتنمية الاقتصادية في الإسلام، وهنا تظهر أخلاقية الاقتصاد الإسلامي, فالعنصر الأخلاقي ليس متضمنًا بالضرورة في جوهر عملية التنمية الاقتصادية في ذاتها, كما يشير إلى ذلك "بونسيون" ponsioen ,38 ولكنه يرتبط بها إذا وضعت التنمية الاقتصادية في إطار نظام عقائدي أشمل يحقق هذه الأخلاقية, كما هو الحال في النظام الإسلامي, وتتمثل هذه الضوابط الاقتصادية للسلوك الاقتصادي في الإسلام في عدة أمور مثل: تحريم اكتناز الأموال، وضرورة الاستثمار في المجالات التي تعود بالنفع على الفرد وجماعته ومجتمعه، وأداء فريضة الزكاة وواجبات التكافل الاجتماعي, والصدقات، والامتناع عن

ممارسة الربا والغش والاحتكار والاستغلال، وعدم استخدام الثروة للإضرار بالآخرين، أو للحصول على جاه أو سلطة أو مركز اجتماعي من خلال أساليب مرضية كالرشوة بشكلها المباشر وغير المباشر "الهدايا"، والالتزام بنظام الميراث، والبعد عن الإسراف والتقتير، وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه الضوابط الأخلاقية للتنمية الاقتصادية. هـ- إطلاق الطاقات الاستثمارية،وتشجيع النشاط الاقتصادي المنتج،فقد نهى الإسلام عن البطالة، ونبذ مبادئ التوكل والاكتناز والربا لما لها من آثار ضارة على الفرد والمجتمع، ولم يوجب الإسلام النفقة للفقير القادر على العمل؛ حتى لا يركن إلى الكسل والخمول. و يحول الاقتصاد الإسلامي دون التضخم المرضي للثروات الخاصة, حتى لا يكون أسلوب توزيع الثروة عاملًا من عوامل التمزق والصراع الذي يهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للمجتمع, فإذا كان الاقتصاد الإسلامي يشجع على التملك, ويكفل حمايتها بكل السبل، فإنه وضع ضوابط للحد من التوسع في الثروات الخاصة من خلال مجموعة من الأساليب نذكر منها: الالتزام بالأساليب المشروعة لجمع الثروة والتملك، ولا يجب توظيفها في خدمة صاحبها على حساب مصالح الآخرين بأي شكل "رشوة، احتكار، ربا، استغلال" وضرورة أداء حق الله فيها "زكاة وتكافل وصدقات", وتطبيق نظام الميراث الإسلامي من خلال توزيعها على المستحقين شرعًا. ز- يقضي الإسلام على مشكلات الفقر والعوز والاحتياج؛ لأن قدرًا كبيرًا من الأمراض والصراعات الاجتماعية تنجم عن وجود قطاعين متناقضين في المجتمع، أحدهما متخم من الثراء والقدرة المالية، والآخر لا يجد قوت يومه وقوت أسرته. وهذا هو المدخل الذي تدخل منه الدعوات الانحرافية والاتجاهات الاجتماعية المضللة الهدامة كالماركسية مثلًا, وقد كفل الاقتصاد الإسلامي

معالجة هذه المشكلة من خلال الدعوة إلى العمل لكل قادر عليه ورفعه إلى مرتبة العبادة, وأوجب الزكاة وواجبات التكافل والصدقات، والدعوة إلى مبدأ المشاركة في الرزق الفائض "من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له, ومن كان عنده فضل زاد, فليعد به على من لا زاد له"، هذا إلى جانب مختلف الضوابط السابق الإشارة إليها. ويذهب الاقتصادي الفرنسي "جاك أوستروي" في دراسة له بعنوان "الإسلام أمام التطور الاقتصادي"39 إلى أن الاقتصاد الإسلامي نظام وسط، وهو ينتقد المذاهب الاقتصادية بقوله: "إنه لا توجد طريقة وحيدة ضرورية للتنمية الاقتصادية كما تريد أن تقنعنا المذاهب القصيرة النظر في النظامين الرأسمالي والشيوعي حيث يدعى كل منهما أنه يمثل المنهج الاقتصادي الأمثل"، ويؤكد "أوستروي" ضرورة الاستفادة بما يطلق عليه المذهب الثالث في الإسلام الذي يقف موقفًا وسطًا بين المذاهب الفردية والجماعية, ويجمع بين حسنات كل المذاهب الاقتصادية المعاصرة، إلى جانب أنه يتغلب على جميع الصعوبات الاقتصادية التي يقف الاقتصاد الحر عاجزًا عن معالجتها. تاسعًا: ينظم الإسلام علاقات العمل تنظيمًا دقيقًا متقنًا يحقق العدل, حيث يطالب العاملين بالإتقان في العمل ومراقبة الله سبحانه وتعالى قبل الخوف من رقباء الدنيا, قال عليه السلام: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"، كما يقضي الإسلام من صاحب العمل أن يحدد للعامل مقدار العمل الذي سيكلف به، ومقدار الأجر، وأن يمنحه أجره بمجرد أداء العمل، وأن يكون حجم العمل على قدر ما يستطيعه العامل بحيث لا يؤدي إلى الإضرار بالعام صحيًّا أو اجتماعيًّا، يقول عليه الصلاة والسلام: "من استأجر أجيرًا, فليعلمه أجره"، قال عليه السلام: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" , ويقول عليه السلام: "إخوانكم خولكم, جعلهم الله تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده, فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس،

ولا تكلفوهم ما لا يطيقون, فإن كلفتموهم, فأعينوهم"، وللفقهاء حديث طويل حول علاقات العمل في الإسلام, وقد ذهب بعض الباحثين كالإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" إلى أنه على ولي الأمر أن يضمن عملًا لكل عضو قادر على العمل من أبناء المجتمع، واستنتج ذلك من أن الرسول عليه السلام "أعطى رجلًا قدومًا ودرهمًًا وأمره أن يحتطب", أما بالنسبة للعجزة والشيوخ فإن من واجب الدولة تأمين حاجتهم المعيشية كاملة, وهكذا سبق الإسلام مفاهيم التأمين والضمان الاجتماعي, ولكن بشكل أكثر تحديدًا وانضباطًا, فالإسلام يؤمن الإنسان على أكله وشربه ولبسه ونفقات أسرته من خلال العمل, ويؤمنه ضد البطالة والعجز والشيخوخة, وللفقهاء حديث حول أسلوب تحديد الأجر، فكل أجر لا يفي العامل حاجاته الأساسية "المأكل, والمشرب, والمسكن, والملبس"، ولا يقره الإسلام، وإلى جانب هذه الحاجات الأساسية ينبغي أن يؤمن للعامل متطلبات النمو الاجتماعي المشروع: كالتعليم, ومواجهة الأمراض من خلال العلاج ... إلخ40. عاشرًا: يقوم الاقتصاد الإسلامي على أساس واقعي أخلاقي, فهو يؤكد أهمية التعاون والتكافل من أجل التنمية والاستثمار وتحقيق التقدم والتوازن الاجتماعي, غير أن هذا ليس معناه تحقيق المساواة الحسابية الكاملة بين الناس, وجعل الأغنياء والفقراء سواء -كما يدعي بعض أصحاب المذاهب الاقتصادية الوضعية الطوبائية- فالإسلام دين الفطرة يعترف بالواقع, وبالتفاوت بين الأفراد في الملكات والمذاهب والذكاء والقدرات والجهد, فلكل سعيه وجهده ومقدرته وخبرته, وقد بحث بعض الفقهاء مثل أبي عبيد القاسم في كتابه "الأموال", وأبي يوسف في كتابه "الخراج" في القوانين الاقتصادية على أساس تحقيق العدالة الاجتماعية والفرصة المتكافئة بين الناس عامة41, مع ترك المواهب والقدرات الذهنية والبدنية تعمل في نطاق الغاية العظمى وعدم التعسف, قال عمر بن الخطاب: "الرجل وبلاؤه, الرجال ووفاؤه, الرجل وقدمه, الرجل وحاجته".

ويقر الإسلام حقيقة التفاوت الفطري بين الناس في القدرات والاستعدادات والأرزاق والثروات, قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْق} [النحل: 71] , ويقول تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] , وهذا التفاوت هو الدافع إلى العمل والاجتهاد والسعي وبذل الجهد؛ للتنمية, وتحسين الأحوال, ومدخل للتنافس الشريف الذي يحقق المزيد من التنمية, والذي يعود بالمصلحة على الفرد والمجتمع معًا. ويضبط الإسلام هذا التنافس بضوابط محكمة تحول دون تحوله إلى صراع مدمر كما حدث في التجربة الأوروبية للتنمية خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كما تحول دون التعارض مع الفطرة كما حدث في تجربة التنمية في الدول الماركسية. حادي عشر: للإسلام أسلوبه المتميز في مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فمواجهة مشكلة الفقر تقوم على عدة أسس منها: تمكين كل قادر على العمل أن يعمل, وهذا واجب من واجبات الدولة، سواء أكان العمل يدويًّا أو ذهنيًّا, وقد كرم الإسلام كلًّا من العملين حتى لا يكون هناك احتقار للعمل اليدوي, وبالتالي لا يوجد تفاوت بين الناس مصدره طبيعة العمل, فكل الأعمال مكرمة طالما أنها شريفة42, والإسلام يتيح الفرصة لكل ذي موهبة وقدرة من الانتفاع بموهبته وقدرته، وفي هذا ما يحقق النمو للفرد وللمجتمع معًا, وبالنسبة للعاجزين عن الكسب بسبب الشيخوخة أو المرض أو الأنوثة أو الصغر أو اليتم, فإن الإسلام يؤمن لهم حياة كريمة عزيزة عن طريق عدة مصادر منها: الزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة، والكفارات, والصدقات، ثم هناك بيت مال المسلمين, وللفقير حق في هذا المال يعطى منه بانتظام43, ويواجه الإسلام مشكلة التمايز والصراع الطبقي حيث يوضح حقيقة أن الإنسان هو أكرم المخلوقات, وأن الله قد كرمه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} الآية. [الإسراء: 70] , وأن الناس كلهم يرجعون إلى أصل واحد وهو آدم، وآدم من تراب, وأن معيار التمايز بين البشر ليس هو اللون أو الثراء أو

الجاه أو السلطان ... إلخ, لكنه هو التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 49] , فالفقر والغنى في نظر الإسلام حقيقتان من حقائق الوجود الإنساني: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] . أما المعيار الثاني للتمايز بين البشر فهو العلم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] , وقد عمل الإسلام على معالجة الطبقية القائمة على أسس اقتصادية من خلال نظم الزكاة والنفقات وكفالة الدولة للفقراء والمحتاجين من العجزة الذين ليس لهم أقارب أغنياء، ومن خلال ضوابط الملكية الخاصة، ومن خلال الحيلولة دون تضخم الثروات عن طريق الميراث الشرعي, كما عالج مشكلة الطبقية النفسية "الغرور والكبر" عن طريق العبادات حيث تسوي بين الفقير والغني, وحيث يشعر الجميع بالخضوع لله سبحانه وتعالى, والعبادات تهذب النفوس, وتؤكد التضامن بين المسلمين, أما الطبقية القائمة على التفاوت المعرفي, فإن الإسلام يستخدم مصطلح الدرجات, ويوظف العلم في خدمة الدين والدنيا بشرط أن يكون ملتزمًا بالأطر الإسلامية، فقد استعاذ رسولنا عليه السلام من شر علم لا ينفع, وأفضل الناس من تعلم العلم وعلَّمه. كذلك, فالإسلام يواجه مشكلة البطالة والتسول, بالدعوة إلى العمل لكل قادر عليه، بوصفه الأساس للتمايز بين الناس: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} الآية. [فصلت: 33] . وهو السبيل إلى تعمير الكون, وتحقيق التقدم والتنمية, وقد وجه القرآن الكريم أنظار المسلمين إلى تسخير الله كل ما في الأرض والسموات والبحار للإنسان, وما على الناس بعد هذا إلا السعي والعمل لاستغلال هذه الموارد الاقتصادية, والتمتع بزينة الحياة الدنيا وطيباتها في إطار ما رسمه الله من ضوابط, ويرى الفقهاء أن من واجب الحاكم الإسلامي تأمين العمل لكل قادر عليه، وعلى الدولة تأمين وسائل العمل للعمال, بغض النظر عن درجة بساطتها وتعقيدها، وقد خول الإسلام للحاكم أن يلزم أصحاب العمل بتشغيل العمال إذا امتنعوا عن ذلك ظلمًا، كما أجاز

له إلزام العاملين الراغبين عن العمل الذي يجيدونه على ممارسة هذا العمل إذا قتضت المصلحة ذلك, "وهذا ما ذكره ابن القيم الجوزية في كتابه الطرق الحكيمة"، فبعض الأعمال قد تكون فرض عين على بعض الأشخاص القادرين عليها في حالة الاحتياج إليها, وعدم وجود غيرهم, وللفقهاء كلام دقيق في هذه الجوانب, وينبه الإسلام إلى خطورة البطالة لما يمكن أن تؤدي إليه من انحرافات فكرية وسلوكية, فقد قال الإمام أحمد: "إذا جلس الرجل ولم يحترف دعته نفسه إلى أن يأخذ ما في أيدي الناس". والإسلام يحارب البطالة في كل أشكالها -بشرط القدرة على العمل- حتى لدى غير المسلمين داخل الدولة الإسلامية -واقعة مع اليهودي- وهذا من شأنه توجيه الطاقة البشرية داخل المجتمع نحو التنمية والعمل المنتج المثمر44. ثاني عشر: يسعى الإسلام إلى القضاء على التبعية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع المسلم, وهذا هو غاية التنمية الاقتصادية والاجتماعية كما تعالجها جميع الاتجاهات النظرية المتصارعة, فالمبدأ الإسلامي الذي يذهب إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, والحياة الاقتصادية تتطلب ثلاثة أنشطة وهي الزراعة والصناعة والتجارة, ولهذا وجب تنمية هذه المجالات والتنسيق بينها45 بشكل يحقق النمو والاستقلال الاقتصادي, وقد أوضح ابن تيمية في كتابه "الحسبة" أن واجب الدولة أن تتداخل بالتنظيم والإجبار؛ لإيجاد حاجات الأمة من الصناعات والزراعات والمرافق المعاشية العامة، وإعداد من يصلحون لها ويقومون بها, ويشير ابن تيمية "إلى ضرورة تدخل الدولة في تحديد أجور العمال, وتحديد أسعار السلع في حالة المغالاة", وهذا ما ذكره الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة", وهذا يشير إلى أن الإسلام سبق كل الاتجاهات الحديثة في الأخذ بمبدأ التوجيه الاقتصادي, وتطبيق الاقتصاد الموجه تحقيقًا للتوازن بين الفردية والجماعية, وتحقيقًا للنمو الاقتصادي والاجتماعي للإنسان والمجتمع في ضوء العدالة والمساواة والأخوة بمفهومها الإسلامي الصحيح, وليس بالمفهوم الليبرالي أو الماركسي القاصر.

ثالث عشر: اهتم الإسلام بالتنمية التعليمية والتربوية بشكل واضح, فالعلم كما سبق قيمة كبرى من قيم الإسلام, ومعيار أساسي للتمايز بين الناس, وأول سورة نزلت على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بدأت بكلمة: "أقرأ", واهتم الإسلام بمحو الأمية والتعليم, لدرجة أنها كانت مدخلًا للتحرر من الأسر في الحروب, وقد تحدث بعض الفقهاء أنه يجب إتاحة الفرصة أمام الجميع لإظهار مواهبهم وقدراتهم, واستثمارها في خدمة المصلحة الخاصة والعامة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال نظام تربوي تعليمي متدرج46, فالمرحلة التعليمية الأولى تكون عامة للأمة كلها, ولا يتخلف عنها أحد "مرحلة إجبارية". ويدخل المرحلة الثانية من لديه القدرة على متابعة الدراسة، أما من وقفت به استعداداته عند المرحلة الأولى، يدخل إلى مجال العمل المناسب حيث يكون منهم العاملون بأيديهم في الزراعة والعمارة والتجارة والصناعات اليدوية وغير ذلك مما لا يحتاج إلى تخصص مهني دقيق, أما من ينهي المرحلة الثانية من التعليم فإما أن يكون لديه القدرة على متابعة التعليم في المرحلة الثالثة حيث التخصص المهني الدقيق، فنون الطب والعسكرية والقضاء.. إلخ, وإما أن يتوقف ويتجه إلى مجالات العمل الفني التي تحتاجها الأمة "أعمال نصف ماهرة" كالصناعة والمحاسبة, ولا يدخل المرحلة الثالثة إلا من تؤهله قدراته لهذه المرحلة المتخصصة الدقيقة, والتي تؤهل بعد التخرج لتولي الوظائف التخصصية العليا, وهذا النظام يتيح أمام الجميع فرصة متكافئة للتعليم، وفرصة متكافئة للعمل في مجالات يحتاجها المجتمع من جهة وتتفق مع قدراتهم وميولهم واستعداداتهم من جهة أخرى, وعلى الدولة العمل على تأهيل أبناء المجتمع حسب ميولهم وحسب حاجة الأمة، وإذا تركت الأمة هذا العمل باءت بالإثم، وقد ذكر الإمام الشاطبي في كتابة "الموافقات" أن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة أفراد الأمة جميعهم, فبعضهم قادر عليها مباشرة, وذلك من كان أهلًا لها, والباقون إن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين, وهذا يعني أن الإسلام أوجب على الحاكم تأهيل جميع أعضاء المجتمع حسب ما يناسبهم وما يستطيعون

القيام به47, وبهذا سبق الإسلام كل النظم التربوية الحديثة التي تحاول الاقتراب من هذه الفكرة في مجال الحديث عن تنمية التعليم. رابع عشر: والحديث عن تنمية التعليم يقود إلى تنمية الشخصية, وقد سبق أن ذكرنا أن هناك مدخلًا مطروحًا في التنمية, أطلقنا عليه المدخل السيكولوجي, يربط أنصاره بين التنمية ونماذج الشخصية, ومثال هذا "أفريت هيجن E. Hagen" الذي يحاول علاج التنمية الاقتصادية من خلال أساليب نفسية، يربط بين النمو الاقتصادي وبين الشخصية الابتكارية Creative Personality48، "ودافيد ماكليلاند D. Mc Clelland" الذي يرى أن الشخصية هي المحرك الأول للتغير والتنمية الاقتصادية وهو يؤكد على الروح الريادية "interpreneurial spirit", وهو يربط بين التنمية وبين الشخصية المنجزة التي لديها الحاجة إلى الإنجاز "The need for achievement", ونفس الشيء بالنسبة "لشومبيتر" الذي يربط التنمية الاقتصادية بالقدرات الريادية التي يتمتع بها رجال الأعمال, وإذا حاولنا فهم الشخصية الإسلامية كما يحددها القرآن الكريم والسنة المطهرة, وكما أفاض فيها الفقهاء نجد أنها تجمع كل هذه الخصائص إلى جانب شيء مهم وأساسي وهي أن هذه الخصائص "الإنجاز, الابتكارية, حب العلم والعمل, القدرة على مواجهة المشكلات, الدقة, الصدق, الأمانة ... إلخ" تنبثق من الإيمان بالله, وتنطلق من دوافع إيمانية تمثل قوة دفع كبيرة أقوى من كل الدوافع والمنطلقات الوضعية, وقد حدد الإسلام أساليب تربية هذه الشخصية من خلال القدوة الحسنة, والترغيب والترهيب, والتوجيه, والقصة, والمحاولة والخطأ ... إلخ. وتحدد التربية الإسلامية مُثُلًا عليا وقيمًا نهائية أمام النشء والشباب, وهذا هو أهم ما يحتاج إليه الشباب "القيم, المثل, القدوة", وهذا أن الشخصية الإسلامية قادرة على إطلاق حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل أقوى من كل النماذج التي تحدث عنها أنصار الاتجاه السيكولوجي في التنمية50.

خامس عشر: وإذا انتقلنا إلى مجال التنمية الصحية فيكفي القول أن الإسلام هو دين النظافة والقوة, فالنظافة من الإيمان، وهناك الكثير من التوجيهات الإسلامية للعناية بالصحة, والأخذ بأساليب الإرشاد الصحي والوقاية والتداوي أو العلاج, والبعد عن كل ما يفسد الصحة كالسكر وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير, فالتوجهات المتعلقة بالوضوء, والطهارة, وتجنب الحائض, والاهتمام بالرضاعة الطبيعية للأطفال, وتوجيه الناس إلى التداوي أو العلاج, والبعد عن كل ما يفسد الصحة كالسُّكْر وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير.. فالتوجيهات المتعلقة بالوضوء, والطهارة, وتجنب الحائض, والاهتمام بالرضاعة الطبيعية للأطفال وتوجيه الناس إلى التداوي بما هو حلال طيب, وأن الله لم يوجد داء إلا وخلق له الدواء، والأمر يتجنب اللواط والزنا.. كل هذا دعوة إلى الاهتمام بالصحة والتنمية الصحية، وقد ثبت أن الابتعاد عن هذه التوجيهات الإلهية يوقع الإنسان في التهلكة, ويكفي أن نشير في هذا إلى أن أخطر أمراض العصر "الإيدز", والأمراض النفسية الكبرى, والسرطان, ينجم عن الابتعاد عن التوجيهات الإسلامية51. سادس عشر: وللإسلام تصوره الواضح لأساسيات النظام السياسي، فالإسلام يعتمد الشورى منهجًا للتعامل السياسي, ويترك التفصيلات لظروف كل مجتمع، وهو بهذا ينبذ الاستبداد والتسلط, ويأمر الله سبحانه وتعالى نبيه عليه السلام بالشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159] , ويصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] , وينبه الإسلام إلى ضرورة محاربة المنكر: "من رأى منكم منكرًا, فليغيره ... " الحديث, ويقول عليه السلام:"الساكت عن الحق شيطان أخرس"، ويوجب الإسلام إعمال قاعدة مهمة في الحكم إلى جوانب الشورى، وهي قاعدة العدل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] , والإسلام يحارب الظلم, ويحدد الإسلام بشكل دقيق طرق اختيار الحاكم, والشروط الواجب توافرها في الحاكم, ووظائف الحاكم, وطبيعة الدولة ... إلخ, وهكذا حقق الإسلام أرقى أشكال التنمية السياسية قبل أن تعرفها الدول الحديثة، تلك الدول التي لم تصل إلى عظمة التطبيق الإسلامي لقيامها على اجتهادات وضعية، ومن عظمة الإسلام أنه يضع المبادئ العامة في بعض الأمور كالشورى, ويترك لكل مجتمع

حرية التطبيق بما يتفق مع ظروفه وتاريخه وثقافته في إطار المبدأ والأساس. سابع عشر: وقد حدد الإسلام نظمًا للإدارة تحدد أقصى درجات التنمية والتقدم الإداري, وتقوم على مجموعة من القيم الدينية والمنطلقات الإيمانية, مما يجعلها أقوى في التطبيق من كل القواعد الوضعية للتنمية الإدارية, وتقوم الإدارة الإسلامية على عدة أسس أهمها، المساواة: فالمسلمون سواسية كأسنان المشط، والشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ} ، وسيادة القانون, وتطبيق العدالة دون مراعاة للحسب أو النسب أو الغنى والفقر أو اللون..، ويركز الإسلام على أساليب التعامل مع الغير "العلاقات الإنسانية"، ومراعاة المصلحة العامة والاهتمام بمصالح الآخرين، وتيسير مصالح الناس "تيسير الإجراءات وتحقيق المصالح", عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به" رواه مسلم: "3/ 1458"، وينهى الإسلام عن التسلط والكبرياء, ويؤكد الإسلام مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب, وضرورة انتقاء الرؤساء والولاة بدقة, بشرط ألا يكون الرجل حريصًا عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله, ولا أحدًا حرص عليه" أخرجه مسلم: "3/ 1456", ويحرص الإسلام على أهمية الوفاء بالعهود, ويؤكد قيم الصدق والعدل والكفاية, وينبذ التعقيد الروتيني والتفرقة في التعامل, وأهم شيء في الإدارة الإسلامية عنصر مراقبة الله في السر والعلن.. وفي مجال إتقان العمل والإنتاج, فقد نسب الله الإتقان وإحسان العمل لنفسه, وأمرنا ديننا بإتقان العمل: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" , ويأمرنا ديننا كذلك بالمطابقة بين القول والعمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون} ... الآية، وهنا يؤكد أهمية القدوة الحسنة، ومسئولية الراعي عن الرعية: "كلكم راعٍ, وكلكم مسئول عن رعيته" أخرجه مسلم: "3/ 1459", وينهى الإسلام عما يطلق عليه حديثًا أمراض البيروقراطية كالرشوة: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم" , والتعقيد والتعسف: "ألا هلك المتنطعون" , وينهى عن المحاباة: "من ولي من أمر

المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله, لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم" أخرجه أحمد, وقال عليه السلام: "من ولاه الله عز وجل من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره" رواه أبو داود: "122/2", وهذا كله يشير إلى أن الإسلام أول من وضع أسس الإدارة العلمية والإنسانية التي تقوم على مجموعة من القيم الإيمانية, والقادرة على تحقيق الكفاية الإنتاجية, والكفاية النفسية والاجتماعية بشكل متكامل52. ثامن عشر: هذا وقد عالج الإسلام قضايا العلاقات الدولية ومشكلات الديون معالجة قديمة تحقق النمو المتوازن لجميع الأطراف دون جور أو عدوان, أو اختلال في التوازن الاقتصادي سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى العالمي, ويكفي أن ننظر إلى أزمة الديون في الدول النامية لنرى كيف أن الشروط المجحفة التي ارتبطت بالديون أو القروض التي صرفتها الدول المتقدمة اقتصاديًا إلى الدول النامية هي التي أدت إلى الأزمة العالمية المعاصرة، وإلى أزمات الكساد المتكررة التي عانى منها العالم المعاصر, وتتمثل هذه الشروط في فرض فوائد باهظة وشروط معينة لإنفاق القرض, وإجبار الدول المقترضة على استخدام القرض في مشروعات محددة تخدم مشروعات في الدول المقرضة.. وتراكم الديون وفوائدها أدى ببعض الدول "مثل المكسيك" إلى إشهار إفلاسها، وإعلان دول أخرى مثل أراجواي وغيرها من دول أمريكا اللاتينية الخروج على كل الأعراف والقواعد الدولية والامتناع كليًّا عن سداد الديون إنقاذًا لشعوبها من الجوع والإفلاس53, وكما سبق أن أشرنا فإن نتائج عجز الدول النامية عن سداد الديون بفوائدها الباهظة لم تقتصر على الدول النامية، ولكنها أدت إلى مشكلات اقتصادية وأزمات اجتماعية داخل الدول الدائنة ذاتها*. والحلول

_ * يذكر د. محمد شوقي الفنجري في مقال له بعنوان "مديونية العالم النامي المستعصية وحلها الإسلامي": أن ديون المكسيك بلغت عام 1986 نحو مائة مليار دولار عجزت عن سدادها وسداد فوائدها, وقد أثرت على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أو بآخر, فعندما خفضت المكسيك وارداتها؛ لتوفير العملة الصعبة؛ سدادًا لديونها هبطت الصادرات الأمريكية للمكسيك بنسبة تزيد على 50%، وطبقًا لما ذكره مجلس التنمية لما وراء البحار اختفت نحو ثلثمائة ألف فرصة عمل أمريكية منذ سنة 1982 نتيجة لذلك. انظر المقال المذكور في المراجع.

التي تقدمها الدول الدائنة حلول فاشلة ليس من شأنها القضاء على المشكلة مثل جدولة الديون وتمديد فترة السداد، وأحيانا تفرض الهيئات الدولية حلولًا تؤدي إلى المزيد من المشكلات والأزمات مثل رفع الدعم. وتخصص أغلب الصادرات والموارد الرئيسة للدولة لسداد الديون.. إلخ. وقد قال بعض الاقتصاديين الغربيين أن الاقتصاد العالمي لن يصلح إلا إذا وصل سعر الفائدة إلى صفر, وهذا هو الحل الإسلامي الذي ينادي بتطبيق القرض الحسن, وينادي بالمشاركة في المشروعات والأرباح بأشكال مختلفة، وينادي بالتعاون من أجل صالح الجميع ورخاء الجميع, وهذا هو ما تحاول المؤسسات الاقتصادية الإسلامية تطبيقه. من كل ما سبق نجد أن الإسلام يضع لنا أسس التنمية الاقتصادية والتعليمية والصحية والإدارية والسياسية والاجتماعية بشكل سليم, والفرق الرئيسي بينها وبين التنميات الوضعية أنها تنطلق من دوافع دينية ومنطلقات إيمانية وقيم موجهة تكفل لها عنصر الاستمرار والنجاح في مواجهة المشكلات والأزمات المحلية والعالمية, وكل قطاع من قطاعات التنمية في الإسلام يحتاج إلى دراسات وأبحاث, وليس هذا الفصل سوى دعوة للمزيد من الجهد والتعمق نظرًا وتطبيقًا, وما يهمنا هنا الإشارة إلى أن نموذج التنمية الإسلامية يختلف تمامًا عن النماذج الإيديولوجية المطبقة والمطروحة في دراسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، النموذج الليبرالي، والنموذج الاشتراكي، والنموذج المختلط, والنموذج الإسلامي ليس نموذجًا وسطًا فحسب, ولكنه له أصالته الذاتية في نظرته للإنسان والمجتمع والحياة

والعالم والكون والمستقبل وقوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية, ولا يمكن اعتبار الإسلام مجرد بناء إيديولوجي في مجال التنمية, مثله مثل الإيديولوجيات الوضعية؛ ذلك لأنه يصوغ بناء ثقافيًّا شاملًا، كما يصوغ منهجًا متكاملًا في الحياة, وكما يشير "إلياس بايونس" و"فريد أحمد" في مؤلفهما الصغير حول "مقدمة في علم الاجتماع الإسلامي" فإن الإسلام ليس مجرد صيغة من الشعائر الشكلية, ولكنه عملية طاعة لحكم الله في إطار علاقة الإنسان بالله, والعلاقة القائمة بين الناس سواء في مجال الأسرة أو الحكم والاقتصاد والتعليم والترفيه والتكاثر, وكل تلك الأمور التي تضمن استمرار الحياة الاجتماعية المتكاملة والمتفاعلة على وجه الأرض54, ويشير الكاتبان إلى أن الدول الإسلامية التي حاولت على مدى أكثر من ربع قرن اتباع أساليب رأسمالية أو اشتراكية في التنمية، لم تختف داخلها مشكلات التخلف، إلى جانب وقوعها في مشكلات مزعجة مثل مشكلة الديون, وهي مشكلة عويصة, لدى الدول التي تأخذ بالأسلوب الرأسمالي في التنمية، ومشكلة العجز البيروقراطي والتسلط الذي نجم عنه تبديد الموراد الوطنية وغرس الإحساس بالغربة بين العمال، لدى الدول التي تأخذ بالأسلوب الاشتراكي في التنمية, والنتيجة تعريض الاستقلال السياسي الذي كافحت من أجله الشعوب للخطر55, وقد أشار "ميردوك Merdock" إلى عنصر الفساد "الرشوة والاختلاس والغشّ في الأموال الحكومية, والتحايل على القوانين, والحصول على خدمات غير قانونية, والتعقيدات الروتينية في بعض الدول النامية، التي أطلق عليها مصطلح الدول النامية", ويرى "بايونس" و"فريد أحمد" أن معظم الدول الإسلامية تندرج تحت هذا التصنيف56. وهذه الأمراض السياسية والبيروقراطية من شأنها تعويق عمليات التنمية داخل هذه الدول. ويتميز النموذج الإسلامي للتنمية, فوق ذاتيته المتميزة والمستمدة من تطبيق الشريعة التي أرادها الله للإنسان منهجًا وأسلوب حياة، فإنها تحقق

الإشباع المتوازن لحاجات الإنسان المادية والروحية، وكما يقول الباحثان المذكوران أن أي جهد يخلو من إرضاء الجانب الروحي في الإنسان، لا يخلف وراءه إلا الإحساس بالمرارة وعدم الرضا، رغم كل مظاهر التقدم المادي التي يمكن تحقيقها57. والنموذج الإسلامي يرفض التطرف بكل أشكاله المادية "الغربية والماركسية", والروحية -الرهبنة, وإذلال الجسد, وعدم التمتع بكل الطيبات والزينة الحلال- وهذا يعني أن هذا النموذج يركز على توفير بيئة سياسة واجتماعية واقتصادية قادرة على إشباع مطالب الإنسان المادية والروحية بشكل متوازن, ولعل غياب هذا الأمر هو الذي يفسح المجال للتطرف بكل أشكاله المادية والروحية, وإذا كان علم الاجتماع لم يستطع أن يصبح حتى الآن علمًا موضوعيًّا بعيدًا عن الانحيازات الإيديولوجية إلا في أقل القليل, وفي بعض المجالات, فإن التنمية تتضمن بالضرورة أحكامًا قيمية ومعيارية؛ لأنها تشير إلى إحداث تحولات من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة مرغوب فيها, وهنا يصبح على المشتغلين بعلم الاجتماع من المسلمين تحقيق نوع من الالتقاء الضروري بين علم الاجتماع الذي يفترض فيه الحيدة العلمية, وبين متطلبات الشريعة الإسلامية، خاصة عند صياغة استراتيجية التنمية وبرامجها وأهدافها, يضاف إلى هذا, فإنهم مطالبون بالإسهام في رسم استراتيجية التغير الاجتماعي وتوجيهه بما لا يتعارض مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية, وهم مطالبون ثالثًا بتشخيص المشكلات الاجتماعية في الدول النامية وتفسيرها في ضوء معطيات الإسلام وحقائقه، ورسم سبل مواجهتها بما يتفق -أو على الأقل بما لا يتعارض- مع الشريعة الإسلامية، وهم مطالبون رابعًا بالإسهام في إرساء الأسس الاجتماعية للدعوة الإسلامية استنادًا إلى حقائق الإسلام ومعطيات العلوم الاجتماعية الحديثة فيما يتعلق بديناميات العلاقات الاجتماعية, وأسس بناء وتغير القيم والاتجاهات والسلوك، وديناميات ممارسة القوة والتأثير داخل المجتمعات ...

مصادر الفصل السادس

مصادر الفصل السادس 1- ارجع إلى المصادر التالية للكاتب: - علم اجتماع التنمية - دراسة في اجتماعيات العالم الثالث - دار النهضة - بيروت 1981. - التنمية والتحدث الحضاري - جزءان - الجبلاوي- القاهرة 1976. 2- See: WILLIAM MC FORD: THE SPRING TIME OF freedom: n.y.oxford universtity press 1965 pp.3-18. 3- Robert h.lauer; perspectives on social change: allin and bacon i.n.c boston, olndon , sydny. toronto 1977.p.299. 4- Toynbee: the presnt bay experiment in western civilisation - london-oxford universty press, 1962 p. 24 s.n. eisenstadt: breakdown of modernisation: economic development and cultural chagne. 1946 pp.345-365. 5- See: david apter: the polit9cs of modernisation: chicago: university of chicago press 1965 pp. 43-44. 6- R.h. lauer: op. cit p 300. 7- W.W. Rostow: the stages of economic grwwth: n.y. cambridge universi ty press 1960. - ارجع لتفصيل هذه المراحل لكتاب المؤلف بعنوان: التنمية والتحديث الحضاري - الجزء الأول: الأبعاد الاجتماعية والنفسية للتنمية الاقتصادية - الجبلاوي - القاهرة 1975ص 69-75. 8- eingard bendix: nation building and citizenship: garden city - anchor books 1964 p. 6. lauer - op. cit.p. 302. 9 - نبيل السمالوطي - التنمية والتحديث الحضاري - ج1 ص97 -108. 10- see: d. apter: the politics of modernisation op. cit.pp 9-10 in lauer: op cit p. 303. 11- dean tipps: modernisation theory and the comparative study of societies: a critical perspective: coparative studies in society and history. 15 (1975) pp. 199-226 see lauer, op. cit. p. 304.

12- lauer: op. cit. p. 305. 13- e.suther land; op. cit. 14- c.r. mills; op.cit 15- Lauer: op. cit. p. 305 16- see; peter berger. bngette berger and hansfried kellner: the homeless 16- mind: modernization and consciousness, n.y. vinlage books 1973-lauer p. 307 lauer-op. cit. p.301-308. 17- lauer - op. cit. p. 301-308. 18- lbid. 19- lbid.p.308. 20- lbid. 21- ارجع إلى مقال للمؤلف الإيديولوجيا وأزمة علم اجتماع التنمية الكتاب السنوي لعلم الاجتماع، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود -إسلامية الرياض سنة 1408هـ- ارجع إلى كتابة بعنوان- علم اجتماع التنمية دراسة في اجتماعيات العالم الثالث - النهضة - بيروت 1981 "الطبعة الثالثة". 22- lauer. op. cit. p. 311. 23- karl duetsch: social mobilization and political development amercan political science review v. lv- (sep. 1964) pp. 463-515. ارجع إلى جهينة سلطان سيف العيسى: التحديث في المجتمع القطري المعاصر: شركة كاظمة للنشر والتوزيع والترجمة 1979، ص 72-73. 24- جهينة العيسى: مصدر سابق ص 75-76. 25- lauer. po. cit. p. 311. 26- ibid. p. 311. 27- ibid. 28- see: hans singer: THE DISTRIBUTION OF GAINS between borrowing and investing countries in economics development and social change: the modernization of vellage communities. (ed) george dalton (garden city natural history press, 1971 pp. 336-350 in lauer pp. 313 and 341. 29- ibid. 30- ibid. 31- ibid. 32- نبيل السمالوطي: علم اجتماع التنمية: دراسة في اجتماعيات العالم الثالث دار النهضة - بيروت 1981- الفصل الثاني. 33- نبيل السمالوطي: التنمية والتحديث الحضري - الجزء الأول. الأبعاد الاجتماعية

والنفسية للتنمية الاقتصادية - الجبلاوي 1975. 34- نبيل السمالوطي: الايديولوجيا وأزمة علم اجتماع التنمية, الكتاب السنوي لعلم الاجتماع, كلية العلوم الاجتماعية, الرياض 1408هـ. 35- جمال الدين محمود: ميثاق إسلامي لحقوق الإنسان, مقال بجريدة الأهرام القاهرية, بتاريخ 30/ 1/ 1987 36- المصدر السابق. 37- محمد أبو زهرة: محاضرات في المجتمع الإسلامي, معهد الدراسات الإسلامية, بدون تاريخ صـ42-65، أحمد العسال، فتحي أحمد عبد الكريم: النظام الاقتصادي في الإسلام: مبادئه وأهدافه, مكتبة وهبة, 1977. 38- ponsioen: nationnal development: a sociological contrbution: moriton the hague 1968.pp.15-22. 39- نبيل السمالوطي، المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع، دار الشروق جدة، الطبعة الثانية 146هـ. 40- أحمد محمد جمال: محاضرات في الثقافة الإسلامية - مطبوعات دار الشعب 1975 ص249. 41- المصدر السابق ص249-250. 42- محمد أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع - دار الفكر العربي 1965 ص38-40. 43- المصدر السابق ص36 - الهامش. 44- المصدر السابق - وارجع إلى العسال وعبد الكريم - مصدر سابق. 45- محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة - دار الشروق - بيروت والقاهرة - جدة 1974 ص275. 46- عدنان خالد التركماني: العمال بين الإسلام والنظم الوضعية: مجلة كلية الشريعة واللغة العربية - أبها - العدد الأول 1398/ 1399 هـ، ص59-60. 47- محمد أبو زهرة - مصدر سابق ص142-145. 48- robert lauer: op. cit p.93. 49- evetett hagen: on the theory of social change: home wood: dorsey press, 1962. p.35. 50- ارجع إلى دراسة عائشة عبد الرحمن بعنوان: الشخصية الإسلامية: دراسة قرآنية - دار العلم للملايين 1986. 51- زكي محمد اسماعيل: الإيدز والثقافة، والمخدرات بين سيطرة العادة وضغط الثقافة:

بحثان قدما ونوقشا في المؤتمر الطبي الإسلامي الدولي الذي عقد بالقاهرة في الفترة من 2-5 فبراير/ شباط سنة 1978. 52- نبيل السمالوطي: التنظيم المدرسي والتحديث التربوي, دار الشروق - جدة 1986 صـ46-51. 53- محمد شوقي الفنجري: مديونية العالم النامي المستعصية وحلها الإسلامي، مقال بجريدة الأهرام القاهرية, بتاريخ 31/ 1/ 1987, صـ7. 54- إلياس بايونس، فريد أحمد: مقدمة في علم الاجتماع الإسلامي, ترجمة أمين الرباط: شركة مكتبات عكاظ, وجامعة الملك عبد العزيز, 1403 هـ, صـ57. 55- المصدر السابق صـ67. 56- المصدر السابق صـ68-69. 57- المصدر السابق صـ71.

§1/1