بلوغ الغاية من تهذيب بداية الهداية
وائل حافظ خلف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة فضيلة الشيخ جمال الدين مغازي حفظه الله
مقدمة فضيلة الشيخ جمال الدين مغازي حفظه الله إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ونحمد الله الذي منَّ على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فهدى به من الضلالة، وبصَّر به من العماية، وفتح به قلوبا غلفا، وأعينا عميا، وآذانا صما، وشرح به الصدور، وأنار به القلوب، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور، مَن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرًا. أما بعد: فهذا الكتاب الذي نشرف بأن نقدم له بذل فيه ولدنا الحبيب وائل (حفظه الله) جهدًا مشكورًا، عسى الله أن يتقبل منه، وإني لأنصح إخواني وأبنائي خاصة طلبة العلم أن يهتموا به تعلمًا وتعليمًا، وقد جربت تدريسه بعد صلاة الفجر، وكان أثره طيبًا ونافعًا بفضل الله (سبحانه وتعالى). وغاية القول أن هذا الكتاب يفتح لك الأبواب إلى الإخلاص بتزكية النفس، وقد قال الله (عز وجل): {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10]. وهذا الباب صار مهجورًا عند أكثر الناس إلا من رحم ربي، فتركوا الاهتمام بأعمال القلوب، وهي هي من حيث أهميتها؛ إذ عليها مدار القبول ابتداء ... فيا أيها الأحباب! اخلصوا تخلصوا. وهذا كتاب يرسم لك دراسة جدوى لحياتك، من الميلاد إلى الممات، ومن اليقظة إلى المنام، ومن المنام إلى اليقظة.
من الفجر إلى الغروب، ومن الغروب إلى الفجر ,,, وهكذا إلى أن يقودك إلى الجنان برحمة الله. أيها الحبيب! كم تساوي الدنيا عند الله؟ الكتاب يجيب عليك، ويشرح لك لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما شرب كافر منها شربة ماء. فكم يساوي نصيبك من جناح البعوضة لو قسمت على هذه الأعداد الهائلة من البشر في عصرنا هذا فقط، فما بالك بباقي العصور؟! فاستجب لربك، وطهر قلبك، واقصد وجه الله دائما، ففي ذلك النجاة والهداية، وهاك بين يديك بداية الهداية. أسأل الله أن ينفع به كاتبه، ومن أعان على نشره، ومن قرأه، وجميع المسلمين ... وكتب المحب لكم جمال الدين مغازي
مقدمة صاحب التهذيب
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة صاحب التهذيب نسأل الله حسن الخاتمة رب يسر وأعن يا كريم الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، العظيم الجبار، أحمده (سبحانه) وحلاوة محامده تزداد مع التكرار، وأشكره تبارك وتعالى وفضله على من شكره مدرار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار {يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار} (الرعد: 8). وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمداً رسولُ الله، سيد الأبرار، وإمام المتقين الأخيار. اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه كلما سكن ساكن وتحرك متحرك في ليل أو نهار. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ... فإن كتاب "بداية الهداية" للإمام أبي حامد الغَزَّالي (رحمه الله) (¬1) من الكتب التي تشتمل على مهمات لا ينبغي لسالك طريق الهداية أن يغفل عن دراستها والعمل بما فيها، وقد قدمه الكثيرون، وانطلقت ألسنتهم بالثناء عليه، وبعيب من هم في غفلة عنه وبغيره يبتدئون. ¬
ولا لوم عليهم في ذلك؛ فإن الطريق الموصلة إلى الله (تبارك وتعالى) ليست مما يقطع بالأقدام، إنما تقطع بالقلوب، فلا بد من أن يكون القلب سليماً ذا قوة وبصيرة حتى يصل، وإلا حالت دون ذلك الشبهات والشهوات التي تعرض له. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (¬1). ولا يمتري أحد في أن الإمام الغزالي (رحمه الله) له يد طولى في الكلام على أمراض القلوب وعللها، وإجادة وصفها وتشخيصها، ووصف الدواء للخلاص منها واستئصالها، وجُل الناس بعده عيال عليه في هذا الباب. ولكن اعلم - وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته -: أن كتب الإمام الغزالي (رحمه الله) تشتمل على الصحيح والسقيم، وتجد فيهما الغث والسمين، وترى فيها الدر الثمين ممزوجًا في الرصف بالخرز المهين. وهذا ليس من كيسي، إنما هذا كلام أهل العلم والتحقيق الذين جاؤوا من بعده (رحمه الله)، قالوه نصيحة للمسلمين، وقد قال سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة)) (¬2). ¬
- قال العلامة أبو الفرج ابن الجوزي (رحمه الله) {المتوفى سنة 597 هـ} في مقدمة كتابه الموسوم بـ"منهاج القاصدين ومفيد الصادقين" وهو اختصار لكتاب "الإحياء" للغزالي: ((اعلم أن في كتاب " الإحياء " {وغيره} (¬1) آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة، والموقوفة وقد جعلها مرفوعة (¬2)، وإنما ¬
نقلها كما اقتراها، لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مصنوع. وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام {وأن تذكر الله تعالى بأذكار} ليس فيها كلمة قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه وندب إلى العمل به ما لا حاصل له من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد، إلى غير ذلك مما قد كشفت عن عواره في كتابي المسمى بـ "تلبيس إبليس" (¬1) انتهى. - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - {المتوفى سنة 728} في " مجموع الفتاوى ": ((وأما ما في " الإحياء " من الكلام في المهلكات، مثل الكلام على الكبر، والعجب، والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في "الرعاية"، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه. و " الإحياء " فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين. وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه. وقالوا: ((مرضه " الشفاء ")) يعني: " شفاء " ابن سينا في الفلسفة. وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه)) ا. هـ. ¬
ولهذا صح عزمي أن أقدم كتاب "بداية الهداية" للإمام الغزالي (رحمه الله) للمكتبة الإسلامية بعد تهذيبه مما علق به من أحاديث لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أكثرها!، ومن أقوال وأفعال استحسنها الإمام وارتآها وقال أهل العلم: لا دليل عليها. وأضفت إلى ذلك مما صح ما يغني عنها، بل ويربو عليها. وقد بذلت جهدًا أحتسبه في تخريج الأحاديث التي أوردتها، وهي - إن شاء الله - ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برمتها، وفيها غنية عن غيرها، لمن أراد أن يزكي نفسه ويرقق قلبه بها، لا بالأحاديث المكذوبة الموضوعة، ولا الآثار والقصص المفتعلة المختلقة المصنوعة؛ فإن الله لم يجعل شفاء أمة محمد فيما حرم عليها. ولم ألتزم ذكر ألفاظ الإمام بعينها، بل قد أذكرها بالمعنى، وزدت في متن الكتاب أشعارًا وآثارًا أشبه بمستطاب الجَنَى، فضلاً عن حواشي أرى أن ليس عنها غنى (¬1). وبعد هذا أذكرك أخي بقول أبي القاسم الحريري (رحمه الله) في "ملحة الإعراب": إن تجد عيباً فسد الخللا ... فجل من لا يسهو وعلا ((فإني من بعد ذلك موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المَضَاء في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، النظرَ بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء؛ فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوة مرتجاة)) (¬2). وأنا سائل أخًا انتفع بشيء من هذا الكتاب أن لا يغفل عن دعوة بظهر الغيب للإمام الغزاليّ، وكذا لي ولوالديّ، ولأصحاب الحقوق عليّ، وليبشر؛ فقد قال ¬
النبيّ (صلى الله عليه وسلم): ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل)) (¬1). وإني لأبتهل إلى الله - تبارك وتعالى - أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يدخر لي ثوابه {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 88، 89)، وأن يوفقني ووالدي ومشايخي وسائر أقاربي وأحبابي ومن أحسن إلينا بحسن النيات، وأن ييسر لنا الطاعات، وأن يهدينا لها دائمًا في ازدياد حتى الممات، وأن يجود علينا برضاه ومحبته ودوام طاعته والجمع بيننا في دار كرامته وغير ذلك من أنواع المسرات، وأن ينفعنا أجمعين ومن يقرأ في هذا الكتاب به، وأن يجزل لنا المثوبات، وأن لا ينزع منا ما وهبه لنا ومَنَّ به علينا من الخيرات، وأن لا يجعل شيئًا من ذلك فتنة لنا وأن يعيذنا من كل شيء من المخالفات؛ إنه مجيب الدعوات جزيل العطيات (¬2). والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وكتب أبو عبد الرحمن البحيري وائل بن حافظ بن خلف غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه مساء الأحد الرابع عشر من شهر رمضان المبارك لسنة 1429هـ الموافق: الرابع عشر من شهر سبتمبر لسنة 2008 مـ كفر الدوار - البحيرة- جمهورية مصر العربية ¬
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد اعلم أيها الحريص المقبل على اقتباس العلم المظهر من نفسه صدق الرغبة وفرط التعطش إليه: أنك إن كنت تقصد بالعلم المنافسة والمباهاة، والتقدم على الأقران، واستمالة وجوه الناس إليك، وجمع حطام الدنيا؛ فأنت ساع في هدم دينك وإهلاك نفسك وبيع دنياك بآخرتك. فصفقتك خاسرة، وتجارتك بائرة، ومعلمك معين لك على عصيانك، وشريك لك في خسرانك، وهو كبائع سيف لقاطع طريق؛ فالدال على الشر كفاعله. وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين الله تعالى من طلب العلم: الهداية دون مجرد الرواية؛ فأبشر فإن الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت، وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت. ولكن ينبغي لك أن تعلم قبل كل شيء أن الهداية التي هي ثمرة العلم لها بداية، ونهاية، وظاهر، وباطن. ولا وصول إلى نهايتها إلا بعد إحكام بدايتها، ولا عثور على باطنها إلا بعد الوقوف على ظاهرها. وها أنا مشير عليك ببداية الهداية لتجرب بها نفسك، وتمتحن بها قلبك، فإن صادفت قلبك إليها مائلاً، ونفسك بها مطاوعة ولها قابلة؛ فدونك التطلع إلى النهايات، والتغلغل في بحار العلوم. وإن صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوفاً، وبالعمل بمقتضاها مماطلاً؛ فاعلم أن نفسك المائلة إلى طلب العلم هي النفس الأمارة بالسوء، وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره، فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الهلاك، وقصده أن يروج عليك الشر في معرض الخير حتى يلحقك {بِالأخسَرينَ أَعمالاً الَّذين ضَلَ سَعيُهُم في الحَياةِ الدُنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعا} (الكهف: 103، 104).
وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضل العلم ودرجة العلماء وما ورد فيه من الأخبار والآثار، ويلهيك عن مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)) (¬1). وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) (¬2). فإياك يا مسكين أن تذعن لتزويره فيدليك بحبل غروره. فويل للجاهل حيث لم يتعلم مرة واحدة، وويل للعالم حيث لم يعمل بما علم ألف مرة. واعلم أن الناس في طلب العلم على ثلاثة أحوال: 1 - رجل طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد، ولم يقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة؛ فهذا من الفائزين. 2 - ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة، وينال به العز والجاه والمال وهو عالم بذلك مستشعر في قلبه ركاكة حاله وخسة مقصده؛ فهذا من المخاطرين، فإن عاجله أجله قبل التوبة خيف عليه من سوء الخاتمة وبقي أمره في خطر المشيئة، وإن وفق للتوبة قبل حلول الأجل وأضاف إلى العلم العمل، وتدارك ما فرط منه من الخلل؛ التحق بالفائزين، فإن ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) (¬3). ¬
3 - ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان، فاتخذ علمه ذريعة إلى التكاثر بالمال والتفاخر بالجاه والتعزز بكثرة الأتباع، يدخل بعلمه كل مدخل رجاء أن يقضي من الدنيا وطره، وهو مع ذلك يضمر في نفسه أنه عند الله بمكانة لاتسامه بسمة العلماء وترسمه برسومهم في الزي والمنطق مع تكالبه على الدنيا ظاهراً وباطناً؛ فهذا من الهالكين ومن الحمقى المغرورين؛ إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين، وهو غافل عن قوله تعالى: {يَأيُها الَّذين آمنوا لِمَ تَقولون ما لا تَفعَلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2، 3). وهو ممن قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال، الأئمةَ المضلين)) (¬1). وهذا لأن الدجال غايته الإضلال، ومثل هذا العالم ـ وإن صرف الناس عن الدنيا بلسانه ومقاله ـ فهو دافع لهم إليها بأعماله وأحواله، ولسان الحال أفصح من لسان المقال، وطباع الناس إلى المساعدة في الأعمال أميل منها إلى المتابعة في الأقوال، فما أفسده هذا المغرور بأعماله أكثر مما أصلحه بأقواله؛ إذ لا يستجرئ الجاهل على الرغبة في الدنيا إلا باستجراء العلماء، فقد صار علمه سبباً لجرأة عباد الله على معاصيه، ونفسه الجاهلة - مع ذلك - تمنيه وترجيه، وتدعوه إلى أن يمن على الله بعلمه، وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد الله. فكن أيها الطالب من الفريق الأول واحذر أن تكون من الفريق الثاني، فكم من مسوف عاجله الأجل قبل التوبة فخسر، وإياك ثم إياك أن تكون من الفريق الثالث فتهلك هلاكاً لا يُرجى معه فلاحك. ¬
فإن قلت: فما بداية الهداية لأجرب بها نفسي؟ فاعلم أن بدايتها ظاهرة التقوى (¬1)، ونهايتها باطنة التقوى، فلا عاقبة إلا بالتقوى ولا هداية إلا للمتقين. ¬
والتقوى: عبارة عن امتثال أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، فهما قسمان. وهأنا أشير عليك بجمل مختصرة من ظاهر علم التقوى في القسمين جميعاً، وألحق قسما ثالثًا؛ ليصير هذا الكتاب جامعًا مغنيًا، والله المستعان.
القسم الأول في الطاعات
القسم الأول في الطاعات
توطئة
توطئة اعلم أن أوامر الله تعالى فرائض، ونوافل. فالفرض: رأس المال، وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة. والنفل: هو الربح وبه الفوز بالدرجات، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) (¬1)، ولن تصل أيها الطالب إلى القيام بأوامر الله تعالى إلا بمراقبة قلبك وجوارحك في لحظاتك وأنفاسك، من حين تصبح إلى حين تمسى. فاعلم أن الله تعالى مطلع على ضميرك، ومشرف على ظاهرك وباطنك، ومحيط بجميع لحظاتك وخطراتك وخطواتك وسائر سكناتك وحركاتك، وأنك في مخالطتك وخلواتك متردد بين يديه فلا يسكن في الملك والملكوت ساكن، ولا يتحرك متحرك إلا وجبار السماوات والأرض مطلع عليه {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (غافر: 19) و {يعلم السر وأخفى} (طه: 7). فتأدب أيها المسكين ظاهراً وباطناً بين يدي الله تعالى تأدب العبد الذليل المذنب في حضرة الملك الجبار القهار، واجتهد ألا يراك مولاك حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، ولن تقدر على ذلك إلا بأن توزع أوقاتك وترتب أورادك من صباحك إلى مسائك. فاصغ إلى ما يلقى إليك من أوامر الله تعالى عليك من حين تستيقظ من منامك إلى وقت رجوعك إلى مضجعك. ¬
فصل في آداب الاستيقاظ من النوم
فصل في آداب الاستيقاظ من النوم فإذا استيقظت من النوم فاجتهد أن تستيقظ قبل طلوع الفجر، وليكن أول ما يجري على قلبك ولسانك ذكر الله تعالى، فقل عند ذلك: - ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)) (¬1). - ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي، وأذن لي بذكره)) (¬2). - ثم اقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ... } إلى آخر السورة (¬3). ¬
وعليك بالسواك؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام إلا والسواك عنده، فإذا استيقظ بدأ به (¬1). فإذا لبست ثيابك فانو به امتثال أمر الله تعالى في ستر عورتك، واحذر أن يكون قصدك من لباسك مراءاة الخلق فتخسر، وقل عند لبس الثوب: ((الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة)) (¬2)؛ ففي الخبر أن من قال ذلك غُفر له ما تقدم من ذنبه. وإن كان الثوب جديداً فقل عند لبسه: ((اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)) (¬3). ¬
باب آداب دخول الخلاء
باب آداب دخول الخلاء فإذا قصدت بيت الماء لقضاء الحاجة فقدم في الدخول رجلك اليسرى وفي الخروج رجلك اليمنى، ولا تستصحب شيئاً عليه اسم الله تعالى، ولا تدخل حافي القدمين. وقل عند الدخول: ((بسم الله)) (¬1) و ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) (¬2). وعند الخروج: ((غفرانك)) (¬3). وإن كنت في الصحراء فابعد عن عيون الناظرين واستتر بشيء إن وجدته، ولا تكشف عورتك قبل الانتهاء إلى موضع الجلوس، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تجلس في متحدث الناس، ولا تبل في الماء الراكد، وتحت الشجرة ¬
المثمرة والظل الذي يتخذه الناس مقيلاً ومنزلاً ينزلونه، ولا في الجُحْر، وبين قبور المسلمين، وقارعة الطريق؛ ففي الخبر: ((من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)) (¬1). ولا تبل أيضاً في مغتسلك، واحذر الأرض الصلبة ومهب الريح احترازاً من الرشاش. وللإنسان أن يبول قائمًا وقاعدًا، وإن كان البول من قعود أولى؛ لأنه كان غالب فعل النبي (¬2). واعلم أنه يجوز الاستنجاء بالحجر الطاهر، والماء، وما في معناهما كمنديل ونحوه، والماء أفضل. وإذا استجمرت بالحجر فعليك أن تستعمل ثلاثة أحجار طاهرة منشفة للعين بها محل للنجو، بحيث لا تنتقل النجاسة عن موضعها. فإن لم يحصل الإنقاء بثلاثة فتمم خمسة، أو سبعة إلى أن ينقى بالإيتار. وكذلك تمسح القضيب في ثلاثة مواضع من حجر، ولا تمس ذكرك بيمينك (¬3)، ولا تستنج إلا باليد اليسرى. ولا تستجمر برَوْث، ولا عظم، ولا طعام، ولا حُمَم (¬4). ¬
باب آداب الوضوء
باب آداب الوضوء فإذا فرغت من الاستنجاء فلا تترك السواك، سواء كنت صائمًا أم لا، فإنه ((مطهرة للفم ومرضاة للرب)) (¬1). وهو من الفطرة (¬2). وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء)) (¬3). وفي حديث آخر: ((مع كل صلاة)) (¬4). وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُمِرت بالسواك حتى رأيت أنه سينزل علي به قرآن أو وحي)) (¬5). وقال أيضًا: ((لقد أُمِرت بالسواك حتى خشيت أن أدرد)) (¬6) والدَّرَد: سقوط الأسنان. ¬
فإذا أردت الوضوء فقل: بسم الله؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) (¬1). ثم اغسل يديك ثلاثاً قبل أن تدخلهما الإناء. ثم انو رفع الحدث واستباحة الصلاة، ولا ينبغي أن تعزب نيتك قبل غسل الوجه فلا يصح وضؤوك، ولا تتلفظ بالنية فإن محلها القلب. ثم تمضمض واستنشق من كف واحدة، افعل ذلك ثلاث مرات، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا فترفق ثم خذ غرفة لوجهك فاغسل بها من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول، ومن وتد الأذن إلى وتد الأذن في العرض، ويجب إيصال الماء إلى منابت الشعر من اللحية الخفيفة دون الكثيفة، ولا تترك تخليل اللحية الكثيفة. ثم اغسل يدك اليمنى ثم اليسرى مع المرفقين. ثم استوعب رأسك بالمسح بأن تبل يديك، وتلصق رؤوس أصابع يدك اليمنى باليسرى وتضعهما على مقدمة الرأس وتمررهما إلى القفا ثم ترددهما إلى المقدمة، فهذه مرة، واقتصر على ذلك أفضل، وإن مسحت ثلاث مرات فذلك ثابت. وكما يجوز المسح على الرأس، يجوز المسح على العمامة وحدها، وكذا على الناصية والعمامة معا. ثم امسح أذنيك ظاهرهما وباطنهما بما تبقى في يدك من بلل، وإلا فبماء جديد، وأدخل مسبحتك في صماخي أذنيك، وأمسح أذنيك بباطن إبهاميك. ¬
ثم اغسل رجلك اليمنى ثم اليسرى مع الكعبين، ولا تهمل تخليل أصابع اليدين والرجلين، واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((ويل للأعقاب من النار)) (¬1). وراعِ التكرار ثلاثًا في جميع أفعالك إلا في مسح الرأس والأذن فالأفضل الاقتصار على مرة. وإن كنت قد لبست خفاً طاهرًا ساترًا لمحل الفرض أو ما في معناه كجورب ونحوه على طهارة فامسح على ظاهره لا باطنه يوماً وليلة إذا كنت مقيماً، وثلاثة أيام بلياليهن إذا كنت مسافراً. واعلم أنه لم يثبت دعاء مخصوص عند غسل الأعضاء، ولا بأس بالكلام أثناء الوضوء. وقل عند الفراغ من الوضوء: ((أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)) (¬2)، ((سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)) (¬3)؛ فقد جاء في الخبر أن من قال الدعاء الأول فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، ¬
وأن الدعاء الثاني يكتب في رق ويختم عليه بخاتم ويوضع تحت العرش ولا يكسر إلا يوم القيامة. واجتنب في وضوئك أربعًا: لا تزد في الغسل على ثلاث مرات، ولا تكثر صب الماء من غير حاجة بمجرد الوسوسة، ولا تتوضأ في المكان النجس، ولا تترك سنة من سنن الوضوء فتحرم أجرها، وسيأتي بيانها. وحافظ على الوضوء وإسباغه وتجديده؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًا من الذنوب)) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: ((من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)) (¬2). ¬
باب آداب الغسل
باب آداب الغسل فإذا أصابتك جنابة من احتلام أو وقاع، فخذ الإناء إلى المغتسل، واغسل يديك أولاً ثلاثًا، وأزل ما على بدنك من قذر، وتوضأ كما سبق في وضوئك للصلاة، فإذا فرغت من الوضوء فصب الماء على رأسك ثلاثا وأنت ناو رفع الحدث من الجنابة، ثم على شقك الأيمن ثلاثًا، ثم على الأيسر ثلاثًا، وادلك ما أقبل من بدنك وما أدبر ثلاثًا، وخلل شعر رأسك ولحيتك، وأوصل الماء إلى معاطف البدن ومنابت الشعر ما خف منه وما كثف. والفريضة من جملة ذلك كله: النية، والتسمية، وإزالة النجاسة، واستيعاب البدن بالغسل. وفرض الوضوء: التسمية، وغسل الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق، واليدين مع المرفقين، ومسح الرأس كله، وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة مع النية والترتيب والموالاة. وما عداها سنن مؤكدة، فضلها كثير وثوابها جزيل، والمتهاون بها خاسر، بل هو بأصل فرائضه مخاطر، فإن النوافل جوابر للفرائض. - - -
باب آداب التيمم
باب آداب التيمم فإن عجزت عن استعمال الماء ـ لفقده بعد الطلب، أو لعذر من مرض، أو لمانع من الوصول إليه من سبع أو حبس، أو كان الماء الحاضر تحتاج إليه لعطشك أو لعطش رفيقك أو ملكاً لغيرك ولم يبع إلا بأكثر من ثمن المثل، أو كان بك جراحة أو مرض تخاف منه على نفسك ـ فاقصد صعيدًا طيبًا (¬1) فاضرب عليه بكفيك ضربة واحدة، وانوِ، ثم امسح وجهك كله مرة، ولا تتكلف إيصال الغبار إلى منابت الشعر خف أو كثف، ثم امسح يديك إلى الرسغ. ولا يخفاك أن التيمم يقوم مقام الماء؛ فيستباح به ما يستباح بالماء ولا فرق، ويصلي المتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم ينتقض تيممه، والتيمم ينتقض بما ينتقض به الوضوء، ويزاد: وجود الماء. والذي ينقض الوضوء: ما خرج من السبيلين: القبل والدبر، وزوال العقل بأي شيء ذهب - من جنون أو إغماء أو سكر من أي شيء سكر، والنوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك وذلك إذا كثر، وأكل لحم الجُزُر -الإبل - بهذا جاء ال خبر. ¬
باب آداب الخروج إلى المسجد
باب آداب الخروج إلى المسجد فإذا فرغت من طهارتك فصل في بيتك ركعتي سنة الفجر (¬1) - وهما ((خير من الدنيا وما فيها)) (¬2) - إن كان الفجر قد طلع، كذلك كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يتوجه إلى المسجد. وقد قال: ((صلوا أيها الناس في بيوتكم [أي: النوافل]؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضَا: ((فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع)) (¬4). ولا تدع الصلاة في الجماعة لا سيما الصبح فـ ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ [أي: الفرد] بسبع وعشرين درجة)) (¬5)، فإن كنت تتساهل في مثل هذا الربح، فأي فائدة لك في طلب العلم؟، وإنما ثمرة العلم العمل به. فإذا سعيت إلى المسجد فامش على هينة وتؤدة وسكينة ووقار؛ فقد قال سيد الأبرار - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) (¬6). ¬
وقل عند خروجك من البيت: ((باسم اللَّه، تَوَكَّلْتُ على اللَّه، ولا حول ولا قوة إلا بالله (((¬1). ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل، أو أَزِل أو أُزَل، أو أَظْلِمَ أو أُظْلََمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عليَّ)) (¬2). ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُوراً، وفي لِسانِي نُوراً، وَاجْعَلْ في سَمْعِي نُوراً، وَاجْعَلْ في بَصَري نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُوراً، وَمِنْ أمامي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقي نُوراً وَمِنْ تَحْتِي نُوراً، اللَّهُمَّ أعْطِني نُوراً)) (¬3). ¬
باب آداب دخول المسجد
باب آداب دخول المسجد فإذا أردت الدخول إلى المسجد فقدم رجلك اليمنى وقل: ((بسم الله. أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم))، ((اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد، اللهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)) (¬1). ومهما رأيت في المسجد من يبيع أو يبتاع فقل: ((لا أربح الله تجارتك)) (¬2). وإذا رأيت فيه من ينشد ضالة فقل: ((لا ردّها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا)) (¬3)، كذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تصلي ركعتي التحية، فإن لم تكن صليت في بيتك ركعتي الفجر فيجزئك أداؤهما عن التحية. فإذا فرغت من الركعتين فانو الاعتكاف، ولا تشتغل إلى وقت الفرض إلا بفكر، أوتسبيح، أو قراءة قرآن، فإذا سمعت الأذان في أثناء ذلك فاقطع ما أنت فيه، واشتغل بجواب المؤذن. فإذا قال المؤذن: " الله أكبر " فقل مثل ذلك، وكذلك في كل كلمة إلا في الحيعلتين فقل فيهما: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬4). ¬
فإذا قال المؤذن: لا إله إلا الله في آخر الأذان، فقل: ((وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً)) فمن قال ذلك غفر الله له ذنوبه (¬1). ثم صلِّ وسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قل: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته)) فمن قال ذلك حلت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة (¬2). فإذا سمعت الأذان وأنت في الصلاة فتمم الصلاة، ثم تدارك الجواب بعد السلام على وجهه. ولا تغفل عن الدعاء بين الأذان والإقامة؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، فادعوا)) (¬3). فإذا أحرم الإمام بالفرض فلا تشتغل إلا بالاقتداء به، وصل الفرض كما سيتلى عليك في صفة الصلاة وآدابها. فإذا فرغت فقل: ((أستغفر الله. أستغفر الله. أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) (¬4). ¬
((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) (¬1). ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) (¬2). ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم! لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) (¬3). ثم سبح الله [سبحان الله] ثلاثًا وثلاثين، واحمد الله [الحمد لله] ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله [الله أكبر] ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، ثم قل تمام المائة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) فمن قال ذلك غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (¬4). واقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِن شَرِّ مَا خَلَقَ {2} وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ¬
{4} وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {1} مَلِكِ النَّاسِ {2} إِلَهِ النَّاسِ {3} مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (¬1). ((اللهم اغفر لي خطاياي وذنوبي كلها، اللهم أنعشني، واجبرني، واهدني لصالح الأخلاق؛ فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت)) (¬2). وهذه الأذكار تقال بعد السلام من جميع الصلوات، وزد في صلاتي الفجر والمغرب: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير)) عشر مرات. و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} كل سورة ثلاث مرات (¬3). وزد أيضاً في صلاة الصبح: ((اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً)) (¬4). ولتكن أوقاتُك بعد الصلاة إلى طلوع الشمس موزعةً على أربع وظائف: 1 - وظيفة في الدعوات. 2 - ووظيفة في الأذكار والتسبيحات. 3 - ووظيفة في قراءة القرآن. ¬
4 - ووظيفة في التفكر، فتفكر في ذنوبك وخطاياك، وتقصيرك في عبادة مولاك، وتعرضك لعقابه الأليم، وسخطه العظيم. وترتب أوقاتك بتدبيرك أورادك في جميع يومك؛ لتتدارك به ما فرط من تقصيرك، وتحترز من التعرض لسخط الله تعال الأليم في يومك، وتنوي الخير لجميع المسلمين، وتعزم ألا تشغل في جميع نهارك إلا بطاعة الله تعالى، وتقصد في قلبك الطاعات التي تقدر عليها، وتختار أفضلها، وتتأمل تهيئة أسبابها لتشتغل بها، ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل وحلول الموت القاطع للأمل، وخروج الأمر عن الاختيار وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار. واعلم أن أفضل الأوقات للذكر في النهار الذكر بعد صلاة الصبح، لاسيما إذا كان في المسجد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر تربع في مجلسه يذكر الله حتى تطلع الشمس (¬1). ورووا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من صلى الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين؛ انقلب بأجر حجة وعمرة)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقعد أصلي مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)) (¬3). ¬
فلا تنس نصيبك من الذكر، واعلم أن ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت)) (¬1). ¬
باب آداب ما بعد طلوع الشمس إلى الزوال
باب آداب ما بعد طلوع الشمس إلى الزوال فإذا طلعت الشمس وارتفعت قدر رمح فصل ركعتين وذلك عند زوال وقت الكراهة، فإذا أضحى النهار ومضى منه قريب من ربعه، صل صلاة الضحى ركعتين أو أربعًا أو ستًا أو ثمانية مثنى مثنى. والصلاة خير كلها، فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل، فليس بين طلوع الشمس والزوال راتبة من الصلاة إلا هذه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يصبح على كل سُلامى [أي: مفصل] من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزىء من ذلك ركعتين يركعهما من الضحى)) (¬1). وفي الحديث القدسي: ((يا ابن آدم اكفني [أي: صلِّ لي] أول النهار بأربع ركعات، أَكْفِكَ بهن آخرَ يومك)) (¬2). وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثًا فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة فقال رجل: يا رسول الله! ما رأينا بعثًا قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأسرع كرة منهم وأعظم غنيمة؟ رجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة، ثم عقب بصلاة الضحوة؛ فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة)) (¬3). ¬
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه؛ فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)) (¬1). فما فضل من أوقاتك فلك فيه أربع حالات: الحال الأولى وهي الأفضل: أن تصرفه في طلب العلم النافع في الدين، دون الفضول الذي أكب الناس عليه وسموه علمًا. والعلم النافع هو: ما يزيد في خوفك من الله تعالى، ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك، ويزيد في معرفتك بعبادة ربك، ويقلل من رغبتك في الدنيا، ويزيد في رغبتك في الآخرة، ويفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها، ويطلعك على مكايد الشيطان وغروره، وكيفية تلبيسه على علماء السوء حتى عرضهم لمقت الله تعالى وسخطه، حيث أكلوا الدنيا بالدين، واتخذوا العلم ذريعة ووسيلة إلى أخذ أموال السلاطين، وأكل أموال الأوقاف واليتامى والمساكين، وصرفوا همتهم طول نهارهم إلى طلب الجاه والمنزلة في قلوب الخلق، واضطرهم ذلك إلى المراءاة والمماراة والمنافسة والمباهاة. فإن دعتك نفسك إلى ترك ما ذكرناه من الأوراد والأذكار استثقالاً لذلك؛ فاعلم أن الشيطان اللعين قد دس في قلبك الداء الدفين، وهو حب المال والجاه، فإياك أن تغتر به فتكون ضحكة له فيهلكك ثم يسخر منك. فإن جربت نفسك مدة في الأوراد والعبادات فكانت لا تستثقلها كسلًا عنها، لكن ظهرت رغبتك في تحصيل العلم النافع ولم ترد به إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة، فذلك أفضل من نوافل العبادات مهما صحت النية، ولكن الشأن في صحة النية، فإن لم تصح النية فهو معدن غرور الجهال، ومزلة أقدام الرجال. ¬
الحال الثانية: ألا تقدر على تحصيل العلم النافع في الدين، ولكن تشتغل بوظائف العبادات من الذكر والتسبيح والقراءة والصلاة، فذلك من درجات العابدين وسير الصالحين وتكون أيضًا بذلك من الفائزين. الحال الثالثة: أن تشتغل بما يصل منه خير إلى المسلمين، ويدخل به سرور على قلوب المؤمنين، أو تتيسر به الأعمال الصالحة للصالحين، والسعي في إطعام الفقراء والمساكين، والتردد مثلًا على المرضى بالعيادة، وعلى الجنائز بالتشييع، فكل ذلك أفضل من النوافل، فإن هذه عبادات وفيها رفق للمسلمين. الحال الرابعة: ألا تقوى على ذلك، فاشتغل بحاجاتك اكتسابًا على نفسك أو على عيالك، وقد سلم المسلمون منك وآمنوا من لسانك ويدك، وسلم لك دينك إذا لم ترتكب معصية، فتنال بذلك درجة أصحاب اليمين إن لم تكن من أهل الترقي إلى مقامات السابقين. فهذا أقل الدرجات في مقامات الدين وما بعد هذا فهو من مراتع الشياطين، وذلك بأن تشتغل ـ والعياذ بالله ـ بما يهدم دينك، أو تؤذي به عبدًا من عباد الله تعالى، فهذه رتبة الهالكين، فإياك أن تكون في هذه الطبقة. واعلم أن العبد في حق دينه على ثلاث درجات: إما سالم: وهو المقتصر على أداء الفرائض وترك المعاصي. أو رابح: وهو المتطوع بالقربات والنوافل. أو خاسر: وهو المقصر عن اللوازم. فإن لم تقدر أن تكون رابحًا فاجتهد أن تكون سالمًا، وإياك ثم إياك أن تكون خاسرًا. والعبد في حق سائر العباد له ثلاث درجات: الأولى: أن ينزل في حقهم منزلة الكرام البررة من الملائكة، وهو أن يسعى في أغراضهم رفقًا بهم وإدخالاً للسرور على قلوبهم. الثانية: أن ينزل في حقهم منزلة البهائم والجمادات، فلا ينالهم خيره، ولكن كف عنهم شره.
الثالثة: أن ينزل في حقهم منزلة العقارب والحيات والسباع الضاريات، لا يرجى خيره، ويتقى شره. فإن لم تقدر على أن تلتحق بأفق الملائكة، فاحذر أن تنزل عن درجة البهائم والجمادات إلى درجة العقارب والحيات والسباع الضاريات. فإن رضيت لنفسك النزول من أعلى عليين، فلا ترض لها بالهوى إلى أسفل سافلين فلعلك تنجو كفافاً، لا لك ولا عليك. فعليك في بياض نهارك ألا تشتغل إلا بما ينفعك في معادك أو معاشك الذي لا تستغني عن الاستعانة به على معادك. عليك بما يفيدك في المعاد ... وما تنجو به يوم التناد يسرك أن تكون رفيق قوم ... لهم زاد وأنت بغير زاد؟ فإن عجزت عن القيام بحق دينك مع مخالطة الناس، وكنت لا تسلم؛ فالعزلة أولى، فعليك بها ففيها النجاة والسلامة. فإن كانت الوساوس في العزلة تجاذبك إلى مالا يرضي الله تعالى، ولم تقدر على قمعها بوظائف العبادات؛ فعليك بالنوم فهو أحسن أحوالك وأحوالنا، إذ عجزنا عن الغنيمة ورضينا بالسلامة في الهزيمة، فما أخس حال من سلامة دينه في تعطيل حياته؛ إذ النوم أخو الموت، وهو تعطيل للحياة والتحاق بالجمادات. - - -
باب آداب الاستعداد لسائر الصلوات
باب آداب الاستعداد لسائر الصلوات ينبغي أن تستعد لصلاة الظهر قبل الزوال، فتقدم القيلولة إن كان بك قيام في الليل أو سهر في الخير، فإن فيها معونة على قيام الليل كما أن في السحور معونة على صيام النهار، والقيلولة من غير قيام بالليل كالسحور من غير صيام بالنهار. فإذا قِلت فاجتهد أن تستيقظ قبل الزوال، وتتوضأ وتحضر المسجد وتصلي تحية المسجد وتنتظر المؤذن فتجيبه، ثم تقوم فتصلي أربع ركعات عقب الزوال، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوِّلهن ويقول: ((إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)) (¬1). وهذه الأربع قبل الظهر سنة مؤكدة ففي الخبر: ((من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها؛ حَرَّمه الله على النار)) (¬2). ثم صلِّ الفرض مع الإمام، ثم صل بعد الفرض ركعتين إن شئت، والأفضل أن تصلي أربع ركعات للخبر المتقدم. ولا تشتغل إلى العصر إلا بتعلم علم، أو إعانة مسلم، أو قراءة قرآن، أو سعي في معاش لتستعين به على دينك. ثم صلِّ الفرض مع الإمام، ثم صل بعد الفرض ركعتين إن شئت، والأفضل أن تصلي أربع ركعات للخبر المتقدم. ولا تشتغل إلى العصر إلا بتعلم علم، أو إعانة مسلم، أو قراءة قرآن، أو سعي في معاش لتستعين به على دينك. ثم صل أربع ركعات قبل العصر فهي سنة مؤكدة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله امرًأ صلى قبل العصر أربعًا)) (¬3)، فاجتهد أن ينالك دعاؤه - صلى الله عليه وسلم -. ¬
ثم صل الفرض مع الإمام، ولا تشتغل بعد العصر إلا بمثل ما سبق قبله، ولا ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة، فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق، بل ينبغي أن تحاسب نفسك وترتب أورادك في ليلك ونهارك، وتعيّن لكل وقت شغلاً لا تتعداه، ولا تؤثر فيه سواه، فبذلك تظهر بركة الأوقات. فأما إذا تركت نفسك سدى مهملاً إهمال البهائم، لا تدري بماذا تشتغل في كل وقت، فينقضي أكثر أوقاتك ضائعًا، وأوقاتك عمرك، وعمرك رأس مالك وعليه تجارتك، وبه وصولك إلى نعيم دار الأبد في جوار الله تعالى، فكل نفس من أنفاسك جوهرة لا قيمة لها؛ إذ لا بدل له فإذا فات فلا عود له. فلا تكن كالحمقى المغرورين الذين يفرحون كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم، فأي خير في مال يزيد وعمر ينقص؟! ولا تفرح إلا بزيادة علم أو عمل صالح، فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك ومالك وولدك وأصدقاؤك. ثم إذا اصفرت الشمس فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب وتشتغل بالتسبيح والاستغفار، فإن فضل هذا الوقت كفضل ما قبل الطلوع قال الله تعالى: {وَسَبِح بِحَمدِ رَبِك قَبلَ طُلوع الشَمس وَقَبلَ غُروبِها} [طه: 130]. ولتغرب عليك الشمس وأنت في الاستغفار، فإذا سمعت الأذان فأجبه، وقل بعده ما ذكرناه لك قبل ذلك. ثم صل ركعتين؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب))، ثم قال في الثالثة: ((لمن شاء)) (¬1). ثم صل الفرض مع الإمام، وصل بعده ركعتين فهما راتبة المغرب. وإن أمكنك أن تنوي الاعتكاف إلى العشاء وتحيي ما بين العشاءين بالصلاة فافعل؛ فقد ورد في فضل ذلك ما لا يحصى، وهي ناشئة الليل لأنه أول نشأته، ¬
وقد قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {تَتَجافى جُنوبُهُم عَنِ المَضاجِع} [السجدة: 16]: ((نزلت في انتظار هذه الصلاة التي تدعى العَتَمَة)) (¬1)، وفي رواية: ((كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون)) (¬2). وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء (¬3). فإذا دخل وقت العشاء فصل ركعتين قبل الفرض؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة))، ثم قال في الثالثة: ((لمن شاء)) (¬4). ثم صل الفرض وصل الراتبة ركعتين بعده، ثم صل الوتر، وإن شئت أوترت بواحدة، أو بثلاث، أو بخمس، أو بسبع بتشهد واحد وتسليمتين، وإن شئت فأوتر بتسع تجلس في الثامنة للتشهد ثم تأتي بالتاسعة وتجلس للتشهد والتسليم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوتر بثلاث ركعات قرأ فيها سورة: {سبح اسم ربك الأعلى}، و {قل يأيها الكافرون}، و {قل هو الله أحد} في ركعة ركعة (¬5). ¬
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بعد التسليم من الوتر: ((سبحان الملك القدوس)) ثلاث مرات، ويرفع صوته بالثالثة (¬1). فإن كنت عازماً على قيام الليل فأخر الوتر ليكون آخر صلاتك وترًا (¬2). ثم اشتغل بعد ذلك بمذاكرة علم أو مطالعة كتاب، ولا تشتغل باللهو واللعب فيكون ذلك خاتمة أعمالك قبل نومك، فإنما الأعمال بخواتيمها. ¬
باب آداب النوم
باب آداب النوم فإذا أردت النوم فتوضأ وضوءك للصلاة (¬1)، وانفض فراشك بطرف ردائك (¬2). واجمع كفيك واقرأ: {قل هو الله أحد}، والمعوذتين، ثم امسح بهما ما استطعت من جسدك، افعل ذلك ثلاث مرات (¬3). ثم اقرأ آية الكرسي (¬4)، و {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ... } [البقرة: 285] إلى آخر السورة (¬5). وسبح الله واحمده وكبره ثلاثاً وثلاثين (¬6). ثم اضطجع على شقك الأيمن، وضع يدك اليمني تحت خدك ثم قل: ((اللهم قِنِي عذابك يوم تبعث عبادك)) ثلاث مِرَار (¬7)، ((باسمك اللهم أموت وأحيا)) (¬8)، ((اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت)) واجعلهن من آخر ما تقول (¬9). ¬
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام على فراشه حتى يقرأ سورتي: الإسراء، والزمر (¬1). وأوصى (صلى الله عليه وسلم) إنسانًا فقال له: ((إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ: {قل يا أيها الكافرون} ثم نَمْ على خاتمتها؛ فإنها براءة من الشرك)) (¬2). وفي "صحيح مسلم" [في كتاب الذكر والدعاء والتوبة - حديث رَقْم (2712)] عن عبد الله بن عمر أنه أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه قال: ((اللهم خَلَقْتَ نفسي وأنت تَوَفَّاها، لك مَمَاتُها وَمَحْيَاها، إن أَحْيَيْتَهَا فاحْفَظْهَا، وإن أَمَتَّهَا فاغفر لها. اللهم! إني أسألك العافية)). فقال رجل لابن عمر: أَسَمِعْتَ هذا مِن عُمَرَ؟ فقال: مِن خَيْرٍ من عمرَ، من رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ثم روى مسلم (رحمه الله) (2713) عن سهيل بن أبي صالح قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام، أن يَضْطَجِعَ على شِقِّهِ الأيمن، ثم يقول: ((اللهم! رَبَّ السماوات وربَّ الأرض ورَبَّ العرش العظيم، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شيء، فالقَ الحب والنوى، ومُنْزِلَ التوراةِ والإنجيلِ والفرقان، أعوذ بك من شر كُلِّ شيء أنت آخِذٌ بناصيته. اللهم! أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفقر)) وكان يروي ذلك عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم). ¬
واعلم أن النوم مثل الموت، واليقظة مثل البعث، فكن مستعدًا للقائه بأن تنام على طهارة، وتكون وصيتك مكتوبة تحت رأسك، وتنام تائبًا من الذنوب مستغفرًا عازمًا على ألا تعود إلى معصية، واعزم على الخير لجميع المسلمين إن بعثك الله تعالى، وتذكر أنك ستضجع في اللحد وحيدًا فريدًا، ليس معك إلا عملك، ولا تجزى إلا بسعيك. ولا تستجلب النوم تكلفًا بتمهيد الفرش الوطيئة؛ فإن النوم تعطيل للحياة إلا إذا كانت وبالاً عليك فنومك سلامة لدينك. واعلم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فلا يكن نومك بالليل والنهار أكثر من ثماني ساعات، فيكفيك إن عشت مثلا ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنة وهو ثلث عمرك. وأعدّ عند النوم سواكك وطهورك، واعزم على قيام الليل أو على القيام قبل الصبح، فركعتان في جوف الليل كنز من كنوز البر، فاستكثر من كنوزك ليوم فقرك، فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا متَّ. فإذا تقلبت من جنب إلى جنب فقل: ((لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار)) (¬1). فإذا فزعت من النوم أو رأيت ما تكره في منامك فانفث عن يسارك ثلاثاً، وقل: ((أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون)) (¬2)، وتحول عن جنبك الذي كنت عليه. واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ¬
ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا؛ استجيب له، فإن توضأ ثم صلى؛ قبلت صلاته)) (¬1). فإذا استيقظت فارجع إلى ما عرفتك أولاً، وداوم على هذا الترتيب بقية عمرك، فإن شقت عليك المداومة فاصبر صبر المريض على مرارة الدواء انتظارًا للشفاء، وتفكر في قصر عمرك، وإن عشت مثلاً مائة سنة فهي قليلة بالإضافة إلى مقامك في الدار الآخرة وهي أبد الآباد، وتأمل أنك كيف تتحمل المشقة والذل في طلب الدنيا شهرًا أو سنة رجاء أن تستريح بها عشرين سنة مثلاً، فكيف لا تتحمل ذلك أيامًا قلائل رجاء الاستراحة أبد الآباد؟. ولا تطوِّل أملك فيثقل عليك عملك، وقدِّر قرب الموت، وقل في نفسك: إني أتحمل المشقة اليوم فلعلي أموت الليلة، وأصبر الليلة فلعلي أموت غدًا، فإن الموت لا يهجم في وقت مخصوص وحال مخصوص وسن مخصوص، فلا بد من هجومه، فالاستعداد له أولى من الاستعداد للدنيا، وأنت تعلم أنك لا تبقى فيها إلا مدة يسيرة، ولعله لم يبق من أجلك إلا يوم واحد أو نفس واحد، فقدر هذا في قلبك كل يوم، وكلف نفسك الصبر على طاعة الله يومًا فيومًا، فإنك لو قدرت البقاء خمسين سنة وألزمتها الصبر على طاعة الله تعالى نفرت واستصعبت عليك، فإن فعلت ذلك فرحت عند الموت فرحًا لا آخر له، وإن سوَّفت وتساهلت جاءك الموت في وقت لا تحتسبه، وتحسرت تحسرًا لا آخر له، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى (¬2)، وعند الموت أتيك الخبر اليقين، ولتعلمن نبأه بعد حين. وإذ أرشدناك إلى ترتيب الأوراد، فلنذكر لك آداب الصلاة والصوم والإمامة والقدوة والجمعة. ¬
باب آداب الصلاة
باب آداب الصلاة (¬1) إذا فرغت من طهارة الحدث وطهارة الخبث في البدن والثياب والمكان، ومن ستر العورة من السرة إلى الركبة .. فاستقبل القبلة، واستو قائمًا، وأحضر قلبك ما أنت فيه، وفرغه من الوساوس، وانظر بين يدي من تقوم ومن تناجي، واستح أن تناجي مولاك بقلب غافل وصدر مشحون بوساوس الدنيا وخبائث الشهوات. واعلم: أن الله تعالى مطلع على سريرتك وناظر إلى قلبك، فإنما يتقبل الله من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك وتواضعك وتضرعك، واعبده في صلاتك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فإن لم يحضر قلبك ولم تسكن جوارحك لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فقدر أن رجلاً صالحاً من وجوه أهل بيتك ينظر إليك ليعلم كيف صلاتك؛ فعند ذلك يحضر قلبك وتسكن جوارحك، ثم ارجع إلى نفسك وقل: يا نفس السوء! ألا تستحين من خالقك ومولاك إذ قدرت إطلاع عبد ذليل من عباده عليكِ، وليس بيده ضرك ولا نفعك، خشعت جوارحك، وحسنت صلاتك، ثم إنك تعلمين أنه مطلع عليك ولا تخشعين لعظمته أهو -تعالى- عندكِ أقل من عباده؟! فما أشد طغيانك وجهلك! وما أعظم عداوتك لنفسك!. وعالج قلبك بهذه الحيل فعسى أن يحضر معك في صلاتك؛ فإنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، وأما ما أتيت مع الغفلة والسهو فهو إلى الاستغفار والتكفير أحوج. ¬
وأنا ذاكر لك صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحرص على أن تصلي كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، واعلم أنه قد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬1). ¬
باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة استقبل الكعبة قائمًا قريبًا من السترة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، إنما لكل امرئ ما نوى)) (¬1). ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بقوله: "الله أكبر". وكان يرفع يديه مع التكبير، ثم يضع اليمنى على اليسرى فوق صدره، ثم يرمي ببصره نحو الأرض، ثم يستفتح القراءة بأدعية كثيرة متنوعة، يحمد الله تعالى فيها ويمجده ويثني عليه، منها: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك". ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، ثم يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم" ولا يجهر بها، ثم يقرأ الفاتحة ويقطعها آية آية. فإذا انتهى من الفاتحة ¬
قال: "آمين"، ويجهر ويمد بها صوته. ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة غيرها، وكان يطيلها أحيانًا، ويقصرها أحيانًا. وكان - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، ويسر بها في الظهر، والعصر، والثالثة من المغرب، والأخريين من العشاء. وكان - صلى الله عليه وسلم - يجهر بها أيضًا في صلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف. وكان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين قدر النصف قدر خمس عشرة آية، وربما اقتصر فيهما على الفاتحة. ثم كان - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من القراءة سكت سكتة، ثم رفع يديه وكبر وركع. وكان في الركوع يضع كفيه على ركبتيه، ويفرج بين أصابعه، ويمكن يديه من ركبتيه كأنه قابض عليهما. وكان - صلى الله عليه وسلم - يجافي مرفقيه عن جنبيه، ويبسط ظهره ويسويه، حتى لو صُب عليه الماء لاستقر. وكان - صلى الله عليه وسلم - يطمئن في ركوعه ويقول: "سبحان ربي العظيم" ثلاثُا. وكان يقول في هذا الركن أنواعًا من الأذكار والأدعية، تارة بهذا، وتارة بهذا. وكان - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. ثم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع صلبه من الركوع قائلاً: "سمع الله لمن حمده". وكان يرفع يديه عند هذا الاعتدال، ويقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد". وكان تارة يزيد على ذلك. ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يكبر ويهوى ساجدًا، وكان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه (¬1). وكان يعتمد على كفيه ويبسطهما، ويضم أصابعه ويوجهها قِبلَ القبلة. وكان يجعلهما حذو منكبيه، وأحيانًا حذو أذنيه. وكان يمكن أنفه وجبهته من الأرض، ¬
وكان يقول: ((أُمِرْتُ أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة-وأشار بيده على أنفه-، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نَكْفِتَ الثياب والشَّعَر)) (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يطمئن في سجوده، ويقول: " سبحان ربي الأعلى " ثلاثًا. وكان يقول أنواعًا من الأذكار والأدعية، تارة بهذا، وتارة بهذا. وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالاجتهاد والإكثار من الدعاء في هذا الركن. ثم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع رأسه مكبرًا. ثم يفرش رجله اليسرى فيقعد عليها مطمئنًا، وكان ينصب رجله اليمنى ويستقبل بأصابعها القبلة. وكان يقول في هذه الجلسة: " اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارفعني، واهدني، وعافني، وارزقني ". ثم يكبر ويسجد السجدة الثانية كالأولى. ثم يرفع رأسه مكبرًا. ثم يستوي قاعدًا على رجله اليسرى معتدلاً حتى يرجع كل عظم إلى موضعه (¬2). ثم ينهض معتمدًا على الأرض بيديه إلى الركعة الثانية، وكان يصنع فيها مثل ما يصنع في الأولى، إلا أنه كان يجعلها أقصر من الأولى. ثم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس للتشهد بعد الفراغ من الركعة الثانية: فإذا كانت الصلاة ركعتين جلس مفترشًا كما كان يجلس بين السجدتين، وكذلك كان يجلس في التشهد الأول من الصلاة الثلاثة والرباعية. وفي التشهد الأخيركان يجلس متوركاً: يفضي بوركه اليسرى إلى الأرض ويخرج قدميه من ناحية واحدة ويجعل اليسرى تحت فخذه وساقه وينصب اليمنى، وربما فرشها أحيانًا. وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في التشهد وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وكان يبسط اليسرى ويقبض اليمنى، ويشير ¬
بالسبابة ويرمي ببصره إليها، وكان يحركها (¬1) يدعو بها ويقول: ((لَهِيَ أشد على الشيطان من الحديد)) (¬2) يعني: السَّبَابَةَ. ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في كل ركعتين التحية، يقول: ((التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)). وكان يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره، وشرع ذلك لأمته. وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو في صلاته بأدعية متنوعة (¬3). ثم كان - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله "، وعن يساره كذلك. وكان أحيانًا يزيد في التسليمة الأولى: " وبركاته "] ا. هـ. ((واعلم: أن للصلاة أركانًا وواجباتٍ وسنناً (¬4)، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فإن الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع ¬
عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة؛ لأن النطق إذا لم يُعْربْ عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال؛ لأنه إذا كان المقصود من القيام: الخدمة، ومن الركوع والسجود: الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضراً، لم يحصل المقصود؛ فان الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها، قال الله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج: 37]. والمقصود أن الواصل إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصف الذي استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلا بد من حضور القلب في الصلاة، ولكن سامح الشارع في غفلة تطرأ؛ لأن حضور القلب في أولها ينسحب حكمه على باقيها)) (¬1). ¬
باب آداب الإمامة والقدوة
باب آداب الإمامة والقدوة ينبغي للإمام أن يخفف الصلاة، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تُفتن أمه)) (¬1). ولا يكبر ما لم يفرغ المؤذن من الإقامة، وما لم تستو الصفوف، ويرفع الإمام صوته بالتكبيرات، ولا يرفع المأموم صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه، وينوي الإمام الإمامة لينال الفضل، فإذا لم ينو صحت صلاة القوم إذا نووا الاقتداء به ونالوا فضل القدوة. ويُسرُّ الإمام بدعاء الاستفتاح والتعوذ والبسملة كالمنفرد، ويجهر بالفاتحة والسورة في جميع الصبح وأولتي المغرب والعشاء، وكذلك المنفرد، ويجهر بقوله: "آمين" في الجهرية، وكذلك المأموم، ويقرن المأموم تأمينه بتأمين الإمام؛ فقد قال خير الأنام - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬2). ولا يقف المأموم وحده بل يدخل في الصف ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا ينبغي للمأموم أن يتقدم على الإمام في أفعاله أو يساويه، بل ينبغي أن يتأخر عنه، ولا يهوي للركوع إلا إذا انتهى الإمام إلى حد الركوع، ولا يهوى للسجود ما لم تصل جبهة الإمام إلى الأرض. ¬
باب آداب الجمعة
باب آداب الجمعة اعلم أن الجمعة عيد المؤمنين، وهو يوم شريف خص الله عز وجل به هذه الأمة، وفيه ((ساعة مبهمة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها حاجة إلا أعطاه إياها ما لم يسأل حرامًا)) (¬1). فاستعد لها من يوم الخميس بتنظيف الثياب، وانو صوم يوم الجمعة لكن مع الخميس أو السبت؛ إذ جاء في إفرادها نهي (¬2). فإذا طلع عليك الصبح فاغتسل؛ فإن ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) (¬3)، ثم تزين بالثياب البيض فإنها أحب الثياب إلى الله تعالى، واستعمل من الطيب أطيب ما عندك، وبالغ في تنظيف بدنك بالحلق والقص والسواك وسائر أنواع النظافة وتطييب الرائحة. ¬
ثم بكِّر إلى الجامع، واسع إليه على الهينة والتؤدة والسكينة؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) (¬1). ثم إذا دخلت الجامع فاطلب الصف الأول، فإذا اجتمع الناس فلا تتخط رقابهم ولا تمر بين أيديهم وهم يصلون، واجلس بقرب حائط أو أسطوانة حتى لا يمروا بين يديك، ولا تقعد حتى تصلي التحية، ولا تتركها وإن كان الإمام يخطب، وأكثر من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا اليوم خاصة. ومتى خرج الإمام فاقطع الصلاة والكلام واشتغل بجواب المؤذن، ثم استماع الخطبة والاتعاظ بها، ودع الكلام رأسًا في الخطبة ففي الخبر: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)) (¬2) أي: لأن قوله: أنصت كلام، فينبغي أن ينهى غيره بالإشارة لا باللفظ. ثم اقتدِ بالإمام كما سبق. ثم صلِّ بعد الجمعة ركعتين أو أربعًا، وكن حسن المراقبة للساعة الشريفة، فإنها مبهمة في جميع اليوم، ولا تحضر في الجامع مجالس الحِلَق ولا مجالس القُصّاص، بل مجلس العلم النافع وهو الذي يزيد في خوفك من الله تعالى وينقص من رغبتك في الدنيا، فكل علم لا يدعوك من الدنيا إلى الآخرة فالجهل أعود عليك منه، فاستعذ بالله من علم لا ينفع. ¬
وأكثر من الدعاء عند طلوع الشمس، وعند الزوال، وعند الغروب، وعند الإقامة، وعند صعود الخطيب المنبر، وعند قيام الناس إلى الصلاة، فيوشك أن تكون الساعة الشريفة في بعض هذه الأوقات. واجتهد أن تتصدق في هذا اليوم بما تقدر عليه وإن قلَّ، فتجمع بين الصلاة والصيام والصدقة والقراءة والذكر والاعتكاف والرباط، واجعل هذا اليوم من الأسبوع خاصة لآخرتك، فعساه أن يكون كفارة لبقية الأسبوع. واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضًا، وشهد جنازة، وصام يومًا، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة)) (¬1). وقال أيضًا: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) (¬2). وقال: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (¬3). وقال: ((من غَسَلَ (¬4) يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)) (¬5). ¬
وقال: ((تحشر الأيام على هيئتها، وتحشر الجمعة زهراء منيرة، أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى خدرها، تضيء لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضًا، وريحهم كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان لا يطرقون تعجبًا حتى يدخلون الجنة، لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون)) (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتاني جبريل بمثل المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء، قلت: يا جبريل! ما هذه؟ قال: هذه الجمعة، جعلها الله عيدًا لك ولأمتك، فأنتم قبل اليهود والنصارى، فيها ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه. قلت: ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذا يوم القيامة تقوم في يوم الجمعة، ونحن ندعوه عندنا المزيد. قلت: ما يوم المزيد؟ قال: إن الله جعل في الجنة واديًا أفيح (¬2)، وجعل فيه كثبانًا من المسك الأبيض، فإذا كان يوم الجمعة ينزل الله فيه فوضعت فيه منابر من ذهب للأنبياء وكراسي من در للشهداء وينزلن الحور العين من الغرف فحمدوا الله ومجدوه. قال: ثم يقول الله: اكسوا عبادي؛ فيكسون. ويقول: أطعموا عبادي؛ فيطعمون. ويقول: اسقوا عبادي؛ فيسقون. ويقول: طيبوا عبادي؛ فيطيبون. ثم يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: ربنا رضوانك. قال: يقول: رضيت عنكم. ثم يأمرهم فينطلقون، وتصعد الحور العين الغرف وهي من زمردة خضراء، ومن ياقوتة حمراء)) (¬3). ¬
باب آداب الصيام
باب آداب الصيام لا ينبغي أن تقتصر على صوم رمضان فتترك التجارة بالنوافل، وكسب الدرجات العالية في الفراديس، فتتحسر إذا نظرت إلى منازل الصائمين، كما تنظر إلى الكواكب الدرية وهم في أعلى عليين. والأيام الفاضلة التي شهدت الأخبار بشرفها وفضلها وبجزالة الثواب في صيامها: يوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء، والعشر الأول من ذي الحجة، والمحرم، وشعبان، وهذه في السنة. وأما في الشهر: فأول الشهر وأوسطه وآخره، والأيام البيض وهي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وأما في الأسبوع فيوم الاثنين والخميس. واعلم أن ((أحب الصيام إلى الله صيام داود - صلى الله عليه وسلم -، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا)) (¬1). ولا تظن إذا صمت أن الصوم هو ترك الطعام والشراب والوقاع فقط، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)) (¬2)، بل تمام الصوم بكف الجوارح كلها عما يكرهه الله تعالى، فينبغي أن تحفظ العين عن النظر إلى المكاره، واللسان عن النطق بما لا يعنيك، والأذن عن الاستماع إلى ما حرمه الله كالغيبة؛ فإن المستمع شريك القائل وهو أحد المغتابين، وكذلك تكف جميع الجوارح كما تكف البطن والفرج؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصيام جُنَّة، فإذا كان ¬
أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل. فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم. إني صائم)) (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) (¬2). وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمأثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء)) (¬3). أهلُ الخصوصِ من الصُّوامِ صومهمُ ... صون اللسانِ عن البهتانِ والكذبِ والعارفون وأهلُ الأنسِ صومهمُ ... صون القلوبِ عن الأغيارِ والحُجُبِ ثم اجتهد أن تفطر على طعام حلال، ولا تستكثر فتزيد على ما تأكله كل ليلة لأجل صيامك، فلا فرق إذا استوفيت ما تعتاد أن تأكله دفعتين في دفعة واحدة، وإنما المقصود بالصيام كسر شهوتك وتضعيف قوتك؛ لتقوى بها على التقوى. فإذا أكلت عشية ما تداركت به ما فاتك ضحوة فلا فائدة في صومك، وقد ثقلت عليك معدتك وما وعاء يملأ أبغض إلى الله تعالى من بطن ملئ من حلال، فكيف إذا ملئ من حرام. واعلم أن ((للصوم تأثيرًا عجيبًا في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها. ¬
فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183])) (¬1). فإذا عرفت معنى الصوم فاستكثر منه ما استطعت؛ فإنه أساس العبادات، ومفتاح القربات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد)) (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصيام جُنَّة من النار، كَجُنَّة أحدكم من القتال، وصيامٌ حسنٌ ثلاثة أيام من كل شهر)) (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه)) قال: ((فيُشَفَّعَان)) (¬5). ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صام يومًا في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض)) (¬2). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله مُرْنِي بعمل، قال: ((عليك بالصوم فإنه لا عِدْلَ له))، قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: ((عليك بالصوم فإنه لا عدل له)) (¬3). واعلم أن للصوم سننًا، منها: السحور ويستحب تأخيره، وتعجيل الفطر، ويستحب أن يفطر الصائم على رطبات، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من الماء، ولا ينبغي أن يغفل عن هذا الدعاء عند فطره: ((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)) (¬4). - - - وبعد: فهذا القدر من شرح الطاعات يكفيك من بداية الهداية، فإذا احتجت إلى الزكاة والحج أو إلى مزيد شرح الصلاة والصيام فاطلب ذلك في مظانه من كتب القوم. ¬
القسم الثاني القول في اجتناب المعاصي
القسم الثاني القول في اجتناب المعاصي
توطئة
توطئة اعلم أن للدين شطرين: أحدهما: ترك المناهي. والآخر: فعل الطاعات. وترك المناهي هو الأشد؛ فإن الطاعات يقدر عليها كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، فلذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المهاجر من هجر السوء)) (¬1)، ((والمجاهد من جاهد نفسه)) (¬2). واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك، وهي نعمة من الله عليك وأمانة لديك، فاستعانتك بنعمة الله على معصيته غاية الكفران، وخيانتك في أمانة استودعها الله غاية الطغيان، فأعضاؤك رعاياك فانظر كيف ترعاها، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق ذلق، تفضحك به على رؤوس الخلائق، قال الله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]، وقال الله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65]. فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصي، وخصوصاً أعضاءك السبعة فإن جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، ولا يتعين لتلك الأبواب إلا من عصا الله تعالى بهذه الأعضاء السبعة وهي: - العين. - والأذن. ¬
- واللسان - والبطن. - والفرج. - واليد. - والرجل.
آداب العين
آداب العين أما العين: فإنما خلقت لك لتهتدي بها في الظلمات، وتستعين بها في الحاجات، وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسماوات، وتعتبر بما فيها من الآيات، فاحفظها عن أربع: 1 - أن تنظر بها إلى غير محرم. 2 - أو إلى صورة مليحة بشهوة نفس. 3 - أو تنظر بها إلى مسلم بعين الاحتقار. 4 - أو تطلع بها على عيب مسلم.
آداب الأذن
آداب الأذن وأما الأذن: فاحفظها عن أن تصغي بها إلى البدعة أو الغيبة أو الفحش أو الخوض في الباطل أو ذكر مساوئ الناس؛ فإنما خلقت لك لتسمع بها كلام الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحكمة أوليائه، وتتوصل باستفادة العلم بها إلى الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. فإذا أصغيت بها إلى شيء من المكاره؛ صار ما كان لك عليك، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك، وهذا غاية الخسران. ولا تظنن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع؛ فقد قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم} [النساء: 140] أي: إن قعدتم معهم.
آداب اللسان
آداب اللسان وأما اللسان: فإنما خلق لتكثر به ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه، وترشدن به خلق الله تعالى إلى طريقه، وتظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك، فإذا استعملته في غير ما خلق له فقد كفرت نعمة الله تعالى فيه، وهو أغلب أعضائك عليك وعلى سائر الخلق، فـ ((أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)) (¬1)، ((وهل يكب الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟)) (¬2) كذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاستظهر على لسانك بغاية قوتك حتى لا يكبك في قعر جهنم، ففي الخبر: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) (¬3). ... ولله در من قال: احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه ... قد كان هاب لقاءه الشجعان فاحفظ لسانك من ثمانية: ¬
الأول: الكذب
الأول: الكذب فاحفظ منه لسانك في الجِد والهزل، ولا تعود لسانك الكذب هزلاً فيتداعى إلى الجد، والكذب من أمهات الكبائر، ثم إنك إذا عُرفت بذلك سقطت عدالتك والثقة بقولك، وتزدريك الأعين وتحتقرك، وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب من نفسك فانظر إلى كذب غيرك، وإلى نفرة نفسك عنه، واستحقارك لصاحبه واستقباحك له. وكذلك فافعل في جميع عيوب نفسك، فإنك لا ترى قبح عيوبك من نفسك بل من غيرك، فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك لا محالة، فلا ترض لنفسك ذلك. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور. وإن الفجور يهدي إلى النار. وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)) (¬1). ولله در من قال: لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو فِعْلِهِ السوءَ أو مِن قلةِ الأدبِ لَبَعْضُ جيفة كلبٍ خير رائحة ... من كِذبة المرء في جِدٍّ وفي لعبِ فإياك والكذب؛ فإنه مَهْواة، وعليك بالصدق؛ فإنه منجاة: عليك بالصدق ولو أنه ... أحرقك الصدق بنار الوعيدْ وابغ رضا المولى فأغبى الورى ... مَن أسخط المولى وأرضى العبيدْ **** ¬
الثاني: الخلف في الوعد
الثاني: الخلف في الوعد فإياك أن تعد بشيء ولا تفي به، بل ينبغي أن يكون إحسانك إلى الناس فعلاً بلا قول، فإن اضطررت إلى الوعد فإياك أن تخلف إلا لعجز أو ضرورة؛ فإن ذلك من أمارات النفاق، وخبائث الأخلاق. عن عبد الله بن عمرو بن العاصي (¬1) رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (¬2). وقال بعضهم: لا كَلَّف الله نفسًا فوق طاقتها ... ولا تجودُ يدٌ إلا بما تجدُ فلا تَعِدْ عِدَةً إلا وَفَّيْتَ بها ... واحذرْ خلافَ مقالٍ للذي تَعِدُ وقال آخر: إذا قلتَ في شيء: نعم فَأَتِمَّهُ ... فإن نَعَمْ دّيْنٌ على الحُرِّ واجبُ وإلا فقل: لا؛ تسترحْ وتُرِح بها ... لئلا يقولَ الناسُ: إنك كاذبُ وقال ثالث: لئن جمعت الآفات فالبخل شرها ... وشر مِن البخل المواعيد والمطلُ ولا خير في وعد إذا كان كاذبًا ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعلُ **** ¬
الثالث: الغيبة
الثالث: الغِيبة فاحفظ لسانك عن الغِيبة، والغيبة من كبائر الذنوب، وإثمها عظيم، وخطرها جسيم، وقد سماها الله (عز وجل) في كتابه مكرًا، فقال (سبحانه): {فلما سمعت بمكرهن} [يوسف: 31]. ومعنى الغيبة: أن تذكر إنساناً بما يكرهه لو سمعه، فأنت مغتاب ظالم وإن كنت صادقاً. وقد روى الإمام أحمد (رحمه الله) في "مسنده" (2/ 384، 386)، ومسلم في "صحيحه" (2589)، وأبو داود في "سننه" (4874)، والترمذي في "جامعه" (1934)، والدارمي في "مسنده" (2714)، وأبو يعلى في "مسنده" (6532)، وابن حبان في "صحيحه" (5758، 5759 - إحسان) وغيرهم من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((أتدرون ما الغِيبة؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذِكْرُكَ أخاك بما يكره)). قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ)). وقد روى الحافظ ابن أبي الدنيا (رحمه الله) في آخر كتاب "الصمت وآداب اللسان" عن التابعي الجليل محمد بن سيرين (رحمه الله) أنه قال: ((إذا قلت لأخيك مِن خلفه ما فيه مما يكره فهي الغِيبة. وإذا قلت ما ليس فيه فهو البهتان. وظلم لأخيك أن تذكره بأقبح ما تعلم منه وتنسى أحسنه)). احفظ لسانك أيها الإنسانُ ... لا يَلْدَغَنَّك إنه ثعبانُ كم في المقابر مِن قتيل لسانِهِ ... كانت تهاب لقاءَه الشجعانُ
وإياك وغيبةَ القراء المرائين، وهو: أن تفهم المقصود من غير تصريح، فتقول: أصلحه الله فقد ساءني وغمني ما جرى عليه فنسأل الله تعالى أن يصلحنا وإياه!. فإن هذا جمع بين خبيثين، أحدهما: الغيبة إذا حصل به التفهم، والآخر: تزكية النفس والثناء عليها بالتجريح لغيرك والصلاح لنفسك، ولكن إن كان مقصودك من قولك: أصلحه الله الدعاء، فادع له في السر، وإن اغتممت بسببه، فعلامته أنك لا تريد فضيحته وإظهار عيبه، وفي إظهارك الغم بعيبه إظهار تعييبه، ويكفيك زاجراً عن الغيبة قوله تعالى: {وَلا يَغتَب بَعضُكُم بَعضًا أَيُحِبُ أَحَدُكُم أَن يَأكلَ لَحمَ أخيهِ مَيتًا فَكَرِهتُموه} [الحجرات: 11]؛ فقد شبهك الله بآكل لحم الميتة، فما أجدرك أن تحترز منها. ويمنعك عن الغيبة أمر لو تفكرت فيه، وهو: أن تنظر في نفسك، هل فيك عيب ظاهر أو باطن؟ وهل أنت مقارف معصية سرًا أو جهرًا؟. فإذا عرفت ذلك من نفسك فاعلم أن عجزه عن التنزه عما نسبته إليه كعجزك، وعذره كعذرك، وكما تكره أن تفتضح وتُذكر عيوبك فهو أيضًا يكرهه، فإن سترته ستر الله عليك عيوبك، وإن فضحته سلط الله عليك ألسنة حدادًا يمزقون عرضك في الدنيا، ثم يفضحك الله في الآخرة على رؤوس الخلائق يوم القيامة، وإياك أن تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك. وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك فلم تطلع فيهما على عيب ونقص في دين ولا دنيا، فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة، ولا عيب أعظم من الحمق، ولو أراد الله بك خيرًا لبصرك بعيوب نفسك، فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك وجهلك، ثم إن كنت صادقًا في ظنك فاشكر الله - تعالى وتقدس- عليه، ولا تفسده بثلب الناس والتمضمض بأعراضهم، فإن ذلك من أعظم العيوب.
فإن عبت قوماً بالذي فيك مثله ... فكيف يعيب الناس من هو أعور وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهم ... فذلك عند الله والناس أكبر ****
الرابع: المراء والجدال ومناقشة الناس في الكلام
الرابع: المراء والجدال ومناقشة الناس في الكلام فذلك فيه إيذاء للمخاطب وتجهيل له وطعن فيه، وفيه ثناء على النفس وتزكية لها بمزيد الفطنة والعلم، ثم هو مشوش للعيش؛ فإنك لا تمارى سفيهًا إلا ويؤذيك، ولا تماري حليمًا إلا ويقليك ويحقد عليك؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) (¬1). ولا ينبغي أن يخدعك الشيطان ويقول لك: أظهر الحق ولا تداهن فيه، فإن للشيطان دأبًا يستجر الحمقى إلى الشر في معرض الخير، فلا تكن ضُحكةً للشيطان فيسخر منك، فإظهار الحق حسنٌ مع من يقبله منك، وذلك بطريق النصيحة في الخفية لا بطريق المماراة. وللنصيحة صفة وهيئة، ويُحتاج فيها إلى تلطف، وإلا صارت فضيحة وكان فسادها أكثر من صلاحها. ولله در الإمام الشافعي - رحمه الله - حيث يقول: ((من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه))، وقال أيضاً: تعمدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه وإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تجزع إذا لم تعط طاعه ومن خالط متفقهة العصر غلب على طبعه المراء والجدال، وعسر عليه الصمت؛ إذ ألقى إليه علماء السوء أن ذلك هو الفضل، والقدرة على المحاجة والمناقشة هو الذي يمتدح به، ففر منهم فرارك من الأسد، واعلم أن المراء سبب المقت عند الله وعند الخلق. **** ¬
الخامس: تزكية النفس
الخامس: تزكية النفس فقد قال الله تعالى: {فَلا تُزَكوا أَنفُسَكُم هَو أَعلَمُ بِمَن اِتقى} [النجم: 32]. وقيل لبعض الحكماء: ما الصدق القبيح؟! فقال: ((ثناء المرء على نفسه)). فإياك أن تتعود ذلك، واعلم أن ذلك ينقص من قدرك عند الناس ويوجب مقتك عند الله تعالى، فإذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك، فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل والجاه والمال كيف يستنكره قلبك عليهم ويستثقله طبعك؟ وكيف تذمهم عليه إذا فارقتهم؟! فاعلم أنهم أيضًا في حال تزكيتك لنفسك يذمونك في قلوبهم ناجزًا، وسيظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم. ****
السادس: اللعن
السادس: اللعن فإياك أن تلعن شيئًا مما خلق الله تعالى من حيوان أو طعام أو إنسان بعينه، ولا تقطع بشهادتك على أحد من أهل القبلة بشرك أو كفر أو نفاق، فإن المطلع على السرائر هو الله تعالى، فلا تدخل بين العباد وبين الله تعالى، واعلم أنك يوم القيامة لا يقال لك: لِم لمَ تلعن فلانًا ولم سكت عنه؟!. بل لو لم تعلن إبليس طول عمرك ولم تشغل لسانك بذكره لم تُسأل عنه ولم تطالب به يوم القيامة، وإذا لعنت أحدًا من خلق الله تعالى طُولبت به. ولا تذم شيئًا مما خلق الله تعالى، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يذم الطعام الرديء قط، بل كان إذا اشتهى شيئًا أكله وإلا تركه (¬1). **** ¬
السابع: الدعاء على الخلق
السابع: الدعاء على الخلق فاحفظ لسانك عن الدعاء على أحد من خلق الله تعالى، وإن ظلمك فكل أمره إلى الله تعالى، وإن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئه، ثم يبقى للظالم فضل عنده يطالب به يوم القيامة. وطول بعض الناس لسانه على الحجّاج بن يوسف، فقال بعض السلف: ((إن الله لينتقم للحجاج ممن تعرض له بلسانه، كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه)). ****
الثامن: المزاح والسخرية والاستهزاء بالناس
الثامن: المزاح (¬1) والسخرية والاستهزاء بالناس فاحفظ لسانك منه في الجد والهزل، فإنه يريق ماء الوجه، ويسقط المهابة، ويستجر الوحشة، ويؤذي القلوب، وهو مبدأ اللجاج والغضب والتصارم، ويغرس الحقد في القلوب، فلا تمازح أحدًا، فإن مازحوك فلا تجبهم وأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وكن من الذين إذا مروا باللغو مروا كرامًا. فهذه مجامع آفات اللسان، ولا يعينك عليه إلا العزلة أو ملازمة الصمت إلا بقدر الضرورة، فقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يضع حجرًا في فيه ليمنعه ذلك من الكلام بغير ضرورة. ورآه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يمد لسانه، فقال له عمر - رضي الله عنه -: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟!. فقال أبو بكر ¬
(رضي الله عنه): إن هذا أوردني الموارد. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس شيء من الجسد إلا وهو يشكو إلى الله عز وجل اللسان على حدته)) (¬1). فاحترز منه بجهدك فإنه أقوى أسباب هلاكك في الدنيا والآخرة، ولله در ابن مسعود - رضي الله عنه - حين كان يخاطب لسانه قائلاً: ((يا لسان! قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، قبل أن تندم)) (¬2). وكان - رضي الله عنه - يقول: ((والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طولِ سجنٍ من لسانٍ)) (¬3). ******* ¬
آداب البطن
آداب البطن وأما البطن: فاحفظه من تناول الحرام والشبهة، واحرص على طلب الحلال، فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر منه على ما دون الشبع؛ فإن الشبع يقسي القلب، ويفسد الذهن، ويبطل الحفظ، ويثقل الأعضاء عن العبادة والعلم، ويقوي الشهوات، وينصر جنود الشيطان. والشبع من الحلال مبدأ كل شر، فكيف من الحرام؟! وطلب الحلال فريضة على كل مسلم، والعبادة والعلم مع أكل الحرام كالبناء على السرجين (¬1). واعلم أن الحلال كثير، وليس عليك أن تتيقن بواطن الأمور، بل عليك أن تحترز مما تعلم أنه حرام، أو تظن أنه حرام ظناً حصل من علامة ناجزة مقرونة بالمال، أما المعلوم فظاهر، وأما المظنون بعلامة فهو مال السلطان وعماله، ومال من لا كسب له إلا من النياحة أو بيع الخمر أو الربا أو المزامير وغير ذلك من آلات اللهو المحرمة، فإن من علمت أن أكثر ماله حرام قطعًا فما تأخذه من يده ـ وإن أمكن أن يكون حلالًا نادرًا ـ فهو حرام؛ لأنه الغالب على الظن. ¬
آداب الفرج
آداب الفرج وأما الفرج: فاحفظه عن كل ما حرم الله تعالى، وكن كما قال الله: {وَالذَينَ هُم لِفُروجِهم حافِظون * إِلاّ عَلى أَزواجِهِم أَو ما مَلَكَت أَيمانُهُم غَيرُ مَلومين} [المؤمنون: 5 - 6] (¬1). ولا تصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر، وحفظ القلب عن التفكر، وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع، فإن هذه محركات للشهوة ومغارسها. ******* ¬
آداب اليدين
آداب اليدين وأما اليدان: فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلمًا، أو تتناول بهما مالاً حرامًا، أو تؤذي بهما أحدًا من الخلق، أو تخون بهما في أمانة أو وديعة، أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به؛ فإن القلم أحد اللسانين، فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان عنه. وما من كاتب إلا سيفنى ... ويبقي الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بخطك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه *******
آداب الرجلين
آداب الرجلين وأما الرجلان: فاحفظهما عن أن تمشي بهما إلى حرام، أو تسعى بهما إلى باب سلطان ظالم، فإن المشيَ إلى السلاطين الظلمة من غير ضرورة وإرهاق معصيةٌ كبيرة، فإنه تواضع وإكرام لهم على ظلمهم. وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنهم في قوله تعالى: {وَلا تَركَنوا إِلى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَكُم النار} [هود: 113]، وهو تكثير لسوادهم، وإن كان ذلك لسبب طلب مالهم؛ فهو سعى إلى حرام، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا؛ إلا ازداد من الله بعدًا)) (¬1). وعلى الجملة فحركاتك وسكناتك بأعضائك نعمة من نعم الله تعالى عليك، فلا تحرك شيئًا منها في معصية الله تعالى أصلاً، واستعملها في طاعة الله تعالى. واعلم أنك إن قصرت فعليك وباله، وإن شمرت فإليك تعود ثمرته، والله غني عنك وعن عملك، وإنما كل نفس بما كسبت رهينة، وإياك أن تقول: إن الله كريم رحيم يغفر الذنوب للعصاة؛ فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وصاحبها عاجز متواكل. واعلم أن قولك هذا يضاهي قول من يريد أن يكون فقيهًا في علوم الدين من غير أن يدرس علمًا، واشتغل بالبطالة وقال: إن الله كريم رحيم قادر على أن يفيض على قلبي من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائه وأوليائه من غير ¬
جهد وتكرار وتعلم!، وهو كقول من يريد مالاً فترك الحراثة والتجارة والكسب وتعطل وقال: إن الله كريم رحيم وله خزائن السموات والأرض، وهو قادر على أن يطلعني على كنز من كنوزه أستغني به عن الكسب فقد فعل ذلك لبعض عباده!، فأنت إذا سمعت كلام هذين الرجلين استحمقتهما وسخرت منهما، وإن كان ما وصفاه من كرم الله تعالى وقدرته صدقًا وحقًا، فكذلك يضحك عليك أرباب البصائر في الدين إذا طلبت المغفرة بغير سعى لها والله تعالى يقول: {وَأَن لَيسَ لِلإِنسان إِلا ما سَعى} [النجم: 39]، ويقول: {إِنَما تُجزونَ ما كُنتُم تَعملون} [الطور: 16]، ويقول: {إنّ الأَبرارَ لَفي نَعيم * وَإنّ الفُجارَ لَفي جَحيم} [الانفطار: 13 - 14]. فإذا لم تكن تترك السعي في طلب العلم والمال اعتمادًا على كرمه؛ فكذلك لا تترك التزود للآخرة ولا تفتر؛ فإن رب الدنيا والآخرة واحد، وهو فيهما كريم رحيم، وليس يزيد له كرم بطاعتك، وإنما كرمه سبحانه وتعالى في أن ييسر لك طريق الوصول إلى الملك المقيم والنعيم الدائم المخلد بالصبر على ترك الشهوات أيامًا قلائل، وهذا نهاية الكرم. فلا تحدث نفسك بتهويسات البطالين، واقتد بأولي العزم والنهى من الأنبياء والصالحين، ولا تطمع في أن تحصد ما لم تزرع، وليت من صام وصلى وجاهد واتقى غُفر له {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60]. فهذه جمل مما ينبغي أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة، وأعمال هذه الجوارح إنما تترشح من صفات القلب، فإن أردت حفظ الجوارح فعليك بتطهير القلب فهو تقوى الباطن، والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد (¬1)، فاشتغل بإصلاحه لتصلح به جوارحك، وصلاحه يكون بملازمة المراقبة. ¬
((واعلم أن مثل القلب كمثل حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه، فحماية القلب من وساوس الشيطان واجب، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله؛ فصارت معرفة مداخله واجبة، ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد، وهي كثيرة)) (¬1). ¬
باب القول في معاصي القلب
باب القول في معاصي القلب اعلم أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة، وطريق تطهير القلب من رذائلها طويلة، وسبيل العلاج فيها غامض، وقد اندرس بالكلية علمه وعمله؛ لغفلة الخلق عن أنفسهم واشتغالهم بزخارف الدنيا. وتجد ذلك مبسوطًا في الكتاب الذي سميناه لك آنفاً (¬1)، ولكنا نحذرك ثلاثًا من خبائث القلب هي الغالبة على متفقهة العصر لتأخذ منها حذرك، فإنها مهلكات في أنفسها، وهي أمهات لجملة من الخبائث سواها: وهي الحسد، والرياء، والعجب. فاجتهد في تطهير قلبك منها، فإن قدرت عليها فتعلم كيفية الحذر من بقيتها من ربع المهلكات وربع المنجيات من الكتاب الذي ذكرناه، فإن عجزت عن هذا فأنت عن غيره أعجز. ولا تظن أنك تسلم بنية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) (¬2). ******* ¬
الحسد
الحسد أما الحسد: فهو متشعب من الشح؛ فإن البخيل: هو الذي يبخل بما في يده على غيره. والشحيح: هو الذي يبخل بنعمة الله تعالى، وهي في خزائن قدرته تعالى لا في خزائنه على عباد الله، فشحه أعظم. والحسود: هو الذي يشق عليه إنعام الله تعالى من خزائن قدرته على عبد من عباده (¬1)، بعلم أو مال أو محبة في قلوب الناس أو حظ من الحظوظ، حتى أنه ليحب زوالها عنه وإن لم يحصل له بذلك شيء من تلك النعمة، فهذا منتهى الخبث، والحسود هو المعذب الذي لا يُرحم، ولا يزال في عذاب دائم في الدنيا إلى موته، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر. بل لا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه، بل ينبغي أن يساهم المسلمين في السراء والضراء، فالمسلمون كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائر الجسد، فإن كنت لا تصادف هذا من قلبك فاشتغالك بطلب التخلص من الهلاك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعلم الخصومات. قال بعض السلف: ((الحسد أول ذنب عُصِيَ اللهُ به في السماء (يعني: حسد إبليس لآدم عليه السلام)، وأول ذنب عُصِيَ اللهُ به في الأرض (يعني: حسد قابيل بن آدم لأخيه هابيل حتى قتله))). وقال الفقيه السمرقندي (رحمه الله): ((يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولاها: غم لا ينقطع. ¬
الثانية: مصيبة لا يؤجر عليها. الثالثة: مذمة لا يُحمد عليها. الرابعة: سخط الرب. الخامسة: يُغلق عنه باب التوفيق)) ا. هـ. قلت: ومن أعظم ذلك أن يُزاد في الفضل والخير للمحسود بسببه، قال الطائي: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طُوِيَتْ أتاح لها لسانَ حسودِ لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورت ... ما كان يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ العودِ لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النُّعْمى على المحسودِ ويعجبني ما أخرجه الإمام ابن حبان في "الروضة" عن الإمام العلم المفرد محمد بن سيرين (رحمه الله) أنه قال: ((ما حسدت أحدًا على شيء مِن الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى النار؟!)). *******
الرياء
الرياء وأما الرياء: فهو الشرك الخفي وهو أحد الشركين، وذلك: طلب المنزلة في قلوب الخلق لتنال بها الجاه والحشمة، وحب الجاه من الهوى المتبع المهلك، وفيه هلك أكثر الناس، فما أهلك الناس إلا الناس، ولو أنصف الناس حقيقة لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات فضلاً عن أعمال العادات ليس يحملهم عليه إلا مراءاة الناس، وهي محبطة للأعمال كما ورد في الخبر: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) (¬1)، ((فأولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)) (¬2)، نسأل الله السلامة. ******* ¬
العجب والكبر والفخر
العجب والكبر والفخر وأما العجب والكبر والفخر: فهو الداء العضال، وهو: نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام، وإلى غيره بعين الذل والاحتقار، ونتيجته على اللسان أن يقول: أنا وأنا (¬1)، كما قال إبليس اللعين: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص: 76]. وثمرته في المجالس: الترفع، والتقدم، وطلب التصدر فيها. وفي المحاورة: الاستنكاف من أن يرد كلامه عليه. والمتكبر: هو الذي إن وعِظ أنف، أو وَعَظ عنَّف. فكل من رأى نفسه خيرًا من أحد من خلق الله تعالى فهو متكبر. بل ينبغي لك أن تعلم أن الخيَّر من هو خيَّر عند الله في الدار الآخرة، وذلك غيب، وهو موقوف على الخاتمة، فاعتقادك في نفسك أنك خير من غيرك جهل محض، بل ينبغي ألا تنظر إلى أحد إلا وترى أنه خير منك، وأن الفضل له على نفسك، فإن رأيت صغيرًا قلت: هذا لم يعص الله وأنا عصيته فلا شك أنه خير مني، وإن رأيت كبيرًا قلت: هذا قد عبد الله قبلي فلا شك أنه خير مني. وإن كان عالمًا قلت: هذا قد أُعطي ما لم أعط، وبلغ ما لم أبلغ، وعلم ما جهلت فكيف أكون مثله؟. وإن كان جاهلاً قلت: هذا قد عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم، فحجة الله عليَّ آكد وما أدري بم يختم لي وبم يختم له؟ لا أدري عسى أن يسلم ويختم له بخير ¬
العمل، وعسى أن يختم لي بشر العمل؛ فيكون غدًا هو من المقربين، وأنا أكون من المبعدين. فلا يخرج الكبر من قلبك إلا بأن تعرف أن الكبير من هو كبير عند الله تعالى، وذلك موقوف على الخاتمة وهي مشكوك فيها، فيشغلك خوف الخاتمة عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد الله تعالى، فيقينك وإيمانك في الحال لا يناقض تجويزك التغير في الاستقبال؛ فإن الله مقلب القلوب يهدي من يشاء ويضل من يشاء (¬1). فتأمل أيها الراغب في العلم هذه الخصال الثلاث: الحسد، الرياء، الكبر. واعلم أن أعظم الأسباب في رسوخ هذه الخبائث في القلب: طلب العلم لأجل المباهاة والمنافسة، فالعامي بمعزل عن أكثر هذه الخصال، والمتفقه مستهدف لها وهو متعرض للهلاك بسببها، فانظر أي أمورك أهم؟! أتتعلم كيفية الحذر من هذه المهلكات وتشتغل بإصلاح قلبك وعمارة آخرتك؟ أم الأهم أن تخوض مع الخائضين فتطلب من العلم ما هو سبب زيادة الكبر والرياء والحسد والعجب حتى تهلك مع الهالكين؟! واعلم أن هذه الخصال الثلاث من أمهات خبائث القلوب، ولها مغرس واحد وهو: حب الدنيا والركون إليها، فاعلم أن الدنيا مزرعة للآخرة، فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة ليستعين بها على الآخرة؛ فالدنيا مزرعته، ومن أراد الدنيا ليتنعم بها؛ فالدنيا مهلكته. فهذه نبذة يسيرة من ظاهر علم التقوى وهي بداية الهداية. فإن جربت بها نفسك وطاوعتك عليها فعليك بالاستزادة من العلم النافع، لتعرف كيفية الوصول إلى باطن التقوى. ¬
وإن كنت تطلب العلم من القيل والقال والمراء والجدال؛ فما أعظم مصيبتك! وما أطول تعبك! وما أعظم حرمانك وخسرانك!!. فاعمل ما شئت فإن الدنيا التي تطلبها بالدين لا تسلم لك، والآخرة تُسلب منك، فمن طلب الدنيا بالدين خسرهما جميعًا، ومن ترك الدنيا للدين ربحهما جميعًا. فهذه جمل الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع الله تعالى بأداء أوامره واجتناب نواهيه، وأشير عليك الآن بجمل من الآداب لتؤاخذ نفسك بها في مخالطتك مع عباد الله تعالى، وصحبتك معهم في الدنيا.
القسم الثالث القول في آداب الصحبة
القسم الثالث القول في آداب الصحبة
آداب الصحبة مع الله تعالى
آداب الصحبة مع الله تعالى اعلم أن صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك وسفرك ونومك ويقظتك، بل في حياتك وموتك، هو ربك وسيدك ومولاك وخالقك، ومهما ذكرته فهو معك، إذ قال الله تعالى: ((أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)) (¬1)، ومهما انكسر قلبك حزنًا على تقصيرك في حق دينك فهو موفقك ومعينك، فلو عرفته حق معرفته لاتخذته صاحبًا وتركت الناس جانبًا، فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك فإياك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه لمولاك، وتتلذذ معه بمناجاتك له، وعند ذلك ينبغي لك أن تتعلم آداب الصحبة مع الله تعالى. وآدابها: غض الطرف، وجمع الهم، ودوام الصمت، وسكون الجوارح، ومبادرة الأمر، واجتناب النهي، وقلة الاعتراض على القدر، ودوام الذكر، وملازمة الفكر، وإيثار الحق على الباطل، والإياس عن الخلق، والخضوع تحت الهيبة، والانكسار تحت الحياء، والسكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان، والتوكل على فضل الله تعالى معرفة بحسن الاختيار. وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك ونهارك، فإنها آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كلهم يفارقونك في بعض أوقاتك. ******* ¬
آداب العالم
آداب العالِم وإن كنت عالمًا فآداب العالم: سعة الاحتمال، ولزوم الحلم، والجلوس بالهيبة على سمت الوقار، مع ترك التكبر على جميع العباد إلا على الظلمة زجرًا لهم عن الظلم، وإيثار التواضع في المحافل والمجالس، وترك الهزل والدعابة، والرفق بالمتعلم، والتأني بالمتعجرف، وإصلاح البليد بحسن الإرشاد، وترك الحَرَد (¬1) عليه، وترك الأنفة من قول: لا أدري، وصرف الهمة إلى السائل وتفهم سؤاله، وقبول الحجة والانقياد للحق، والرجوع إليه عند الهفوة، ومنع المتعلم عن كل علم يضره، وزجره عن أن يريد بالعلم النافع غير وجه الله تعالى، وصد المتعلم عن أن يشتغل بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين ـ وفرض عينه: إصلاح ظاهره وباطنه بالتقوى ـ، ومؤاخذه نفسه أولاً بالتقوى؛ ليقتدي المتعلم أولاً بأعماله، ويستفيد ثانيًا من أقواله. ******* ¬
آداب المتعلم
آداب المتعلم وإن كنت متعلمًا فآداب المتعلم مع العالم: أن يبدأه بالتحية والسلام، وأن يقلل بين يديه الكلام، ولا يتكلم ما لم يسأله أستاذه، ولا يسأل ما لم يستأذن أولاً، ولا يقول في معارضة قوله: قال فلان بخلاف ما قلت، ولا يشير عليه بخلاف رأيه فيرى أنه أعلم بالصواب من أستاذه، ولا يسأل جليسه في مجلسه، ولا يلتفت إلى الجوانب، بل يجلس مطرقًا ساكنًا متأدبًا، ولا يكثر عليه السؤال عند ملله، وإذا قام قام له، ولا يتبعه بكلامه وسؤاله، ولا يسيء الظن به. واعلم أن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات، وكان بعض السلف يتصدق وهو في طرقه لمجلس العلم ويدعو قائلاً: ((اللهم وار عني عيب شيخي)). ورُوي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ((من حق العالم عليك أن تُسلم على النَّاس عامة، وتخصّه دونهم بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تُشيرن عنده بيدك، ولا تغمزنَّ بعينيك، ولا تقولنَّ: قال فلان خلافًا لقوله، ولا تغتابنَّ عنده أحد، ولا تسارر في مجلسه، ولا تأخذن بثوبه، ولا تُلح عليه إذا كسل، ولا تُعرض - أي: تشبع - من طول صُحبته، ولا ترفع نفسك عن خدمته، وإذا عرضت له حاجة سبقت القوم إليها، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شئ)). وعلى طالب العلم أن يتحلى بالوفاء؛ فإنه من أجل خصال النبلاء، وليعلم أن ((حسن العهد من الإيمان)) (¬1)، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل. ******* ¬
آداب الولد مع الوالدين
آداب الولد مع الوالدين وإن كان لك والدان فآداب الولد مع الوالدين: أن يسمع كلامهما، ويقوم لقيامهما، ويمتثل لأمرهما، ولا يمشي أمامهما، ولا يرفع صوته فوق أصواتهما، ويلبي دعوتهما، ويحرص على مرضاتهما، ويخفض لهما جناح الذل، ولا يمن عليهما بالبر لهما، ولا بالقيام لأمرهما، ولا ينظر إليهما شزرًا (¬1)، ولا يقطب وجهه في وجههما، ولا يسافر إلا بإذنهما. واعلم أن الناس بعد هؤلاء في حقك ثلاثة أصناف: إما أصدقاء، وإما معاريف، وإما مجاهيل. ******* ¬
آداب العلاقة بالعوام المجهولين
آداب العلاقة بالعوام المجهولين فإن بليت بالعوام المجهولين فآداب مجالستهم: ترك الخوض في حديثهم، وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم، والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم، والاحتراز عن كثرة لقائهم والحاجة إليهم، والتنبيه على منكراتهم باللطف، والنصح عند رجال القبول منهم، واستعذ بالله دائماً من صحبة البطالين. *******
آداب العلاقة بالإخوان والأصدقاء
آداب العلاقة بالإخوان والأصدقاء وأما الإخوان والأصدقاء فعليك فيهم وظيفتان: الوظيفة الأولى: مراعاة شروط الصحبة فينبغي أن تطلب أولاً شروط الصحبة والصداقة، فلا تؤاخ إلا من يصلح للإخوة والصداقة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬1). فإذا طلبت رفيقًا ليكون شريكك في التعلم، وصاحبك في أمر دينك ودنياك، فراعِ فيه ست خصال (¬2): الأولى: العقل: فلا خير في صحبة الأحمق، فإلى الوحشة والقطيعة يرجع آخرها، وأحسن أحواله أن يضرك وهو يريد أن ينفعك، والعدو العاقل خير من الصديق الأحمق، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فَلا تَصحَب أَخا الجَهلِ ... وَإِياكَ وَإِياهُ فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى ... حَليماً حِينَ آَخاهُ يُقاسُ المَرءُ بِالمَرءِ ... إذا ما المَرءُ ماشاهُ كَحَذو النعلِ بِالنَعلِ ... إِذا ما النعل حاذاهُ وَلِلشَيء مِنَ الشَيء ... مَقاييِسُ وَأَشباهُ وَلِلقَلبِ عَلى القَلبِ ... دَليلٌ حِينَ يَلقاهُ ¬
الثانية: حسن الخلق
الثانية: حسن الخلق فلا تصحب من ساء خلقه، وهو الذي لا يملك نفسه عند الغضب والشهوة، وقد جمعه علقمة العطاردي رحمه الله تعالى في وصيته لابنه لما حضرته الوفاة، فقال: ((يا بني! إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك. اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها)). وقال علي - رضي الله عنه -: إِن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك الثالثة: الصلاح فلا تصحب فاسقًا مصرًا على معصية كبيرة؛ لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غوائله، بل يتغير بتغير الأحوال والأعراض، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُه فُرُطًا} [الكهف: 28]. فاحذر صحبة الفاسق؛ فإن مشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن قلبك كراهية المعصية، وتهون عليك أمرها، ولذلك هان على القلوب معصية الغيبة لإلفهم لها، ولو رأوا خاتمًا من ذهب أو ملبوسًا من حرير على فقيه لاشتد إنكارهم عليه! والغيبة أشد من ذلك. الرابعة: ألا يكون حريصًا على الدنيا فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري، فمجالسه الحريص تزيد في حرصك، ومجالسه الزاهد تزيد في زهدك. الخامسة: الوفاء، فلا خير في صحبة اللئيم، وقد أجمع الحصفاء الألباء من بني آدم على أن الإحسان إلى اللئيم إساءة، حتى قال سفيان الثوري (رحمه الله): ((وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام)) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 367/9277).
وعلى قدر إحسان المرء إلى اللئيم تكون إساءة اللئيم إليه، كما قال معن بن أوس متوجعًا من لئيم: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما استد (¬1) ساعده رماني! أعلمه الفتوة كل وقت ... فلما طر شاربه جفاني!! وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني!!! ولله در أبي الطيب المتنبي إذ يقول: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا ... مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع النَّدَى وفي بعض الشعر التركي أو الفرنسي الذي ترجمه أمير الشعراء أحمد شوقي: إن كنتَ ذا فضل فكُـ ... ـنْهُ على ذكيٍّ أو كريم فالفضلُ يَنْسَاهُ الغَـ ... ـبيُّ وليس يحفظه اللئيم السادسة: الصدق فلا تصحب كذابًا فإنك منه على غرور، فإنه مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب. ولعلك تعدم اجتماع هذه الخصال في سكان المدارس والمساجد، فعليك بأحد أمرين: إما العزلة والانفراد ففيها سلامتك، وإما أن تكون مخالطتك مع شركائك بقدر خصالهم، وذلك بأن تعلم أن الإخوةَ ثلاثة: 1 - أخ لآخرتك: فلا تراع فيه إلا الدين. 2 - وأخ لدنياك: فلا تراع فيه إلا الخلق الحسن. 3 - وأخ لتأنس به: فلا تراع فيه إلا السلامة من شره وفتنته وخبثه. والناسَ ثلاثة: أحدهم: مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه. والآخر: مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت. والثالث: مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط، ولكن العبد قد يُبتلى به، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع، فتجب مداراته إلى الخلاص منه، وفي مشاهدته فائدة ¬
عظيمة إن وفقت لها، وهو: أن تشاهد من خبائث أحواله وأفعاله ما تستقبحه فتجتنبه، فالسعيد من وُعظ بغيره، و ((المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه)) (¬1) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويُروى أن نبي الله عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام - قيل له: مَن أدبك؟ فقال: ((ما أدبني أحد ولكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته))، ولقد صدق على نبينا وعليه الصلاة والسلام. فلو اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم؛ لكملت آدابهم واستغنوا عن المؤدبين. واعلم أنك إن طلبت منزهًا من كل عيب لم تجد، ومَن غلبت محاسنه على مساويه فهو الغاية، ويعجبني ما ورد في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني (3/ 237) عن الشاعر بَشَّار بن برد، قال: إذا كنت في الأمور معاتبًا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبُهْ فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبُهْ إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربُهْ؟ الوظيفة الثانية: مراعاة حقوق الصحبة فمهما انعقدت الشركة وانتظمت بينك وبين شريكك الصحبة، فعليك حقوق يوجبها عقد الصحبة، وفي القيام بها آداب. وقد قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: ((مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى)) (¬2). ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه)) (¬1). وآداب الصحبة: الإيثار بالمال، فإن لم يكن هذا، فبذل الفضل من المال عند الحاجة. والإعانة بالنفس في الحاجات على سبيل المبادرة من غير إحواج إلى التماس. وكتمان السر. وستر العيوب. والسكوت على تبليغ ما يسوؤه من مذمة الناس إياه. وإبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه. وحسن الإصغاء عند الحديث، وترك المماراة فيه. وأن يدعوه بأحب أسمائه إليه. وأن يثني عليه بما يعرف من محاسنه إن لم يخش مفسدة. وأن يشكره على صنيعه في وجهه. وأن يذب عنه في غيبته إذا تُعرِّض لعرضه كما يذب عن نفسه. وأن ينصحه باللطف والتعريض إذا احتاج إليه. وأن يعفو عن زلته وهفوته ولا يعتب عليه. ... وأن يدعو له في خلوته في حياته وبعد مماته. وأن يحسن الوفاء مع أهله وأقاربه بعد موته. وأن يؤثر التخفيف عنه فلا يكلفه شيئًا من حاجاته. ويروح قلبه من مهماته. ¬
وأن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح له من مسارِّه. والحزن على ما يناله من مكارهه. وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهره فيكون صادقًا في وده سرًا وعلانية. وأن يبدأه بالسلام عند إقباله. وأن يوسع له في المجلس. وأن يخرج له من مكانه. وأن يشيعه عند قيامه. وأن يصمت عند كلامه حتى يفرغ من كلامه. ويترك المداخلة في كلامه. وعلى الجملة فيعامله بما يحب أن يُعامَل به، فمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فأخوته نفاق، وهي عليه وبال في الدنيا والآخرة، واعلم أخيراً أن صديقك هو من صدقك لا من صدَّقك. فهذا أدبك في حق العوام المجهولين وفي حق الأصدقاء المؤاخين. *******
آداب العلاقة بالمعارف
آداب العلاقة بالمعارف وأما القسم الثالث وهم المعارف: فاحذر منهم فإنك لا تر الشر إلا ممن تعرفه. أما الصديق فيعينك، وأما المجهول فلا يتعرض لك، وإنما الشر كله من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم. فأقلل من المعارف ما قدرت، فإذا بليت بهم في مدرسة أو مسجد أو جامع أو سوق أو بلد فيجب ألا تستصغر منهم أحدًا، فإنك لا تدري لعله خير منك، ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم فتهلك؛ لأن الدنيا صغيرة عند الله تعالى صغير ما فيها، ومهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين الله تعالى، وإياك أن تبذل لهم دينك لتنال به من دنياهم، فلا يفعل ذلك أحد إلا صغر في أعينهم ثم حُرِمَ ما عندهم. وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة؛ فإنك لا تطيق الصبر على مكافأتهم فيذهب دينك في عداوتهم، ويطول عناؤك معهم، ولا تسكن إليهم في حال إكرامهم إياك وثنائهم عليك في وجهك وإظهارهم المودة لك، فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة واحداً، ولا تطمع أن يكونوا لك في السر والعلن واحدًا. ولا تتعجب إن ثلبوك في غيبتك، ولا تغضب منه؛ فإنك إن أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك حتى في أصدقائك وأقاربك، بل في أستاذك ووالديك. فإنك تذكرهم في الغيبة بما لا تشافههم به. فاقطع طمعك عن مالهم وجاههم ومعونتهم؛ فإن الطامع في الأكثر خائب في المال، وهو ذليل لا محالة في الحال. وإذا سألت واحدًا حاجة فقضاها فاشكر الله تعالى واشكره، وإن قصر فلا تعاتبه ولا تشكه فتصير عدواة له، وكن كالمؤمن يطلب المعاذير، ولا تكن كالمنافق يطلب العيوب. وقل: لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه. ولا تعظن أحدًا منهم ما لم تتوسم فيه أولاً مخايل القبول، وإلا لم يستمع منك وصار خصمًا عليك، وإذا أخطئوا في مسألة وكانوا يأنفون من التعلم منك
فلا تعلمهم، فإنهم يستفيدون منك علمًا ويصبحون لك أعداء، إلا إذا تعلق ذلك بمعصية يقارفونها عن جهل منهم، فاذكر الحق بلطف من غير عنف. وإذا رأيت منهم كرامة وخيرًا فاشكر الله الذي حببك إليهم. وإذا رأيت منهم شرًا فكلهم إلى الله تعالى واستعذ بالله من شرهم، ولا تعاتبهم، ولا تقل لهم: لمِ لَم تعرفوا حقي وأنا فلان بن فلان وأنا الفاضل في العلوم؟! فإن ذلك من كلام الحمقى، وأشد الناس حماقة من يزكي نفسه ويثني عليها. واعلم أن الله تعالى لا يسلطهم عليك إلا بذنب سبق منك، فاستغفر الله من ذنبك، واعلم أن ذلك عقوبة من الله تعالى. وكن فيما بينهم سميعًا لحقهم، أصم عن باطلهم، نطوقًا بمحاسنهم، صموتًا عن مساويهم، واحذر مخالطة متفقهة الزمان، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال. واحذر منهم؛ فإنهم يتربصون بك ـ لحسدهم ـ ريب المنون، ويقطعون عليك بالظنون، ويتغامزون وراءك بالعيون، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم حتى يجبهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك عورة. يحاسبونك على النقير والقطمير، ويحسدونك على القليل والكثير، ويحرضون عليك الإخوان بالنميمة والبلاغات والبهتان. إن رضوا فظاهرهم الملق، وإن سخطوا فباطنهم الحنق، ظاهرهم ثياب، وباطنهم ذئاب. هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم إلا من عصمه الله تعالى. فصحبتهم خسران، ومعاشرتهم خذلان. هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف من يجاهرك بالعداوة؟!. قال القاضي ابن معروف رحمه الله تعالى: فاحذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق ... فكان أعرف بالمضرة
وكذلك قال أبو تمام: عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أَكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وكن كما قال هلال بن العلاء الرقى: إني أحيي عدوي عند رؤيته ... لأَدفع الشر عنى بالتحيات وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأن قد ملا قلبي محبات ولست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودات الناس داء دواء الناس تركهم ... وفي الجفاء لهم قطع الأَخوات فسالم الناس تسلم من غوائلهم ... وكن حريصاً على كسب التقيات وخالق الناس واصبر ما بليت بهم ... أصم أبكم أعمى ذا تقيات وكن أيضا كما قال بعض الحكماء: ((الق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير مذلة لهما، ولا هيبة منهما. وتوقر من غير كبر. وتواضع من غير مذلة. وكن في جميع أمورك في أوسطها، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم))، كما قيل: عليك بأَوساط الأَمور فإنها ... طريق إلى نهج الصراط قويم ولا تك فيها مفرطًا أو مفرطًا ... فإن كلا طرفي الأمور ذميم واعلم أن العاقل هو الفطن المتغافل، كذا قال الإمام الشافعي (رحمه الله)، ولله در من قال: ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي ولقد صدق الأصمعي (رحمه الله) حين قال: وما شيء أحب إلى لئيم ... إذا شتم الكريم من الجواب متاركة اللئيم بلا جواب ... أشد على اللئيم من السباب وكان الإمام سليمان بن مهران الأعمش (رحمه الله) يقول: ((جواب الأحمق السكوت. والتغافل يطفئء شرًّا كثيرًا. ورضا المتجني غاية لا تدرك. والاستعطاف عون للظفر. ومَن غضب على من لا يقدر عليه طال حزنه)).
ومِن أجمل ما قرأت: لن يبلغ المجدَ أقوام وإن شرفوا ... حتى يَذِلوا وإن عزوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل ولكن صفح إكرام وأنشد الإمام الشافعي (رحمه الله): قالوا سكتَّ وقد خوصمت قلت لهم: ... إن الجواب لباب الشر مفتاح فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب ... نعم وفيه لصون العرض إصلاح إن الأسود لتُخشى وهي صامتة ... والكلب يحثى ويرمى وهو نباح ولا تنسَ وصية ربك (تبارك وتعالى): {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت: 34، 35]. وما أجمل قول بعض الشعراء الذي ذكره ابن قتيبة (رحمه الله) في "عيون الأخبار": إنَّ الهديةَ حُلْوةٌ ... كالسِّحر تَجْتَلِبُ القلوبا تُدْنِي البغيضَ من الهوى ... حتى تُصَيِّرَهُ قريبا وتُعِيدُ مُضطغِنَ العَدَا ... وَةِ بعد نُفْرَتِهِ حبيبا
آداب عامة جامعة
آداب عامة جامعة ولا تنظر في عطفيك، ولا تكثر إلى وراءك الالتفات، ولا تقف على الجماعات، واحذر كثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس في الصلاة وغيرها. وليكن مجلسك هادئًا، وحديثك منظومًا مرتبًا. وأصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط. ولا تسأله إعادته. واسكت عن المضاحك والحكايات. ولا تحدث عن إعجابك بولدك وشعرك وكلامك وتصنيفك وسائر ما يخصك. ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين. ولا تتبذل تبذل العبد. وتوق كثرة الكحل والإسراف في الدهن. ولا تلح في الحاجات. ولا تشجع أحداً على الظلم. ولا تُعلم أحدًا من أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم مقدار مالك. واجفهم من غير عنف. ولِن لهم من غير ضعف. وإذا خاصمت فتوقر. وتحفظ من جهلك وعجلتك. وتفكر في حُجتك. ولا تكثر الإشارة بيدك. وإذا هدأ غضبك فتكلم. وإذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان. وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء، ولا يجعل مالك أكرم من عرضك. واعلم أن من استوى يوماه فهو مغبون. وأخيرًا أتحفك بهذه الوصية الغالية، فعض عليها بالنواجذ. وقد رواها الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه "الزهد الكبير" من طريق طاهر بن الفضل بن سعيد الغني قال: سمعت سفيان ابن عيينة رحمه الله يقول: لما بلغت خمس عشرة سنة قال لي أبي: ((يا بني! قد انقطعت عنك شرائع الصبا. فاختلط بالخير تكن من أهله. ولا تزايله فتبين منه. ولا يغرنك من مدحك بما تعلم أنت خلافه منك؛ فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير ما لم يعلم منه إذا رضي، إلا قال فيه من الشر على قدر ما مدحه إذا سخط.
واستأنس بالوحدة من جلساء السوء. ولا تنقل أحسن ظني بك إلى أسوأ ظني بمن هو دونك. واعلم أنه لن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم. فأطعهم تسعد، واخدمهم تقتبس من علمهم)). قال سفيان: فجعلت وصية أبي هذه قبلة أميل إليها ولا أميل عنها ولا أعدل عنها (¬1). ¬
الخاتمة
الخاتمة نسأل الله حسنها فهذا القدر يكفيك من بداية الهداية، فجرب بها نفسك، فإنها ثلاثة أقسام: 1 - قسم في آداب الطاعات. 2 - وقسم في ترك المعاصي. 3 - وقسم في مخالطة الخلق. وهي جامعة لجمل معاملة العبد مع الخالق والخلق، فإن رأيتها مناسبة لنفسك ورأيت قلبك مائلاً إليها راغبًا في العمل بها، فاعلم أنك عبد نوَّر الله تعالى بالإيمان قلبه، وشرح به صدره، وتحقق أن لهذه البداية نهاية، ووراءها أسرارًا. وإن رأيت نفسك تستثقل العمل بهذه الوظائف وتنكر هذا الفن من العلم وتقول لك نفسك: أنى ينفعك هذا العلم في محافل العلماء؟ ومتى يقدمك هذا على الأقران والنظراء؟ وكيف يرفع منصبك في مجالس الأمراء والوزراء؟ وكيف يوصلك إلى الصلة والأرزاق وولاية الأوقاف والقضاء؟!؛ فاعلم أن الشيطان قد أغواك، وأنساك متقلبك ومثواك، فابك على نفسك، واسع في علاجها. ثم اعلم أنه قط لا يصفو لك الملك في محلتك، فضلاً عن قريتك وبلدتك، ثم يفوتك الملك المقيم والنعيم الدائم في جوار رب العالمين. وأختم هذا الكتاب بما رواه الإمام أبو نعيم (رحمه الله) في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، والحافظ ابن أبي الدنيا (رحمه الله) في كتاب "محاسبة النفس" (2) بسند حسن عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): ((حاسبوا أنفسكم قبل
أن تُحَاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18]. تمت والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتطيب الأوقات،،، وخطه بيمينه أبو عبد الرحمن البحيري وائل بن حافظ بن خلف غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه